ما الذي تريده إيران؟/ كريستوفر دي بيليغ

جذور الصراع بين الجمهورية الإسلامية والغرب
الثلاثاء 11 مارس 2025
دعمت إيران حلفاءها الإقليميين في صراعات الشرق الأوسط، لكن هذه التحركات جلبت لها خسائر فادحة، من اغتيالات لقادتها إلى ضربات إسرائيلية وأميركية غير مسبوقة. والي نصر يفسر هذه السياسات في كتابه، مؤكداً أن استراتيجية طهران تستند إلى أمن قومي متأثر بتاريخها وحربها مع العراق.
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بدا أن الذراع الطويلة لإيران كانت حاضرة في كل الأزمات التي اجتاحت الشرق الأوسط، فبينما كانت إسرائيل تركز على “حزب الله”، حليف إيران الشيعي المدجج بالسلاح في لبنان، لم تكن مستعدة على الإطلاق للهجوم البري المدمر الذي شنته “حماس” من غزة، وهي جماعة فلسطينية مسلحة مدعومة أيضاً من طهران، ولم يتوقع الغرب أن يكون الحوثيون في اليمن، وهم ميليشيات يُفترض أنها غير منظمة تلقت ترسانة صواريخ كبيرة من طهران، قادرين على شل حركة الشحن العالمية في البحر الأحمر.
لكن الصراعات التي أشعلها حلفاء إيران الإقليميون لم تكن في مصلحة القيادة الإيرانية، فقد تعرضت طهران لسلسلة من الإهانات المتتالية أبرزها عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لـ “حماس” إسماعيل هنية داخل دار ضيافة تابع للحكومة في طهران، وهو دليل صارخ على مدى اختراق الاستخبارات الإسرائيلية للأجهزة الأمنية الإيرانية، فضلاً عن الخسائر التي لحقت بـ “حزب الله” وتصفية معظم قياداته العليا بمن في ذلك زعيمه القوي حسن نصرالله، وإضافة إلى ذلك نفذت إسرائيل أكبر الغارات الجوية ضد إيران في تاريخها، ويقال إنها أضعفت الدفاعات الجوية للبلاد، كما شهدت طهران الانهيار السريع لنظام بشار الأسد، حليفها الوثيق منذ فترة طويلة.
في كتابه “الإستراتيجية الكبرى لإيران: تاريخ سياسي”، يحاول الباحث المخضرم في الشؤون الإيرانية والشرق أوسطية والي نصر تفسير المناورات الدبلوماسية الدولية التي أدت على مدى عقود عدة إلى الوضع الحرج وغير المستقر الذي تواجهه إيران اليوم، ويزعم نصر أن الرؤية الإستراتيجية للنظام الإيراني تستند بصورة أقل إلى نية ثورية لنشر الأيديولوجيا الإسلامية، وأكثر إلى مفهوم للأمن القومي متجذر في المنافسات الإقليمية والتجربة التاريخية لإيران، والتيارات المعادية للإمبريالية والاستعمار التي برزت خلال أواخر القرن الـ 20. يقول نصر إن “الإسلام لا يزال لغة السياسة في إيران”، موضحاً أن الطابع الديني للدولة يستخدم كوسيلة لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية داخلياً وتحديد المصالح الوطنية خارجياً”، لكنه يضيف أن “هذه الأهداف باتت ذات طبيعة علمانية الآن”.
وبالاستناد إلى متابعة نصر الدقيقة لمصادر إيرانية غالباً ما يتجاهلها آخرون، يأتي هذا الكتاب المفيد والغني بالمعلومات في لحظة تحول محتملة في إيران، فمع إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب على إحياء حملة “الضغوط القصوى” التي انتهجها خلال ولايته الأولى، يواجه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي البالغ من العمر 85 سنة معضلة إما الاستسلام لواشنطن، مما قد يؤدي إلى تخفيف العقوبات لكنه سيتطلب اتفاقاً نووياً أكثر تقييداً وتقليصاً جذرياً للسياسة الخارجية الإيرانية الحازمة والطموحة، أو المضي قدماً في تطوير سلاح نووي مما قد يستدعي ضربات إسرائيلية وأميركية استباقية، قد تكون مدمرة بصورة كارثية هذه المرة.
في أكتوبر الماضي أكد أحد كبار مستشاري خامنئي أنه في حال هاجمت إسرائيل المواقع النووية الإيرانية فإن المرشد الأعلى قد يعيد النظر في فتواه السابقة التي تحظر تطوير أسلحة الدمار الشامل واستخدامها في محاولة لفهم رد فعل إيران، وسيكون من المهم أيضاً أن يتخلى الغرب عن الصور النمطية القديمة حول نظام طهران، وأن يحدد الجذور الحقيقية لسلوكه وتوجهاته التي يعود جزء كبير منها للماضي. Top of FormBottom of Form
عقدة كربلاء
في عام 2001 أكد فيلق “الحرس الثوري” الإسلامي الإيراني في إحدى رواياته التاريخية الرسمية أن الحرب التي خاضتها إيران ضد العراق بزعامة صدام حسين خلال الثمانينيات واستمرت ثمانية أعوام قد تؤثر في “كل قضية من قضايا السياسة الداخلية والخارجية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لعدة عقود قادمة في الأقل”، وهي وجهة نظر أيدها خامنئي مراراً وتكراراً، بما في ذلك أخيراً عام 2022، وغالباً ما قلل المحللون الغربيون من أهمية الحرب الإيرانية – العراقية، ويرجع ذلك في جزء منه لأنها انتهت من دون نصر حاسم، وفي جزء آخر إلى أن الولايات المتحدة وعدداً من حلفائها الذين دعموا دكتاتورية صدام البعثية، غيروا موقفهم لاحقاً بصورة محرجة وأطاحوا به بعد 15 عاماً، ومن جانبهم لا يرى المعارضون الإيرانيون المنفيون أية فائدة في الإشادة بصمود إيران البطولي في وجه جارتها المستبدة.
في الواقع يعيد والي نصر الحرب لمكانها الصحيح باعتبارها الحدث المفصلي في تاريخ إيران بعد الثورة، ويزعم أن هذا الصراع المرير الاستنزافي المطول الذي قُتل فيه ما يصل إلى مليون شخص من الجانبين، ولّد الثقافة الإستراتيجية التي وجهت سلوك إيران خلال معظم العقود الثلاثة والنصف اللاحقة، بما في ذلك العصر الحالي.
ويصف نصر هذه الثقافة بأنها متجذرة في رؤية تجمع بين “الخوف من الحصار [العزلة] والطموحات المفرطة”، وهو مزيج دفع طهران إلى استخدام القوات الوكيلة والعملاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إضافة إلى الوسائل غير التقليدية، لإلحاق الضرر بأعداء أفضل تجهيزاً مثل إسرائيل والولايات المتحدة.
وبالنسبة إلى صدام فقد مثلت الثورة الإيرانية عام 1979 فرصة سانحة، فبعد أن شهد الإطاحة بمحمد رضا بهلوي، شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة، والأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بعد اقتحام أتباع الزعيم الإيراني الجديد آية الله روح الله الخميني السفارة الأميركية في طهران واحتجاز أكثر من 50 أميركياً كرهائن، رأى الزعيم العراقي فرصة للاستيلاء على الأراضي وتحرير الأقلية العربية في إيران من نير الهيمنة الفارسية، وخنق النظام الديني الجديد الذي كان يحرض الشيعة في العراق على الإطاحة بحكومة صدام التي يهيمن عليها السُنّة.
لكن الغزو الذي شنه صدام في سبتمبر (أيلول) 1980 أدى بصورة غير متوقعة وغير مقصودة إلى تعزيز النظام الديني الجديد في إيران، فقد استغرق الأمر من الإيرانيين أقل من عامين لاستعادة الأراضي التي خسروها خلال الهجوم العراقي الأولي، ودفْع العدو إلى ما وراء شط العرب، الحدود النهرية بين البلدين. وبحلول تلك المرحلة كان الخميني قد أجرى تطهيراً سياسياً شمل الليبراليين واليساريين، واستبدل الجيش الذي ورثه عن الشاه بقوة جديدة متشددة وهي “الحرس الثوري” الإسلامي، وأبقى نفسه على مسافة واحدة من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة مزدرياً الاثنين، مما شكل مصدر إلهام بالنسبة إلى ملايين المسلمين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي الأوسع، وعندما سأل صحافي باكستاني الخميني عن فوائد الثورة أجاب ببساطة: “الآن تُتخذ جميع القرارات في طهران”.
وخوفاً من أن يكون لراديكالية الخميني تأثير معد فقد اصطف الغرب والكتلة السوفياتية ومعظم العالم العربي إلى جانب صدام، فباعته فرنسا طائرات مقاتلة من طراز “ميراج”، وقدمت له إدارة ريغان معلومات استخباراتية أميركية، بينما زوده السوفيات بالدبابات والصواريخ، ومن السعودية تلقى مليارات الدولارات على شكل قروض ومؤن لقواته، وفي ظل الحظر الدولي شبه المحكم على الأسلحة اضطرت إيران إلى الاعتماد في الغالب على الاكتفاء الذاتي والحماسة الدينية والوطنية.
عندما أجريتُ مقابلات مع قدامى المحاربين داخل إيران قبل عقدين من الزمان، أدركتُ مدى قوة هذه الحماسة الدينية، وسمعت أن أعضاء مراهقين في “ميليشيات الباسيج” التطوعية كانوا يضعون العطر قبل تنفيذ عمليات انتحارية لكي تكون رائحتهم زكية عند لقاء خالقهم، كما أخبروني عن فتيات اخترن عمداً أزواجهن من جنود تسمموا بصورة قاتلة بسبب الأسلحة الكيماوية العراقية التي طُورت باستخدام مواد مزدوجة الاستعمال ومركبات كيماوية أولية قدمتها شركات في ألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وكان بعض المحاربين القدامى الذين تحدثت معهم في مدينة أصفهان الإيرانية يتوقفون عن الكلام فجأة ويسعلون بصوت خافت، وقد احمرت وجوههم وضاقت صدورهم بينما كان الغاز الذي استنشقوه قبل أكثر من عقد يواصل الفتك بهم ببطء.
في صيف عام 1982 تحول ما سماه النظام الإيراني بـ “الدفاع المقدس” إلى حملة هجومية عندما عبرت القوات الإيرانية نهر شط العرب، وفي النهاية كلفت الحرب التي استمرت ما يقارب عقداً ضد خصم كان مجهزاً بصورة أفضل بكثير، إيران ما يصل إلى نصف مليون قتيل، من دون أن تتمكن القوات الإيرانية من الإطاحة بصدام أو الحصول بصورة دائمة على أية أراض عراقية، وأكدت القيادة الإيرانية أن الأهداف الجديدة للحرب هي القضاء على إسرائيل وإلهام شعوب الدول الخليجية السُنيّة في الغالب للانتفاض ضد حكامها المدعومين من الغرب، وكان الشعار الشائع بين المتطوعين الإيرانيين هو “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء”، المدينة العراقية التي تحوي أضرحة شيعية مقدسة.
في الواقع مر هذا الطريق عبر لبنان حيث خاضت ميليشيات “حزب الله” الشيعية التي أنشأتها إيران عام 1982 معارك ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ونفذت هجمات ضخمة ضد القوات الأميركية والفرنسية، ومر أيضاً عبر مكة حيث قمعت السلطات السعودية عام 1987 تظاهرة نظمها حجاج إيرانيون، ولقي نحو 400 شخص حتفهم خلال الاشتباك بمن في ذلك أكثر من 200 حاج إيراني، وبعد فترة طويلة من انتهاء الأعمال العدائية رسمياً بين إيران والعراق مرّ الطريق إلى القدس عبر بوينس آيرس، حيث وجهت السلطات الأرجنتينية والمحققون الدوليون اتهامات لإيران بالتخطيط لتفجيرات السفارة الإسرائيلية عام 1992 ومركز ثقافي يهودي بعد ذلك بعامين.
وفي يوليو (تموز) 1988 أسقطت سفينة حربية أميركية طائرة ركاب إيرانية فوق الخليج العربي، وهي الرحلة (655) التابعة للخطوط الجوية الإيرانية، مما أسفر عن مقتل جميع الركاب على متنها والبالغ عددهم 290 شخصاً، وزعمت الولايات المتحدة التي كانت تحاول احتواء القوة الجوية الإيرانية أنها أخطأت في التعرف إلى الطائرة وظنتها مقاتلة من طراز “إف-14 توم كات” (أعرب الرئيس رونالد ريغان عن أسفه لهذا لخطأ لكنه لم يعتذر).
وهذه الكارثة حطمت عزيمة الخميني الذي شبّه قبوله لاحقاً بوقف إطلاق النار الذي رعته الأمم المتحدة بـ “تجرّع السم”، وتوفي عام 1989 وخلفه تلميذه علي خامنئي الذي، وفقاً لولي نصر، “بسط نفوذه على السياسة الإيرانية منذ ذلك الحين”.
يُعرف خامنئي بعناده ودهائه، وهو أيضاً رجل ذو قناعات ومبادئ راسخة، وعلاوة على ذلك فإن كراهيته للولايات المتحدة عميقة للغاية، وينقل نصر عنه قوله خلال أحد اجتماعات المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إن “أميركا مثل الكلب، إذا تراجعتَ فسوف ينقض عليك، ولكن إذا انقضضتَ عليه فسوف يرتد ويتراجع”.
من قرار الرئيس جيمي كارتر بمنح الشاه حق اللجوء إلى الولايات المتحدة بعد الإطاحة به عام 1979، وهو الحدث الذي أدى إلى الاستيلاء على السفارة الأميركية، إلى خطاب الرئيس جورج دبليو بوش الذي أدرج إيران ضمن “محور الشر” عام 2002، وصولاً إلى انسحاب ترمب الأحادي عام 2018 من الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع القوى العالمية وفرضه مئات العقوبات الجديدة، يمكن للمرشد الأعلى أن يستعين بكثير من الأدلة لدعم زعمه بأن الولايات المتحدة لطالما سعت إلى تغيير النظام في إيران.
متاهة سليماني
ولكن بحلول الأعوام الأولى من هذا القرن جذبت احتمالات السلام وتدفق الاستثمارات الأميركية عدداً من السياسيين الإيرانيين الأكثر براغماتية، وبخاصة رفسنجاني، الذي شغل منصب الرئيس خلال تسعينيات القرن الـ 20، وقد ترددت شائعات عن سعيه، بدعم من بعض رجال الدين، إلى عقد “صفقة كبرى” مع “الشيطان الأكبر”، أي الولايات المتحدة، ثم خلَفه في المنصب محمد خاتمي، وهو رجل معتدل سعى بصورة أكثر صراحة إلى تحسين العلاقات مع واشنطن، ويذكر نصر، استناداً إلى مقابلاته مع خاتمي، أنه عندما أطلع هذا الأخير خامنئي عام 2003 على رسالة كان قد صاغها إلى بوش يعرض فيها حل الخلافات العالقة مع الولايات المتحدة كافة، نصحه المرشد الأعلى بعدم إرسالها وحذره قائلاً “إن أميركا ستخذلك وستفسر الرسالة على أنها ضعف”، بيد أن خاتمي أرسلها على أي حال، لكن بوش لم يرد عليها، فاضطر الرئيس الإيراني إلى الاعتراف بأن المرشد الأعلى كان على صواب.
في نظر خامنئي أن ما يهم هو الأمد البعيد، فالسعي وراء المثل العليا أكثر أهمية من تحقيقها، وسيتبين دائماً أن النكسات موقتة وقد يستغرق تحقيق النصر أجيالاً، وعلى رغم كلفتها وعدم حسمها فإن الحرب الإيرانية – العراقية قد علمت طهران كيف تتحايل على العقوبات الغربية باستخدام شركات وهمية ووسطاء، ولقد منحت الحرب “الحرس الثوري” الإيراني رغبة الدخول في الأعمال والمشاريع الخاصة مما مهد الطريق للهيمنة الاقتصادية التي تتمتع بها الشركات المرتبطة بـ “الحرس الثوري” اليوم، وبخاصة في مجال الطاقة والبنية التحتية، كما منحت النظام، أو في الأقل أجزاءه الأكثر أيديولوجية والتزاماً، إيماناً بقدرته على الصمود وقدرة إيران على التعافي من النكسات، وربما الأهم من كل هذا هو أن الحرب حولت إيران إلى دولة مكتفية ذاتياً في مجال التكنولوجيا وقادرة على تصنيع القنابل المتطورة المزروعة على جانب الطريق التي استخدمتها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران لقتل مئات الجنود الأميركيين في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003، والطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية التي أطلقتها إيران على إسرائيل في أكتوبر الماضي، وبالطبع أجهزة الطرد المركزي التي دفعت طهران إلى حافة العتبة النووية على رغم المعارضة الدولية.
وإضافة إلى ذاك كان هجوم صدام على إيران مصدر إلهام لعقيدة طهران الإستراتيجية المسماة “الدفاع المتقدم” [أي العمل على نقل أية مواجهة خارج حدود أراضي إيران من خلال الأدوات والوكلاء الإقليميين] التي تبنتها رسمياً عام 2003، وما يراه أعداء إيران وخصومها على أنه عدوان يزرع الفوضى من خلال الطائفية والمكائد القذرة، هو في نظر النظام محاولة دفاعية لتحييد التهديدات قبل أن تصل إلى حدود البلاد.
لقد عززت إيران قوة حلفائها الشيعة في العراق على حساب الفصائل السُنية (بما في ذلك المتطرفون المنتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية أو “داعش”)، وأخضعت الجسم السياسي اللبناني لسيطرة “حزب الله”، وأرسلت آلافاً من “الحرس الثوري” الإيراني والمقاتلين الأجانب، معظمهم من الشيعة الأفغان، لمساعدة بشار الأسد في قتال المتمردين الذين أرادوا الإطاحة به في سوريا، وعلى مدى معظم العقد الثاني من هذا القرن، أشرف على هذه الجهود الرجل الذي أصبح أحد أبرز الدعاة المؤيدين لإستراتيجية “الدفاع المتقدم”، الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
في أوائل العقد الثاني من عمره وفي بداية الحرب الإيرانية العراقية، انضم سليماني إلى “الحرس الثوري” الإيراني ونفذ أعمالاً تخريبية داخل العراق، وسرعان ما ارتقى إلى مناصب أعلى فتولى عام 1998 قيادة “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني، الجناح المسؤول عن العمليات الخارجية، وهو لم يكن رجلاً متعصباً أيديولوجياً لا يتزحزح عن معتقداته، ففي أعقاب هجمات الـ 11 من سبتمبر 2001، قدم للولايات المتحدة معلومات استخباراتية ساعدتها في الإطاحة بعدوهما المشترك في أفغانستان وهي “حركة طالبان”، لكن سليماني لم تكن لديه أي أوهام في شأن “صفقة كبرى” محتملة مع الولايات المتحدة، فقد شبّه علاقة واشنطن بإيران بعلاقة “الذئب والخروف”، وهو لم يكن معجباً بجودة القوات السورية التي اضطر إلى العمل معها عندما كان يدير عملية التدخل العسكري الإيراني في سوريا، فوفق ملف نشرته “مجلة نيويوركر” عن سليماني عام 2013، فقد قال لأحد السياسيين العراقيين إن “الجيش السوري عديم الفائدة، أعطني لواء واحداً من ‘الباسيج’ وسأتمكن من السيطرة على البلد بأكمله”.
وبغض النظر عن ذلك فقد كانت إنجازات سليماني كبيرة، ففي عام 2015 أقنع شخصياً كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصر الله بالتدخل في الصراع السوري، مما سمح لنظام الأسد بالبقاء مدة عقد آخر من الزمان تقريباً، وفي العام نفسه خطط أيضاً لاستعادة مدينة تكريت العراقية المهمة من “تنظيم الدولة الإسلامية” بمشاركة القوات العراقية وقوات “الحرس الثوري” الإيراني، ولقد جمع سليماني بين شجاعة المحارب ودهاء رجل الاستخبارات وطغيان الحاكم، وقد وصفه مسؤول عراقي كبير سابق بأنه “إستراتيجي بارع وذكي بصورة مخيفة”، وفي أحد الاقتباسات الكثيرة التي يستشهد بها نصر، يذكر أن سليماني قال لخامنئي “لقد وضعنا الحبة في فم الأسد، لكنه يبصقها بمجرد أن ندير وجوهنا”.
ومن أجل الحفاظ على روح الحرب بين إيران والعراق أنشأت الجمهورية الإسلامية متاحف “الدفاع المقدس” في جميع أنحاء البلاد وحاولت تعزيز قيم الحماسة والتضحية بالنفس التي كانت محورية خلال تلك الحقبة، من خلال الأفلام وألعاب الفيديو والموسيقى الشعبية، لكن هذه الجهود لم تحقق نجاحاً كبيراً، إذ إن 60 في المئة من الإيرانيين الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة ليست لديهم ذكريات عن تلك الحرب، وكثير منهم، في ظل العزلة الاقتصادية وتراجع الفرص والآفاق في الداخل، مستاؤون من أن النظام يحول مليارات الدولارات إلى “محور المقاومة”، وهو الاسم الذي يطلقه على شبكة وكلائه وشركائه، وفي كل مرة تشهد إيران إحدى موجات الاحتجاج والاضطراب التي تعانيها دورياً مثلما حدث نهاية عام 2022 بعد وفاة امرأة إيرانية شابة، مهسا أميني، أثناء احتجازها لدى الشرطة، ينتقد المحتجون تورط إيران في النزاعات الخارجية، وقد انتشر أخيراً مقطع فيديو على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي الإيرانية يظهر فيه مدير مدرسة إيرانية للذكور يهتف قائلاً “الموت لإسرائيل”، فيرد عليه تلاميذه بحماسة “الموت لفلسطين”.