شعر

مختارات شعرية لـ لويز غليك

أسطورة

جاء جدي إلى نيويورك من “دلوا”:

وتوالت العثرات.

في هنغاريا كان أكاديمياً، صاحب امتياز.

ثم جاء الفشل: صار مهاجراً

يلفّ التبغ في مستودع بارد.

كان مثل يوسف في مصر.

يسير ليلاً في المدينة،

ويتحوّل رذاذ الميناء

دمعاً على وجهه.

دموع الحزن على “دلوا” التي هي أربعون بيتاً

وبضع أبقار ترعى المروج الوفيرة…

يقال إن الروح العظيمة

ليست أكثر من نجمة أو شعاع،

لكنها أكثر شبهاً باللؤلؤ:

إذ ليس في العالم كله

ما هو صلب كفاية ليغيرها.

أيها الكائن التعس، أتوقفت عن الإحساس

بعظمة العالم

التي، كثقل عظيم، كوّنت

روح جدي؟

كانت أحلامه تحلق، كطيور حزينة،

من المعمل إلى “دلوا”، محضونة في مناقيرها

مثلما يرى رجل آثار خطواته

على أرض مبلّلة.

صور مبعثرة، شذرات ضبابية للقرية؛

وبينما يوضّب التبغ، كذلك في روحه

ذاك الثقل يكثّف كسرات “دلوا” ويحولها

إلى مبادئ ومجرّدات

تليق بتحدّي العبودية:

في بلد كهذا، أن تزدري

الامتياز، أن تحب المنطق والعدل،

وأن تقول

الحقيقة دوماً…

التي كانت

خلاص شعبنا

ما دام قول الحقيقة

يمنحُ وهم الحرية.

——————————-

السلال

١.

كم جميل:

عجوز في السوق

تحاول اختيار خسّة جيدة،

تزنها بتجرّد

تتفحّص وريقاتها

وحتى أنها تشمها

لتتنشق عبق الأرض

التي من جهة يبقى

بعض أثرها، لا التراب

لكن الجذور، وهكذا

تفاضل بين خسة وأخرى،

لأنها طازجة أكثر: تهزّ

رأسها بسرعة لزوجة البائع،

تعلمها بقرارها،

امرأة عجوز

لكنها صارمة في أحكامها.

٢.

في مركز دائرة العالم

كلب على حافة نبع.

يلعب الأطفال هناك،

وفي ذهابهم إلى القرية وإيابهم منها

يقفون ويحيونه، ثم سرعان ما يفقدون

رغبتهم في اللعب،

في القرية الصغيرة ذات العيدان

المزينة بكسر من الفخار الأزرق،

يقرفصون بجانب الكلب

المقعي على الثرى الحار:

أشعة الشمس تتراقص حوله.

الآن، في الحقل البعيد،

ينتهي حدث عظيم.

في مجموعات من اثنين وثلاثة

يلوّح الرياضيون بجسارة بقمصانهم،

ويمضون باسطين قمصانهم

الحمراء والزرقاء، الزرقاء والقرمزية الفاقعة

على الأرض المسطحة،

على الأرض العادية.

٣.

يا الله، يا من وهبني عزلتي،

أرى الشمس تهبط:

الأكشاك خالية في السوق

وبقية الأطفال

يتعاركون عند النبع…

لكن حتى ليلاً، حين لا نرى شيئاً،

فإن جذوة الشمس

لا تزال تسخّن الأرصفة.

لهذا، على الأرض،

تنبت الحياة بوفرة،

لأن الشمس تحتفظ

بدفء ثابت على سطحها.

أيدلّ هذا إلى معنى ما:

أن اللعبة تُستأنف في الثرى،

إله النبع الصغير؛

وأن لا شيء يبقى ثابتاً،

لا ضمان ضدّ الموت…

٤.

أحمل سلتي إلى السوق النحاسية،

إلى حيث الحشد.

أسألك: كم من الجمال يحتمل المرء؟

إنه أثقل من الدمامة،

بل إن ثقل الفراغ

ليس شيئاً قياساً به.

أقفاص البيض، ثمر الببايا، أكياس الحامض

الأصفر…

لست امرأة قوية. لا يسهل عليّ

أن أرغب بهذه القوة،

أو أن أسير

بسلة ثقيلة كهذه،

سواء حملت فيها

القصب أم الصفصاف.

————————————-

فانتازيا

سأخبركم شيئاً: كل يوم

يموت الناس. وهذه بداية وحسب.

كل يوم، في دور العزاء، تولد أرامل جديدة،

وأيتام جدد. يجلسون بأيد مطوية،

محاولين اتخاذ القرارات بشأن حياتهم الجديدة.

ثم ها هم في المقبرة، بعضهم

للمرة الأولى. يرعبهم البكاء،

وأحياناً عدم البكاء. ينحني أحدهم،

يخبرهم عن الخطوة التالية، التي قد تكون

قول بضع كلمات، أحياناً،

إهالة التراب على قبر مفتوح.

وبعد ذلك، يعود الجميع إلى الدار،

الذي يمتلئ بالناس فجأة.

الأرملة تجلس برصانة على كنبة،

ثم يقترب الناس منها،

بعضهم يمسك يدها، وبعضهم يعانقها.

تجد ما تقوله للجميع،

كأن تشكرهم على مجيئهم.

في قلبها، تتمنى أن يرحلوا جميعاً.

تريد العودة إلى المقبرة،

إلى غرفة المستشفى.

تعرف أن هذا مستحيل. لكنه أملها الوحيد،

أمنية العودة إلى الوراء، قليلاً فحسب،

ليس إلى حدّ بداية الزواج،

ليس إلى حدّ القبلة الأولى.

————————————-

ثلج

نهاية ديسمبر: أنا وأبي

ذاهبين إلى نيويورك، إلى السيرك.

يضعني على كتفيه

في الريح العاتية:

قصاصات من الورق الأبيض

تطير فوق السكة الحديد.

كان أبي يحب أن يحملني هكذا،

بحيث لا يراني.

أتذكر

كنت أنظر أمامي

إلى العالم الذي يراه أبي:

كنت أتعلم كيف أستوعب فراغه،

الثلج الثقيل لا يهطل.

يحوم حولنا.

———————————–

أفِيرنو

-1-

تموتُ عندما تموت روحُك.

وسِوى ذلك فأنتَ حيّ.

قد لا تؤدي عملَك بشكل جيّد، إلّا أنّك تستمرّ –

هو أمرٌ ليس لديك خيار بشأنه.

عندما أخبرُ أولادي بهذا الأمر

لا يُعيرونني انتباهًا.

فكبار السنّ، كما يعتقدون –

وهذا ما يفعلونه دائمًا:

يتحدثون عن أشياء لا يستطيع أحد إدراكها

لإخفاء جميع خلايا الدماغ التي يفقدونها.

يغمزون لبعضهم البعض.

استمعْ للعجوز يتحدث عن الرّوح

لأنه لم يعد يتذكر الاسم المُعطَى للكرسي.

إنه لأمر فظيع أن أكون وحيدة.

لا أقصد أن أعيش وحدي –

أن تكون وحيدًا، هو ألّا يسمعك أحد.

أتذكر الاسم المعطى للكرسي.

أريد أن أقول – لم أعد مهتمةً بعد الآن.

أستيقظ وأنا أفكّر

عليكِ أن تستعدّي.

قريبًا سوف تستسلم الروح –

كل الكراسي في العالم لن تساعدكِ.

أعرف ماذا يقولون عندما أكون خارج الغرفة.

هل يجب أن أرى شخصًا ما، هل يجب أن آخذ

أحد أدوية الاكتئاب الجديدة.

يمكنني سماعهم، همسًا، يخططون لكيفية تقاسم التكلفة.

وأريد أن أصرخ

أنتم جميعكم تعيشون في حلم.

سيئ بما يكفي، يعتقدون، مشاهدتي وأنا أتحطّم.

سيّئ بما يكفي دون هذه المحاضرة التي يتلقّونها هذه الأيام

كما لو كان لدى أيّ منهم حق في هذه المعلومات الجديدة.

حسنًا، لديهم الحقّ ذاته.

إنهم يعيشون في حلم، وأنا أستعد

لأكون شبحًا. أريد أن أصرخ

الضباب قد انقشع –

وكأنها حياة جديدة:

ليس لديك أيّ مصلحة في النتيجة؛

أنت تعرف النتيجة.

فكّر في الأمر: ستّون عامًا جالسًا في الكراسي. والآن الروح الفانية

تسعى بوضوح، بلا خوف –

لرفع الحجاب.

لمعرفة الذي تقول له وداعًا.

-2-

لم أعد إلى هناك منذ فترة طويلة.

عندما رأيت الحقل مَرَّة أخرى، كان الخريف قد انتهى.

هنا، ينتهي تقريبًا قبل أن يبدأ –

كبار السن لا يملكون حتى الملابس الصيفية.

كان الحقل مغطّى بالثلج، نظيفًا.

لم يكن هناك ما يشير إلى ما قد حدث هنا.

ليس لك أن تعرف ما إذا كان المُزارع

قد أعاد زرعه أم لا.

ربما قد استسلم وهاجَر.

لم تقبض الشرطة على الفتاة.

بعد فترة قالوا إنها انتقلت إلى بلد آخر،

حيث لا توجد حقول.

كارثة كهذه

لا تترك أيَّ أثر على الأرض.

والناس هكذا – يعتقدون بأنها تمنحهم

بداية جديدة.

وقفتُ لوقت طويل، أحدّق في اللا شيء.

بعد قليل، لاحظتُ مدى شدّة الظلام، مدى البرودة.

وقت طويل قد مرّ – ليس لديّ أيّ فكرة كم من الوقت.

بمجرد أن الأرض قررت بأنها فاقدة الذاكرة

يبدو الوقت بطريقة ما لا معنى له.

لكن ليس في ما يخصّ أولادي. إنهم يلاحقونني

لترك وصية، إنهم قلقون من أن الحكومة

ستأخذ كل شيء.

يجب أن يأتوا معي في وقت ما

لينظروا إلى الحقل تحت غطاء الثلج.

كل شيء مكتوب هناك.

لا شيء: ليس لديّ ما أعطيه لهم.

هذا أولًا.

وثانيًا: لا أريد أن أُحرَق.

-3-

من ناحيةٍ، الروح تهيم.

من ناحيةٍ أخرى، يعيش البشر في خوف.

في ما بين، حفر الاختفاء.

تسألنني بعض الفتيات الصَّغيرات

فيما إذا كُنّ آمِناتٍ بالقرب من أفيرنو

وإذا كن سيشعرن بالبرد، يردنَ الذهاب إلى الجنوب قليلًا

وتقول إحداهن، على سبيل المزاح، سنذهب لكن ليس بعيدًا جدًّا إلى الجنوب –

أقول، هو آمنٌ كما في أي مكان،

مما يجعلهنّ سعيدات.

ما أعنيه هو أن لا مكان آمن.

تصعدين إلى قطار، تختفين أنت.

تكتبين اسمك على النافذة، تختفين أنت.

توجد أماكن مثل هذه في كل مكان،

أماكن تدخلينها كفتاة صغيرة

حيث لا تعودين منها أبدًا.

مثل الحقل، ذلك الذي احترق.

بعد ذلك، اختفت الفتاة.

ربّما لم تكن موجودة أصلًا

ليس لدينا أيّ دليل في كلتا الحالتين.

كل ما نعرفه هو:

احتراق الحقل.

لقد شاهدنا ذلك.

لذا علينا أن نؤمن بالفتاة،

بما فعلته. غير ذلك

إنها مجرد قوى لا نفهمها

تحكُم الأرض.

الفتيات سعيدات، يفكّرن في إجازتهنّ.

لا يستقلِلن القطار، أقول.

يكتبن أسماءهنَّ في غِشاوة الضباب على نافذة القطار.

أريد أن أقول، أنتنّ فتيات صالحات،

تحاولن ترك أسمائكنّ وراءكنّ.

-4-

قضينا اليوم كله

في الإبحار خلال الأرخبيل،

الجزر الصغيرة التي كانت

جزءًا من شبه الجزيرة

حتى تفتّتت إلى

أجزاء كما تراها الآن

تطفو في مياه البحر الشمالية.

بدت لي أمينة،

أعتقد لأنه لا أحد يستطيع العيش هناك.

في وقت لاحق جلسنا في المطبخ

نشاهد بداية المساء ثم الثلج.

الأولى، ثم الآخر.

صامتين، مأخوذين بالثلج

كما لو كان نوعًا من اضطراب

كان مخبّأً قبل أن

يصبح محسوسًا،

شيء ما في الليل

قد كُشف عنه الآن –

من خلال صمتنا، نسأل

تلك الأسئلة، التي يسألها الأصدقاء الذين يثق بعضهم ببعض

من التعب الشديد،

كل واحد يأمل من الآخر أن يعرف المزيد

وعندما لا يكون الأمر كذلك، يأملون

أن تكون انطباعاتهم المشتركة بمثابة البصيرة.

وهل هناك أي فائدة من إكراه النفس

على أن تدرك أن المرء يجب أن يموت؟

هل من الممكن أن يفوّت المرء فرصة الحياة؟

أسئلة من هذا القبيل.

كان الثلج كثيفًا. الليلة السّوداء

تحولت إلى هواء أبيض نشط.

كُشف شيء لم ندركه.

وحده المعنى لم يُكشف.

-5-

بعد أول الأمطار، بدأ الحقل بالنموّ مَرَّة أخرى.

لكن لم يكن هناك المزيد من الأخاديد المنتظمة.

استمرت رائحة الحنطة كنوع من النكهة العشوائية

مختلطة مع الحشائش المختلفة، والتي

لم يتم ابتكار أي استخدام بشريّ لها حتى الآن.

كان الأمر محيّرًا – لم يعرف أحد

أين ذهب المزارع.

يعتقد بعض الناس أنه مات.

قال أحدهم إن لديه ابنةً في نيوزيلندا،

وإنه ذهب إلى هناك لتربية

الأحفاد بدلًا من القمح.

الطبيعة، وقد اتّضح لنا، أنها ليست مثلنا.

ليس لديها مخزن للذاكرة.

الحقل لم يعد يخاف من المباريات،

ولا من الفتيات الصغيرات. لا يتذكر

حتى الأخاديد. قُتلت، حُرقت،

وبعد عام عادت إلى الحياة مَرَّة أخرى

كما لو أنه لم يحدث شيء استثنائيّ.

المُزارع يحدّق من النافذة.

ربّما في نيوزيلندا، ربما في مكان آخر.

ويفكر: انتهت حياتي.

حياته عبّرت عن ذاتها في هذا الحقل.

لم يعد يؤمن بصنع أي شيء

من الأرض، يعتقد أن الأرض

تغلّبت عليه.

يتذكر اليوم الذي احترق فيه الحقل،

وكما يعتقد، فهو ليس مصادفةً.

شيء عميق في داخله قال: أستطيع أن أحيا مع هذا،

يمكنني محاربته بعد فترة.

كانت اللحظة الرهيبة عندما محا الربيعُ عملَه،

عندها أدرك أن الأرض

لا تعرف الحِدادَ، بل تتغير بدلًا من ذلك.

ثم تستمر في الوجود بدونه.

—————————

قصيدة حبّ

ثمة على الدوام شيء يُصنع من الألم

أمُّكَ منكبّة على الحياكة

تحوّل الشالات إلي تلاوين الأحمر كلّها

كانت برسم عيد الميلاد، وكانت تدفئكَ

وهي تنتقل من زيجة إلي زيجة، تصطحبكَ

معها. كيف تمكّنتْ من هذا

حين خزّنَتْ قلبها المترمّل طيلة هذه السنين

تماماً كما يؤوب الموتى؟

لا عجبَ أنكَ كما أنت اليوم،

تخاف الدمّ، ونساؤكَ

يتعاقبنَ مثل أحجار الجدار، واحدة تلو الأخرى.

*

ترجمة: صبحي حديدي

————————–

أغنية بينيلوب

أيتها الروح الصغيرة، الصغيرة المتجرّدة أبداً

افعلي الآن ما أرجوك أن تفعليه، تسلّقي

أغصان شجرة الصنوبر الشبيهة بالرفوف،

انتظري في الأعلى، متنبهة، مثل

حَرَس أو رقيب. لن يطول الوقت حتى يعود إلي بيته

يتعيّن عليكِ أن تكوني

كريمة. أنتِ لم تكوني

كاملة الأوصاف، بجسدكِ المُرْبِكِ

فعلتِ أشياء ما كان ينبغي

أن تناقشها القصائد.

ولهذا

نادي عليه من خلال المياه المفتوحة

والمياه اللامعة

بأغنيتكِ المظلمة، الطامعة،

أغنيتكِ غير المألوفة، الجيّاشة

مثل ماريا كالاس.

مَن الذي لن يشتهيكِ؟

وهل يمكن أن تفشلي

في تلبية أيّة شهيّة شيطانية؟

سرعان ما سيعود من حيث يذهب،

مُسْمَرّ البشرة من فرط الغياب، توّاقاً

إلي دجاجاته المشوية. آه، ينبغي أن تُحَيّيهِ

ينبغي أن تهزّي أغصان الشجرة

لكي تلفتي انتباهه،

بحذر مع ذلك، بحذر، لئلا

يتشوّه وجهه الجميل

بالكثير من الإبر الساقطة.

*

ترجمة: صبحي حديدي

—————————

والغزلان

كم هي بديعة،

كأنّ أجسادها لا تعترض سبيلها.

تنزلق خفيفة في العراء

تعبر أشعة الشمس ذات الألواح البرونزية.

.

ما الذي يجعلها تقف ساكنة هكذا

إذا لم تكن تنتظر؟

لابثة بلا حراك، حتى تصدأ أقفاصها،

والشجيرات ترتعش في الريح

جالسة القرفصاء، عارية من الأوراق.

.

ليس عليكَ سوي أن تترك الأمر يحدث:

تلك الصرخة ــ (أطلقها، أطلقها) ــ مثل القمر

الذي غضّنته الأرض فصعدَ

ممتلئاً بدائرة سهامه

.

هكذا حتى تجدهم أمامكَ

مثل أشياء ميّتة، الأجساد صهواتها

وأنتَ تعتليها، جريحاً وقاهراً.

*

ترجمة: صبحي حديدي

———————————

تبارَكَتْ

المشهد يستجمع أشتاته الآن أيضاً.

التلال تزداد عتمة. والثيران

تغفو في أطواقها الزرقاء،

الآن إذْ الحقول حُصدت

والحِزَم

مرصوفة مكدّسة علي حوافّ الطريق

بين العشب خماسيّ الأوراق،

آنَ يصعد القمر المسنّن.

.

هذا هو الغثاء،

غثاء الحصيد أو الوباء

والمرأة التي تطلّ برأسها من النافذة،

والبذور

لامعة، ذهبية، صائحة:

تعالي هنا

تعالي هنا، أيتها الصغيرة.

.

وأمّا الروح فإنها تدبّ بطيئة، زاحفة من الشجرة.

*

ترجمة: صبحي حديدي

————————-

سعــادة

رجل وامرأة على فراش أبيض

إنه الصباح، أفكّر، وعمّا قليل سيصحوان

ثمة زنابق على نضد السرير

في مزهرية تغمرها الشمس

أراه ينقلب نحوها..

كأنه بصمت، سيلفظ اسمها

عميقاً في فمها…

على حافة النافذة

مرة، ثم مرة أخرى

يشدو طائر…

ثم ترتعش المرأة

جسدها يمتلئ بأنفاسه

أفتح عينّي فأجدك تتأمّلني

فوق حجرتنا

تنساب الشمس

تقول: انظري إليّ

وتقرّب وجهك مني

كأنه مرآة

كم أنت هادئ

بينما العجلة المشتعلة

تمرّ بسلاسة فوقنا..

* ترجمة: سامر أبو هواش

—————————-

هجرات ليلية

هذه اللحظة التي ترى فيها ثانية

الثمار الحمر لشجر السمن

وفي السماء المعتمة

هجرات الطيور الليلية.

بأسى أفكّر

أن الموتى لن يروها –

تلك الأشياء التي عليها اتكالنا،

تختفي.

أيّ عزاء للروح حينئذ؟

أقول لنفسي إنها لم تعد في حاجة

إلى تلك المسرات؛

ربما، ببساطة، يكفي ألا تكون،

وإن شقّ تخيّله.

ترجمة سامر أبو هواش

————————–

أكتوبر

1

أهو الشتاء ثانية، أهو البرد،

أولم يسقط فرانك لتوه على الجليد،

أولم يُشف، أولم تزرع البذور

أولم ينته الليل،

أولم يَفض الجليد الذائب

في المزاريب الضيقة

أولم يُنقذ جسدي،

أولم يصل برّ الأمان

أولم تتشكل الندبة،

غير مرئية فوق الجرح

الرعب والبرد،

ألم ينقضيا فحسب، أولم تُعزق

الحديقة الخلفية وتزرع..

أذكر الإحساس بالتربة، حمراء كثيفة،

خطوطها الجافة، أولم تزرع البذور،

أولم تتسلق العريشة الجدار الجنوبيّ

لا أسمع صوتك

إذ الريح تعوي، تصفر فوق الأرض الجرداء

لم أعد أكترث

أي صوت تصنع

متى أسكت، متى لأول مرة

بدا غير مجد وصف ذلك الصوت

فالوصف لا يغير حقيقته..

أولم ينته الليل، أولم تغدو التربة

آمنة حينما زرعت

أولم نزرع البذور،

أولم نكن ضروريين للتربة،

أولم تُحصد الكرمة؟

ت

2

صيف انتهى في إثر صيف،

بلسم بعد العنف:

لا يجديني الآن نفعاً؛

قد غيّرني العنف.

فجر. التلال الخفيضة تلمع

بالأكسيد والنار، وحتى الحقول تلمع.

أعرف ما أراه؛ شمس قد تكون

شمس أغسطس، تعيد

كل ما سلب.

أتسمع ذلك الصوت؟ إنه صوت عقلي؛

لم يعد يمكنك لمس جسدي.

قد تغير مرة، قد تصلّب،

لا تطلب منه أن يردّ ثانية.

يوم كيوم صيف.

في غاية السكون. ظلال القيقب

بنفسجية فاتحة على دروب يفرشها الحصى.

وفي المساء، دفء. ليلة كليلة صيف.

لا يجديني نفعاً؛ فالعنف غيّرني.

جسدي اجتاحه البرد كحقول جرداء؛

لم يعد سوى عقلي، محترس حصيف،

يسكنه شعور من يُختبر.

مجدداً تشرق الشمس مثلما في الصيف أشرقت؛

هبة، بلسم يعقب العنف.

بلسم بعد أن تبدّلت أوراق الشجر،

بعدما الحقول حصدت والتربة قلبت.

قل لي إننا في المستقبل،

ولن أصدق.

قل لي إنني على قيد الحياة،

ولن أصدّق.

3

سقط الثلج. أذكر

موسيقى تنبعث من نافذة مشرعة.

تعالي إليّ، قال العالم.

أقصد

تكلم بعبارات دقيقة

لكنني كذا لمست الجمال.

شروق الشمس. طبقة من نداوة

على كلّ شيء حيّ. برك من الضوء البارد

في المزاريب.

وقفت

بالباب

سخيفة مثلما الآن أبدو.

ما وجده الآخرون في الفن،

في الطبيعة وجدته. ما وجده الآخرون

في الحبّ البشري، في الطبيعة وجدته.

بسيط تماماً. لكنّ صوتاً هناك لم يكن.

كان الشتاء قد انقضى. في الثلج المتّسخ

بدأت تطلّ براعم زرق صغيرة.

تعاليْ إليّ، قال العالم.

كنت واقفة

في معطفي الصوف عند ما يشبه بوابة منيرة –

يسعني أخيراً أن أقول

قبل زمن طويل كان ذلك؛

أي مسرة تملأ قلبي.

هو الشافي الجمال، وهو المعلّم

لا يمكن أن يؤذيني الموت

أكثر مما فعلتِ

يا الحبيبة حياتي.

4

الضوء تبدّل؛

نغمة “دو الوسطى” غدت أعتم

وأغنيات الصباح تبدو بالتكرار منهكة.

هذا ضوء الخريف، لا ضوء الربيع.

ضوء الخريف يقول: لن تكون لك نجاة.

الأغنيات قد تغيّرت؛ ما لا يقال

صار في قلبها.

هذا ضوء الخريف، لا الضوء الذي يقول:

قد ولدت من جديد.

ليس فجر الربيع الذي يقول: كافحت، عانيت، تحررت.

إنه الحاضر، استعارة للخراب.

كثيرٌ ما تغيّر. لكنك محظوظة رغم ذلك:

المثاليّ فيك يشتعل كالحمى.

أو ليس كالحمى، كقلب ثان.

قد تغيرت الأغنيات، لكنها ما زالت في منتهى الجمال.

صارت تحتل حيزاً أصغر، حيز العقل.

باتت معتمة، بالهجران والأسى.

والنغمات، رغم ذلك، تعود. تحوم على نحو غريب

في ترقّب الصمت.

الأذن تألفها.

العين تألف الاختفاءات.

لن تكون لك نجاة، ولا ما تحبّين سينجو.

ريح هبّت وانحسرت، مهدّمة العقل؛

مخلّفة صفاء غريباً في إثرها.

يا لحظك، إذ ما زلت شغوفة

تتشبثين بما تعشقين؛

لم يدمّرك فقدان الأمل.

مايستوزو، دولوروسو:

هذا ضوء الخريف؛ قد مال نحونا.

امتياز حقيقي أن تشارف على النهاية

وما زلت تؤمن بشيء ما.

ييي

5

صحيح أنْ ليس في العالم ما يكفي من الجمال.

صحيح كذلك أنني لست أهلاً لإعادته.

ولا من شفافية كذلك، وهنا قد أكون ذات نفع ما.

إنني

أواظب، وإن كنت صامتة.

بؤس العالم

العليل

يحيطنا من الجانبين، زقاق

تحفّه الأشجار؛ إننا رفيقان ههنا، لا نتكلم،

كلّ غارق في أفكاره؛

خلف الأشجار، بوابات حديد

تحرس المنازل،

الغرف موصدة النوافذ

مهجورة على نحو ما، متروكة،

كأنه واجب الفنان

خلق الأمل، ولكن مم ّيخلقه؟ ممّ؟

الكلمة نفسها

خاطئة، أداة دحض –

عند التقاطع

أضواء زينة الموسم.

كنت يافعة ههنا.

أستقل قطار الأنفاق مع كتابي الصغير

كأنما أحمي نفسي من

هذا العالم عينه:

لست وحدك،

قالت القصيدة

في النفق المظلم.

6

إشراق النهار يغدو

إشراق الليل؛

النار تغدو المرآة.

صديقتي التربة حزينة؛ أفكر

قد خذلتها الشمس.

حزينة أو متعبة، يصعب القول.

بينها والشمس،

انتهى شيء ما.

تريد، الآن، أن تترك وحيدة؛

أحسب علينا الكف

عن اللجوء إليها للتوكيد.

فوق الحقول،

فوق سطوح منازل القرية،

البهاء الذي جعل كل حياة ممكنة،

يغدو النجوم الباردة.

تمددي وانظري بسكون:

ليست تعطي شيئاً، لكنها شيئاً لا تطلب.

من صميم التربة المريرة،

من البرد والعراء،

ينهض صديقي القمر:

بهيّ هو الليلة، ولكن، متى كذلك لم يكن؟

ترجمة سامر أبو هواش

——————————-

بحيرة كريتر

حرب نشبت بين الخير والشر.

قررنا أن نسمّي الجسد خيراً.

هذا ما جعل الموت شراً.

وجعل الروح

في عداء مطلق مع الموت.

مثل جندي مشاة يريد

خدمة محارب عظيم، أرادت

الروح الوقوف في معسكر الجسد.

وقفت ضد الظلمة،

ضد ما تعرّفته

من أشكال الموت.

من أين يصدر الصوت

الذي يقول لنفترض أن الحرب شرّ،

الذي يقول لنفترض، أن الجسد

فعل بنا ذلك،

جعلنا نخاف الحبّ.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————–

نُذر

للقياك امتطيت فرساً للقياك: أحلام

مثل كائنات حيّة احتشدت حولي

والقمر إلى يمناي

كان يتبعني، وفيه اشتعال.

ولما قفلت عائدة كان كل شيء قد تغير

روحي العاشقة حزينة كانت

والقمر جهة اليسار

بلا أمل كان يتبعني.

إلى أفكار كهذه

نحن الشعراء نسلّم أنفسنا تماماً،

باعثين، في صمت، ومن أبسط الأشياء، نذيراً

حتى تتجلى على وجه العالم

أعمق حاجات الروح.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————

تلسكوب

ثمة برهة بعد أن تشيح بنظرك

حين تنسى أين أنت

لأنك، مثلما يبدو، كنت تعيش

في مكان آخر، في صمت السماء ليلاً.

لقد كففت عن أن تكون في العالم ههنا.

بت في مكان مغاير،

حيث لا معنى للروح البشريّة.

لست مخلوقاً في جسد.

بل كائن كما النجوم،

تشاركها سكونها وشساعتها.

ثم تعود إلى العالم.

ليلاً، على هضبة باردة،

تفكك التلسكوب.

تدرك بعدئذ

ليست الصورة هي الزائفة

بل العلاقة بها.

ترى ثانية كم بعيد هو كل شيء

عن كل شيء آخر.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————–

طائر السُّمَّن المغرد

بدأ الثلج في الهطول على سطح عموم الأرض.

لا يمكن ذلك أن يكون صحيحاً. لكنه كذلك بدا،

يهطل ويزداد كثافة على مدّ نظري.

الصنوبرات صارت قابلة للكسر بفعل الجليد.

هذا هو المكان الذي أخبرتك عنه،

حيث كنت آتي ليلاً لأرى الطيور السود ذات الأجنحة الحمراء،

تلك التي نسمّيها هنا طيور السمن المغردة،

وميض أحمر للحياة التي تختفي –

لكن بالنسبة إليّ – أعتقد أن إحساسي بالذنب

يعني حتماً أنني لم أعش عيشة حسنة.

شخص مثلي لا يهرب. أعتقد أن المرء ينام قليلاً،

ثم يهبط إلى رعب الحياة التالية

تتّخذ فيها الروح شكلاً آخر،

أكثر أو أقل إدراكاً مما كانت عليه،

أكثر أو أقل شهوة.

بعد حيوات كثيرة، ربما يتغير شيء ما.

أحسب أن ما ترغب فيه في النهاية تراه

ثم لا تعود بحاجة إلى أن تموت

كي تعود ثانية.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————–

إلى أمي

كان الحال أفضل حين كنا معاً

في جسد واحد.

ثلاثون عاماً. عبر

الزجاج الأخضر لعينك،

رشح ضوء القمر

إلى عظامي،

بينما اضطجعنا

على السرير الكبير، في الظلمة،

في انتظار أبي.

ثلاثون عاماً. أغمض جفنيك

بقبلتين. ثم جاء الربيع

وانسلّت منّي المعرفة المطلقة

التي يمتلكها من لم يولد بعد،

تاركة الطوب ينحني

حيث كنت تقفين،

مغطية عينيك، لكنه ليل،

والقمر فوق شجرة الزان،

مدور وأبيض بين العلامات القصديرية الصغيرة

التي تصنعها النجوم:

ثلاثون عاماً. مستنقع

نما حول البيت.

قطعان الجراثيم تحول

خلف الظلال،

منجرفة عبر

وريقات النبات الرقيقة.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————–

حياة صامتة

ذراعا أبي حول “تيريز”.

تغمض عينيها نصف إغماضة. إبهامي

في فمي: إنه خريفي الخامس.

بجوار شجرة الزان النحاسيّة

كلب السبنيلي نائم في الظلال.

جميعاً نقف بعيون مغمضة.

في الطرف المقابل من المرجة،

في الشمس الساطعة،

تقف أمي

خلف الكاميرا.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————————————-

امتنان

لا تحسب أنني غير ممتنة

على لطائفك الصغيرة معي.

فأنا أحبّ اللطائف الصغيرة.

بل أفضّلها على الجوهريّ منها،

أي أن أراك دوماً،

مثل حيوان ضخم على حصيرة،

حتى لا يبقى شيء من حياتك

سوى أن تستيقظ صباحاً بعد صباح

متشنج العضلات، والشمس الساطعة

تشرق على أنيابك.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

قصيدة

في أول المساء، كما الآن، رجل منكب

على منضدة الكتابة.

يرفع رأسه ببطء؛ امرأة

تظهر، وبيدها باقة ورد.

وجهها يطفو إلى سطح المرآة،

وقد انطبعت عليه بقع خضر من سيقان الورد.

هذا شكل

من المعاناة: ثم دوماً الصفحة الشفافة

ترفع إلى النافذة حتى تظهر عروقها

كلمات مضمخة أخيراً بالحبر.

ويفترض بي أن أفهم

ما الذي يربطهما معاً

أو بالبيت الرمادي الذي يثبت الغسق أركانه

لأنني يجب أن أدخل حياتهما:

إنه الربيع، وشجرة الإجاص

مكسوة بزهور بيضاء هشة.

النيران

لو أنك متّ وقتما كنا معاً

لما أردت شيئاً منك.

الآن أفكّر بك على أنك ميت، وهذا أفضل.

غالباً، في أول أمسيات الربيع الباردة

حينما، مع بداية توريق الشجر،

كل ما هو ميت يدخل العالم،

أضرم لنا ناراً من خشب الصنوبر والتفاح؛

مراراً

تضطرم النار وتنحسر

مع تقدم الليل حيث

نرى بعضنا بوضوح –

وفي النهارات نكون قانعين

كما مضى

في العشب الطويل،

في أبواب الغابة الخضراء وظلالها.

ولا تقول البتة

اهجريني

فالموتى لا يحبون الوحدة.

ترجمة سامر أبو هواش

————————-

مفترق طرق

أيا جسدي، الآن بما أننا لن نكمل الرحلة معاً

فقد بدأت تراودني مشاعر مستجدة من الرقة نحوك،

مشاعر خام غير مألوفة، مثل ما أذكره عن الحب في شبابي –

الحب الذي غالباً ما اتسم بالحمق في أغراضه

وليس البتة في خياراته، ولا في كثافته.

الحب الذي يطلب مقدماً أكثر مما يحتمل، أكثر مما يمكن الإيفاء به-

روحي كانت شديدة الخوف، بالغة العنف:

اغفر وحشيتها.

وكأنما كانت يدي تلك الروح، وهي تتحرك عليك بحذر،

محاذرة الإساءة إليك،

تواقة، أخيراً، لإنجاز التعبير كجوهر:

ليست الأرض ما سأفتقده،

بل لك سيكون فقدي.

ترجمة سامر أبو هواش

——————————–

أوراق شجر مشتعلة

الأوراق المشتعلة تشبّ فيها النار بسرعة.

وبسرعة تحترق؛ في غمضة عين،

تتبدّل من شيء إلى لا شيء.

منتصف النهار. السماء باردة زرقاء؛

تحت النيران، ثمة تربة رمادية.

يا لسرعة ما يحدث ذلك، يا لسرعة انقشاع الدخان.

وحيث كانت كومة الأوراق،

فراغ يبدو شاسعاً على حين غرة.

في الطرف المقابل من الطريق صبيّ ينظر.

يمكث طويلاً، مشاهداً احتراق أوراق الشجر.

ربما هكذا ستعرفين متى تموت الأرض –

سوف تقدح ناراً.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————-

يوم دافئ

اليوم كانت الشمس مشرقة

فغسلت جارتي ملابس النوم في النهر

وعادت إلى البيت طاوية إياها في سلة الغسيل،

متوهجة، وكأنه أضيف إلى عمرها عشر سنوات.

النظافة تملؤها سعادة،

فهي تقول لك يمكنك البدء من جديد،

ولن تقف الأخطاء القديمة عائقاً في طريقك.

جارة طيبة هي – لا نتدخل في شؤوننا الخاصة.

وها هي الآن تغني لنفسها بينما تعلق الملابس الرطبة

على حبل الغسيل.

شيئاً فشيئاً ستبدو أيام كهذا اليوم اعتيادية.

لكن الشتاء كان قاسياً: الليل باكراً يهبط، والفجر معتم

يصاحبه مطر رمادي رتيب – أشهر على هذا النحو،

ثم يأتي الثلج، كصمت يهبط من السماء،

دافنا الأشجار والحدائق.

اليوم، كل هذا بات خلفنا.

الطيور عادت، وأخذت تزقزق فوق البذور.

الثلج ذاب، وأشجار الفاكهة كساها زغب جديد.

وثمة أزواج قلائل حتى يتنزهون في المرجة،

واعدين بعضهم البعض بكل أنواع الوعود.

نقف في الشمس والشمس تشفينا.

لا تستعجل. بل تظل ثابتة فوقنا،

كممثل سعيد بتصفيق الجمهور له.

جارتي تصمت لبرهة

محدقة في الجبل، مصغية إلى الطيور.

الكثير من الملابس، من أين تأتي؟

وجارتي ما زالت في الخارج

تعلقها على حبل الغسيل، وكأن السلة

لن تفرغ أبداَ.

ما زالت السلة ملأى، لم ينته شيء،

رغم أن الشمس أخذت في الانحدار؛

فلتتذكر أنه لم يأت الصيف بعد، بل هو أول الربيع فحسب؛

الدفء لم يرسخ بعد، والبرد يعود.

تحسّ جارتي بالبرد، كأن آخر قطعة ملابس تجلدت في

يدها.

تنظر إلى يديها وكم هرمتا. هذه ليست البداية، بل النهاية.

والبالغون، جميعهم ماتوا.

لم يبق سوى الأطفال، وحدهم، يشيخون.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

عزلة

اليوم عتمة دامسة؛ عبر المطر،

الجبل لا يُرى. لا صوت يعلو على صوت المطر،

وهو يقود الحياة إلى باطن الأرض.

ومع المطر يأتي البرد.

لن يكون قمر الليلة، لن تكون نجوم.

الريح هبت ليلاً؛

طوال الصباح ظلت تجلد القمح

واستكانت ليلاً. لكن العاصفة استمرت،

مغرقة الحقول الجافة.

التربة اختفت.

ليس ما يُرى، وحده المطر

يلتمع علة النوافذ المعتمة.

هذا موضع السكينة، حيث لا شيء يتحرك.

نعود الآن إلى سابق عهدنا،

حيوانات تعيش في الظلمة

بلا لغة ولا إبصار.

لا شيء يثبت أنني على قيد الحياة.

ثمة المطر فحسب،

ولا نهائي هو المطر.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————

بيرسيفوني الهائمة

في الحكاية الأولى،

تُخطف بيرسيفوني من أمها

وإلهة الأرض

تعاقب الأرض،

وهذا ينسجم مع ما نعرفه عن سلوك البشر،

أن البشر يشعرون برضى عظيم

في الأذية،

لاسيما الأذية اللاواعية:

ربما نسمّي ذلك

خلقاً سلبياً

لكن إقامة بيرسيفوني الأولى في الجحيم

ما زالت تشغل بال الباحثين

الذين يتجادلون حول مشاعر العذراء:

هل تواطأت على اغتصابها،

أم أنها خدرت وانتهكت غصباً عنها،

مثلما يحدث كثيراً مع فتيات هذا الزمن.

ومثلما بات معروفاً للجميع،

فإن عودة المعشوق

لا تعوّض خسارته: بيرسيفوني

تعود إلى الديار

ملطخة بسائل أحمر

كشخصية من شخصيات هوثورن

لست واثقة من أنني سأبقي

على هذه الكلمة: هل الأرض

هي “ديار” بيرسيفوني؟

أتكون في دارها

في سرير الرب؟ أهي هائمة بالولادة،

بكلمات أخرى، أهي نسخة وجودية عن أمها،

أقل تقيداً بالأسباب؟

ليس مسموحاً لك بأن تحبي أحداً

مثلما تعلمين: الشخصيات

ليست بشراً

بل مظاهر معضلة أو صراع.

ثلاثة أجزاء: تماماً مثل قسمة الروح:

الأنا، الأنا العليا، والهو.

هي ذي مستويات العالم المعروف الثلاثة،

رسم بياني يفصل

الجنة عن الأرض عن الجحيم.

عليك أن تسألي نفسك:

أين يهطل الثلج الآن؟

بياض النسيان

بياض الدنس-

تثلج على الأرض؛ الريح الباردة تقول

بيرسيفوني تمارس الجنس في الجحيم.

هي عكسنا جميعاً

لا تعرف

ماهية الشتاء،

كل ما تعرفه

أنها أصل المطر.

على سرير هادس تضطجع.

بم تفكر؟

أهي خائفة؟

أثمة ما محا

فكرة العقل؟

وهي تعلم علم اليقين

أن أمها تحكم الأرض.

وتعرف أنها لم تعد

ما يسمّى فتاة.

أما عن الأسر فتعرف

أنها كانت سجينة مذ كانت ابنة.

لقاءات لمّ الشمل التي تنتظرها

ستسلبها ما تبقى من حياتها.

حينما يغدو هوس التكفير مزمناً وضارياً

لا تختار طريقة عيشك. لا تعيش؛

ليس مسموحاً لك أن تموت.

ترتحل بين الأرض والموت

وهو ما يبدو في النهاية

ضرباً من الغرابة.

يخبرنا الباحثون

أن لا جدوى من أن تعرف ما تريد

فلربما أفنتك القوى المتناحرة عليك

بياض النسيان،

بياض الأمان-

يقولون

ثمة صدع في الروح البشرية

التي لم تنشأ لكي تنتمي كلياً

إلى الحياة.

الأرض تطالبنا بإنكار هذا الصدع،

تهديد يتخفى على هيئة مقترح

مثلما رأينا في حكاية بيرسيفوني

التي تجدر قراءتها

كمجادلة بين الأم والعاشق –

الابنة لحم ليس إلا.

حين تواجه الموت،

قد لا تكون رأت قط

المرج بلا زنابق.

فجأة تكف عن دندنة أغنيات البنات

عن جمال أمها وخصوبتها.

حيث الصدع يكمن الجرح.

أغنية الأرض

أغنية الرؤية الأسطورية للحياة الأبدية-

روحي يمزقها

سعي الانتماء

إلى الأرض-

ماذا ستفعلين،

حينما يأتي دورك في الحقل مع الإله؟

ترجمة سامر أبو هواش

———————————-

الموشور

1

من يسعه القول ما هو العالم؟

ذلك العالم المتدفق دوماً،

أي العالم العصيّ على القراءة،

حيث الرياح تمضي،

ومعها الألواح العظيمة تتحرك سرا وتتبدل.

2

الطين. شظايا صخر متقرّح.

القلب العاري يبني فوقها بيتاً

يبني ذكرى:

الحدائق يسهل الاعتناء بها،

لشدة ما هي صغيرة،

والأسرة رطبة

على حافة البحر.

3

مثلما يستقبل المرء عدواً،

عبر هذه النوافذ

يستقبل

العالم:

هنا المطبخ، هنا المكتبة المظلمة.

أي: أنا سيد هذا المكان.

4

حين تعشقين، قالت لي أختي،

فكأنما ضربتك صاعقة.

كانت تتكلم آملة

أن تلفت انتباه العاصفة.

ذكرتها بأنها تكرر معادلة أمي ذاتها،

والتي ناقشناها في طفولتنا

لأننا، كلانا شعرنا

أننا ننظر إلى البالغين

لا لنرى آثار الصاعقة

بل الكرسي الكهربائي.

5

أحجية:

لمَ كانت أمي سعيدة؟

الجواب:

تزوجت أبي.

6

“عليكما أيتها الفتاتان أن تتزوجا

من يشبه أباكما”، قالت أمي.

أما التعليق الآخر فكان:

“ليس مثل أبيكما أحد”.

7

من الغيوم المثقوبة، خيوط فضة مضمومة.

على عكسها

أصفر “بندق الساحرة”،

عروق الزئبق التي كانت دروب الأنهر

ثم المطر من جديد،

يمحو آثار الأقدام عن التربة المبللة.

درب تدرك لمحاً

كخريطة بلا خطوط متقاطعة.

8

 وما يدرك ضمناً أنّ من الضروري ترك الطفولة.

كلمة “تزوجي” كانت إشارة

يمكنك اعتبارها أيضاً نصيحة جمالية؛

صوت الطفلة كان متعباً،

فليس فيه طبقة منخفضة.

كانت الكلمة شيفرة، ملغزة كحجر رشيد.

كانت كذلك إشارة سير، إنذاراً.

يمكنك أن تأخذي معك بضعة أشياء كالصداق

يمكنك أخذ الجزء الذي كان يفكر فيك.

“تزوجي” كانت تعني أن تبقي ذلك الجزء صامتاً.

9

ليلة في الصيف. خارجاً،

عاصفة صيفية. ثم تصفو السماء.

على النافذة، كواكب الصيف.

إنني على السرير. أنا وهذا الرجل،

معلقين في الهدوء الغريب

الذي يحدثه الجنس. معظم الجنس.

الحنين، ما كنهه؟ الرغبة، ماذا تكون؟

على النافذة، كواكب الصيف.

ذات مرة، كنت أحفظ أسماءها.

10

أشكال

مجردة، أنماط.

نور العقل. النيران الباردة الخاملة

للامبالاة،

تحجبها الأرض على نحو غريب،

تلمع في الماء وفي الهواء،

العلامات الدقيقة

التي قالت: الآن زرع، الآن حصاد

أستطيع تسمية كل منهما، أعرف اسميهما:

شيء وشيء آخر.

يي

11

أشياء باهرة هي النجوم.

كنت طفلة تعاني الأرق.

وفي ليالي الصيف سمح لي والداي بالجلوس عند البحيرة؛

وكان الكلب رفيقي.

هل قلت “تعاني”؟ تلك كانت طريقة والديّ

في تفسير الأذواق العصية على التفسير:

كلمة “تعاني” تظل أفضل من “تفضل العيش مع الكلب”.

عتمة. صمت يحجب الفناء.

القوارب الراسية تعلو وتهبط.

عندما القمر مكتمل، كنت أحياناً أتمكن من قراءة أسماء البنات

المطلية على جوانب القوارب:

روث آن، إيزي الجميلة، حبيبتي بيغي

لم يكن ذاهبات إلى أي مكان، أولئك الفتيات.

كان ثمة ما يجدر تعلمه منهن.

بسطت سترتي على الرمل الرطب،

الكلب متكور بجانبي.

والداي كانا عاجزين عن رؤية الحياة في رأسي؛

حين دونتها، صوبا تهجئة الكلمات؟

أصوات البحيرة. أصوات الماء المهدئة، اللابشرية،

تقفز فوق الرصيف، الكلب يجوس العشب الضاري

في مكان ما.

12

كان الفرض المدرسي أن أعشق.

أما التفاصيل فتركت لي.

الجزء الثاني من المهمة

أن أضمن القصائد كلمات معينة،

كلمات مستلة من نص محدد،

عن موضوع مختلف تماماً.

13

مطر الربيع، ثم ليلة في الصيف.

صوت رجل، ثم صوت امرأة.

كبرتِ، ضربتك صاعقة.

حينما فتحت عينيك، كنت متصلة إلى الأبد بحبك الحقيقيّ.

حدث مرة فحسب. ثم اعتُني بك،

قصتك انتهت ههنا.

حدث مرة. أن ضربتك الصاعقة كاللقاح؛

كنت منيعة لبقية حياتك،

كنت دافئة وجافة.

ما لم تكن الصدمة عميقة بما يكفي.

فليس لقاحاً إذن، بل إدمان.

14

كان الفرض المدرسي أن أعشق.

كانت المؤلفة أنثى.

كان يجب تسمية الأنا بالروح.

حدث ذلك في الجسد.

أما النجوم فمثّلت كل شيء آخر: الأحلام، العقل.. إلخ.

تعرفت المعشوق

في انعكاس الذات النرجسية.

العقل كان حبكة فرعية. ظلّ يثرثر ويثرثر.

لم يكن الزمن خطاً سردياً

بل طقساً.

ما تكرّر كان له وزن.

بعض النهايات كانت مأساوية، وبالتالي مقبولة.

كل شيء آخر كان فشلاً.

15

الخداع. الأكاذيب. زخارف

نسمّيها فرضيات

كانت الدروب كثيرة، كانت الروايات كثيرة،

كانت الدروب كثيرة، لم يكن من واحد؟

وفي النهاية؟

16

ي

عددي المعاني الضمنية في “تقاطعات الطرق”.

الجواب: قصة ذات مغزى.

قدّمي مثالاً يوضح صواب الفرضية وخطأ الخلاصة.

17

الذات انتهت والعالم بدأ.

كانا متساويين في الحجم،

متكافئين،

أحدهما صورة الآخر.

18

كانت الأحجية: لم لا نستطيع العيش في العقل.

كان الجواب: لولا الأرض.

19

كانت الغرفة صامتة.

أي، كانت الغرفة صامتة، لكنّ العاشقين كانا يتنفسان.

على النحو ذاته، كان الليل مظلماً.

كانت ظلمة، لكن النجوم كانت تلمع.

الرجل على السرير كان واحداً من عدة رجال

منحتهم قلبي. هدية الذات، تلك التي لا حدّ لها.

لا حدّ لها، بيد أنها تتكرر.

كانت الغرفة صامتة. كانت شيئاً مطلقاً،

كالليل الأسود.

20

ليلة في الصيف. أصوات عاصفة صيفية.

الألواح العظيمة تتحرك سراً وتتبدل.

وفي الغرفة المظلمة، العاشقان ينامان واحدهما على ذراع الآخر.

إننا، كل واحد منا – الذي يستيقظ قبل الآخر،

الذي يتحرّك أولاً ويرى، عند مطلع الفجر –

هو الغريب.

ترجمة سامر أبو هواش

——————————

أصداء

1

يوماً، كنت أستطيع أن أتخيّل روحي

أن أتخيّل موتي.

وكنت كلما تذكرت موتي

تموت روحي.

هذا أتذكره بوضوح.

جسدي ثابر.

لم يزدهر، بل ثابر.

ولا أعرف السبب.

2

في يفاعتي الأولى

أنتقل والداي إلى واد صغير

تحوطه الجبال

في ما كان يسمى بلاد البحيرات.

من حديقة المطبخ

كنت ترى الجبال،

مكسوّة بالثلوج، حتى في الصيف.

أتذكر هناءة بال

لم أعهدها بعدئذ.

لاحقاً، على نحو ما، أخذت على عاتقي

أن أغدو فنانة،

أن أمنح صوتاً لتلك المشاعر.

3

ما يبقى سبق وأخبرتك به.

بضع سنوات من الطلاقة، ثم الصمت الطويل

مثل صمت الوادي

قبل أن تعاود الجبال إرسال صوتك

مفعماً بصوت الطبيعة.

الصمت الآن رفيقي.

أسأل: مم ماتت روحي؟

والصمت يجيب

إن كانت روحك قد ماتت،

فحياة من تواصلين

ومتى صرت ذلك الشخص؟

ترجمة سامر أبو هواش

————————————

فوغا

1

كنت الرجل لأنني كنت أطول قامة.

شقيقتي كانت تقرّر

متى ينبغي أن نتناول الطعام.

من حين إلى آخر، كانت ترزق بطفل.

2

ثم ظهرت روحي.

من أنت؟ سألتها،

وأجابت

أنا روحك، الغريبة الفاتنة.

3

شقيقتنا الميتة انتظرت،

غير مكتشفة في رأس أمي.

شقيقتنا الميتة لم تكن رجلاً ولا امرأة.

كانت أشبه بالروح.

4

روحي وجدت ملاذاً:

ارتبطت برجل.

لم يكن رجلاً حقيقياً،

ذلك الذي زعمته،

الذي كان يلعب مع شقيقتي.

5

تعاودني الذكريات، الاستلقاء على الكنبة

أنعش ذاكرتي.

ذاكرتي أشبه بقبو مليء بالصحف القديمة:

لا شيء يتغيّر على الإطلاق.

6

رأيت في منام: أمّي تسقط عن شجرة.

بعدما سقطت ماتت الشجرة:

لقد عاشت أطول من دورها.

لم تتأذ أمي – سهامها اختفت، جناحاها

صارا ذراعين. مخلوق ناري: برج القوس.

تجد نفسها في حديقة في الضواحي.

تعاودني الذكريات.

7

أضع الكتاب جانباً. ما الروح؟

راية تطير على سارية في الأعالي الشاهقة،

إن كنت تدرك مقصدي.

الجسد

يجبن في أعشاب الغابة الحلمية.

8

حسناً، إننا هنا لكي نفعل شيئاً بهذا الخصوص.

(بلكنة ألمانية).

9

رأيت في منام: إننا في حرب.

أمي تترك قوسها على العشب العالي.

(برج القوس، رامي السهام)

طفولتي، موصدة دوني إلى الأبد،

ذهبية صارت كحديقة خريفية،

تكسوها طبقة كثيفة من العشب.

10

قوس ذهبي: هدية لائقة في زمن الحرب.

كم كان ثقيلاً – ليس في وسع طفل حمله

ما عداي.

11

ثم جُرحت. القوس بات قيثارة،

وأوتارها مغروزة في أعماق كفّي.

في المنام، القيثارة تُحدث الجرح

والقيثارة تشفيه.

12

 طفولتي: موصدة من دوني.

أم تراها تحت العشب، خصبة.

لكنها شديدة القتامة، غائرة ومخفيّة.

13

في الظلمة قالت روحي

أنا روحك.

لا أحد يراني؛ أنت فحسب،

أنت من يراني فحسب.

14

ييي

وقالت عليك أن تثقي بي.

وكانت تقصد: لو حركت القيثارة

فستنزفين حتى الموت.

15

لمَ أعجز عن الصراخ؟

يجدر بي أن أكتب: يدي تنزف،

شاعرة بالألم والرعب،

ما راودني في الحلم،

كضحية حرب.

16

إنها تعاودني.

شجرة الإجاص. شجرة التفاح.

اعتدت الجلوس هناك

مستلة السهام ظن قلبي.

17

ثم ظهرت روحي. قالت

مثلما لا أحد يراني،

فلا أحد يرى الدم.

كذلك: لا أحد يرى القيثارة.

ثم قالت:

أستطيع إنقاذك أنت. وكانت تقصد:

هذا اختبار.

18

من “أنت”؟ كما في

“أتعبت من الألم الذي لا يرى؟”.

19

كطائر صغير حجب عنه ضوء النهار:

تلك كانت طفولتي.

20

كنت الرجل لأنني كنت أطول قامة.

لكنني لم أكن طويلة-

ألم أنظر قطّ في المرآة؟

21

صمت في الحضانة،

حديقة الاستشارة. ثم:

ما الذي تقترحه القيثارة؟

22

أعرف ما تريدين،

تريدين أورفيوس، تريدين الموت.

أورفيوس الذي قال: “ساعديني لأعثر على يوريدس”.

ثم بدأت الموسيقى، مرثية الروح

وهي ترى الجسد يختفي.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————-

منظر طبيعي

1

الشمس تغرب خلف الجبال،

الأرض تبرد.

غريب ربط حصانه بشجرة كستناء عارية.

الحصان صامت، يلتفت فجأة،

مستمعاً، في البعيد، إلى صوت البحر.

أمهد سريري لقضاء الليلة هنا

فاردة لحافي الأثقل على التربة الرطبة.

 كلما أدار الحصان رأسه،

أسمع صوت البحر.

على ممرّ بين أشجار الكستناء العارية،

كلب صغير يتبع صاحبه.

أولم يعتد الكلب الصغير أن يجري قدماً

شاداً على السلسلة، كأنما ليري صاحبه

ما يراه هناك، هناك في المستقبل،

المستقبل، الممرّ، سمه ما شئت.

خلف الأشجار، عند الغروب، المنظر

يشبه ناراً عظيمة تضطرم بين جبلين

حتى إن الثلج على الجرف الأعلى،

يبدو، لوهلة، مشتعلاً هو الآخر.

اسمع: في نهاية الممرّ، ينادي الرجل.

صوته بات غريباً تماماً

صوت من ينادي على ما لا يراه.

مرة بعد أخرى ينادي بين أشجار الكستناء الداكنة.

حتى يرد الكلب ببهوت

من مسافة بعيدة،

كأن ذلك الذي نخشاه

لم يكن بالشيء الرهيب.

الغروب: الغريب فك وثاق الحصان.

صوت البحر،

أضحى ذكرى فحسب.

2

مرّ الزمن وأحال كل شيء جليداً.

تحت الجليد، تحرّك المستقبل.

إن سقطت فيه تموت.

كان زمن انتظار،

كان زمن الحركة المعلقة.

عشت في الحاضر،

الذي كان ذلك الجزء من المستقبل الذي تستطيع رؤيته.

حلق الماضي فوق رأسي

كالشمس والقمر، مرئيين وليسا في المتناول.

كان زمن تحكمه المتناقضات،

كما حين نقول: لم أشعر بشيء

وكنت خائفاً.

الشتاء عرى الأشجار، وعاود كسوها بالثلج.

لأنني لم أستطع شعوراً، سقط الثلج، وتجلدت البحيرة.

لأنني كنت خائفة، لم أتحرّك؛

كان نفسي أبيض، مرآة للصمت.

مرّ الزمن، وبعضه صار هذا.

وبعضها تبخّر فحسب؛

كان يمكنك رؤيته يطفو فوق الأشجار البيض

مشكلاً حبيبات الجليد.

طوال حياتك، كنت تنتظرين الوقت المؤاتي

والوقت المؤاتي

يكشف عن نفسه مع ما يبذل من أفعال.

رأيت الماضي يتحرك، خط من الغيم ينتقل

من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار،

بحسب اتجاه الريح.

وفي بعض الأيام لم تكن ريح.

بدت الغيوم ثابتة في مواضعها،

مثل لوحة تصور البحر، أكثر سكوناً من البحر الحقيقي.

في بعض الأيام كانت البحيرة صفحة من زجاج.

تحت الزجاج كان المستقبل

يصدر أصواتاً رزينة محببة:

كان عليك السيطرة على نفسك حتى لا تصيخي السمع.

مرّ الزمن؛ كان عليك رؤية جزء منه.

الأعوام التي أخذها معه كانت أعوام الشتاء؛

ولن تُفتقد.

في بعض الأيام لم تكن غيوم،

كأن منابع الماضي اختفت.

العالم صار شفيفاً كصورة سالبة؛

الضوء يعبره مباشرة.

ثم بهتت الصورة.

فوق العالم

كانت زرقة فحسب، زرقة في كل مكان.

3

في آخر الخريف، صبية تشعل النار

في حقل من الحنطة.

كان الخريف شديد الجفاف

فتبدد في الهواء

حتى لم يبق منه شيء.

بعدئذ عبرت الحقل، ولم تري شيئاً،  تر؟

ليس هناك ما يمكن قطافه أو شمّه.

وهو ما لا تستوعبه الجياد.

حيث هو حقل، يبدو أنها تسأل

مثلما يسأل أحدنا:

أين هي الديار.

لا أحد يمتلك الجواب.

لم يبق شيء؛

عليك أن تأملي، كرمى للمزارع،

بأن شركة التأمين ستعوض الأضرار.

ذلك يشبه أن تخسري عاماً من حياتك.

لأي سبب تضحين بعام من حياتك؟

بعدئذ، تعودين إلى المكان القديم،

لم يبق غير الفحم: سواد وفراغ.

تفكرين: كيف لي أن أحيا هنا؟

لكنّ الأمر كان مختلفاً في حينه،

حتى في الصيف الماضي.

كانت الأرض تتصرّف

كأنه لا يمكن أن يصيبها سوء.

عود ثقاب واحد كان كافياً.

لكن في الوقت المناسب- يجب أن يكون الوقت المناسب.

الحقل محترق، جاف،

الموت حل مكانه

إذا جاز التعبير.

4

ي

غفوت في نهر، أفقت في نهر،

لا شيء لأرويه لك،

عن فشلي الغامض في أن أموت

ولا عمّن أنقذني، ولا لأي سبب.

كان صمت هائل.

لا ريح. لا صوت بشرياً.

القرن المرير

كان قد انتهى،

الرائع انتهى، الثابت انتهى،

الشمس الباردة

تثابر كنوع من الفضول، كتذكار،

يجري الزمن في إثره

بدت السماء صافية كل الصفاء،

مثلما في الشتاء،

التربة جافة، غير معزوقة،

الضوء الاعتيادي يتحرك بهدوء

عبر أخدود في الهواء

أمل جليل، راض، متلاش،

صور المستقبل تخضع

لعلامات مرور المستقبل

أعتقد أنني سقطت.

كان عليّ أن أجبر نفسي على النهوض،

إذ لم أكن معتادة الألم الجسدي

كنت قد نسيت

كم كانت قاسية تلك الظروف:

التربة ليست ميتة، بل ساكنة،

النهر بارد، ضحل

من نومي، لا أذكر شيئاً.

حين صرخت

أمدني صراخي بسكينة مباغتة.

في صمت الوعي سألت نفسي:

لماذا رفضت حياتي؟

وها أنا أجيب:

 Die Erde Uberwaltigt mich:

الأرض تهزمني.

حاولت أن أكون دقيقة في هذا الوصف

في حال أراد أحدهم اتباعي.

أستطيع التأكيد أنه حين تغرب الشمس في الشتاء

فجمالها لا يضاهى وذكراها تدوم طويلاً.

أحسب أن هذا يعني

أنه لم يكن ليل.

الليل كان في رأسي.

5

بعد غروب الشمس

مضينا مسرعين على الجواد

أملاً في العثور على ملاذ قبل الظلام.

وكنت رأيت طلائع النجوم جهة الشرق:

مضينا إذن بعيداً عن الضوء

نحو البحر

وكنت سمعت بقرية هناك.

وعم قليل بدأ الثلج يتساقط.

بطيئاً في البداية ثم ثابتاً

حتى كست الأرض طبقة بيضاء.

الدرب التي سلكناها كانت ظاهرة بوضوح

لما استدرت لبرهة بينما الدرب

راحت تشق مساراً قاتماً على التربة

ثم صار الثلج سميكاً ماحياً تحته الدرب

كان الجواد متعباً جائعاً

ولم يعد يجد موطئاً ثابتاً لحوافره؟

حدّثت نفسي:

لقد ضعت من قبل، وبردت من قبل.

وقد حلّ الليل عليّ بالطريقة ذاتها،

كشعور مسبق.

وفكرت: لو طلب إليّ العودة إلى هنا،

فسأرغب في العودة

ككائن بشري، أما حصاني

فليبق ذاته. وإلا

لما عرفت كيف أبدأ من جديد.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

أسطورة البراءة

ذات صيف تذهب إلى الحقل

كعادتها، متريثة قليلاً عند بركة الماء

التي غالباً ما ترى صورتها على صفحتها،

لتتبين إن تغير شيء في ملامحها.

ترى الشخص نفسه، وما زالت العباءة الرهيبة

لكونها ابنة، متعلقة بها.

في الماء، تبدو الشمس غاية في القرب،

تلك عمّتي تتجسس عليّ ثانية، تفكّر،

كلّ شيء في الطبيعة قريب لها على نحو ما.

لا أُترك وحدي أبداً، تفكر،

محولة الفكرة دعاء.

ثم يظهر الموت كاستجابة للدعاء.

لم يعد أحد يفهم

كم كان بهيّ الطلعة. لكنّ بيرسيفوني تتذكر.

وتتذكّر أيضاً أنه عانقها، هنا تماماً،

أمام ناظريّ عمتها. تتذكر الشمس

تلمع على ذراعيه العاريتين.

تلك آخر ذكرياتها الواضحة.

ثم حملها الإله القاتم بعيداً.

تتذكر أيضاً، بوضوح أقلّ،

البصيرة التي اقشعرّ لها بدنها؛

من تلك اللحظة فصاعداً،

لن تستطيع العيش من دونه.

الفتاة التي تختفي عن صفحة بركة الماء

لن تعود ثانية. ستعود امرأة

باحثة عن الفتاة التي كانت.

تقف عند البركة قائلة، من حين لآخر،

لقد اختُطفت، لكنّ الوصف يبدو لها خاطئاً،

لا يشبه شيئاً مما شعرت به.

تقول، لم أختطف.

ثم تقول، لقد وهبت نفسي، أردت الفرار من جسدي.

بل إنني أحياناً ابتكرت هذا.

لكن الجهل لا يمكنه ابتكار المعرفة.

الجهل يفرض فكرة متخيلة يعتقد بوجودها.

كل الأسماء

تلفظها بالتناوب.

الموت، الزوج، الله، الغريب.

كلّ شيء يبدو بالغ البساطة، شديد الألفة.

لابدّ من أنني كنت- تفكر- فتاة بسيطة.

لا تتذكر الشخص  الذي كانت

لكنها تظلّ تفكر أن بركة الماء ستتذكر

وتفسّر لها معنى دعائها

حتى يمكنها أن تتذكر

ما إذا كان استجيب أم لا.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————–

أسطورة التفاني

حين استقرّ رأي هادس على عشق هذه الفتاة

شيّد لها نسخة من الأرض،

وجعل كلّ شيء فيها مماثلاً، بما في ذلك المرج،

لكنه أضاف إليه سريراً.

كلّ شيء مطابق، بما في ذلك شعاع الشمس،

لأنه سيصعب على فتاة يافعة

أن تنتقل بسرعة من الضوء الساطع إلى الظلمة التامّة.

فكّر أنه شيئاً فشيئاً سيعرفها على الليل،

بداية عبر ظلال أوراق الشجر المرفرفة.

ثم عبر القمر، ثم النجوم. ثم بلا قمر وبلا نجوم.

فلتعتد بيرسيفوني الظلمة على مهل.

وفي النهاية، فكّر هادس، ستجدها مريحة.

نسخة من الأرض،

إنما ثمة حب هنا.

أفليس الحبّ مطلب كل الناس؟

انتظر لسنوات،

بنى عالماً، وأخذ يراقب بيرسيفوني في المرج.

بيرسيفوني التي تشمّ، بيرسيفوني التي تتذوق.

إن كانت لديك شهوة واحدة- فكّر-

فلديك جميع الشهوات.

أفلا يريد الجميع أن يحسّ ليلاً

جسد المحبوب، بوصلة، نجماً قطبياً،

أن يسمع التنفس الهادئ الذي يقول

أنا حيّ، الذي يعني أيضاً

أنك حيّ، لأنك تسمعني،

لأنك معي ههنا. وحين يلتفت أحدهما،

يلتفت الآخر

هذا ما أحسّ به سيد الظلام،

ناظراً إلى العالم الذي شيده لبيرسيفوني.

لم يخطر بباله

أنه لن تكون رائحة هنا،

وقطعاً لا مزيد من الأكل.

أهو الشعور بالذنب؟ بالرعب؟ خشية الحب؟

تلك أشياء لم يستطع تخيّلها؛

ليس من عاشق يتخيلها قطّ.

يحلم، يتساءل ماذا سيسمي هذا المكان.

يفكر في البداية: جهنم الجديدة. ثم: الحديقة.

وفي النهاية يقرر أن يسميه:

أرض صبا بيرسيفوني.

ضوء خافت يلمع فوق المروج،

خلف السرير. يحملها بين ذراعيه.

يريد أن يقول أحبّك، لا شيء يمكن أن يؤذيك،

لكنه يفكر تلك كذبة،

وفي نهاية المطاف يقول

أنت ميتة، لا شيء يمكن أن يؤذيك

هي ذي بداية تبدو واعدة أكثر،

 حقيقية أكثر.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

أفيرنو

1

تموتون حينما تموت أرواحكم.

عدا ذلك، فإنكم تحيون.

ربما لا تحسنون ذلك، لكنكم تواصلون العيش،

وهو أمر لا يد لكم فيه.

حين أخبر أولادي بذلك

لا يعيرون كلامي اهتماماً.

فهذا دأب المسنين، يفكر الأولاد،

يتحدثون بأمور لا أحد يراها،

لكي يخفوا أمر الخلايا التي فقدتها أدمغتهم

يغمز الأولاد لبعضهم البعض؛

اسمعوا هذا الشيخ يتحدّث عن الروح

لأنه لم يعد يتذكر كلمة كرسي.

من الرهيب أن يكون المرء وحيداً.

لا أقصد أن يحيا بمفرده،

بل أن تكون وحيداً، حيث لا أحد يسمعك.

أتذكر كلمة كرسي.

أريد أن أقول ذلك، لكن الأمر ببساطة لم يعد يهمني.

أفيق من النوم مفكّراً

عليك أن تستعدّ.

عما قريب تستسلم الروح،

وكلّ كراسي العالم لن تجديك نفعاً.

أعرف ما يقولونه حين لا أكون في الغرفة.

هل يجب أن أرى طبيباً، هل يجب

أن أتناول أحد مضادات الاكتئاب الجديدة.

أسمعهم يتهامسون، مخططين كيف سيتقاسمون الكلفة.

وأرغب في الصراخ

أنتم جميعاً تعيشون في حلم.

يكفي إيلاماً – يفكّر- إنهم يرونني أتداعى تحت أنظارهم.

كفى من هذه المواعظ التي يسمعونها هذه الأيام

وكأنني أملك الحق بهذه المعلومات الجديدة.

حسناً، لديهم الحقّ ذاته.

إنهم يحيون في حلم، وأنا أستعدّ

لأغدو شبحاً. أريد أن أصرخ

لقد انقشع الضباب.

الأمر أشبه بحياة جديدة:

لا حصة لك في النتيجة؛

أنت تعرف النتيجة.

فكر في الأمر: ستون عاماً من الجلوس على الكراسي.

والآن الروح الفانية تسعى بصراحة بالغة، بشراسة بالغة

إلى رفع الحجاب،

لكي ترى ما الذي تقول له: وداعاً.

2

لم أعد منذ زمن بعيد.

حين رأيت الحقل ثانية، كان الخريف قد انتهى.

هنا، ينتهي الخريف تقريباً قبل أن يبدأ،

المسنّون ليست لديهم حتى ملابس صيفية.

كان الحقل مغطى بالثلوج الصافية.

لم تكن علامة على ما وقع هنا.

لا تعرف إن كان المزارع عاود زرع الأرض أم لا.

ربما استسلم وانتقل إلى مكان آخر.

الشرطة لم تقبض على الفتاة.

بعد فترة قالوا إنها انتقلت إلى بلد آخر،

بلد ليس فيه حقول.

كارثة كهذه

لا تترك أثراً في الأرض

وأناس كهؤلاء يحسبون أن ذلك

يمنحهم بداية جديدة.

وقفت طويلاً، أحدّق في الفراغ.

بعد قليل، لاحظت كم العتمة دامسة، كم البرد قارس.

زمن طويل، لا فكرة لديّ إلى أيّ مدى.

ما إن تقرر الأرض ألا تكون لها ذاكرة

حتى يبدو الزمن، بمعنى ما، بلا معنى.

لكن ليس بالنسبة إلى أولادي.

إنهم يلحّون عليّ لكتابة وصيتي؛

يخشون أن تأخذ الحكومة كل شيء.

يجدر بهم المجيء معي أحياناً

لكي ينظروا إلى هذا الحقل تحت الثلج.

كل شيء مكتوب هناك.

لا شيء: لا شيء أعطيهم إياه.

هذا الجزء الأول من الوصية.

الجزء الثاني: لا أريد أن أحرق.

3

من جهة، الروح تهيم.

من جهة أخرى، بشر يعيشون في خوف.

بينهما، هوّة الاختفاء.

بعض الصبايا يسألنني

إن كان جوار أفيرنو آمناً،

إنهن يشعرن بالبرد، يردن الذهاب جنوباً لبعض الوقت.

وإحداهن تقول كأنها تلقي دعابة، إنما ليس عميقاً في الجنوب.

أقول لهنّ إن المكان آمن كبقية الأمكنة،

وهو ما يملؤهنّ غبطة.

ما أقصده أن ليس من شيء آمن.

تستقلّ قطاراً،

تختفي.

تكتب اسمك على النافذة،

وتختفي.

ثمة أماكن كهذه في الأرجاء قاطبة،

أماكن تدخلينها فتاة يافعة،

ولا تعودين منها قطّ.

مثل الحقل، ذاك الذي احترق.

بعدها اختفت الفتاة.

ربما لم تكن موجودة يوماً،

لا دليل على أي من الأمرين.

كلّ ما نعرفه:

الحقل احترق.

لكننا رأينا ذلك.

لذا علينا أن نصدّق بوجود الفتاة،

وبما روته. وإلا فإن من يحكم الأرض

قوى لا نفهمها.

الفتيات سعيدات، يفكّرن في عطلتهن.

لا تركبن القطار، أقول لهن.

يكتبن أسماءهن على نافذة القطار المكسوة بالضباب.

أريد أن أقول لهن أنتنّ فتيات ساذجات،

إذ تحاولن ترك أسمائكن خلفكن.

4

أمضينا اليوم بطوله

مبحرين بين أرخبيل الجزر الصغيرة

التي كانت جزءاً من شبه الجزيرة

حتى انفصلت إلى الأشلاء التي ترونها الآن

تطفو في مياه البحر الشمالي.

بدت آمنة لي،

ربما لأن أحداً لا يمكنه العيش فيها.

لاحقاً جلسنا في المطبخ

نرقب أوّلاً بأول

المغيب ثم الثلج.

غرقنا في الصمت، مخدرين بالثلج

وكأن اضطراباً ما

كان محتجباً من قبل

وبات الآن مرئياً،

شيء ما في الليل،

بات مكشوفاً.

في صمتنا، كنا نسأل تلك الأسئلة

التي يطرحها الأصدقاء الحميمون على بعضهم

بسبب شدة التعب،

وكلّ منهم يأمل بأن الآخر يعرف أكثر

وحين يتضح عكس ذلك

يأملون بأن مشاعرهم المشتركة

سترتقي إلى مستوى البصيرة.

ما الفائدة المرجوة من أن تفرض على نفسك

إدراك أنك لا بدّ ميت؟

أمن الممكن أن يفوّت المرء فرصة حياته؟

أسئلة من هذا القبيل.

الثلج ثقيل. الليل الأسود

تحول هواء أبيض صاخباً.

شيء ما لم نره كشف عن وجوده،

لكنّ معناه ظلّ ملغزاً.

5

 بعد الشتاء الأول، بدأ الحقل ينمو ثانية.

لكن لم تعد هناك أخاديد منتظمة في الأرض.

رائحة الحنطة كانت قوية، عبق عشوائي

تمازج مع الأعشاب الضارة، تلك التي لم

يجد البشر فائدة منها.

كان الأمر محيّراً. لم يعرف أحد

إلى أين رحل المزارع.

بعضهم ظنّ أنه مات.

أحدهم قال إن له بنتاً في نيوزلندا،

إنه ذهب ليربي الأحفاد بدلاً من الحنطة.

الطبيعة، كما تبيّن، لا تشبهنا؛

ليس لديها مستودع للذكريات.

الحقل لا يصبح خائفاً من أعواد الثقاب،

ومن الفتيات اليافعات.

لا يتذكر الأخاديد أيضاً.

يقتل الحقل، يحرق، وبعد عام تدبّ فيه الحياة ثانية

وكأن شيئاً، غير عاديّ، لم يحدث.

المزارع يحدّق من النافذة.

ربما في نيوزلندا، ربما في مكان آخر.

ويفكّر: حياتي انتهت.

حياته عبّرت عن نفسها في الحقل؛

ما عاد يؤمن بصنع شيء من التراب.

التراب_ يفكر_ قد دحرني.

يتذكر يوم احتراق الحقل،

ليس بالمصادفة مثلما يعتقد.

شيء ما في أعماقه هتف: لا أستطيع العيش مع هذا،

أستطيع مجابهته بعد حين.

اللحظة الرهيبة كانت في الربيع الذي تلا ضياع عمله،

حين فهم أن التربة

لا تعرف كيف تأسى، وأنها بدلاً من ذلك تتغيّر.

ثم تواصل وجودها من دونه.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————–

بيرسيفوني الهائمة

في النسخة الثانية من الحكاية،

بيرسيفوني ميتة. هي تموت، أمها تبتئس،

ولا حاجة إلى أن نزعج أنفسنا هنا

بالمشكلات الجنسوية.

في خضم حزنه، وبصورة قهرية،

يدور ديميتر حول الأرض. لا نتوقع أن نعرف

ما الذي تفعله بيرسيفوني.

إنها ميتة، والموتى ألغاز.

لدينا هنا أم وشيفرة:

هذا دقيق لوصف تجربة الأم

بينما تنظر في وجه الطفلة. تفكر:

أذكر حين لم تكوني موجودة. الطفلة

حائرة؛ لاحقاً، رأي الطفلة أنها لطالما كانت موجودة

مثل أمها في شكلها الحالي.

أمها تشبه أحداً في محطة الحافلات،

جمهور في انتظار وصول الحافلة؛ قبل ذلك،

كانت هي الحافلة، بيت أو مسكن مؤقت.

بيرسيفوني، محصنة، تحدق من نافذة العربة؟

ما الذي تراه؟ صباح في بداية الربيع، في أبريل.

الآن حياتها كلها تبدأ – لسوء الحظ ستكون حياة قصيرة.

ستعرف شخصين بالغين فحسب: الموت وأمها.

لكن ذلك ضعف ما حظيت به أمها:

كان لها طفل واحد، ابنة.

كإلهة كان يمكنها أن تحظى بألف طفل.

نبدأ هنا برؤية

لباب عنف الأرض

التي توحي عدوانيتها

بأنها لم تعد راغبة

في أن تكون مصدر الحياة.

ولمَ هذه الفرضية لم تخضع لأي نقاش؟

لأنها ليست في القصة؛ إنها تخلق القصة فحسب.

بحزن، بعد موت الابنة،

تهيم الأم في الأرض.

إنها تجهز قضيتها؛

مثل سياسي

تتذكر كل شيء

ولا تعترف بشيء.

على سبيل المثال، ولادة ابنتها كانت لا تطاق،

جمالها كان لا يطاق: تتذكر هذا.

تتذكر براءة بيرسيفوني، رقتها..

ما الذي تخطط له، بحثاً عن ابنتها؟

إنها ترسل تحذيراً رسالته المضمرة هي:

ماذا تفعلين خارج جسدي؟

اسألي نفسك:

لماذا جسد الأم آمن؟

الجواب هو

هذا السؤال الخاطئ

بما أن جسد الابنة لا وجود له،

إلا كفرع من جسد الأم

وجبت إعادة الفرع بأي ثمن.

حين يحزن إله فهذا يعني تدمير الآخرين (كما في الحرب)

بينما يلتمس تغيير الاتفاقيات (كما في الحرب أيضاً):

إذا كان زوس يقبل باستعادتها

فسوف ينتهي الشتاء.

سوف ينتهي الشتاء، وسوف يأتي الربيع

ومعه النسائم الصغيرة المزعجة العزيزة على قلبي

والزهور الصفر الخرقاء…

سيعود الربيع، حلماً قائماً على باطل:

أن الموتى يرجعون.

بيرسيفوني كانت معتادة الموت.

الآن مرة بعد مرة

أمها تجرها إلى الخارج من جديد..

عليك أن تسألي نفسك:

هل الزهور حقيقية؟

إن “عادت” بيرسيفوني،

فذلك لسبب من اثنين:

إمّا أنها لم تكن ميتة

وإما إنها تستخدم لدعم قصة متخيلة..

أظن أنني أتذكر كوني ميتة.

مرات عديدة، في الشتاء،

اقتربت من زوس. قل لي، كنت أسأله،

كيف يمكنني احتمال الأرض؟

ويجيبني،

بعد فترة قصيرة ستعودين إلى هنا

وفي الأثناء

ستنسين كل شيء:

حقول الجليد تلك

ستغدو مروج إليسيوم الخالدة.

ترجمة سامر أبو هواش

——————————–

سعادة

رجل وامرأة على فراش أبيض

إنه الصباح، أفكّر، وعمّا قليل سيصحوان.

ثمة زنابق في جوار السرير

في مزهرية تغمرها الشمس.

أراه يميل نحوها

لكأنه، صامتاً، يتلفظ اسمها

عميقاً في فمها.

على حافة النافذة،

مرة تلو أخرى،

يشدو طائر.

ثم ترتعش المرأة؛

جسدها يضج بأنفاسه.

أفتح عينيّ فأجدك تتأمّلني.

فوق حجرتنا

تنساب الشمس.

تقول: انظري إليّ،

وتقرّب وجهك مني

كأنه مرآة.

كم أنت هادئ.

بينما العجلة المشتعلة

تمرّ فوقنا بسلاسة.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

بورتريه

ترسم طفلةٌ هيكل الجسد؟

ترسم ما تجيده، الإطار الخارجي فحسب،

أما الباقي فيملؤه البياض،

لا تستطيع الطفلة ملء ما تعلم أنه كائن هناك.

تدرك أمها: داخل خطوط الإطار الهشة

ليس من حياة؛

لقد فصلت بين الاثنين،

وكطفلة تلتفت الآن إلى أمها.

وها أنتِ ترسمينَ القلب

في الفراغ الذي صنعته.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————–

الحديقة

   1                

الخوف من الولادة

صوت واحد. ثم هسيس البيوت وأزيزها

بينما تستقر في مواضعها.

والريح

تجوس أجساد الحيوانات

عدا عن جسدي الذي لم يستطع

الاكتفاء بالصحة، فلماذا يجب أن يعود

إلى شعاع الشمس؟

سيكون نفسه ثانية.

هذ الخوف، هذا الجوهري،

حتى أجبر على العودة إلى الحقل

بغير مناعة

حتى أمام أصغر الشجيرات

التي تخرج متصلّبة من الطين،

جارة توقيع جذورها المائل،

حتى أمام زهرة توليب، ومخلب أحمر.

ثم يمكن احتمال جميع الخسارات

واحدة بعد الأخرى.

   2     

  الحديقة

تحبك الحديقة

ومن أجلك تلطّخ نفسها بالخضرة،

وبأحمر الورود،

لكي تدخليها مع عشاقك.

أترين كيف أنشأت أشجار الصفصاف

خمائل الصمت الخضراء هذه

لكن ما زال ثمة ما تحتاجين إليه،

جسدك ليّن جداً، حيّ جداً،

بين الحيوانات الحجرية.

اعترفي بفداحة أن تكوني مثلها

بمنأى عن الأذى.

   3   

الخوف من الحب

ذلك الجسد المضطجع بجواري كحجر مطيع،

ذات مرة بدأ يفتح عينيه،

وكان يمكن أن نتحادث.

كان قد حلّ الشتاء.

نهاراً ارتفعت الشمس في خوذتها النارية

وفي الليل أيضاً، في انعكاس القمر.

بكلّ حرية مرّ نورها فوقنا

كأننا استلقينا هكذا

لئلا يكون لنا ظل

كنا مجرّد حفرتين في الثلج.

وكالعادة امتدّ الماضي أمامنا،

ساكناً، محتشداً، غير قابل للاختراق.

كم مكثنا هناك

بينما هبط الآلهة متأبطي الأذرع

بأقنعة الريش

من الجبل الذي رفعناه من أجلهم.

4     

 الأصول

كأن صوتاً يهتف:

لا بد أن تكون نائماً الآن،

ولم يكن أحد.

ولا أعتم الهواء،

مع أن القمر كان هناك

وكان مليئاً بالرخام.

كأنما في حديقة محتشدة بالزهور

هتف صوت:

كم هي بليدة هذه الأزهار الذهبية،

كم هي طنانة، وكم هي مكررة،

حتى أغمضت العينين،

واضطجعت هناك.

بين النيران المفرقعة.

لكنك أيها الجسد المسكين

لم تستطع نوماً،

كانت الأرض ما زالت

متشبثة بك.

  5  

 الخوفُ من الدفن

في الحقل الفارغ، صباحاً،

ينتظرُ الجسد أن يُستدعى.

تقبعُ الروح بجواره، على صخرة صغيرة،

لا شيء سيهبها هيئة ثانية.

يفكّر في وحدة الجسد.

يسير ليلاً في الحقل العاري،

ظله ثقيل.

وطويلة هي الرحلة.

والأضواء البعيدة تنبعث مرتعشة من القرية

لا يقفون من أجله بينما يتفرّسون في الصفوف.

كم يبدون بعيدين،

الأبواب الخشب…

الخبز والحليب،

تُركت، كأثقال، على الطاولة.

ترجمة سامر أبو هواش

——————————-

الرسائل

ليل لآخر مرة.

للمرة الأخيرة تمرّ

يداك على جسدي.

غداً خريف.

سنجلس معاً في الشرفة

وننظر إلى الوريقات التي يبست

تطيرها الرياح في سماء القرية

كالرسائل التي سنحرقها،

واحدة بعد الأخرى، كلّ في منزله.

كم ساكنة هذه الليلة.

وحده صوتك يتمتم:

إنك مبللة، تريدين ذلك

والطفل في الداخل

نائم كأنما لم يولد بعد.

الخريف صباحاً،

سنمشي معاً في الحديقة الصغيرة

بين المقاعد الحجرية والشجيرات

التي يلفّها الضباب،

كأثاث هجر من زمن بعيد.

أنظر كيف ترتفع أوراق الشجر في العتمة.

لقد أحرقنا

كل ما كتبناه عليها.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————

عتاب

خدعتني يا “إيروس”

حين أرسلتَ إليّ

حبيَ الحقيقي.

على هضبة عالية ابتكرت

نظرته الثاقبة؛

ولم يكن قلبي

صلباً كسهمك.

ما الشاعر بلا أحلام؟

أتمدّد مستيقظة؛

أحسّ بدناً حقيقياً فوقي،

يريد إسكاتي…

في عتمة الخارج،

فوق أشجار الزيتون،

بضع نجمات.

أحسبها إهانة بالغة:

أن أحبّذ المشي

في الممرات المتعرّجة في الحديقة،

قرب النهر

الذي يترقرق بقطرات الزئبق.

أحب الاستلقاء على العشب الرطب قرب النهر،

هاربة يا “إيروس” مع رجال آخرين

ليس باندفاع

لكن بتحفظ وبرود…

لقد عبدتُ، طوال حياتي،

الآلهة الخطأ.

أرى الأشجار

على الضفة الأخرى،

تهتز وتتمايل،

ومثلها السهم في قلبي.

ترجمة سامر أبو هواش

————————————-

فرس

ما الذي تقدّمه لك الفرس

ولا يسعني تقديمه لك؟

أراقبك حين، وحيداً،

تمتطيها في الحقل،

وتغوص يداك

في عرفها الأسود.

ثم أدرك سرّ صمتك:

إنه الازدراء، إنه مقتك لي وللزواج.

ورغم ذلك تريدني أن ألمسك؛

تنتحب كعروس، وحين أنظر إليك

لا أرى في جسدك أطفالاً.

ماذا فيه إذاً؟

أحسب أن لا شيء سوى استعجالك

الموت قبلي.

رأيتك، في المنام تمتطي الفرس

في الحقول الجافة

ثم تترجّل: وتسيران

أنت والفرس..

لم يكن لك ظلّ في الظلام.

شعرت أن ظلّك يتجه نحوي

في الليل يذهب أينما شاء،

إنه سيد نفسه.

أنظر إليّ. أتحسبني لا أفهم؟

إذ ما الحيوان

إن لم يكن معبراً من هذا الحياة.

ترجمة سامر أبو هواش

———————————–

أشجار الدردار

حاولتُ، طوال اليوم، أن أميّز

بين الرغبة والحاجة.

والآن، في الظلمة،

يملؤني حزن مرير لأجلنا،

نحن البناؤون، نحّاتو الخشب،

لأنني كنت أحدّق

في هذه الشجرات

ورأيت السياق

الذي يصنع الألم،

شجرة مقيمة في عذاب،

وأدركتُ

أن لن يكون لها سوى هذا الالتواء.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————–

صيف

أتذكر صيف سعادتنا الأولى،

كم كنا قويّين، وكم دوّخنا الشغف،

كيف كنا نضطجع على فراشنا الضيق،

ننام هناك، ونأكل هناك أيضاً:

كان الصيف،

وبدا أن كل شيء أينعَ مرة واحدة

كم كنا حارّين في عرينا الكامل.

أحياناً كانت تهبّ ريح

تلهو بصفصافة النافذة.

لكننا كنا ضائعَين نوعاً ما، ألم تشعر بذلك؟

كان السرير أشبه بطوف؛

وأحسست أنّنا نطفو خارج أنفسنا

إلى حيث لن نكتشف شيئاً.

أولاً الشمس، ثم القمر، يظهر لمحاً،

خلل الصفصاف.

أشياء يمكن أن يراها أيّ كان.

أُقفلت الدوائر. ببطء صارت الليالي باردة؛

اعترت الصفرة وريقات الصفصاف

ثم سقطت. وفي كل منا

اتسعت عزلة عميقة،

مع أننا لم نتحدّث عن ذلك،

عن غياب الندم.

كنا بارعَين مرة أخرى، يا زوجي،

واستطعنا استئناف الرحلة.

ترجمة سامر أبو هواش

—————————–

رجل جالس

كأنما كنتَ على كرسيّ متحرّك

رجلاك كانتا مبتورتين حتى الركبتين.

لكنني أردتك أن تمشي.

أردتنا أن نمشي كعاشقين

بذراعين متشابكتين في مساء صيفي،

آمنت بأن ذلك ممكن

بحيث أنني اضطررت إلى التكلم،

كان عليّ دفعك دفعاً لتقف.

لمَ تركتني أتكلم؟

فهمت صمتك مثلما فهمت عذاب وجهك،

شيئاً من مشقة التحرّك…

يبدو أنني وقفت مادة يدي إلى ما لانهاية،

وطوال ذلك الوقت لم يكن في مقدورك

شفاء نفسك

مثلما لم يكن في مقدوري

قبول ما رأيت.

ترجمة سامر أبو هواش

——————————-

العودة

حين رحلتَ

شعرت بالجزع؛

لمسني فتى في الشارع،

كانت عيناه بمستوى عيني،

صافيتين وحزينتين:

دعوته إلى الدخول؛ تكلّمت معه

بلغتنا،

لكن يداه كانتا يديك،

وبرقة هائلة نالتا ما أرادتا

ثم لم يكن مهماً

اسم من منكما كنت أنادي.

إلى هذا الحدّ كان الجرح عميقاً.

ترجمة سامر أبو هواش

————————–

قصيدة “تليسكوب

هناك لحظةٌ بعد أن تحرِّكَ عينيكَ بعيدًا

عندما تنسى أين أنت

لأنّكَ كنتَ تعيش، كما يبدو

 في مكانٍ آخر، في صمت سماء الليل

لقد توقّفتَ عنِ البقاء في هذا العالمِ.

أنتَ في مكانٍ آخرَ

حيثُ لا معنى لحياة الإنسانِ.

لم تعُدْ مجرّدَ كائنٍ في جسد

وإنَّما أنت موجودٌ كما توجد النُّجوم

تشاركُها سكونها واتساعِها.

ثم تجدُ نفسَكَ في العالَمِ مرّةً أخرى.

على تلّةٍ باردَةٍ في اللّيل

تفكك أجزاء التلسكوب.

ترجمة دينا نصر البرديني

—————————

قصيدة “نجم المساء

اليوم، للمرةِ الأولى منذ أعوام عِدّة

تراءَت لي مرةً أُخرى

رؤية حول روعة الأرض

في سماءِ المساء

بدَتْ النجمةُ الأولى

وقد زاد توهُجُها

بينما غرقت الأرضُ في الظلام

حتى بَلغَت أخيراً ذُروة ظلامها

والضوء، الذي كان ضوء الموت

بدى وكأنه يعيد للأرضِ

قدرتها على المواساة. لم تكُن هناك

نجوم أخرى، فقط كانت هناك تلك

التي أعرف اسمها

لأنني في حياتي الُأخرى آذيتها:

فينوس، نجمة باكورة المساء.

لكِ أنا اُهدي

رؤياي، لأنكِ القيتِ على ذلك السطح الفارغ

ما يكفي من ضوءٍ

لتُصبح أفكاري

مرئية من جديد 

ترجمة دينا نصر البرديني

—————————–

=========================

لويز غليك بيرسفوني الأميركية: شاعرة الأسطوري والميتافيزقي والأوتوبيوغرافي/ سامر أبو هواش

“من المتعارف عليه أن علامة الذكاء الشعري أو الصنعة الشعرية هو الشغف باللغة، التي يُعتقد أنها تعني التجاوب المحموم مع أصغر وحدات اللغة: الكلمة. يفترض أن الشاعر هو الشخص الذي لا يشبع من الكلمات المعقّدة. بيد أن تجربتي لم تكن كذلك. منذ سن الرابعة أو الخامسة أو السادسة بدأت بقراءة القصائد، وبدأت أرى الشعراء الذين كنت أقرأ أعمالهم بوصفهم رفاقي وأسلافي، منذ البداية آثرت أبسط المفردات. ما فتنني كان الاحتمالات التي يتيحها السياق الذي توضع فيه المفردة. ما كنت أتجاوب معه، على الصفحة، هو الطريقة التي تستطيع القصيدة من خلالها أن تمارس فعل التحرير، عبر الإطار الذي توضع فيه الكلمة، عبر التوقيت والإيقاع الخفيين. وبدا لي أن اللغة البسيطة تناسب أكثر مثل هذه المغامرة. أحب الوزن لكنني أفضّله خفياً..”.

تكاد مثل هذه النظرة إلى الشعر المنطلقة ظاهرياً من البساطة، ولكن القائمة على العمق، تختصر تجربة لويز غليك الشعرية. فهذه الصفة بالذات، أي استعمال الكلمات البسيطة، في تركيب شعري متكامل، وعبر أداة الإيقاع والموسيقى الخفيين أو غير الرنّانين، لخلق التأثير الشعري، نلاحظه سمة دائمة في شعرها. وما يجري على الشكل يجري أيضاً على المضمون أو يمضي بالتوازي والتكامل معه. تقول غليك “ما أتشارك به مع شعراء جيلي هو الطموح؛ وما أخالفهم فيه هو تعريف هذا الطموح. لا أعتقد أن الإكثار من الإفشاء يصنع دائماً قصيدة ثرية. ما يجذبني هو المضمر، الذي لا يقال، الإيحاء، الصمت المتعمّد البليغ. ما لا يقال في القصيدة يضمر قوة أكبر.

غالباً ما أتمنّى أن تصنع قصيدة كاملة من هذا التعبير، أي ما لا يقال، فهو يوازي غير المرئي مثلاً، قوة المخرّب، العمل الفني الذي لحق به بعض الخراب أو الذي ليس بكامل. أعمال فنية كهذه تلمح دائماً إلى سياقات أكبر؛ إنها تلازمنا لأنها غير كاملة، وإن كان الكمال متضمناً فيها: زمن آخر، زمن كانت فيه كاملة، أو كانت ستكون كاملة فيه، متضمن فيها. كل التجربة الدنيوية جزئية. ليس ببساطة لأنها ذاتية، لكن لأن ما نجهله، عن الكون، عن الفناء، أوسع بكثير مما نعرفه. ما هو غير منجز أو ما دمّر يعزّز هذه الألغاز. المسألة هي في صنع كامل لا يضحّي بهذه القوة”.

هكذا تتحرّك لويز غليك ضمن مجالين يفصل بينهما خيط رفيع غالباً ما تنجح في الحفاظ عليه: مجال العادي، السردي، الأوتوبيوغرافي، اليومي، والواقعي. والمجال الآخر الإيحائي، الملغز، الميتافيزيقي، الخرافي أو الأسطوري. تستعيد أو تستعير الشاعرة مثلاً في “المروج” شخصيتي عوليس وبنيلوب والساحرة تسيريس من “الأوديسة” كما تستلهم حكايات بيرسيفوني من الأساطير الإغريقية لتنسج قصة متعدّدة المستويات حول الحب والزواج والغياب والرغبة والخيانة والقدر والعودة وفكرة الرحلة وغيرها من معان. لا نحتاج إلى أن نعرف مثلاً أن المجموعة التي تلعب زوجة عوليس فيها، أي بنيلوب، دور الشاعرة، كتبت بعد انفصال غليك نفسها عن زوجها، ذلك أننا سنجد في مجموعتين سابقتين “أرارات” وفي “القزحية المتوحشة”، كما في مجموعة “أفيرنو” وغيرها، التوظيف نفسه لعناصر ميثولوجية بما في ذلك “الأوديسة” التي تحضر كغلالة تطرح من خلالها غليك هواجسها الكثيرة، أيضاً حول العلاقات، الغرامية وسواها، حول الإرث العائلي، الموت، الغياب، وبالطبع الثيمة الأكثر حضوراً عند غليك هي الخسارة أو الفقدان، ليتحوّل اليومي بهذا المعنى، بكل إيحاءاته أحياناً أو بكل فجاجته في أحياناً أخرى إلى عملية بحث عمّا تسمّيه غليك “ما لا يقال”، ولتتحوّل القصيدة إلى ما يشبه صفحة ماء تبث فيها الشاعرة بعض الاضطراب وتدعنا نتأمل ترقرق الماء عليها.

ولدت لويز إليزابيث غليك (يلفظ هكذا، لا “غلوك”) في الثاني من أبريل 1943 نيويورك سيتي ونشأت في لونغ آيلاند، وتلقت تعليمها في كلية “ساره لورنس” وجامعة كولومبيا. بين أبرز الشعراء الذين أثّروا في تجربتها الشاعر ستانلي كونيتز الذي درّسها الأدب في كولومبيا، كما تأثرت مباشرة بتجربته الشعرية. عام 1992 حصلت على جائزة “بوليتزر” المرموقة عن مجموعتها “القزحية المتوحشة”، كما حصلت قبل ذلك على جائزة “ناشيونال بوك كريتيك سيركل” عن مجموعة “انتصار أخيل” (1985). في العام 2003 اختيرت “شاعرة أميركا المتوجة” بعد الشاعر بيلي كولينز، كما اختيرت لتحرير “سلسلة يال للشعراء الشباب” بين 2004 و2007.

تدرّس غليك الأدب في “وليامز كولج”، وتعيش حالياً في كامبردج، ماساتشوستس. وقد توجت تجربتها الشعرية الثرية والمتفردة بفوزها بجائزة نوبل للآداب عام 2020.

أعمالها الشعرية: “البكر” (1968)، “البيت في مارشلاند” (1975)، “الحديقة” (1976)، “وجه يدنو” (1980)، “انتصار أخيل” (1985)، “أرارات” (1990)، “القزحية المتوحشة” (1992)، “المجموعات الشعرية الأربع الأولى” (1995)، “المروج” (1997)، “فيتا نوفا” أو “الحياة الجديدة” (1999)، “العصور السبعة” (2001)، “أفيرنو” (2006)، و”الأعمال الكاملة” (2012).

كما لها كتاب نظري عن الشعر بعنوان “براهين ونظريات: مقالات في الشعر” (1994)، وكتاب “أصالة أميركية” (2017) الذي يتضمن العديد من المقالات حول التجربة الشعرية الأميركية.

الجدير ذكره أن جزءاً من قصائد هذا الديوان كان قد نشر عن مشروع كلمة للترجمة عام 2009، تحت عنوان “عجلة مشتعلة تمر فوقنا”، وقد أضيف إليها عدد من القصائد، خصوصاً من ديوانها “أفيرنو” (2006).

——————————-

لويز غليك.. في مقاومة الخسارة والألم/ دارين حوماني

لدى لويز غليك عالم آخر يجمع يومياتنا وبصماتنا وأقنعتنا المرئية واللامرئية ويقدّمها لنا كأن الصوت يسمع نفسه من دون أي ضجة ولا صنوج. الشعر عند غليك صوت نَفَس دافئ وترجيعي تستقر فيه كائنات الطبيعة والميثولوجيا الإغريقية، ومدافننا الذاتية، حيث يمدّ الموت فراشه فيعيد ترتيب الأشياء كما يحلو له أن يتمكن منا؛ صوته، وخطوطه على طول الروح، وانتشاره المحسوس فينا. في قصائدها، تستخدم غليك الطبيعة لإثبات أن النهايات هي بمثابة بدايات، والبدايات نهايات، وسنرى الزهور والأعشاب بعدسة مقرّبة، وسيكون لها أفواه تشي بيأس الحماقات البشرية. كيف تنبش الطبيعة عواطفنا؟ وكيف تغني المياه الخسارة ثم تجدّد الحياة؟ وكيف نبدأ بعد كل حزن من جديد؟ من هنا ينطلق عالم غليك الشعري منذ عام 1968 مع “المولود الأول” وعبر اثني عشر كتابًا شعريًا لا نخرج منها إلا ونحن محمّلين بالعاطفة الإنسانية وبالأمل بموازاة “الحزن” الذي هو “ردّ الفعل على الخسارة”، كما تصفه غليك.

الشعر كامتداد للسيرة الذاتية

تختار لويز غليك، المولودة في نيويورك عام 1943، أبسط الكلمات لتصف أكثر الأمكنة عمقًا في التاريخ والأرض والذات الإنسانية، تمتد كتاباتها من التجارب الشخصية منذ طفولتها والزمن اللاحق إلى تجارب الآخرين المؤلمة عبر إعادة إنتاج حكاياتهم لمواجهة الحزن والدمار الداخلي. تقع موضوعات الأسرة والعلاقة الزوجية في قلب خريطة غليك الشعرية، حيث يصبح الشعر امتدادًا للسيرة الذاتية، وهو ما أشارت إليه أكاديمية نوبل عند منحها هذه الجائزة، العام الفائت، في ذكرها أنّ من أسباب منح غليك الجائزة “صوتها الشاعري المميز الذي يضفي بجماله المجرّد طابعًا عالميًا على الوجود الفردي”. أما خيبة الأمل، الهجر، الشعور بالخسارة والفقدان، العزلة والتأمل في تقدّم العمر والشيخوخة والموت فهي ثيمات غليك الأثيرة. إنها، كما يصف بعض النقاد، “شاعرة عالم ينهار”، لذلك ليس مستغربًا أن يصف البعض شعرها بالقتامة والسوداوية، لكنّ قصائدها رغم ذلك لا تبعث على الكآبة على الإطلاق، فهي نصوص ذكية تجيد التقاط المفارقات في علاقاتنا البشرية، وتقاربها بروح من التفهم والتسامح، كما أنها ليست بالكائن الكئيب. وفي بيان نوبل توحّدت ثلاث خصائص في كتاباتها: “موضوع الحياة الأسرية، الذكاء الحاد والإحساس الراقي بالكتابة”، فنجد صدى محبّبًا لقصائدها بين القرّاء والنقاد، على حدّ سواء. وقد قالت إثر نيل الجائزة لصحيفة “نيويورك تايمز”: “أفترض أن كفاحي وأفراحي ليست فريدة من نوعها. أنا لست مهتمة بتسليط الضوء على نفسي وحياتي الخاصة، بل على كفاح البشر وأفراحهم، الذين يولدون ثم يُجبرون على الخروج”. كما صرّحت أنه سيصدر لها هذا العام “وصفات الشتاء”.

وفي نسخة جديدة ومنقّحة لمختارات من كتبها الشعرية والمنقول إلى العربية “عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا” (منشورات الجمل، ترجمة سامر أبو هواش، 2009-2021) سنقرأ  تمامًا كيف تنقل غليك انهيار العوالم الفردية بهدوء وبساطة عبر نصوص هامسة تحتاج للكثير من الإنصات إلى فجوات الصمت فيها.

تقول غليك في ديباجة الكتاب: “لا أعتقد أن الإكثار من المعلومات يصنع دائمًا قصيدة ثرية، ما يجذبني هو المضمر الذي لا يُقال، الإيحاء، الصمت المتعمّد البليغ، ما لا يُقال في القصيدة يضمر قوة أكبر، يوازي غير المرئي كالعمل الفني الذي لحق به بعض الخراب أو الذي ليس بكامل، أعمال فنية كهذه تلمح دائمًا إلى سياقات أكبر، إنها تلازمنا لأنها غير كاملة”، من هنا تتحرّك قصيدة لويز غليك “ضمن مجالين يفصل بينهما خيط رفيع: مجال العادي، السردي، الأوتوبيوغرافي، اليومي، والواقعي، والمجال الإيحائي، الملغز، الميتافيزيقي، الخرافي أو الأسطوري” حسب تعبير المترجم.

تختار صاحبة جائزة بوليتزر (1993) في قصيدة “الحديقة” المنهجية السردية المتقشفة في منح الإحساس بأشياء الطبيعة، نستحضر بأسلوبها سرديات يانيس ريتسوس وتوماس ترانسترومر الشعرية الموجزة التي تريك الوجود كله من خلال ثقب إبرة. تتساءل غليك عن الآثار المترتبة على الوعي الذاتي مستخدمة ضمير المخاطب بطريقة اتهامية وحنونة: “سيكون نفسه ثانية/ هذا الخوف/ هذا الجوهري/ حتى أجبر على العودة إلى الحقل/ بغير مناعة/ حتى أمام أصغر الشجيرات/… ما زال ثمة ما تحتاجين إليه/ جسدك لين جدًا بين الحيوانات الحجرية/ اعترفي أنه من الرهيب أن تكوني مثلها/ بمنأى عن الأذى”. إنها تفترض ضرورة التعرّض للأذى – الشعور بالألم والحزن والخسارة والهشاشة – كجزء لا يتجزأ من الوجود البشري. ثم تجسّد الخوف من الولادة المتكرّرة في عالم يحتشد بالآلام: “كنا مجرّد حفرتين في الثلج/ وكالعادة امتدّ الماضي أمامنا/ ساكنًا/ محتشدًا/ غير قابل للاختراق”. الخوف نفسه يمتد إلى الموت، ثمة صراع بين الحياة والموت يذكّرنا بالموت الذي كانت سيلفيا بلاث تسعى إليه “كأنما صوت كان يقول: يجب أن تكون نائمًا الآن/ مع أن القمر كان هناك وكان مليئًا بالرخام/ لكنك أيها الجسد المسكين/ لم تستطع نومًا/ كانت الأرض ما زالت متشبثة بك/.. يفكر في وحدة الجسد/ يسير ليلًا في الحقل العاري/ ظله ثقيل/ وطويلة هي الرحلة”. وفي “انحراف” ثمة ما يهشّم دواخلنا بالمعنى المؤلم للكلمات: “يبدأ بهدوء في طفلة معينة/ الخوف من الموت/ ثم يتخذ شكل جوع تام/ لأن جسد المرأة قبر يمتص كل شيء/ .. إنها الحاجة إلى الكمال/ الذي بالكاد يشكّل الموت نتيجته الثانوية”.

لويز غليك جاهزة للتنقلّ بين ظلها وظل الآخرين محكمةً شدّ الروابط بينهما وبين كلماتها والأشجار، ومدشّنةً كل ظلّ بمفردات الوعي العميق أمام الأجساد القلقة التي يحبطها العالم، “حاولتُ طوال اليوم أن أميّز بين الرغبة والحاجة/ والآن في الظلمة يملؤني حزن مرير/ لأنني كنت أحدّق في هذه الشجرات/ ورأيت السياق الذي يصنع الألم/ شجرة ثابتة في عذاب/ وأدركتُ أنها لن تتخذ سوى أشكال ملتوية”. في خلفية كل قصيدة ثمة لغة محتشدة بالمعاني، تحمل غليك عدّتها من الألم فنعثر في خريطتها الشعرية الشخصية على تجاربنا الشخصية بين الكلمات، وستوقّع غليك على ذاكرتنا كما هي فتحدّثنا عن حرّيتنا على طريقتها “كان من السهل أن أركض/ ما دمتُ عارية من كل شيء”، و”لست مرغمة على إغماض عينيّ، لأعود بالزمن، لأعدّل شيئًا”، و”أوراقها تتبخر/ هذا ما تريده/ هذا الهدف/ في النهاية من لا يبقى معه شيء يفوز”. وفي “صيف” ستستعيد علاقتها بزوجها منذ أول الحب حتى آخره بأبسط الكلمات التي يمكن أن تجسّد المعنى الدقيق والعميق للبداية والنهاية، “أتذكر صيف سعادتنا الأول/ كم دوّخنا الشغف/ .. ببطء صارت الليالي باردة/ وفي كل منا فُتحت عزلة عميقة..”.

شغف لويز غليك بالميثولوجيا اليونانية جعلها تستلهم منها ومن شخصياتها الكثير، خصوصًا النسوية منها، كما هي الحال مع بيرسفوني، ابنة الإلهة ديميتر من زيوس التي يختطفها إله العالم السفلي هاديس، ويوريديس، زوجة أورفيوس، التي حاول أن يعيدها من عالم الموتى بموسيقاه، مركّزة على تجربة الخيانة التي تتعرّض لها هذه الشخصيات. وستُحضر إيروس وتعاتبه: “خدعتني يا إيروس/ حين أرسلت إليّ حبي الحقيقي/… أحب الاستلقاء على العشب الرطب قرب النهر/ هاربة يا إيروس مع رجال آخرين/ ليس باندفاع/ لكن بتحفظ وبرود/ لقد عبدتُ طوال حياتي/ الآلهة الخطأ”. كما ستوظّف حكاية أخيل وباتروكلوس بمفهوم جديد للصداقة والتضحية: “دائمًا في هذه الصداقات/ ثمة من يقوم على خدمة الآخر/ من هو أقل شأنًا من الآخر”. وسيكون عوليس الرجل العظيم الذي يدير ظهره للعالم. إنه النسج بين الأسطوري والواقعي بلغة شعرية تطوّع الزمن وتفضّه بحركات فنية غير زائدة.

سواد العالم

وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” مجموعتها الشعرية “أرارات” (1999) (في إشارة إلى الجبل الذي رست عليه سفينة نوح) بأنه “أكثر كتاب ممتلئ بالحزن والقسوة في الشعر الأميركي المنشور خلال ربع قرن”. في “أرارات” سترجّ غليك الصور التي لم تبرح ذاكرتها من ألبوم عائلتها، تُسقطها لنا في لوحات متتالية بضربات فرشاة خشنة كموضوع رؤية؛ والدها، والدتها، جدتها، خالتها، والأبناء، والألم الذي “يمكن صنع الكثير منه”. في “يوم شاق” تبدأ من تتبّع ذكرى مرور عام على وفاة والدها في فعل سردي شعري مبسّط ككتابة أولية على زجاج شفاف نرى الوجود كاملًا من خلاله “.. أمام البيت ابنة أختي تركب دراجتها الهوائية/ مثلما فعلت العام الفائت/ ما تريده حقًا هو تمرير الوقت/ بينما بالنسبة إلى بقيتنا/ حياة كاملة ليست بشيء/ ذات يوم أنت فتى أعمى بسن ساقط/ اليوم التالي أنت عجوز يبحث عن الهواء/ يصل الأمر إلى لا شيء، حقًا، بالكاد/ هنيهة على الأرض/ ليس نفسًا/ انقطاع نفس”، هكذا تصوّر غليك الحياة برمّتها مثل نفس وانقطاع نفس. وتقول أيضًا: “تعلمتُ حماية نفسي من الامتلاء/ كل سعادة تجلب غضب الأقدار”. وتتابع في “أرارات” رؤيتها لسواد العالم “الأرض نفسها، كل حجر فيها/ مكرّس لإله يهودي/ لا يتردّد في فصل طفل عن أمه”. وكانت غليك قد عانت من فترة مراهقة صعبة، “غالبًا في حالة حرب مع أمي” كما قالت في إحدى المقابلات، وسنعثر على هذه العلاقة الملتبسة بين الكلمات، كما سنعثر على والدها بكلمات مجهزّة لنوستالجيا محمولة على الأكتاف، “كان أبي يحب أن يحملني هكذا/ بحيث لا يراني/ أتذكر/ كنت أنظر أمامي إلى العالم الذي يراه أبي/ كنت أتعلم كيف أستوعب فراغه، الثلح الثقيل لا يهطل، يحوم حولنا”.

في مجموعتها “القزحية المتوحشة” (1990) تستخدم غليك مرة أخرى الحزن والغربة لتثبت أن الموت ليس الوجهة النهائية، تبدأ قصيدتها “في نهاية عذابي/ كان باب”، ثم تكمل “اسمعني ذلك الذي تسمّيه موتًا/ أذكره/ من الرهيب العيش/ بينما الوعي/ قابع في ظلمة الأرض/.. أنت الذي لا تذكر/ عبورك من العالم الآخر/ أقول لك يسعني التكلم ثانية/ كل ما يعود من النسيان/ يرجع ليعثر على صوت..”. الحزن هنا ليس غاية، ثمة مقاومة للحزن وللخسارة، وحيّز للأمل والقدرة على مواجهة الألم، رغم أن القصيدة تشير إلى معاناة لدرجة إبادة الذات، لكن ثمة ضوء سيُخرج الروح من العالم السفلي.

في إحدى مقابلاتها ستشارك غليك قصة مؤلمة، كما تصفها، عن عدم قدرتها على الكتابة لفترة طويلة. تسلّط هذه القصة الضوء على صراع، ليس فقط لها، ولكن مشترك عند الكثير من الكتّاب، إنه الصراع أيضًا بين الحياة والموت بالمعنى المجازي. في ذلك الوقت كان هناك سطر واحد في رأسها يتم تشغيله مرارًا وتكرارًا: “في نهاية معاناتي كان هناك باب.”

ثم تخاطب غليك اللـه بتهويداتها المسائية في عدد من القصائد، وتتنقّل العلاقة من الحميمية إلى المساءلة والشك على قماشة واحدة. نقع على تساؤلات غليك الوجودية في عمق علاقتها بإلهها، نبرات خافتة متروكة للرجاء ثم انتصار المرئي والمحسوس على اللامحسوس، ومشاعر غير مأهولة بالحب، “ينبغي أن أعلّمك أن تحبني/ ينبغي تعليم البشر/ أن يعشقوا الصمت والعتمة”، “تسمح لي، في غيابك المديد، باستعمال الحقل، متوقعًا بعض العائد من استثمارك هذا/.. أشك في أنك تملك قلبًا، بحسب فهمنا المشترك للكلمة. أنت الذي لا تميّز بين الأحياء والأموات، الذي نتيجة لذلك صرت منيعًا ضد النذور، قد لا تعرف كم من الهلع نعاني..”.

“كوفيد أضرّ بمشاعر النشاط والراحة لديّ”!

العزلة التي فرضتها جائحة كورونا أثّرت بطريقة حياة لويز غليك التي كانت معتادة على الخروج يوميًا للقاء الأصدقاء، تقول في حوار لها لصحيفة “نيويورك تايمز” في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2020 إثر نيلها جائزة نوبل للآداب: “لقد أضرّ كوفيد بمشاعر النشاط والراحة لديّ، لأنه كان عليّ أن أخوض معركة مع رعبي اليومي والقيود المفروضة على حياتي. انقطعتُ عن الكتابة لفترة طويلة، ثم فجأة عاودت الكتابة في الصيف. هناك الكثير من الحداد في كتاباتي الأخيرة، كما أن هناك سخرية من هذا العالم وثمة قصائد سريالية”. لم يكن الموت جديدًا على غليك، تتابع: “لقد كتبتُ عن الموت منذ أن تمكنت من الكتابة. عندما كنت في العاشرة من عمري، كنت أكتب عن الموت. أعتقد أنني أكتب عن الفناء لأنها كانت صدمة رهيبة لي عندما اكتشفت في طفولتي أنك لا تحصل على الحياة إلى الأبد”.

وصف الشاعر روبرت هاس لويز غليك بأنها “واحدة من أنقى الشعراء الذين يكتبون الآن وأكثرهم إنجازًا”. ويقول محرّر كتبها جوناثان جالاسي: “عمل لويز غليك يشبه محادثة داخلية، ربما تتحدّث مع نفسها، ربما تتحدّث إلينا. هناك شيء واحد ثابت للغاية في أعمالها، هو ذلك الصوت الداخلي لديها. إنها دائمًا تقيّم تجربتها مقابل الأفكار المثالية التي لا تتطابق أبدًا”. صوت غليك نقيّ ومباشر وقوي لأنه ينبع من ذاتها، مكثّف بالصور، وبالأحجار الكبريتية، ويدعونا للإنصات لهذه الصور والأحجار التي تمزج بين المجرّد والملموس، وتوقظنا باستمرار على لقطات من حيواتنا باقتضاب لغوي مغطّى بالضوء، وإتقان شكلي دون حاجة لرسم الحدود يجعلنا نرى الحياة من منظور التحرّر وليس من منظور التحلّل. كتابة تشفينا من توحّدنا كما تشفيها هي، إذ تقول في إحدى مقابلاتها: “يأتي معظم ما يجب أن أقوله عن إلحاح حقيقي، والباقي مجرّد ترفيه. أشعر أني على قيد الحياة حين أكتب الشعر، بالنسبة لي، الكتابة هي نوع من الانتقام من الخسارة والألم”.

ضفة ثالثة

—————————-

=======================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى