الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعمراجعات الكتب

الطائفة العلوية: فارق المجتمع والطبقة/ صبحي حديدي

تحديث 10 أذار 2025

إلى مقام آخر أوسع مساحة، وإلى أجل قريب، تدع هذه السطور مناقشة محاولة الانقلاب الأخيرة التي شهدتها مناطق في الساحل السوري، اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس وأريافها؛ حيث فرائضُ الحدّ الأدنى من الانحياز إلى سوريا المستقبل الجديدة، وتكريمُ مئات الضحايا من المدنيين السوريين أوّلاً، تقتضي تجريم الهمجيات على جوانب إراقة الدماء كافة: 1) فلول النظام، والقَتَلة من شبيحة غياث دلّا ومقداد فتيحة ومحمد وأيمن جابر وياسر رمضان، ومَن سار خلفهم كمذعور جاهل أو كحطبة إرادية نحو محرقة تتعطش نيرانها إلى مزيد من الجثث؛ و2) فلول بعض الفصائل الجهادية، حيث قتلة يشتعل في دمائهم عماءٌ خليطٌ من الثأر العشوائي وشهوات الذبح والنهب؛ و3) جرح الهزيمة الهمجي الذي لم يبرأ بعد من نرجسية التطلع إلى تعويضٍ أياً كانت أثمانه الدامية، لدى آيات الله في إيران، وفلول «حزب الله» عموماً وأيتام حسن نصر الله خصوصاً؛ و4) أخيراً، وليس البتة آخراً، تلك «الغمزة» الخبيثة من استخبارات الكرملين، حيث خسائر موسكو في سوريا الجديدة فادحة لتوّها، وتنذر بما هو أفدح في مستقبل غير بعيد.

تتوقف هذه السطور إذن عند جانب آخر تستدعيه حال الساحل السوري الراهنة، وعشرات المؤلفات التي تناولت الطائفة العلوية في سوريا، ضمن مقاربات رصينة في حدود دنيا أو حتى عالية التميّز، وأكاديمية من حيث مناهج البحث، ولا تخلو من استكشاف ميداني وبحث مركّب يضمّ تاريخ علاقة الطائفة مع نظام «الحركة التصحيحية»، الأب حافظ والابن الوريث بشار عموماً، وذلك التاريخ كما تسارعت فصوله جذرياً ودراماتيكياً بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011، خصوصاً. بين هذه الأعمال، باللغة الإنكليزية، يُشار إلى أطروحة جامعية تقدّم بها تورشتين شيونز ورين إلى جامعة أوسلو، بعنوان «خوف ومقاومة: تشكيل هوية علوية في سوريا»؛ وكتاب رايندرا أبيانكار «سوريا: مأساة دولة محورية»؛ وبيتر شامبروك «الإمبريالية الفرنسية في سوريا: 1927 ــ 1936»؛ وأورا زيكلي: «سوريا مقسّمة: أنماط العنف في حرب أهلية مركّبة»…

الكتاب الذي تعرض له هذه السطور صدر بالإنكليزية سنة 2015 ضمن منشورات جامعة أكسفورد، تحت عنوان «علويو سوريا: الحرب، العقيدة، والسياسة في المشرق»، بتحرير مايكل كير وكريغ لاركن؛ وأحد أبرز امتيازاته أنه يفسح فصوله الأربعة لـ12 مقاربة وقّعها باحثون وأخصاء في ميادين مختلفة تخصّ الموضوعة المركزية في الكتاب، كما يحددها عنوان الفرعي. القسم الأوّل يتناول العلويين من زاوية التكتم والمنجاة، وفيه فصول عن تكوّن الجماعة، وحال العلويين خلال الفترة العثمانية، والتوزّع إلى جماعة وطائفة وأمّة في ضوء العلوم الاجتماعية، وخطابات التكوين خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، ثمّ في مراحل الاستقلال الأولى.

الجزء الثاني يناقش علاقة العلويين مع الدولة السورية، ويغطي النقلات الديمغرافية تحت سلطة البعث (وهذا قد يكون أضعف فصول الكتاب، ولا عجب أنّ كاتبه هو الفرنسي فابريس بالانش!)، وصلة العلويين مع حزب البعث، وما يسميه الكتاب «العقدة العلوية» تجاه الإخوان المسلمين. الجزء الثالث يبحث في الجماعات العلوية بين الهويات والسلطة، ويتناول التنوّع والتضامن داخل الطائفة، والولاء والزبائنية في ظلّ اقتصاد السوق كما أداره الأسد الابن، مع نقلة إلى علويي طرابلس اللبنانية تتيح نطاقاً إضافياً لاستعراض الهوية والعنف والجيو ــ سياسة المدينية. الفصل الرابع الختامي يتقصى العلويين بين النزاع والاختصام، فيبحث في ظاهرة الشبيحة (وهو بين أفضل المساهمات)، ومواقع العلويين ضمن المعارضة، وردود فعل النظام السوري في وجه الانتفاضة.

وفي مقدّمة تستعير عنوانها من شعار ميليشيات النظام الشهير «الله، سوريا، بشار وبس»، يساجل مايكل كير بأنّ منهج النظام في اجتذاب أبناء الطائفة العلوية وزجّها في صراعاته كان أقرب إلى منهاج مدرسي لـ»تفعيل الحدود»، حسب التعبير الدارج في علم الاجتماع؛ أي «تضخيم الوعي بالفوارق المُدْرَكة بين أعضاء مجموعة الداخل، مقابل مجموعة الخارج». وتلك إحالة إلى العنف السياسي، مباشرة أو مضمرة، خاصة أنّ «محدِّدات» الهوية التي تجعل العلويين على حدة (فعلياً بالملموس، أو تعسفاً بالافتراض) إزاء السنّة أوّلاً، ثمّ الفرق الإسلامية الأخرى غير النصيرية تالياً، لم تكن تُحتسَب عند النظام كعوامل جاذبة تدفعه إلى تلك الدرجات الخبيثة من توريط أبناء الطائفة لخدمة الحفاظ الشرس على بقاء السلطة.

لهذه السطور تحفظات على بعض الخلاصات التي تنتهي إليها فصول الكتاب، أبرزها النزوع (الاستشراقي، المألوف والشائع والمَرَضي) إلى تجريد الطائفة من محتويات شتى صلبة، طبقية واجتماعية قبل أن تكون سياسية وعقائدية؛ إلى جانب الانزلاق، هنا وهناك، نحو مَسْخ الانتفاضة الشعبية السورية إلى محض صراع بين السنّة والعلويين. ولعلّ الأوان قد حان، في هذا الجزء من العمود، لتبيان موقف صريح اتخذته هذه السطور على الدوام تجاه طوائف سوريا: ملايين السوريين الذين خدموا في الدولة تحت سلطة النظام، كانت طوائفهم مجتمعات وطبقات وفئات ومصالح وتناقضات وتحالفات، نهض معظمها على حقوق العمل ولقمة العيش والوجود الإنساني، وقام أقلّها القليل على الفساد والولاء والتجييش الطائفي والمناطقي.

وهذا فارق مركزي أكبر بين قاتلٍ تاجر كبتاغون مثل غياث دلّا، وقتيلةٍ ممرّضة في مشفى جبلة.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى