سورية: في الحاجة إلى تصحيح المسار/ برهان غليون

11 مارس 2025
عاشت منطقة الساحل السوري في اليومين الأخيرين أحداثا مأساويةً، راح ضحيتها مئات المواطنين من العسكريين والمدنيين، وانتشرت فيها كثير من عمليات النهب والسلب والاعتداء على المواطنين الآمنين. وأول ما تذهب إليهم قلوبنا وأفكارنا الأبرياء من المدنيين الذين قضوا اليوم، كما قضى إخوانهم بالأمس، ضحية حروبٍ ليس لسورية والسوريين من كل الفئات أي مصلحة فيها.
والواقع، ليس هناك وسيلة أفضل لتقويض شرعية الحكم الجديد وقطع الطريق على أي تحوّل سياسي، يفضي إلى تثبيت منطق الدولة وإطلاق عجلة البناء والتنمية التي يحلُم بها جميع السوريين، من إعادة البلاد إلى دائرة الحرب الطائفية. هذه كانت سنة النظام البائد. في المقابل، كان رفضها والتحرّر منها، أي التحرّر من منطق الثأر والانتقام والقتل على الهوية، مصدر الشرعية الرئيسي للثورة السورية المجيدة ونبراسها. والقضاء على هذا الأمل في تحرّر المجتمع من كوابيس الماضي البغيض وأشباحه هو ما هدف إليه مخطّطو التمرّد العسكري الذي شهدته منطقة الساحل ومدنها في الأيام الثلاثة الماضية من أحداث مأساوية بكل المعاني، شكّلت نكسة خطيرةً على طريق التعافي وخروج سورية من دائرة العنف والانقسامات والنزاعات الداخلية إلى الحياة السلمية والبحث في إعادة بناء أسس الدولة الجديدة الديمقراطية التي تساوي بين جميع مواطنيها، وتؤلف بينهم على قاعدة المساواة والعدالة والحرية التي ألهمت كفاحهم الطويل والعنيد ضد الاستبداد المديد، والتي لا تعني شيئاً إن لم تكن حرّية جميع السوريين وكرامتهم بالتساوي.
تقع المسؤولية، بالدرجة الأولى، في تفجير دورة العنف الدموي الجديدة هذه على فلول النظام البائد، ومن ورائهم القيادة السياسية في طهران، وما تبقى من فلول أحزابها ومليشياتها المهزومة في العراق ولبنان، فهم الذين نظّموا وسلّحوا وخطّطوا لهذا التمرّد العسكري الذي كان الهدف منه جرّ سكان المنطقة إلى صراع طائفي في أكثر المناطق حساسية، وقطع الطريق أمام السلطات السورية الجديدة لبسط الأمن وإعادة توحيد البلاد وإرساء أسس الانتقال السياسي. وكان توريط المدنيين في هذا الصراع جزءاً من هذا المشروع الذي لم تُخف تأييدَها له قوى النظام السابق وحلفاؤها الرئيسيون.
وتقع المسؤولية، في الدرجة الثانية، على الإدارة الأميركية التي حرصت منذ انهيار النظام القديم على التمسّك بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها من قبل على حكومة الأسد، للضغط على النظام الجديد وإجباره على العمل حسب أجندتها الشرق أوسطية، في وقتٍ تعاني فيه سورية من اختناقٍ اقتصادي يحرم الحكومة من القدرة على دفع رواتب موظفيها، ويضع الشعب أمام ضائقة معيشية مستحيلة الحل، يهدّد استقرار شعبها النفسي والحيوي.
ولكن مسؤولية السلطة السورية الجديدة تظلّ الأساسية في ما يتعلق بالطريقة التي واجهت فيها هذا التمرّد الذي لا أعتقد أنه سوف يقف عند هذه الحلقة، فسوف يستمر. ولن تستسلم القوى التي خسرت مصالحها مع تغيير النظام السياسي، الداخلية منها والخارجية، وتسلّم بالأمر الواقع. وعلى النظام الجديد، الذي بدا متفائلاً جدّاً في قدرته على كسب المعركة الكبرى لإخراج البلاد من دوامة الحرب الإقليمية والدولية، والحد من مخاطر انفجار الأوضاع الأمنية الداخلية، أن يعيد النظر في عديد من خططه، وإصلاح مكامن الضعف التي أظهرتها الأشهر الثلاثة الماضية من عمره، على جميع المستويات، وبشكلٍ خاص في ما حصل في المواجهة الدموية أخيراً في الساحل التي تحوّلت إلى مأساةٍ راح ضحيتها مئات الضحايا من المدنيين، اعترف رئيس الدولة بمسؤولية بعض الفصائل التي ساهمت فيها عن جزءٍ منها.
بالإضافة إلى ما يشير إليه هذا الاعتراف من واجب الاعتذار عما حدث، وطلب الصفح من أهالي الضحايا وتعويض ذويهم، وهم مواطنون من مذاهب مختلفة، عما أصابهم، فهو يشكل فرصة لإعادة النظر في الخيارات التي قادت مسيرة الحكومة المؤقتة على طريق الانتقال السياسي، والتي اظهرت علائم ضعفٍ عديدة، سواء ما تعلق منها بإدارة الملفّ السياسي أو الملفّ العسكري أو بناء الدولة ومؤسّساتها أو الملف الإعلامي والتفاعل بين الحكومة والشعب، أو ملف المؤتمر الوطني الذي أصبح اكثر إلحاحا اليوم بعد اختتام أعمال مؤتمر الحوار الوطني مما كان عليه من قبل.
وفي اعتقادي، تشكّل هذه المراجعة حلقةً لا غنى عنها لإعادة إطلاق مسيرة الانتقال السياسي على أسس صحيحة وثابتة، وقطع الطريق على المفاجآت والعنعنات والصيد في الماء العكر لأصحاب النيّات السيئة في الداخل والخارج. وهي الوسيلة الوحيدة لتعويض الخسائر الإنسانية والمعنوية التي تسبّبت فيها المواجهات، حتى لا تذهب دماء الضحايا من أبنائنا سدى، مثل ما هي ضرورة لتقريب الحكومة من الشعب، وإعادة الثقة بين السلطة القائمة، وقطاعات واسعة من أصحاب الرأي السوريين، وبشكل خاص من العرب والأجانب الحريصين على إنجاح تجربة الانتقال السياسي، وتجنيب سورية خطر السقوط من جديد في دوّامة العنف والاقتتال والانقسام. وأبرز ما ينبغي على السلطة أن تعالجه بهذه المناسبة هو:
أولا، إعادة النظر في طريقة تفاعلها وتواصلها مع الجمهور، وعدم ترك الرأي العام السوري، والدولي أيضاً، ضحية لإشاعات وأخبارٍ مبتسرةٍ ودعاياتٍ مغرضةٍ تبثّها وسائل التواصل الاجتماعي المخترقة من أجهزة استخباراتية لدول وحكومات معادية عديدة. وهذا يستدعي إعادة تشغيل الأجهزة الإعلامية، وتشكيل كادر إعلامي احترافي على مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه، في مرحلةٍ استثنائيةٍ وخطيرة من التحوّل الداخلي السوري، في إطار أوضاع إقليمية ودولية متوتّرة وانفجارية، فلا يمكن ترك ساحة الإعلام والتواصل الحيوية هذه لمؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي الذين يستقون أخبارهم المجتزأة من وسائل إعلام أجنبية، أو من رواياتٍ لا مصداقية لها لهؤلاء وأولئك. لا يترك غياب هذه الوسائل التواصلية المباشرة بين الحكومة والجمهور المجال سائبا لاستغلال أصحاب النيات السيئة فحسب، ولكنه يُضعف أيضا صدقية الحكومة والدولة الجديدة نفسها.
ثانياً، تشكيل لجنة تحقيق مستقلة فورية لتقديم صورة حقيقية عما حدث في الأيام الماضية في الساحل، وتقديم تقريرها للحكومة وللرأي العام. وبهذا تظهر السلطة الجديدة قدرتها على تحمّل مسؤوليتها، والكشف عن الأخطاء ومعالجة التجاوزات وتأكيد سلطة القانون وإصلاح الأخطاء وتحقيق العدالة للضحايا. هذه خطوة أساسية لتعزيز بناء الدولة وتأكيد سلطة القانون الذي هو جوهرها.
ثالثاً، وفي سبيل إعادة الثقة العامة وإطلاق مسيرة الانتقال السياسي الذي لم يكن للتمرّد العسكري غرضٌ آخر سوى تعطيله وزجّ البلاد في حربٍ أهلية، ووضعها في نفقٍ مسدود، لا أعتقد أن من الممكن تجنّب العمل لتنظيم وإطلاق حوار وطني موسّع برعاية لجنة مدنية لا رسمية، تعمل عليه وتُحييه نخبة مستقلة من شخصيات اجتماعية معروفة بمواقفها الحرّة وسمعتها الاجتماعية والتزامها السياسي والأخلاقي وولائها الوطني. لا ينبغي أن يكون هدف هذه اللجنة إنتاج أوراق أو وثائق، وإنما السعي إلى كسر الحواجز التي تحول دون تفاهم السوريين، وفتح الحوار المقفل بين أبناء مجتمع لم يُحرَم عقوداً طويلة من التعرّف إلى نفسه والتعبير عن مشاعره والنقاش في ما يؤرّقه من مشكلاتٍ فحسب، وإنما جرى تفخيخه بكل الوسائل، وتحويله إلى حقل ألغام قابلٍ، في أي لحظة، للاشتعال والتفجير. هذا هو السبيل الوحيد لنزع الألغام وإعادة بناء الثقة والتواصل الطبيعي والسليم بين الجميع، وتقريب وجهات النظر والبحث عن الحلول الوسط للمسائل الخلافية، ومن ثم لتعزيز الوحدة الوطنية وإحياء إرادة العيش المشترك.
رابعاً، وفي السياق ذاته، لا ينبغي الإبطاء أكثر في تشكيل هيئة العدالة والمصالحة الوطنية، ومحكمة جرائم الحرب، لمعالجة ذيول الحقبة الثورية المأساوية الماضية، وإجراء التحقيقات والبتّ بجميع الجرائم التي ارتُكبت بحقّ المدنيين، وإنزال العقوبة بالمذنبين، والتعويض المعنوي والمادي للضحايا. وفي هذا السياق، ينبغي سنّ قوانين لمكافحة جميع مظاهر الكراهية وأي دعوة إلى الثأر أو الانتقام، طائفية أو عنصرية، ومعاقبة الداعين إليها ومرتكبيها أفراداً أو جماعات.
خامساً، الإسراع في تشكيل حكومة انتقالية فعّالة من الخبراء، جامعة وتعدّدية، تعكس وحدة سورية بالفعل، وتردّ على اليأس المتفاقم من تحسّن الأوضاع المعيشية وقرب الخروج من الحصار. ويمثل تشكيل هذه الحكومة الامتحان الأكبر للسلطات الجديدة أمام الرأي العام، السوري والدولي. وهي الوحيدة التي تستطيع أن تبدّد، كما نأمل، المخاوف والشكوك التي أبدتها بعض القوى المحلية والدولية، وأن تفتح الباب أمام رفع العقوبات الاقتصادية التي تقيّد الدولة والمجتمع، لإطلاق عجلة الحياة الاقتصادية الواقفة.
سادساً وأخيراً، لا بد من إعادة النظر في منهج بناء القوات المسلحة التي أظهرت الأحداث أخيراً أنها لا تزال في بداياتها، وأن الفصائل لا تزال القوة الرئيسية التي يمكن الاعتماد عليها. وقد أثبتت الوقائع أن السلطة المركزية لن تستطيع أن تحقق هذه المعجزة، أعني تفكيك الفصائل ودمجها في إطار عسكري نظامي ومؤسّسي، من دون التقدّم في الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية السابق ذكرها، والتي تعزّز فكرة الدولة واستقلال مؤسّساتها وتفاعلها، والجيش في مقدّمها. ولعل استعادة آلاف الضباط المنشقّين والمسرحين الوطنيين وإدماجهم في هذه العملية إشارة إيجابية قوية على إرادة الخروج من روح الفصائلية، والرغبة في غرس منطق المؤسّسة الوطنية الجامعة في صفوف الجيش الجديد.
التقدم في تحقيق هذه المهام والإصلاحات بشكل مواز هو الذي يساعد على تذليل الصعوبات التي لا تزال تعيق التقدّم على المسارات جميعا، السياسية والعسكرية والاقتصادية والخاصة بالعلاقات الدولية أيضا، بالرغم من الشعبية الكبيرة التي يحظى بها الوضع الجديد، والتضحيات الكبيرة التي يظهر الشعب استعدادَه لتقديمها من أجل إنجاح تجربة الانتقال السياسي، وتثبيت الوضع الجديد، وإحباط أي محاولة للعودة إلى الوراء أو لزعزعة الاستقرار. وليس هناك سوى رؤية هذا التقدّم، ولو بخطى بطيئة، ما يساهم في تخفيض حدّة التوتر السياسي والاجتماعي والأيديولوجي المتزايد، وتعزيز الثقة في المستقبل وفي بسط الأمن والسلام في ربوع سورية من دون تمييز، وطمأنة السوريين، على مختلف مذاهبهم وطبقاتهم وقومياتهم، على حقوقهم المتساوية، ومن ثم في قطع دابر النزعات الانقلابية والانفصالية والانقسامية، وتعبيد الطريق نحو سورية الجديدة التي يتطلّع لمعانقتها ملايين السوريين في الداخل والخارج.
العربي الجديد