العُنف الذي لا يشبع/ نجوى بركات

11 مارس 2025
إبادة، قتل، مجزرة، مقتلة، تصفية جسدية، تعذيب، تهجير، رُعب، اقتتال، حروب أهلية، ودماء. دماء على مدّ النظر، سائلة، متجمّدة، متقيّحة، فاسدة، بريئة. أنهارٌ من الدم، ونظرات دموية، وأيد ملوّثة، وملامح محتقنة، وضحايا وقتلة وجلّادون، وفلول نظام، وشبّيحة، وعلوي، وسُنّي، وشيعي، ومسيحي، ودرزي، وإيزيدي… سجون، وأقبية تعذيب، ومدٌّ وجزر، ومؤامرات، ومرتزقة، ومصالح كونية، وأعداء في الداخل، ومتآمرون في الخارج، وتقسيم، وتقزيم، وإسرائيل، وأميركا، وتركيا، وإيران، ولعب على التناقضات، وإخوة أعداء، ونظام جديد، ومنْع، وصدّ، وفلتان أمني، وحوادث منفردة، وشرائط فيديو تُظهر وحوشاً يعيثون خراباً، يقتصّون، وانتقامات بالجملة، وشرائط فيديو أخرى تستجير، وصور تنفي، وشهادات توجع وتقلع القلب والعينين…
ولا تدري أين تذهب بحواسّك؟ ومنذ ولدتَ وأنت ترى وتسمع اللازمة نفسها تتردّد، تُعاد، تتوسّع، تسقط ديكتاتوريات كبرى، فتحلّ في مكانها ديكتاتورياتٌ صغرى قائمةٌ على أحجارٍ صلبةٍ من الكراهية والعدائية والعنف الفالت من زمامه، الضارب كيفما اتفّق بهيمةً أصابها مسٌّ.
وتفكّر… لا، أنت لا تفكّر، فدماغك مشلول، ويتقلّص، ويتفقّع، ويكاد يأمر القلب بأن يتوقّف عن ضخّ الدماء، أن يقطع الأوكسجين. ما هذه المهزلة التي تتكرّر، كأنّنا مجتمعات لم تتطوّر، كأننا في النقطة صفر من الحضارة، لم نتعلّم، لم نرقَ، لم نتطوّر. ما زال عنفُنا في طوْره الأول، لا تزال غرائزنا هي التي تتحكّم، باستطاعة أيّ منا أن يغرز قبضته في صدر أخيه، فيقتلع قلبه، ويشهره مفاخِراً، ثم يضحك.
نحن حتى لن نتساءل أين يكمن الشرّ، نحن حتى لن نضطر إلى النبش والحفر والتنقيب، لأنه ظاهر ومباشر ومُعلَن. لا طبقات تحول بيننا وبينه، لا ستائر تخفيه، لا صناديق، لا أقفال. عنفنا مستقرّ في سطح نفوسنا، شحنة صغيرة ويشتعل كعود كبريت، ويصير ناجزاً، قانوناً معمّماً. غالباً ما يشار إلى العنف بأنه “غير عقلاني”، ومع ذلك، لا تنقصه الأسباب أو المبرّرات. ومهما كانت هذه الأسباب، فهي لا تستحقّ أن تُؤخذ على محمل الجدّ، ذلك أن العنف سيتناساها ويخلّفها وراءه ما دام هدفه الأساس لم يتحقّق. فالعنف غير المتحقّق سوف يسعى دائماً إلى العثور على ضحيّة بديلة، ذنبها الوحيد أنها ضعيفة وفي متناول اليد.
يقول المفكر والفيلسوف الفرنسي الراحل رينيه جيرار، الذي عمل كثيراً على ثيمة العنف وعلاقته بالمُقدّس: “طالما يتمتّع الناس بالهدوء والأمان، الدم لا يُرى. لكن، بمجرّد إطلاق العنان للعنف، يصبح الدم مرئياً، يبدأ في التدفق ولا يعود من الممكن إيقافه، فهو يشير إلى ذاته في كلّ مكان، وينتشر وينتشر بطريقة عشوائية. سيولته تجسّد الطبيعة المُعدية للعنف. وجوده يدين جريمة القتل ويدعو إلى مآسٍ جديدة. الدم يلطّخ كلّ ما يلمسه بألوان العنف والموت. هذا هو السبب في أنه “يصرخ من أجل الانتقام”. لذا، من الضروري أن نُظهر اليوم ما كانت الأديان تواجهه بشكل مباشر، أي جزء العنف الذي يقع في صميم مجتمعاتنا. العنف هو القمع المستمرّ لمجتمعنا، في حين يعمل كلّ مجتمع من قوة عنيفة داخلية لطالما سعى جيرار إلى توصيفها وتحليلها. بالنسبة إليه، قلبُ العنف هو في قلب العلاقات الأكثر حميمية بين الرجال، في قلب الرغبة بين البشر، تلك التي تجعلنا نرغب في شخص ما، شيء ما، أو نعادي شخصاً ما ، شيئاً ما. من دون هذا التنافس المستمرّ، لا يمكننا الوجود. من يقول الحبّ، يقول أيضاً التنافس، الغيرة، الحرب. بتعبير آخر، المُقدّس يستثير العنف ويولّده. وسواء أكان قائماً على التسامي أم لا، فإنه يشكّل نمطاً لتمثّل الكون يتطلّب الخضوع الكامل، ويحدّد الوصفات والمحظورات. المُقدّس هو الذي يُعطي الإنسان هُويَّته في المقام الأخير، وفي جميع الأساطير الدينية، تنتزع آلهة الخير والنظام نفسها من الفوضى والشرّ والموت، في صراع عنيف.
المحصّلة، هل هناك من سبيل لإيقاف جريان الدم في منطقتنا؟… الإجابة على مرمى حجر.
العربي الجديد