المقاربة “الغربية” لمسألة الأقليات السورية/ يكولاوس فان دام

الأنظمة الديكتاتورية هي بطبيعتها أنظمة أقلية
10 مارس 2025
قال المهاتما غاندي ذات مرة: “ينبغي أن تقاس الحضارة من خلال طريقة معاملتها للأقليات.”وهذا مبدأ سليم وجدير بالتقدير، بيد أن الواقع غالبا ما يؤكد لنا عكس ذلك. وفي الغرب، يركّز صناع القرار على الجانب المتطرف من الأمر، فبينما نراهم يولون الأقليات اهتماما أكبر بشكل غير متناسب، ولا سيما الجماعات غير العربية مثل الأكراد وبعض الطوائف المسيحية، نجدهم يتجاهلون الأغلبية في كثير من الأحيان، ومثال ذلك العرب السنة في سوريا.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فحتى في داخل الأقليات العربية، نجد أن التعاطف انتقائي بشكل واضح، فعلى سبيل المثال، غالبا ما تمرّ محنة المسيحيين العرب الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي مرور الكرام في أعين الغرب. وفي حين أنه من الضروري منح الأقليات الدينية والعرقية حقوقا متساوية مع الأغلبية، لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب تجاهل الأغلبية نفسها.
فمع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هيمنة الأقلية العلوية، وعادت السلطة في المقام الأول إلى الأغلبية السنية – كما كان الحال في حقبة ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، إلا أن الحكام السنة الجدد المحافظين يختلفون اختلافا كبيرا عن أولئك الذين حكموا قبل حكم البعث، إذ يلعب الإسلاميون الآن دورا أكثر أهمية في الحكم.
يرى الكثير أن نظام الأسد كان نظاما يهيمن عليه العلويون، لكن هذا التوصيف غير دقيق. ففي حين كان للعلويين دور فعال في النظام، إلا أن النظام كان في حقيقة الأمر نظاما ديكتاتوريا يقوده علويون، ولكنه يضطهد جميع السكان. ولئن تمتعت النخبة العلوية بامتيازات خاصة، فإن ذلك كان رهنا باستمرار ولائها للنظام دون قيد أو شرط. وحتى الآن، يبدو التعاطف الغربي مع العلويين السوريين ضئيلا، على الرغم من أنهم أقلية، لارتباطهم إلى حد كبير، على الأرجح، بديكتاتورية الأسد السابقة، حيث يُنظر إليهم على أنهم متعاطفون معها.
أنظمة أقلية
إن الأنظمة الديكتاتورية هي بطبيعتها أنظمة أقلية – سواء أكانت نخبها الحاكمة تنبثق من مجموعة أغلبية، كما كان الحال مع السنة في سوريا ما قبل البعث، أو من أقلية شأنَ العلويين في عهد الأسد. وينطبق القول نفسه على صعود القيادات السنية في ظل “هيئة تحرير الشام”، وهي في الأصل جماعة إسلامية متشددة، فهؤلاء الحكام الجدد لا يمثلون السكان السنة في سوريا ككل. بل هم يشكلون فصيلا سنيا صغيرا ضمن الأغلبية السنية الأوسع.
إن الأيديولوجيات الإسلامية لجماعات مثل “هيئة تحرير الشام” الحاكمة حاليا وجماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا و”أحرار الشام” و”جيش الإسلام” تتعارض بطبيعتها مع مبدأ عدم التمييز الديني، حتى وإن لم تدرك هذه الجماعات التناقض في مواقفها. بل قد تبدي هذه الفصائل قدرا من التسامح تجاه الأقليات، لكن هذا لا يفي بتطلعات الأخيرة التي تنشد الاعتراف بها ومعاملتها كمواطنين متساوين. فالتسامح وحده لا يعني الاحترام المتبادل.
في هولندا، يعرب العديد من المدافعين عن الديمقراطية عن تعاطفهم الشديد مع أكراد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). ولكن قسد نفسها منظمة استبدادية للغاية وتفتقر إلى دعم معظم الأحزاب الكردية السورية الأخرى التي يزيد عددها عن 15 حزبا. ويمثل هذا الوضع تثبيتا معينا على دعم أقلية غير عربية مع التغاضي في الوقت نفسه عن ميولها الاستبدادية.
من جانب آخر، يوحي الخطاب المتسامح والبراغماتي والتصالحي للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، فيما يتعلق بالأقليات الدينية والمصالحة بين السوريين، بأن الرجل قد خضع لتحول عميق – من جهادي متطرف إلى زعيم معتدل وبراغماتي. غير أن من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، الاعتقاد بأن جميع أتباعه الإسلاميين داخل “هيئة تحرير الشام” يشاركونه هذه الرؤية. فالمرجح أن يكون معظمهم قد احتفظوا بمعتقداتهم الراديكالية ولا يزالون ينظرون إلى العلويين والأقليات الإسلامية الأخرى كـ “كفار” أو زنادقة. هذا التصلب الأيديولوجي هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الشرع يكافح من أجل فرض سيطرته الكاملة على القوات العسكرية لـ “هيئة تحرير الشام” العاملة في الميدان.
علاوة على ذلك، فإن “هيئة تحرير الشام” ليست الفصيل المسلح الوحيد على الأرض. فالعديد من الجماعات العسكرية المعارضة السابقة، مثل “الجيش الوطني السوري” و”أحرار الشام”، لا تزال نشطة، وإن سلم بعضها سلاحه رسميا إلى السلطات المركزية الجديدة. وحتى لو تمّ دمج هذه الجماعات في الجيش السوري الجديد، فإن أيديولوجيتها الإسلامية المتجذرة لن تتغير بالضرورة.
وليس من المستغرب أن يكون لدى العديد من مقاتلي المعارضة السابقين – بل وربما المدنيين أيضا – رغبة في الانتقام من العلويين الذين يعتبرونهم رمزاً لنظام الأسد المنهار، وهو ما يفسر جزئيا موجة التجاوزات الطائفية الأخيرة التي استهدفت العلويين، بمن فيهم أولئك الذين لم يدعموا النظام أبدا، بل كانوا في بعض الحالات من أشد معارضيه. ويبدو أن قوات “هيئة تحرير الشام” وحلفاءها، في سعيها لملاحقة ما يسمى بـ “جيوب المقاومة العلوية،” التي تربطها برموز النظام السابق المتهمين بارتكاب فظائع، قد وسعت نطاق تفويضها (إن وجد) لاستهداف العلويين على نطاق أوسع بكثير، وارتكاب العديد من الفظائع في هذه العملية.ويهدد هذا التصعيد بخروج الأمور عن السيطرة وإشعال فتيل الحرب الأهلية في مختلف أنحاء البلاد.
الطريق نحو الوحدة
لا تزال سوريا بعيدة كل البعد عن أن تكون تحت سيطرة حكومة أحمد الشرع بشكل حاسم، وينطبق الأمر نفسه على العديد من فصائل المعارضة العسكرية السابقة. والسؤال المحوري الآن هو ما إذا كان الشرع سيتمكن من فرض سلطته الكاملة على أتباعه وحلفائه.
صودر العديد من المنازل التي تعود إلى أشخاص يُزعم أنهم من مؤيدي الأسد، ما يذكر بممارسات نظام الأسد نفسه ضد الآخرين. كما تعرض كثيرون للفصل التعسفي من وظائفهم، بينما لا تصل الرواتب والمعاشات إلى مستحقيها. من الواضح أن استمرار الجوع والفقر والدمار لا يمكن أن يشكل أساسا للاستقرار. وفي الوقت نفسه، تعيش الأقليات الدينية في حالة من القلق العميق بشأن مستقبلها تحت حكم ذي توجهات إسلامية متشددة.
وكأن هذه الاضطرابات الداخلية لا تكفي، فها هي إسرائيل تسعى إلى تعميق الانقسامات الطائفية والإثنية داخل المجتمع السوري. ولئن لم تكن هذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى إثارة الفتن وإضعاف الدول المجاورة، جديدة على إسرائيل، بل نهج متجذر في سياستها منذ عهد طويل، فإن تكثيف جهودها في ظل نظام أحمد الشرع الجديد، لا سيما في جنوب سوريا حيث تحاول إسرائيل فرض شكل من أشكال “الحماية” على الدروز، أمر مثير للانتباه. وقد رددت وسائل الإعلام الغربية هذا الطرح دون تدقيق يُذكر، متجاهلة حقيقة أن دروز سوريا كانوا تاريخيا من أكثر القوميين العرب حماسة. ولهذا السبب، يُطلق على منطقتهم اسم جبل العرب بدلًا من اسمها السابق جبل الدروز. ويرفض الدروز في سوريا بشكل قاطع أي تعاون مع إسرائيل و”حمايتها” المزعومة، التي يرونها “قبلة الموت” غير المرغوب فيها.
يكمن الهدف الأساسي لإسرائيل في تغذية النزعات الطائفية والإثنية في طبيعتها كدولة تقوم على الهوية العرقية والدينية. فتشجيع التفكك في المنطقة يساعدها على تطبيع وجودها داخل الشرق الأوسط، مما يجعلها أقل غرابة في محيطها. ولهذا السبب، دعمت إسرائيل استقلال الأكراد في العراق وأيّدت تطلعات الموارنة في لبنان—ليس بدافع التعاطف أو الاهتمام الحقيقي، فهذه الجماعات ليست يهودية، وإنما لأن إضعاف الدول العربية المجاورة يعزز في النهاية موقف إسرائيل الاستراتيجي.
وسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن أن أعلن، منذ عام 1977، أن على إسرائيل أن تضطلع بدور “حامي الأقليات” في الشرق الأوسط، في إشارة واضحة إلى مجموعات دينية وإثنية معينة، مثل الموارنة والدروز والأكراد.