جرعة زائدة من الحرية السورية/ علي العائد

10 مارس 2025
حتى الجرعة الزائدة من الدواء الشافي قد تكون قاتلة. في سورية، نهض التعبير عن الرأي من حضيض سحيق، ومرة واحدة أصبح كل ذي لسان فصيحًا بعد خرس مديد.
ليست مشكلة السوريين أنهم ملل ونحل، فكل شعوب الأرض في دولها كذلك، بدرجات قد تزيد عما يوجد في سورية، وقد تنقص. النظام الأسدي بشقيه كبت الأمزجة الطائفية، فانساقت لحديده وناره، بل واستمرأ بعض كثير من السوريين حالة تغييب الرأي، ونكصوا إلى حالة بدائية اكتفت بتأمين لقمة العيش إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، بينما قرأ الانتهازيون تلك المرحلة واستفادوا من فساد الصمت، ومنهم من أثرى بعد عوز.
اليوم، أمنيًا، لا حول ولا قوة لسلطة أحمد الشرع الانتقالية، فالنصر المفاجئ له، وللسلطة الأسدية، أربكه. حدث فراغ قضائي، وشرطي، وفي الخدمات البلدية. وهذه أكثر ما يُقلق السوريين في داخل سورية وخارجها، حتى أكثر من الحالة المعيشية المتردية أصلًا، والتي لا ذنب للسلطة الجديدة فيها، كون العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام وقعت على عاتق الشرع وفريقه المرتبك. وإلى أن تُرفع العقوبات عن سورية في تموز/ يوليو المقبل (كما تقول توقعات) لن تستطيع السلطة رفع أجوز العاملين في مؤسسات الدولة، وحدوث انتعاش اقتصادي وحركة تجارية تنعكس على القلوب الضعيفة التي لا تجد لها تعبيرًا سوى في صفحات التواصل الاجتماعي.
في برلمان فيسبوك، سنجد أكبر عدد من ممثلي الشعب السوري، من دون رئاسة لهذا البرلمان، ومن دون سكرتارية، كل يغني على همه، أو مزاجه، أو طمعه، بل ومظلوميته، من الذي يشكو قلة الحرية، إلى الذي يشكو قلة الخبز، وما بينهما سنجد ألسنة تلهج بحمد الحذاء العسكري للنظام الأسدي، الحذاء الذي بغيابه انطلقت أصوات من صندوق باندورا لا ضابط لما تقوله، أو تفعله.
الحرية التي نادى بها السوريون شعارًا لثورتهم منذ 14 عامًا هامت خلال جولات الدم والنزوح واللجوء، ولا تجد اليوم حتى ظلها. الحرية ممارسة وتدريب وتعلم، يضبط إيقاعها قانون، وحالة أمنية منضبطة تحمي جميع السوريين من زيادة هذه الحرية، فأنت لست حرًا في الاعتداء على حقوق الآخرين، بل ولست حرًا في التنازل عن حريتك، وكما يضرب القانون على يد المعتدي على الحريات العامة والخاصة، يأخذ بيد الضعيف ليتعلم المحافظة على حريته ورعايتها كي يرثها أبناؤه ممن لم يمروا بالحالة النرجسية التي نمر بها اليوم من تسلط الأخ القوي على الأخ الضعيف.
في مفردات الحياة الاجتماعية السورية في هذه الأيام، انتشار السلاح، والمخدرات، والفقر. وكل واحدة من هذه جرعة زائدة قاتلة، ولا سبيل للإنقاذ منها، منفردة، ومجتمعة، إلا قانون مدجج بالسلاح. نعم، حتى الفقر يحتاج إلى سلاح للجم تغوله، وإذا لم يحمِ القانون الفقير، بتأمين العمل ولقمة العيش، فإن إغراء السلاح والمخدرات سيجذبه مكرهًا، وما لم تؤمن السلطة الجديدة حلولًا لهذا الفقير فمن الصعب أن تلومه على جنوحه إلى ذلك الخيار القاتل.
الزائد في الحالة السورية أخٌ للناقص، وحرية فض المجالس، أو عقدها، لا تضيف شيئًا، فلا حل لها ولا عقد، كون النقص واضحًا، والحرية بالشكل الذي نراه في الفضاء الافتراضي، وفي الواقع، لا تَلزم السوريين، حالًا، كونها تربك صاحبها السوري، وتربك السلطة المرتبكة بطبيعة ما ورثت، وبسبب قلة خبرتها، وحصار الوقت لها، وتربص سوريين وغير سوريين بها، مما يرقى إلى الاستقواء بالعدو، إلى مطامع التقسيم، وحالات انعدام الوزن الطائفي بعد طول رجحان كفة عمره 55 عامًا.
الزائد في حرية بعض السوريين اليوم، بالإضافة إلى الأمية العميمة التي أذكتها تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين، منسوب إلى تاريخ مكرس “سحيق” يعود إلى زمن الانتداب الفرنسي، تاريخ صور حالات “الثورات” كحالات واعية قاد فيها إقطاعيو ذلك الزمان الفلاحين المرابعين في أراضيهم، بدوافع ما قبل وطنية، وما قبل دولتية، بل قبلية وعشائرية، كلٌّ في منطقته، من الجنوب، إلى الساحل، إلى ريف حلب بما فيها إدلب الحالية، إلى دير الزور. كرست هذه السردية مرويات مدرسية، وتماثيل تمجد هذه الحالة المناوئة للانتداب الفرنسي، فكانت “مصدر فخر” للسوريين، وعلى الأخص لأبناء هذه المناطق.
الآن، ينبش أبناء ذلك التاريخ في تاريخهم المناطقي الصافي، أو المركب طائفيًا، التاريخ الذي كرسته سلطات متتابعة أسدية وما قبل أسدية، لسد الذرائع أمام المشككين في وطنيتهم، وهم قلة رغم كثرتهم في برلمان فيسبوك، للقول إن الزائد في حريتهم اليوم لا يقتل، وإن حرص أجدادهم ممن حافظوا على وحدة سورية في وجه مخططات دولة حلب، ودولة الساحل، ودولة جبل العرب، مماثل لحرصهم اليوم على وحدة سورية، مدعين أنهم يتكلمون باسم الأكثرية، ودائمًا دليلهم هي الأصوات في برلمان فيسبوك.
أمام سلطة قاصرة عن ضبط هذا الوضع، بالقانون، أو بالسلاح، مثل هذه الحرية تقتل، وهي تقتل الآن وفعلًا، على نطاق فردي، هنا وهناك، مع القلق والخشية من أن تتعاظم الحالة إلى مواجهات مسلحة أوسع نطاقًا تبدأ بثأر، ولا تنتهي بمظلوميات فائضة على حاجة سورية التي تمتلك منها الأقليات السياسية والمناطقية والطائفية ما يكفي ويزيد.
الآن، وصفة كبت الحريات الخديجة لا تجدي نفعًا، وليس في الإمكان في هذا الوضع المضطرب سوى الاستمرار في تهدئة النفوس، مع قدر منضبط من الشدة، عُرفي، ربما، بغياب القانون العام. فالحرية الخديجة تحتاج إلى رعاية استثنائية كي يخرج المولود ويتنفس حتى الهواء الملوث في سورية التي لم تطمئن بعد إلى مولودها العتيد.