مآل العدالة في سوريا اليوم/ حسام جزماتي

2025.03.10
قيل كثيراً إن على سلّم أولويات البلاد الآن بسط الأمان ثم إنقاذ الحالة المعاشية والخدمية المنهارة، بما قد يوحي بأن مطلب العدالة قابل للانتظار. لكن
مع زيادة سنوات الثورة السورية تفاوت ترتيب سلم أولويات شعاراتها العامة المؤسِّسة؛ الحرية والكرامة والعدالة. ففي حين استنتج السوريون أن طريق الحرية طويل وأن الوصول إلى الكرامة، الشخصية والسياسية والمعاشية، سيستغرق وقتاً متوسطاً؛ تقدم إلحاح مطلب العدالة وفوريته مع تصاعد جرائم النظام والمشاعر الحانقة التي خلّفتها في نفوس ذوي الضحايا ومحيطهم الواسع. ولذلك طرحت هذه المسألة منذ اليوم الأول لسقوط النظام، بل حتى قبل ذلك في أثناء معركة التحرير السريعة التي سيطرت على قطعات عسكرية ومقار أمنية ومراكز تشبيحية.
ومن ذلك الوقت برزت على السطح أربعة تصورات عن العدالة نادت بها أطراف مختلفة. فمن جهتها طالبت المنظمات الحقوقية، المحلية والأممية المدعومة بالسياق الدولي، بالبدء بإجراءات العدالة الانتقالية التي تتضمن، بطبيعة الحال، إلقاء القبض على كبار المجرمين ومتوحشيهم المعروفين، والإعداد لعرضهم على محاكم محترمة ونزيهة، فضلاً عن إجراءات جبر الضرر وتخليد الذكرى وضمانة عدم التكرار.
أما «إدارة العمليات العسكرية» التي قادت عملية «ردع العدوان» واضطرت، في أثناء ذلك، لنثر عدد لا يكاد ينتهي من التطمينات المتنوعة؛ فقد أعلنت أن المعركة «فتح لا ثأر فيه». مؤكدة أن من يلقي سلاحه من مقاتلي النظام فهو آمن، بل منحته لقب «المنشق». وطالبت العسكريين ومن في حكمهم، بعد مدة قصيرة، بالحصول على بطاقات تسوية تصدرها ثم العودة إلى منازلهم مطمئنين. وبدا أنها تريد السير في هذا الطريق إلى آخره، تقريباً، لولا الضغط الذي تعرضت له على يمينها من «أولياء الدم» الذين فقدوا أقارب وأحباء خلال حرب النظام المديدة على المناطق المحررة والثائرة، وشكّلوا حاضنة المعركة ومادتها من مقاتلي مختلف الفصائل.
يقبل هؤلاء إجراءات العدالة الانتقالية على مضض، إذ يفضّلون عدالة شاملة لا تغادر يداً تلطخت بالدماء من طرف النظام إلا وأحصتها. ولكن بما أن المتورطين كثيرون على ما يبدو، وستغصّ بهم أي إجراءات قضائية معقولة، فلا بأس بعدالة انتقالية موسعة يجب اتضاح معالمها فوراً بهدف تسكين الصدور التي لم تنل بغيتها في أثناء معركة التحرير. وكلما تأخرت معالم المحاسبة في الظهور تململ هؤلاء وارتفعت بينهم أصوات من ينادون بضرورة «العدالة الانتقامية» بعد أن ملكوا القوة، باقتناص المجرمين وإعدامهم خلسة، أو بالثأر الجماعي ذي الطابع الطائفي الموجه نحو تجمعات العلويين في الساحل وحمص وضواحي دمشق بشكل أساسي.
من جهتهم ارتاح العلويون إلى سياسة «عفا الله عما مضى» التي بدا أنها ستسود في الأيام الأولى لتغيير النظام، لكنهم فوجئوا أن موازين القوى متضاربة ومتلاطمة إلى درجة أنها لن تسمح لهذا النهج بالاستقرار. وبالتدريج ظهر أن التسوية التي أجراها عشرات الآلاف منهم ليست ضمانة نهائية. ومع ارتفاع نبرة الحديث عن «الأخطاء الفردية» الكثيرة من جهة، وعن ملاحقة «فلول النظام» من جهة أخرى؛ فقدوا الطمأنينة وانتشرت بينهم الأخبار، والإشاعات، المتأتية عن ذعر جماعي لا يعدم الخلفيات التاريخية والأدلة المستجدة، وشعروا أنهم يسيرون نحو المجهول. ولم تؤثر الحملة الأخيرة على الساحل سوى في تعزيز مخاوفهم.
الحزَم الأربع للعدالة، إذاً، هي نهج «اذهبوا فأنتم الطلقاء» الذي واكب «الفتح»، مع بقاء عدد غير معروف من أسماء المطلوبين «ولو تعلقوا بأستار الكعبة» لتكتمل سردية التاريخ الديني. وثانياً ترجمة ذلك إلى «عفو عام» يطوي صفحة «الحرب» برمتها، وهو مطلب العلويين. وثالثاً أي عدالة «تشفي الغليل» وإلا… وهو مطلب حاضنة الثورة. وأخيراً هناك الحل المدرسي لكن المدروس والمجرب، وهو «العدالة الانتقالية».
من الواضح أن وراء كل من هذه الحلول قوى، عسكرية أو أهلية أو سياسية، لن تسمح بتجاوزه وبتبني غيره كلياً. ومن العقل أن تدعو الخبراء، في الداخل والخارج، إلى الإسراع في تبني طريق سوري خاص في العدالة الانتقالية يسكّن مخاوف جميع الأطراف ويحافظ على تماسك البلد. لكن كل يوم يمر في حين تتوازع هذه المناهج الفاعلية وتتناوب بعشوائية في أداء الأدوار؛ هو سبيل محقق إلى ابتعاد قيمة العدالة عن المستقبل، وإن تحققت بصدفة أو بمبادرة فردية أو مجتمعية هنا أو هناك.
قيل كثيراً إن على سلّم أولويات البلاد الآن بسط الأمان ثم إنقاذ الحالة المعاشية والخدمية المنهارة، بما قد يوحي بأن مطلب العدالة قابل للانتظار. لكن الأحداث قالت إنه لا يحتمل التهاون بسبب ارتباطه الوثيق بالدرجة الأساسية من السلّم المتعلقة بالأمان. فقد عبّر كثير من ذوي الضحايا، ومن الناجين من المعتقلات، أنهم لن يصبروا طويلاً على مشاهدة المسؤولين عن مآسيهم أحراراً بسبب الفوضى أو نتيجة لتوجه السلطة الحالية إلى تدعيم «التمكين» وتحييد الأعداء بل حتى الاستفادة من إمكاناتهم وعلاقاتهم لوقت مفتوح.
في وجه من وجوهها عبّرت التجمعات العارمة لتأييد المعركة الأخيرة في الساحل، والتي ترجمت إلى أرتال كبيرة من المقاتلين للمشاركة فيها؛ عن رغبة في المحاسبة المباشرة باليد بعد أن مر التحرير بسلام على غفلة من كثيرين الذين كانوا ينتظرونه كفرصة للانتقام الجماعي، لم يعد بالإمكان تطويقها الآن بغير «عدالة انتقالية
تلفزيون سوريا