مراجعات الكتب

سومر شحادة يكتب تراجيديا إغريقية حديثة بأسلوب التحقيق/ كاتيا الطويل

“الآن بدأت حياتي” رواية بوليسية تتحرى جرائم البعث

الثلاثاء 11 مارس 2025

في روايته الرابعة “الآن بدأت حياتي” (الكرمة للنشر، 2024) يعتمد الكاتب السوري الشاب سومر شحادة السرد البوليسي الذي يدور حول جريمة قتل أو ربما عملية انتحار.

في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2021 أقدم المحامي يوسف الشهال على الانتحار رامياً بنفسه عن سطح البناء في حي الأميركان. تجري التحريات لمعرفة ملابسات الحادثة. لكن ثمة أسئلة مطروحة: من قتل يوسف الشهال؟ أهو صديقه إياس؟ زوجته ريما؟ عشيقته لين؟ حماته ناديا؟ خال زوجته منذر؟ أيكون انتحر؟

تقوم رواية سومر شحادة على ثمانية فصول تراوح ما بين السرد والسرد الممسرح. فالفصل الأول سردي بامتياز يوظف فيه الكاتب عوامل التشويق كما يبني فيه الحبكة البوليسية بوتيرة متصاعدة من حيث تعقيد القضية وعدد المتورطين فيها. ويتميز هذا الفصل الأول بتعدد الأصوات الروائية فيه، فتمسك كل شخصية بزمام السرد بدورها ليروح القارئ يتحزر من تراها الشخصية التالية التي ستسرد الأحداث ومن تراه يكون المتهم التالي.

يحل الفصل الثاني ليكون مكرساً بأكمله لعزاء يوسف. فبعد ليلة الجريمة التي هي نفسها ليلة الحفلة التي أقامها يوسف وزوجته في بيتهما لوداع أصدقائهما قبل هجرتهما إلى أميركا، يحل وقت الدفن والعزاء واستقبال المحزونين من الأقرباء والأصدقاء.

أما الفصل الثالث، فيأتي ليخلط الأوراق ويغير البناء السردي ويحول الرواية إلى مسرحية غريبة، من الطراز المضحك المبكي. فبعد مقتل يوسف ودفنه يأتي محققون ليحققوا وليكشفوا خفايا الحادثة. تنتقل الرواية من السرد إلى المشاهد المسرحية، وكأن الكاتب يرغب رغبة واضحة ومتماسكة بتحويل مسار التحقيق إلى مسرحية هزلية تنتهي بفصل ثامن وأخير هو فصل “العرض”.

ويضع الكاتب بنيته السردية بحنكة مدروسة، فتدور أحداث الرواية في خلال 24 ساعة أي في يوم واحد، وفي مكان واحد وهو بيت الضحية يوسف، وحول قضية واحدة وهي موت المحامي اللامع يوسف الشهال. يضاف إلى ذلك أن الرواية لا تظهر مشهد القتل أو الانتحار بل تنقله بطريقة غير مباشرة، وهي قاعدة من قواعد المسرح الإغريقي التراجيدي. لتتحول هذه الرواية إلى مسرحية تراجيدية تحترم الأصول التي وضعها الإغريق كما تحترم أصول السرد البوليسي وتعدد الأصوات السردية المساعد لتصاعد التشويق، فيكون سومر شحادة قد نجح نجاحاً باهراً في عمله هذا من حيث التقنية والبنية السردية واللعب على الفنون الأدبية والمسرحية والمزج بينها.

شخصيات ناقصة

تبدو شخصيات الرواية معطوبة مفككة متعبة ناقصة. فيبدأ السرد مع إياس، صديق يوسف. إياس رجل مهزوم كسول يتلقى الأفعال بدلاً من أن يبادر إليها عدا عن أنه لا ينفك عن ترديد جملة واحدة تثير الحنق والشفقة في الوقت نفسه “أعيش بمفردي منذ عامين وأشهر عدة، زوجتي تركتني، هي من طلبت الانفصال، وأخذت ابني معها. أعيش بمفردي وفي رأسي قيود الماضي، زوجتي تركتني، هي من طلبت الانفصال، وأخذت ابني معها”. (ص: 9).

تنضم إلى إياس المهزوم لين عشيقة يوسف، التي يصفها إياس قائلاً، “كانت لين شاردة في ملكوت الحزن. وبسبب صغر سنها، ترك الحزن عليها علامات إنسان على وشك أن يبكي”. (ص: 20). ليست لين الجميلة شابة عادية، فهي من الانكسار لدرجة أنها ترى نفسها غير جديرة بأن تكون المرأة الأولى في حياة أي رجل بل تعد نفسها الوصيفة الدائمة لذلك نراها تنتقل من رجل متزوج إلى آخر. ثم ينتقل السرد إلى ريما زوجة يوسف، التي تجسد نموذج المرأة المتزوجة المهزومة التي عجزت عن أن تبقي على زوجها كما عجزت عن أن تصبح أماً. تبدو ريما عاجزة من نواح أنثوية متعددة هي التي تعلم بخيانات زوجها من دون أن تقوم بأي رد فعل عليها، فتقول عن نفسها “كنت أعيش حياة لم أعرف كيف أواجه حقائقها في الوقت المناسب”. (ص: 56). وتكاد ريما تكون المتهمة الأولى بقتل يوسف لولا نفوذ خالها وجبروته. أما ناديا والدة ريما، فهي التي تفضح شبكة العلاقات الملتوية في هذا السرد لكنها هي الأخرى ليست معصومة عن العجز، فتقول في موضع ما من السرد “كنت امرأة تمقتها ابنتها في أعماقها”. (ص:62). ليبقى والد الضحية يوسف هو رمز الجيل الذي هرم، جيل عجوز عاجز عن الكلام والتصرف، جيل يراقب ويفهم ويحزن ويتألم ويتحسر لكنه جامد.

يطغى على شخصيات سومر شحادة شعور عميق بالتخلي والحزن والاستسلام والتيه. يلاحظ القارئ مشاعر الضعف والعجز والفراغ، هذا الفراغ الهائل المؤدي إلى التلاشي الذي نشأ بسبب أعوام طويلة من التعرض للتعسف والاستبداد.

أجواء بوليسية

ليست هذه الرواية رواية بوليسية تراجيدية فحسب، على رغم مما في كتابتها من جمالية وصنعة. لكن سومر شحادة أراد إظهار المزيد وفضح المزيد في كتاباته، فيقول في الحوار الذي أجرته معه إدارة الجائزة العالمية للرواية العربية عن مصادر إلهامه للكتابة، “ما ألهمني أمور ذاتية حدثت في حياتي، عشتها، وأحداث كانت تجري في سوريا تحت حكم بشار الأسد وجعلتني أتأمل مصيرنا ونحن نحتاج إلى اللجوء من الدولة، لا إليها. طبعاً لم يكن يوجد ما نلجأ إليه بعدما نجح النظام في التهام جسد الدولة التهاماً نهائياً. إلى درجة، حدث سقوطهما معاً. وقبل ذلك، فكرت بالبشر العالقين في سوريا في جو موبوء بالجريمة والغياب المطلق للعدالة. […] سوريا بلد موبوء بالقتل، خربه النظام، هذا ما ألهمني، وقد أخذته على عاتقي. لأنني أعرفه، لأنني عشته، ولأن مقتل الأبرياء دائماً أرهق وجداني”.

من خلال شذرات جمل موزعة بحنكة في النص يفضح شحادة في هذه الرواية اللاعدالة الموجودة في المجتمع السوري، كما يفضح البؤس واليأس والحزن الموجود بين الناس. فتافيت جميلة تظهر بين الفينة والأخرى من السرد لتطعن القارئ وتشعره بعمق الألم، كمثل قول شحادة على لسان شخصياته “نحن في بلد داخل الأسر”. (ص: 51)، “كانت السماء تشع بألوان الغروب. لم يسوروا السماء بعد”. (ص:129)، “العدالة تقف إلى جانب القوي”. (ص: 134).

شذرات جمل تفضح حال البلاد من الداخل وفسادها وفساد أهلها وفساد نظامها، لكن النقطة السردية البديعة التي تحتسب للكاتب هي تحويله التحقيق القضائي الذي من المفترض أن يكون عادلاً ونزيهاً، إلى مسرحية حافلة بالحوارات غير المتوقعة والمشاهد التي تفضح المؤامرات من الداخل. يتحول التحقيق في جريمة قتل أو انتحار المحامي اللامع يوسف الشهال إلى مسرحية، فيكتب شحادة “المقتول موجود، والمطلوب إيجاد قاتل”. […] “أقيمت هيئة تحقيق بسرعة كي تخلق قاتلاً”. (ص:99). إن استعمال صيغة النكرة في كلمة “قاتل” خير دليل على المسرحية الهزلية التي تدور في الواقع السوري، فالمحققون لا يبحثون عن “القاتل” بل عن “قاتل”/ أي قاتل.

ثم يوغل الكاتب في الإيحائية السردية عندما يجلس المحققون في المطبخ “ليطبخوا” التحقيق. وكأن التحقيق يؤلف القاتل بدلاً من أن يجده. سخرية واضحة وإيحائية موغلة بالشراسة والنقد لواقع يحكمه القوي والمستبد، فيكتب شحادة عن اللاذقية، المدينة التي تدور فيها الأحداث، “الجميع يعرف القتلة. وفي الوقت نفسه لا أحد يشير إليهم. أو ليس بمقدور أحد الإشارة إليهم. هكذا كان حضور الموت في اللاذقية، أشبه بالطيف الذي لا يستطيع أحد تخمين أي البيوت سيزور في اليوم التالي، كانت مدينة استباحتها الجريمة”. (ص:82).

الآن بدأت حياتي “رواية ذكية، محنكة سردياً، بديعة لغوياً، متماسكة أسلوبياً، متعددة الفنون الأدبية والأصوات السردية تستحق أن تتحول إلى مسرحية تعرض على الخشبات، عمد فيها سومر شحادة إلى سرد قصص شخصيات ناقصة مهزومة كسولة في زمن انحطاط وغياب العدالة والحرية والأمل”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى