القطاع الصحي في سوريا.. فوضى لا تحلّ باجتماعات ترقيعية/ فاطمة عمراني

10 مارس 2025
لم يكن القطاع الصحي السوري بحاجة إلى سقوط نظام الأسد كي ينكشف حجم الخراب الذي أصابه. فحتى قبل ذلك، كان الانهيار واضحًا في كل زاوية: نقص حاد في الكوادر الطبية، مستشفيات تعمل بكفاءة متدنية، وفوضى إدارية تفاقمت مع مرور الوقت. ومع استلام الحكومة الانتقالية للسلطة منذ سقوط نظام الأسد، تبدو الحلول التي تم طرحها كقرارات نظرية لا تلامس الواقع. الاجتماعات مع المنظمات الدولية وبرامج الدعم قد تكون خطوة نحو الإصلاح، لكن واقع القطاع الصحي اليوم يقول إن الأزمة تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، والحلول المبدئية قد تكون غير فعالة، والقطاع الصحي يتجه نحو مزيد من الانهيار.
محاولات إنقاذ.. لكن التحديات أكبر
في خطوة للاحتواء وتوجيه الجهود نحو الإصلاح، عقدت الحكومة الانتقالية اجتماعًا مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) ومنظمات دولية أخرى لمناقشة الدعم المالي والإغاثي للقطاع الصحي. الاجتماع ركز على تأمين دعم فوري لإعادة تشغيل المستشفيات المتوقفة، تدريب الكوادر الطبية، وتوفير الأدوية والمعدات للمراكز الصحية المتضررة.
وبحسب الوكالة السورية للأنباء “سانا”، بحث القائم بأعمال وزارة الصحة، ماهر الشرع مع وفد من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سبل تعزيز التعاون المشترك.، وكشف الشرع عن وجود تدمير في المنشآت الصحية ونقص في كوادر بعض الاختصاصات الطبية، وأن العمل يتم وفق أولويات للنهوض بواقع القطاع الصحي.
لكن، ورغم أهمية هذه الخطوات، تظل هذه الحلول على الورق أكثر منها عملية، فالفجوة التي خلفها النظام السابق عميقة، وتحتاج إلى أكثر من مجرد دعم إسعافي. ورغم المساعي الحثيثة لتقديم بعض العون، فإن الواقع يشير إلى أن الأزمة أكبر بكثير من أن تُحلّ بهذه الطريقة. المشكلة تكمن في أن ما تم طرحه يظل بعيدًا عن معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى انهيار القطاع في المقام الأول: الفوضى الإدارية، نقص الكوادر، والاعتداءات المتزايدة على الأطباء.
أزمة متراكمة.. لا حلول سريعة
حتى قبل سقوط النظام، كان المشهد الصحي كارثيًا. وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، خرجت أكثر من 50% من المستشفيات السورية عن الخدمة بسبب الحرب والإهمال، بينما كانت المستشفيات المتبقية تعمل بإمكانيات متواضعة لا تلبّي حتى الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية. في بعض المناطق، كان المرضى يضطرون لقطع مسافات طويلة للحصول على علاج بسيط، بينما كانت أقسام العناية المشددة والطوارئ تعمل بطاقة أقل بكثير من المطلوب.
أيضًا، كشف لتقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) في عام 2024، أن النزاع المستمر في سوريا أدى إلى تعطيل النظام الصحي، مما ترك الملايين دون رعاية صحية أساسية.
بالإضافة إلى ذلك، أورد موقع المنظمة العالمية للصحة (WHO) أن عمليات النزوح الجماعي أدت إلى تقليص عدد العاملين الطبيين المؤهلين في سوريا بشكل كبير، مما يؤثر على توفر الخدمات الصحية الأساسية.
هجرة الأطباء فاقمت الأزمة. تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 50% من الكوادر الطبية المتخصصة غادرت البلاد، ما جعل المشافي العامة تعتمد على أطباء مقيمين في تخصصات تحتاج إلى خبرات متقدمة. في ألمانيا وحدها، يوجد أكثر من 6000 طبيب سوري، ما يعكس حجم الفجوة التي تركها غياب هذه الكوادر عن الداخل السوري.
قرارات خاطئة زادت الأزمة تعقيدًا
إحدى أكبر الأزمات التي واجهها القطاع الصحي قبل سقوط النظام كانت الفوضى الإدارية. بدلًا من دعم الكوادر الطبية والبحث عن حلول مستدامة للنهوض بالقطاع الطبي، لجأت الحكومة الانتقالية إلى تسريح مئات الأطباء والممرضين بحجة إعادة الهيكلة، ما أدى إلى موجة احتجاجات واسعة داخل المستشفيات.
ونقلت وسائل إعلام عن مصادر طبية وجود نقص كبير في أعداد الأطباء، موضحة أن العدد الذي يعمل حالياً ضمن المستشفيات لا يتجاوز 15 ألف طبيب من أصل نحو 40 ألفًا مسجل على قيود نقابة الأطباء السورية.
شهدت مدن سورية عدة موجة من الاحتجاجات والوقفات الاحتجاجية من قبل الكوادر الطبية، بعد قرارات فصل تعسفي وإجازات قسرية طالت المئات من العاملين في القطاع الصحي، جاءت هذه التسريحات إبان تصريح وزير الصحة السوري الذي قال فيه: “لن نقوم بفصل أي موظف أو طبيب بشكل تعسفي، لكننا نعمل على إعادة هيكلة بعض الإدارات لضمان سير العمل بشكل أكثر فعالية”.
بيئة طاردة للأطباء.. ومستشفيات بلا حماية
لم تكن مشكلة الأطباء تقتصر على الرواتب المتدنية وسوء الإدارة، بل امتدت إلى غياب أي حماية لهم داخل المستشفيات. ومع سقوط نظام الأسد وما تلاه من انفلات أمني، شهدت المشافي السورية ارتفاعًا في حالات الاعتداء على الأطباء من قبل مرافقي المرضى، المسلحين أحيانًا، لتزيد من الوضع مأساوية، ما دفع العديد من العاملين إلى تنفيذ إضرابات واعتصامات كما حصل في مستشفى ابن النفيس في حي ركن الدين وهو أحد المستشفيات الحكومية الكبيرة في العاصمة السورية، وأيضاً في المستشفى الجامعي في حلب، وقبلهما في مستشفى الأطفال في دمشق.
الحكومة الانتقالية أمام تركة ثقيلة
اليوم، وبعد ثلاثة أشهر من استلام الحكومة الانتقالية للسلطة، تبدو المهمة أصعب مما كان متوقعًا. لا يمكن إصلاح قطاع صحي مُنهار بمجرد استيراد معدات جديدة أو إصدار قرارات تنظيمية أو عقد إجتماعات ترقيعية مع منظمات دولية، فالمشكلة أعمق من ذلك بكثير. المطلوب اليوم ليس فقط إعادة تشغيل المستشفيات، بل بناء نظام صحي متكامل يعالج الفوضى الإدارية، يعيد جذب الكوادر الطبية المهاجرة، ويضع أسسًا جديدة تضمن استقرار القطاع على المدى الطويل. التحديات التي تواجهها الحكومة الانتقالية هائلة، لكنها في الوقت نفسه فرصة لوضع أسس جديدة لنظام صحي لا يكرر أخطاء الماضي. الحلول الترقيعية لم تعد تجدي نفعًا، والمطلوب اليوم رؤية شاملة تعيد لهذا القطاع حيويته المفقودة.
الترا سوريا