نقد ومقالات

الانتقاد بين المشروع والتضليل/ فوّاز حداد

11 مارس 2025

مهما كانت الانتقادات الموجهة للسلطة الجديدة في سورية، سواء أكانت محقّة وضرورية، أمّ متحاملة ومُبتذلة، فإنّها تشكّل في جوهرها مؤشراً على مناخ صحي وحيوي افتقدناه لما لا يقلّ عن ستة عقود. فالاعتراض، بصرف النظر عن دوافعه، دليل على بدايات حياة سياسية يمكن للناس من خلالها التعبير عن آرائهم، وهذا بحد ذاته مكسب لا يمكن التقليل من شأنه.

سواء أُخذت هذه الانتقادات بالحسبان أو لم تُؤخذ، فهي تعكس انقساماً واضحاً بين فئتين: الأولى تريد المشاركة في بناء سورية جديدة عبر تصويب الأخطاء وتقديم البدائل، والثانية لا تريد المشاركة إلا بشرط الاستئثار بالبلد، ما يعني عملياً محاولة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وإن تحت شعارات براقة، لن تكون إلا في انتظار قوى إقليمية ودولية تتصارع على النفوذ في سورية، كما كان الحال عندما تحوّلت البلاد إلى ساحة للمساومات بين إيران وذراعها حزب الله، وروسيا وأميركا، وبالطبع إسرائيل.

في الماضي، كانت سوريا قابلة للتقاسم بين هذه القوى، وملكية خاصة لعائلة تعاملها كأنّها مزرعة شخصية. واليوم، ثمّة فرصة لمنح البلاد إكسير الحياة عبر الانفتاح، عوضًا عن الاستمرار في الدوران في فلك الاصطفافات والاتهامات المتبادلة.

بعيداً عن هذه التصورات الكبرى، لا يمكن إنكار أن الانتقادات كثيرة ومتنوعة، بعضها في محله تماماً، لكنّ المبالغة في الطرح، والشطط في الاتهام، والتهويل في التوقعات، وتكهن النيات، يُفقد هذه الانتقادات قيمتها. وإن كان من السهل الوقوع في فخ الشعارات الفضفاضة التي تستمرئ الشائعات وتعتمد على ترويج الأقاويل غير المدققة. لعل أصحاب هذه الانتقادات لو التزموا بقدر من العقلانية، أو تخلوا عن بعض الادعاءات، لكانت آراؤهم أكثر تأثيراً، وحظيت بنقاشات مثمرة يمكن أن تسهم في تطوير الأداء السياسي، بدلاً من أن تتحوّل إلى التحريض والانفعال، وربّما إلى اضطرابات لا يمكن تقدير عواقبها.

يومياً، وعلى مدار الساعة، يطالعنا “فيسبوك” بسيل لا ينضب من هذه الانتقادات، التي تراوح بين تعليقات عابرة ومقالات مطولة، لكنها في أغلبها لا تتجاوز كونها تدريباً على بث التشاؤم. فهناك من ينشغل بالبحث عن الأخطاء، وكأنه في سباق لإثبات أن السلطة الجديدة محكومة بالفشل لا محالة، سواء لأنها تتجاوز صلاحياتها أو لأنها لا تستعملها كما يجب. المهم أن أي خطوة تُقدم عليها السلطة، في نظرهم، هي بالضرورة خطوة خاطئة!

لكنّ المهارة الحقيقية لا تكمن في رفع سقف التوقّعات إلى مستويات تعجيزية، ثم التحريض عند عدم تحقّقها، بل في تقدير الأمور بواقعية، والمطالبة بالممكن فالممكن فالممكن. من حسن الحظ، لا تخلو الساحة من هؤلاء الذين يمتلكون هذا الوعي، لكنّهم في العادة لا يبالغون في الضجيج ولا ينجرفون وراء استعراضات جوفاء تدّعي أنّ المجتمع يمكن أن يتحوّل بين ليلة وضحاها إلى نموذج مثالي.

من هذا المفهوم الهلامي لمجتمع “مثالي”، يستعير بعض المنتقدين فكرة الوصاية على سورية والسوريّين، إذ ينطلقون من قناعة أنّهم أصحاب الرأي الصحيح، لكنّهم لا يأخذون بالحسبان أنّ البلاد تخرج من تركة مُثقلة بالجرائم والانقسامات، وأن البناء يحتاج إلى وقت وصبر، وإلا صادر نقدُ الواقع والمنطق، وحتى العقل. صحيح أنّه لن يؤدي إلى تغيير مؤثّر، لكنّه قادر على التضليل ونشر البلبلة.

كما يصادفنا أصناف من “الجهابذة” الذين لا يعبّرون عن آرائهم بقدر ما يكشفون عن عُقدهم الشخصية، من خلال ثرثرة تهدف فقط إلى تضخيم ذواتهم. بعضهم يتحدّث بثقة مفرطة عن أمور يجهلها، لكن ذلك لا يمنعه من الإفتاء فيها، وبعضهم يفترض مسبقاً أنَّ السلطة تقصد كذا وكذا، ثم يندفع في الهجوم عليها، وكأنّ افتراضاته حقيقة ثابتة.

هل هذا مرض سوري؟ لا، إنّه من أمراض البشر عموماً، لكنه يزداد تفشّياً في المجتمعات التي خرجت حديثاً من عهود القمع الطويل، حيث كان المواطنون لا يتكلّمون إلا همساً، أو يفضلون الصمت خوفاً من العواقب. لا عجب إذن أن تتدفق الآراء اليوم بهذا الكمّ الهائل، بعد أن كانت سورية بلد الخوف والموت.

ما بين الإفراط في الصمت والإفراط في الضجيج، تظلّ الحكمة في إيجاد المساحة الوسطى: نقدٌ يهدف إلى التصويب، ومطالباتٌ تستند إلى الممكن. عندها فقط يمكننا الحديث عن معارضة حقيقية، لا عن مجرد صدى لضجيج بلا معنى.

* روائي من سورية

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى