الاقتصاد لمداواة الجرح السوري العميق/ رشا أبو زكي

11 مارس 2025
الهدنة في سورية عقدة ما بين مجزرتين. وبين نظام سابق متوحش ومليشيات متعطشة للدم، لا يزال المواطنون من كل مذهب ومنطقة يعانون من أوضاع معيشية قاسية.
يهتف العديد من العقلاء بالوحدة، يناشدون السلطات بسط الأمن ووقف المجازر التي ترتكب في الساحل السوري ضد المدنيين، يطالبون في الآن ذاته بمحاسبة فلول النظام المستمرين في مراسم القتل رغم سقوط الأسد. الأولوية يجب أن تكون بناء دولة حقيقية على أنقاض المنهبة الكبرى التي قام بها نظام البعث وأشرك فيها الكثير من الدول. الأولوية يجب أن تكون إعادة الإعمار وتوليد الوظائف، بناء المؤسسات ودعم الإنتاج، التركيز على حقوق الناس ومطالبهم بالحرية التي انتظرت 14 عاماً لكي تتحقق.
هناك ورشة كبرى يترقبها ضحايا الأسد لأخذ الثأر من كل عذاباتهم. ورشة اقتصادية طويلة الأمد لا بد أن تنطلق اليوم قبل الغد. فقد خسرت البلاد نحو 800 مليار دولار من ناتجها المحلي الإجمالي على مدى 14 عاماً من الحرب، وتؤكد الأمم المتحدة مثلاً أن الاقتصاد السوري يحتاج إلى 55 عاماً للعودة إلى مستويات ما قبل الحرب في حال ارتفاع النمو، أما استمرار تباطؤ النمو فسيزيد فترة التعافي إلى أكثر من نصف قرن.
ومن دون تحسين وضعية الاقتصاد لن يتغير الواقع الاجتماعي للناس، والفلتان الأمني في النهاية جزء أساسي منه انعدام الأمن المعيشي، إذ إن الجوع والبطالة يولدان ثورات، ولكنهما أيضاً يخلقان مجموعات بشرية لن تمانع في حمل السلاح من أجل راتب وقوت وسلطة. وإن كان تسعة من كل عشرة أشخاص في سورية يعيشون في فقر، وواحد من كل أربعة عاطل عن العمل، و75% من السكان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، بحسب التقارير الأممية، فإن مهمة بسط الأمن لن تكون مجدية من دون البدء بالنظر إلى الاقتصاد كأولوية الأولويات.
والدخول في تفاصيل الاقتصاد ليس سهلا أبدأ. فقد تراجع إنتاج الطاقة في سورية بنسبة 80%، وتضرر 70% من محطات توليد الكهرباء، ولا يمكن الحديث عن تنمية صناعية أو زراعية من دون هذا العنصر الأساسي في دائرة الإنتاج.
إن إخراج الاقتصاد من دورة الانكماش الحاد (84% بين عامي 2010 و2023) لا يتحقق من دون دعم القطاعات المنتجة.
كذا، فإن جذب الاستثمارات يعتبر مطلباً ملحاً، بعدما هبط حجم الاقتصاد السوري إلى 24 مليار دولار في 2022. ولهذا الهبوط العديد من المشارب التأسيسية للانهيار، فمن جهة يعتبر العنصر الأمني هو ركيزة الاستثمار، فإن غياب التشريعات الحامية للمستثمرين بعد سنوات من الملاحقات والمصادرات التي طاولت مصالحهم تزيد من صعوبة المهمة.
كذلك، تواجه البلاد جفافاً في العملة الأجنبية، إذ إن احتياطي البنك المركزي شبه فارغ بعدما جففه نظام الأسد سرقة وهدراً ونفقات على الجهود الحربية لقتل الناس، وسبق لرئيس الحكومة السورية المؤقتة، محمد البشير، أن قال إن احتياطي النقد الأجنبي في سورية منخفض للغاية، وسط تقديرات بأنه يتراوح ما بين 200 مليون دولار ومليار دولار، هبوطاً من 18.5 مليار دولار في 2010.
بينما فقدت سورية مثلاً 380 ألف برميل يومياً من صادرات النفط. وأدى تراجع عائدات النفط والسياحة إلى انخفاض صادرات البلاد من 18.4 مليار دولار في عام 2010 إلى 1.8 مليار دولار في عام 2021. وخلال السنوات الماضية، كانت تدفقات تحويلات المغتربين هي الأساس في توفير السيولة الدولارية بيد المواطنين في الداخل، والوسيلة شبه الوحيدة للأسر للبقاء على قيد الحياة، خاصة بعدما هبطت العملة السورية من 47 ليرة مقابل الدولار في 2011 إلى أكثر من 11 ألف ليرة اليوم، فيما ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير، ليصبح أكثر من 12 مليون شخص لا يعرفون من أين ستأتي وجبتهم التالية.
وقد تكون استعادة الأموال المجمدة في الخارج بارقة أمل، لكن حجم الأصول والأموال المجمدة غير دقيق حتى اليوم، وسبق أن أعلنت الحكومة السويسرية أن قيمة الأصول السورية المجمدة في البلاد تبلغ نحو 112 مليون دولار، فيما تبلغ قيمة الأصول المجمدة في المملكة المتحدة 206 ملايين دولار، ما يستلزم السعي الجاد لإحصاء ما تبقى واستعادة ما هو معلوم.
وفوق ذلك، تحتاج سورية إلى إعادة إعمار ما دمرته الحرب الطويلة، وكلفة هذه المهمة تتراوح ما بين 200 إلى أكثر من 400 مليار دولار، بعدما تدمر ما يقرب من ثلث الوحدات السكنية أو تضرر بشدة، إضافة إلى الدمار في شبكات الطرق والطاقة والمياه والصرف الصحي وكل ما يحتاجه البشر للحياة.
وأكثر التحديات صعوبة وأشدها قهراً إعادة الجيل الجديد من السوريين إلى درب التعليم للنهوض باقتصاد المستقبل. فقد ذكر تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن ما بين 40% و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عاماً لا يذهبون إلى المدرسة، وهذه النسبة المرعبة تشير إلى ضرورة إعادة تأهيل الأطفال والشباب سريعاً للعودة إلى المنظومة التعليمية، وإنقاذ مستقبل سورية من الأمية وهبوط الكفاءات والمهارات، خاصة في عالم يتجه شيئاً فشيئاً نحو الإنتاج الذهني والتكنولوجي والذكاء الاصطناعي.
الأزمات التي تواجه الاقتصاد السوري ليست بسيطة، فهي نتاج سنوات طويلة من الحرب والقتل والتشريد وبيع الشركات لإيران وروسيا، وسيطرة المليشيات على الموارد الأساسية، ونشوء طبقة من أثرياء الحرب الذين لا يريدون للإصلاح أن يبدأ ولا للسوق الموازية أن تختفي ولا للدولة أن تنشأ.
ورغم سقوط بشار الأسد، ورغم انعقاد المؤتمر الوطني، لم تتحقق أي إشارات عملية إلى تغييرات قد تطاول الظروف الاقتصادية المزرية التي تشهدها البلاد والتي دفعت الملايين من السوريين إلى الشوارع.
فالفقر ينهش الأحياء، البطالة تسيطر على كل بيت، الدمار الذي خلفه النظام لا يزال يسيطر على المشهد، وأهل البيوت يعيشون التشرد والتهجير. وفيما يعتبر الأمن أساسياً لبناء الدولة، ولكن ذلك لا يتحقق على أجساد المدنيين. فقد ردد ثوار سورية شعارات مختلفة على مدار السنوات الماضية، إلا الشعار الأول الذي سيطر على الشوارع كان ويبقى هو الأساس: “سورية بدها حرية”.
العربي الجديد