عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 10 أذار 2025

متابعة للأحداث في الساحل السوري
——————————-
مآل العدالة في سوريا اليوم/ حسام جزماتي
2025.03.10
قيل كثيراً إن على سلّم أولويات البلاد الآن بسط الأمان ثم إنقاذ الحالة المعاشية والخدمية المنهارة، بما قد يوحي بأن مطلب العدالة قابل للانتظار. لكن
مع زيادة سنوات الثورة السورية تفاوت ترتيب سلم أولويات شعاراتها العامة المؤسِّسة؛ الحرية والكرامة والعدالة. ففي حين استنتج السوريون أن طريق الحرية طويل وأن الوصول إلى الكرامة، الشخصية والسياسية والمعاشية، سيستغرق وقتاً متوسطاً؛ تقدم إلحاح مطلب العدالة وفوريته مع تصاعد جرائم النظام والمشاعر الحانقة التي خلّفتها في نفوس ذوي الضحايا ومحيطهم الواسع. ولذلك طرحت هذه المسألة منذ اليوم الأول لسقوط النظام، بل حتى قبل ذلك في أثناء معركة التحرير السريعة التي سيطرت على قطعات عسكرية ومقار أمنية ومراكز تشبيحية.
ومن ذلك الوقت برزت على السطح أربعة تصورات عن العدالة نادت بها أطراف مختلفة. فمن جهتها طالبت المنظمات الحقوقية، المحلية والأممية المدعومة بالسياق الدولي، بالبدء بإجراءات العدالة الانتقالية التي تتضمن، بطبيعة الحال، إلقاء القبض على كبار المجرمين ومتوحشيهم المعروفين، والإعداد لعرضهم على محاكم محترمة ونزيهة، فضلاً عن إجراءات جبر الضرر وتخليد الذكرى وضمانة عدم التكرار.
أما «إدارة العمليات العسكرية» التي قادت عملية «ردع العدوان» واضطرت، في أثناء ذلك، لنثر عدد لا يكاد ينتهي من التطمينات المتنوعة؛ فقد أعلنت أن المعركة «فتح لا ثأر فيه». مؤكدة أن من يلقي سلاحه من مقاتلي النظام فهو آمن، بل منحته لقب «المنشق». وطالبت العسكريين ومن في حكمهم، بعد مدة قصيرة، بالحصول على بطاقات تسوية تصدرها ثم العودة إلى منازلهم مطمئنين. وبدا أنها تريد السير في هذا الطريق إلى آخره، تقريباً، لولا الضغط الذي تعرضت له على يمينها من «أولياء الدم» الذين فقدوا أقارب وأحباء خلال حرب النظام المديدة على المناطق المحررة والثائرة، وشكّلوا حاضنة المعركة ومادتها من مقاتلي مختلف الفصائل.
يقبل هؤلاء إجراءات العدالة الانتقالية على مضض، إذ يفضّلون عدالة شاملة لا تغادر يداً تلطخت بالدماء من طرف النظام إلا وأحصتها. ولكن بما أن المتورطين كثيرون على ما يبدو، وستغصّ بهم أي إجراءات قضائية معقولة، فلا بأس بعدالة انتقالية موسعة يجب اتضاح معالمها فوراً بهدف تسكين الصدور التي لم تنل بغيتها في أثناء معركة التحرير. وكلما تأخرت معالم المحاسبة في الظهور تململ هؤلاء وارتفعت بينهم أصوات من ينادون بضرورة «العدالة الانتقامية» بعد أن ملكوا القوة، باقتناص المجرمين وإعدامهم خلسة، أو بالثأر الجماعي ذي الطابع الطائفي الموجه نحو تجمعات العلويين في الساحل وحمص وضواحي دمشق بشكل أساسي.
من جهتهم ارتاح العلويون إلى سياسة «عفا الله عما مضى» التي بدا أنها ستسود في الأيام الأولى لتغيير النظام، لكنهم فوجئوا أن موازين القوى متضاربة ومتلاطمة إلى درجة أنها لن تسمح لهذا النهج بالاستقرار. وبالتدريج ظهر أن التسوية التي أجراها عشرات الآلاف منهم ليست ضمانة نهائية. ومع ارتفاع نبرة الحديث عن «الأخطاء الفردية» الكثيرة من جهة، وعن ملاحقة «فلول النظام» من جهة أخرى؛ فقدوا الطمأنينة وانتشرت بينهم الأخبار، والإشاعات، المتأتية عن ذعر جماعي لا يعدم الخلفيات التاريخية والأدلة المستجدة، وشعروا أنهم يسيرون نحو المجهول. ولم تؤثر الحملة الأخيرة على الساحل سوى في تعزيز مخاوفهم.
الحزَم الأربع للعدالة، إذاً، هي نهج «اذهبوا فأنتم الطلقاء» الذي واكب «الفتح»، مع بقاء عدد غير معروف من أسماء المطلوبين «ولو تعلقوا بأستار الكعبة» لتكتمل سردية التاريخ الديني. وثانياً ترجمة ذلك إلى «عفو عام» يطوي صفحة «الحرب» برمتها، وهو مطلب العلويين. وثالثاً أي عدالة «تشفي الغليل» وإلا… وهو مطلب حاضنة الثورة. وأخيراً هناك الحل المدرسي لكن المدروس والمجرب، وهو «العدالة الانتقالية».
من الواضح أن وراء كل من هذه الحلول قوى، عسكرية أو أهلية أو سياسية، لن تسمح بتجاوزه وبتبني غيره كلياً. ومن العقل أن تدعو الخبراء، في الداخل والخارج، إلى الإسراع في تبني طريق سوري خاص في العدالة الانتقالية يسكّن مخاوف جميع الأطراف ويحافظ على تماسك البلد. لكن كل يوم يمر في حين تتوازع هذه المناهج الفاعلية وتتناوب بعشوائية في أداء الأدوار؛ هو سبيل محقق إلى ابتعاد قيمة العدالة عن المستقبل، وإن تحققت بصدفة أو بمبادرة فردية أو مجتمعية هنا أو هناك.
قيل كثيراً إن على سلّم أولويات البلاد الآن بسط الأمان ثم إنقاذ الحالة المعاشية والخدمية المنهارة، بما قد يوحي بأن مطلب العدالة قابل للانتظار. لكن الأحداث قالت إنه لا يحتمل التهاون بسبب ارتباطه الوثيق بالدرجة الأساسية من السلّم المتعلقة بالأمان. فقد عبّر كثير من ذوي الضحايا، ومن الناجين من المعتقلات، أنهم لن يصبروا طويلاً على مشاهدة المسؤولين عن مآسيهم أحراراً بسبب الفوضى أو نتيجة لتوجه السلطة الحالية إلى تدعيم «التمكين» وتحييد الأعداء بل حتى الاستفادة من إمكاناتهم وعلاقاتهم لوقت مفتوح.
في وجه من وجوهها عبّرت التجمعات العارمة لتأييد المعركة الأخيرة في الساحل، والتي ترجمت إلى أرتال كبيرة من المقاتلين للمشاركة فيها؛ عن رغبة في المحاسبة المباشرة باليد بعد أن مر التحرير بسلام على غفلة من كثيرين الذين كانوا ينتظرونه كفرصة للانتقام الجماعي، لم يعد بالإمكان تطويقها الآن بغير «عدالة انتقالية
تلفزيون سوريا
———————————-
حرب السرديات في الساحل السوري.. من يصوغ الرواية؟/ ثائر المحمد
2025.03.10
خلال اليومين الماضيين، شهدت مناطق الساحل السوري تطوراتٍ متسارعة تأخذ أبعاداً متعددة، ما جعلها محور اهتمام وسائل الإعلام الغربية التي تتابع مجريات الأحداث عن كثب، وفي خضم المواجهات بين الجيش السوري والأمن العام من جهة، وفلول النظام المخلوع من جهةٍ أخرى، اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي موجةٌ من المنشورات والصور والفيديوهات المضللة، التي انتشرت على نطاقٍ واسع، مستندةً إلى مشاهد مفبركةٍ وأخرى قديمة لا تمتّ للأحداث الجارية بصلة، بل تعود بعضها إلى مناطق خارج سوريا.
وقد أثار الاستخدام المكثّف للمعلومات المغلوطة تساؤلاتٍ حول الجهات التي تقف خلف هذه الحملات الإعلامية، وما تسعى إلى تحقيقه من خلال التشويش على حقيقة ما يجري في الساحل.
ومع تصاعد زخم التغطية الإعلامية، أبدت بعض الجهات الدولية مواقف تستحق الوقوف عندها، إذ تباينت ردود الفعل بين الإدانات والتحذيرات، وكان من اللافت صدور بيانٍ عن وزارة الخارجية الفرنسية، الذي حمل قلقاً “إزاء أعمال العنف الخطيرة التي وقعت في سوريا خلال الأيام الأخيرة في طرطوس واللاذقية”، وخلا من أي إدانةٍ لعمليات التصفية التي تعرّض لها أفراد من الأمن السوري على يد فلول النظام.
ماذا جرى في الساحل؟
اندلعت أحداث الساحل السوري قبل أربعة أيام، بعد تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة، حيث رُصدت تحركاتٌ مشبوهة لعناصر مواليةٍ للنظام المخلوع، حاولت إعادة تنظيم نفسها لبثّ الفوضى واستهداف قوات الأمن العام، وخلال الأسابيع الماضية، ازدادت عمليات التسلل إلى بعض القرى والبلدات، ما دفع القوات الأمنية والعسكرية إلى تكثيف المراقبة والاستعداد لأي تصعيدٍ محتمل.
ومع ورود تقارير استخبارية عن مخططاتٍ لشنّ هجماتٍ على مواقع حيوية، بدأت الأجهزة الأمنية تحرّكاتٍ استباقية لضبط الوضع قبل خروجه عن السيطرة. وبعد ذلك، وقعت أولى المواجهات المباشرة بين قوات الأمن ومجموعاتٍ مسلّحة حاولت تنفيذ هجومٍ على نقطة تفتيش، مما أدى إلى اندلاع اشتباكاتٍ عنيفة أودت بحياة 13 عنصراً من قوات الأمن.
وسبق أن أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، ارتفاع حصيلة قتلى هجمات فلول النظام المخلوع في منطقة الساحل إلى 147 قتيلاً، مشيراً إلى أن عمليات التوثيق لا تزال مستمرة.
وأوضح عبد الغني، في تصريحٍ لتلفزيون سوريا، أن عدد القتلى من عناصر الأمن العام ارتفع إلى 121 شخصاً من جراء تلك الهجمات، إضافةً إلى مقتل 26 مدنيًا على الأقل، بينهم 7 أطفال و13 سيدة، في أعمال عنفٍ متفرقة، بعضها استهدف سياراتٍ تحمل لوحات تسجيل من إدلب، مضيفاً أن هذه الحصيلة ليست نهائية، إذ تستمر عمليات التوثيق، مع وجود مؤشراتٍ على أن العدد الفعلي للضحايا قد يكون أعلى، خاصةً في ظل ورود مقاطع مصوّرةٍ ووثائق جديدة من مناطق مثل بانياس.
وتحدثت مصادر حقوقية عن وقوع ضحايا من المدنيين في عمليات تفتيشٍ نفذتها فصائل ومجموعاتٌ عسكرية من خارج الجيش والأمن العام.
ومع تفاقم التوتر، دفعت الحكومة بتعزيزاتٍ عسكرية كبيرة إلى الساحل لاستعادة السيطرة ومنع انتشار الفوضى، وتزامن ذلك مع ظهور تقارير تفيد بأن بعض عناصر فلول النظام المخلوع استخدموا تكتيكاتٍ تمويهية بارتداء زيّ الأمن العام، ما أثار ارتباكاً في صفوف المدنيين والقوات الأمنية على حدّ سواء.
في غضون ذلك، وقعت بعض الانتهاكات في المناطق المتأثرة بالاشتباكات، حيث استغلّت مجموعاتٌ غير منضبطة حالة الاضطراب لتنفيذ أعمال نهبٍ وسلب، وهو ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءاتٍ صارمة بحق المتورطين، وتمكنت الجهات الأمنية من ضبط عددٍ من الأفراد واستعادة ممتلكاتٍ مسروقة، مع التأكيد على محاسبة أي شخص يثبت تورطه في هذه التجاوزات.
ولم تقتصر المواجهة على الأرض، إذ سرعان ما بدأت حرب إعلامية موازية، حيث عمدت حساباتٌ على مواقع التواصل الاجتماعي، يُعتقد أنها تدار من جهاتٍ منظمة، إلى تضخيم الأحداث عبر التركيز على مزاعم بوجود عمليات تصفيةٍ على أساسٍ عرقي وطائفي، متجاهلةً السياق الكامل لما جرى.
مع استعادة السيطرة تدريجياً، كثّفت الحكومة جهودها لضبط الأمن وإعادة الاستقرار، مؤكدةً أن عمليات ملاحقة بقايا فلول النظام المخلوع لا تزال مستمرة، بالتوازي مع فتح تحقيقاتٍ في التجاوزات التي وقعت، واتخاذ خطواتٍ لضمان عدم تكرار الفوضى. في المقابل، شهدت التغطية الإعلامية تحولاً في السردية، حيث انتشرت صورٌ وفيديوهاتٌ قديمة على نطاقٍ واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في محاولةٍ لتضليل الرأي العام وإظهار الأحداث بطريقةٍ تتماشى مع أجندات فلول النظام.
الإعلام الغربي وتغطية أحداث الساحل
مع استمرار الأحداث في الساحل السوري، تتجه التغطية الإعلامية الغربية نحو تحوّلات ملحوظة في العناوين والسرد، ما يعكس تطوّراً في طريقة تعاطي الصحف ووسائل الإعلام الأميركية والبريطانية مع التطورات.
ووفق متابعة الصحفي رأفت الرفاعي، وعلى مدار الساعات الماضية، كشفت المتابعة الدقيقة لهذه التغطيات عن تباينات لافتة في الخطاب الإعلامي، سواء من حيث اختيار المصطلحات أو إبراز بعض الزوايا على حساب أخرى.
خلال اليوم ما قبل الأخير، تراجع معدل النشر حول الأحداث مقارنةً بيومي الخميس والجمعة، وهو ما يتماشى مع طبيعة التغطية الإعلامية الغربية التي تشهد انخفاضاً في وتيرة النشر خلال عطلة نهاية الأسبوع، إلا أن هذا التراجع لا يعني غياب الاهتمام، بل يشير إلى محاولات لاستيعاب التحولات الجارية وإعادة ضبط زاوية التغطية بما يخدم التوجّه التحريري لكل وسيلة إعلامية.
ومن أبرز هذه التحوّلات، الانتقال من وصف المواجهات بأنها بين الحكومة ومتمردين موالين للأسد إلى التركيز على مصطلحات أكثر حدّة مثل “العنف”، “مقتل المدنيين”، “الاعتداء على العلويين”، و”حملة قمع في مناطق العلويين”.
ورغم أن العديد من التقارير استمرت في الإشارة إلى المسلحين التابعين للنظام المخلوع ومحاولات السلطات الجديدة لاحتوائهم، فإن المساحة التي أُعطيت لهذه النقطة تضاءلت تدريجياً على مدار اليوم، لصالح التركيز على شهادات تتحدث عن انتهاكات، ومع نهاية اليوم، باتت هذه الشهادات تشكل المحور الأساسي في بعض التقارير، ما يعكس توجّهاً نحو تقديم هذه الروايات باعتبارها الأهم في المشهد.
حرب رقمية توازي التغطية الميدانية
إلى جانب التغطية الإعلامية التقليدية، تتواصل معركة إعلامية رقمية تستهدف التأثير على الرأي العام، حيث أظهرت تحليلات حديثة لتوجهات مواقع التواصل الاجتماعي موجة تضليل ممنهجة تستهدف سوريا والسوريين.
وأشار المسؤول الأمني في الساحل السوري ساجد لله الديك إلى أن “جيوشاً إلكترونية من العراق ولبنان وشرق الفرات وتل أبيب تتناوب على نشر أخبار تهدف للفتنة الطائفية في سوريا”.
التضليل الإعلامي وحملات التشويه
مع تصاعد حدة المواجهات في الساحل السوري، شهدت منصات التواصل الاجتماعي حملة تضليلٍ مكثفة اعتمدت على نشر صورٍ مفبركة ومقاطع فيديو قديمة من خارج سوريا، لكنها وُظّفت لإعطاء انطباعٍ بأن الأحداث الجارية أكثر دمويةً واتساعاً مما هي عليه في الواقع.
انتشرت هذه المواد عبر حساباتٍ غير موثوقة، بعضها ينتمي إلى جهاتٍ لها سجل طويل في التلاعب بالأخبار حول سوريا، وأخرى تابعةٌ لجهاتٍ إقليمية وغربية لها مصالح في إبقاء حالة عدم الاستقرار.
وتبيّن من خلال تحليل المصادر أن الكثير من هذه المنشورات يعتمد على صورٍ قديمة، بعضها ليس في سوريا، حيث يتم تغيير توصيف الصور والفيديوهات لإيهام المتابعين بأنها حديثة وتعود إلى الساحل السوري، وقد رصد موقع تلفزيون سوريا مجموعةً من الصور بهذا السياق.
التداعيات وواجبات الحكومة السورية
لا تقتصر حملات التضليل الإعلامي على التأثير في الرأي العام المحلي أو الدولي، بل تمتد تداعياتها إلى مستوياتٍ أكثر تعقيداً، تشمل التأثير على الاستقرار الداخلي، وخلق فجواتٍ بين الدولة والمجتمع، واستغلال الفوضى المعلوماتية لتمرير أجنداتٍ خارجية.
ويمكن تلخيص أبرز التداعيات في النقاط التالية:
تضليل الرأي العام الدولي: مع سيطرة وسائل الإعلام الغربية على الخطاب العالمي، فإن تكرار الروايات بالاعتماد على مصادر غير رسمية حول ما يجري في الساحل السوري قد يؤدي إلى إضعاف موقف الحكومة السورية سياسياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية.
إضعاف الثقة بالمصادر الرسمية: إذا لم تكن هناك جهودٌ إعلاميةٌ منظمةٌ لمواجهة الأخبار الكاذبة، فقد يفقد المواطنون والصحفيون الدوليون الثقة في الرواية الرسمية، ما يمنح الحسابات المزيفة فرصةً لفرض سردياتها الخاصة.
تعزيز الانقسامات الداخلية: بما أن بعض التقارير والمحتوى المضلل يركز على تأجيج النزعة الطائفية، فإن تكرار نشر مثل هذه المواد قد يؤدي إلى خلق بيئة توتر داخلي وزعزعة السلم المجتمعي.
إتاحة غطاء دولي للتدخلات الخارجية: لطالما استخدمت الدول الكبرى الروايات الإعلامية المضللة لتبرير التدخلات العسكرية والسياسية، وبالتالي فإن استمرار نشر الأخبار المغلوطة حول سوريا قد يكون مقدمةً لضغوط دبلوماسيةٍ متزايدة أو حتى محاولات تدخلٍ مباشر تحت ذرائع إنسانية.
تعليق رسمي من وزارة الإعلام السورية
في سياقٍ متصل، حذّرت وزارة الإعلام السورية من تداول الأخبار الكاذبة والمحتوى المضلل المنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، قائلةً في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا: “رُصدت خلال اليومين الماضيين حملات إعلامية ممنهجة وحملات تجييش إلكتروني، تقف وراءها جهات ذات أجندات مشبوهة وارتباطات خارجية، وقد لجأت هذه الجهات إلى استخدام الخطاب الطائفي لإثارة الفتن وبثّ الفوضى”.
وأضافت: “بعد التحقق، تبيّن أن عدداً كبيراً من الصور ومقاطع الفيديو التي يتم الترويج لها على أنها انتهاكات وقعت في الساحل السوري، إما مزيفة، أو قديمة، أو غير مرتبطة بسوريا على الإطلاق”.
ووفق الوزارة، فإنها تحرص على “التصدي لظاهرة الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي عبر توضيح الحقائق للرأي العام، وإصدار البيانات الرسمية التي تكشف زيف هذه الادعاءات”، داعيةً “وسائل الإعلام والمواطنين إلى ضرورة تحرّي الدقة والاعتماد على المصادر الرسمية قبل نشر أو تداول أي خبر”. كما أشارت إلى أنها “تعمل على تعزيز التعاون مع المؤسسات الإعلامية والمجتمع لمواجهة هذه الحملات المضللة وحماية استقرار المجتمع”.
وحثّت وزارة الإعلام جميع المواطنين على الاعتماد على المصادر الرسمية ووسائل الإعلام الموثوقة للحصول على المعلومات الدقيقة، والامتناع عن تداول الأخبار المشبوهة أو غير المؤكدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كذلك، دعت الوزارة الجميع إلى التحقق من صحة أي معلومة قبل نشرها، والتعامل بوعيٍ مع الحملات التضليلية التي تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار، لما قد يترتب على ذلك من آثارٍ سلبية على المجتمع ككل
سبل مواجهة حملات التضليل الإعلامي
لمواجهة هذه الحملة الإعلامية الموجهة، لا بد من استراتيجيةٍ متكاملة تستند إلى مزيجٍ من الأدوات الإعلامية والسياسية والأمنية، ومن ضمن المقترحات:
إصدار ملخصٍ يومي واضح ودقيق للأحداث من قبل الإعلام الرسمي، بحيث يكون المصدر الأساسي للمعلومات، بدلاً من ترك المجال مفتوحاً للتكهنات والمعلومات الصادرة عن الحسابات المزيفة.
توفير تقارير رسمية محدثة يتم ترجمتها للغاتٍ عدة، مثل الإنجليزية والفرنسية، لضمان وصول الرواية السورية إلى الإعلام الغربي والجمهور الدولي.
تكثيف جهود رصد وسائل التواصل الاجتماعي للكشف عن الأخبار المفبركة والرد عليها ببياناتٍ موثوقة، على غرار آليات “التحقق من الأخبار” التي تستخدمها بعض الدول لمواجهة التضليل الإعلامي.
إصدار توضيحاتٍ رسميةٍ فورية تنفي الأخبار المغلوطة وتكشف زيف الصور والفيديوهات المفبركة.
تعزيز حضور المتحدثين الرسميين في وسائل الإعلام بدل الاكتفاء بالبيانات المكتوبة، مما يعزز فرص إيصال الرواية السورية بطريقةٍ أكثر تأثيراً.
فتح قنوات تواصل مع المنظمات الدولية، والتفاعل مع الجهات الحقوقية والإعلامية المستقلة لتقديم وجهة النظر السورية بشأن الأحداث.
تقديم تقارير موثقة للأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية لفضح محاولات التضليل الإعلامي، وإبراز التناقضات في روايات فلول النظام المخلوع.
نصائح وتوصيات في التعامل مع التضليل الإعلامي
مع انتشار المعلومات المضللة على نطاق واسع، بات على المواطنين السوريين دور محوري في التصدي للأخبار الكاذبة، وتعزيز الوعي الإعلامي، والمساهمة في حماية الصورة الحقيقية لما يجري على الأرض. وفي هذا السياق، هناك عدة توصيات يمكن اتباعها لتجنب الوقوع في فخ التضليل الرقمي وحملات التجييش الإعلامي.
ومن ضمن التوصيات، التحقق من المعلومات قبل نشرها أو التفاعل معها، والحذر من الحسابات الوهمية والمشبوهة على مواقع التواصل، وعدم الانجرار وراء العناوين المثيرة دون التأكد من المحتوى، خاصة أن الحسابات المضللة تستخدم عناوين مثل “عاجل”، “فضيحة”، “تسريب خطير”، “كارثة كبرى” لجذب الانتباه والتأثير العاطفي.
كما يُنصح بالتوقف عن نشر الأخبار غير المؤكدة، لأن ذلك يعزز من انتشار الشائعات، إضافة إلى دعم الصحفيين المستقلين والموضوعيين الذين ينقلون الوقائع دون تحريف، مما يساهم في إيصال الحقيقة إلى الجمهور المحلي والعالمي. كما يُوصى بمتابعة المختصين في الإعلام الرقمي الذين يكشفون أساليب الدعاية والتضليل عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفهم كيفية عمل الخوارزميات الرقمية التي تدفع بمحتوى معين إلى الجمهور، وتساعد على نشر الأخبار المزيفة بسرعة أكبر من الأخبار الحقيقية.
الانتهاكات في الساحل السوري
رغم حملات التضليل الإعلامي المكثفة التي تحاول إعادة تشكيل مشهد الساحل السوري وفق أجندات محددة، لا يمكن إنكار أن انتهاكات حقيقية قد وقعت في بعض المناطق، وهو ما أكده مسؤولون رسميون في تصريحاتهم الأخيرة.
واعترفت السلطات السورية بوجود تجاوزات فردية ارتُكبت خلال العمليات الأمنية والعسكرية، وأعلنت عن إجراءات لمحاسبة المتورطين وإعادة المسروقات إلى أصحابها، كما جرى التأكد من فيديوهات مصورة تُظهر بالفعل عمليات تصفية لعدد من الأشخاص في الساحل السوري على يد مجموعات مسلحة.
وفي هذا السياق، أشار ناشطون سوريون إلى أن عدداً من عناصر فلول النظام يتعمدون ارتداء الملابس الخاصة بعناصر الأمن العام، لارتكاب الجرائم ونسبها إلى قوات الأمن، كما نشروا مجدداً مقطع فيديو يُظهر أحد عناصر فلول النظام، المدعو مقداد فتيحة، أثناء تهديده لأبناء منطقته من الرجال والنساء، متوعداً بأن “حسابهم عسير”.
ويوم أمس، صدر قرارٌ رئاسيٌّ بتشكيل لجنةٍ وطنيةٍ مستقلةٍ للتحقيق في أحداث الساحل السوري التي وقعت في السادس من آذار 2025، وتهدف اللجنة إلى الكشف عن أسباب الأحداث والملابسات المحيطة بها، والتحقيق في الانتهاكات التي تعرّض لها المدنيون، بالإضافة إلى تحديد المسؤولين عن الاعتداءات التي طالت المؤسسات العامة وعناصر الجيش والأمن، كما أكّد البيان ضرورة تعاون الجهات الحكومية مع اللجنة، التي ستقدّم تقريرها النهائي إلى رئاسة الجمهورية خلال ثلاثين يوماً.
ووجّه الرئيس السوري أحمد الشرع، مساء الأحد، كلمةً إلى الشعب السوري تناول فيها التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد، محذراً من محاولات فلول النظام السابق، بدعمٍ من جهاتٍ خارجية، لخلق الفتنة وجرّ البلاد إلى مستنقع الفوضى والحرب الأهلية، بهدف تقسيمها وزعزعة استقرارها. وقال في الوقت نفسه: “سنحاسب، بكل حزمٍ ودون تهاون، كل من تورّط في دماء المدنيين أو أساء لأهلنا، ومن تجاوز صلاحيات الدولة أو استغل السلطة لتحقيق مآربه الخاصة. لن يكون هناك أي شخص فوق القانون، وكل من تلطّخت يداه بدماء السوريين سيواجه العدالة عاجلاً غير آجل”.
تلفزيون سوريا
———————————–
المحاسبة والعدالة الانتقالية… ووقائع الساحل السوري/ عمار ديوب
10 مارس 2025
زال النظام القديم في سورية، ولكنّ النظام الجديد لم يبنِ دولةً بعد، وما حدث في مدن الساحل السوري يومي الجمعة والسبت الماضيين يأتي في إطار عمل بقايا النظام القديم على تخريب الجديد، وأملاً في سيناريوهات عدّة، إمّا فرض حكم ذاتي خاصّ بالساحل، أو عقد صفقة مع الإدارة للوصول إلى عفو عام عن كبار مجرمي النظام القديم، أو استدعاء تدخّل خارجي لإسقاط النظام. … لم تلقَ القوة التي قتلت 15 من قوات الأمن العام، ولاحقاً أكثر من مائة في المعارك، وحاولت السيطرة على مدن الساحل، تأييداً من السكّان، وهم سنّة وعلويون ومسيحيون وتركمان وسواهم. وقد جعل عدم التأييد هذا مسألة إخماد التمرّد تنتهي خلال يومين، وعاد بقايا النظام إلى مخابئهم في الجبال العالية. …هل كان التمرّد مدعوماً من دول خارجية؟ هناك تكهّنات كثيرة، ولكن سرعة حسم التمرّد تشير إلى ضعف هذا السيناريو.
هناك إجماع لدى أهل الساحل، ولدى أغلبية السوريين، على رفض أيّ تمرّدات من بقايا النظام على الإدارة الجديدة، وهناك رفض واسع لأيّ تدخّلات إقليمية أو دولية لتخريب الفترة الانتقالية التي تمرّ فيها سورية التي لم تتعافَ بعد، وبالكاد بدأت النهوض. تزيد سياسات الإدارة الجديدة الخاطئة من عدم التعافي وتعوق النهوض. هناك مشكلة كبرى للسوريين مع تلك السياسات، يتكثّف نقدها في أنها استئثارية، وتتفرّد بالحكم، وتتجاهل الأسس الوطنية في بناء الجيش وتسيير شؤون الدولة وإعادة بناء مؤسّسات الدولة، ويغلب عليها الطابع الإسلامي السلفي، وليس المدني، وترفض إشراك بقيّة السوريين، بدءاً بالسُّنة.
حدثت انتهاكات وجرائم حرب واسعة في مدن الساحل. حدث قتلٌ على الهُويَّة الطائفية العلوية، وتردد أن عدد الذين قتلوا 300 شخص، ولم تتكشّف الأعداد النهائية بعد. حدثت سرقات وعمليات نهب وإهانات طائفية وإذلال طائفي، وأُجبر بعض الناس على تقليد أصوات الحيوانات. خرج الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، بخطاب إلى الشعب، وأشار إلى كثير ممّا جرى، لكنّه لم يُحدّد بدقّة من ارتكب المجازر والانتهاكات وسيحال على المحاكم ويحاسب. هناك سوابق كثيرة في الانتهاكات والقتل، سيّما في حمص، من دون أن يحال مرتكبوها على محاكم. ولهذا، أولى الخطوات للثقة بالرئيس وبالدولة الجديدة هي المحاسبة، والرفض الحاسم للانتهاكات، والبدء بتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية، التي تأجلّت كثيراً.
كان الخلاف الجوهري مع نظام التوحّش السابق حول غياب الفصل بين السلطات وسيطرة الأجهزة الأمنية على الدولة وغياب النظام الديمقراطي، وحول التمييز بين المواطنين والفساد. وبعد الثورة، في رفض منهجية المحاسبة لقادة الأفرع الأمنية والعسكرية، التي تفنّنت بأشكال التعذيب والقتل والإجرام، وكانت بإشراف كاملٍ من بشّار الأسد وأخيه ماهر، وكبار القادة الأمنيين والعسكريين. قادت تلك الممارسات إلى عزلة السلطة وإدانتها دولياً، وعزلتها عربياً، وفي النهاية رحيل النظام. يجمع معظم الدستوريين والقوى السياسية والمثقّفون السوريون على ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية، وعلى أن التأخّر فيها أدّى (ويؤدّي) إلى العدالة الانتقامية، وما جرى في الساحل من جرائم وقتل طائفي إنما بسبب التأخّر في تطبيق العدالة. لم يتطرّق خطاب الشرع أخيراً إلى هذا الموضوع الدقيق، ولم يتطرّق إلى المسائل التي أصبحت في حكم الضرورة اليومية، فقد شُكّلت اللجنة المُكلّفة تقديم مقترح للإعلان الدستوري، ولكن ليس هناك من وقت لإعلانه من الرئيس، وكان هناك وعد بحكومة انتقالية وطنية في مطلع مارس/ آذار الحالي (2025)، ممثّلة للسوريين كافّة، وتراجع الحديث عنها. التأخّر في المسائل سابقة الذكر يُبقي كامل السلطات بيد الإدارة الحالية التي أصبحت سياساتها محطّ انتقادات واسعة داخلياً وخارجياً، وبدأت بالتشدّد بعد المجازر التي حدثت في الساحل.
خيار الإدارة الوحيد لتتجنّب العقبات الداخلية والخارجية كافّة، وعدا المحاسبة وتطبيق العدالة الانتقالية، الإسراع بالإعلان الدستوري وتشكيل حكومة وطنية بالفعل، وإشراك الشعب في مختلف مؤسّسات الدولة، من أصغرها إلى أكبرها، والكفّ عن عدم الثقة بالشعب، فمن هذه الثقة تتشكّل الثقة بالدولة الجديدة، والعكس صحيح، فهما متلازمان، ومن دون ذلك سورية معرّضة لمختلف أشكال التفكّك والانقسام، بل الحرب الأهلية والتدخّلات الخارجية.
أوجدت الجرائم في الساحل نوعاً من التفكّك المجتمعي الواسع. أخافا، حجم الجرائم ونوعيتها، سوريين كثيرين بأن يكون المستقبل كالماضي، وأن تشهد سورية نظاماً مستبدّاً، تُجيد قيادته الكلام المعسول، بينما تغمض العين عن انتهاكاتٍ تابعة لقوى الأمن والجيش. … نعم سورية في مرحلة انتقالية، ولم يتشكّل الجيش بشكلٍ وطني ومهني واحترافي بعد. هناك سبب مركزي في ذلك، أن من كُلّف مسؤولية ذلك ليس عسكرياً، هم من قادة الفصائل الذين قاتلوا النظام، ولم يُستدعَ كبار الضبّاط الذين انشقوا عن النظام ليتسلّموا مهمّة التشكيل هذه. حدثت تلك الجرائم، لأن قيادة الجيش وقوى الأمن العام والاستخبارات لم تفرض سياستها بشكل كامل ودقيق على الفصائل المنضوية ضمن الجيش وجهاز الأمن العام. هناك فصائل ومجموعات لم تقم بانتهاكات، بينما أخرى قامت بما ذكرنا منها، وكثير من انتهاكاتها موثّقة ومنشورة، وبدأت التقارير الحقوقية تُضمِّنها، ومن هنا ضرورة المحاسبة والمحاكمة للجناة، وكلّ تأخير سيُعزّز الابتعاد من الإدارة الجديدة، ويفتح الباب واسعاً لفشلها.
لا تَحتمل سورية تجاهل كثير من النقد السابق للإدارة. الأزمات تتراكم وتتعقّد وقد تنفجر، وانفجار بعضها في الساحل قد يكون إنذاراً للإدارة بأن هناك ما هو أسوأ؛ الأزمة المعيشية التي تتفاقم يومياً، كتأخّر إصلاح الكهرباء وتعثر النهوض بالاقتصاد والتعطيل المستمرّ لمؤسّسات الدولة كلّها. … ما ذُكر أعلاه يتفاعل، وقد يؤدّي إلى الانفجار المجتمعي
العربي الجديد
——————————–
سورية ومستقبل الخطر الطائفي/ حيّان جابر
10 مارس 2025
شهدت سورية منذ 8 ديسمبر/ كانون الأول (2024) مرحلةً جديدةً من تاريخها، قد تؤسّس لبناء دولةٍ سوريةٍ متطوّرة لكلّ مواطنيها، أو قد تعود إلى الغرق في المستنقع نفسه، مستنقع الانقسام الداخلي، والاختلاف حول كلّ شيء، إلى جانب الصدام الداخلي، بل يمكن القول، هذه المرّة، ومن دون أي لبسٍ، الغرق في مستنقع الحرب الأهلية.
لم تكن الثورة السورية مصدر هذا الخطر، بل كانت ممارسات سلطة الأسد على مدار السنوات الماضية مصدَرَه الرئيس، إلى جانب ممارسات كلّ القوى (الداعمة للأسد والمعارضة له) التي ساهمت في قمع الحراك الشعبي السوري، وفرض سيطرتها قسراً عليه في أماكن سيطرتها، وهو ما شهدناه مراراً وتكراراً في مختلف أنحاء سورية، سواء التي كانت خاضعة لسيطرة الأسد أو لسيطرة قوى المعارضة المسلّحة. لكن، وبعيداً الآن عن أسباب ذلك السابقة، هل يصح اعتبار الخطر الطائفي قَدَراً محتوماً على سورية في مرحلة ما بعد الأسد؟
عملياً، كان من الصعب تجنّب الخطر الطائفي كلياً بعد إجرام الأسد المكثف منذ اندلاع الثورة السورية، الذي أضيف له إجرام قوى الأمر الواقع المختلفة، الداخلية والخارجية، اللذَين جعلا الواقع السوري الداخلي هشّاً ومخترقاً. رغم ذلك، كان (ولا يزال) من الممكن الحدّ منه، غير أن مسار الاستفراد والتقسيم الطائفي الذي اختارته حكومة الأمر الواقع الحالية، إلى جانب احتفاء قطاعاتٍ شعبيةٍ واسعةٍ بما سمّته “السلطة السُنّية” الممثّلة للغالبية الطائفية، حسب زعمهم وافتراضهم القسري، التي ترافقت مع رفض أيّ نقدٍ يطاول السلطة على اعتباره نقداً يطاول مجمل الطائفة السنّية، ويعبّر عن استهدافها مباشرةً، ساهم ذلك كلّه في زيادة الخطر الطائفي، حتّى وصل إلى حدّ ارتكاب مجازر بحقّ مدنيين عزل، منهم أطفالٌ ونساءٌ وشيوخٌ، بل تجرّأ بعضهم على تبرير ذلك، ولو مؤقّتاً (نحو يومٍ كاملٍ)، محمّلين مسؤولية المجازر لغير مرتكبيها، تماماً كما كانت تبريرات نظام الأسد، فضلاً عن مشكّكين بالمجازر أصلاً.
لم يقتصر السلوك الطائفي وأسلوب الاستفراد على سلطة الأمرِ الواقع المسيطرة اليوم على معظم سورية فحسب، أو حتّى على القطاعات الشعبية الداعية إلى سيطرة الطائفة السُنّية على مقاليد الحكم والمجتمع، وفرض رؤاهم الطائفية على مجمل المجتمع، بل امتدّ إلى قطاعاتٍ متعدّدةٍ، منها حاضنة النظام الساقط الطائفية (بعض العلويين)، ومنها جمهور قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومنها للأسف أصواتٌ طائفيةٌ انفصاليةٌ فتحت الباب أمام تدخّل الاحتلال الصهيوني في الشأن السوري الداخلي، تدّعي زوراً تمثّيل كلّ دروز سورية (الموحّدين). ولكن يبقى سلوك السلطة السورية الحالية، وممارسات حاضنتها الشعبية القمعية، بالحدّ الأدنى، المسبب الرئيس في تنامي هذه الممارسات وشرعنتها، وفي تعطيل مسار رصّ الصف السوري الداخلي، بل أصرّت السلطة القائمة على رفض أي تمثّيل سياسي للسوريين، وحصرت آليات التمثّيل بالهياكل الطائفية والمناطقية، في مسعى منها إلى الاستفراد بالشأن السوري، وتثبيت القاعدة الطائفية، لأنها القاعدة التي تؤمن بها الأكثرية المزعومة، على اعتبار كلّ سنّيٍ بالولادة سنّياً بالانتماء الطائفي، لتلغي الفكر والانتماء السياسي، بل لتلغي الانتماء السوري ذاته مجتمعاً ودولةً. من هنا، أصرّت سلطة الأمر الواقع على رفض أيّ حوارٍ أو تواصلٍ مع أيٍّ من القوى السياسية السورية، كما كرّست وعياً انفصالياً طائفياً، جسّدته قانونياً في تعزيز التوجّهات القضائية الطائفية، على مبدأ المحاكم الشرعية الخاصّة بكلّ طائفةٍ، وربّما كنا سنشهد لاحقاً أعلاماً طائفيةً ترفرف إلى جانب العلم السوري.
تجدر الإشارة إلى كلمة الرئيس أحمد الشرع، مساء الجمعة الماضي، عقّب فيها على أحداث الساحل السوري، خصوصاً مدينتي بانياس وجبلة، إذ يجد الكاتب أنّ الإيجابية الوحيدة في الخطاب كانت في إطلالة الشرع السريعة، فمن واجب السلطة، أيّ سلطةٍ، بغض النظر عن شرعيتها، الحفاظ على مخاطبتها مجمل مواطنيها، خصوصاً في الأحداث الصعبة. أمّا مضمون الكلمة فقد كان مضلّلاً بالحدّ الأدنى، وتعمّد تجاهل التقارير عن المجازر بحقّ المدنيين، وهو سلوكٌ غير مقبولٍ من سلطةٍ تدّعي تمثيل كلّ السوريين، كما لا يصحّ تبريره بعدم اطِّلاع الشرع على ما حصل، إذ ملأت التقارير الموثّقة (أو عالية المصداقية)، والشهادات الحيّة، صفحات السوشيال ميديا، قبل ظهور الشرع العلني. وعلى فرض عدم اطِّلاع الشرع على تلك التقارير، أو تقصير طاقمه الأمني والسياسي في إطلاعه عليها، أو حتّى جهل طاقمه الأمني والسياسي بها، فكلّها حججٌ يتحمّل الشرع مسؤوليتها المباشرة، فهو المسؤول عن اختيارهم، وعن تكليفهم وتوجيههم.
من ذلك كلّه، ورغم المصاب السوري الجلل، قد ينجح السوريون في تحويل أحداث مارس الحالي فرصةً لتصحيح المسار السوري، أولاً عبر محاسبة كلّ مرتكبي مجازر الساحل أخيراً، بل والعودة إلى المجازر السابقة، أو التجاوزات السابقة، خصوصاً في محافظة حمص.
وثانياً عبر خطِّ مسار العدالة الانتقالية السورية فوراً، بما يشمل محاكمة كلّ مرتكبي الجرائم في سورية، وفي مقدّمتهم عصابات الأسد وشبّيحته، مروراً بالجرائم الطائفية والجرائم ضدّ الإنسانية، التي ارتكبتها زوراً مجموعاتٌ مسلّحةٌ باسم الثورة السورية. وثالثاً، عبر خطِّ مسارٍ تشاركيّ شفّافٍ سوريّ سياسيّ حقيقيّ فوراً، يشمل كلّ المشارب السياسية السورية، على اعتبارهم شركاء متساوين في الأهمية والقوّة، بعيداً من منطق الغلبة العسكرية. رابعاً، إطلاق صلاحياتٍ واسعة للقطاع الإعلامي بشقّيه التقليدي والبديل (أي إلغاء كلّ التوجيهات والقوانين التي منعت تغطية العمليات الأمنية تحت ذرائع مختلفة)، إذ كان الإعلام البديل وسيلة السوريين الرئيسة في مواجهة آلة الأسد الإعلامية، بل والآلة الإعلامية الطائفية التي غذّتها بعض دول المنطقة، كما قد يساهم الإعلام البديل في كشف انحرافات السلطة السورية الحالية والمقبلة، بل في محاسبتها أيضاً على انتهاكاتها أو أخطائها في حال وجودها. وينبغي (خامساً) وقف كلّ المظاهر الطائفية السياسية والاجتماعية، فالدولة السورية دولة كلّ السوريين بكل انتماءاتهم الدينية وغير الدينية. وعليه؛ فمن غير المقبول صبغُها بلونٍ ديني أو طائفي محدّد، مع الحفاظ على حقّ السوريين في ممارسة (أو حتّى عدم ممارسة) شرائعهم الدينية من دون أيّ قيدٍ أو شرط، في الأماكن المخصّصة لذلك، ومن دون أيّ تأثيرٍ في حياة الآخرين، وعلى عمل المؤسّسات العامّة والخاصّة.
احتاجت سورية والسوريون إلى صدمةٍ تحذيرية، تستنهض قيمهم الإنسانية التشاركية غير الإقصائية، تلك القيم التي جسّدتها ثورتهم العظيمة، وهو ما يُؤملَ حدوثه في الفترة المُقبلة، وإلّا فإن الخطر الطائفي سيلتقي قريباً مع الخطر الخارجي، المتجسّد عملياً في الخطر الصهيوني الزاحف يومياً، بيد أنه لن ينحصر به فحسب، فالانقسام الطائفي والحرب الأهلية يشرّعان الأبواب أمام كلّ اللاعبين الإقليميين والدوليين الساعيين لقضم سورية وثرواتها، واستغلال شعبها الحي، والغني بقدراته وإمكاناته ومهاراته.
العربي الجديد
————————–
إنها مذبحةٌ طائفيّةٌ في سورية/ معن البياري
10 مارس 2025
لا تجوزان، اللعثمةُ والتأتأة، ومعهما اللفّ والدوران، في توصيفه مذبحةً طائفيةً ما جرى (وربما ما زال يجري؟)، في مدنٍ وبلداتٍ وقرى وضيعاتٍ، في الساحل السوري، وفي القول إن البلد سيذهبُ إلى انتحارٍ يشتهيه بشّار الأسد وإسرائيل وآخرون، إذا لم ينهض الكلّ السوريُّ في ورشةٍ كبرى، عمليةٍ وعاجلةٍ، تطوّق النيران، الظاهرة والمستترة، في الشوارع والأحراش والزقاق، وفي النفوس من قبلُ ومن بعد. وإذا رأى بعضٌ في هذا الكلام مبالغةً، وإذا قيل إنه يصلُح في شأن الذين أمعنوا هناك قتلاً وذبحاً وحرقاً في مئات السوريين المدنيين، العزّل، المولودين علويين، فالتعقيبُ إنه يصلُح أيضاً في شأن الذين لم يحتملوا خسارتَهم سلطةً ونفوذاً كانوا عليهما في عهد الأسد، فحملوا السلاح ضد الأمن ثم الجيش الجديدَين. وأول القول ومختتمُه هنا إن من طبائع الدول ألا ترحَم من يتمرّدون على سلطتها بالسلاح. والذي صار أن نحو خمسة آلاف مسلّح من هذا النوع (قال العدد محافظ اللاذقية لتلفزيون العربي)، ليست إمكاناتهم القتالية هيّنة، أرادوا انتقاماً، وإقلاقاً للسلطة الناشئة، وربما انقلاباً عسكرياً مسنوداً من الخارج (وارد لكنه غير مؤكّد). وأمكن لهم، في ساعاتٍ، قتل أزيد من مائةٍ من الأمن والجيش. وليس غير الحقد، والنزوع الطائفي المريض، وراء حرق هؤلاء (العلويين) جثث عديدين من قتلاهم (السنّة).
أما التقتيل الذي أعملتْه في ناسٍ في بيوتهم، سوريين علويين، بصفتهم هذه على ما لا يجوز أن يُنسى، عناصرُ في فصائل، نُعِتت بأنها غير منضبطة، فقول وزارة الدفاع والأمن العام إن فاعليه لا يتبعونهما يضاعف المسؤولية الكبرى على السلطة، ورئاسة أحمد الشرع، فتثمين جهود تطويق الفظاعات، وضبط المسروقات، لا يُلغي، أبداً، وجوب الإجابة السريعة عن أسباب السماح لفصائل أولئك بأن تبقى خارج المؤسّسة العسكرية والأمنية الناشئة، وعن وجودها في خطوط التماسّ الطائفي في منطقة الساحل، وعن الكيفيّات التي يسّرت لها اقترافَ جرائمها التي توالت تفاصيلُ مُفزعةٌ عنها، وعن أعداد الضحايا التي رفعتها مصادر إلى ألف، واحترسَت أخرى فجعلتهم نحو خمسمائة أو أقلّ، بينهم نساء وأطفال، وشبّان ناصروا الثورة ضد الأسد. ولا حاجة للتذكير بمرجعياتٍ إسلاميةٍ (اقرأ سنّيةٍ) متشدّدة، لدى مجاميع هذه العناصر الفالتة، ولا بأنها ناوأت جبهة تحرير الشام، في واحدٍ من أطوار احترابٍ مضت في شمال شرق البلاد. والخشية ألا تكون لدى سلطة الأمر الواقع دالّةً على هؤلاء، أو قدرةً على نزع سلاحهم، ولا على أخْذهم إلى محاكماتٍ عسكريةٍ عاجلةٍ، تعاقبهم بما يستحقّون، وقد ارتكبوا شناعات قتلٍ طائفيةٍ مشهودة، طاول بعضُها أسراً وعائلات.
قد يصحّ أن ثمّة مبالغات سيقت في مشهدٍ إعلامي مشوّش، وفي توصيف ما وقع إبادةً بحقّ السوريين العلويين في الساحل، وفي تداول أعدادٍ للضحايا غير مدقّقة، إلا أن هذا كله لا يُجيز التهوين من فداحة ما ارتُكب وأهواله، فليس الحديث هنا عن عصابات لصوصٍ ومجرمين استغلّوا وضعاً أمنياً غير مستقرّ، وإنما هو عن سورية ما بعد الأسد، سورية المشتهاة معافاةً من ضغائن نهشَت في البدن الاجتماعي السوري الملوّن، سليمةً من أمراضٍ توطّنت في شعبٍ لم يعثُر بعد على إجماعِه الواحد، وعلى وطنيّته التي يتماسك فيها، بفعل مظلومياتٍ أحدثتها الأسديةُ في البلاد، عقوداً، لا تنفكّ تتناسل.
العقلاء والحكماء من سوريي الساحل كثيرون، ومبادرات مشايخ سنّة وعلويين منهم ظاهرة، غير أن هذا التطبيب الموضعي، على ضرورتِه المؤكّدة، يحتاج سياجاً سياسياً وإرادةً من صنّاع القرار ومن يقبضون على السلطة الراهنة في البلاد، ليتكامل مع مجهودٍ كبير، لا أوهام في نجاحٍ له سريع، ولا في قدرته، في يومٍ وليلة، على إنقاذ البلاد من مجرىً انتحاري، يُنشِّط مسارَه نزوحٌ من الساحل بدأ يُشاهد، ويأسٌ يتغذّى من نقصان ثقةٍ قائمٍ تجاه السلطة وخياراتها وقلّة درايتها بالحكم والإدارة، وانفلات الكلام كيفما اتفق في قضايا يُساق من يقتربُ منها في غير بلدٍ إلى المحاكم والسجون، الوحدة الوطنية وبناء الجيش وفرز المواطنين مذهبياً.
لا وصفة لدى صاحب السطور أعلاه يُزجيها إلى أهل الحكم في سورية الجديدة، غير أن أيَّ وصفة يجري البحث فيها وعنها لا بدّ أن تبدأ ديباجتُها بتسمية الذي جرى في الساحل مذبحةً طائفيةً… مرذولةً طبعاً.
العربي الجديد
——————————
لبنان أمام خطر كبير: هل تنتقل أحداث سوريا إلى شماله؟/ طوني بولس
مخاوف من اندلاع اقتتال في مناطق لبنانية خصوصاً مع فرار مجموعات موالية للنظام إلى بلدات حدودية
الأحد 9 مارس 2025
أدت الاشتباكات العنيفة في الساحل السوري إلى موجة نزوح جديدة من الطائفة العلوية نحو القرى الشمالية اللبنانية، عبر المعابر غير الشرعية، وسط تزايد المخاوف الأمنية واكتشاف عمليات تهريب الأموال والأسلحة، مما قد يجعل بعض المناطق الحدودية اللبنانية ملاجئ لفلول النظام السوري السابق، ويستدرج البلاد إلى صراعات إقليمية.
بدأت الأحداث المتسارعة في الساحل السوري تلقي بظلالها على الداخل اللبناني، إذ شهدت القرى الحدودية في الشمال ولا سيما بلدات سهل عكار موجة نزوح جديدة، ضمت آلاف السوريين واللبنانيين المقيمين في سوريا، إثر تصاعد الاشتباكات في ريف اللاذقية تزامناً أيضاً مع معلومات كشفتها وسائل إعلام عن ضبط محاولة تهريب نحو 4 ملايين دولار بطريقة غير شرعية إلى لبنان، وقبلها سجل إحباط عدة عمليات لتهريب أسلحة، مما أثار مخاوف من إمكانية أن تقوم أطراف سورية ولبنانية بتحويل مناطق في الشمال اللبناني إلى “مربعات” لفلول النظام السوري السابق.
هذه الحوادث كشفت إلى العلن ما كان قائماً خلف الكواليس طوال الفترة السابقة، بتحول مناطق لبنانية حدودية إلى ملاذ خلفي لفلول النظام السوري السابق، بشراكة وثيقة مع عصابات التهريب المحميين من “حزب الله”، وفق الباحث في الشؤون الاستراتيجية العميد المتقاعد يعرب صخر الذي عدَّ أن ما يجري على الحدود يمثل إصرار سلطات دمشق الجديدة على “مطاردة ذيول النظام وفلول الحزب، الذين يتلطون باسم العشائر ويحاولون إعادة تنظيم خلاياهم وفتح ممرات تهريب السلاح والمخدرات انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، على حد تعبيره.
ويبدو أن لبنان بات على أكثر من صفيح صراع إقليمي يطوقه، إذ تتطاير شظاياه على جميع الأراضي اللبنانية من الجنوب حيث المواجهة مع إسرائيل لا تزال مفتوحة على مصراعيها، إلى الجبل حيث المجتمع الدرزي مترقب لمجريات الأحداث في السويداء جنوب سوريا، وصولاً إلى الشمال الذي بات على تماس مع أحداث الساحل السوري والبقاع، الذي شهد جولات من الاشتباكات على جانبي الحدود.
وبذلك يرى كثر أن لبنان تحول بالفعل إلى “ساحات إسناد” لصراعات الآخرين، يدفع فاتورتها الباهظة من أمنه واستقراره. وهذا الواقع الخطر بدأ يثير القلق ويمهد لفتح نقاش لبناني صريح حول سياسة البلاد الخارجية والدفاعية، ومعه تُطرح التساؤلات:
هل يبقى لبنان ساحة يتقاتل عليها الآخرون، أم يستطيع النأي بنفسه قدر الإمكان؟ وهل يتمسك بقاعدة “قوة لبنان في ضعفه” عبر الحياد، أم ينخرط ضمن توازنات القوة الإقليمية طلباً للحماية ولو كان ثمن ذلك ارتفاع منسوب الخطر الداخلي؟
نزوح متجدد
يشهد لبنان راهناً “موجات كبيرة جداً” من النزوح تجتاح الحدود الشمالية في ظل غياب تام للدولة عن المعابر غير الشرعية، إذ حذر العميد المتقاعد جورج نادر (أحد أبناء منطقة عكار الشمالية) من خطر إضافة مليون نازح سوري جديد إلى نحو مليوني سوري موجودين أصلاً في لبنان منذ أعوام الحرب السورية الأولى، مستنكراً تحويل لبنان إلى “بلد لجوء” كلما اهتز الاستقرار في سوريا.
وتساءل نادر بقلق “هل نستطيع استيعاب مليون سوري جديد ينضمون إلى مليوني سوري نزحوا منذ عام 2011، بحيث يفوق عددهم عدد اللبنانيين أنفسهم؟ مشدداً على أن تداعيات هكذا موجة نزوح ستكون كارثية اقتصادياً وديموغرافياً واجتماعياً، في ظل عجز البنية التحتية اللبنانية المتهالكة عن تحمل أعباء إضافية.
وفي المقابل، ينبه بعض المراقبين إلى البعد الإنساني للأزمة، إذ يجد لبنان نفسه مجدداً أمام واجب أخلاقي بإغاثة الفارين من العنف، وسط غياب أي دور فعال لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في إحصاء الداخلين الجدد أو مدِّهم بالمساعدات.
هذا التباين في المقاربات بين ضرورات الأمن الوطني والاعتبارات الإنسانية يضع صانعي القرار في موقف حرج، وبخاصة أن السلطات اللبنانية كانت اتخذت قراراً سياسياً قبل سقوط النظام السوري بعدم استقبال نازحين جدد، وهو قرار يتحداه واقع الحال اليوم.
أرقام النازحين خلال الأيام الماضية
بحسب مصادر المجلس الإسلامي العلوي في لبنان، فإن الأيام الأخيرة شهدت نزوح أكثر من 3000 شخص من الطائفة العلوية من الساحل السوري باتجاه القرى العلوية في سهل عكار وجبل محسن في طرابلس شمالاً. ويرجح أن يكون العدد الحقيقي للنازحين أكبر من الرقم المعلن، إذ تشير مصادر محلية إلى عبور نحو 10 آلاف شخص يومياً عبر المعابر غير الشرعية، كونها المنفذ الوحيد المتبقي أمام السوريين الفارين من النزاع، مما قد يرفع أعداد النازحين إلى مئات الآلاف خلال الأشهر المقبلة.
وعلى رغم استمرار تدفق اللاجئين فإن السلطات اللبنانية لم تحدد بعد مراكز إيواء رسمية لهم، ولم توفر لهم أية مساعدات إنسانية، إذ تقتصر المساعدات على جهود تطوعية من جمعيات أهلية ومبادرات فردية من شخصيات مستقلة، ومنظمات إغاثية دولية. وحذرت فعاليات طرابلسية من أن النزوح العلوي المستمر نحو المناطق ذات الغالبية السنية قد يؤدي إلى توترات في شمال لبنان، إذ إن تداعيات الأحداث السورية بدأت تحدث تغييرات ديموغرافية داخل بعض المناطق، ما قد يزيد من مستوى الاحتقان الداخلي.
استدراج القتال
في موازاة ذلك، يبرز هاجس استدراج الاقتتال السوري إلى الداخل اللبناني، وبخاصة وسط ما يحكى عن تورط أطراف لبنانية في دعم الفصائل المتصارعة داخل سوريا. وقبل أسابيع كانت وقعت اشتباكات مسلحة في مناطق البقاع الشمالي بين الجيش السوري ومجموعات لبنانية مسلحة تدعم فلول النظام السابق. وتشير التقارير إلى أن هذه الاشتباكات مرتبطة مباشرة بمحاولات “حزب الله” الدفاع عن مصالحه في المنطقة، في حين أصدر “حزب الله” بياناً رسمياً قبل ساعات ينفي فيه أي تورط مباشر له في أحداث الساحل السوري راهناً، وفي البيان جاء “تدأب بعض الجهات على الزج باسم الحزب فيما يجري من أحداث في سوريا واتهامه بأنه طرف في الصراع القائم هناك. وينفي الحزب بصورة واضحة وقاطعة هذه الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة، ويدعو وسائل الإعلام إلى توخي الدقة في نقل الأخبار وعدم الانجرار وراء حملات التضليل التي تخدم أهدافاً سياسية وأجندات خارجية مشبوهة”.
هل يتحول لبنان ساحة لتصفية الحسابات؟
أحد أبرز العوامل التي تعزز احتمالية استدراج القتال إلى لبنان أن الحدود بين البلدين كثيراً ما كانت مسرحاً لتصفية الحسابات. ومع تصاعد المواجهات الطائفية في سوريا، يخشى أن تتحول بعض المناطق اللبنانية، وبخاصة في الشمال والبقاع، إلى امتداد للحرب السورية.
وعند الحديث عن استدراج لبنان إلى الصراعات الإقليمية، لا يمكن تجاهل تجربة “حزب الله” في حرب “إسناد غزة” عبر عمليات محدودة سرعان ما تحولت بعدها إلى حرب شاملة بين الحزب وإسرائيل، مما ترك أضراراً كبيرة في لبنان تتجاوز قيمتها الـ10 مليارات دولار.
واليوم يخشى كثر أن يتكرر هذا السيناريو، ولكن هذه المرة من البوابة السورية. فمن خلال دعم “حزب الله” للعلويين في الساحل السوري ودعم بعض المجموعات السنية اللبنانية للنظام الجديد في دمشق، قد يجد لبنان نفسه مجدداً في قلب معركة إقليمية، إذ إن تورط لبنان في النزاع السوري قد يكون أخطر من تورطه في نزاع غزة، لأن الحدود اللبنانية السورية ليست كحدود لبنان مع إسرائيل، بل هي مساحات مفتوحة يمكن استخدامها كمنصات دائمة للمواجهات العسكرية.
وفي موازاة التصعيد العسكري، يبرز ملف دروز سوريا كعامل إضافي يهدد بتفجير الأوضاع في لبنان. فقد أعلنت مجموعات درزية سورية نيتها إقامة حكم ذاتي في السويداء وجبل الدروز، هذا التطور دفع الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى إعلان رفضه المطلق لهذه الفكرة، معتبراً أنها “فخ إسرائيلي” يهدف إلى تقسيم سوريا وضرب استقرار المنطقة.
الارتدادات إلى لبنان
وفي السياق، لفت الصحافي والباحث السياسي نضال حمادة المقرب من “حزب الله”، إلى أن ارتدادات الأحداث في سوريا قد تؤثر مباشرة على لبنان، وبخاصة في ظل التداخل الإقليمي والدولي في الصراع السوري، موضحاً أن التطورات الجارية قد تشكل تهديداً مباشراً على الأمن اللبناني، وبخاصة إذا استمر تدهور الوضع في سوريا. وأشار إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع، في حال ترسيخ سيطرته، قد يحاول التمدد نحو لبنان، إذ تمثل البيئة “السلفية” في بعض المناطق أرضية خصبة لذلك.
ويعد حمادة أن إسرائيل تعمل على استغلال البيئة “الشيعية” في لبنان فيما يتحدث الإعلام الإسرائيلي عن خطة طويلة الأمد لمعاقبة “حزب الله” عبر استنزافه أمنياً واقتصادياً، مشدداً على أن ما يجري في سوريا ليس مجرد تحولات داخلية بل هو جزء من إعادة ترتيب النفوذ الإقليمي. وأكد أن لبنان لن يكون بمنأى عن هذه التداعيات، محذراً من أن أي انفجار داخلي في سوريا قد يعيد خلط الأوراق في المنطقة بأكملها، بما في ذلك لبنان.
دور “حزب الله”
الصحافي علي حمادة يرى بدوره أن الأحداث الجارية في الساحل السوري، ولا سيما في محافظتي اللاذقية وطرطوس تأتي في سياق محاولة لإعادة خلط الأوراق، بعد التطورات الجيوسياسية الكبيرة التي شهدتها الساحة السورية وعلى رأسها سقوط نظام بشار الأسد، موصفاً ما يحدث بأنه أشبه بـ”انقلاب مضاد” أو “ثورة مضادة” تسعى إلى قلب المعادلة الجديدة التي استقرت منذ ديسمبر (كانون الأول) 2024، مؤكداً أن هذا التطور الجيوسياسي لم يكن ليحدث من دون أن تكون له ترددات وارتدادات كبيرة، سواء اليوم أو في المستقبل القريب.
ويشير حمادة إلى أن المعركة الدائرة حالياً في الساحل السوري ليست مجرد صراع بين العلويين أو مجموعات موالية ومعارضة، بل هي معركة نفوذ تقف خلفها إيران وبعض أركان النظام السابق، الذين يسعون إلى إعادة رسم التوازنات وقلب المعادلة السياسية والعسكرية الجديدة في المنطقة، موضحاً أن التضاريس الجبلية الصعبة في هذه المنطقة تمنح الفصائل المتحركة فيها قدرة على الاحتماء والقتال لفترات طويلة، مما يجعل الصراع أكثر تعقيداً وصعوبة بالنسبة للحكم الجديد في دمشق.
ويكشف حمادة عن معلومات مؤكدة حول تورط “حزب الله” في تأمين ملاذات آمنة لعناصر النظام السابق، إذ قام الحزب بتوفير مخابئ في المناطق الجبلية المحيطة بالساحل السوري، ووفر حماية لعمليات تهريب أسلحة وأفراد عبر الحدود اللبنانية، وبخاصة في منطقة البقاع الشمالي، على حد قوله.
وتحدث عن تنسيق أمني وعسكري انطلق من لبنان، برعاية “حزب الله”، لدعم المجموعات المسلحة التي تقود الانتفاضة المضادة في الساحل السوري، معتبراً أن الحزب ليس بالضرورة مشاركاً عسكرياً بصورة مباشرة، لكنه يسهم بالتأمين اللوجيستي والاستخباراتي لهذه العمليات.
وبحسب تقديرات حمادة فإن المعركة لم تحسم بعد، والحكم الجديد في دمشق لم يتمكن من السيطرة الكاملة على الوضع في الساحل السوري، إذ ما زالت الاشتباكات مستمرة، وسط مكامن ومعارك انتقامية نفذتها مجموعات موالية للنظام السابق، لافتاً إلى أن الرئيس أحمد الشرع لا يزال يتمتع بغطاء عربي ودولي، مما يجعل إعادة الأسد أو عودة النظام القديم أمراً مستحيلاً، كما أن عودة روسيا كلاعب رئيسي في سوريا باتت غير ممكنة بعد انهيار وجودها العسكري داخل المنطقة.
أربع دول
وفي سياق مرتبط، لفت الكاتب السياسي الدكتور وليد صافي إلى أن التطورات في سوريا ليست بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع، محذراً من أن أي تغيير في توازن القوى هناك ستكون له انعكاسات مباشرة على لبنان والمنطقة ككل، معتبراً أن لإيران دوراً أساساً بإشعال الفوضى في الساحل السوري، في محاولة لإعادة نفوذها.
وأكد أن طهران التي لم تتقبل تراجع نفوذها في سوريا، تعمل على خلق سيناريو فوضوي جديد انطلاقاً من الساحل السوري، وذلك كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى العودة إلى سوريا والتأثير في الداخل اللبناني.
وأضاف أن إيران، التي خرجت من سوريا “من الباب”، تحاول الآن العودة “من النافذة”، مستغلة الظروف الإقليمية الراهنة. وهذا التحرك، سيترك تداعيات مباشرة على الوضع اللبناني، إذ لا تزال طهران متمسكة بخيار “المقاومة” كوسيلة لبسط نفوذها في الشرق الأوسط.
وحول الدور الإقليمي في سوريا، أشار صافي إلى أن تركيا وإسرائيل تلعبان أدواراً محورية في رسم مستقبل البلاد. فإسرائيل، في رأيه تسعى لتقسيم سوريا إلى أربع دويلات:
1. دويلة جنوبية تحت الحماية الإسرائيلية.
2. كيان كردي في الشرق بدعم أميركي-إسرائيلي.
3. منطقة سنية في الشمال تحت النفوذ التركي.
4. دويلة علوية في الساحل تحظى بالدعم الروسي.
ولفت إلى أن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول “حماية الدروز” في جبل العرب ليست سوى غطاء لخطة تقسيم سوريا، مشيراً إلى أن التنسيق الروسي-الإسرائيلي في الساحل السوري يندرج في هذا السياق، مؤكداً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ما يجري في الجنوب السوري وما يحدث في الساحل، إذ تلعب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) دوراً مؤثراً في دعم بعض الفصائل داخل السويداء، مما يعكس تداخلاً معقداً بين الأطراف الفاعلة في النزاع.
——————————
هزيمة التمرد في الساحل السوري رسالة ردع/ عامر عبد المنعم
10/3/2025
تكشف تطورات المواجهة المسلحة في مدن الساحل السوري أن بعض الأقليات الطائفية تميل إلى الخيانة والتحالف مع القوى الخارجية طمعا في تحقيق المكاسب الضيقة، حتى لو كان ذلك بتخريب الأوطان، فبعض زعماء الطائفة العلوية التي تحكم منذ أكثر من نصف قرن وارتكبت المذابح ضد الأغلبية السورية يرفض الاستسلام للواقع الجديد، وردّ على التسامح والعفو بالغدر والتمرد.
عندما انهار جيش بشار الأسد والميليشيات الإيرانية التي كانت تحميه أمام كتائب الثورة السورية حرص أحمد الشرع والقادة الجدد على منع الانتقام والثأر، وأعطوا الأمان لكل الطوائف، خاصة لأنصار النظام السابق، وفتحت الحكومة الباب للتسوية ونزع الأسلحة للحفاظ على وحدة الدولة، ومنعت سفك الدماء وفرضت الحماية على المدن.
كان واضحا أن قادة الطوائف لم يرحبوا بالتغيير وفتح صفحة جديدة لبناء الدولة، وأظهروا الإصرار على التمرد معتمدين على الدعم الخارجي، فالميليشيات الكردية والإدارة الذاتية “قسد” التي أسسها الأمريكيون واصلت الجرائم ضد الأغلبية العربية السنية في شرق الفرات، ورفضت الاندماج مع دمشق، وطالبت مشيخة الدروز في السويداء بالفدرالية واحتمت بالإسرائيليين، ورفض وجهاء العلويون منذ اليوم الأول الاستسلام وتعاملوا بكبر وعنهجية وكأنهم في السلطة.
تسامح الشرع مع الطوائف
صبر أحمد الشرع على العصيان، وفضل حل الخلافات بالتفاوض وليس بالحسم العسكري، ولم يبال بالانتقادات من بعض قادة الفصائل الذين يريدون الثأر وملاحقة كل الشبيحة الذين ارتكبوا الجرائم في العهد السابق، وقدم مبادرات لطمأنة الطوائف، وكرر في خطبه أن الدولة الجديدة لكل السوريين، وقرر حل كل الفصائل العسكرية ودمجها في الجيش السوري، لكن يبدو أن التأثير الخارجي التخريبي في الطوائف كان هو الأقوى.
أعلن الإسرائيليون الذين يتوغلون في جنوب غرب سوريا حماية الدروز، وأعلن الأمريكيون والإسرائيليون حماية الأكراد، وظلت إيران تحرض العلويين في الساحل طمعا في العودة مرة أخرى، وما زال الروس في قاعدة حميميم وطرطوس يرحبون بالقلاقل ويتمنون -في الإعلام الروسي- عدم الاستقرار ليكون في يدهم ورقة يلعبون بها كي يبقوا في سوريا.
كانت الطوائف المسيحية هي الأكثر تعاونا مع الإدارة الجديدة، فلم تصدر منها شكاوى كالتي يفتعلها قادة الأقليات المتمردة، وعندما روج الإعلام المعادي فيديو لأحد القساوسة يردد مزاعم عن تعرض المسيحيين في الساحل لاعتداءات خرجت الكنائس ببيان جماعي نفت فيه هذه المزاعم وأعلنت احترامها للسلطة الجديدة.
فشل مخطط الفلول
لم يحقق منظمو التمرد في الساحل أهدافهم في هزيمة الحكم وإشعال الحرب الأهلية وتهيئة المنطقة للانفصال على أساس طائفي، فالقدرة العسكرية لوزارة الدفاع السورية التي استجابت بسرعة للتحدي وحشدت عشرات الآلاف في وقت قصير أفشلت الهجوم، وقد ثبت أن الفلول لم يعد لهم حاضنة شعبية واسعة وسط العلويين، كما أن أغلبية السكان في معظم مدن الساحل من العرب السنة الذين يساندون حكومة الشرع.
لقد ارتكب مسلحو فلول النظام البائد المذابح ضد قوات الأمن العام والشرطة في أكثر من 17 نقطة في وقت متزامن ودفنوا الجنود القتلى في مقابر جماعية كما كانوا يفعلون من قبل، وهاجموا المستشفيات وقتلوا المرضى على الهوية، وفتحوا النار على السيارات المدنية خاصة التي عليها أرقام إدلب، وأشارت تقارير إلى أنهم قتلوا علويين رفضوا الاستجابة لهم.
بسبب الغضب والرد على الفظائع التي ارتكبتها ميليشيات الفلول نسبت إلى بعض القوات الأمنية ممارسات سلبية أثناء القبض على المجرمين، لكن السلطات تبرأت من أي خروج على القانون ومخالفة التعليمات، وقرر أحمد الشرع تشكيل لجنة تحقيق لمحاسبة المدانين، لكن حملات التشوية على مواقع التواصل كانت عنيفة حيث تم استخدام صور ومشاهد من أماكن أخرى وفي أوقات سابقة للنظام السابق والزعم بأنها جرائم ضد العلويين!
التآمر الدولي
منذ هروب بشار حاولت الدول الغربية التدخل في العملية الانتقالية وفرض وصاية على الحكم الجديد، والضغط لتقسيم السلطة بين الطوائف بنظام المحاصّة، واستخدمت موضوع رفع العقوبات للابتزاز، لكن مساندة الأتراك والقطريين والسعوديين ساهمت في تخفيف حدة هذه الضغوط، والآن بعد هجمات الساحل تحاول الدول الغربية توظيف بعض الوقائع للضغط على دمشق بمزاعم حماية الأقليات.
أعداء سوريا ظنوا أن ما حدث في الساحل يضعف حكومة الشرع ويشيع حالة من عدم الاستقرار تكون ذريعة للدول الغربية للتدخل، لكن الذي حدث العكس؛ فالحكومة السورية وجدت الفرصة التي كانت تنتظرها لدخول مناطق لم تستطع دخولها منذ ثلاثة أشهر وحسم معركة متوقعة بما يردع ويخيف من يفكر في تكرار المحاولة.
كان المتطرفون العلويون يحرضون على الاحتجاجات واستعراض القوة لتكون لهم كلمة في المرحلة الانتقالية ولكنهم فشلوا، واستعدوا في السر لتكرار نموذج شرق الفرات، ويدعمهم الإيرانيون الذين لم يخفوا دعمهم لإسقاط الشرع، وهناك تصريحات معلنة للقادة الإيرانيين عن سعيهم لإسقاط الحكم السوري، فهم لم يستطيعوا نسيان هزيمتهم وخروجهم، لكن لم يعد ممكنا للإيرانيين التدخل عسكريا.
كانت فلول الأسد تراهن على الدعم العسكري الروسي، وطالبوا بالحماية الروسية، لكن لا يستطيع الروس إعلان هذه المساندة حتى لا يخسروا كل شيء، وكان يمكنهم التدخل إذا صمد التمرد عدة أيام لكن هذا لم يحدث بعد الهجوم العسكري الكاسح من قوات الحكومة السورية وفرض الأمن خلال ساعات وتحييد الخارجين على الدولة.
نجاح الحكم السوري في القضاء على التمرد وفرض هيبة الدولة لا يعني انتهاء المؤامرات، وإنما رسالة ردع إلى باقي الطوائف المتمردة؛ فأعداء سوريا الخارجيين سيواصلون البحث عن أي ثغرة لعرقلة نهوض سوريا، ولمنع حكومة أحمد الشرع من التقاط الأنفاس والانطلاق لبناء الدولة الجديدة التي ستكون إضافة هامة إلى قوة العالم الإسلامي.
المصدر : الجزيرة مباشر
———————–
سوريو المهجر ليسوا جبناء/ عدنان عبد الرزاق
10 مارس 2025
لاحت آمال عودة المهجرين السوريين إلى بلدهم منذ سقوط النظام وهروب بشار الأسد، لتستعيد سورية أهم رساميلها المهاجرة ويزيد التعويل على ما اكتسبه السوريون ببلدان تشتيتهم من علم وخبرة وجمع أموال، إنْ بتسيير عجلة الإنتاج والخدمات أو المساهمة بإعادة الإعمار المأمولة. بيد أن أحداثاً شتى حدثت، وبعضها على جدول توقعات الحدوث، أبطأت عودة السوريين المهاجرين وزادت تردد البعض بالعودة، إن لم نقل ألغوها، على الأقل حتى يتضح خيط الأمن والأمان الأبيض من خيط العنف والفقر والعقوبات المتوقعة الأسود.
ولعلّ ما حدث بالأيام الأخيرة في مدن الساحل السوري (طرطوس، اللاذقية وجبلة)، من دون الخوض بتفاصيله وتوزيع المسؤوليات حوله، زاد وبشكل بالغ تردد السوريين بالعودة طالما فتائل الانفجار ما زالت عرضة لأي شرارة تشعلها دول الجوار المتأذية من سورية الدولة لا المزرعة، ومستنقع العنف لا يزال مفتوحاً وعميقاً بواقع تفشي السلاح ورفض فصائل ومدن تسليمه للدولة والانضمام إلى مؤسساتها.
قصارى القول: لم يبلغ ما أعلنته مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين أخيراً عن عودة 300 ألف لاجئ سوري إلى ديارهم منذ سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الفائت، الحد الأدنى من أكثر التوقعات تشاؤماً، طالما أننا نحكي عن أكبر أزمة نزوح في العالم وهجرة أكثر من سبعة ملايين سوري، من المفترض أنهم يتوقون للعودة بمجرد سقوط النظام ونيل سورية والسوريين حريتهم.
وهنا لا نأتي على النازحين داخل الأراضي السورية (المخيمات)، والذين ينوفون عن مليون سوري، فهؤلاء، وأغلب الظن لا مأوى لهم ولا دخل بعدما هدمت عصابات الأسد بيوتهم وسرقت ممتلكاتهم. والأرجح أنهم لا يتوانون عن العودة، ولو إلى خيمة تشاد على أرضهم، كما فعل كثيرون ورأينا. ربما، أو لا شك أن ثمة عوامل كثيرة تدخل وتتدخل بقلة العائدين لسورية، منها سوء الخدمات وقلة فرص العمل ومحدودية الدخل بواقع غلاء الأسعار وارتفاع الإنفاق، أو ما يندرج ضمن الظروف العائلية، كارتباط أولاد المهاجرين بالمدارس أو انتظار تصفية الممتلكات أو حتى الأمل بالحصول على إقامات دائمة أو جنسيات بلدان اللجوء.
بيد أن كل تلك الأسباب مجتمعة لا تقارن البتة بعامل الأمان واستمرار الخوف على الحياة، فالسوريون جميعهم ينفخون على اللبن بعدما كوتهم نيران حليب الحروب وذاقوا جميع أنواع التنكيل خلال ثورتهم على نظام الأسد المخلوع. وهنا، لا يمكن نعت أي سوري متردد بالعودة لوطنه بالجبان أو المتلكئ بالمساهمة بإعمار سورية وتقديم ما بوسعه لوطن تعب ومريض لشدة ما عانى على مدى 14 سنة.
كما لا يصح وسم الرساميل، والتي لم تعد رغم ما يقال عن مئة مليار دولار استثمارات سوريين حول العالم، بالجبن أيضاً، إذ من حق صاحب المال أن تتوفر له شروط العودة، والتي بمقدمتها الأمن وسيادة القانون، فضلاً عن المناخ الجاذب من توفر مستلزمات الإنتاج والعمالة وسوق لتصريف الإنتاج.
نهاية القول: على تشعب وتعدد مستويات الأزمة السورية، حتى بعد الحرية وسقوط نظام الاستبداد، إلا أن قاسماً مشتركاً بين جميع تلك المستويات ويربط ما بينها بخيط سري، هو بمباشرة ودونما مواربة، القرار الدولي بإعادة الحياة لسورية والسوريين.. وهذا القرار، ليس لم يتخذ بعد، بل ثمة أعاقة لمن يسعى لبث ولو إكسير ضئيل ليبقى سوريو الداخل على قيد الحياة، بواقع فقر لا تزال نسبته تزيد عن 90%، والمهجرون على قيد الأمل بالعودة.
ولنسق مثالاً واضحاً، عدا استمرار العقوبات رغم زوال سببها ومسببها، وهو التلكؤ بأي مساعدة مباشرة وتراجع حتى عن الوعود التي قطعت من الأشقاء ودول الجوار، ربما بتلويح أو بوعيد من الدول الراعية لقرار عدم عودة سورية للحياة. إذ ورغم الكرم الحاتمي النظري الذي سمعناه خلال الأيام الأولى من سقوط النظام، لم ير السوريون شيئاً على الأرض سوى اللهم بعض الخبرات والمساعدات الفنية أو المالية جد المحدودة، والتي يمكن قراءتها تأسيساً لمصالح أكثر ما يفهم منها ضخ الدم بعروق سورية أو مساعدة السوريين.
كما وما نظنه الأخطر، بالتزامن مع الأحداث الدامية بمدن الساحل السوري، أن ملامح إعاقة الدولة السورية دخلت بأطوار التلويح بعقوبات وإنذار بتدخل وتهديد باحتلال، بدل أن نرى مساعي ومساعدات الدولة السورية لحصر السلاح بيد الجيش وقطع الطريق على فلول الأسد دعاة التقسيم… وهذا التلويح والوعيد بالتدخل وإعادة إشعال سورية يزيد طين تردد المهاجرين بلّة أخرى ويعيد الضبابية كمشهد مستقبلي حتمي على سورية والسوريين.
—————————-
ثلاث شخصيات كلفت بمهمة طي إرث الأسد الطائفي.. من هم أعضاء لجنة السلم الأهلي؟/ محمود الفتيح
2025.03.10
لم يكن اختيار الرئيس السوري أحمد الشرع لكل من الشيخ حسن صوفان، ابن اللاذقية والمسؤول عن ملف “أمن السلم المجتمعي” في منطقة الساحل السوري، والشيخ أنس عيروط، ابن مدينة بانياس التابعة لمحافظة طرطوس، في “اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي” أمراً مفاجئاً، إذ يتماشى مع دورهما البارز في طمأنة أبناء الساحل، وتعزيز المصالحة، واحتواء التوترات منذ سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الثاني 2024.
لكن المفاجأة جاءت مع الاسم الثالث الذي انضم إلى اللجنة، حيث أثار تعيين خالد الأحمد، المستشار السابق غير الرسمي لرئيس النظام المخلوع بشار الأسد، والمتهم بقضايا فساد، موجة من الجدل في الأوساط السورية، نظراً لتاريخه المثير. فمن هو الأحمد؟ وما صحة الأنباء المتداولة عنه؟ وما الأدوار التي لعبها خلال سنوات الثورة؟
كيف انطلقت شرارة التصعيد؟
بدأ التصعيد العسكري في الساحل السوري يوم 6 آذار الجاري، حين اندلعت اشتباكات عنيفة في ريف جبلة قرب اللاذقية، إثر هجوم منسق شنّه فلول النظام المخلوع على قوات الأمن، ما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى.
وسرعان ما امتدت المواجهات إلى ريف اللاذقية وطرطوس، وسط تقارير عن انتهاكات دموية ضد المدنيين. ما دفع الرئيس الشرع، يوم أمس الأحد، إلى تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في هذه الأحداث، أعقبها إعلان ثان عن تشكيل “اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي”، في خطوة تهدف إلى احتواء التوترات ومنع تجدد العنف في المنطقة.
وتتضارب أعداد القتلى بين القوات الأمنية وفلول النظام والضحايا المدنيين في أعمال العنف. وأعلنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، اليوم الإثنين، توثيق مقتل 779 شخصاً منذ 6 آذار في مناطق الساحل.
خالد الأحمد: من مستشار إلى منفي ثم دور خفي في “ردع العدوان”
خالد الأحمد، من مواليد حمص عام 1980، هو شخصية مثيرة للجدل بدأت مسيرته المهنية في سوريا بصعود سريع قبل أن يتحول إلى مستشار ومن ثم منفياً، ودور محوري في عملية ردع العدوان، وفق مصادر إعلامية.
ونشأ الأحمد في كنف والده القيادي السابق في “حزب البعث”، وتلقى رعاية خاصة من إخوته. على عكس توجهات والده الأيديولوجية، انجذب خالد إلى “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وتوجه لدراسة اللغة الإنكليزية.
وقبل الثورة السورية، كان الأحمد قد بنى بالفعل علاقات قوية داخل النظام، مستفيداً من علاقات والده وشبكاته في “الحزب السوري القومي”.
بعد اندلاع الثورة، برز اسم الأحمد كمستشار غير رسمي لبشار الأسد وأسهم في إطلاق مشروع المصالحة الوطنية.
ولعب دوراً دبلوماسياً سرياً، والتقى بمسؤولين من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، بمساعدة صديقه الصحفي نير روزن.
وفي عام 2018، وبعد عودة سيطرة النظام على مناطق واسعة في سوريا، أُبعد الأحمد بتهم من متنفذين في القصر الجمهوري عن فساد مالي وعلاقات دولية تضر بنظام الأسد وانتقل بعدها إلى لبنان ثم مُنع من العودة إلى سوريا.
دور الأحمد في معركة “درع العدوان”
بحسب مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، كان خالد الأحمد صديقاً قديماً للرئيس أحمد الشرع خلال الدراسة الثانوية في سوريا، ودخل الأحمد الذي ينتمي إلى الطائفة العلوية، بحسب المجلة، إلى إدلب في العام 2021 عن طريق وسطاء أتراك حيث ناقش مع الشرع إسقاط نظام الأسد ودوره فيها.
ولعب الأحمد دوراً مهما كوسيط ومفاوض خلال معركة إسقاط النظام السوري في أواخر 2024، وكان دوره الرئيسي يتمثل في التواصل مع كبار ضباط النظام المخلوع لتسهيل استسلامهم أو انسحابهم من دون قتال، مما سرّع انهيار النظام وسقوط دمشق من دون معركة دموية كبيرة.
وفي أثناء تقدم قوات “هيئة تحرير الشام” والفصائل المسلحة نحو حلب ودمشق، كان الأحمد يرسل رسائل إلى الضباط الكبار في قوات الأسد، يقنعهم بعدم المقاومة وتسليم مواقعهم.
وبحسب المجلة، نقل رسالة واضحة لقادة النظام: “لن تجري ملاحقتكم إذا انسحبتم”، مما أدى إلى تفكك خطوط دفاع النظام بسرعة مذهلة.
وعندما بدأت قوات “هيئة تحرير الشام” بالهجوم على حلب، لعب الأحمد دوراً رئيسياً في إقناع القادة العسكريين بعدم خوض معركة خاسرة.
وبفضل جهوده، سقطت المدينة بسرعة، وتمكن من التفاوض على إخراج 630 طالباً عسكرياً شاباً من الأكاديمية العسكرية، وإنقاذهم من القتال المحتوم، وبعد سقوط حلب، أبلغ الشرع قائلاً: “الطريق إلى دمشق مفتوح”، في إشارة إلى انهيار النظام بالكامل.
ومع انهيار دفاعات النظام، استمر الأحمد في التواصل مع قادة “الحرس الجمهوري”، القوة الأساسية التي تحمي بشار الأسد، وأقنعهم بعدم القتال، ما أدى إلى تفكك الدفاعات حول العاصمة دمشق وسقوطها دون مقاومة تذكر.
خلال المعركة، حافظ خالد الأحمد على اتصال مباشر ومستمر مع الرئيس الشرع، فقد كان يطلعه على التطورات الميدانية في صفوف النظام لحظة بلحظة، ويعمل على تأمين قنوات التواصل مع قادة النظام المنهار لضمان انسحابهم من دون مقاومة، مما أسهم في تفكك الدفاعات وسقوط دمشق بسرعة غير متوقعة.
وبعد انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد، زار الأحمد دمشق عدة مرات، حيث التقى بالرئيس الشرع، ووفقاً لما ذكرته مجلة الإيكونوميست، التي أجرت مقابلة مع الأحمد.
من هو حسن صوفان؟
حسن صوفان، والمكنى بـ”أبو البراء” والمعرف بالاسم المستعار “شادي المهدي”، هو شخصية سورية بارزة وُلد في مدينة اللاذقية عام 1979. درس الاقتصاد في جامعة تشرين، والتحق بعدها بجامعة الملك عبد العزيز في السعودية لتحصيل العلوم الشرعية. سجن في السعودية لمدة عام ونصف بتهم التواصل مع تنظيم القاعدة عام 2004، قبل أن يعود إلى سوريا.
في عام 2004، اعتُقل صوفان من قبل نظام الأسد خلال حملة استهدفت المعارضين السياسيين، وقضى حوالي 12 عاماً في سجن صيدنايا، حيث حُكم عليه بالسجن المؤبد. أُفرج عنه في كانون الأول 2016 بصفقة تبادل أسرى بين النظام وحركة أحرار الشام.
بعد خروجه من السجن، تولى صوفان قيادة حركة أحرار الشام في آب 2017، في محاولة لإعادة تنظيم صفوف الحركة بعد خسائرها أمام “هيئة تحرير الشام”، ومن ثم استقال من منصبه في أيار 2019 لأسباب خاصة، لكنه أكد استمراره في دعم الثورة السورية من دون الانتماء لأي فصيل محدد.
وحالياً، يشغل صوفان منصب مسؤول ملف “أمن السلم المجتمعي” المتعلق بالطوائف في الساحل السوري.
من هو أنس عيروط؟
أنس عيروط، عالم دين وناشط بارز في الثورة السورية، وُلد عام 1971 في بانياس بريف طرطوس. درس الشريعة في جامعة دمشق وتابع تعليمه العالي في بيروت، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفقه والقانون.
قبل الثورة، عمل إماماً وخطيباً لمسجد الرحمن في بانياس، الذي كان مركزاً للحراك الثوري عامي 2011 و2012، ما جعله هدفاً لملاحقات أمنية. تولى رئاسة مجلس قيادة الثورة في بانياس، وانضم إلى المجلس الوطني السوري، ثم أصبح قياديًا في جبهة تحرير سوريا الإسلامية، وعضواً في الائتلاف الوطني ومجلس العلماء السوريين.
في 2017، كان من مؤسسي مبادرة الأكاديميين التي أدت لاحقاً إلى تشكيل حكومة الإنقاذ في إدلب، حيث تولى رئاسة محكمة الاستئناف ثم أصبح عميد كلية الشريعة والحقوق بجامعة إدلب. في 2018، تعرض لمحاولة اغتيال بعبوة ناسفة من قبل “تنظيم الدولة” (داعش) في إدلب وأصيب بجروح.
حالياً، يشغل عيروط منصباً في “اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي”، تقديراً لدوره في تعزيز المصالحة واحتواء التوترات في الساحل السوري.
وتواجه اللجنة حالياً تحديات معقدة تتمثل في احتواء التوترات ومعالجة الانقسامات العميقة داخل المجتمع السوري، والتي تعود جذورها إلى إرثٍ ثقيلٍ امتد على مدار 53 عاماً من حكم نظام الأسد الأب والابن. فقد انتهج النظام سياسات طائفية ممنهجة، عمّقت الشرخ الاجتماعي ورسّخت مشاعر الكراهية، وتركت آثاراً عميقة تحتاج خطوات جادة وجهوداً حثيثة، وربما فترة طويلة من الزمن، كي تتمكن البلاد من التعافي تماماً.
—————————-
هذا ما قاله أحمد الشرع في أول حوار له منذ بداية أحداث الساحل السوري الدامية
دمشق ـ من سامية نخول ومايا الجبيلي وتيمور أزهري
تحديث 10 أذار 2025
قال الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع إن عمليات القتل الجماعي لأفراد من الطائفة العلوية التي ينتمي لها الرئيس المخلوع بشار الأسد تشكل تهديدا لجهوده للم شمل البلاد التي مزقتها الحرب، وتعهد بمعاقبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا “أقرب الناس” إليه.
وفي أول مقابلة يجريها مع وكالة أنباء عالمية بعد أربعة أيام من الاشتباكات العنيفة بين أفراد من الطائفة العلوية وقوات أمن تابعة للحكومة، حمل الشرع جماعات موالية للأسد يدعمها أجانب مسؤولية إشعال الأحداث الدامية لكنه أقر بأن أعمال قتل انتقامية وقعت في أعقاب ذلك.
وكان الشرع يتحدث لرويترز من القصر الرئاسي في دمشق حيث مقر إقامة الأسد حتى أطاحت به قوات يقودها الشرع في الثامن من ديسمبر كانون الأول مما أجبره على الفرار إلى موسكو.
وقال الشرع “سوريا نحن أكدنا أنها دولة قانون. القانون سيأخذ مجراه على الجميع”.
وأضاف “نحن بالأساس خرجنا في وجه هذا النظام وما وصلنا إلى دمشق إلا نصرة للناس المظلومين… لا نقبل أن يكون هنا قطرة دم تسفك بغير وجه حق أو أن يذهب هذا الدم سدى دون محاسبة أو عقاب. مهما كان حتى لو كان أقرب الناس إلينا وأبعد الناس إلينا. لا فرق في هذا الأمر. الاعتداء على حرمة الناس، الاعتداء على دمائهم أو أموالهم، هذا خط أحمر في سوريا”.
وفي مقابلة تناولت العديد من الملفات، قال الشرع أيضا إن حكومته لم تجر أي اتصالات مع الولايات المتحدة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه. وكرر مناشدة واشنطن رفع العقوبات التي فرضتها على دمشق في عهد الأسد.
وطرح أيضا احتمال استعادة العلاقات مع موسكو التي دعمت الأسد طوال الحرب وتحاول الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين مهمتين في سوريا.
ورفض الشرع انتقادات إسرائيل التي استولت على أراضٍ في جنوب سوريا منذ الإطاحة بالأسد. وقال إنه يسعى إلى حل الخلافات مع الأكراد، بما في ذلك من خلال الاجتماع مع قائد قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد وتدعمها واشنطن منذ فترة طويلة.
وحمل الشرع وحدة عسكرية سابقة موالية لشقيق الأسد وقوى أجنبية مسؤولية اندلاع العنف في الأيام الماضية، لكنه أقر بأن “أطرافا عديدة دخلت الساحل السوري وحدثت انتهاكات عديدة”.
وقال إن ذلك “أصبح فرصة للانتقام” من مظالم مكبوتة منذ سنوات، لكنه أضاف أن الوضع جرى احتواؤه إلى حد كبير منذ ذلك الحين.
وذكر الشرع أن 200 من أفراد قوات الأمن قتلوا في الاضطرابات، في حين رفض الإفصاح عن إجمالي عدد القتلى في انتظار التحقيق الذي ستجريه لجنة مستقلة أعلن عنها أمس الأحد قبل المقابلة.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو جماعة تراقب الحرب مقرها بريطانيا، إنه حتى مساء أمس الأحد قُتل ما يصل إلى 973 مدنيا علويا في هجمات انتقامية، بعد اشتباكات قُتل فيها أكثر من 250 مقاتلا علويا وما يزيد على 230 من أفراد قوات الأمن.
* “يضيق قلبي في هذا القصر”
كان صوت الشرع (42 عاما)، وهو ابن لرجل ينتمي للتيار القومي العربي، يتجاوز بالكاد حد الهمس في بعض الأحيان خلال المقابلة التي أجريت معه بعد منتصف ليل أمس.
وبدا أن حاشيته من الشبان الملتحين ما زالوا يتكيفون مع البروتوكول في هذا المقر الفخم للسلطة.
وقال الشرع “بصراحة، يضيق قلبي في هذا القصر. في كل زاوية منه، استغرب كيف خرج كل هذا الشر منه تجاه هذا المجتمع”.
والاضطرابات في الأيام القليلة الماضية، التي تعد أشد موجات العنف دموية منذ الإطاحة بالأسد، أكبر انتكاسة له في سعيه للحصول على الشرعية الدولية، لرفع العقوبات الأمريكية وغيرها من العقوبات الغربية بالكامل وتأكيد حكمه على بلد مزقته حرب استمر نحو 14 عاما.
ودخلت قوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام، التي كان يرأسها الشرع، دمشق متعهدة بإقامة نظام حكم يشمل كل مكونات المجتمع السوري من السنة والعلويين والدروز والمسيحيين والشيعة والأكراد والأرمن، في حين حاول تهدئة المخاوف الداخلية والخارجية بشأن خلفيته الإسلامية المتشددة.
وسرعان ما استقبل عددا كبيرا من الشخصيات الأجنبية الكبيرة، وقام، إلى جانب دائرته المقربة، بجولة في المنطقة لحشد الدعم.
لكن بعد ثلاثة أشهر، حلت المخاوف بشأن التحديات الهائلة المتزايدة في الداخل محل الفرحة بالإطاحة بالأسد إلى حد كبير.
فلا يزال الاقتصاد في حالة يرثى لها ولا تزال أجزاء كبيرة من البلاد بما في ذلك المناطق الشمالية الشرقية الغنية بالنفط خارجة عن سيطرة الحكومة، كما تبنت إسرائيل نبرة تهديد متزايدة مدعومة بضربات جوية وتوغلات وسيطرة على أراض.
وأقر الشرع بأن العنف الذي شهدته الأيام الماضية يهدد بعرقلة مساعيه للم شمل سوريا.
وقال الشرع “الحدث الذي حصل من يومين سيؤثر على هذه المسيرة… وسنعيد ترميم الأوضاع إن شاء الله بقدر ما نستطيع”.
ولتحقيق هذه الغاية شكل الشرع “لجنة مستقلة”، وهي أول هيئة يشكلها تضم علويين، للتحقيق في عمليات القتل في غضون ثلاثين يوما وتقديم الجناة للمساءلة.
وأضاف أنه تم تشكيل لجنة ثانية للمحافظة على السلم الأهلي والمصالحة بين الناس “لأن الدم يأتي بدم إضافي”.
ورفض الشرع الرد على سؤال حول ما إذا كان المقاتلون الأجانب أو الفصائل الإسلامية المتحالفة الأخرى أو أفراد قوات الأمن الحكومية تورطوا في عمليات القتل الجماعي، وقال إن الأمر متروك للتحقيق.
وتداول سوريون على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو مروعة لعمليات إعدام نفذها مقاتلون، وتحققت رويترز من بعضها بما في ذلك مقطع يظهر ما لا يقل عن 20 قتيلا في إحدى البلدات.
وقال الشرع إن لجنة تقصي الحقائق ستفحص اللقطات.
وهزت أعمال القتل اللاذقية وبانياس وجبلة وهي المدن الساحلية السورية الرئيسية، مما أجبر الآلاف من العلويين على الفرار إلى القرى الجبلية أو عبور الحدود إلى لبنان.
وقال الشرع إن موالين للأسد ينتمون إلى الفرقة الرابعة للجيش السوري التي يقودها ماهر شقيق بشار الأسد، وقوة أجنبية متحالفة هم من أشعلوا فتيل الاشتباكات يوم الخميس لإثارة الاضطرابات وخلق الفتنة الطائفية “لكي يصلوا إلى حالة من زعزعة الاستقرار والأمان في داخل سوريا”.
ولم يحدد القوة الأجنبية، لكنه أشار إلى الأطراف التي خسرت من الواقع الجديد في سوريا، في إشارة واضحة إلى إيران حليفة الأسد منذ فترة طويلة، التي لا تزال سفارتها في دمشق مغلقة.
ودعمت السعودية وقطر وتركيا الشرع بقوة مع اندلاع أعمال العنف في حين عبرت روسيا حليفة الأسد السابقة عن قلقها العميق وقالت إيران إنه لا ينبغي “قمع” أي فئة، وألقت واشنطن باللوم في الاضطرابات على “إرهابيين إسلاميين متطرفين، بما في ذلك جهاديين أجانب”.
* “سوريا بابها مفتوح للتواصل”
قال الشرع إن الأمن والازدهار الاقتصادي مرتبطان بشكل مباشر برفع العقوبات الأمريكية التي فرضت على نظام الأسد.
وأوضح بالقول “فلا نستطيع أن نقوم بضبط الأمن في البلد والعقوبات قائمة علينا”.
لكن لم يحدث أي اتصال مباشر مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب خلال ما يقرب من شهرين منذ بداية ولايته، وسط شكوك حول انتماء الشرع في السابق لتنظيم القاعدة.
وردا على سؤال حول السبب في ذلك قال “الملف السوري يعني ليس على قائمة أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، وأعتقد هذا السؤال يجب أن يوجه لهم. سوريا بابها مفتوح للتواصل”.
في الوقت نفسه، تجري سوريا محادثات مع موسكو بشأن وجودها العسكري في القاعدتين العسكريتين الاستراتيجيتين في البحر المتوسط، قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية.
وقال الشرع إن موسكو ودمشق اتفقتا على مراجعة كل الاتفاقات السابقة بين الدولتين، لكن لم يتوفر الوقت الكافي حتى الآن للخوض في التفاصيل.
وأضاف “لا نريد أن يكون هناك قطيعة بين سوريا وروسيا ولا نريد أن يكون التواجد الروسي في سوريا يسبب خطر أو تهديد لأي دولة في العالم ونريد أن نحافظ على هذه العلاقات الاستراتيجية العميقة”.
وأشار الشرع إلى أن العلاقات مع موسكو بالغة الأهمية، وقال” كنا نتحمل القصف ولا نستهدفهم بشكل مباشر حتى نفسح المجال ما بعد التحرير أن يكون هناك جلسات وحوار بيننا وبينهم”.
ورفض تأكيد ما إذا كان قد طلب من موسكو تسليم الأسد.
كانت روسيا حليفة لسوريا لعقود من الزمن وموردا رئيسيا للوقود والحبوب. وذكرت رويترز الأسبوع الماضي أن موسكو أرسلت ناقلة محملة بالديزل إلى سوريا على الرغم من العقوبات الأمريكية.
وساندت دول غربية وعربية وتركيا في البداية جماعات من المعارضة المسلحة في عهد الأسد بينما دعمت روسيا وإيران وجماعات مسلحة موالية لطهران الأسد في الحرب الأهلية. وتحولت سوريا بذلك لمسرح لصراعات بالوكالة. وأسفرت الحرب عن مقتل مئات الآلاف وتشريد نحو نصف السكان.
ومنذ الإطاحة بالأسد، اشتبكت جماعات تدعمها تركيا مع قوات كردية تسيطر على أغلب شمال شرق سوريا الغني بالنفط.
ولم تبسط دمشق بعد سيطرتها وسلطتها على المنطقة في ظل محادثات تجرى مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة والذي قال إن أعمال العنف التي شهدتها البلاد مؤخرا تبرر مخاوفهم من فكرة اندماجهم مع القوات الحكومية.
وقال الشرع إنه يريد حلا عبر التفاوض وإنه سيلتقي بعبدي.
كما أن سيطرة الحكومة ضعيفة على جنوب سوريا حيث دخلت إسرائيل إلى الجنوب، وأعلنت عن منطقة عازلة من السلاح، وهددت باستهداف القوات السورية إذا تواجدت هناك.
ووجه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس انتقادات حادة للشرع ووصفه بأنه “جهادي إرهابي من مدرسة القاعدة مصمم على ارتكاب أعمال مروعة بحق مدنيين”.
ورفض الشرع التهديدات الإسرائيلية العدائية المتزايدة ووصف تعليقات كاتس بأنها “كلام فارغ”.
وقال الشرع “هم آخر من يتحدث”، في إشارة إلى قيام إسرائيل بقتل عشرات الآلاف في قطاع غزة ولبنان على مدى الثمانية عشر شهرا الماضية.
(رويترز)
——————————
هل يصمد «السلم الأهلي» في سوريا؟
رأي القدس
تحديث 10 أذار 2025
ما تزال تداعيات التمرّد العسكريّ الخطير الذي انطلق الخميس الماضي في مناطق الساحل السوري مستمرة.
ما اتضح حول هذه العملية، حتى الآن، رغم الغموض التي يكتنفها، ارتباطها بتنسيق بين ضباط «الفرقة الرابعة» التي كان يرأسها ماهر الأسد، الذين قاموا خلال الشهرين الماضيين، بوضع خطط وتوزيع أموال وإنشاء شبكة من العناصر السابقة في المخابرات الجوية والأمن العسكري والضباط قامت بكمائن في مناطق متعددة وسيطرت على مواقع وقواعد عسكرية وقطعت طرق الساحل، ثم بدأت بالتراجع بعد استعادة الأمن العام لمدينتي اللاذقية وجبلة.
رغم سيطرة السلطات السورية على المناطق الرئيسية للتمرد استمرت بعض الاشتباكات وعمليات التمشيط في أرياف حمص ومصياف وطرطوس والقرداحة (التي أعلن عن اكتشاف «مقبرة جماعية» لعناصر من «الأمن العام» فيها) كما لا تزال الأنباء تتوارد عن حصول أعمال انتقام متفرقة، وتجاوزات، وانتهاكات، إضافة إلى انقطاع الكهرباء والماء والخبز عن بعض المدن كاللاذقية.
وثق تقرير لـ«الشبكة السورية لحقوق الإنسان» أسماء 642 قتيلا خلال الأحداث الجارية، وبلغ عدد عناصر الأمن العام والدفاع والمدنيين الذين قتلتهم «الجماعات المسلحة غير الحكومية» موالية لنظام بشار الأسد السابق، حسب هذا التقرير، 315 فردا بينهم 167 عسكريا و148 مدنيا، كما وثقت الشبكة مقتل 327 شخصا على الأقل من «المسلّحين والمدنيين» من الطائفة العلوية، فيما تحدّثت مصادر أخرى، مثل «المرصد السوري لحقوق الإنسان» عن مقتل أكثر من 800 من المكوّن العلوي خلال الأعمال الانتقامية.
كان التدخّل الإسرائيلي في الأحداث السورية الأخيرة جليا، سواء عبر التصريحات التي كان آخرها مطالبة تل أبيب للاتحاد الأوروبي بالكف عن «منح الشرعية» للسلطات الجديدة في سوريا، أو في الإعلانات المتكررة عن «حماية الأقليات» وخصوصا الدروز في جنوب البلاد، وفي التوغلات وعمليات القصف المستمرة. يضاف إلى ذلك وجود حملات منظمة وكثيفة في وسائل التواصل الاجتماعي تنشر معلومات مضللة وتدعو لتقسيم سوريا.
أظهرت إيران، في المقابل، المتأثرة بفقدانها موقعا استراتيجيا كبيرا في سوريا، أشكالا من الدعم للتمرد عبر الإعلان عن تشكيل «جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا» وجماعة «أولي البأس» كما هللت بعض وسائلها الإعلامية لـ«انتصارات المنتفضين» الموالين للأسد، واصفة قوات الأمن العام بـ«قوات الحكومة السورية الموالية لتركيا» وهو ما كان موضوعا للتعليق من وزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي ندد بعمليات «إحداث الفوضى» في سوريا.
يشير الخطّ الزمني لتطوّر الأحداث في سوريا إلى أن التمرد العسكري بدأ يتشكّل مع تجمّع عدد كبير من ضباط الجيش والأمن في المنطقة الساحلية، وتنسيقهم مع ماهر الأسد وضباطه الكبار الذين بقي بعضهم في العراق وانتقل البعض الآخر إلى المنطقة التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني في سوريا (وهو ما يعني تلقيه دعما إقليميا) وأن هؤلاء اعتقدوا أن إشعال الساحل يمكن أن يؤدي لهجوم منسّق من مناطق الشمال الشرقي الكردية، ومناطق الجنوب، وأن هذا سيحظى بدعم دولي روسيّ وأمريكي وإسرائيلي.
كان متوقعا أن يجد هذا التمرّد أرضية في المناطق العلوية التي فقد الكثيرون من أفرادها وظائفهم ورواتبهم السابقة في الجيش والأمن وقطاعات الدولة الأخرى، ورغم أن هذا سهّل التحرّكات والكمائن والعمليات العسكرية، لكنّه تعرّض لعدد من الانتكاسات، والرفض، في أكثر من مكان، وكان هذا، على ما يظهر، أحد أسباب التصفيات التي تعرّض لها علويون معروفون معارضون للنظام السوري السابق.
تعرّضت الإجراءات التي قامت بها الحكومة السورية الجديدة، سواء ما تعلق بـ«الحوار الوطني» أو إعلان الدستور، إلى نقد لتهميشها العلويين، وبعض الأقليات الأخرى، كالدروز والأكراد، وكان ذلك من ضمن أسباب التوتّر السياسي والاجتماعي الراهن في سوريا.
تحدّث الرئيس السوري أحمد الشرع أمس عن ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، كما أعلنت السلطات عن تشكيل لجنتين مستقلتين للتحقيق في الأحداث الأخيرة في الساحل، لكن هذه التصريحات والإجراءات، على أهميتها، قد لا تكون كافية لمعالجة التصدّع الكبير الذي أصاب السلم الأهلي في سوريا ما لم تحصل تطوّرات سياسية أخرى كبيرة، تقوم بالتفاوض مع الكرد والدروز والعلويين، وتساهم في ردم الفجوات المتزايدة، والشرخ الكبير الذي أصاب النسيج السوري.
القدس العربي
——————————
أحمد الشرع… من رجل الجماعة إلى رجل الدولة/ إحسان الفقيه
تحديث 10 أذار 2025
لو أن أحدا خرج بتصريح قبل عملية ردع العدوان – التي أطلقتها المعارضة السورية في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني ـ قال فيه إن الجولاني قائد هيئة تحرير الشام سوف يصبح رئيسا لسوريا، فلا شك أنه كان سيُتهم بالحمق السياسي والشطط في قراءة الواقع.
وهذا الاتهام حينذاك سيكون منطقيا، فكيف سيتخطى الجولاني، عقبة الإسناد الروسي الإيراني لنظام بشار، وإن فعل فكيف سيتخطى بماضيه مع تنظيم «القاعدة» عقبة المكون السوري متعدد العرقيات والأطياف؟ وكيف سيتجاوز المخاوف الإقليمية والدولية تجاه وصول الإسلاميين للحكم؟ وإن نجح في تذليل كل هذه العقبات فكيف سيحكم دولة بحجم سوريا بعقلية الجهادي؟
ها هو أحمد الشرع قد طمس كثيرا من معالم الجولاني، وأصبح رئيسا لسوريا، يستقبل قادة وزعماء ووفود الدول في قصر الشعب، ويقوم بجولات لتلك الدول، تتضمن لقاءات عالية المستوى، نزع عنه لباس الحرب وارتدى الحلل الأنيقة، وأخرج خطابه من أيديولوجيا الجماعات إلى الخطاب التوافقي العام، فكيف حدث هذا التحول، وكيف استطاع الشرع تغيير المعادلة التقليدية للوصول إلى الحكم؟
الذي يتتبع مسار الشرع إلى اليوم، يدرك أن الرجل كان يعرف ما يريد، وقرأ الواقع جيدا، وسار بخطوات مدروسة توازن بين الواقع والمأمول، وكان نظره يتجه إلى شكل سوريا ما بعد الأسد، لا العمل على إسقاطه فحسب. أول خطوات النجاح، كانت خروجه من عباءة «القاعدة» ذات الأحلام عابرة الحدود، والتركيز على الجغرافية السورية، والتحرك في قالب القوة الوطنية الثورية التواقة إلى تحرير سوريا من طاغيتها، الذي قتل واعتقل وشرد الملايين. ثم كانت خطوة توحيد الفصائل المقاومة تحت راية واحدة، لئلا يتكرر سيناريو الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، والذي شهد الاقتتال الداخلي بين الفصائل بعد تحرير أفغانستان من الروس. وبهذا صار للحق قوة تحميه وتفرضه وتجابه به المعوقات الداخلية والخارجية.
استثمر الشرع الأحداث جيدا لشن الهجوم الكاسح في عملية ردع العدوان، فإيران التي كانت قد دخلت بقوتها الضاربة من الحرس الثوري الحرب للدفاع عن نظام بشار، بدت في ظل قيادتها الجديدة، أنها تخلت عن أذرعها وانكفأت على أزماتها الداخلية ومشكلاتها مع الغرب حول النووي، وشرعت في إجلاء قادتها ومستشاريها من الأراضي السورية بعد أن تأكد لديها أنه لا فائدة من دعم النظام المتهالك، في الوقت الذي تهاوت فيه قوة حزب الله خلال الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو القوة التي كان لها ثقلها في القتال ضد المعارضة السورية لصالح نظام بشار. أما روسيا فكانت منشغلة بالبوابة الشرقية لأوروبا وحرب أوكرانيا، وبدا أنها تخلت عن الأسد بسبب التفاهمات مع تركيا، حتى صرح المسؤولون الروس بأنهم ليس لديهم خطة لإنقاذ بشار، بينما يفر جنوده تاركين مواقعهم أمام زحف المعارضة.
استفاد الشرع من هذه المعطيات للقيام بعملية التحرير التي أظهرت أن قوات المعارضة ليست كما السابق، لا من ناحية التسليح، ولا من ناحية التكتيكات ولا من ناحية التنظيم. التحالف بين المعارضة وتركيا كان منطقيا جدا، فتركيا دولة كبيرة قوية لها ثقلها في المنطقة، وارتباطها بأهداف المعارضة من الإطاحة بنظام بشار وبناء سوريا موحدة، هو صميم ما يقتضيه الحفاظ على الأمن القومي التركي، من منع إقامة دولة كردية على حدودها ترتبط بحزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا. الشرع استثمر جيدا حاجة تركيا إلى سوريا، دون تقسيم، لذلك يرتكز عليها في بناء الدولة السورية. مِن أظهر الإجراءات التي تبين عمل الشرع أثناء الحرب على تأمين تسيير الأعمال بعد إسقاط النظام، هو تشكيل حكومة الإنقاذ في إدلب والأراضي التي سيطرت عليها المعارضة، وذلك في عام 2017، هذه الحكومة هي التي أتى بها الشرع بعد إسقاط نظام الأسد لتكون حكومة مؤقتة للبلاد، وهو ما أدى إلى تقليل حجم الفراغ السياسي والأمني بشكل كبير.
ظهرت الحنكة السياسية للشرع بعد إسقاط نظام الأسد، فبصفته رئيسا لإدارة العمليات، بث رسائل طمأنة للجميع للداخل والخارج، بأن القيادة الجديدة لن تعمل على تصدير الثورة، وهدفها تصفير الخلافات، وإعادة سوريا للحاضنة العربية، وبناء سوريا جديدة تسع كل الأطياف دون إقصاء أي من مكونات الشعب السوري، وأن الهم سوف ينصرف للبناء دون الدخول في نزاعات، حتى مع الكيان الإسرائيلي. لم يقم الشرع في هذه المرحلة بالتمويه حول إمكانية توليه رئاسة سوريا، ولم ير أنه بحاجة للتعمية على ذلك، استنادا إلى الشرعية الثورية، فهو قائد القوات التي حررت سوريا من نظام الأسد.
بالعادة، يسعى من هو في مكان الشرع لإبراز الحرص على التعددية والاستيعاب بإنشاء حكومة تشمل كل الأطياف قائمة على التعددية السياسية، تفاديا لاتهامه بإعادة إنتاج حكم الأسد الديكتاتوري في هيئة أخرى، لكن الرجل لم يلتقم الطُعم، رغم الضغوط، فهو يدرك أن الأولوية للاستقرار، ولن يكون هناك استقرار في ظل وجود نزعات انفصالية، فلا بد من بناء مؤسسات الدولة أولا، لذلك قدّم العناصر الثقات الموالين له لضمان تسيير الأعمال، وصرح بوضوح أنه لا يمكن إجراء انتخابات إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات، لأن سوريا في حالة من الفوضى. قام بحل هيئة تحرير الشام، والتأكيد أنه لن يكون هناك وجود عسكري على الأراضي السورية سوى الجيش الوطني السوري. ارتكز خطاب الشرع على التأكيد على بناء سوريا موحدة لا وجود فيها للفدراليات، والتأكيد أن سوريا لجميع السوريين.
خرج الشرع من خطاب رجل الجماعة إلى رجل الدولة، فهو وإن لم يتخل عن جذوره الإسلامية، قد نأى عن التعصب والجمود الفقهي والدعوي والإصلاحي، ويبدو أن الرجل متضلع في فقه السياسة الشرعية وفقه الأولويات والفقه المقاصدي، ويعلم جيدا أن أحكام الشريعة التي يسعى لتطبيقها في الواقع السوري لا تتأتى عن طريق الجبر، وأن المجتمع يأخذ وقته في التفاعل، ثم يؤوب في النهاية إلى هويته الثقافية الأم.
ولا يلفظ المصطلحات المعاصرة في شؤون الحكم جملة، فعندما سئل عن الديمقراطية – ومن المعلوم أن كثيرا من الإسلاميين يلفظون هذا المصطلح جملة وتفصيلا ـ قال: «لو كانت الديمقراطية تعني أن يقرر الناس من سيحكمهم ومن يمثلهم في البرلمان، فعندها، نعم، سوريا تسير بهذا الاتجاه».
قام الشرع بجولات في المدن السورية للقاء ممثلي الطوائف المسيحية والعلوية والدرزية، تأكيدا على أن سوريا للسوريين جميعا، وأن مهمة النظام هي حماية ورعاية الجميع. ظهرت حنكته السياسية في عدم التصدي للتظاهرات والفاعليات المناهضة للنظام الجديد، ولا لدعوات الانفصال التي ترعاها فلول النظام البائد وقوى إقليمية أخرى، واتهمه البعض بالخور والضعف، لكن ما إن تعلق الأمر بالأمن العام، وتحولت هذه الدعوات إلى استخدام للعنف، كشر الرجل عن أنيابه، وأراهم قوة سوريا الجديدة، وأعني هنا العمليات الإرهابية التي قامت بها قوات تابعة لفلول النظام، والتي تصدت لها القوات السورية بكل حزم. إذن الرجل أثبت أنه يراعي الحريات ما لم تتحول إلى إضرار بالأمن السوري، وأظهر الحلم لدى المعارضين ما لم يضروا بالبلاد، لذلك لم أندهش لهذا الالتفاف الشعبي الجماهيري الكبير حول القيادة في هذا الظرف، لكنه مع ذلك وانطلاقا من التعامل كرجل دولة، عمل بجد على ضبط الجماهير وترك مهمة التصدي للفلول إلى الجهات الرسمية المختصة، حرصا على رعاية وحماية كل الأطياف.
كل يوم يمر، يثبت هذا الرجل أنه بالفعل قد تحول من رجل الجماعة إلى رجل الدولة، بما يزيد من التفاؤل حول عبور سوريا إلى مستقبل أفضل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
——————————-
الطائفة العلوية: فارق المجتمع والطبقة/ صبحي حديدي
تحديث 10 أذار 2025
إلى مقام آخر أوسع مساحة، وإلى أجل قريب، تدع هذه السطور مناقشة محاولة الانقلاب الأخيرة التي شهدتها مناطق في الساحل السوري، اللاذقية وجبلة وبانياس وطرطوس وأريافها؛ حيث فرائضُ الحدّ الأدنى من الانحياز إلى سوريا المستقبل الجديدة، وتكريمُ مئات الضحايا من المدنيين السوريين أوّلاً، تقتضي تجريم الهمجيات على جوانب إراقة الدماء كافة: 1) فلول النظام، والقَتَلة من شبيحة غياث دلّا ومقداد فتيحة ومحمد وأيمن جابر وياسر رمضان، ومَن سار خلفهم كمذعور جاهل أو كحطبة إرادية نحو محرقة تتعطش نيرانها إلى مزيد من الجثث؛ و2) فلول بعض الفصائل الجهادية، حيث قتلة يشتعل في دمائهم عماءٌ خليطٌ من الثأر العشوائي وشهوات الذبح والنهب؛ و3) جرح الهزيمة الهمجي الذي لم يبرأ بعد من نرجسية التطلع إلى تعويضٍ أياً كانت أثمانه الدامية، لدى آيات الله في إيران، وفلول «حزب الله» عموماً وأيتام حسن نصر الله خصوصاً؛ و4) أخيراً، وليس البتة آخراً، تلك «الغمزة» الخبيثة من استخبارات الكرملين، حيث خسائر موسكو في سوريا الجديدة فادحة لتوّها، وتنذر بما هو أفدح في مستقبل غير بعيد.
تتوقف هذه السطور إذن عند جانب آخر تستدعيه حال الساحل السوري الراهنة، وعشرات المؤلفات التي تناولت الطائفة العلوية في سوريا، ضمن مقاربات رصينة في حدود دنيا أو حتى عالية التميّز، وأكاديمية من حيث مناهج البحث، ولا تخلو من استكشاف ميداني وبحث مركّب يضمّ تاريخ علاقة الطائفة مع نظام «الحركة التصحيحية»، الأب حافظ والابن الوريث بشار عموماً، وذلك التاريخ كما تسارعت فصوله جذرياً ودراماتيكياً بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011، خصوصاً. بين هذه الأعمال، باللغة الإنكليزية، يُشار إلى أطروحة جامعية تقدّم بها تورشتين شيونز ورين إلى جامعة أوسلو، بعنوان «خوف ومقاومة: تشكيل هوية علوية في سوريا»؛ وكتاب رايندرا أبيانكار «سوريا: مأساة دولة محورية»؛ وبيتر شامبروك «الإمبريالية الفرنسية في سوريا: 1927 ــ 1936»؛ وأورا زيكلي: «سوريا مقسّمة: أنماط العنف في حرب أهلية مركّبة»…
الكتاب الذي تعرض له هذه السطور صدر بالإنكليزية سنة 2015 ضمن منشورات جامعة أكسفورد، تحت عنوان «علويو سوريا: الحرب، العقيدة، والسياسة في المشرق»، بتحرير مايكل كير وكريغ لاركن؛ وأحد أبرز امتيازاته أنه يفسح فصوله الأربعة لـ12 مقاربة وقّعها باحثون وأخصاء في ميادين مختلفة تخصّ الموضوعة المركزية في الكتاب، كما يحددها عنوان الفرعي. القسم الأوّل يتناول العلويين من زاوية التكتم والمنجاة، وفيه فصول عن تكوّن الجماعة، وحال العلويين خلال الفترة العثمانية، والتوزّع إلى جماعة وطائفة وأمّة في ضوء العلوم الاجتماعية، وخطابات التكوين خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، ثمّ في مراحل الاستقلال الأولى.
الجزء الثاني يناقش علاقة العلويين مع الدولة السورية، ويغطي النقلات الديمغرافية تحت سلطة البعث (وهذا قد يكون أضعف فصول الكتاب، ولا عجب أنّ كاتبه هو الفرنسي فابريس بالانش!)، وصلة العلويين مع حزب البعث، وما يسميه الكتاب «العقدة العلوية» تجاه الإخوان المسلمين. الجزء الثالث يبحث في الجماعات العلوية بين الهويات والسلطة، ويتناول التنوّع والتضامن داخل الطائفة، والولاء والزبائنية في ظلّ اقتصاد السوق كما أداره الأسد الابن، مع نقلة إلى علويي طرابلس اللبنانية تتيح نطاقاً إضافياً لاستعراض الهوية والعنف والجيو ــ سياسة المدينية. الفصل الرابع الختامي يتقصى العلويين بين النزاع والاختصام، فيبحث في ظاهرة الشبيحة (وهو بين أفضل المساهمات)، ومواقع العلويين ضمن المعارضة، وردود فعل النظام السوري في وجه الانتفاضة.
وفي مقدّمة تستعير عنوانها من شعار ميليشيات النظام الشهير «الله، سوريا، بشار وبس»، يساجل مايكل كير بأنّ منهج النظام في اجتذاب أبناء الطائفة العلوية وزجّها في صراعاته كان أقرب إلى منهاج مدرسي لـ»تفعيل الحدود»، حسب التعبير الدارج في علم الاجتماع؛ أي «تضخيم الوعي بالفوارق المُدْرَكة بين أعضاء مجموعة الداخل، مقابل مجموعة الخارج». وتلك إحالة إلى العنف السياسي، مباشرة أو مضمرة، خاصة أنّ «محدِّدات» الهوية التي تجعل العلويين على حدة (فعلياً بالملموس، أو تعسفاً بالافتراض) إزاء السنّة أوّلاً، ثمّ الفرق الإسلامية الأخرى غير النصيرية تالياً، لم تكن تُحتسَب عند النظام كعوامل جاذبة تدفعه إلى تلك الدرجات الخبيثة من توريط أبناء الطائفة لخدمة الحفاظ الشرس على بقاء السلطة.
لهذه السطور تحفظات على بعض الخلاصات التي تنتهي إليها فصول الكتاب، أبرزها النزوع (الاستشراقي، المألوف والشائع والمَرَضي) إلى تجريد الطائفة من محتويات شتى صلبة، طبقية واجتماعية قبل أن تكون سياسية وعقائدية؛ إلى جانب الانزلاق، هنا وهناك، نحو مَسْخ الانتفاضة الشعبية السورية إلى محض صراع بين السنّة والعلويين. ولعلّ الأوان قد حان، في هذا الجزء من العمود، لتبيان موقف صريح اتخذته هذه السطور على الدوام تجاه طوائف سوريا: ملايين السوريين الذين خدموا في الدولة تحت سلطة النظام، كانت طوائفهم مجتمعات وطبقات وفئات ومصالح وتناقضات وتحالفات، نهض معظمها على حقوق العمل ولقمة العيش والوجود الإنساني، وقام أقلّها القليل على الفساد والولاء والتجييش الطائفي والمناطقي.
وهذا فارق مركزي أكبر بين قاتلٍ تاجر كبتاغون مثل غياث دلّا، وقتيلةٍ ممرّضة في مشفى جبلة.
القدس العربي
————————————
أولوية السلم الأهلي في سورية/ محمد أمين
10 مارس 2025
عاشت سورية خلال الأيام القليلة الماضية، أحداثاً دموية، عقب الاشتباكات بين عناصر الأمن السورية والمجموعات المساندة لها، وبين وفلول النظام السابق، وما تبعها من جرائم ارتكبت بحق مئات المدنيين على أساس طائفي، شملت الإعدامات الميدانية، إلى جانب تسجيل انتهاكات بحق أسرى وثّقها مرتكبوها في إطار التباهي بجرائمهم. وعزّزت هذه الأحداث، وما رافقها من سقوط مئات الضحايا بين مدنيين وعناصر أمنية ومن فلول النظام السابق، والتي تعد الاختبار الأقوى منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قلق السوريين على السلم الأهلي في سورية وراهن ومستقبل بلادهم التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية تحول حتى اللحظة دون ترسيخ استقرار أمني ومجتمعي. ويخشى السوريون من عودة دورة العنف على أسس طائفية هذه المرة، تنسف السلم الأهلي والاستقرار الأمني الذي ما يزال هشّاً حتى اللحظة، بسبب رفض فلول النظام السابق تسليم سلاحهم وإجراء تسويات مع الإدارة الجديدة.
ولا تزال وزارة الداخلية السورية، التي يتبع لها جهاز الأمن العام، تبذل جهوداً لضبط الأمن والاستقرار في مدن وبلدات محافظتي اللاذقية وطرطوس، بعد حدوث انتهاكات وعمليات تصفية واسعة النطاق قامت بها مجموعات منفلتة ممن جاءت لمؤازرة وزارة الدفاع أثناء عملية التصدي للتمرد العسكري الذي بدأ الخميس الماضي في المحافظتين الساحليتين.
وواصلت وزارة الداخلية أمس الأحد، إرسال تعزيزات الى مدن وبلدات الساحل السوري، من أجل ضبط الأمن وإعادة الاستقرار الذي تحاول جهات عدة العبث به، خصوصاً في المناطق المختلطة، لا سيما ان الفوضى بيئة خصبة لكل المشروعات التي تهدد وحدة سورية المجتمعية والجغرافية.
التطييف وبناء الوطنية السورية
ورغم محاولة وزارة الدفاع نسب الانتهاكات من عمليات تصفية لمدنيين وسرقات بيوت ومحال تجارية، لعناصر منفلتة، إلا أن هذه الاتهامات لا تعفي الدولة السورية من مسؤولية ما حصل ما لم تتم محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات لأي جهة انتموا، سواء لمجموعات مسلحة قاتلت إلى جانب وزارة الدفاع أو من عناصر فلول النظام المخلوع الذين تتجه إليهم أيضاً أصابع الاتهام بالتورط بعمليات تصفية لمدنيين من الطائفة العلوية لتحميل الإدارة السورية مسؤولية ذلك وجرّ البلاد إلى حرب أهلية.
ومنذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر من العام الفائت، سجلت العديد من الأحداث التي عكست إمكانية تهديد السلم الأهلي، وسرعان ما كان يتم تطويقها، بما في ذلك عبر الحوار المجتمعي كالذي حدث في بلدة جرمانا بالقرب من دمشق أخيراً، ولكن ما جرى في الساحل السوري يومي الخميس والجمعة الماضيين كان الأخطر حتى الآن.
وخلال كلمة ألقاها بعد صلاة فجر أمس في مسجد الأكرم بحي المزة في دمشق، أكد الرئيس السوري أحمد الشرع أن التحديات التي تواجه سورية حالياً تأتي ضمن المتوقع، مشدداً على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي.
كما ظهرت العديد من الدعوات التي تحض على حماية السلم الأهلي في سورية باعتباره مسؤولية وطنية مشتركة تقع على عاتق جميع مكونات الشعب الذي ما زال يتابع بقلق ما يجري في الساحل السوري من تطورات تهدد هذا السلم.
لجنة سورية لتقصي الحقائق
ودعا الباحث السياسي رضوان زيادة، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى “تشكيل لجنة لتقصي الحقائق لمعرفة حقيقة ما جرى في الساحل من انتهاكات”، معتبراً أن “هذه خطوة أولى وواسعة للحفاظ على السلم الأهلي في سورية”. وتابع: “نحن أمام مسارين مختلفين: الأول هو حقّ الدولة في بسط سيطرتها على كامل التراب السوري ومنع بوادر انقلاب عسكري في الساحل، والثاني هناك عمليات قتل جرت خارج القضاء والقانون يجب التعامل معها عبر تشكيل اللجنة”. وأشار إلى أنه “لا يمكن القبول بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سورية الجديدة، ولكن في الوقت ذاته، يجب ألا نتسرع في إطلاق الاتهامات، لذا على الحكومة المبادرة في تشكيل لجنة سورية مستقلة ترفع تقريرها للرئيس لقطع الطريق أمام أي تدخل دولي”.
وعصر أمس، أعلنت الرئاسة السورية عن قرارها “بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل”، لافتة إلى أن “من مهام اللجنة الكشف عن الأسباب والظروف التي أدّت إلى وقوع هذه الأحداث، والتحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون”، كما من مهامها “التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات ورجال الأمن والجيش وتحديد المسؤولين عنها”، طالبة من “جميع الجهات الحكومية التعاون مع اللجنة لإنجاز مهامها”.
وتتكون لجنة التحقيق وتقصي الحقائق من خمسة قضاة ومحام وعميد. ووفق بيان الرئاسة، أعضاء اللجنة هم القاضي جمعة الدبيس العنزي، والقاضي خالد عدوان الحلو، والقاضي علي النعسان، والقاضي علاء الدين يوسف، والقاضي هنادي أبو عرب، والعميد عوض أحمد العلي، والمحامي ياسر الفرحان.
من جهته، رأى مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن حماية السلم الأهلي في سورية “تتطلب اعترافاً من الإدارة بما حدث من تجاوزات أثناء التصدي لفلول النظام المخلوع في الساحل”، مضيفاً أنه “يجب إعلان الحداد على القتلى من عناصر الأمن العام، وعلى الضحايا من مدنيين غير مسلحين، ويجب حصول اعتراف (بالقتل) وتحقيق وتعويض من الدولة”. ولفت إلى أنه “عندما يخطئ أي جهاز تابع للدولة، عليها محاسبته وتعويض الضحايا، وإحالة مرتكبي الانتهاكات إلى القضاء وعزلهم من وظائفهم في حال ثبوت ارتكاب تجاوزات”. وبرأيه، فإن “هذا كلّه يؤسس للسلم الأهلي”. كما دعا عبد الغني الإدارة السورية إلى إطلاق “حوار مجتمعي في المناطق التي حدثت فيها انتهاكات”، مضيفاً أن “التشاركية السياسية تؤسس لسلم أهلي مستدام”.
مسارات لحماية السلم الأهلي في سورية
وفي السياق ذاته، رأى الباحث في مجال الهوية والحوكمة، زيدون الزعبي، وهو ناشط بمجال السلم الأهلي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن حماية السلم في سورية “تتطلب إطلاق مسار عدالة انتقالية من دون انتظار”، داعياً إلى “الضرب بيد من حديد كل من يحمل السلاح في وجه الدولة وخارجها”، مضيفاً أن “على الإدارة الجديدة إطلاق مسار حوار وطني كبير من أجل حماية السلم الأهلي”.
أما الباحث السياسي مؤيد غزلان، رأى في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لا يوجد صدام أهلي في سورية”، متحدثاً عن “سبل عدة لحماية السلم”. وقال: “كان من أهداف التمرد في الساحل السوري استحداث حرب أهلية، ولكن الحاضنة الشعبية العلوية لم تساند هؤلاء الفلول وتبرأت منهم”. ورأى أن “هناك إجراءات وقائية لا بد من القيام بها لمحاصرة أي محاولات لزعزعة السلم الأهلي، من خلال الحوار المجتمعي المستمر وحوار بين السلطة والمجتمع، ينعكس على المسار السياسي من خلال إشراك كل المكونات في الحكومة والمجلس التشريعي المقبلين”. وتحدث غزلان أيضاً عن “ضرورة استحداث عقد اجتماعي جديد بين مكونات الشعب السوري والسلطة، عنوانه الوحدة الوطنية، وقوامه الخطاب الوطني والهوية الجمعية، وعماده الوئام الوطني”. وتابع: “يجب استحداث منابر للاستماع للأهالي على مستوى المدن والبلدات في البلاد، لبقاء حوار مستدام في سورية، واستحداث دواوين للمظالم في كل مؤسسات الدولة، وتعزيز مبدأ المواطنة الكاملة بما فيها من حقوق وواجبات. هذا كلّه يحمي السلم والاستقرار في البلاد”.
وحذّر الباحث السياسي من أن نظام الأسد “عزّز الحالة الطائفية في البلاد من خلال إنشاء كانتونات من لون واحد”، مشدداً على “وجوب أن تنحصر الحالة الطائفية ضمن الحالة الوطنية وهذا الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت”. وبرأيه، فإنه “لا يمكن صهر جميع الشعب خلال أشهر قليلة في خطاب وطني جامع، والدولة السورية الجديدة ما تزال فتية وعمرها ثلاثة أشهر فقط”، مبيناً أن “العدالة المجتمعية هي جزء من السلم الأهلي، والسلم الأهلي يؤسس على العدالة الانتقالية”. وشدّد في هذا الصدد على “ضرورة محاكمة كل متهم بالإجرام بحق الشعب السوري مالياً وجسدياً، كي لا تحدث ممارسات انتقامية من المواطنين تهدد السلم الأهلي. يجب على الدولة المساواة بين المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن معتقدهم، وهذا الأمر من ركائز السلم الأهلي الأساسية”، وفق رأيه.
وارتفعت أصوات السوريين عقب أحداث الساحل السوري في المنتديات تدعو الإدارة الجديدة إلى فتح مسار سياسي جاد وحوار مجتمعي للوقوف على أبرز المخاوف والهواجس، لا سيما لدى الأقليات العرقية والمذهبية والدينية، وتقديم تطمينات دستورية لتبديد هذه الهواجس. وفي هذا الصدد، قال سعيد ن، وهو أحد العاملين في مجال الإعلام ويتحدر من محافظة السويداء جنوب سورية، في حديث مع “العربي الجديد”، إنه “لا خشية لدى السوريين على مستقبل بلادهم، ولكن لدينا خشية من تعرض السلم الأهلي في سورية لأكثر من اختبار دامٍ خلال الفترة المقبلة”، مشدّداً على أن “البلاد لم تعد تحتمل دورة عنف أخرى”. وتابع: “سورية اليوم تحتاج إلى إطلاق حوار مع النخب والفعاليات، والإسراع في تشكيل حكومة من كفاءات مشهود لها بالنزاهة والوطنية لقطع الطريق أمام العابثين في البلاد”. وأعرب عن اعتقاده بأن أمام الإدارة الجديدة “فرصة ذهبية يجب ألا تضيع من أجل بناء دولة مواطنة حقيقية لكل أبناء سورية”، معتبراً أن “ما يطفو على السطح الإعلامي لا يعكس حقيقة ما يجري في البلاد. كل السوريين مع وحدة بلادهم وتشكيل جيش وطني ومؤسسات أمنية قادرة على حماية السلم الأهلي والاستقرار”.
العربي الجديد
—————————–
دموع «الميادين» على الساحل السوري: حتى لا يضحك «الكبتاغون» مجددا/ بسام البدارين
تحديث 10 أذار 2025
ذرفت قناة «الميادين» فجأة دموعها على أهالي الساحل السوري واسترسلت في تغطية دور مسلحين من تركستان والشيشان في إرعاب وإرهاب الناس الذين «لا يستطيعون مغادرة بيوتهم».
الحقيقة مرة وإن تاهت في تفاصيل التغطية التلفزيونية. لا أحد يخبرنا اليوم عن «12» مليون سوري تهجروا من بلادهم وصادف أنهم من مكون طائفي واحد فقط، كان يشكل أغلبية الشعب.
نقف مع «الميادين» في أسفها على «الذين لا يستطيعون مغادرة منازلهم» إذا عبرت عن أسفها معنا بالمقابل على «ملايين السوريين، الذين حرقت ودمرت منازلهم وغادروها إلى المنافي أو قتلوا فيها».
الزملاء في قناة «سكاي نيوز»، وهم يفردون كل ساعات البث لأحداث الساحل الأخيرة لم يجيبوا بأثر رجعي على السؤال القديم: «من أدخل هؤلاء الأجانب إلى سوريا أو تسبب بدخولهم؟ من وقف يسترق السمع لأهات شعب كامل وهو يتألم؟
لا ذكر عبر «الميادين»، ولا حتى عبر فضائيات المحور التي تتابع الحدث السوري لتحقيق استقصائي على طريقة «بي بي سي» أيام المهنية والموضوعية يتحدث عن دور «البراميل المتفجرة» والطائرات الروسية والمدفعية الإيرانية في قصف الحجر قبل الشجر في مدن وبلدات دمرت على رؤوس أهلها قبل التشرد في الفيافي على حدود تركيا والأردن ولبنان.
التباين أساس الثورة
لا يمكن تبرير عملية قتل المدنيين، سواء أكان المجرم ينتمي للنظام السابق أو اللاحق، وما نفهمه أن الثورة التي تحكم الآن عليها واجب «الحرص على إظهار التباين» وتحويل حماية الأبرياء من الطوائف كافة إلى هدف نبيل له قيمة.
نقترح على الأخوة من حكام دمشق اليوم العمل الدؤوب لإقناع الكون بأن من ثاروا على ظلم النظام المخلوع البائد وتعسفه لا يقلدونه ويحرصون على تأصيل ومأسسة الفارق معه، تماما كما تفعل كتائب القسام مع أسرى العدو.
نحسب أن تلك مهمة مقدسة لا تقل أهمية عن الأمن والاستقرار ووحدة التراب السوري.
دون تلك المهمة النبيلة سيضحك ماهر الأسد في مخبأه وسيبتسم من يقيمون في موسكو أو يشربون الأنخاب في كردستان، وهم مهووسون في البحث عن أي وسيلة لتصدير المزيد من الكبتاغون.
نضم صوتنا للعقلاء الداعين إلى القتال من أجل تثبيت صورة أخرى مختلفة عن تلك التي بصم عليها النظام السابق، وهو يرتكب جرائمه بحق الأغلبية.
ولعلنا سئمنا من بيانات التلفزيون السوري، التي تتحدث على لسان محافظ اللاذقية محمد عثمان عن تفكيك حصار الفلول على المستشفيات والمراكز الأمنية، كما سئمنا من الدعوات التي تقترح «حماية دولية للمدنيين».
المتباكون اليوم على بعض الشاشات في بغداد وبيروت وطهران، واجبهم إقناعنا بقدر من العدالة والاتزان والموضوعية، وذكر الحقائق والسرديات كما حصلت، لأن ذلك فقط كفيل بأن لا نرى مستقبلا أي مسلح من أصقاع الأرض يحمل رشاشه ويقتحم أي زقاق في حمص أو القرداحة.
الأقليات في سوريا، بعدما صمتت لعقود على تصرفات شياطين النظام السابق ضد مكون اجتماعي دون غيره واجبها يقتضي بأن تختبر معنا ما يقوله رموز النظام الجديد عن حقوق الإنسان والعدالة ومنع الاستهداف بالتباين المقابل مع «الفلول» ومشاريعهم المستجدة، خصوصا بعدما أثبتت حتى فضائية «سي أن أن» الأمريكية في برنامج مطول أن سجون النظام السابق لا مثيل لها في الكون ونحن نضيف: إلا سجون اليمين الإسرائيلي.
الأسد… أو نحرق البلد
معيب حقا أن يقتل سوري شقيقه، لأي سبب الآن، بعدما أنعم الله على جميع السوريين بالتخلص من «طاغية» وزبانيته.
نريد أن نرى الشام متألقة مدهشة فيها مكان حقيقي لكل أبنائها، بعيدا عن أجندات المحاور والدول والأقاليم.
لا يمكن لميكروفون قناة عراقية تحمل اسم «التقوى» الصراخ بالتحدث عن جرائم ارتكبها «مرتزقة متطرفون» في بانياس وطرطوس واللاذقية، دون التحدث عن مرتزقة غيرهم يحملون رتبا عسكرية قتلوا رجال أمن على الحواجز بتوقيع تلك العبارة المريضة المختلة التي شاهدناها بالعين المجردة عبر قناة «الجزيرة» على جدران منازل دمشقية وتقول «الأسد.. أو نحرق البلد».
لتسقط في الغد السوري كل الأسماء والألقاب، سواء أكانت تمثل النظام أو الثورة لصالح اسم واحد فقط هو «سوريا»، التي لا تستحق من أي مواطن فيها مجرد التفكر بحرقها من أجل أي شخص أو حزب أو تنظيم أو عصابة.
قليل من الإنصاف الفضائي التلفزيوني مطلوب وبإلحاح حتى نساعد الشعب الذي خاض معاناة مريرة لعقود ودفع الكثير.
تسليط الكاميرات على مسلح شيشاني يتجول هنا أو هناك وتحميله مسؤولية كل ما دمره أبناء البلد الأوغاد، ومن مختلف الشرائح والمكونات، سلوك لا علاقة له بالمهنية والموضوعية ولن يؤدي طبعا ودوما إلى إعادة ذلك الشيشاني إلى بلاده.
الخلاصة: من أحرقوا البلد لن يعمروها، بدليل ما أثبتته «الجزيرة»، وهي تتحدث عن الفلول الذين هاجموا المستشفيات. من يهاجم مستشفى مختل مثل ذلك الذي تحدث عنه دونالد ترامب أو مثل ترامب ذاته.
مدير مكتب «القدس العربي» في عمان
القدس العربي
—————————
حوار الدم/ سميرة المسالمة
الإثنين 2025/03/10
لم يمض وقت طويل على انتهاء أعمال ما سمي الحوار الوطني الذي دعت له السلطة السورية على عجلة غير مبررة، وهو ما حصره ضمن معارف وحدود لجنته، وغابت عنه كثير من الشخصيات الوطنية الفاعلة في مجتمعاتها، لأسباب لا تزال مجهولة حتى بعد صدور نتائجه غير النافذة، لتسارع فلول النظام وداعمين لهم، لتبنّي طريقة حوار من نوع آخر مع السلطة الجديدة، “حوار الدم” الذي يهدف لاستنزاف ما تبقى من قدرة سوريا على النهوض من جديد، ويهدد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وكأنهم ينفذون الشعار الذي رفعوه بوجه الشعب السوري منذ بداية ثورة 2011 “الأسد أو نحرق البلد” مضرمين النار بكل من حولهم من بشر وحجر، بما في ذلك حاضنتهم الشعبية في الساحل السوري، مستدرجين غضب الشارع السوري لإشعال نار الفتنة بين الأهالي، قبل أن تعلن عصيانها على الدولة السورية، وتغرق سوريا بفوضى حروب العصابات وجرائمها.
التصدي المحق من قبل الأمن العام لمحاولات فلول النظام تقويض السلم الأهلي، وانتزاع مناطق من سيطرة حكومة الرئيس أحمد الشرع، وما رافق السلطة من مساندة شعبية كبيرة لها لم تأت من فراغ، بل هي حاصل جمع 14 عاماً من تنكيل النظام السوري بمعارضيه، وتضييق الخناق على كل السوريين في سبل عيشهم، وسرقة مواردهم. ما جعل الإنجاز الذي حققته عملية ردع العدوان وتحرير سوريا من نظام الأسد فرحة كبيرة لا يريد أحد التفريط بها، حتى على حساب دمهم وفتحهم معارك جديدة ضد مناصري الأسد وأزلامه.
هذه الفزعة العشوائية أسهمت في تسريع الحسم لمصلحة الأمن العام في بعض المواقع المحتدمة، لكنها في ذات الوقت، أدخلت عملية التصدي لفلول النظام والخارجين على القانون في متاهة الفوضى، وأفسحت المجال لعمليات تصفية عشوائية لتتم خارج إطار القانون في بعض المناطق، وبطرق تخالف القوانين الإنسانية، وجرائم قتل لمدنيين أو لمعتقلين عزل، وفقاً للفيديوهات التي تم نشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكأن من فعل ذلك، بدل أن يساند يريد التحريض، سواء عن قصد أو من غير قصد، على موقع وجهود الدولة السورية، التي استطاعت خلال الأشهر الثلاثة أن تطمئن بخطابها الدول العربية وكثير من العالم الغربي، ما أدى إلى محاولات جادة لرفع العقوبات المفروضة على سوريا من الولايات المتحدة الأميركية، ورفع استثنائي لمدة عام من الاتحاد الأوروبي.
كان يمكن للحوار الوطني الذي جرى في 25 شباط/ فبراير الماضي أن يكون أكثر فاعلية، لو هيأت له لجنة تحضيرية على معرفة حقيقية بشرائح الشعب السوري وتضحياتهم، وكيفية توسيع قاعدته الشعبية، ليمثل حقيقة الثورة السورية التي كانت ملكاً لكل السوريين، بما فيهم معارضين علويين ودروز ومن كل القوميات والمذاهب الدينية من دون استثناء، وتعرف من خلاله (أي المؤتمر) بعض حاملي السلاح الذين أرادوا أن يساندوا الأمن العام في معركته، أن في الساحل السوري أيضاً معارضين للنظام الأسدي، تعرضوا للاعتقال والتعذيب والتهجير، وهم يستحقون الحماية التي هي من واجب الدولة. وقد أكد على ذلك الرئيس أحمد الشرع في خطابه مساء يوم الجمعة 7/آذار مارس محدداً واجبات الدولة في حماية السلم الأهلي وحصر السلاح بيد الدولة.
ما حدث من خروقات وانتهاكات وجرائم في تنفيذ المهمات الأمنية، سواء من جهات تابعة للأمن العام، أو ممن ادعوا أنهم يساندونها لتحقيق النصر على المجرمين من أزلام النظام الأسد، لا يمكن اعتباره عن غير قصد، لأنها جرائم مصورة غايتها تعزيز مفهوم الإرهاب عن السلطة الحاكمة. وإذا أرادت السلطة البدء بعمليات محاسبة يجب النظر تحت أقدامها، لأن من ارتكب هذه الفظائع بحق مدنيين في مدن وقرى الساحل السوري بادعاء أنه يحارب فلول النظام، وصورها ونشرها، غايته إما الانتقام بمرجعية طائفية ووحشية، أو أنه يستهدف تقويض مصداقية السلطة، ووقف المساندة الدولية لها بإعداد ملف جنائي حديث الولادة الجرمية.
يحسب للرئيس الشرع مسارعته لوضع النقاط على الحروف، والتأكيد من جديد على أولوية السلم الأهلي، وحصر السلاح بيد الدولة، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت وادانتها، وهذا يعني بالضرورة المحاسبة لكل من تغاضى عن السلاح المنفلت، والذي شاهده العالم بيد الجهات التي أطلقت العنان لغرائزها المتوحشة في الانتقام من المدنيين، سواء كانوا من الخارجين على القانون، أو من فلول النظام العابثين بأمن حواضنهم الشعبية، أم من المدّعين الموالاة للسلطة السورية، فالعدل أساس الملك، والسوريون على اختلاف مرجعياتهم بانتظار تحقيق العدالة لإنهاء هذا الحوار الدامي بينهم. مع التأكيد أن عزل الفلول وحرمانهم من الموارد البشرية لن يكون متاحاً من دون شمل الجميع بالعملية السياسية، لتأكيد حقيقة أن الدولة السورية لهم جميعاً، ما يستوجب أن يدافعوا عنها كما تدافع عنهم.
المدن
——————————————
نحو تجنّب “عرقنة” سوريا/ إياد الجعفري
الأحد 2025/03/09
قد لا يعجب الكثيرين هذا الإسقاط الذي سنجريه على المشهد السوري اليوم. لكن أوجه الشبه في الخلفية والمدخلات الراهنة ستقودنا إلى نتائج مشابهة لتلك التي عاشها العراق خلال عقدين بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
أما في الخلفية، فالنواة الضيقة لحكم صدام حسين كان يقوم على “أقلية سُنيّة” مطعّمة بأيديولوجية قومية- بعثية، تحكم أكثرية “شيعية”، و”أقلية” أخرى “كردية”. ومن الصعب الاتفاق على نسب التوزّع العِرقي والطائفي في العراق، لكن التقديرات الأكثر موضوعية تشير إلى نحو 60% من العرب الشيعة، ونحو 20% من العرب السنة، ونحو 15% من الأكراد، و5% من مكونات عرقية ودينية أخرى، هم قوام الديمغرافيا العراقية.
ومع انهيار نظام صدام حسين بغزو أميركي عام 2003، تصدّرت المشهد قوى شيعية- إسلامية، مدعومة إيرانياً بصورة أساسية. وهي التي هندست “حواراً” مع القوى الممثلة للمكوّن الكردي، مع تهميش كبير للعرب السُنة. وانتهى ذلك إلى تشكيل منظومة حكم أقصت المكوّن السني بصورة مباشرة. ومن اشترك من ممثلي هذا المكوّن في اللعبة السياسية بعد العام 2005، كان في حالة أقرب للتبعية للقوى الشيعية الكبرى التي حكمت البلاد فعلياً، باستثناء إقليم كردستان العراق.
تلك الخلفية -حكم أقلوي مطعّم بنكهة آيدلوجية قومية- والمدخلات -حوار “وطني” منقوص التمثيل وإقصاء لمكوّن رئيسي- كانت مخرجاته دولة يختلف العراقيون في توصيفها بين “الفاشلة” و”الهشة”، كانت أبرز معالمها: اقتتال أهلي- مذهبي، تكرّر بصورة دامية في موجتين كبيرتين بين عامي 2006 – 2008، وبعد 2014، سيطرة للفصائل الميليشيوية وممثليها السياسيين على الحياة السياسية، والفساد المستشري الناجم عن ذلك. موجات تطرّف لا تهدأ إلا لتبدأ مجدداً، بنية تحتية متهالكة، وقطاع طاقة ضعيف، واقتصاد عاجز عن أن يوفّر للعراقيين حياة متناسبة مع الإيرادات الضخمة من تصدير النفط التي تتراوح ما بين 8 إلى 11 مليار دولار شهرياً.
في تحليل نشره مركز “مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط”، قبل نحو عقدٍ من الزمن، بعنوان: “الأزمة الطائفية في العراق: إرث من الإقصاء”، يشير الكاتب حارث حسين إلى ضرورة معالجة مشاعر الاغتراب والنفور لدى السنّة حيال نظام الحكم، بوصفه أمراً بالغ الأهمية، لمعالجة معضلات العراق. ويضيف أنه لكي يتم بناء الشرعية والاستقرار، تحتاج الدولة التي يهيمن عليها الشيعة إلى إطلاق خطة جادّة للمصالحة.
ومن النقاط الملفتة التي تناولها في إشكالية استقرار العراق، افتقاره إلى سردية وطنية حقيقية قادرة على تسوية الانقسامات الطائفية. ويقول الكاتب: “لدى شرائح مختلفة من المجتمع ذكريات وسرديّات تاريخية مختلفة حول ماهيّة العراق أو ما ينبغي أن يكون عليه. كما أن فشل القيادة في جمع هذه الخيوط ضمن مبدأ وطني واحد وشامل يعزّز الانقسامات الطائفية والحدود بين الطوائف”.
بعد نحو عقد على نشر المقال المشار إليه، لم يتغير الكثير في حال العراق. هناك مؤشرات استقرار نسبي أفضل من السابق، لكن معايير الفشل الاقتصادي والخدماتي في أداء “الدولة”، ومدى تمثيلها لمختلف المكونات، لا تزال قائمة بشكل واضح. كما أن المستقبل يشي بمخاوف جدّية حيال استقرار منظومة الحكم الراهنة، المرتبطة بالمحور الإيراني المتضرر بشدة من التطورات في لبنان وسوريا، خلال الثلث الأخير من العام المنصرم. وحتى في أكثر أجزاء العراق استقراراً، بكردستان العراق، نجد أن المكوّن الكردي فشل في تحقيق الاستقلال بعد استفتاء رُفض على نطاق واسع، إقليمياً ودولياً، عام 2017. وبقي الإقليم مرتبطاً بالعاصمة بغداد، بصورة هشة ومتوترة، لها أضرارها الملحوظة على مساعي النهوض الاقتصادي والتنمية في هذا الإقليم.
أبرز الدروس المستفادة من التجربة العراقية تلك، أن المدخلات الخاطئة لعملية تأسيس الدولة الوليدة بعيد 2003، أدت إلى النتائج المريرة التي ما زال العراق يعيش في أتونها حتى اليوم. جميع المكوّنات العراقية الرئيسية (شيعة، سنة، أكراد)، متضررون على الصعيد الشعبي، من هذا الواقع. الرابح الوحيد هو قيادة القوى السياسية والميلشياوية المهيمنة على السلطة، والتي تحرص على إبقاء تركيبة الحكم الراهنة على حالها، رغم اهترائها الكبير.
الخلاصة التي يجب أن نتعلمها في سوريا، أن لا استقرار مستداماً يمكن له أن يوفّر فرص التعافي الاقتصادي، في ظل إقصاء مكوّنات رئيسية من تركيبة الحكم، وفي أجواء من التغوّل الفصائلي على مقدّرات الدولة. وأن جميع مكوّنات سوريا، ستتضرر من ذلك. فاغتراب “أقليات” الطيف السوري من دروز وعلويين وأكراد عن “الدولة” الوليدة، يعني استنساخاً مقيتاً للتجربة العراقية بعد 2003. والأخطر من ذلك، أنه في الحالة السورية، علينا توقّع اهتراء مجتمعي أكبر بمرات من الحالة العراقية، لأنه لا ثروة نفطية قادرة على تغطية العورات الفاضحة لحالة العجز في الخزينة الحكومية، ناهيك عن أثر العقوبات الخارجية التي ستعود لتطل برأسها مجدداً بشدة أكبر، إن تكررت المشاهد الدامية التي عاشها الساحل السوري في اليومين الماضيين.
لا تزال الفرصة متاحة لدى القيادة السورية الراهنة، لتجنّب “عرقنة” سوريا. وهي من يتحمّل مسؤولية ذلك بالدرجة الأولى، لأنها من يملك “الشرعية” والموارد اللازمة. وينقصها فقط إرادة صادقة بإشراك مختلف مكونات الطيف السوري في حوار وطني جدّي، يجنّب البلاد منزلقاً خطراً جديداً. ولا يعفي ذلك المؤثّرين السياسيين والمجتمعيين في المكوّنات السورية المختلفة، من المسؤولية. فالانجرار نحو منطق الثأر استناداً إلى مظلومية السنوات 14 المنصرمة، من جهة أولى، والمغامرة بعمل أرعن لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء لمن خسر امتيازات أكبر من وزنه الديمغرافي، من جهة ثانية، والرهان على مظلة حماية ودعم خارجي للاستقواء على الشركاء في الوطن، من جهة ثالثة، كلها مقامرات قصيرة الأفق تطال حيوات الحواضن الاجتماعية لأولئك الفاعلين، وتسبب ضرراً كبيراً للمصالح الاقتصادية والمعيشية لتلك الحواضن. أما في الدرجة الثالثة، فتتحمّل شريحة رجال الدين، من مختلف المكوّنات، مسؤولية كبيرة في لجم التجييش الطائفي المُعتمل في اللحظة الراهنة. خصوصاً وأن بعض المحسوبين على هذه الشريحة كانوا أحد أبرز مصادر هذا التجييش.
المدن
———————————–
فسبكات عن الساحل السوري: هنادي العلوية وإيلي الماروني
الإثنين 2025/03/10
مروان أبي سمرا
منذ الأمس لم تفارقني مأساة الكاتبة والناشطة السورية هنادي زحلوط التي فقدت أشقاءها الثلاثة في مجزرة قرية “صنوبر جبلة” العلوية في الساحل السوري. لقد أُعدِم أشقاؤها وشباب القرية جميعاً إعداماً ميدانياً بدم بارد، فقط لأنهم علويون. وهنادي زحلوط نفسها كانت قد اعتقلت وسجنت وعذبت في بداية الثورة السورية. وكما يروي الكاتب السوري جولان حجي في كتاب “إلى أنْ قامت الحرب، نساء في الثورة السورية”، فإن هنادي عُنّفت في المعتقل تعنيفاً مضاعفاً لأنها من قرية علوية في جبال الساحل. بل أن التعنيف أتاها من كل حدب وصوب، فقريتها نفسها تبرّأت منها. وعندما اقتيدت إلى المحاكمة في المجلس العدلي، هاجمتها قريبتها، المحامية المنتظرة أمام البوّابة، وضربتها، ثأراً من الفضيحة باقتلاع شعر رأسها، وشتمتها: يا عاهرة، تريدين أنْ تعارضي النظام، و”صرماية” بشار الأسد تساوي عائلتك كلّها؟
ربما لم تفارقني مأساة هنادي لأنها أعادتني إلى المأساة التي عاشها بعض أصدقائي اليساريين المسيحيين في حروبنا اللبنانية المتناسلة. هل يمكننا في لبنان تقدير عدد المسيحيين اليساريين الذين قتلوا في “بيروت الغربية” لأنهم مسيحيون، وأولئك الذين قتلوا في” بيروت الشرقية” لأنهم يساريون “خونة”؟
لم تفارقني منذ الأمس صورة صديقي إيلي الذي فقدته في حرب السنتين. كم من المرات جرى توقيف إيلي واعتقاله في بيروت الغربية بصفته صيداً ثميناً؟! فإيلي لم يكن مسيحياً فقط وإنما مارونياً أيضاً، بل أن جرمه الماروني كان مضاعفاً، فقد كان من بلدة الكحالة. وان تكون مارونياً من الكحالة في المخيلة الطائفية آنذاك، كان مثله مثل أن تكون اليوم في سوريا علوياً من القرداحة. وفي أحدى المرات لم تشفع لإيلي اسماء وأرقام تلفونات كوادر وقيادات في أحزاب يسارية ومنظمات فلسطينية، فاعتقلته إحدى الميلشييات التي كانت شبيهة بشعار “لا للطائفية، نعم للإسلاَم”، وضربته وعذبته ولم ينج من براثنها إلا بأعجوبة. لست أدري حقا ما الذي في نهاية المطاف دفع إيلي، وبإصرار غريب، للعودة إلى الكحالة في بدايات العام ١٩٧٦، مع أنّ معرفته جيدا بأنه سيكون فيها مهددا وملاحقاً بصفته يسارياً بل و”عميلاً” للفلسطينيين. ربما كان يعتقد أن أسرته وموقعها الاجتماعي المحلي سيحميانه من التعديات والَمضايقات.
لكن لم يكن قد مضى أكثر من شهر على عودة إيلي الزغبي إلى الكحالة حين اختطفته من البيت العائلي إحدى الميليشيات، ثم “صفّته” بدم بارد بوصفه “عميلاً للغرباء”، وأعادت جثته إلى أسرته وأجبرتها على الإعلان بأنه قتل بقصف مدفعي من بيروت الغربية استهدف الكحالة.
إنها لعنتنا الطائفية القاتلة، بالأمس (؟) في لبنان، واليوم في سوريا.
وداد نبي
أنا وداد نبي، وُلِدتُ لعائلة كردية سنية، تزوجتُ رجلاً ينحدر من عائلة علوية سورية. كل ما حاولتُ وجاهدتُ من أجله هو أن أكون خارج تصنيف الهويات وصراعها الذي يدور اليوم على أشده.
كان صعبًا دائمًا أن تختار ذاتك وهويتك بما لا يتناسب مع المجتمع الذي وُلدتَ فيه، لكنني اخترتُ الطريق الصعب دائمًا. وحين أحببتُ وتزوجتُ، اخترتُ رجلاً يشاركني النظرة ذاتها تجاه الانتماء للإنسان، تجاه قيم الحريات والعدالة والخير. ورفضتُ الانخراط في أي مشروع أو فعل ثقافي له رائحة هوياتية ضيقة. رددتُ دوماً: “لست من هناك، ولست من هنا، أنا هي أنا”.
أنجبتُ طفلاً متنوعًا وغنيًا بهويته: ألماني الولادة والجنسية، كردي وعربي في آن. قلتُ: هذا التنوع الهوياتي سيجعله أكثر غنى وثراء. سيأخذ الأجمل من هنا ومن هناك.
دخل بيتنا الصغير في برلين أشخاص من مختلف الهويات والانتماءات، لكن لم يكن يومًا للحديث الطائفي أو الهوياتي مكان في بيتنا. وحين خرجتُ عام 2015 من سوريا، خرجتُ مهزومة ومدركة أنه لم يعد لي بلد ولا مسقط رأس أعود إليهما.
عدتُ قلقة إلى فكرة الجذور والبحث عنها حين أصبحتُ أماً. وحين سقط النظام في 8 ديسمبر، شعرتُ بسعادة هائلة، لأسباب عدّة، كان من بينها، هي أنه سيصبح لابني بلادًا أخرى تمنحه حضنها حين تدير له الأولى ظهرها. حتى أنني، في ذروة حماسي، فكرتُ في العودة والاستقرار في بلد الهويات القاتلة، سوريا.
لكن قبل حوالي شهرين، وحين بدأت حملة الكراهية ضد الأكراد، أصبتُ بالرعب، الرعب من كمية الكراهية والإقصاء لدى الأصدقاء قبل الغرباء. وكانت الحجة دائمًا هي قسد، في حين كان الأمر قوميًا وطائفيًا وعنصريًا. قلتُ حينها لشريكي: “مستحيل أن آخذ طفلي إلى مستنقع الكراهية هذا”.
ومنذ بدأت المذبحة في الساحل، وأنا أتابع كمية الكذب والإنكار حول ما يحدث هناك من فظائع، أدركتُ أكثر من أي وقت مضى… أن سوريا أصبحت بلدًا تضيق اليوم بهوياتها المتنوعة. سوريا أصبحت بلداً يدفعها أبناؤها والعالم المحيط بها وتاريخ الأسدية فيها نحو الهويات القاتلة، للتخندق صوب جهة واحدة: جهة القتل هنا أو القتل هناك.
وكل خطاب الدعوة للتفاؤل هو من وجهة نظري، سذاجة عاطفية، لذا، إن كان لي ولابني حصة في هذا الخراب… فأنا أتخلى عنها لقتلة اليوم، لصراخهم بإبادة كل من لا تتطابق رواياتهم مع رواية سوريا الجديدة. هذه حصتنا من هذه البلاد نمنحكم إياها… فارسموا خريطة سوريا التي تشبهكم.
روزا ياسين حسن
ممتنة لكل صوت وطني وأخلاقي جرّم قتل المدنيين بالساحل كأنه يجرّم قتل أهله، ممتنة لكل من ساعد عائلة علوية هرّبها أو خاطر بحياته وخبّاها ببيته من أهل البلد السنة وهم كثر. ممتنة لكل الأصدقاء اللي تواصلوا معي ليطمئنوا على أهلي وأصدقائي وكلهم لهفة وحب. هذه سوريا والسوريون/ات الذين أعرفهم والذين يهبون الأمل بالمستقبل.
الأمور شكلها إلى تهدئة في الساحل ولكن لم يستتبب الأمن تماماً والخوف مازال طاغياً، الأمل الكبير اليوم أن يتوقف قتل وترهيب الأبرياء، الذين بلغ عددهم حتى الآن 717 مدني ومدنية في الساحل وقراه وريف حماة الغربي. بالنسبة لأهلي فالأمور حتى الآن اقتصرت على الاقتحامات والتهديد والشتم والتكسير لم يتأذَ أحد منهم جسدياً الحمدلله، أما بالنسبة للأصدقاء الشخصيين، واللي هم بالنسبة لي أهل أيضاً، والمعارف اللي خسروا أهلهم وحبايبهم فقلبي معكم والرحمة لأرواحهم والعار لقاتليهم. الرحمة كذلك لأرواح قوى الأمن العام شباب البلد الذين قتلتهم الفلول، فمنذ البداية كنت مقتنعة أن فلول النظام هم الخطر الأكبر على الساحل والبلد، لن يهدؤوا ولن يكلّوا حتى يجرّوا الطائفة والبلد إلى الكارثة، لكن هذا لا يبرّر قتل المدنيين الأبرياء في بيوتهم بذريعة محاربة الفلول وهذا ما يجب أن نعترف به، اعترافنا به وشجبه واجبنا وواجب الدولة اليوم، أن تثبت بحق أنها دولة لكل السوريين وتعيد الثقة عبر محاسبة الفصائل أياً كانت التي ارتكبت المجازر الطائفية بحق مدنيين عُزّل علويين، كما إدارة محاكمات عادلة للجرائم المرتكبة أيام النظام السابق، والانفتاح للتعاون والمشاركة مع القوى الوطنية في وقت عصيب وخطر، بدون ذلك سيظل الحابل مختلطاً بالنابل وربما دفع ضحايا جدد من مدنيين أبرياء أثماناً لجرائم لم يرتكبوها لمجرد أنهم من منطقة أو طائفة الفلول. الأمر الذي سيعقّد الحالة أكثر ويقطع الطريق على لملمة سوريا والبدء برحلة البناء الوطني. القطيعة الأخلاقية والأدائية والقيمية مع نظام الأسد كلمة سر النجاة.
دعوات التجييش الطائفي التي خرجت مؤلمة للغاية ومهينة تهشّم الروح خصوصاً من رفاق ثورة، ولا تقود إلا إلى شماتة نظام الأسد وأكاد أرى الهارب يضحك مبتهجاً، لكنها رغم كل شيء لم تستطع أن تطغى على صوت التضامن الوطني العالي.
ما زال عندي إيمان بسوريا الموحدّة الملونة وسلامتك يا بلد.
عبد الوهاب عزام
من أكبر أخطاء النظام الجديد في سورية عدم إنشاء محاكم علنية لرموز النظام السابق ومجرميه. تأخير المحاسبة تعني فتح الباب للانتقام كخيار شبه وحيد لدى الشرائح التي تعرضت لظلم مرعب تحت قمع الأسد. المحاكم تعني القانون الذي سيعاقب كل المخالفين بما فيهم القتلة والشبيحة الجدد باسم الثورة والشرعية الثورية ان خالفوا القانون. المحاكم العلنية هي قطيعة مع نسق النظام القديم وخيار أمام المجتمع الذي لا يملك خبرات أو أدوات تعبير ديمقراطية نحو بناء مؤسسات قانونية والاعتماد عليها. إرسال سلفيين جهاديين (وعيهم يتنافى مع فكرة الدولة الحديثة ويعيدنا لانساق ما قبل الدولة) إلى مناطق الأقليات يحمل خطورة دائمة لبدء تصفية عرقية. القانون وتطبيقه هو الحل الأول وليس خطاب الشرع المتخبط وتمنينه للشعب السوري بأنه لم يبدأ حربا آهليه وبانه لا يسعى للثأر. هذا الخطاب لا يحق لموظف في الدولة اسمه رئيس مؤقت، كان واسطة نفسه للوصول إلى هذا المنصب، تقديمه.
أحمد سعداوي
يقول مناصرو النظام السوري الجديد بأن ما حصل في مدن وقرى الساحل هو لاحباط محاولة انقلاب من أزلام النظام السابق وفصل الساحل عن سوريا.
يعني.. هم يؤيديون سوريا الموحّدة، ووحدة البلد لا يعني فقط وحدة التراب الوطني، وإنما وحدة القوانين المطبّقة على المواطنين جميعاً، بغضّ النظر عن خلفياتهم.
ولكن، ما الذي حصل؟ مجازر مروّعة بحقّ المدنيين، حتى القنوات الاعلامية المؤيدة لنظام دمشق الجديد، لم تنجح في “فلترة” البشاعة، واعترف رئيس النظام الجديد نفسه بأن هناك “تجاوزات” حصلت من بعض المنفلتين!
ولكن هذا الاعتراف “المفلتر” لا يعفي أي نظام كان، اسلامي او علماني، ملكي أو جمهوري، ديموقراطي أو ديكتاتوري، من مسؤوليته عن الاخلال بأهم وظيفة لأي نظام بأي بلد: حماية المواطنين وممتلكاتهم، وحماية السلم الأهلي.
التجاوزات تحوّلت الى اعدامات مصوّرة بكاميرات المحمول، وعشرات الآف النازحين الى قرى الشمال اللبناني، بعدما قضوا ليلهم يهيمون في الغابات والطرقات طلباً للنجاة، هرباً من الاستهداف الطائفي.
هل تؤيديون سوريا الموحّدة، واحباط محاولات المغرضين لتقسيم البلد؟
تمام… لقد طبّقتم هذا المشروع عملياً. التفكير العقائدي المغلق لا يبني البلدان بل يقسّمه.
هيثم حسين
كلّ الحروب قذرة، فلا وجود لحرب “نظيفة”. مهما كانت دوافعها أو غاياتها، فإنّها تترك آثاراً مدمّرة، وتحمل في طيّاتها معاناة لا يمكن تبريرها. الحرب هي الفوضى، التشريد، والدمار، وما من حرب تنتهي من دون خسائر أخلاقيّة وإنسانيّة عميقة. فهل يمكن للدم أن يكون وسيلة للعدالة؟ وهل يولد السلام حقّاً من ركام قذارات الحروب أم يبقى أسيرها؟
————————-
مسؤولية الشرع لإنقاذ سوريا: معاقبة المرتكبين وحل الفصائل/ منير الربيع
الإثنين 2025/03/10
لا قوة لعاقل، أو قدرة على متابعة “الفيديوهات” والصور التي ترد من الساحل السوري. لا احتمال لسماع مناجاة النساء أو الأطفال أو الرجال الذين واجهوا عمليات قتل ممنهجة. ولا قدرة على التطلع بأعين هنادي زحلوط تلك المعارضة السورية وزهرة الثورة ضد نظام الأسد، وهي تنعي اخوتها الثلاثة. ولا تُحتمل لحظات الحصار التي عاشها سمير حيدر في بانياس وهو المعتقل السابق في سجون نظام الأسد، والذي خسر شقيقه المعتقل أيضاً في سجون نظام الأسد. ولا قدرة على قراءة رسالة تصل من إحدى نساء الساحل، بلغ قلبها حنجرتها، فاختنق كلامها وهي تقول إنها قد خسرت والدها وشقيقها و11 شخصاً من جيرانها. كانت الثورة السورية ضد “الأسدية” بكل صنوفها وصفوفها، وأخلاقها وممارساتها. لذا لا يمكن العودة إلى تكرار ممارسات “الأسدية”. ومن يريد محاكمة مرتكبي مجزرة البيضاء أو التضامن أو غيرها من المجازر، لا يُفترض به أن يسمح بتكرار أي عمل مشابه.
عقلية الدولة
لا يمكن التقليل من خطورة ما حصل، ولا يمكن حصره باعتباره “مؤامرة خارجية” فقط. وإن كانت هناك جهات في الخارج ستستثمر بكل هذه التناقضات، أو تعمل على تغذية الصراع وتأجيجه. هناك حاجة ماسة لمعرفة حقيقة المجتمع السوري، والتعامل معه بعقلية الدولة، لا عقلية الثأر أو الحرب. وهو ما يفرض على السلطة الجديدة التغيير من وضعيتها من قوة تسيطر على الحكم، إلى قوة قادرة فعلياً على بناء الدولة. وفرضاً، لو حمّلت الإدارة الجديدة مسؤولية بدء المعركة لـ”فلول النظام” بوصفهم ارتكبوا جريمة بحق عناصر الأمن العام، فلا يمكن لهذه السلطة أن تردّ بما هو أفظع وأشنع، ولا أن تسمح لفصائل كثيرة بالدخول إلى مناطق المدنيين وبيوتهم وارتكاب المجازر بحقهم. بل مسؤولية الإدارة الجديدة حماية كل السوريين، ولا سيما أهل الساحل من الفلول، وليس ارتكاب المجازر بحقهم لوضع الطائفة العلوية ككل في موضع مواجهة “حرب وجودية”، كما لا يجدر بالسلطة الجديدة أن تسمح لأي جهة محسوبة عليها بشنّ عمليات بأسلوب “إدارة التوحش” لإخافة العلويين أو إخافة مكونات أخرى في سوريا بالمشاهد التي جرى تعميمها في الساحل.
مسؤولية الشرع
ما جرى أطاح بأيام التحرير الأبيض، والصورة الإيجابية التي طبعت منذ إطلاق عملية ردع العدوان وصولاً إلى الدخول إلى دمشق بعد هروب بشار الأسد. حجم ما جرى هو أكبر وأخطر من كل ما يمكن أن يحصل، وهو ما يستدعي اتخاذ مواقف استثنائية وجريئة جداً، من مسؤولية الرئيس السوري أحمد الشرع الإقدام عليها. وذلك لتحويل ما جرى إلى فرصة لمحاسبة المرتكبين، وإعادة توحيد البندقية تحت إمرة جيش وطني موحد، ولأجل استعادة اللحمة الوطنية. وذلك يفترض أن يبدأ بالدعوة لحوار وطني عام وشامل بمشاركة كل القوى الاجتماعية والسياسية، وتشكيل حكومة جديدة من خلال إشراك مختلف المكونات، واستدعاء قوى المعارضة السياسية التي تم استبعادها عن المشاركة في النشاط السياسي طوال الفترة الماضية، من أجل العودة والمشاركة الجدية والفعلية في صوغ مستقبل سوريا.
إلى جانب الإجراءات العملانية وأهمها:
– حلّ التنظيمات المتطرفة.
– إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا.
– توحيد كل القوى العسكرية ضمن جيش وطني له ضوابطه وقواعد عمله، ويخضع من ينتمي إليه إلى تدريبات شاملة، وتأهيل سياسي وحقوقي.
– محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم تماماً كما يتم العمل على ملاحقة فلول النظام السابق.
– بذل كل الجهود الكبيرة لإصلاح العلاقة مع أهل الساحل السوري، والتعويض الذي يجب أن يبدأ بتحقيق العدالة السريعة للسكان والأهالي.
– منع فرض الطقوس الاجتماعية أو الدينية على مختلف شرائح المجتمع السوري واتخاذ قرارات حاسمة بهذا الشأن.
– الانفتاح على كل القوى في مختلف المناطق، والعمل في سبيل عقد مؤتمر وطني عام بمشاركة الجميع فعلياً، تُرسم فيه ملامح المستقبل السوري.
لا بد لكل الأقوال التي ترد على لسان المسؤولين -وعلى رأسهم الشرع- أن تُقرن بالأفعال، وتنعكس في السلوك من خلال محاكاة هواجس كل القوى الاجتماعية والسياسية في سوريا، ومنع تكرار ما جرى في الساحل في مناطق أخرى.
ما دون ذلك، يمكن لسوريا أن تتحول إلى النموذج الليبي، أو العراقي أو اللبناني أيام الحرب الأهلية. وأي استخفاف في الوقوف بمسؤولية أمام كل ما جرى من مجازر ومخاطر وارتكابات بحق المدنيين، سيسهل ويسرّع الطريق نحو الحرب الأهلية.
——————————-
رسالة إلى الرئيس السوري أحمد الشرع/ ماجد كيالي
10.03.2025
السوريين يستحقون، بعد كل معاناتهم، وتضحياتهم، قيام إجماعات وطنية جديدة تتأسس على حقوق مواطنة متساوية، لبناء سوريا الجديدة، وتفويت أهداف المتربصين، وعدم الوقوع في “فخ” الصراعات الأهلية التي وقعت به، ولا تزال، بلدان عربية أخرى.
شكّل إسقاط نظام الأسد تحوّلاً كبيراً في تاريخ الشعب السوري، وتاريخ سوريا السياسي، بخاصة أنه حظي بقبول من معظم السوريين، في غالبية أرجاء سوريا، وضمنها مدن الساحل، بدلالة الاستقبال الشعبي الذي حظيتم به في تلك المدن.
والحقيقة، فإن شعور الامتنان لدى معظم السوريين، أتى بفضل طريقة إدارتكم التغيير، الذي طالما حلموا به، إذ جُنِّبت سوريا خطرين كبيرين، أولهما، اندلاع معارك دامية ومدمرة وشاملة. وثانيهما، انفجار حرب هوياتية، على خلفية عصبيات طائفية أو إثنية.
حصل ذلك، أيضاً، بفضل عوامل عدة، منها، وعدكم بالانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية بناء الدولة، وأن سوريا لكل السوريين، بدون أي تمييز، وأن عهد الاستبداد قد انتهى، مع تأكيدكم تشكيل حكومة تدير البلد، بعد ثلاثة أشهر، مع هيئة تشريعية، لمرحلة انتقالية، يتم فيها التوافق على دستور وطني جامع، وإتاحة حرية تشكيل الأحزاب، والنهوض بالوضع الاقتصادي، ثم تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، في مناخات تسودها الحرية.
السيد الرئيس، كل ما تقدم يُحسب لكم، بيد أن سوريا تلك خارجة من تجربة تاريخية صعبة، ومن تركة ثقيلة ومريرة ومؤلمة، مُحيت فيها السياسة، وحُرم السوريون، كلهم، من علاقات المواطنة، مع وضعهم في مواجهة بعضهم، وفقاً لعصبياتهم، أو هوياتهم، الإثنية والطائفية والمناطقية والعشائرية، إذ إن الانقسامات فيها، غالباً، عمودية، وليست أفقية، أي لا تحصل على أسس وطنية، وفقاً لحاجات بناء الدولة والمجتمع السوريين.
أيضاً، سوريا تلك محاطة بأعداء لا يريدون لها خيراً، إذ باتت مرتعاً لتلاعبات وتوظيفات إقليمية، فإسرائيل تلعب على الوتر الطائفي والإثني، في الجنوب والشرق، لفرض نفوذها، وإضعاف سوريا الجديدة، بدعوى حماية “الأقليات”، وإيران تلعب على الوتر الطائفي في الغرب، في الساحل، للغرض ذاته. وطبعاً ثمة طرف ثالث، من بقايا النظام الساقط، له مصلحة في ذلك، يتألف من أقلية، من بضع مئات، من ضباط وتجار ومهربين وفاسدين ومجرمين، ممن ضاعت امتيازاتهم، وباتت مكانتهم مهددة.
دمشق بين ربيعين
المشكلة أن الحكومة الحالية، في غضون ذلك، لم تحصّن سوريا جيداً من خطر تلك الأطراف، باستكانتها لحال الإجماع الكبير الذي حظيت به عملية التغيير، من دون الانتباه الى الأخطاء التالية:
أولاً، حلّ معظم مؤسسات الدولة، وضمنها جهاز الشرطة، وحتى شرطة المرور، والجيش، في حين كان يمكن إصلاح تلك المؤسسات، وإعادة هيكليتها، وتسريح الرتب العليا في الجيش والشرطة، وضمن ذلك إعادة التنسيب؛ وهذا كله أضعف الدولة، وخلق فراغاً أمنياً واضحاً، علماً أن الميليشيا، المتشكلة من فصائل لا تفي بالغرض، وهي بحاجة الى إعادة تأهيل، لنقلها من عقلية الثورة والمعارضة إلى عقلية الانتظام والولاء للدولة، والقانون، والشعب كله.
ثانياً، تبعاً لما تقدم، فإن السؤال الملحّ المطروح، هو: لماذا لم يتم استدعاء العسكريين الذين انشقوا عن جيش النظام، فهؤلاء كان يمكن أن يشكلوا رافداً قوياً، مع خبراتهم، للجيش الجديد؟ وهذه إشارة تضعف من صدقية التحول لدولة، ولكل السوريين، ويفترض تداركها في أقرب وقت، لصالح سوريا، ولإنصاف هؤلاء العسكريين.
ثالثاً، سُرِّح ألوف من وظائفهم، في كل القطاعات، ومنها الصحية، الأمر الذي تمخّض عن دفعهم إلى الفراغ، والتحول إلى متضررين، وربما غاضبين، من الحكم الحالي، ما يشكل مناخاً للقوى الداخلية والخارجية المتربّصة بسوريا، وبوحدة السوريين. فاقم من هذا الأمر الضائقة المعيشية الكبيرة التي يعاني السوريون منها منذ سنوات، مع الانخفاض الهائل في دخل الأسرة، علماً أن راتب الفرد لا يشكّل شيئاً يُذكر، إذ لا يزيد عن بضع عشرات من الدولارات شهرياً.
رابعاً، مع الأطراف الثلاثة المتربّصة، لإفشال التغيير في سوريا، ثمة ثغرة رابعة، تتعلق بضعف إدراك الحكم الجديد أهمية تعزيز وحدة الشعب، بالتركيز على وحدة سوريا الجغرافية، وسيادتها، واحتكار الدولة السلاح، على أهمية ذلك ومشروعيته، بيد أنه لا يكفي، فالوحدة الحقيقية، الفعلية، تتأسس على وحدة الشعب، الذي يتألف من مواطنين، أفراد وأحرار مستقلين ومتساوين، من دون تمييز، فهذا وحده ما يجعل الشعب شعباً حقاً، وما يؤسس لوحدة الدولة والجغرافيا والسيادة، والعكس غير صحيح، إذ لو تحقق الأمر بالغلبة، وبالسلاح، كما كان في ظل النظام السابق، إلا أنه سيظل يحمل بذور تشققاته وتصدعاته، ويبقي مداخل للتوظيفات الخارجية. ومعنى ذلك أيضاً، أن أي بناء للإجماعات الوطنية السورية، لا ينبغي أن يخضع للغلبة، أو للحلول الأمنية/العسكرية، وإنما للحوار، وإيجاد مناخات من الثقة المتبادلة، والبناء على حقوق المواطنة، واعتبار حق الحياة والحرية والكرامة والعدالة والمساواة، بمثابة قيم عليا وفوق دستورية لكل السوريين، لا يشترط عليها، ولا تخضع لنقاش.
خامساً، لم يعزز مؤتمر الحوار الذي عقد أخيراً، على أهميته، من صدقية الحكم الجديد، بالطريقة الارتجالية، والمتسرعة، والضيقة، التي عقد، وشكّل، بها، وهذا ينطبق على تشكيل اللجنة المشكلة لصوغ الإعلان الدستوري، ومع افتراض حسن النية، طبعاً، إلا أن مثل هذا الخطوات كان يفترض أن يُدرس بشكل أفضل، وأن يخضع لمشاورات أوسع من شخصيات كفوءة ومؤهلة، وتحظى بمصداقية شخصية، وطنية وأخلاقية وعلمية.
سادساً، لم يفهم أحد الفراغ الإعلامي، الذي يفاقم من الفراغ السياسي، وذلك بعد ثلاثة أشهر، سيما أن ثمة بين السوريين، في الداخل والخارج، خيرة من الشخصيات الكفوءة، من إعلاميين وكتاب ومثقفين، ولا أحد يعرف لم لا يتم التعامل مع هذا الملف بقدر أهميته في هذا الظرف.
سابعاً، من غير المفهوم، أيضاً، تصرّف الحكومة بشكل فوقي، ووصائي، مع النقابات، بدل دفعها الى عقد مؤتمرات تفضي إلى انتخاب قيادات جديدة، بطريقة مؤسسية وقانونية وديمقراطية.
ثامناً، شكل غياب تشكيل هيئة عدالة انتقالية، نقطة ضعف في توجه الحكم، إذ كان من شأن تشكيل هيئة كهذه، أولاً، تعزيز صدقية الحكم بالتوجه الى بناء دولة مؤسسات وقانون ومواطنين. ثانياً، كبح أي نزعة نحو الدفع الى حرب أهلية، أو نزعة انتقامية أو ثأرية. ثالثاً، عزل المجرمين، من بقايا النظام السابق، الذين تبين أنهم كمنوا تحيناً للحظة التفجير التي شهدناها. المشكلة، أيضاً، أن عملية التغيير، كما شهدناها قبل ثلاثة أشهر، بالفوضى التي صاحبتها، أدت إلى ضياع قسم كبير من أرشيف أجهزة المخابرات، وهو أمر يفترض مراجعته وتداركه.
السيد الرئيس
السوريون ليسوا بحاجة الى معارك، أو صراعات أهلية، تم تجنّبها، يوم سقط النظام، الذي زرع الكراهية بين السوريين، وأفسد عيشهم لأكثر من نصف قرن، الأمر بيدكم، بإعادة الاعتبار الى الدولة، على حساب السلطة، والحوار، على حساب السلاح، والحرية، على حساب الاستبداد، فالحل لكبح التشققات، يفترض الانطلاق من تعزيز مكانة المواطن، الحر، والمتساوي مع غيره، فالحل ليس أمنياً، فقط، وبالغلبة، وإنما هو سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي.
هذا يتطلب تعميم وترسيخ الجرأة الأخلاقية والسياسية المسؤولة، التي أتت في خطابكم قبل أيام: “أهلنا في الساحل في أماكن الاشتباك جزء مهم من وطننا وواجبنا حمايتهم… كل من يتجاوز على المدنيين سيحاسب حساباً شديداً”. فالجريمة، من أي طرف أتت، هي جريمة، وقبول انتهاك حياة أو حق إنسان ما هو انتهاك لحق أي إنسان آخر، وينبغي أن تتم محاسبة أي جريمة وأي انتهاك وفقاً للقانون، فالقيم الأخلاقية هي التي تميز طلاب الحرية والعدالة.
باختصار، فإن السوريين يستحقون، بعد كل معاناتهم، وتضحياتهم، قيام إجماعات وطنية جديدة تتأسس على حقوق مواطنة متساوية، لبناء سوريا الجديدة، وتفويت أهداف المتربصين، وعدم الوقوع في “فخ” الصراعات الأهلية التي وقعت به، ولا تزال، بلدان عربية أخرى.
درج
————————————
عن مجزرة الساحل السوري التي تأجّلت 3 أشهر/ مناهل السهوي
10.03.2025
إذا كان الخطاب الرسمي يواصل تغذية الحقد والتفرقة، فإن الجرحى من هذا الشعب لن يروا في الآخر سوى تجسيد للطغيان نفسه. حين يُستخدم الخطاب التحريضي من أعلى مستويات السلطة، فإنه يعمق الانقسام ويزيد من حدة الاحتقان، ما يجعل من الصعب على أي طرف تجاوز إرث النظام القمعي.
المجزرة التي خشينا حصولها في 8 كانون الأول/ ديسمبر، حين سقوط نظام الأسد، والتي هلّلنا لأنها لم تحدث، وقعت بالفعل، لكن بعدما أُجلت ثلاثة أشهر فقط. واليوم، راح ضحيتها نحو 800 مدني وأكثر من 300 عنصر من الأمن العام، والرقم قابل للزيادة في ظل صعوبة الوصول إلى كلّ الضحايا.
يصعب اختصار ما حدث، لكن يمكن القول إن فلول نظام الأسد جرّت الحقد الطائفي إلى عقر مسقط رأس الأسد وتركته ينتقم من السكان، ولم يكن صعباً أن تنصاع فصائل متطرفة كثيرة محسوبة على الإدارة الجديدة إلى هذه “الوليمة”، التي تأخّرت ثلاثة أشهر.
يبدو الحديث عن سوريا اليوم أصعب من أي وقت مضى، ليس فقط بسبب المجازر المروّعة التي حصلت وستحصل، لكن أيضاً لأننا نرى بأم أعيننا محاولات إعادة إنتاج نظام الأسد واستنساخ روايته. يزيد الأمر مأساوية أن العجز بات واقعاً، إذ نشاهد أهلنا وأصدقاءنا يستنجدون ونحن على المقلب الآخر نتساءل مَن ينهي هذه المجزرة؟
منذ معركة ردع العدوان، وبرغم الفرحة العارمة التي رافقت سقوط النظام، ظل القلق من شبح الحرب الأهلية وحمام الدم حاضراً. كنا نظن، أو ربما نأمل، بأنه بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحنا أقرب إلى الاستقرار وأبعد عن خطر المجازر، لكن سرعان ما اكتشفنا أننا كنا واهمين، أو ربما مجرد حالمين.
ما يحدث اليوم ليس سوى امتداد لتاريخ الأسد الدموي، وليس حدثاً منفصلاً عنه، بل هو استمرار لنمط القمع والعنف الذي طبع حكمه لعقود. الفرق الوحيد أن الدولة الجديدة كان بإمكانها تفادي هذه المجزرة، أو على الأقل احتواءها قبل أن تتفاقم، لكنها لم تفعل، سواء بسبب العجز أو التجاهل.
الأكيد أن سوريا بعد يوم 8 آذار/ مارس ليست كما سوريا قبله، تماماً كما ليست قبل 8 كانون الأول/ ديسمبر. فالتجييش الأهلي مرعب، والأخطر من ذلك هو تبرير الظلم الحاضر بالظلم الماضي، وكأن المأساة لا يمكن أن تنتهي بل تعيد إنتاج نفسها بلا توقّف.
أولئك الذين ذاقوا القهر على يد الأسد يبيحون اليوم قهر غيرهم، محوّلين انتقامهم إلى حلقة مفرغة من الظلم، تكاد تشعرك بالعجز التام. ووسط هذا العنف الأعمى، يكشف استهداف شخصيات مثل المعتقل السابق عمر الشغري، الذي نذر حياته لكشف انتهاكات نظام الأسد منذ أن كان طفلاً، واعتُقل وعُذّب، عن حقيقة مريرة: حتى رموز الصمود، وفي حال اعترفت بالمجازر ضد الطائفة العلوية، لا تُستثنى من هذا الدمار الأخلاقي الذي يبتلع الجميع.
وسط هذا الدمار كله، يبرز سوريون لا يريدون الموت أو الانتقام حتى ولو كانوا جماعات مبعثرة لا ثقل لها، أولئك الذين يختارون حماية الحياة بدلاً من تأجيج العنف.
هناك من أخفى الهاربين من الأمن العام، ومن فتح بيته للعائلات العلوية المهددة، وهناك من خاطر بحياته لإنقاذ آخرين، سواء كانوا من عناصر الأمن أو من المدنيين المحاصرين في الاشتباكات.
من يلعب بمصير علويّي الساحل السوري؟
خلال الأيام الثلاثة الماضية، سُجّلت مواقف نادرة من الشجاعة والإنسانية، لكنها ضاعت وسط ضجيج الدم والانتقام.
أما إنكار المجزرة، فلا يقتصر على كونه تهرباً من الحقيقة، بل هو محاولة لاحتكار رواية المظلومية، وإعادة رسم خطوط الخير والشر وفق ميزان القوى الجديد.
بعض أبناء الثورة يقللون من جديّة المذبحة ليس لأنهم يجهلونها، بل لأن الاعتراف بها يهدد امتيازهم في امتلاك سردية الثورة. المعادلة باتت واضحة: “نحن الثورة”، نحن وحدنا من عرف الظلم، نحن وحدنا من يحق له كتابة التاريخ لأننا “أسقطنا الأسد”. وهكذا، يُعاد إنتاج الظلم مرة أخرى، ولكن بأيدٍ جديدة، وباسم قضية كانت تهدف في الأصل إلى إنهائه.
كل ما يحصل اليوم هو انفجار لعدالة مؤجّلة، تأخّرت حتى تحوّلت إلى نار تحت الرماد. أحمد الشرع، في سعيه لإعادة سوريا إلى الخارطة الدولية، اختار أن يوجه أنظاره إلى الخارج، ظناً منه أن رفع العقوبات واستعادة المكانة الإقليمية والدولية هما الأولوية القصوى. لكنه في خضم ذلك، تجاهل الجراح المفتوحة، والدماء التي لم تجف، والغضب الذي ظل يتراكم لسنوات من دون تفريغ أو إنصاف.
خلال ثلاثة أشهر فقط، حاول الشرع بناء سوريا جديدة، لكنه استعجل البناء فوق أرض مهشّمة. أطلق حواراً وطنياً، أنشأ لجنة تحضيرية للدستور، وحلّ الجيش ليعيد تشكيله من فصائل متفرقة، لكنه لم يضع أي أسس حقيقية للمصالحة الوطنية.
هل يدرك أحمد الشرع أن السلم الأهلي ليس مجرد شعار نرفعه أمام الإعلام الغربي، بل هو عملية معقّدة تحتاج إلى مواجهة الماضي، محاسبة المجرمين، وتضميد الجراح!
اليوم، سوريا التي بناها بسرعة تتهاوى أمام أول اختبار حقيقي، لأن العدل الذي تم تجاهله لا يموت، بل يعود ليطالب بحقه ولو كان ذلك على شكل فوضى وانفجار ومجازر.
على سبيل المثال، كان واضحاً منذ البداية أن منطقة الساحل من أكثر المناطق حساسية وتعقيداً، ومع ذلك لم تُتخذ أي خطوات جادة لإنشاء قوات أمنية محايدة قادرة على حماية جميع السكان، بمن فيهم الفئات التي كانت مستهدفة سابقاً.
لم يُجرَ تفكيك الميليشيات أو ضبط انتشار السلاح، بل على العكس، تحولت فصائل عُرفت بانتهاكاتها وجرائمها مثل “الحمزات” و”العمشات” المتورطتين في تجارة المخدرات والبشر، إلى جزء من السلطة الجديدة، التي بات اسمها “دولة”!
في ظل هذا الواقع، لم يكن من المستغرب أن ينفجر العنف مجدداً، فما حدث لم يكن انتقالاً إلى مرحلة جديدة، بل إعادة تدوير للفوضى تحت أسماء مختلفة.
هل تم إشراك الضحايا في عملية التوثيق والاستماع إلى شهاداتهم؟ هل عُيِّن مسؤولون مؤهلون للتعامل مع هذا الإرث الثقيل من الظلم، أم أننا أمام مشهد يعيد إنتاج العقلية ذاتها التي بررت الجرائم في الماضي؟
خذوا مثالاً عائشة الدبس، رئيسة مكتب شؤون المرأة في الإدارة الجديدة، التي بدأت مشوارها بإظهار ذكوريتها الفجة، ثم أتبعته بتغريدة تكشف عن عقلية انتقائية في إدانة الجرائم، قائلة: “للمرهفين على مواقع التواصل… تذكروا فظاعة وبشاعة مجزرة بشار الكيماوية”. وكأن الظلم يُوزن بميزان الانتماء السياسي، وكأن الضحايا درجات، بعضهم يستحق التعاطف، وآخرون مجرد أرقام في صراع جديد.
فإذا كانت شخصية مسؤولة في الدولة كعائشة الدبس غير قادرة على ضبط خطابها التحريضي، فكيف يتوقع أحمد الشرع من مقاتليه، الذين يحملون في صدورهم مرارات القهر والظلم والنزوح والطائفية، أن يقفوا أمام شخص علوي ويعتبرونه ليس أسدياً؟
إذا كان الخطاب الرسمي يواصل تغذية الحقد والتفرقة، فإن الجرحى من هذا الشعب لن يروا في الآخر سوى تجسيد للطغيان نفسه. حين يُستخدم الخطاب التحريضي من أعلى مستويات السلطة، فإنه يعمق الانقسام ويزيد من حدة الاحتقان، ما يجعل من الصعب على أي طرف تجاوز إرث النظام القمعي.
من يُقتَل اليوم هم السوريون، من رجال الأمن والمدنيين والأطفال والنساء، في معركة يصعب استيعابها بسهولة، فهي ليست مجرد مواجهة عابرة، بل حصيلة خمسة عقود من حكم الأسد، ومن ترسيخ التطرف والجهل والقمع.
لكن السؤال الأهم: هل ستكون هذه المجزرة نموذجاً لما ستؤول إليه سوريا القادمة؟ وهل يمكن أن تصبح، في أفضل السيناريوهات، نقطة انعطاف تدفع نحو إعادة التفكير بمسار الأحداث؟
درج
————————
مذبحة العلويين ومستقبل سوريا/ فيكين شيتريان
10.03.2025
العنف الطائفي المعادي للعلويين في سوريا ستكون له تداعيات طويلة الأمد في جميع أنحاء الشرق الأوسط. سيؤدي إلى تعزيز شعور جديد بالاضطهاد بين المجتمعات الشيعية في لبنان – التي لا تزال تعاني من صدمة الحرب الإسرائيلية في العام الماضي – وكذلك في العراق. كما سيؤثر على العلويين في تركيا، ما سيزيد من إحساسهم بالخوف والاغتراب عن دولتهم وسياساتها.
الصور القادمة من سوريا لا تُحتمل. مدنيون يُعتقلون ويُعذَّبون؛ عشرات الجثث لرجال تم اغتيالهم وإلقاؤهم في زاوية شارع؛ مروحية تلقي قنبلةً عشوائياً؛ رجال مسلحون يدخلون الأحياء ويطلقون النار على المباني، يتصرفون وكأنهم قوة احتلال.
الصور لا تُحتمل، لكنها متكررة؛ لقد شاهدنا آلاف الفيديوهات المشابهة منذ عام 2011. لكنْ هناك فرق: الآن، قوات القمع هي جنود “الحكومة المؤقتة” الجديدة، التي كانت تُعرف حتى وقت قريب بـ”هيئة تحرير الشام”، وقبل ذلك كانت الفرع السوري لتنظيم القاعدة، إلى جانب حلفائهم من المتشددين السنّة. أما الضحايا فهم أفراد من الطائفة العلوية، التي خرج منها الديكتاتور السوري السابق بشار الأسد.
وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، أسفرت ثلاثون مذبحة طائفية مختلفة عن مقتل أكثر من 745 مدنياً خلال 48 ساعة فقط. لا يمكن وصف ذلك إلا بالمجزرة. وقد قلبت هذه الموجة الأخيرة من العنف الطائفي في سوريا التصورات السائدة حول الضحايا والجناة.
هناك روايات مختلفة تحاول تفسير ما أدى إلى هذا العنف الطائفي الأخير: اشتباكات اندلعت في الأسبوع الأول من آذار/ مارس بين قوات الأمن التابعة لـ”الحكومة المؤقتة”، التي انتشرت في القرى العلوية مثل العدلي في منطقة جبلة وغيرها، وبين الجماعات المسلحة التي كانت تشكل قوات القتال التابعة للنظام القديم.
نصب موالون للأسد كميناً لقوات “الحكومة المؤقتة” في منطقة اللاذقية وقتلوا العشرات منهم. وكانت النتيجة مذبحة جماعية استهدفت العلويين في ريفي اللاذقية وبانياس.
ومع ذلك، كانت التوترات الطائفية وأعمال العنف في المحافظات ذات التركيبة السكانية المختلطة – من سنّة وعلويين – تتصاعد منذ أوائل شباط/ فبراير، أي بعد شهرين فقط من دخول المتمردين الإسلاميين إلى دمشق. وسرعان ما امتدت الاشتباكات الداخلية إلى اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص. خرجت الأوضاع عن السيطرة عندما نصب موالون للنظام السابق كميناً وقتلوا العشرات من المقاتلين السنّة المرتبطين بالسلطات الجديدة. أدى ذلك إلى إطلاق عملية عسكرية سرعان ما تحولت إلى مجازر طائفية.
لماذا حدث هذا العنف، وهل كان من الممكن تجنبه؟ نشر قوات “الحكومة المؤقتة”، التي تتألف حصرياً من مقاتلين سنّة ذوي أيديولوجيا طائفية، في عمق المناطق العلوية، كان سيؤدي حتماً إلى اندلاع العنف. ومع ذلك، فإن التحدي الذي تواجهه الحكومة الجديدة أكبر من ذلك.
تشمل المناطق الساحلية في سوريا، مثل اللاذقية وبانياس، وكذلك حمص وأريافها، تجمعات سكانية مختلطة طائفياً، حيث يتعايش السنّة والعلويون والمسيحيون في الأحياء والقرى نفسها. لقد ترك عقدٌ من الحرب سوريا في حالة دمار، حيث يُقدَّر عدد القتلى بنحو 500 ألف شخص، فضلًا عن آلاف آخرين تعرضوا للتعذيب أو الاختفاء القسري أو الاختطاف.
في هذه المناطق ذات التركيبة الطائفية المختلطة، يعرف الجميع من كانوا أدوات النظام السابق، ومن كان يوقف الناس عند الحواجز، ويعذبهم، ويقتلهم.
بينما كان المثقفون ونشطاء حقوق الإنسان يطالبون بالعدالة من خلال مسار قانوني، فإن مثل هذه الأفكار غير قابلة للتحقيق: لا يمكن لأي نظام قانوني في العالم التعامل مع ظلم بهذا الحجم، وسوريا الخارجة من دكتاتورية الأسد لا تمتلك أي وسائل لذلك. وبدلاً من ذلك، ما كان يحدث هو أعمال انتقامية ضد عناصر النظام القديم، إلى جانب رفض ضباط الجيش السابقين قبول ميزان القوى الجديد.
إرسال قوات “الحكومة المؤقتة” إلى هذه المناطق لاعتقال بقايا النظام القديم كان بمثابة صب الزيت على النار. فهذه القوات ليست فقط مسيّسة أيديولوجياً، بل خاضت أيضاً ما تعتبره حرباً طائفية لعقد من الزمن. فهي لا تحمل الحقد فحسب، بل تفتقر أيضاً إلى الانضباط. وأي اعتقالات لضباط الجيش السابقين كان المجتمع العلوي سيعتبرها محاولة لاستهداف قادته، وأعمال انتقام طائفي.
الطائفيّة والإقليميّة
قبل اندلاع العنف في المناطق الساحلية العلوية، كانت هناك توترات بين النظام الجديد في دمشق وحي جرمانا – إحدى ضواحي دمشق ذات الغالبية الدرزية. أي اعتقالات هناك، لأي سبب كان، كان من الممكن أن تُعتبر هجوماً على المنطقة نفسها وعلى الطائفة.
سوريا تعاني من مشكلة طائفية لا يمكن إنكارها. وهذا ليس أمراً جديداً: فقد فرض نظام البعث “وحدة” من الأعلى بالقوة من خلال دولة دكتاتورية. لكن تلك الدولة لم تعد موجودة، فقد تحطمت إلى أشلاء بفعل الحرب. أسوأ خطأ اليوم هو إنكار هذا الواقع الطائفي، أو محاولة فرض وحدة مستحيلة بالقوة.
المجازر الأخيرة ضد العلويين والشعور بانعدام الأمن سيؤديان إلى إعادة تشكيل ديموغرافي، إذ ستنقسم المناطق المختلطة طائفياً مرة أخرى، وسينتقل العلويون بحثاً عن الأمان. الدروز في الجنوب والأكراد في الشمال الشرقي سيفعلون الشيء نفسه، بينما ستُستأنف موجة الهجرة المسيحية، بعد فترة قصيرة من التفاؤل بين قادتهم في الأشهر السابقة. ستُعتبر قوات “الحكومة المؤقتة” – وستتصرف بالفعل – كقوة احتلال في الأحياء ذات الغالبية غير السنية.
العنف الطائفي المعادي للعلويين في سوريا ستكون له تداعيات طويلة الأمد في جميع أنحاء الشرق الأوسط. سيؤدي إلى تعزيز شعور جديد بالاضطهاد بين المجتمعات الشيعية في لبنان – التي لا تزال تعاني من صدمة الحرب الإسرائيلية في العام الماضي – وكذلك في العراق. كما سيؤثر على العلويين في تركيا، ما سيزيد من إحساسهم بالخوف والاغتراب عن دولتهم وسياساتها.
بعض الناشطين السوريين – القلة الذين يدينون عمليات القتل الطائفي بدلاً من الدعوة إلى الانتقام – باتوا يطلقون مرة أخرى على القائد السوري أحمد الشرع اسم “الجولاني”، وهو لقبه الحركي القديم في تنظيم القاعدة. لكنه الآن أصبح “الأسد الجديد”، زعيم سوريا الطائفية، الذي يستطيع التحرك من خلال مؤسسات الدولة.
المفارقة في وضع الشرع – بغض النظر عن لباسه وخطابه الأيديولوجي – هي أن الأداة الوحيدة المتبقية لديه، وما تبقى من الدولة السورية، هي الجماعات المسلحة الطائفية التي يقودها، ولا شيء غير ذلك. لن يكون قادراً على فرض وحدة سوريا بهذه القوات، في ظل سوريا المدمرة، وسوريا التي تحتلها أربع قوى رئيسية في مناطقها المختلفة.
أفضل ما يمكن فعله هو إبقاء هذه القوات الطائفية خارج المناطق غير السنية في سوريا، والاعتراف بالواقع الطائفي وكذلك العرقي (الكردي) في البلاد، والتفاوض حول كيفية إدارة هذا الواقع المعقد من دون اللجوء إلى المزيد من العنف.
درج
—————————————-
8 كانون الأول سقط الأسد… 7 آذار بقي الأبد/ زاهي ندور
10.03.2025
نعيش في سوريا أسوأ سيناريو لكل من حلم في 8 كانون الأول/ ديسمبر بسوريا جديدة لا مكان فيها لإرث الأسد.
ارتبط تاريخ سوريا الحديث بالمجازر المتنقّلة…
ظننا بعد سقوط نظام البعث والاستبداد الأسدي أن مجازر دموية مثل مجازر “الحولة” و”التضامن” و”الغوطة” و”خان شيخون” وعشرات غيرها، ستبقى ذاكرة جمعية تحرّم دم السوري على السوري، وأن سقوط الأسد فرصة لنجتمع لبلسمة جراح أهالي ضحايا تلك المجازر..
كان ذلك طموحنا قبل الخميس الأسود في 6 آذار/ مارس، وهو يوم نصب مرتكبو تلك المجازر الكمائن، أولئك الذين اعتاشوا على الدم السوري ولا خلاص لهم إلا بسفك المزيد منه.
هم مدانون باعترافاتهم، من غياث دلا الى مقداد فتيحة وغيرهما من ضباط جيش النظام السابق الذين أمعنوا في ارتكاب المجازر ضد السوريين. يفتخر فتيحة في أحد مقاطع الفيديو المصوّرة له والمنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، بأنه رأى أحشاء سوريين أكثر مما رأى وجوههم.
مجموعة من الذين باتوا يُعرفون بأنهم “فلول” نظام الأسد استجمعوا عناصرهم بدعم إقليمي على الأرجح ونشروا دعوات في مناطق الساحل للتجييش.
انجرّ خلف هذه الدعوات بعض الذين كانوا قاموا بتسوية أوضاعهم مع الحكومة الجديدة في دمشق، وتظاهروا ضد حكم أحمد الشرع الذي لم يقدم أي تطمينات بعد ثلاثة أشهر على سيطرته على سوريا، فسادت حكومة اللون الواحد وتخرجت دفعات من الأمن العام والجيش من اللون نفسه، وفُصل آلاف العاملين في القطاع العام ممن كانوا موظفين أيام النظام البائد.
دمشق بين ربيعين
كل من يعرف التاريخ القريب للمنطقة يعرف خطر إقصاء الموظفين الحكوميين والأطباء والعسكريين وجميع الاختصاصيين في القطاع العام من وظائفهم، على بنيان الدولة بعد مرحلة ديكتاتورية امتدت عشرات السنوات.
اجتثاث حزب البعث في العراق مثال حاضر على فشل تجربة كهذه، ونتيجة حتمية لكل ما شهدناه في الأيام الأخيرة.
نعيش في سوريا أسوأ سيناريو لكل من حلم في 8 كانون الأول/ ديسمبر بسوريا جديدة لا مكان فيها لإرث الأسد.
استيقظت سوريا والساحل السوري فجر الجمعة 7 آذار/ مارس على كم هائل من الانتهاكات والقتل العمد، فلا حرمة للمنازل ولا للبيوت التي أغلقت أبوابها ظناً منها أنها تشارك من يقوم بالعملية الأمنية فرحة سقوط الأسد ورغبة القضاء على من روّعها وسرقها في الساحل من شخصيات مثل فتيحة ودلا وغيرهما.
عند سماعي أول الأخبار اتصلت بأحد أصدقائي في طرطوس، وهو ابن عائلة معارضة للبعث لأطمئن، فكان ردّه: “إذا ما طلعنا عايشين اليوم هول مو الثورة هول البعث فرع العراق”.
أمام الفيديوهات التي توالت على السوشيال ميديا، قرأت تعليقاً على هول الفاجعة من صديق مسيحي مؤمن بالعقيدة المسيحية بشدة وبالثورة منذ 2011، وهو من أبناء الساحل، يقول فيه: “هذه هي الجمعة العظيمة يوم يساق المسيح إلى الصلب على يد من ضحى لأجلهم بعدما سلمه يهوذا وخانه بطرس”.
هذه العبارة تمثل ما تعرض له فقراء الساحل من الطائفة العلوية من ابتزاز من النظام على مدار عقود ما قبل الثورة وبعدها، فهو من رهّبهم من الآخر السوري وربط نجاتهم به وزرع روح الطائفية والفرقة في المجتمع السوري، وقادهم الى هذه المجزرة التي ببشاعتها ساوت بين كل السوريين، فكل مكونات المجتمع خرجت بذاكرة دموية من هذه الحرب.
فهل تقدّر لنا النجاة؟
درج
—————————–
قلق الأقليات في سوريا يتحول إلى رعب/ د. هيثم الزبيدي
بيان مشايخ العلويين كان ينظر بعيدا في المستقبل إلى درجة تبعث على الحيرة في قدرة المشايخ على استقراء أن الأمور لا تتغير بل كل ما يحدث هو أنها تهدأ لتعود وتنفجر ثانية.
الاثنين 2025/03/10
قبل بضعة أعوام، وفي الفترة التي بلغت فيها الحرب الأهلية في سوريا ذروتها على الأرض، انتشرت وثيقة ما يسمى بـ“نداء العلويين” للمندوب السامي الفرنسي في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا ولبنان خلال ثلاثينات القرن الماضي. كان الوضع على الأرض غيره الآن. الدولة السورية قبل بضعة أعوام، أو دولة بشار الأسد، كانت قد بدأت باستعادة قوتها بعد تدخلات جوية حاسمة من روسيا وانتشار وتسليح أرضييْن من إيران. نتائج الحرب كانت تبدو محسومة لصالح نظام الأسد، وأن ما بقي هو مسألة وقت. بقيت الأمور تراوح مكانها نسبيا، وعلى عادة الأسد في عدم إدراكه لعامل الوقت وترك الأمور دون حسم، تصرف النظام على أساس أن الحرب شيء مركون يمكن العودة إليه وحسمه ساعة يشاء. الوقت، كما صرنا نعرف الآن، كان ضد الأسد، وجاءت عوامل إقليمية إضافية لتغير معطيات الأزمة بشكل مذهل. ينبه الأطباء في العادة إلى التأثيرات الجانبية للأدوية، ويحذرون من بعضها، وعلى المريض أن ينتبه. مريضنا السوري لم ينتبه إلى خطورة الأعراض الجانبية، وشهدنا انهيار النظام على نحو يصعب تصديقه.
المقاتل العلوي المحسوب على نظام الأسد، والذي كان يفترض أن يربح الحرب، خسرها. الرئيس بشار الأسد وأفراد عائلته لاجئون الآن في موسكو. وبعد أسابيع من الهدوء النسبي، تقف سوريا على أعتاب مرحلة مختلفة من الصراع الأهلي. وبعد أن كان توزيع وثيقة “نداء العلويين” قبل أعوام غريبا، باعتبار أنه يشير إلى ضعف العلويين، يبدو النداء اليوم واقع حال خطيرا يجسد أن العلويين ضعفاء بالفعل وأنهم إنما كانوا يحتمون بهيكل الدولة السورية ضمن كيان أفرزته مرحلة تكوين الدول في ما بعد الحرب العالمية الأولى.
كان البيان أشبه بدعوة إلى انضواء أقليات بلاد الشام في هيكل يحميها. كان شيوخ الطائفة العلوية إنما يعبرون عن قلق تاريخي تناقلوه اجتماعيا وعبروا عنه سياسيا. قلق الأقليات هذا بقي حاضرا بين العلويين حتى وهم يربحون الحرب ويسيطرون على الدولة السورية ولديهم من يدعمهم على مستوى دولة مهمة مثل روسيا أو دولة إقليمية كبرى مثل إيران. ما نعرفه تاريخيا أن المندوب السامي الفرنسي عمل عكس ما طلبه شيوخ العلويين ولم يترك مجالا لتحول “سنجق اللاذقية” إلى دولة “جبل العلويين”. سوريا الكبرى الواقعة تحت الانتداب الفرنسي هي الضامن الأفضل من وجهة نظر الفرنسيين. واعتبر الفرنسيون أن الإجراء الوحيد الذي ينبغي اتخاذه هو منح لبنان الاستقلال، وأن ما تبقى من الأرض يكفي لإقامة دولة قابلة للحياة، قادرة على حماية الأقليات فيها، وأن تتمكن من امتصاص قلق هذه الأقليات.
لم تتمكن الدولة العربية السورية التي ورثت دولة الانتداب من امتصاص قلق الأقليات. وبدخول عوامل كثيرة في المنطقة، والأهم منها على وجه الخصوص عامل الإسلام السياسي، تغيرت سوريا القومية العلمانية إلى مشروع سياسي قلق خصوصا لو أخذنا بعين الاعتبار أن سوريا أصبحت ساحة صراع واضحة بين “الإمبراطوريتين” القديمتين فارس (إيران) والدولة العثمانية (تركيا). بيان مشايخ العلويين كان ينظر بعيدا في المستقبل إلى درجة تبعث على الحيرة في قدرة المشايخ على استقراء أن الأمور لا تتغير، بل إن كل ما يحدث هو أنها تهدأ لتعود وتنفجر ثانية. العلويون بدعوتهم إلى استقلال دولة “جبل العلويين”، إنما كانوا يريدون أن ينقذوا أحفادهم وأحفاد “أعدائهم” ممن تتكوم جثامينهم اليوم في أحراش غرب سوريا، مقتولة أو مقتولة ومحروقة بالمئات في مشهد أوهم البعض نفسه بأنه لن يحدث.
قلق الأقليات الذي كان يفوح من البيان الذي يعود إلى قرن من الزمن الآن تقريبا هو تشخيص بأن الوضع السياسي والاجتماعي والطائفي في سوريا لم يكن ناضجا بما يكفي لترْك الأقليات تتعايش مع بعضها البعض، على أمل الوصول إلى لحظة هدوء إنسانية تجنبنا المشاهد المريعة التي يتم توزيعها اليوم عبر المنصات الاجتماعية.
لعل المندوب السامي الفرنسي آنذاك ارتأى ألّا يؤسس دولة جبل العلويين لأنه بذلك سيخلق دولة سورية عربية سنية من دون امتداد على الساحل، وأن ساحل سوريا اليوم الذي يمتد من جنوب تركيا إلى مقتربات الحافة الشمالية من لبنان يمكن أن يتعايش مع الكتل البشرية والحياة الاقتصادية في مناطق تاريخية معروفة بانفتاحها وتسامحها مثل دمشق وحلب وحمص. ما حدث أن المشروع ازداد تعقيدا ووصلنا إلى مرحلة مخيفة من القتل الوحشي وتصفية الحسابات بدعوات طائفية وأقلوية.
كان لافتا البيان المشترك الذي أصدرته الكنائس السورية لبطاركة الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وما قاله الأكراد عن دعوتهم السلطة الجديدة إلى التحرك لمنع ما يحدث من قتل، وأن نسترجع ما سمعناه من الدروز خلال الأسابيع الماضية. المسيحيون والأكراد والدروز لديهم قدرات تاريخية استثنائية في التقاط إشارات الخطر القادمة التي ستداهم المنطقة. هؤلاء صنفوا دائما كأقليات، ومع الحس الأقلوي، يأتي الاستشعار. وقبل مئة عام تقريبا كان العلويون “أقلية” لهذا كان لديهم ما يكفي من المبررات الاجتماعية والسياسية لكتابة البيان وتوجيهه إلى المندوب السامي الفرنسي. لكن إحساسهم كأقلية تآكل بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في سوريا، واستحواذ الرئيس حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار على السلطة بواجهة سياسية قومية عروبية طوّعت إلى حد كبير البلاد لتخدم سلطة العائلة العلوية. نسي العلويون أنهم أقلية، وها هم يدفعون ثمنا غاليا لذلك.
ثمة صدمة كبرى مما يحدث الآن. انتشرت الصور الكاريكاتيرية للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وهو يجلس إلى جوار الرئيس السوري السابق بشار الأسد ويحاول “الغش” وهما يؤديان امتحانا واحدا. الشرع كان ينسخ طرق الأسد. وأخطر ما صدر عنه هو اعتباره عمليات قتل المدنيين بالمئات على أساس طائفي أو على الهوية أمرا متوقعا. إلى هذا المستوى تصل الاستهانة في بلادنا بالأرواح. لا نريد أن نوجه أصابع اللوم، لكن من الواضح أن التعامل مع الموت في منطقتنا يتم كفقرة حياتية عادية. وأمام تصريحات الشرع ينعقد لسانك ولا تستطيع الرد. وإذا كنت محظوظا، فإنك تستدعي ما يقوله رجل دين مسيحي أو شيخ قبلي كردي أو زعيم درزي واعٍ، لتحاول أن تذكّر الشرع ومن معه بأن ما يحدث ليس قضاء وقدرا على الجميع أن ينساق إليه طائعا.
إلى أي مدى يستطيع الشرع المتحسب لاضطرابات ما بعد الاستيلاء على السلطة أن يحتوي قلق الأقليات؟ من الصعب الرد على هذا التساؤل. لأن من أبرز الردود التي يتم الترويج لها عبر مؤسسات إعلامية قريبة من هيئة تحرير الشام والرئاسة الانتقالية أن الدولة ستضرب وتبطش. بعض الإجابات التي سمعناها كانت معدة مسبقا ولم يلتفت من صاغها إلى القيام ببعض التحويرات كي لا تتطابق بين قائليها حتى وإن اختلفت المنابر.
هذا القلق الذي يسود الأقليات هو بالضبط ما تحتاجه إيران. إنها تصنع من مكونات الأقليات أغلبيتها الخاصة بأن تستقطب الخائفين وتقدم نفسها كحامٍ لهم. هناك كتلة بشرية شيعية معتبرة، مشكلتها بالطبع أن القائمين عليها إيرانيون وهذا ليس في صالح تحويلها إلى كتلة أغلبية. هذا ما يزيد الحيرة لدى من يدينون لها بالولاء خصوصا مع إصرار عمائم هذه الكتلة على أنهم فرس. ضع جانبا الحديث عن أنهم من آل البيت فهذه تفاصيل من نوع آخر يعرف من يذهب إلى إيران أن البلد إنما يعتز بفارسيته، بل ويزداد اعتزازا بتصنيف نفسه على أنه بدوره “أقلية”.
لم تنجح بالطبع تجربة الأقليات والتجانس في ما بينها في لبنان، إذا مارس حزب المستضعفين -أي حزب الله- غطرسته الخاصة ونسي وهو في ذروة الصراع أن عليه أن يكون جزءا من نسيج اجتماعي يتحمل الآخر ويتقبله بعيدا عن لغة التخوين أو التخويف التي يدفع اليوم ثمنها غاليا.
ما يقال عن حزب الله يمكن أن يقال عن التشكيلة الواسعة من ائتلاف الأحزاب والميليشيات في العراق. حجم الأخطاء التي مورست باسم أو بحق الأقليات كبير جدا، إلى درجة أن من الصعب الإتيان بتوصيف مختلف، يتقدم أو يتأخر. هذه ميليشيا شيعية تتحرك لمئات الكيلومترات بين جنوب العراق وشماله لتبسط سيطرتها على قرية مسيحية بدعوى حمايتها من تخويف داعش، في حين أن الجميع يعلم ما هو الهدف الحقيقي.
ما نعيشه في سوريا في هذه اللحظات الاستثنائية هو مرحلة خطرة جدا تلخص الفوضى التي تعمّد الإسلام السياسي بوجهيه السني والشيعي، صنْعها وتوزيعها على المنطقة ليحولها من قلق الأقليات على وجودها -وهو قلق مشروع- إلى رعب من مصير مظلم كما ترويه لنا المشاهد القادمة من مناطق الساحل السوري.
كاتب من العراق مقيم في لندن
العرب
——————————–
كيف يوقف الشرع إسقاط نظامه؟/ عبد الرحمن الراشد
10 مارس 2025 م
يَنْدُرُ أن نسمعَ عن نظامٍ انتصر في زمننا، وتعامل مع أتباعِه والمحسوبين عليه بسموٍّ وتسامح، مثلما شهدنا من أحمد الشرع في سوريا. في العراق، سَحلَ البعثيون الشيوعيين في الشوارع، والشيوعيون قبلَهم شاركوا في إبادةِ الملكيين، كما طاردَ الأميركيون فلولَ صدام، وسرَّحوا نصفَ مليونٍ محسوبين عليه. وفي سوريا نفسِها علَّقَ صلاح جديد المشانقَ للقوميين، وانقلب عليه حافظُ الأسد، ودفنَ الآلافَ من أهل حماة أحياءً عقاباً جماعياً على تمرد فئة منهم. خلفه ابنُه بشار، وحفرَ المقابر، وملأ السجون، وسَجلت الأممُ المتحدة في أرشيفها عشرات الآلاف من الصور التي هرَّبها طبيبٌ جنائي لتكون أكبرَ ملفٍّ في تاريخ القتل والتعذيب الموثق.
للأسف يطفو في الحروب الغلُّ والثارات، لكن للحق كانت رسالةُ الحاكم السوري الجديد فورَ دخوله دمشقَ طمأنةَ العلويين قبل غيرهم، وبقيةِ الأقليات والذين عملوا مع النظام مستثنياً الذين انخرطوا في عمليات القتل والتعذيب، ورأينا تقبلاً سريعاً للنظام الجديد.
التَّمرد المدفوع في الساحل ليس مفاجئاً، لقد كانَ متوقعاً بعد خلع نظامٍ هيمن نصفَ قرن. الانتقال يتطلَّب المعالجةَ بالحكمة والصبر والاستيعاب والتواصل، وليس كله يُدار بالقوة.
لكن هناك قوى لن تتوقَّف عن زعزعةِ الوضع، وشحن الشارع المتشكك ضد النظامِ الجديد، تلك التي فقدت سلطتها في الحكم، والأنظمة الإقليمية التي خسرت بسقوط الأسد، مثل نظام طهران وميليشيات في العراق و«حزب الله». هناك طوابيرُ متنوعة سُنيَّة ومسيحيَّة وعلويَّة وغيرها ساندت نظامَ الأسد، وفقدت امتيازاتها بسقوطه، وستعمل ضد دمشقَ اليوم. تسويق العداء للعلويين تحديداً يغذيه اتباعُ النظام المخلوع لتحريضِ نحو مليوني علوي للاصطفاف معهم، وحتى رموز في نظام الأسد الهاربِ مثل رامي مخلوف تبحث عن التصالح.
هذه الأزمة تختبر إدارةَ النظام الجديد. عندما كانَ ميليشيا مسلحةً في إدلب كانت مسؤوليته محدودةً حول ما كان يرتكبه مسلحوه. اليوم هو الدولة، وعليه ألا يجعلَ خصومَه يجرّونه إلى الخندق نفسه مع النظام البائد، ليصبح مثلَه طائفيّاً وعنيفاً يعالج بالسّلاح ما يعجز عنه بالسياسة.
سارعت معظمُ الدول العربية للتضامن مع حكومة دمشق، فكانت رسالة واضحة للشعب السوري مع من تقف. وهذا الموقف السياسي غاية في الأهمية ليسمعه المجتمع الدولي. لكنْ أمام دمشقَ طريق صعبة قد تمتدُّ فيها التحديات ضدها سنة وسنوات. لا يستطيع الشرعُ خوضَ حروب متعددة في الوقت نفسه، مثل مواجهة إسرائيل وإيران، ولم يسبق لدولةٍ أنْ فعلتها ونجحت. وبالتالي سيتعيَّن على حكومة الشرع فهمُ نيات، أو على الأقل توقعات إسرائيل، مثلاً في احتضانها الدروز في وجه ما وصفته بالاضطهاد ضدَّهم من قبل دمشق. على مدى نصف قرنٍ هادنت إسرائيل، بل حمت أيضاً نظامَ الأسدين إلى أن مَنحَ بشار الإيرانيين امتيازاتٍ بالوجود العسكري فانقلبت إسرائيل عليه. الشرع منذ بداية توليه السلطة مدركٌ هذه الثوابت الجيوسياسية، وقال إنه لا ينوي الدخول في معارك مع جيرانه، بما فيهم إسرائيل. ولا ننسى أنَّ كلَّ دول الطوق المجاورة لإسرائيل وقَّعت تفاهمات أو اتفاقيات سلام معها. الشرع مضطر إما إلى التفاهم مع إسرائيل وإما مع إيران، وسيستحيل عليه أن يواجه الذئبين معاً.
داخلياً، ندرك كيف تتنازع الرئيسَ الشرع دعواتٌ متضادة. سوريون ذاقوا المُرَّ من النظام البائد، يدعون للإقصاء والثأر الطائفي، وفئات لها مطالب مثل الفيدرالية الكاملة التي يصعب تحقيقها خلال فترة الحروب؛ لأنَّها تصبح مشاريع انفصال. هنا شخصية الرئيس حاسمة لردع رفاقه وخصومِه، ووقف الاشتباكات السياسية والفكرية والعسكرية.
في الأخير، سيكسب نظام الشرع المعركة ضد إسقاط نظامه، وسيتمكن من توحيد سوريا ومواجهة المتمردين عليه، لكن هل بمقدوره اختصار الوقت والخسائر؟
الشرق الأوسط
————————–
سوريا العادلة أفضل بيت لمكوناتها/ غسان شربل
10 مارس 2025 م
يزورك الخوفُ حين تتابع من بيروتَ ما يجري في سوريا. محاولةُ إعادة عقاربِ الساعة إلى الوراء بالغة الخطورة. كان سقوط نظام بشار الأسد مفاجأةً مدويةً باغتت حلفاءَه وخصومه معاً. في الداخل هناك من يرفض أن يصدّقَ أنَّ زمنَ السلطة والتسلط قد فرَّ من يده. وهناك في الخارج من يرفض التصالح مع فكرة أنَّ سوريا اختارت مصيرها وطريقَها ويصرُّ على إمكان استعادتها أو تفجيرها لإغراق سوريا الجديدة بالدم.
ومصير سوريا لا يعنيها وحدها. هذه كانت أمثولة العقد الثاني من هذا القرن. حين تندلع النارُ في العروق السورية يتعذَّر كبحُها واعتقالها داخل الأرض السورية. يضخُّ الاقتتال السوري – السوري التوترَ في عروق دول الجوار. يضخُّ أيضاً أمواجاً من اللاجئين. وإذا كانت سوريا الخائفة مشكلة فإنَّ سوريا المخيفة مأساة لشعبها ومحيطها. تفجير سوريا لا يقل خطورة عن إسقاط نظام صدام حسين. إنَّه أكبر من قدرة المنطقة على الاحتمال.
أخطر ما يمكن أن تصابَ به بلادٌ هو أن يحاول الحكم العزفَ على مخاوف مكوناتها كما حدث في سوريا تحت حكم الأسد. أن يقدّم الغلبةَ على العدالة والمساواة. وأن يلغيَ كلَّ الجسور والضمانات ليكون المرجع الوحيدَ الممسكَ بالأعناق والأرزاق. وأن يتحوَّل الدستور موظفاً صغيراً في القصر. وأن يغيبَ البرلمان إلا حين يستدعى للتصفيق. وأن يتركَ الناسُ في عهدة مطابخ الأمن وممارسات مافياوية فظة.
علمتني المهنة أن أخافَ عند المنعطفات. أخاف حين يتوارى الرجل الممسك بكلّ الخيوط وكلّ المصائر والأقدار. وحين يتبخَّر جيشٌ أقام طويلاً وأعطى للخريطة نكهةَ السجن. وحين يفرُّ قساة الأجهزة مخلفين وراءَهم جيشاً من الجثث وسلسلة من المقابر الجماعية. أخاف من غضب الناسِ حين يتحرَّكون رداً على الممارسات الوحشية التي ملأت آبار الكراهية حتى فاضت. وأخاف من الناس حين يقعون في قبضة باعة الأوهام فيرفضون تجرّع الخسارة وينزلقون إلى مغامرات تهدد سلامتهم وربما وجودهم.
أخاف من لاعبين خارجيين يتحيَّنون هذه الفرص للانقضاض على سوريا الجديدة. تتصرَّف إسرائيلُ وكأنَّ سوريا ساحة لا دولة. تتحدَّث عن أمن الدروز وتلمح أيضاً إلى أوضاع الأكراد. يوحي هذا السلوك برغبة إسرائيلية في تفجير سوريا وتقسيمِها أو دفعها على الأقل إلى العيش على نار حرب المكونات.
يحلم غيرُها أيضاً باستعادة ما فقد من نفوذ في سوريا بأي وسيلة ممكنة. قرار الرئيس السوري أحمد الشرع تشكيلَ لجنة تحقيق مستقلة في أحداث الساحل يقطع الطريق على الأطرافِ الساعية لاستغلال ما جرى للإيحاء بوجود حرب مكونات.
تكرَّرت في الأسابيع الأخيرة أسئلة مقلقة عن الدروز والأكراد والعلويين. والحقيقة هي أنَّ الجوابَ الوحيد على كل هذه الأسئلة هو أنْ لا حلَّ في سوريا غير الدولة السورية التي تتَّسع للجميع. تفجير سوريا مأساة لها ولجوارها. إغراق سوريا في حرب مكوناتٍ سيقلق لبنانَ والأردنَ والعراقَ وتركيا ودولَ المنطقة. والمسألة شديدة الخطورة.
استقرار سوريا مفتاحُه دولة تتَّسع لكل مكوناتها وعلى قاعدة العدالة والمساواة في ظل حكم القانون. كلُّ عودة إلى الماضي يجب أن تقتصر على التعلم منه لضمان عدم تكرار الأخطاء.
غداة سقوط نظام الأسد نجحت سوريا الجديدة في تفادي انهيارٍ كبيرٍ يدفعها إلى بحيرات الدم. وتصرَّف الرئيس الشرع بواقعية مركزاً على عودة سوريا إلى عائلتها العربية استعداداً للعيش في ظلّ الدستور وحكم القانون. حرص على الإيحاء أنَّ هاجسَ سوريا الأول هو إعادة الاستقرار والإعمار والعيش كدولة طبيعية بعيداً عن فرض نموذج يهزُّ ركائزَ وحدتها. أوحى أنَّ سوريا الجديدة لا تريد تصدير نموذجِها والتسلّل إلى داخل خرائط جيرانها.
أعطتِ الأحداثُ الدموية الحالية انطباعاً أنَّ الصراع على سوريا لم يتوقف في الداخل ولم يتوقف في الإقليم. أي محاولة خارجية لإعادة عقارب الساعة السورية إلى الوراء تنذر بتصعيد حرب الأدوار على المسرح السوري وحوله.
سوريا أصلاً دولة قلقة. لم تتمكَّن على مدار ستة عقود من استعادة الجولان الذي تحتلّه إسرائيل. لم تستطع أن تكونَ دولة طبيعية في الداخل. وكانت تشعر بالقلق من تركيا الإردوغانية بعباءتها الإسلامية والأطلسية. ومن العراق في ظلّ القيادة الصدّامية. ومن الاعتدال الأردني والمظلة الدولية التي تحميه. ومن لبنانَ الذي أفلت من وصايتها. سوريا «البعثية» القلقة تحوَّلت دولةً مقلقة حين راحت تحاول امتلاكَ أوراق مؤثرة على أمن جيرانها واستقرارهم وتحريكها. زادت قدرتها على الإقلاق بعدما صارت ساحة لميليشيات إيرانية المرجع والقرار.
الحل عودة سوريا إلى سوريا. عودة الدولة الطبيعية التي تحفظ الوحدة مع ضمان احترام الخصوصيات والاختلافات تحت سقف التعايش والقانون. وحدها الدولة الطبيعية تطوي صفحة سوريا القلقة وسوريا المقلقة. سوريا العادلة أفضل بيتٍ لمكوناتها.
الشرق الأوسط
————————–
4 مخاطر كبرى تهدد سوريا الآن.. ما هي؟/ كمال أوزتورك
10/3/2025
ربما تكون سوريا من بين الدول صاحبة التاريخ الأكثر مأساوية في الإقليم. فقد عاش شعبها 61 عامًا تحت وطأة قمع أسرة الأسد الوحشي، ثم قاسى خلال 13 عامًا ويلات الحرب الأهلية، حيث قتل أكثر من مليون شخص، وهُجِّر 12 مليونًا آخرون من ديارهم، وتحولت مدن بأكملها إلى أنقاض.
وأخيرًا، تمكّن أبناء الشعب السوري من الإطاحة بالطاغية الأسد والوصول إلى السلطة، لكن معاناتهم لم تنتهِ بعد. إذ لا تزال سوريا تواجه الاحتلال الإسرائيلي الفعلي، إلى جانب الاحتلال الأميركي لشمال البلاد عبر مليشيات PYD. كما أن العمليات الإرهابية التي تغذيها هاتان الدولتان أصبحت في الأيام الأخيرة من أبرز الأزمات التي تهدد استقرار الحكومة الجديدة في دمشق.
يبدو أن إسرائيل، بمجرد أن تكون جارًا لها دون أن تكون صديقًا، تفرض عليك هذا المصير. فلبنان وغزة ومصر جميعها عانت من أزمات لا تنتهي، ويعود ذلك، ولو جزئيًا، إلى كونها دولًا تحد إسرائيل.
وبالنسبة للإدارة السورية الجديدة، فإن أكبر التحديات التي تواجهها بطبيعة الحال هو الاحتلال الإسرائيلي وسياسته العدوانية، ولكن هناك مشكلات أخرى لا تقل خطورة. والآن لنلقِ نظرة عليها واحدةً تلو الأخرى.
1- الاحتلال الإسرائيلي وسياسات زعزعة الاستقرار
إذا كنت جارًا لإسرائيل، ولا تنفذ أوامرها بحذافيرها، فليكن الله في عونك. عليك أن تتوقع أسوأ أنواع الشرور التي ستُمارس ضدك. والواقع أنه حتى توقيع اتفاقيات معها، والسعي إلى التوافق، والانصياع لما تمليه، قد لا يكون كافيًا لإنقاذك. فمصر والأردن، وهما من الدول التي لا تشكل تهديدًا لإسرائيل، ووقعتا معها اتفاقيات، تواجهان اليوم تهديدًا بترحيل مليوني فلسطيني إلى أراضيهما.
مشكلة الشرق الأوسط الكبرى هي إسرائيل، وهذه المشكلة تؤثر على جيرانها بشكل مباشر. إن التاريخ حافل بالأمثلة التي تثبت هذا الواقع المرير. ولهذا، فإن إسرائيل تمثل أكبر تهديد للثورة السورية.
منذ اندلاع الثورة، قامت إسرائيل بقصف البنية التحتية العسكرية لسوريا، واحتلت أراضيها الإستراتيجية، ولا تزال توسع احتلالها حتى الآن.
وإلى جانب الاحتلال الفعلي، بدأت في الشهر الأخير بتنفيذ سياسة جديدة لزعزعة استقرار سوريا. فمن خلال إشعال المواجهات بين الطوائف المختلفة، كان لإسرائيل دور واضح في الأحداث التي شهدتها اللاذقية والساحل، حيث اصطدم الدروز والعلويون مع الحكومة في دمشق.
لم تحقق إسرائيل نجاحًا كبيرًا في استمالة الدروز كما كانت تأمل، لكنها حاولت تحريض العلويين عبر تحريك فلول جيش الأسد المجرم، الذين بدؤوا تنفيذ عمليات إرهابية.
ورغم أن هذه الهجمات لا تملك فرصة حقيقية لإسقاط الحكومة، فإن إسرائيل تدرك ذلك تمامًا. غايتها الحقيقية ليست إسقاط النظام، بل خلق فوضى تمنع استقرار سوريا وتعافيها.
يجب على حكومة دمشق أن تتخذ تدابير لمواجهة سياسات زعزعة الاستقرار التي تنتهجها إسرائيل. ومن بين القضايا الأكثر إلحاحًا، والتي يمكن أن تكون مدخلًا سهلاً للتدخل الإسرائيلي، هي قضية الأقليات.
2- الأقليات كخط صدع هشّ
كما رأينا خلال الشهر الأخير، فإن إسرائيل والولايات المتحدة وإيران جميعها تمتلك القدرة على التأثير على التوازن الهش للأقليات في سوريا. فسوريا، بتركيبتها المجتمعية المتنوعة، تحتضن عشرات المجموعات العرقية والدينية.
قد لا يكون الكلدان والإيزيديون والتركمان من الفئات التي يمكن استغلالها بسهولة، لكن هناك مجموعات أخرى أكثر عرضة للتأثر بالمؤثرات الخارجية، مثل الأكراد والدروز والعلويين.
في شمال سوريا، تسيطر قوات PYD المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل على مساحة شاسعة من الأراضي، بما في ذلك مناطق غنية بالنفط، وأراضٍ زراعية خصبة، ومصادر مياه رئيسية.
ورغم أن القائد المؤسس لحزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان دعا هذه المليشيات إلى التخلي عن السلاح، فإنهم رفضوا ذلك، لأنهم يتلقون أوامرهم من الولايات المتحدة وإسرائيل. وهذه القوة العسكرية، رغم أنها لا تمثل كل الأكراد السوريين، تشكل تهديدًا حقيقيًا للحكومة في دمشق.
التعامل مع هذه الأزمة لا يمكن أن يتم عبر مواجهة عسكرية مباشرة، لأن أي صدام مع PYD سيعني إعطاء إسرائيل مبررًا لتسريع احتلالها مناطق الجنوب السوري. لذا، يجب أن تتحرك الحكومة السورية وفق إستراتيجية متعددة المحاور:
أولًا، يجب أن تتخذ إجراءات عاجلة لضمان حقوق الأكراد الثقافية والسياسية، وتعزيز اندماجهم في المجتمع السوري، وتسريع العمل على الدستور الجديد لتحقيق ذلك.
ثانيًا، ينبغي العمل على عزل PYD جغرافيًا عبر قطع طرق الإمداد التي لا تزال مفتوحة أمامها، خصوصًا عبر العراق، بالتنسيق مع الحكومة العراقية.
ثالثًا، يجب أن تمتنع الحكومة السورية عن الدخول في مواجهة مباشرة مع تركيا إذا قررت الأخيرة التدخل ضد PYD، بل يمكنها حتى أن تساعد في ذلك بشكل غير مباشر، نظرًا لأن أنقرة تعتبر PYD تهديدًا أمنيًا رئيسيًا، وقد أعلنت أنها لن تتردد في التدخل عسكريًا إذا لم تتخلَّ هذه المليشيات عن السلاح.
أما بالنسبة للدروز، فرغم أنهم أظهروا في الأحداث الأخيرة عدم استعدادهم للانجرار إلى صراع مع دمشق، فإنهم لا يزالون يمثلون نقطة ضعف حساسة. لذا، يجب على الحكومة أن تضمن في الدستور الجديد ترتيبات تجعلهم يشعرون بأن الدولة السورية هي دولتهم، وتستجيب لمطالبهم بما لا يهدد وحدة البلاد.
3- الجرح الذي لم يلتئم: الصراع الطائفي
إحدى أخطر الكوارث التي خلفها حكم عائلة الأسد هي الطائفية التي زرعها في المجتمع السوري. فقد حكمت الأقلية العلوية البلاد لمدة 61 عامًا، مسيطرةً على 90% من السكان عبر دكتاتورية قمعية. وعندما اندلعت الثورة، حول التدخل الإيراني وحزب الله النزاع إلى حرب طائفية بكل معنى الكلمة.
العناصر الأكثر ولاءً للأسد من جيشه الملطخ بالدماء لم تختفِ تمامًا، بل تحولت إلى العمل السري، والآن، وبدعم من إسرائيل وإيران، بدأت تعود إلى السطح من جديد، ناشرةً الفوضى والإرهاب. في الأحداث الأخيرة، قُتل أكثر من 700 شخص في أعمال عنف، ورغم أن الحكومة تمكنت من احتواء الوضع، فإن الخطر لا يزال قائمًا.
إذا أرادت دمشق إبطال الورقة الطائفية التي تستخدمها إسرائيل وإيران، فعليها أن تضمن عدم تكرار أخطاء الأسد، وألا تكتفي ببناء نظام قائم على سيطرة الأغلبية السنية.
يجب أن تعمل على تحسين الظروف الاقتصادية للأقليات، وإشراك الشخصيات العلوية غير المتورطة في جرائم الأسد في الحكم، وتقديم ضمانات دستورية لحقوقهم، حتى لا تترك مجالًا لاستغلالهم من قبل القوى الخارجية.
4- الدستور والانتخابات: مفتاح الاستقرار أم خطر التأجيل؟
إن التغلب على جميع هذه المخاطر ليس أمرًا سهلًا بالنسبة لدولة خرجت حديثًا من حرب مدمرة، وتعاني من انهيار اقتصادي، ودمار في بنيتها التحتية، وفقدان كامل لقوتها العسكرية تحت الضربات الإسرائيلية.
بيد أن ما يمنح الحكومة السورية الجديدة فرصة للنهوض هو تمكنها من كسب دعم السعودية وقطر ومصر وتركيا في الوقت ذاته، فضلًا عن حصولها على تأييد كامل من الجامعة العربية ومعظم الدول الإسلامية. إن استثمار هذا الدعم يمكن أن يجعل عملية التعافي أسهل وأسرع.
لا يمكن تنظيم انتخابات في بلد نزح منه 12 مليون شخص، ولكن تأجيلها لمدة أربع سنوات قد ينطوي على مخاطر جسيمة. لهذا، فإن الشرط الأول لتسريع العملية الانتخابية هو الإسراع في اعتماد الدستور الجديد. حاليًا، هناك لجنة تعمل على إعداد الدستور، لكن لم يتم تحديد جدول زمني لإنجازه، ومع ذلك، فمن الضروري الإسراع في إتمام هذه العملية.
إن الطريقة الأهم لحماية البلاد من الانقسامات العرقية والطائفية تكمن في إدخال الإصلاحات الدستورية المناسبة، ولهذا السبب، ينبغي تكثيف الجهود لإنهاء هذه المهمة في أقرب وقت ممكن.
عودة اللاجئين المنتشرين في الخارج إلى سوريا فورًا ليست بالأمر الممكن حاليًا، والانتخابات مرتبطة جزئيًا بهذه المسألة. لكن من الممكن إيجاد حلول تتيح مشاركة هؤلاء اللاجئين في العملية الانتخابية، وذلك من خلال توفير آليات للتصويت خارج البلاد. ويمكن تحقيق ذلك في تركيا والأردن، حيث تتواجد أكبر نسبة من اللاجئين السوريين. ومن خلال هذه الإجراءات، سيكون من الممكن تقديم موعد الانتخابات.
أيام صعبة تنتظر السوريين قبل أن تنتهي معاناتهم الطويلة، لكن على الدول الإقليمية أن تدرك أن استمرار عدم الاستقرار في سوريا يشكل خطرًا كبيرًا عليها أيضًا. لهذا، يجب عليها تقديم المزيد من الدعم لسوريا. وقد كان الاجتماع الأخير الذي عُقد في عمّان مثالًا جيدًا على ذلك.
اجتماع عمّان كان بداية جيدة
إن توصل كل من تركيا والعراق وسوريا والأردن ولبنان إلى اتفاق بشأن محاربة تنظيم الدولة يمثل تطورًا بالغ الأهمية. فهذه هي المرة الأولى التي تقرر فيها دول إسلامية إنشاء كيان مشترك فيما بينها لمحاربة تنظيم الدولة، بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
وسيتم إنشاء مركز عمليات في سوريا، وستكون إدارته تحت إشراف الحكومة السورية، مما سيتيح محاربة التنظيم ضمن إطار إقليمي، دون الحاجة إلى تدخل القوى الغربية.
إن تأسيس هذا الكيان يشير إلى إمكانية إنشاء هياكل تعاون أخرى مستقبلًا، وهو ما يجعله مبادرة بالغة الأهمية. كما أن هذه الخطوة تعدّ تقدمًا إيجابيًا نحو تمكين سوريا من الوقوف على قدميها، وتقليل نفوذ الدول الغربية في المنطقة.
نأمل أن يكون هذا الاجتماع مجرد بداية لمزيد من التعاون في المستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
كاتب وصحفي تركي
الجزيرة
———————————–
“فلول الأسد” و”فلول نصرالله”/ أحمد عياش
09 مارس ,2025
سقط مئات القتلى وأعداد كبيرة من الجرحى في أحداث الساحل السوري خلال الأيام الماضية. وفتحت هذه الأحداث الدموية جروحاً عمرها عقود من الأعوام تعود الى حقبة دامت أكثر من نصف قرن حملت عنوان “النظام الاسدي”. ووصلت إلى الصدارة عبارة “فلول الأسد” لوصف الفريق الذي انغمس في قتال الإدارة الجديدة في سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع.
شكّل سقوط المدنيين العدد الأكبر من الضحايا ما دفع رامي عبد الرحمن مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى القول أمس إن عمليات القتل الواسعة النطاق في جبلة وبانياس ومناطق محيطة في منطقة تمركز العلويين في سوريا ترقى لأن تكون أشد أعمال عنف منذ سنوات في صراع أهلي مستمر منذ 13 عاماً.
امتد لهيب هذا الصراع الى لبنان تحت عنوانَين: الأوّل، يتّصل بنزوح آلاف السوريين من الطائفة العلوية من ديارهم في اتّجاه شمال لبنان. والثاني، تصريح عبد الرحمن نفسه بأنّ السلاح الذي وصل إلى معارضي الحكم الجديد أتى من لبنان، ما ألقى شبه تورّط “حزب الله” في هذا الأمر.
لاذ “الحزب” بالصمت طوال ساعات أمس قبل أن يصدر بياناً مساء أمس رداً على “بعض الجهات التي دأبت على الزجّ باسم “حزب الله” في ما يجري من أحداث في “بشكل واضح وقاطع هذه الادعاءات التي لا أساس لها من الصحة”. وهاجم ما أسماه “حملات التضليل التي تخدم أهدافاً سياسية وأجندات خارجية مشبوهة”.
يتمنّى اللبنانيون عموماً أن لا ينزلق “حزب الله” الى أتون صراع انفتح مجدداً في سوريا. لكن هذه التمنيات تقتصر على حسن النوايا فقط. إذ ما زال هناك الكثير من الشواهد أن بقايا مرحلة نظام الأسد الذي يمثل “الحزب” القسم الأكبر منها في لبنان، لم تتقبل بعد التغيير الذي حصل في سوريا ما أدى الى فرار الرئيس السابق بشار الأسد من دمشق في كانون الأول الماضي ونشوء حكم جديد برئاسة الشرع.
وأتت المقدمة الإخبارية للنشرة المسائية الرئيسية أمس لقناة “المنار” التلفزيونية التابعة لـ”الحزب” نموذجاً لحالة عدم تقبّل حلفاء الأسد في لبنان ما حدث في سوريا منذ 3 أشهر تقريباً. وجاء في هذه المقدمة: “بعنوان الدفاع عن النفس يتحرّك أهل الساحل السوري الواقعون تحت حرب تصفية عرقية ومذهبية كما يقول المرصد السوري لحقوق الانسان – المعارض لحكومات النظام السابق على الدوام. فمن أدخل سوريا وشعبها بهذه الدوامة؟ وأين شعارات الحكم الجديد عن وحدة البلاد واحترام التعددية وحقوق الأقليات؟ وأين رعاته الاقليميون والدوليون؟ وأين كل المنظمات الدولية من هذه المذبحة الحقيقية”؟
سيكون هناك متسعاً من الوقت لتقييم الأحداث الجديدة في سوريا. لكن ما لفت الانتباه الى أن قناة “الحزب” التلفزيونية استندت إلى ما قاله “المرصد السوري لحقوق الانسان – المعارض لحكومات النظام السابق على الدوام”. فهل سمعت القناة ما قاله مدير المرصد بالصوت والصورة حول وصول الأسلحة الى “فلول الأسد” من لبنان ما اشعل حرائق النزاع في الساحل السوري؟
لا يتحمّل “حزب الله” بالطبع المسؤولية عن امن الحدود الشمالية للبنان حيث انتقلت على ما يبدو الأسلحة عبرها في اتجاه الساحل السوري. ويدعو ما صرّح به مدير المرصد السوري السلطات اللبنانية للتحقيق في هذا الامر. وكان من الأجدى أن يطالب “الحزب” نفسه بهذا التحقيق كي ينفي عن نفسه شبهة التورّط في الصراع السوري كلياً. لكنه لم يفعل. ويبدو أنّه لن يفعل ذلك اليوم أو لاحقاً. وليس سرّاً القول إن “حزب الله” عندما يبلغ مرحلة رفض منطق السلاح في سوريا يعني ذلك أنه أصبح جاهزاً لمرحلة رفض السلاح في لبنان نفسه، الأمر الذي لم يحصل بعد.
أتى تصريح مدير المرصد السوري عبد الرحمن حول تسرّب السلاح من لبنان الى يد “فلول الأسد” بعد أيام على تصريح مستشار قائد الثورة للشؤون الدولیة علي أکبر ولايتي. وعلّق الأخير حول مستقبل سوريا، فقال: “لایمکن التنبّؤ بمستقبلها لكن الأدلة تظهر أن التحضيرات قد بدأت لتقسیم سوريا. كل مجموعة لديها مطالبات وادعاءات هناك. الأكراد والعلويون وداعش وهيئة تحرير الشام وآخرون موجودون، وهناك احتمال اندلاع حرب أهلية في أي لحظة. فضلاً عن أن الکیان الصهيوني احتل جزءاً من سوريا، وأن الولايات المتحدة موجودة هناك، فإن كل هذا يزيد من احتمالات التقسیم. ومؤخراً، عقد وزير الخارجية الإسرائيلي اجتماعاً مع الاتحاد الأوروبي وقال إن سوريا يجب أن يتم تقسيمها على أساس المحاور العرقية والدينية! إنّهم يسعون إلى تقسيم سوريا، ويجب على الشعب السوري أن یتوخي الحذر.”
تلقفت جماعة النظام الإيراني في لبنان فكرة “الحرب الاهلية في سوريا” . وراحت قبل اندلاع نيران الساحل السوري الى العزف على وتر هذه الفكرة. والقت هذه الحملة التي اطلقها ولايتي الكثير من التساؤلات حول سلوك طهران في سوريا التي خسرتها كقاعدة لنفوذها الإقليمي، وكذلك سلوك طهران في لبنان حيث باتت على وشك خسارة “درة التاج” أي “حزب الله” كذراع عسكري خارجي للحرس الثوري الإيراني.
لم تأت عبارة “فلول الأسد” من فراغ. ودلّت أحداث الساحل السوري ان العلويين دفعوا ثمن نظام الأسد في وقت كان كثير منهم من معارضيه. فهل سيأتي وقت لنتداول بعبارة “فلول نصرالله” أي “الحزب” الذي قاده الأمين السابق حسن نصرالله على مدى أكثر من 32 عاماً وفاخر بأنّه “جندي في جيش ولي الفقيه” الإيراني؟
تتفوق المخاوف على التطمينات بأن “حزب الله” بصدد الانتقال الى مرحلة العمل السياسي ويمتثل للقرار 1701. ويتمنى اللبنانيون مجدداً ان من ورثوا قيادة “الحزب” سيبذلون المستطاع كي لا نسمع عبارة “فلول نصرالله”.
نقلا عن نداء الوطن
———————————–
المقاربة “الغربية” لمسألة الأقليات السورية/ يكولاوس فان دام
الأنظمة الديكتاتورية هي بطبيعتها أنظمة أقلية
10 مارس 2025
قال المهاتما غاندي ذات مرة: “ينبغي أن تقاس الحضارة من خلال طريقة معاملتها للأقليات.”وهذا مبدأ سليم وجدير بالتقدير، بيد أن الواقع غالبا ما يؤكد لنا عكس ذلك. وفي الغرب، يركّز صناع القرار على الجانب المتطرف من الأمر، فبينما نراهم يولون الأقليات اهتماما أكبر بشكل غير متناسب، ولا سيما الجماعات غير العربية مثل الأكراد وبعض الطوائف المسيحية، نجدهم يتجاهلون الأغلبية في كثير من الأحيان، ومثال ذلك العرب السنة في سوريا.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، فحتى في داخل الأقليات العربية، نجد أن التعاطف انتقائي بشكل واضح، فعلى سبيل المثال، غالبا ما تمرّ محنة المسيحيين العرب الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي مرور الكرام في أعين الغرب. وفي حين أنه من الضروري منح الأقليات الدينية والعرقية حقوقا متساوية مع الأغلبية، لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب تجاهل الأغلبية نفسها.
فمع سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، انتهت هيمنة الأقلية العلوية، وعادت السلطة في المقام الأول إلى الأغلبية السنية – كما كان الحال في حقبة ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، إلا أن الحكام السنة الجدد المحافظين يختلفون اختلافا كبيرا عن أولئك الذين حكموا قبل حكم البعث، إذ يلعب الإسلاميون الآن دورا أكثر أهمية في الحكم.
يرى الكثير أن نظام الأسد كان نظاما يهيمن عليه العلويون، لكن هذا التوصيف غير دقيق. ففي حين كان للعلويين دور فعال في النظام، إلا أن النظام كان في حقيقة الأمر نظاما ديكتاتوريا يقوده علويون، ولكنه يضطهد جميع السكان. ولئن تمتعت النخبة العلوية بامتيازات خاصة، فإن ذلك كان رهنا باستمرار ولائها للنظام دون قيد أو شرط. وحتى الآن، يبدو التعاطف الغربي مع العلويين السوريين ضئيلا، على الرغم من أنهم أقلية، لارتباطهم إلى حد كبير، على الأرجح، بديكتاتورية الأسد السابقة، حيث يُنظر إليهم على أنهم متعاطفون معها.
أنظمة أقلية
إن الأنظمة الديكتاتورية هي بطبيعتها أنظمة أقلية – سواء أكانت نخبها الحاكمة تنبثق من مجموعة أغلبية، كما كان الحال مع السنة في سوريا ما قبل البعث، أو من أقلية شأنَ العلويين في عهد الأسد. وينطبق القول نفسه على صعود القيادات السنية في ظل “هيئة تحرير الشام”، وهي في الأصل جماعة إسلامية متشددة، فهؤلاء الحكام الجدد لا يمثلون السكان السنة في سوريا ككل. بل هم يشكلون فصيلا سنيا صغيرا ضمن الأغلبية السنية الأوسع.
إن الأيديولوجيات الإسلامية لجماعات مثل “هيئة تحرير الشام” الحاكمة حاليا وجماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا و”أحرار الشام” و”جيش الإسلام” تتعارض بطبيعتها مع مبدأ عدم التمييز الديني، حتى وإن لم تدرك هذه الجماعات التناقض في مواقفها. بل قد تبدي هذه الفصائل قدرا من التسامح تجاه الأقليات، لكن هذا لا يفي بتطلعات الأخيرة التي تنشد الاعتراف بها ومعاملتها كمواطنين متساوين. فالتسامح وحده لا يعني الاحترام المتبادل.
في هولندا، يعرب العديد من المدافعين عن الديمقراطية عن تعاطفهم الشديد مع أكراد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). ولكن قسد نفسها منظمة استبدادية للغاية وتفتقر إلى دعم معظم الأحزاب الكردية السورية الأخرى التي يزيد عددها عن 15 حزبا. ويمثل هذا الوضع تثبيتا معينا على دعم أقلية غير عربية مع التغاضي في الوقت نفسه عن ميولها الاستبدادية.
من جانب آخر، يوحي الخطاب المتسامح والبراغماتي والتصالحي للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، فيما يتعلق بالأقليات الدينية والمصالحة بين السوريين، بأن الرجل قد خضع لتحول عميق – من جهادي متطرف إلى زعيم معتدل وبراغماتي. غير أن من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، الاعتقاد بأن جميع أتباعه الإسلاميين داخل “هيئة تحرير الشام” يشاركونه هذه الرؤية. فالمرجح أن يكون معظمهم قد احتفظوا بمعتقداتهم الراديكالية ولا يزالون ينظرون إلى العلويين والأقليات الإسلامية الأخرى كـ “كفار” أو زنادقة. هذا التصلب الأيديولوجي هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الشرع يكافح من أجل فرض سيطرته الكاملة على القوات العسكرية لـ “هيئة تحرير الشام” العاملة في الميدان.
علاوة على ذلك، فإن “هيئة تحرير الشام” ليست الفصيل المسلح الوحيد على الأرض. فالعديد من الجماعات العسكرية المعارضة السابقة، مثل “الجيش الوطني السوري” و”أحرار الشام”، لا تزال نشطة، وإن سلم بعضها سلاحه رسميا إلى السلطات المركزية الجديدة. وحتى لو تمّ دمج هذه الجماعات في الجيش السوري الجديد، فإن أيديولوجيتها الإسلامية المتجذرة لن تتغير بالضرورة.
وليس من المستغرب أن يكون لدى العديد من مقاتلي المعارضة السابقين – بل وربما المدنيين أيضا – رغبة في الانتقام من العلويين الذين يعتبرونهم رمزاً لنظام الأسد المنهار، وهو ما يفسر جزئيا موجة التجاوزات الطائفية الأخيرة التي استهدفت العلويين، بمن فيهم أولئك الذين لم يدعموا النظام أبدا، بل كانوا في بعض الحالات من أشد معارضيه. ويبدو أن قوات “هيئة تحرير الشام” وحلفاءها، في سعيها لملاحقة ما يسمى بـ “جيوب المقاومة العلوية،” التي تربطها برموز النظام السابق المتهمين بارتكاب فظائع، قد وسعت نطاق تفويضها (إن وجد) لاستهداف العلويين على نطاق أوسع بكثير، وارتكاب العديد من الفظائع في هذه العملية.ويهدد هذا التصعيد بخروج الأمور عن السيطرة وإشعال فتيل الحرب الأهلية في مختلف أنحاء البلاد.
الطريق نحو الوحدة
لا تزال سوريا بعيدة كل البعد عن أن تكون تحت سيطرة حكومة أحمد الشرع بشكل حاسم، وينطبق الأمر نفسه على العديد من فصائل المعارضة العسكرية السابقة. والسؤال المحوري الآن هو ما إذا كان الشرع سيتمكن من فرض سلطته الكاملة على أتباعه وحلفائه.
صودر العديد من المنازل التي تعود إلى أشخاص يُزعم أنهم من مؤيدي الأسد، ما يذكر بممارسات نظام الأسد نفسه ضد الآخرين. كما تعرض كثيرون للفصل التعسفي من وظائفهم، بينما لا تصل الرواتب والمعاشات إلى مستحقيها. من الواضح أن استمرار الجوع والفقر والدمار لا يمكن أن يشكل أساسا للاستقرار. وفي الوقت نفسه، تعيش الأقليات الدينية في حالة من القلق العميق بشأن مستقبلها تحت حكم ذي توجهات إسلامية متشددة.
وكأن هذه الاضطرابات الداخلية لا تكفي، فها هي إسرائيل تسعى إلى تعميق الانقسامات الطائفية والإثنية داخل المجتمع السوري. ولئن لم تكن هذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى إثارة الفتن وإضعاف الدول المجاورة، جديدة على إسرائيل، بل نهج متجذر في سياستها منذ عهد طويل، فإن تكثيف جهودها في ظل نظام أحمد الشرع الجديد، لا سيما في جنوب سوريا حيث تحاول إسرائيل فرض شكل من أشكال “الحماية” على الدروز، أمر مثير للانتباه. وقد رددت وسائل الإعلام الغربية هذا الطرح دون تدقيق يُذكر، متجاهلة حقيقة أن دروز سوريا كانوا تاريخيا من أكثر القوميين العرب حماسة. ولهذا السبب، يُطلق على منطقتهم اسم جبل العرب بدلًا من اسمها السابق جبل الدروز. ويرفض الدروز في سوريا بشكل قاطع أي تعاون مع إسرائيل و”حمايتها” المزعومة، التي يرونها “قبلة الموت” غير المرغوب فيها.
يكمن الهدف الأساسي لإسرائيل في تغذية النزعات الطائفية والإثنية في طبيعتها كدولة تقوم على الهوية العرقية والدينية. فتشجيع التفكك في المنطقة يساعدها على تطبيع وجودها داخل الشرق الأوسط، مما يجعلها أقل غرابة في محيطها. ولهذا السبب، دعمت إسرائيل استقلال الأكراد في العراق وأيّدت تطلعات الموارنة في لبنان—ليس بدافع التعاطف أو الاهتمام الحقيقي، فهذه الجماعات ليست يهودية، وإنما لأن إضعاف الدول العربية المجاورة يعزز في النهاية موقف إسرائيل الاستراتيجي.
وسبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن أن أعلن، منذ عام 1977، أن على إسرائيل أن تضطلع بدور “حامي الأقليات” في الشرق الأوسط، في إشارة واضحة إلى مجموعات دينية وإثنية معينة، مثل الموارنة والدروز والأكراد.
—————————
كمائن جبلة… هل تشعل سوريا مواجهة تركية- إيرانية؟/ حايد حايد
المجموعة المتورطة في التصعيد لا تملك فرصة في الصمود
10 مارس 2025
في مقابلة تلفزيونية حديثة، وجه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان انتقادات حادة لاستراتيجية إيران الإقليمية، ولا سيما موقفها من السلطات السورية الجديدة، متهما طهران بالسعي إلى زعزعة استقرار سوريا، ومحذرا من أن مثل هذا التدخل قد يؤدي إلى اتخاذ إجراءات متبادلة، ملمحا إلى أن إيران نفسها قد تواجه تدخلا مماثلا.
تأتي تصريحات فيدان إثر الخسارة الكبيرة التي منيت بها إيران في سوريا، بفقدانها حليفها القديم بشار الأسد، وقُطعت العلاقات بين البلدين، ومنعت القيادة الجديدة في دمشق المواطنين الإيرانيين من دخول البلاد. وسرعان ما أعربت طهران عن استيائها، محذرة تركيا من الخطاب الذي قد يزيد من توتر العلاقات.
وقد بُذلت جهود من الطرفين لتخفيف التوترات، إلا أن موجة الهجمات التي استهدفت القيادة السورية الجديدة، خاصة في اللاذقية، معقل الأسد السابق، باتت اليوم تهدد بتصعيد الوضع من جديد. شكلت هذه الهجمات، التي يُعتقد أن وراءها فلول نظام الأسد، أشد أعمال العنف منذ سقوطه. وبالنظر إلى حجمها وتوقيتها، يشتبه الكثيرون، بمن فيهم فيدان، في تورط إيران في إثارة عدم الاستقرار.
وقد يكون للوضع الأمني الهش في سوريا دور محوري في رسم معالم العلاقات التركية الإيرانية في المستقبل. وإذا ما استمرت الاضطرابات، فلا شيء سيمنع امتداد التوترات بين أنقرة وطهران إلى ما هو أبعد من سوريا، مما يزيد من حدة التنافس بينهما في العراق وجنوب القوقاز، ويدفع بعلاقاتهما إلى مستوى جديد.
اشتباك دبلوماسي حذر
في 26 شباط/فبراير، وجه فيدان تحذيرا مباشرا إلى طهران، محذرا من أن أي محاولة لزعزعة الاستقرار في سوريا قد تؤدي إلى عواقب مماثلة، وقال: “إذا حاولتم خلق حالة من عدم الاستقرار في بلد آخر من خلال دعم مجموعة معينة، فقد تقوم دولة أخرى بالشيء ذاته معكم في المقابل”. ولم يتأخر رد طهران، ولكنه كان محسوبا، فحرصت على تجنب استخدام مصطلح “استدعاء” وأعلنت وزارة خارجيتها بدلا من ذلك عن أنها أجرت “محادثة” مع السفير التركي، عبرت خلالها عن استيائها من تصريحات فيدان ووصفتها بأنها “غير لائقة”، محذرة في الوقت ذاته من أن “التحليلات غير الدقيقة والتصريحات التصعيدية” قد تؤجج التوترات.
وردا على ذلك، نقلت تركيا شكاواها إلى السفير الإيراني في أنقرة. ولتجنب التصعيد على نحو مماثل، قامت وزارة الخارجية التركية بـ”دعوة” المبعوث الإيراني لإجراء مناقشات بدلا من استخدام مصطلح “الاستدعاء” الأكثر عدائية. وتشير التقارير إلى أن الدبلوماسيين الأتراك أعربوا عن قلقهم من انتقادات المسؤولين الإيرانيين العلنية لتركيا، وسلموا ملفا يوثق هذه التصريحات. كما انتقدت أنقرة بمهارة طهران لاستخدامها قضايا السياسة الخارجية كأدوات لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. وعلى الرغم من أن كلا البلدين قد أوضح موقفه جليا، إلا أنهما استخدما لغة دبلوماسية مدروسة لمنع مزيد من التصعيد.
تصعيد ميداني خطير
فيما كان كلا البلدين يسعى إلى تخفيف حدة التوتر، شنت جماعات من الموالين لنظام الأسد هجوما كبيرا ضد السلطات السورية الجديدة، في تأكيد لما حذر منه فيدان. واندلعت أعمال العنف في 6 مارس/آذار، عندما قتل مسلحون موالون لنظام الأسد ما لا يقل عن 13 عنصرا أمنيا في كمائن منسقة، وغارات على نقاط تفتيش عسكرية ومقرات عسكرية بالقرب من جبلة في ريف اللاذقية. واستولى بعض المقاتلين على مناطق عسكرية في جبال اللاذقية، لشن مزيد من الهجمات، بينما تحصن آخرون في مدينة جبلة.
وبعد وقت قصير من الهجوم، نشر أحد القادة العسكريين في النظام السابق شريط فيديو أعلن فيه عن تشكيل مجموعة مقاومة، أطلق عليها اسم “فوج درع الساحل” لمعارضة الحكومة الجديدة. وفي حين لم تكن هذه الهجمات هي الأولى من نوعها، فقد وقعت هجمات متفرقة منذ انهيار النظام قبل ثلاثة أشهر، إلا أن هذا الهجوم شكل أكبر تحدٍ أمني واجهته السلطات السورية الجديدة حتى الآن.
بؤرة للتوترات الطائفية
ينطوي التصعيد الأخير في جبلة على مخاطر جمة تتجاوز نطاق العنف المباشر. فالمجموعة الصغيرة المتورطة في هذا التصعيد لا تملك فرصة كبيرة في الصمود أمام القوة الهائلة التي أطاحت بنظام الأسد في 11 يوما فقط. فالخطر الحقيقي يكمن في التوترات الطائفية التي أشعلها هذا الهجوم، والتي لا تملك سلطات تصريف الأعمال في سوريا المقدرة على احتوائها، خاصة في ظل تفاقم الضائقة المالية وعدم الاستقرار وتدهور الخدمات العامة.
وتُفاقِم القضايا العالقة المرتبطة بالعدالة والمساءلة– بما فيها حالات انتهاك حقوق الإنسان بعد سقوط النظام– حالة السخط الشعبي، يمكن لها، إذا تُركت دون معالجة، أن تشتعل في أي لحظة وتتحول إلى أزمة أكبر.
ولعل هشاشة هذا الوضع هي التي دفعت فيدان إلى إطلاق تحذيره، إذ لا تزال مرحلة الانتقال في سوريا عرضة لتدخلات خارجية، سواء من إيران أو غيرها من القوى الفاعلة. وعلى الرغم من أن كثيرين، وأنا بينهم، يأملون أن تكون سوريا وشعبها قد وضعا الأسوأ وراء ظهريهما، فإن من السذاجة التغاضي عن إمكانية حدوث سيناريوهات أكثر قتامة، قد تدفع البلاد إلى اضطرابات أعم. لن يحدد ما سيقع تاليا مستقبل سوريا فحسب، بل سيعيد على الأرجح رسم المشهد الإقليمي برمته، وبخاصة العلاقات بين تركيا وإيران. فإذا ظهرت أدلة موثوقة تربط طهران بهذه الاضطرابات، فقد تتصاعد التوترات بين أنقرة وطهران بشكل حاد، ولا سيما أن تنافسهما لا يقتصر على الساحة السورية، بل يمتد إلى العراق وجنوب القوقاز، حيث يسعى كل منهما إلى توسيع نفوذه.
وبالنظر إلى هذه الحسابات، فإن اندلاع أزمة أمنية كبرى في سوريا قد يدفع أنقرة إلى رد فعل أكثر حزما، وقد لا يقتصر ذلك على الساحات المتنازع عليها، بل ربما يمتد داخل إيران نفسها. ولعل التحذير المبطن الذي وجهه فيدان، بأن “دولا أخرى قد ترد بالمثل،” أن يكشف عن المخاطر الأوسع التي قد تترتب على أي تصعيد جديد.
وفي نهاية المطاف، ستحدد الخطوات القادمة لكل من تركيا وإيران ما إذا كان هذا التصعيد سيبقى ضمن إطار المواجهة الدبلوماسية، أم سينزلق نحو صراع إقليمي أوسع.
المجلة
————————
حكّام دمشق وأقليّات باحثة عن “حماية”/ عبدالوهاب بدرخان
تحديث 10 أذار 2025
الأحداث الدامية في منطقة الساحل غرب سوريا كانت متوقّعة، ويُخشى ألّا تكون الأخيرة، فقد تتجدّد بأساليب مختلفة وتنتقل إلى مناطق أخرى، فهكذا تشتعل الفتن الأهلية، خصوصاً الطائفية.
قبل أن يبلغ مئة يوم في السلطة، سقط الحكم السوري الجديد في اختبار الدم، كما سقط النظام السابق منذ اللحظة الأولى لاندلاع الانتفاضة عليه. لكن هذا النظام استطاع البقاء أربعة عشر عاماً إضافية، أو زائدة، لأنه تجذّر عميقاً خلال أربعة عقود سابقة وربّى أجيالاً عدة من الأجهزة المدافعة عنه وشبكات المستفيدين منه، كما نسج علاقات مصالح وتعاون استخباري مع العديد من الدول فتولّت روسيا وإيران حمايته وتأجيل نهايته. أما الحكم الجديد فبدت خطواته الأولى قفزات في المجهول، أو في الظلام، إذ وجد نفسه أولاً يتسلّم دولة مفلسة تضافر النظام السابق والروس والإيرانيون على نهبها، وثانياً يتبادل انعدام الثقة مع قوى عسكرية وبنى أمنية وإدارية مفككة ومتهالكة، وبالطبع لم تكن هناك حلولٌ جاهزة ولا سحري
الأحداث الدامية في منطقة الساحل غرب سوريا كانت متوقّعة، ويُخشى ألّا تكون الأخيرة، فقد تتجدّد بأساليب مختلفة وتنتقل إلى مناطق أخرى، فهكذا تشتعل الفتن الأهلية، خصوصاً الطائفية، ما دامت هناك قوى خارجية مهتمّة بتأجيجها وبإفشال الحكم الجديد، لأنه ببساطة استُخدم في إطاحة النظام الأسدي، وقُدّمت له تسهيلات مذهلة (هروب كبير للجيش أمام قوات “هيئة تحرير الشام”) مكّنته من النجاح في مهمّته. أما أن يحكم ويقرّر مستقبل سوريا فيبدو أن هذه مسألة تتجاوزه. بقي ذلك “الهروب” شبه المبرمج لغزاً، لكن مواكبته بالانكفاء الروسي، كذلك الإيراني إلى العراق (مع مئات المليارات من الليرات السورية)، ربما يفسّر ما يحصل الآن.
كانت معالم الخريطة موجودة، وأعيد رسمها سريعاً أمام الحكّام الجدد: فبعد ساعات من “انتصارهم” على النظام راحت مقاتلات إسرائيل تغير على القدرات العسكرية السورية وتدمّرها، وشرعت قواتها البرّية تتوغل وتواصل التوغّل في الجنوب السوري، حتى إنها أعلنته منطقة ممنوعة على جيش السلطة. ثم أعلن بنيامين نتنياهو أن إسرائيل معنيّة بحماية الدروز الذين لم يطلبوا ذلك/ أو طلبته “فئة” قليلة منهم، وقبل ذلك أدلى نتنياهو بكلام مماثل في شأن الكرد السوريين، ملوّحاً ببديل إسرائيلي من الحماية الأميركية إذا قررت واشنطن سحب قواتها… لم يستجب الكرد والدروز طلب دمشق مدّ سلطتها إلى مناطقهم وأرجأوا تسليم سلاح مقاتليهم أو انضواءهم في جيش سوري جديد إلى أن تصبح هناك دولة يمكن التعامل معها، ودستور يضمن حقوقهم، باعتبارهم من الأقليات التي طلبت القوى الدولية مشاركتها في أيّ حكم مقبل…
بقيت الأقلية العلوية، المتركّزة خصوصاً في الساحل وأريافه، ولم تأتِها عروضٌ علنية لحمايتها، لكنّ عروضاً سرّية أسهمت في نصب كمائن جبلة وطرطوس واشتباكات اللاذقية وبانياس وغيرها، مرفقة بإعلان بضع ميليشيات عن وجودها وتحرّكها لقتل عشرات من عناصر الأمن، وجاء ردّ دمشق بجلب تعزيزات من مختلف المناطق ما لبثت أن انتقمت بمجازر ضد المدنيين تحديداً. في نهاية المطاف حققت ميليشيات فلول النظام الأسدي ما أرادت، إذ أشعلت الساحل وأوقعت “النظام الجديد” في الفخّ وأثبتت لإيران أنها تستطيع الاعتماد عليهم لاستئناف تدخّلها في سوريا. وكان هتاف متظاهرين بطلب “حماية روسيا” ذا دلالة، كذلك لجوء عائلات علوية إلى قاعدة حميميم، فثمة مصلحة لروسيا في ما يحصل، مع افتراض أنها لم تشارك مسبقاً في تشجيعه، ما دامت تحاول انتزاع قرار من دمشق للبقاء في قاعدتيها.
لم يخطئ الحكام الجدد في إعلان “وحدة سوريا والسوريين” أولى أولوياتهم، لكنهم أخطأوا في اعتبار أن مجرّد إسقاط النظام الأسدي كافٍ وحده لتحقيق تلك “الوحدة”. ففي اليوم التالي لهروب بشار الأسد تغيّرت الأولويات وصار عليهم أن يواجهوا الهمّ الاقتصادي الذي سبقهم في دفع النظام إلى نهايته، لكنهم حتى الآن لم يتوصّلوا إلى حلول. ثم إن قراراتهم بتسريح الآلاف من وظائفهم أسهمت في “البطالة المسلحة” التي تحوّلت بدورها إلى أخطر تهديد للحكم. وبموازاة ذلك لم تُظهر خطواتهم (الحوار الوطني، لجنة الإعلان الدستوري، بعض التعيينات…) استعداداً لتخطّي جمودهم الأيديولوجي والانفتاح على ذوي الخبرة والتجربة في إدارة الدولة، كما أن التواصل مع الكرد والدروز والعلويين وغيرهم لم يبنِ ثقة ولم يُحدث اختراقاً في نظرة الآخرين إليهم.
مع بداية الحكم الجديد بدأت المطالبة المحقّة برفع العقوبات الغربية، لكونها فُرضت على النظام السابق لإضعافه لكن الشعب حصد أضرارها ولا يزال. الدول الأوروبية خفّفت العقوبات، ودول عربية عدة ترغب في الدعم، إلا أن غموض الموقف الأميركي يقيّدها جميعاً. بقيت المساعدات في الإطار الإنساني فلا تسهم في تنشيط الاقتصاد أو في تفعيل الدولة. الجميع يراقب أداء حكام دمشق ويسجّل نقاطاً لهم أو عليهم لقياس مدى تقدّمهم نحو الاستقرار، ولا شك في أن أحداث الساحل لم تعزز شرعيتهم في الداخل ولا الاعتراف بهم في الخارج.
النهار العربي
————————
مستقبل سوريا على المحكّ على وَقع احتدام الصراع التركي-الإسرائيلي/ سميح صعب
تحديث 10 أذار 2025
أحداث الأيام الأخيرة، هي أكبر تحدٍّ للسلطات السورية الجديدة التي سبق أن وعدت بالانتقال من منطق الفصائل المسلحة إلى منطق الدولة والمؤسسات. وأعداد الضحايا تشير إلى سياق يتجاوز “الانتهاكات الفردية” بحسب البيانات الرسمية، إلى ارتكاب “مذابح طائفية”.
”
أبرز اشتعال الساحل في سوريا، أن هذا البلد لا يزال تحت تأثير الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2011، وأن خطر التفتّت إلى دويلات على أساس ديني وعرقي، لا يزال ماثلاً، ويتغذى من احتدام الصراع على النفوذ بين تركيا وإسرائيل.
أحداث الأيام الأخيرة، هي أكبر تحدٍّ للسلطات السورية الجديدة التي سبق أن وعدت بالانتقال من منطق الفصائل المسلحة إلى منطق الدولة والمؤسسات. وأعداد الضحايا تشير إلى سياق يتجاوز “الانتهاكات الفردية” بحسب البيانات الرسمية، إلى ارتكاب “مذابح طائفية” وفق وصف مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن.
ما جرى في اللاذقية وطرطوس، يجعل الأنظار مصوّبة أكثر إلى مستقبل الأقليات في ظلّ النظام الجديد، وبديهي أن تتعزز في مثل هذه الحال المطالبات بحكم فيدرالي، من طوائف وعرقيات معينة.
والأدهى من كل ذلك، أن إسرائيل التي تدّعي حماية الأقليات الدينية والعرقية، ستجد في هذه الأحداث تبريراً لادعاءاتها ولتوسيع احتلالها في الجنوب السوري. أما تركيا فتقف خلف الحكم الجديد، وترى أنه نجح في إجهاض محاولة انقلابية منسّقة من فلول النظام السابق.
تقول إسرائيل صراحة إن سوريا يجب أن تكون دولة فيدرالية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وجّه تحذيراً مباشراً إلى دمشق، من مغبّة دخول قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة، إلى جرمانا في ضواحي العاصمة الأسبوع الماضي.
أما الغرب، فوضع مسألة تشكيل حكومة سورية “شاملة” لكل المكوّنات السورية، معياراً للتعامل مع النظام الجديد. وكانت أوروبا أكثر تساهلاً من أميركا التي لم تبح بعد بسياستها حيال دمشق. ورفع الاتحاد الأوروبي معظم العقوبات التي كان قد فرضها على نظام الأسد، فيما العقوبات الأميركية الرئيسية وبينها “قانون قيصر” لا تزال سارية.
انفلات العنف الطائفي في جبلة وبانياس ومناطق محيطة في منطقة تمركز العلويين في سوريا، الذي يرقى لأن يكون أسوأ أعمال عنف منذ سنوات في صراع أهلي مستمر منذ 13 عاماً، وفق المرصد السوري، سيكون موضع تمحيص دقيق من واشنطن، وقد يؤخر رفع العقوبات الأميركية. هذه العقوبات التي تحول حتى الآن، دون إقدام العديد من الدول على تقديم المساعدات اللازمة لسوريا، وتزيد من الضائقة المعيشية للسوريين. وحدها روسيا تجرّأت على إرسال كمّية من النقد إلى دمشق قبل أيام، لأن موسكو لا تلتزم العقوبات الأميركية.
وفي الداخل، بعثت الأحداث برسالة غير مطمئنة إلى أكراد سوريا، الذين يرفضون العودة إلى الحكم المركزي. ومعلوم أن “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) رفضت حلّ نفسها والاندماج في الجيش السوري الجاري إنشاؤه، على رغم الضغوط التركية في هذا المجال، واستصدار أمرٍ من الزعيم التاريخي لـ”حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان المسجون في تركيا، “لكل المجموعات” الكردية بإلقاء السلاح. وتسعى أنقرة إلى سحب دعوة أوجلان على “قسد”، الأمر الذي رفضه قائد التنظيم مظلوم عبدي، رفضاً مطلقاً.
لا يكفي إلقاء اللوم على تدخلات خارجية أو على العناصر “غير المنضبطة”، لتبرير القتل الطائفي، فيما السلطات الجديدة، على رغم حداثة وجودها في الحكم، مطلوب منها إثبات أنها تبني دولة وتلتزم العدالة الانتقالية.
والفوضى في سوريا لا تهدّد سوريا وحدها، بل تهدّد الجوار أيضاً، على غرار ما حدث بعد 2011، عندما تأثر لبنان والأردن والعراق وتركيا بانفجار الحرب الأهلية التي تسبّبت، عدا عن مئات آلاف الضحايا، بتشريد نحو 6 ملايين سوري، إلى هذه الدول.
كل ذلك يضع دمشق أمام تعقيدات جديدة، ويثير المزيد من التساؤلات حول أيّ مستقبل ينتظر سوريا؟
النهار العربي
—————————–
أخطاء الدولة قبل المجزرة وبعدها.. الساحل السوري في اختبار الدم والسياسة/ رائد وحش
10 مارس 2025
لم تدرك الدولة الجديدة في سوريا أن القصور السياسي في البناء الديمقراطي للدولة، والتأخر في إطلاق مسار العدالة الانتقالية، يقود بشكل حتمي إلى تفجر مستمر للعنف والانقسامات.
وما حدث في الساحل من مجازر وانتهاكات لم يكن مجرد مواجهة بين الدولة ومجموعة مسلحة تنتمي للنظام السابق وحسب، بل كان اختبارًا لشرعية الحكومة الجديدة، ولقدرتها على إدارة بلد مثخن بالجراح والانقسامات. واليوم، بينما تتصاعد المطالبات بالمحاسبة وتحقيق العدالة، يبقى السؤال الأهم: هل ستتعلم الدولة من أخطائها، أم أنها تسير نحو إعادة إنتاج أخطاء الماضي، لكن بوجوه جديدة؟
إهمال أمني وقرارات سياسية خاطئة مهدت للمجزرة
يعتقد المخرج والكاتب نضال حسن أن المجازر لم تكن مفاجئة، بل كانت نتيجة طبيعية لفشل الدولة الجديدة في تقديم رؤية واضحة للعدالة الانتقالية، وترك بعض المجرمين السابقين دون محاسبة. يقول حسن في حديثه لـ”الترا سوريا”: “إذا ما نظرنا إلى الأشهر الأخيرة التي تلت سقوط النظام وانهيار قوى الجيش والأمن، بالتوازي مع اعتقال بعض من أهم المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها النظام السابق خلال أربعة عشر عامًا، نلاحظ أنه لم تجرِ محاكمة أي منهم حتى الآن، أو على الأقل لم تصدر الحكومة الحالية أي بيان يوضح سير عمليات المحاكمة العادلة، مما أثار تساؤلات حول جدية المساءلة والعدالة”.
وأضاف: “ما شهدناه في الأسبوع الماضي من توترات في مدينة جرمانا، ومعارك في الصنمين في ريف درعا مع فصائل عسكرية متمردة مؤشرات على ذلك. وهو الأمر الذي دفع بالكثير من المتورطين في الدم السوري للانسحاب والتمركز في بعض مناطق الساحل، لتجميع أنفسهم وبدعم من قوى إقليمية، في محاولة منها لخلق الفوضى وتقويض كل محاولة للتهدئة التي لا يمكن بغيرها المضي نحو بناء الدولة السورية الجديدة”.
وفي السياق نفسه، يقول الكاتب عمار ديوب: “الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة بدأت أولًا بعدم تمركز كافٍ للقوات في الساحل، مما جعل السيطرة على المنطقة سهلة وسرّع من عملية التمرد والاستيلاء على بعض المناطق، خاصةً أنها مناطق حساسة. كان من المفترض أن يكون هناك عدد أكبر من القوات لضمان السيطرة الأمنية”.
ويضيف ديوب: “وصلت تقارير إلى الإدارة تفيد بأن بقايا نظام الأسد، وهم المجرمون الفارون، يتحركون ويخططون للقيام بعمليات، لكن الإدارة لم تتعامل مع هذه المعلومات بالجدية المطلوبة، مما أدى في النهاية إلى الانفجار الأمني. وهذه كانت مشكلة كبيرة، حيث كان من الواجب ملاحقة هؤلاء المجرمين وإحالتهم إلى المحاكم، بدلًا من تركهم في الجبال، وهو ما شكل خطأ استراتيجيًا خطيرًا”.
ويلفت ديوب إلى أن هذا التهاون يبدو وكأنه مقصود، حيث إن: “انفجار مشكلة في كل فترة يؤدي إلى التفاف شعبي حول أحمد الشرع”.
سياسات إقصائية وتهميش أشعل التوتر في الساحل
لعبت السياسات الإقصائية دورًا أساسيًا في تفاقم التوترات في الساحل السوري، إذ شملت عمليات الفصل الجماعي للموظفين من مؤسسات الدولة، واستبعاد شخصيات مؤثرة من المشهد السياسي والأمني، بالإضافة إلى عدم إشراك الكل السوري في عملية صنع القرار. وعزز هذا النهج من الشعور بالتهميش لدى بعض الفئات، خاصةً في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق.
ويضاف إلى ذلك غياب الإعلام الرسمي عن المشهد، مع غياب الضبط لتصاعد الخطابات التحريضية، ما مثّل فشلًا أوسع في المرحلة الانتقالية.
وفي هذا السياق، يلفت صحفي مقيم في طرطوس (طلب عدم ذكر اسمه)، الانتباه إلى جانب مهم لم يُسلط عليه الضوء بشكل كافٍ، وهو: “الإحباط الذي يشعر به العديد من العلويين في الساحل، نتيجة التسريح الجماعي من الوظائف، والاعتقالات الواسعة دون توضيح، إلى جانب انتشار خطاب كراهية صريح ضدهم”، وهذه العوامل تساهم في جعلهم أكثر عرضة للانخراط في العنف، بحسب تعبيره.
من جانبه، يرى عمار ديوب أن جذور هذه التوترات تعود إلى غياب الخطوات التقريبية من قبل السلطة الجديدة باتجاه الشعب، حيث اعتمدت الدولة “سياسات استئثارية وتفردية”، بحسب وصفه، في إدارة الاقتصاد وسوق العمل وإعادة هيكلة الجيش، ما أدى إلى حالة تذمر شعبي. وقام فلول النظام باستغلال هذا التذمر لإحداث حركة تمرد في الساحل، سواء بهدف الحصول على حكم ذاتي، أو عفو عام دون محاسبة، أو حتى لطلب تدخل دولي. وفي المقابل، لم تقدم الإدارة الجديدة أي حلول فعلية لمعالجة هذه الإشكاليات، مما زاد من الفجوة بينها وبين الناس، بحسب ديوب.
أما نضال حسن فيرى أن هناك إهمالًا للوضع الداخلي عمومًا، فـ”الحكومة المؤقتة لم تعط الاهتمام الكافي للوضع الداخلي في سوريا، بل شهدنا حراكًا واهتمامًا في السياسة الخارجية ومشاركة أعضاء الحكومة في مؤتمرات دولية، كان آخرها مشاركة الرئيس أحمد الشرع في مؤتمر القمة العربية”.
ما بعد المجزرة: الفوضى والارتباك بدلًا من المحاسبة
لم تكن المجزرة مجرد كارثة إنسانية، بل مثّلت اختبارًا حاسمًا لقدرة الدولة الجديدة على إدارة الأزمات واتخاذ القرارات المصيرية. إلا أن استجابتها جاءت متأخرة وغير منظمة، مما كشف عن خلل عميق في آليات الإدارة الأمنية والسياسية. وبهذا المعنى، لم يكن الإخفاق في منع المجزرة هو الخطأ الوحيد وحسب، بل امتد إلى طريقة التعامل مع تداعياتها، حيث اتسم الموقف الرسمي بالتردد والغموض، ما أدى إلى تفاقم مشاعر الغضب وفقدان الثقة، وفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والانقسامات.
ورغم أن الحجم الحقيقي للمجازر لم يُكشف بالكامل بعد، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي السورية امتلأت بمنشورات نعي لعائلات فقدت الكثير من أفرادها، إلى جانب الحديث عن مفقودين ومقابر جماعية. وبدلًا من الاعتراف بحجم الكارثة، اكتفت الحكومة بالتعامل مع التمرد بوصفه “حالة معزولة”، وفق ما أشار إليه عمار ديوب، الذي أضاف أيضًا أن رد الفعل الرسمي لم يكن فقط بطيئًا، بل جاء منحازًا وغير دقيق.
وبحسب قوله: “حتى خطاب السيد أحمد الشارع تضمن نوعًا من التعبئة والتجييش، حيث قال: شكرًا لمن وقف معنا في هذه المعركة، وما شابه ذلك، بينما كان من الضروري أن يكون الموقف الرسمي واضحًا في رفض أي شكل من أشكال التجييش الطائفي. وهذا أدى إلى أن يُفهم بأن الصراع هو بين السنة والعلويين، وهو خطأ كبير. كما أن الكلمة لم تُوضح بصرامة أن الحكومة ستحاسب مرتكبي الانتهاكات، ولم تصدر تصريحات قاطعة تؤكد أن المسؤولين عن الجرائم سيُقدمون إلى المحاكم، وهو ما كان ينبغي أن يحدث فورًا بعد المجازر. فكيف يمكن للشعب أن يثق مجددًا بالحكومة إذا لم تكن هناك محاسبة حقيقية؟”.
في محاولة لاحتواء الأزمة، تم الإعلان عن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول أحداث الساحل، كما قام الرئيس أحمد الشرع بالاتصال بالناشطة المعارضة هنادي زحلوط لتعزيتها بمقتل إخوتها الثلاثة. لكن هذه الإجراءات بدت وكأنها تتحرك في اتجاه مختلف عن نبض الشارع. فعلى الأرض، تسود مظاهر الاستقطاب، إذ هاجم حشد شعبيّ وقفة تضامنية مع ضحايا القتل والانتهاكات الساحل في ساحة المرجة الدمشقية، معتبرًا أنها هؤلاء النشطاء امتداد لفلول النظام السابق. وامتد هذا العداء إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعرض معارضون معروفون لحملات تخوين وتهديدات، فقط لأنهم تحدثوا عن الحدث أو حاولوا توضيح ما جرى. ومن بين هؤلاء الصحفي عامر مطر، الذي كتب معلقًا على حجم التهديدات التي تلقاها: “من المخجل والمؤلم أن يُجبر الإنسان اليوم على تذكير الناس باعتقاله السابق لتبرير حقه في التظاهر!”.
وإن كان هناك ما تكشفه هذه الوقائع فهو أزمة عميقة تضع الدولة الجديدة موضع السؤال: هل تعكس طموحات السوريين في الحرية والمواطنة، أم أنها تعيد إنتاج القمع بأدوات مختلفة؟
دروس قاسية لمستقبل غامض
لا يمكن النظر إلى هذه المجازر بوصفها كارثة عابرة، بما أن السوريين اعتادوا على الكوارث إلى حد عجيب، بل يجب التعامل معها بوصفها لحظة كاشفة تعرّي هشاشة الدولة الجديدة، وتظهر عجزها عن ضبط الفوضى قبل أن تتحول إلى دماء.
ولعل أهم دروس هذه التجربة هو أن الطائفية ليست حلًا، بل هي جوهر المشكلة، وكلما استُخدمت كأداة سياسية أو أمنية زادت احتمالات الانهيار الداخلي. كما أن تعامل الدولة مع هذه المجازر جعلها تبدو أقرب إلى ميليشيا منفلتة منها إلى سلطة شرعية، مما قوض صورتها داخليًا وخارجيًا، وسينعكس على عدد من الملفات الهامة التي تعني السوريين والقيادة الجديدة، وفي مقدمها رفع العقوبات الاقتصادية. وفي هذا الصدد أشار الصحفي زاهر عمرين في منشور على فيسبوك له إلى ذلك بالقول: “واقعيًا: لقد دَفَنَ المرتزِقة في ثلاث ساعات كل ما حصده أسعد الشيباني من إنجازات دبلوماسية في ثلاثة أشهر. لا شيء سيوقف الصحافة الأجنبية الآن. للأسف وعود رفع العقوبات بسرعة صارت من الماضي، لأن الدولة فعليًا، لم تتصرف كدولة”.
رؤية للخلاص: العدالة أو السقوط في دوامة الدم من جديد
لم يعد السوريون بحاجة إلى وعود فضفاضة أو شعارات جوفاء عن العدالة والمواطنة، بل إلى خطوات حقيقية تثبت أن الدولة الجديدة ليست إعادة إنتاج لإخفاقات الماضي، وتؤكد أن تحقيق الاستقرار لا يكون إلا عبر مشروع وطني واضح المعالم، يقوم على المحاسبة العادلة، لا على الانتقام، وعلى إشراك الجميع، لا إقصاء أحد.
ورغم ادعاء الدولة الجديدة بتبنيها لهذه المبادئ، إلا أن عمار ديوب يرى أن ما تم اتخاذه حتى الآن لا يرقى إلى مستوى الرؤية الوطنية الشاملة، بل يتأرجح بين الارتباك والتأثر بأجندات فئوية ودينية، ويؤكد أن “أي خطوة جديدة يجب أن تكون عامة وشاملة لكل المواطنين، دون أي شكل من أشكال المحاصصة أو التمييز”.
لكن كيف يمكن لسوريا أن تخرج من دوامة العنف والانقسام؟ الإجابة تكمن في العدالة الانتقالية، لا كحبر على ورق، بل كمشروع تطبقه الدولة بصرامة تضمن من خلاله أن المحاسبة فردية، لا طائفية، وأن الجرائم لا تُنسى، لكنها لا تتحول إلى ذريعة لحروب جديدة.
نضال حسن يشدد على أن العدالة ليست مجرد قضية قانونية، بل ركيزة أساسية في بناء سوريا المستقبل، قائلًا: “تطبيق العدالة ليس في صالح جماعة أو فئة بذاتها، إنما من أجل بناء دولة الحرية والمواطنة التي بذلنا كسوريين الكثير من التضحيات لأجل بلوغها”.
تحقيق العدالة شرط وجودي لبقاء سوريا موحدة وقادرة على تجاوز ماضيها الدامي. ودون ذلك، ستبقى البلاد أسيرة للأحقاد المتراكمة، ورهينة لدورات انتقام لا تنتهي، حيث يصبح الثأر بديلًا عن العدالة، والفوضى بديلًا عن الدولة. المسار واضح: إما قصاص عادل في إطار قانوني يضمن حقوق الجميع، أو غرق جديد في دوامات التصفية المتبادلة، حيث الجميع خاسر.
الترا سوريا
—————————-
سوريا وثقافة المجزرة/ حسن عباس
الاثنين 10 مارس 202501:32 م
يتساءل البعض عن الأسباب المباشرة التي قادت إلى ارتكاب مجازر بحق علويي الساحل السوري. قسم يتحدث عن مؤامرة إيرانية وثانٍ عن مخطط أميركي- إسرائيلي وثالث عن مكيدة روسية… ولكن هل هذا هو السؤال الأساسي الذي ينبغي طرحه الآن؟ هل هنالك ما يمكن أن يبرر المجازر التي تستهدف مدنيين مسالمين؟
ينجذب كثيرون إلى تركيز تفكيرهم على الأسباب المباشرة التي أدت إلى اندلاع اشتباكات بين حفنة من المجموعات العلوية المسلحة وبين عناصر من قوة الأمن العام التابعة للنظام السوري الجديد. أسبقية البيضة على الدجاجة أو عكسها حاضرة دائماً في تفكيرنا بالأسباب والمسببات.
ويسقط كثيرون من هؤلاء في فخ تبرير المجازر لأنهم ركّزوا على البحث عن إجابات عن سؤال هامشي في لحظة معيّنة. فالسؤال الأساسي الآن ليس كيف بدأت الاشتباكات بين مسلّحين. السؤال الآن هو: كيف ولماذا تمددت الاشتباكات لتتحول إلى غزوة يشنّها عسكريون مسلحون ومنظَّمون على قرى علوية، ويرتكبون خلالها مجازر جماعية بحق مدنيين عُزّل، ترقى إلى التطهير العرقي.
المَقْتلة الطائفية
يمكن أن نتحدث إلى ما لا نهاية عن أسباب الاشتباكات التي بدأت مساء الخميس، في السادس من آذار/ مارس الحالي. ولنفترض وجود مؤامرة ضد النظام السوري الجديد، بماذا تفيدنا بالضبط هذه الفرضية في تحليل ما يجري؟ هل الحدث المحوري اليوم هو الاشتباكات التي تقع بين عصابات من فلول نظام الأسد وبين قوات عسكرية من النظام الجديد، وحدث مثلها الكثير منذ سقوط نظام الأسد؟ أم الحدث المركزي هو المَقْتلة الطائفية التي تقع أمام أعيننا مخلّفة مئات الضحايا من العلويين وقرى محروقة يحترق معها مستقبل سوريا؟
ما جرى ولا يزال يجري في سوريا يطرح علينا ضرورة التفكير في كراهية “الآخر” المنتشرة بين فئات واسعة من مجتمعاتنا، وفي ثقافة الانتقام، وفي ثقافة المجزرة المعششة في رؤوس كثيرين منّا، وفي ثقافة تبرير المجازر الجاهزة حتى قبل ارتكاب المجازر وهو أمر يدلّ إذا دلّ على هامشية السؤال عن الأسباب المباشرة للأحداث.
لم يبدأ كل شيء مساء الخميس
علينا العودة إلى تاريخ أقدم. علينا العودة إلى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، يوم إعلان إسقاط نظام الأسد. يومها نصّبت “هيئة تحرير الشام” نفسها سلطة أمر واقع وراحت، خطوة وراء خطوة، تعمل على تمكين سيطرتها على كافة الأطراف الأخرى، بمنطق غلبة لا يولي أي أهمية للحوار مع المجتمع السوري شديد التنوع سياسياً، والأهم دينياً وعرقياً، وبمنطق إسلامي يريد من كل الجماعات الأهلية غير السنّية أن ترضى بأن تتحوّل، مقابل أمنها وأمانها وحقها في الحياة، إلى ما يشبه “أهل ذمّة”.
وهذا لا يكفي. علينا العودة أكثر في الماضي، إلى الربع الأول من العام 2011، عندما طالبت شرائح واسعة من السوريين بحقوقها وبحرياتها، فلاقتها أجهزة الأمن بسفك الدماء، ما أوقع سوريا في أتون عدة حروب أهلية متزامنة، أشرسها تلك التي اتخذت شكلاً دينياً- مذهبياً.
كان نظام الأسد أحد طرفي هذا الصراع، ورفع، بين ما رفعه، شعار “حماية العلويين”، واستقدم إلى سوريا ميليشيات شيعية متعددة الجنسيات تابعة لإيران. أما طرفه الآخر، فكان جماعات عسكرية مختلفة المشارب والتوجهات، سرعان ما اختفى جزء كبير منها ولم يتبقَّ في الميدان تقريباً إلا جماعات ذات خلفيات سلفية جهادية، استقدمت بدورها إلى سوريا جهاديين من مختلف الجنسيات، وأبرزها “جبهة النصرة” التي تحوّلت لاحقاً إلى “جبهة فتح الشام” ثم إلى “هيئة تحرير الشام”، ومنها أتت السلطة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع.
وكان عنوان المجازر الطائفية حاضراً في تلك الحرب، وارتكبها طرفا الصراع، وإنْ كان عنف النظام السوري وهيئاته الرديفة وحلفائه أوسع بأضعاف، والأرجح أن ذلك ارتبط بما توفّر لكل طرف من قَتَلة وعدّة قتل، وليس أكثر.
وأيضاً هذا لا يكفي. علينا العودة إلى النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي وصراعات الضباط المتحدرين من أقليات دينية مع زملائهم السنّة، وما تلا ذلك بعد فترة وجيزة من صراع بين ضباط الأقليات أنفسهم، ثم بين الضباط العلويين أنفسهم، وصولاً إلى استفراد الرئيس السوري حافظ الأسد بالحكم وما أعقبه من صراع بين نظامه وبين الإخوان المسلمين أفضى إلى مجازر أزهقت أرواح آلاف المدنيين السنّة في مدينة حماة.
وحتى هذا لا يكفي. علينا العودة أكثر إلى تأسيس سوريا واشتهارها بالانقلابات العسكرية. بل علينا العودة إلى ما قبل سوريا، إلى تشكيل الانتداب الفرنسي أربع دويلات (دولة العلويين، دولة الدروز، دولتي دمشق وحلب) قبل جمعها في دولة سورية واحدة، وها نحن بعد عقود من ذلك يمكن أن نتساءل عن جدوى توحيدها! وبل علينا العودة إلى الحقبة العثمانية ومسألة الأقليات الدينية في السلطنة…
مسلسل الأقليات
لم يبدأ كل شيء بعد سقوط نظام الأسد، ولم يبدأ عام 2011، ولم يبدأ مع حكم البعث، ولم يبدأ حتى مع تأسيس سوريا. المجازر الأخيرة بحق العلويين لم تأتِ من فراغ بل تناسلت من بدايات كثيرة يصعب حصرها.
هي حلقة جديدة من مسلسل مسألة الأقليات في المشرق التي لم ينوجد حتى الآن الحل المناسب لها. الأقليات في سوريا اليوم، كما كل أٌقليات المشرق، مضطربة بين خياريْ الانفصال الجغرافي والاتحاد مع الجماعات الأخرى في دولة تحترم التنوّع. أما سنّة سوريا، وبوصفهم أكثرية ديموغرافية، فينقسمون بين نخبة مدينية تدفع نحو دولة مواطنة محايدة دينياً وعرقياً وبين أكثرية شعبية ساقتها الأحداث والجماعات الإسلامية المقاتلة إلى تبني ثقافة الحفاظ على سوريا موحدة ذات سلطة مركزية يهيمن فيها السنّة العرب على الآخرين، بوصفهم “القوم الأعلى شأناً”.
في هذه الظروف شديدة التعقيد، حيث نار الانقسام والطائفية ظاهرة للعيان، وليست حتى تحت الرماد، قررت السلطة السورية الجديدة إطلاق جحافل مجموعات إسلامية سنّية ذات خلفيات جهادية، لم تنتظم بعد في سلك عسكري منضبط، لفرض السيطرة على مناطق العلويين الذين يُعتبرون كفرة في أدبيات كل هذه المجموعات، والذين يُحَمّلون وزر ما ارتكبه نظام الأسد من جرائم بحق السنّة.
ماذا كانت تنتظر؟ النتيجة معروفة وها هي تُكتب أمام أعيننا بدماء العلويين لتضع مستقبل السوريين أمام احتمالين: إما حكم إسلامي مستبد أو دولة جديدة محايدة دينياً يشارك كل السوريين في رسم ملامحها.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف 22
———————————
هل تسعى روسيا لإنشاء دولة علوية في الساحل السوري؟/ عمار جلّو
الاثنين 10 مارس 2025
مدعوم إيرانياً أو روسياً؟ اتهامات طالت الدولتين تجاه أحداث الساحل السوري. وإن كانت الأولى قد نالت الحصة الأكبر من الاتهامات، إلا أنها تفتقر إلى قراءة موضوعية لمَواطن النفوذ الإيراني في سوريا، حيث عجزت طهران على امتداد عمر الجمهورية الإسلامية، عن بناء نفوذ فعلي في منطقة الساحل السوري، التي بقيت أقرب إلى روسيا سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
يتمّ الحديث بشكل واسع عن الدور الروسي في ما يجري في الساحل اليوم، إذ أوردت صحيفة “القدس العربي”، نقلاً عن تسجيلات صوتية اطّلعت عليها، إقرار أحد قادة التمرّد، باطلاع القوات الروسية بشكل كامل على مخطط التمرد، مشيراً إلى “وجود غرفة عمليات وتنسيق داخل قاعدة حميميم الروسية”. وبجانب التوجيه بنقل الجرحى إلى القاعدة الروسية عند الضرورة، ألمح القيادي إلى تدخل موسكو لمصلحة المجلس العسكري المعلن عنه من قبل المتمردين في حال “فرض واقع عسكري لمدة 24 ساعةً”.
وشهدت محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص اشتباكات عسكريةً، يوم الخميس 6 آذار/ مارس، بعد كمين قاتل لإحدى دوريات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق، خلال عملياتها المستمرة لضبط السلاح وملاحقة مجرمي النظام السابق في قرية بيت عانا، مسقط رأس العقيد سهيل الحسن المعروف بـ”النمر”، تبعتها تعزيزات حكومية، لمواجهة تمرد واسع من قبل فلول النظام السابق، دخلت على إثره فصائل أخرى لمؤازرة القوات الحكومية، ما أدى إلى اختلاط الواقع الميداني مع خروجه عن السيطرة أحياناً، وإيقاع ضحايا مدنيين قُتلوا لأسباب طائفية أو لحسابات مصلحية، وبأساليب مشابهة لتلك التي كان النظام يعتمدها.
إيران أو روسيا؟
يسلّط كمين بيت عانا، الضوء على تنسيق محتمل بين إيران والميليشيات المحلية لزعزعة استقرار الحكومة المؤقتة، حسب منتدى الشؤون الخارجية. لكن استعراض القوة من قبل طهران، مقيّد نتيجة الضربات الإسرائيلية المستمرة التي أدت إلى تدهور غالبية البنية التحتية العسكرية السورية منذ كانون الأول/ ديسمبر الماضي. مع ذلك، قد تسعى طهران، بعد فقدان وكيلها الأسد، إلى استغلال الانقسامات الطائفية عبر دعم ميليشيات علوية وشبكات الأسد المتبقية.
لكن فتح روسيا قاعدتها العسكرية في حميميم لاستقبال المدنيين الفارّين من ساحات القتال والموت، يشكّل حسب المنتدى، مؤشراً على استخدام موسكو للعلويين كأداة للحفاظ على نفوذها المتآكل في سوريا، نتيجة إستراتيجيتها القائمة على الحفاظ على موطئ قدم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر قاعدتَي حميميم وطرطوس.
تم رصد اتصالات روسية مع بعض قادة فلول النظام السابق، حسب معلومات متوافرة لدى الصحافي والمحلل السياسي السوري عقيل حسين، الذي وضعها في إطار “دعم روسي واضح لحركة التمرد التي جرت في الساحل السوري مؤخراً”، كما يقول لرصيف22.
مع ذلك، أهداف موسكو ضبابية، لا يمكن تحديدها بدقة، حسب حسين. فهل هي “لمجرد إحداث بلبلة وزعزعة استقرار البلاد؟ أو لفتح باب التدخل الخارجي؟ أو لتعزيز فكرة تقسيم سوريا أو فدرلتها؟”. ويضيف: “لا يمكن الجزم بالهدف الحقيقي لروسيا جرّاء ذلك، وهي التي تصّرح بدعم وحدة واستقرار سوريا، وانخرطت مؤخراً في مفاوضات مع حكومة دمشق الجديدة للتعاون معها”.
لكن روسيا “مع تفاوضها الحالي مع دمشق بعد دعمها القاتل لنظام الأسد، تستكشف خطط طوارئ لإقامة منطقة حكم ذاتي علوية، عبر تسليح الميليشيات العلوية، في انعكاس لنهج أمريكا تجاه الأكراد السوريين”، حسب منتدى الشؤون الخارجية، الذي يشير إلى تأييد الإستراتيجيين الروس لاقتراح سابق، زمن نظام الأسد، بإقامة دولة علوية في الساحل السوري، منبّهاً إلى أنّ تجنّب الرئيس السوري أحمد الشرع، إجراء محادثات مع القادة العلويين، على غرار الانخراط النشط مع الأكراد والدروز، هو ما يؤدي إلى تعميق الخلاف معهم، ويشعرهم بالعزلة أكثر.
لروسيا دور رئيس وبارز في دعم فلول نظام الأسد البائد في العملية الأخيرة لأسباب عدة، حسب الكاتب الصحافي السوري فايز الدغيم، “أبرزها مساعي موسكو للبقاء في المياه الدافئة إلى الأبد. فعلى الرغم من بقاء قاعدتها العسكرية الجوية في مطار حميميم، وقاعدتها البحرية في ميناء طرطوس، بعد سقوط نظام الأسد، ومحاولتها إبرام اتفاقات مع السلطة السورية الجديدة، تدرك موسكو أنّ بقاءها لن يطول، خاصةً أنّ السلطات الجديدة كانت من أعدائها خلال العقد الماضي. لذلك تستغل الضعف الحالي لسوريا، ووجود جيوب وكانتونات عرقية ودينية تحظى بدعم دول فاعلة، كقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، شمال شرقي سوريا، المدعومة أمريكياً، بجانب مساعي بعض الفصائل الدرزية في الجنوب لإقامة كانتون درزي بدعم إسرائيلي”.
على ما سبق، “ترى روسيا أنّ إمكانية إقامة دولة علوية في الساحل السوري ‘لا تزال قائمةً’”، يقول الدغيم، لرصيف22، ويضيف أنه “لا يمكن ذلك إلا من خلال إثارة الصراع الطائفي للتدخل بذريعة حماية العلويين، نتيجة قناعة روسية بأنّ قيام دولة علوية في الساحل السوري، يعني أن هذه الدولة ستكون تابعةً لها بشكل كلي، مثلها مثل دول القوقاز وروسيا البيضاء. لذا دعمت بقايا نظام الأسد، حليفها المهزوم الذي تؤوي رأسه على أراضيها”.
من هم العلويون؟
يُقدَّم العلويون على أنهم فرع من فروع الإسلام الشيعي، لكن العلويين ليسوا سنّةً ولا شيعةً، بل خليط مختلف عن الإسلام، حسب موقع المراجعة الدولية، برغم ادّعائهم كالشيعة، الانتماء إلى سلالة تبدأ بالإمام علي بن أبي طالب، حيث تأتي أصولهم اللاهوتية من الإمام الحادي عشر، الحسن العسكري، وتلميذه ابن نصير، الذي عُرفوا به سابقاً، “النصيريين”، قبل التخلّي عن هذه التسمية.
لاحقاً، نظّم عقيدة الطائفة أحد أتباع محمد بن نصير، ويُعرف بالخصيبي في حلب، لتنتقل عبر حفيده وتلميذه الطبراني، إلى اللاذقية، ومنها تحولت سلسلة جبال الساحل السورية إلى معقل للعقيدة العلوية، العقيدة التي امتازت بسرّية بالغة، نتيجة اضطهاد المسيحيين والسنّة والشيعة. وعليه، مارس العلويون التقية لتجنّب الاضطهاد.
ونتيجة جهود قديمة لسدّ الفجوة بين المسلمين والعلويين، أعلن مفتي القدس السنّي، الحاج أمين الحسيني، عام 1936، أنّ العلويين مسلمون. وفي عام 1963، أعلن رجل الدين الشيعي، “آية الله” حسن مهدي الشيرازي، أنّ العلويين والشيعة متماثلون. ومع حاجة الرئيس السوري الأسبق، حافظ الأسد، إلى الشرعية الدينية لتهدئة السنّة في سوريا، أصدر رجل الدين الشيعي موسى الصدر، خطاباً قال فيه: “إنّ الشيعة والعلويين هم نفس الطائفة. حيث يشترك العلويون بعض معتقدات الشيعة الاثني عشرية، مثل عدل الله، ونبوءة محمد، والقيادة الإلهية للأئمة الاثني عشر، ويوم القيامة”.
مع ذلك، يمتاز المجتمع العلوي بالافتقار إلى التماسك، لقيامه منذ نشأته كاتحاد كونفدرالي بين أربع قبائل أساسية، الكلبية والحدادين والخياطين والمتاورة، كما يفتقر إلى مؤسسة دينية وظيفية منظّمة.
منطقة حكم ذاتي؟
بحسب الباحث والمحلل السياسي السوري فراس علاوي، “قد تحيي روسيا المشروع الذي بدأ مع بدايات القرن العشرين، والقائم على تصدير القوى العظمى لنفسها كحامية للأقليات الموجودة في الشرق الأوسط، ولا سيّما في منطقة سوريا، وذلك بهدف الحفاظ على نفوذ واضح في المنطقة كي لا تخرج صفر اليدين من سوريا”.
لذا تحاول موسكو استباق أي حلّ سياسي مستدام في سوريا، لتعزيز وجودها خلاله، عبر ورقة حمايتها للطائفة العلوية، أو كونها صاحبة النفوذ الأكبر عليها. كذلك ربما تكون موسكو قد استقرأت الخروج الكامل لإيران من المشهد السوري، وبدأت بملء هذا الفراغ بدايةً من الساحل ومناطق العلويين.
ويعتقد علاوي في حديثه إلى رصيف22، أنّ “أدوات روسيا في هذا المجال تقتصر على التنسيق وحماية قيادات النظام السابق، مع بعض التعاون الاستخباراتي وصعوبة الدعم المادي واللوجستي، دون أن يكون لها أي عمل مباشر على الأرض”.
فيما يعتقد الباحث ومحلل الشؤون السياسية الروسية، ديمتري بريجع، أنّ “الملف السوري ذاهب للتدويل مجدداً وبقوّة، لكن بتحالف/ تقارب روسي أمريكي هذه المرة، خلاله سيتم فرض سياسات معيّنة بعد أحداث في الساحل السوري، تراها الدولتان انتهاكاً”.
لم تصرّح روسيا بذلك رسمياً، حيث اقتصر حديث المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروف، على ضرورة التهدئة وعدم انزلاق البلاد إلى مستنقع من الدماء، فيما انتقد وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو، الإدارة السورية الحالية في إدارة ملف الأقليات، ما يشكل خطراً على الأخيرة.
يضيف بريجع، خلال حديثه إلى رصيف22، أنه “بسبب أخطاء الإدارة السورية، قد تذهب الأمور إلى تدخلات خارجية ربما تفرض واقعاً جديداً يزيد من الانقسامات، ويضاعف الضغوط الدولية (أمريكية-روسية)، على الإدارة السورية، لإحداث تغييرات سياسية وتشكيل حكومة تمثّل كل الطوائف. طبعاً عدم تمكّن الإدارة السورية الجديدة من مراقبة الوضع بدقّة، أفاد فلول النظام السابق بإحداث المزيد من الانقسامات والمزيد من الطائفية في المجتمع السوري، بما يهدد بحرب طائفية/ أهلية”.
وبعد زوال نظام الأسد الذي شكّلت عماده الصلب، للجماعة العلوية مصلحة في حماية ومراقبة دوائرها الانتخابية المتبقية. ربما فقدوا زعيمهم، لكنهم لم يفقدوا حافز إقامة منطقة حكم ذاتي، حسب مجلة “ذا انتلانتك”، ولا سيّما مع وجود منطقة حكم ذاتي كردية في شمال شرقي سوريا، بجانب التحركات الإسرائيلية لإنشاء منطقة نفوذ لها جنوبي سوريا، عبر دعم كانتون درزي.
الموقع الأكثر منطقيةً، هو مدينة طرطوس الساحلية، حيث تمتاز بأغلبية علوية ساحقة، وفيها الميناء الروسي الوحيد، وهو أحد الأصول التي أولاها الروس أهميةً لقرون عدة. فالميناء مهم لخطوط الإمداد الروسية إلى إفريقيا، لذا تعمل روسيا على إعادة بناء قاعدة غواصات سوفياتية سابقة قريبة، كما يوفر لها هذا الوجود الحفاظ على مراكز استخبارات الإشارات القائمة.
بناءً عليه، ومع تلاشي قدرة موسكو على الحفاظ على السلطة والنفوذ في دمشق، قد تسعى إلى الحفاظ على أهم أصولها في سوريا عبر التعاون مع منطقة حكم ذاتي علوية، إذا تحركت الطائفة وبقايا النظام السابق سريعاً لإنشائها.
رصيف 22
—————————–
كلام ما بينحكى تعالوا نحكيه ولو لمرةو حاجتنا تباكي/ Hekmat Bou Hasoun
شفت حديث للدكتور سمير سعيفان على تلفزيون سوريا فاستفزني؛ و كوني ابن أقلية و ابن ريف استطيع أن ارى المشهد بتقريب مقبول حسب ظني:
ما حدث في اليومين الماضيين كبير و كارثي و مخطط له بشكل جيد و منذ زمن ليس بالقليل. حدث في مناطق ريفيه و مدن هي ضيع كبيرة.
اولاد الريف يعرفون بعضهم بعضا و يوميا يعرفون من مات و من مرض و من انجبت. الخ.
كل منطقة او ضيعة او حي في مدينة يعرفون شبيحتهم و ازلام النظام السابق و من عفش و من أجرم و قتل و يعرفون من سلم سلاحه و من لم يسلمه.
يعرفون كم اكتسب و ماذا جنى و من اين بنى او اشترى الخ.
باختصار انا ابن أقلية و اعرف كل شخص في ضيعتي و كل الشخصيات المؤثرة سلبا أم ايجابا على مستوى المحافظة بكاملها ومن خبرتي احاول ان أطرح المشكلة التي يتخوف الكثير أو يتغاضى عن طرحها.
طالما القضية يخطط لها منذ فترة فتحركات الفلول و تحصيناتهم و تنقل اسلحتهم الثقيلة يراها الأهالي و يعرفون ان هناك شيئ غير سار يخطط له.
هل قام الأهالي بعمل ما لمنع ما حدث؟ انا لست هناك و لا اعلم إن افشى قلة من الناس للسلطة بما يشاهدوه، يقع هذا علي عاتق الموجودين في ارض الحدث و لكن يمكنني ان أجري مقارنة صغيرة يمكن من خلالها أن تستنتجوا غايتي و مقصدي : عندما تظاهر جمع من السويداء لدعم الهجري و يومها تم رفع علم الخمس حدود و إنزال علم الدولة كانت الجموع بالمئات إذا لم تكن بضع ألاف. في اليوم التالي خرج ناشطون مدنيون للتعبير عن التزامهم بمفهوم الدولة لم يتجاوز عددهم العشرات.
هل هذا المثال يكفي لرؤية واقعنا المزري؟
لا اريد الأن ان أبحث في الأسباب و العوامل التي جعلت جماعاتنا البشرية هكذا. كل ما أحاوله توصيف الحالة، ثم استخلاص بعض الأفكار
جماعاتنا السورية ما دون مستوى الدولة. بل إن الدولة (السلطة، الآن الدولة و السلطة مندمجتان) التي بدأت اليوم باعتقال عناصر من امنها و جيشها أثبت تورطهم بانتهاكات انسانية و سرقات وتشبيح و الخ و رغم كل النقد الذي نوجهه لها هي دولة متقدمة على وعي شعبها ( و هنا قد يرى البعض في رأيي انه نظرة ثقافوية او فوقية فليكن) ولكن يجب أخذ هذه الموضوعة على محمل الجد.
سابقا كان يمكن التغاضي عن سكوت الأقليات عما يفعله ابناؤهم من انتهاكات تحت سطوة الخوف من النظام المجرم ولكن اليوم ما هو المبرر لسكوتهم عما خطط له، مرة أخرى أكرر انه لا يستطيع عاقل أن يقول بأن البيئة المحيطة بالحدث او جزءا منها لم تعلم به مسبقا.
من كم يوم تشكل مجلس عسكري بالسويدا و تشكلت منظمة شباب درزي خلال يومين كان المهتمين من السويدا عارفين كل التفاصيل و الأشخاص و الداعمين و المتحالفين.#
(ملاحظة؛ مفهوم المواطن عند الألمان: اول جيتي عألمانيا اشتغلت يوم بالأسود مع تركي عم يكب عفش بيت، جارته الألمانية صورتنا من شباكها و اتصلت بالشرطة ليجوا يتأكدوا إنه شغلنا نظامي أو بالأسود و إجت الشرطة و لولا الحظ الجيد كنا تبهدلنا)
لذلك بالنسبة لي شخصيا باتت الدولة و بأي شكل كانت أول الأولويات اي دولة تحفظ الحد الأدنى من العدالة و الكرامة الانسانية لأهلها في الظرف الراهن هي دولة ممتازة، اما الديمقراطية و الحريات و شرعة حقوق الإنسان فتصبح مواضيع النضال اليومي للسوريين تحت سقف هذه الدولة، و سلامتكن
على فكرة؛ هيك كلام ما في دول و منظمات اوربية تدعمه و تفت له فلوس لأنه ما بيتوثق من جهة و فيه كلام مش مليح عن الأقليات.
#حارتنا_ضيقة_منعرف_بعضنا
الفيس بوك
——————————
=============================