شعر

مختارات لروبرتو بولانيو

Roberto Bolaño

1953-2003)

كاتب وشاعر تشيلي، ولد في سانتياغو. حصلت روايته المخبرون المتوحشون على جائزتي هيرالدي عام 1998 م ورومولو جايجوس عام 1999 م. ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات منها الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية والهولندية. من كتبه الشعرية: حطام الجامعة المجهولة/ كلاب الرومانسية. ومن رواياته: طريق الأفيال/ مزلجة الجليد/ أمسيات تشيلي.

وبرتو بولانيو Roberto Bolaño 1953ـ2003: شاعر وروائي تشيلي، انتقل مع أسرته في عمر المراهقة إلى المكسيك، حيث مكث سنوات في العاصمة نيومكسيكو. قبل انقلاب بينوشيه العام 1973، بأشهر، عاد إلى تشيلي حيث أقام فترة قصيرة، تنقل بعدها في أكثر من بلد من بلدان أميركا اللاتينية، لينتهي به المطاف إلى الإقامة في إسبانيا العام 1977، حيث عمل، في البداية، من بين أعمال أُخرى زاولها، حارساً في مخيّم وغاسلَ صحون، وكان يقرأ ويكتب طوال ما يُتاح له من وقت. بقي يكتب الشعر حتى ولادة طفله الأول 1990. كان الشعر هاجسه الأساس وكان يرى نفسه، في المقام الأول، وقبل كل شيء، شاعراً. غير أنه تحوّل إلى كتابة النثر بعد الأربعين، لأنه رأى أن الشعر لا يمكنه أن يؤمّن للعائلة قوتها. حقق شهرة ذائعة في العالم الناطق بالإسبانية بعد صدور روايته “رجال التحري المتوحشون”. في مقابلة معه، قال أنه يرى أنّ كلمة “يكتب” معادل لكلمة “ينتظر”، حسبما جاء في التعريف به في طبعة “أعماله الشعرية” الصادرة بالسويدية، تحت عنوان “الجامعة المجهولة”، والتي عنها تُرجمت هذه القصائد.

حظ

كان في الريف يعمل في منزل، لمدة أسبوع، لدى وغدٍ حقيقي. كان ذلك في ديسمبر أو يناير، لم أعد أتذكر، لكن الجو كان بارداً، وعندما قدِمَ إلى برشلونه بدأ الثلج بالتساقط. أخذ قطار الأنفاق، قاصداً التقاطع، حيث تسكن صديقته. اتصل بها وطلب منها النزول لترى الثلج. ليلة جميلة، كانت بحق وقد دعَته إلى فنجان قهوة، ثمّ مارسا الحب، تحدّثا، ومتأخراً نام، فحلمَ أنه أتى منزلاً في الريف والثلج يتساقط خلف المنزل، خلف الجبل يتساقط الثلج وقد أحسّ أنه عالق في الوادي فاتصل بصديقته فأجابه صوتها البارد ـ (بارد لكنه رقيق): مِن ذلك القبر الناصع، لا أحد باستطاعته أن ينتشلك، حتى لو كان مضرب مثل في الشجاعة، إن لم يكن محظوظاً جداً.

أدب الحب

صمتُّ للحظة ومن ثم سألتُ ما إذا كان يعتقد هو، حقيقةً، أنّ روبرتو بولانيو قد ساعدَ الأحدب فقط لأنه كان قد أغرم قبل بضع سنوات بفتاة مكسيكية، ولأنّ الأحدب كان مكسيكياً أيضا. أجل، قال عازف الغيتار، هو يبدو كأدب الحب السيء، لكن لم أجد تفسيراً آخرَ، أعني في ذلك الوقت لم يكن موّاراً، بالمعنى الآني، بالتضامن أو المخاطرة، وإلّا فإنهما سببان وجيهان لأن يساعد المكسيكي. الحنين، لكن…

————————

روبرتو بولانيو .. سحرية واقعية الأحشاء

العدد 248 | 04 تشرين الأول 2019

زياد عبدالله

في رواية “2666” للكاتب التشيلي روبرتو بولانيو (1953 – 2003)، يسأل أمالفيتانو (إحدى شخصيات الرواية) صيدلانياً يقرأ الكتب حين يكون مناوباً في الصيدلية التي يعمل بها: أي الكتب تقرأ أو تحب؟ وليجيبه: إنه يحب كتباً من نوع: “المسخ”، و”بارتلبي النسّاخ”، و”قلب بسيط”، و”قصة عيد الميلاد”. فيُحزن ذلك أمالفيتانو، ففي إجابة الصيدلاني ما يقول له بأن القراء، ما عادوا يجرؤون على قراءة الأعمال الكبيرة والجارفة، مختزلين كافكا بـ “المسخ” عوضاً عن “المحاكمة”، وهيرمان ميلفل بـ “بارتلبي” بدلاً عن “موبي ديك”، وكذا فلوبير وديكنز، وحضور الأول مقتصر على “قلب صغير” في تجاهل لـ “مدام بوفاري”، بينما يتبدّى من منجز ديكنز المترامي “قصة عيد الميلاد” وتُنسى روايات مثل “قصة مدينتين”، و”ديفيد كوبرفيلد”. وليختم أمالفيتانو مقاربته تلك بالقول “يريدون أن يروا المعلمين الكبار في مبارزات تدريبية، لكنهم لا يريدون أن يعرفوا شيئاً عن المعارك الحقيقية”.

يصلح هذا الاقتباس معبراً للحالة الفذة والخاصة التي تشكّلها هذه الرواية، التي نشرت بعد وفاة بولانيو في مجلد واحد (1195 صفحة في نسختها العربية التي صدرت عن منشورات الجمل، وقد ترجمها عن الإسبانية المترجم السوري رفعت عطفة). وصية بولانيو، كانت تشير إلى نشرها على خمسة أجزاء أي خمس روايات، لا لشيء إلا لاعتقاده بأن القارئ ما عاد يحب الروايات الضخمة “المعارك الحقيقية” بل الصغيرة أو “المبارزات التدريبية”، إلا أن الأوصياء على إرثه قاموا بنشرها كاملة ودفعة واحدة، وليبدو ذلك فعلاً صائباً تماماً، بدليل ما أحدثته في عالم الرواية من صدى وإقبال، بما جعلها تعتبر واحدة من أهم روايات القرن.

البدء برواية “2666” هو مفتتح جيد لاقتحام عوالم روبرتو بولانيو، أو الحالة العجيبة والغريبة التي يشكّلها على خريطة أدب أمريكا اللاتينية والعالم، والتي تتعاظم على شيء من الانتشار المتعاظم تحت وابل من الأساطير، التي تتسرب من كتبه وتتلبسه، وقد مرّ على وفاته (16) عاماً، ومازالت روايات جديدة تطالعنا، كان آخرها رواية “روح الخيال العلمي” الصادرة العام الماضي بالإسبانية، وقد صدرت طبعتها الإنجليزية في شهر فبراير من هذا العام.

يحلّ بولانيو كاكتشاف جديد في سياق الرواية اللاتينية المجيدة، ويضفي أدبه بريقاً جديداً بعد أن بهت بريق “الواقعية السحرية” التي سحرت كل قارئ على سطح هذا الكوكب، ولعل استعمال ما يرد في روايته الهائلة “رجال التحري المتوحشون”عن جماعة شعرية اسمها “واقعية الأحشاء” في توصيف أدب بولانيو، سيكون بمثابة إطلاق مسمّى ما لمنتجه الأدبي، طالما أن المقاربات النقدية مولعة بهكذا مسميات، ولتكون روايات بولانيو نبشاً في أحشاء الواقع، في عوالمه السفلية، لكن بغرض إلحاق ضربات جمالية مؤلمة به، بالتناغم مع التربيت عليه برقة، وبالتالي الإمساك بتلابيبه وتطويعه، طالما أن الانقضاض عليه يأتي دائماً من مساحة أدبية، ففي “2666” تبدأ الرواية بهوس نقّاد أوروبيين (أربعة نقاد: إسباني وإيطالي وفرنسي وإنجليزية) بروائي ألماني يدعى أرشيمبولدي، والذي لا يعرفون عنه سوى أدبه، هو الذي لم يُر إلا في مناسبات نادرة، بما يقودهم إلى المكسيك بحثاً عنه، ومن ثم انفتاح الرواية على عوالم لا حصر لها، في تتبع لعدد لا متناهٍ من جرائم قتل النساء في (سانتا تِسا) على الحدود المكسيكية الأمريكية.

بينما يكون الراوي في “رجال التحري المتوحشون” الشاعر خوان غارثيا ماديرو، الذي ينضم وهو في السابعة عشرة من عمره إلى مجموعة شعرية تطلق على نفسها اسم “واقعية الأحشاء” أسسها آرتور بِلانو وعوليس ليما، اللذان يحضران في روايات أخرى لبولانيو مثل “تميمة” على سبيل المثال، ولعل بلانِو المعادل السردي لبولانيو نفسه، ومن خلال هذه المجموعة تمضي الرواية من المكسيك إلى شتى أصقاع العالم، في تتبع لمصير الشاعرة سيزارايا تيناجيرو، التي انهوس بشِّعرها بِلانو وليما، وقد اختفت في صحراء سونارا، وصولاً إلى تقديم سرد هائل لأحوال الشعراء في العالم، قصصهم ومصائرهم وطموحهم وخيباتهم، ولنكون حيال خزان حكايا متدفق متأسس كما في “2666” على سردية توالدية، كل قصة تتوالد من قصة، وحينها يكون لكل شخصية حقها الكامل بالظهور والتساوي مع الشخصيات الأخرى، وسرد حكايتها التي لا تخلو من دهشة وإثارة وغرائبية، فبولانيو في النهاية يقدّم سرداً واقعياً لا يستسلم للواقع إلا ليلويه.

لن تخفى على القارئ الحصيف “بورخيسية” بولانيو (نسبة للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس)، هو الذي قال في أكثر من مناسبة بأنه لا يمانع “أن يمضي حياته متمدداً تحت طاولة وهو يقرأ بورخيس”، لكن الخلطة البورخيسية معه تنفتح على تعقيدات العلاقات الإنسانية، وتهجس بواقع ووقائع مريرة، وتترامى عبر السرد، كما لو أننا أمام نهر متدفق هائج يروّضه بولانيو، ويحمّله بقوارب قصصية تصل وجهتها أينما شاءت، وكيفما شاءت! هو الذي يوصف بـ “الوحش الأدبي” نظراً لغزارة إنتاجه، ومن الممكن الإضافة على هذا التوصيف بالقول: إن بولانيو وحش أدبي يُروِّض ولا يُروَّض.

تأتي حياة بولانيو ومماته المبكر ليؤسطرا ما صار إليه من أيقونة أدبية، فهو لم يشهد في حياته هذا الاعتراف الكبير بأدبه، وما يسبغ على تجربته من دراسات وأبحاث، وترجمة رواياته وقصصه وقصائده إلى شتى لغات العالم، بحيث أمسى على شيء من الأسطورة الأدبية، المحاطة بمجموعة من الأساطير، التي صار من الصعب أحياناً فصل الحقيقي عن الملفق منها، فعلى سبيل المثال عاش بولانيو جلّ حياته في المكسيك واسبانيا، وقد عاد إلى بلده تشيلي للمساهمة في دعم حكومة سلفادور الليندي، حيث يتم اعتقاله لفترة لا تتجاوز الأسبوع بعد انقلاب الجنرال بينوشيه، لكن ثمة قصة أخرى تقول إنه حكم بالإعدام وقام بتهريبه من السجن ضابط كان صديقه في المدرسة.

تبدو القصة سالفة الذكر مثالاً حياً للرغبة بتسريب ما يحفل به أدب بولانيو إلى حياته، فهو “أسطورة”، وبالتالي عليه أن يكون مماثلاً للأساطير الواقعية التي يقدّمها في أدبه، خاصة أنه محمّلة بالكثير من حياته، ولها أن تغري بعدم الاكتفاء بما حفلت به أصلاً.

بدأ بولانيو مسيرته الأدبية شاعراً ومؤسساً في عام (1967) لـ “ما دون الواقعية” التي تحضر تحت مسمى “واقعية الأحشاء” في “رجال التحري المتوحشون” ونادى فيها بأن يغوص الشعر في الهوامش والعوالم السفلية، وحيوات أولئك الذين لا يبالي بهم أحد، داعياً إلى التخلي عن كل شيء كُرمى للأدب، ولعل هذا ما فعله تماماً، هو الذي عاش ومات وهو يكتب، كما أن أكثر من مصدر يشير إلى أنه بدأ كتابة القصة والرواية في عام (1990)، ما يقول لنا إن هذا المنتج الروائي والقصصي الكبير، الذي خلّفه نتاج (13) سنة فقط من عمره الوجيز.

*****

نشرت في العدد 33 من مجلة الشارقة الثقافية يوليو/تموز 2019

———————–

«الأدب آلة مدرّعة»: عن عالم روبرتو بولانيو الأدبي و«رجال التحرّي المتوحشون»/ أنس الحوراني

في مقدمتها للترجمة الإنجليزية لرواية «رجال التحرّي المتوحشون»، تروي المُترجمة المخضرمة ناتاشا ويمر القصة الآتية1: «في مدينة مكسيكو عام 1976، وقف شاب في الثلاثة والعشرين من عمره، شعرهُ أشعث ويرتدي نظارة طيارين، في مكتبة غاندي، التي لم تكن تعرف أنها كانت تزوّده بالكتب مجانًا وقرأ من مانيفستو حثّ فيه زملاءه الشعراء على التخلي عن كل شيء لأجل الأدب، واتباع مثال أرتور رامبو، والترحال كيفما قدر. وقال إن الشاعر الحقيقي عليه أن يهجر المقهى، وأن ينضم إلى «الصيادين، ورعاة البقر المنطوين (…) وزبائن البقّاليات المبصوق عليهم، والقاطنين في شقق المجمّعات السكنية الهائلة، وكل الماكرين، والوحيدين، وأولئك الذين لا ينتبه إليهم أحد، والآخرين الذين لا يحبهم أحد. (…) كان المانيفستو بعنوان «اهجر كل شيء من جديد»، وكان الوثيقة الأساسية لحركة الواقعيّة التحتية»2.

هذا الشاب كان روبرتو بولانيو، الكاتب التشيلي الذي كان له لاحقًا الدور الأكبر في تحديث أدب أمريكا اللاتينية برمّته.

وُلد روبرتو بولانيو عام 1953، في سانتياغو، تشيلي، ثم انتقلت عائلته إلى مدينة مكسيكو عندما بلغ الخامسة عشر من عمره. ومنذ ذلك الحين عمِل بالكلمات. عاد بعد خمسة أعوام إلى تشيلي إثر نجاح سلفادور أليندي في الانتخابات الرئاسية، ثم غادرها بعد انقلاب الجنرال أوغستو بينوشيه، الذي يُقال إنه تسبب بسجنه عدة أيام، ورجع إلى المكسيك. في المكسيك عمل في شتى الوظائف، وأسّس مع مجموعة من رفاقه، وأهمهم ماريو سانتياغو، حركة الواقعية التحتية الشعرية، التي استمدت اسمها من قصيدة للمؤلف السوريالي أندريه بريتون، والتزمت -كما فعلت السوريالية في بداياتها- برفض فصل العمل الفني عن الفعل الثوريّ. ورغم أن حياة حركة الواقعية التحتية كانت قصيرة، إلا أن مبادئها ظلّت لصيقة بنتاج بولانيو الأدبي حتى وفاته.

لم يبقَ بولانيو الشاب في المكسيك طويلًا فذهب وعاش حياة تسكّع في أوروبا لنصف عقد ونيّف، حيث كتب الكثير من الأعمال الشعرية. في أوروبا. عاقر بولانيو الخمر بإفراط، ويُقال إنه أدمن على الهيروين أيضًا (رغم أن هذه المعلومة مُستقاة بشكل حصريّ تقريبًا من مقالٍ عنوانه «شاطئ»، وهو مقال مشكوك في صحة نسبته إلى بولانيو. تقول أول جملة فيه: «تخلّيت عن الهيروين وذهبتُ إلى المنزل وبدأتُ علاج الميثادون»)، وبعد انتهاء فترة صعلكته استقر في بلانيس بإسبانيا، حيث تزوّج وأصبح أبًا، وامتهن كتابة الرواية ليعيل عائلته، إلى أن توفي وعمره خمسون عامًا في تموز/يوليو 2003، بسبب إصابته بفشل في وظائف الكبد. هذه، على الأقل، هي الخطوط العريضة لسيرته الذاتية.

تنقسم أعمال بولانيو، حسب النوع الأدبي، إلى ثلاثة أقسام: الأعمال الشعرية، ومن بينها الكلاب الرومانسيون (1993)، وثلاثة قصائد (2000)، والجامعة المجهولة (2007). المجموعات القصصية، ومن بينها مكالمات هاتفية (1997)، وعاهرات قاتلات (2001). الروايات، ومن بينها حلبة التزلج (1993)، والأدب النازيّ في الأمريكيتين (1996)، ونجمة بعيدة (1996)، ورجال التحري المتوحشون (1998)، وتعويذة (1999)، وليل في تشيلي (2000)، وأعظم أعماله وأكبرها، 2666 (2004). غني عن القول إن هذا التقسيم حسب النوع الأدبي قاصر، ولا يُعطي أعمال بولانيو حقها، فكثير من قصائده مثلًا تستمد طاقتها من السردية القصصية، وكثير من نثره يستمد طاقته من الشعرية التكثيفية. يبقى أن أذكر أن دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع قد قدمت للمكتبة العربية ترجمتين عظيمتين ودقيقتين لروايتي التعويذة (قام بها أحمد حسان)، وليل في تشيلي (قام بها عبدالسلام باشا)، عامي 2012 و2014 بالترتيب.

السياق التاريخي

قبل الخوض في تفاصيل عالم بولانيو الأدبي المتشعب والمتناسق، عليّ أن أوضح السياق التاريخي الذي خرج منه. منذ نهاية ستينات القرن العشرين، انقسم أدباء أمريكا اللاتينية عمومًا إلى المتأثرين بالطفرة، والرافضين لها. حدثت طفرة أدب أمريكا اللاتينية في الستينات وارتبطت -على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية- بأسماء غابرييل غارسيا ماركيز، وماريو فارغاس يوسا، وكارلوس فوينتس، وخوان رولفو.

قبل الطفرة، كان أدب كل دولة من دول أمريكا اللاتينية محصورًا بنطاقه الجغرافي وسرديته القومية، وكان من النادر ترجمة هذه الأعمال إلى لغة أي من الدول المجاورة3. قامت الطفرة بتغيير ذلك فيما بعد، فقد تأثر مؤلفوها بالملاحم الشعبية التي كتبها إرنست هيمنغواي وويليام فولكنر (الذي لطالما أعرب ماركيز عن امتنانه له)، والسرديات العبثية التي كتبها فرانز كافكا وصمويل بيكيت، ووجد كُتاب الطفرة في هاتين المدرستين -الملحمية والعبثية- أساسًا لكتابة أدب يصوّر الوعي والتجربة القوميين ويتجاوزهما.

ازداد، باضطراد، عدد مقلّدي كتاب الطفرة في السبعينات، وأصبح نتاجهم الأدبي عبارة عن كليشيهات مصنوعة للتصدير، تتمحور حول الأشباح، والأجداد، والأنظمة القمعية، وبائعات الهوى. وكان في ذلك قدر كبير من الانفصال عن الواقع، فعند حلول النصف الثاني من الثمانينات وبداية التسعينات، كان المشهد السياسي والاقتصادي في أمريكا اللاتينية قد تغيّر، فلم تعد آلة القمع تأخذ هيئة نظام الحكم الاستبدادي، وإنما هيئة الاقتصاد الرأسمالي، وورش العمالة الرخيصة، واستُبدلت فرق الموت بعصابات تجارة المخدرات على مدى القارة. أصبح الرعب عابرًا للقوميات وغير مرتبط بها، وأكثر منهجية من أن يوصف بنفس الأدوات القديمة. وصار أدب حقبة الثمانينات، نتيجة لغياب الأفق وانعدام الأمل، أكثر انكفاءً على ذاته وأكثر ابتعادًا عن بيئته. وتمحورت روايات أمثال خوخي فولبه وإغناثيو باديّا وألبرتو فوغيه حول شخصيات ثريّة لا تعيش في أمريكا اللاتينية أو تنتمي إليها، وإنما تعيش في القارة الأوروبية أو الأمريكية الشمالية، وتنتمي إليها.

إن موقع بولانيو من هذا السياق التاريخي صعب التحديد، فرغم أن الكثير من نقاد العالم الناطق باللغة الإنجليزية يعدّونه أهم اسم في أدب ما بعد الطفرة، إلا أنه لم يشاركهم إلا بعض تجاربهم الأدبية ومساءلاتهم الوجودية، كما لم يشارك أدباء الطفرة، الذين عاداهم بالجملة عدا خورخي لويس بورخيس وكورتاثار، إلا التزامهم السياسي.

لطالما خاض أدب أمريكا اللاتينية عالم السياسة، وكان الكُتّاب بالجملة إما تقدميين أو رجعيين بشكل واضح وفعّال. وفي حين أن ما وصل العالم الناطق باللغة الإنجليزية منهم لم يتعد منتجاتهم الأدبية، إلا أنهم كانوا شخصياتٍ أكثر تعقيدًا ومُشكلاتيّة في بلادهم. خُذوا بابلو نيرودا، على سبيل المثال، الذي لطالما أعلن ولاءه لستالين ورثاه في قصيدة عند وفاته، أو ماركيز، الذي كان مُساندًا علنيًا لفيديل كاسترو، أو أوكتافيو باث، الذي كان معاديًا للمشروع الاشتراكيّ.

ليس من الغريب إذًا أن بولانيو، الابن الزمنيّ لنهاية الطفرة وبداية المرحلة التالية لها، كان تروتسكيًا أراد المشاركة ببناء موطنه الأصليّ بعدما فاز الجنرال أليندي بالانتخابات الديمقراطية، وأنه بقي اشتراكيًا حتى وفاته. ليس من الغريب أيضًا أن يكون أبناء جيله، الذين أسسّ بعضهم حركة الواقعية التحتية معه، ملتزمين سياسيًا. لكن من الأهمية بمكان إدراك الفرق بين التزام جيل الطفرة السياسيّ، والتزام الجيل اللاحق -جيل بولانيو- السياسيّ، ففي حين عاصر أدباء جيل الطفرة بدايات المشاريع الثوريّة، وكلّهم أمل بحلول مستقبل مشرق، عاصرَ جيل بولانيو في سنوات مراهقته الكوارث التي حلّت بهذه المشاريع الثورية في ما بعد. فالمشروع الكوبيّ تحول إلى دولة معسكرات اعتقال، والحزب الثوري المؤسساتي تسبب بمذبحة طُلاب تلالتيلولكو في مدينة مكسيكو عام 1968، وغرقت التيارات اليسارية المختلفة بصراعات دموية حصدت أرواح الكثيرين، من بينهم الشاعر السلفادوريّ روكيه دالتون، الذي كان صديقاً لبولانيو، والذي قتله، أثناء نومه، أحد أعضاء جيش الثورة الشعبيّ الذي كان ينتمي إليه. مع ذلك، حافظ أبناء جيل بولانيو على إيمانهم بجدوى العمل السياسي، وانتمت أغلبيتهم الساحقة إلى هذا التيار اليساريّ أو ذاك.

لكن الانتماء السياسيّ لدى أبناء هذا الجيل لم يكن انتماء عسكريًا فحسب، بل كان انتماء مبدئيًا عكف على تحويل العجز السياسيّ إلى ممارسة فنيّة. انظروا، على سبيل المثال، إلى طريقة وصف بولانيو لليوتوبيا الشيوعية في قصيدته «إرنستو كاردينال وأنا»:

«كنت أمشي متعرقًا، وشعري ملتصق

بوجهي

عندما رأيت إرنستو كاردينال يقترب

من الجهة المقابلة،

وللترحيب به، قلتُ:

أبانا في مملكة السماء،

التي هي الشيوعية،

أهناكَ مكان للمثليين؟

فقال: نعم،

وللمُستَمنين الجاحدين؟

وعبيد الجنس؟

وحمقى الجنس؟

للسادومازوشيين، والعاهرين، والمهووسين

بالحُقَن الشرجية،

ومن لم يعودوا قادرين على التحمّل.

من حقًا لم يعودوا قادرين على التحمّل؟

وقال كاردينال، نعم»4.

هذه الشيوعية إذًا هي البديل عن مشاريع القارة اليسارية، وهذا الحلمُ الضامّ لكل المُهمشين والمقموعين والحمقى، هو أكثر أهمية من أيّ تمظهر سياسيّ أو عسكريّ مغاير له.

انظروا كيف يتحدث بولانيو عن شبابه في قصيدة «الكلاب الرومانسيين»:

«في ذلك الوقت، بلغتُ العشرين من عمري،

وكنتُ مجنونًا.

فقد خسرتُ بلدًا

لكنني ربحتُ حلمًا»5.

من الطبيعي إذًا أن يستحيل الفن ساحة حرب تدور رحاها بين السُلطة الثقافية وكل من يحاول مقاومة هيمنتها، وأن يصبح «الأدب آلة مُدرّعة. لا تكترث بالكُتّاب. بل لا تُلاحظ وجودهم أحيانًا. فعدو الأدب شيء آخر، شيء أكبر وأكثر قوة، سيقوم بهزيمته في نهاية الأمر. لكن تلك قصة أخرى»6.

هذه المعتقدات هي جوهر حركة «الواقعية التحتية» التي أسسها بولانيو برفقة ماريو سانتياغو، وأساس نتاجه الأدبي اللاحق. تألّفت الحركة من مجموعة من الصعاليك والمتسولين والشحاذين وأصحاب الطموح الأدبي، الذين انشغلوا بكتابة أدب مغاير تمامًا للأدب المعاصر وقتذاك، قالبًا ومضمونًا. وكانوا يذهبون إلى الجلسات الشعرية ليقاطعوا الشعراء من أعدائهم بقراءة قصائدهم هم بصوتٍ عال. ويقال إن أحدهم رمى كأس نبيذ في وجه أوكتافيو باث ذات مرة.7 وإن كان لأعدائهم من الشعراء والأدباء شيء مشترك، فقد كان مساندتهم لحكومة الحزب الثوري المؤسساتي، التي يُقال إنها كانت تُكافئ مسانديها من الأدباء والمفكرين بالصيت والمال. ولم يغيّر بولانيو من مواقفه هذه يومًا بل ادعى أكثر من مرة أن حركة الواقعية السحرية «عفنة»، وأن إيزابيل أليندي «ليست كاتبة وإنما آلة كاتبة»، وأن باولو كويلو «كساحرٍ مشعوذ في المسلسلات الرخيصة». وقالت مترجمته ناتاشا ويمر عنه، «لقد كان رفض امتهان الشعر بالنسبة لبولانيو ورفاقه أسلوبهم في أخذ الشعر على محمل الجد – والعكس بالعكس. وكان بولانيو يحب أن يقول إن المؤلف لو عاش ما يكتبه روحًا لشعر قارئه بضرورة عيشه أيضًا»8.

إن تأريخ حياة هذا الجيل، الذي عاش بولانيو شبابه بصحبته، كان مشروعه الكبير. لا عجب إذًا في أن كل أعماله الأدبية تشترك بنفس الثيمات، أو أن الكثير من شخصياته الأدبية مُشتركة، أو أنها تظهر مرة ثم تختفي، لتعاود الظهور في عملٍ آخر تمامًا.

خُذوا على سبيل المثال شخصيتي أرتورو بيلانو (وهذا اسم روبرتو بولانيو المُستعار) وعوليس ليما (اسم ماريو سانتياغو في أعمال بولانيو) اللتَين تظهران في رواية رجال التحري المتوحشون، وتعويذة، بالإضافة إلى العديد من القصائد والقصص القصيرة والروايات الأخرى. أو خذوا شخصية أوكسيليو لاكوتور، التي تظهر لوقتٍ قصير في رواية رجال التحرّي المتوحشون، لتعاود الظهور في رواية تعويذة، المُخصصة بالكامل لها. أو شخصيتي روزا أمالفيتانو وأوسكار أمالفيتانو اللتين تظهران في 2666، ثم تعاودان الظهور في مآسي الشرطي الحقيقي (2011)، أو شخصية راميريث هوفمان اليمينية المتطرفة، وموضوعَ باب «راميريث هوفمان سيء السمعة» في موسوعة الأدب النازيّ في الأمريكيتين الخيالية، والتي تعاود الظهور كشخصية رئيسية وباسم ألبرتو لويث-تاغل في نجمة بعيدة. القائمة تطول، وعالم بولانيو معقد ومليء بالشخصيات المتشابكة والمتبادلة، الأمرُ الذي يجعل قراءة مجموع أعماله كمشروع أدبيّ موحّد خيارًا صائبًا وضروريًا. وليس من الغريب أن أكثر هذه الشخصيات مستوحى من حياة بولانيو نفسه.

حياة هؤلاء الأدباء، هؤلاء الكلاب الرومانسيين، جيل بولانيو من المثاليين الذين أرادوا تغيير وجه الأدب كما عرفوه، هو موضوع رواية رجال التحرّي المتوحشون، التي صدرت لأول مرة باللغة العربية هذا العام، وترجمها رفعت عطفه.

رجال التحرّي المتوحشون

تمثل رواية رجال التحرّي المتوحشون ضلعًا من مثلث الأعمال الأدبية التي يُمكن اعتبارها قلب مشروع بولانيو الأدبي. يتألف هذا المثلث من رجال التحرّي المتوحشون، والأدب النازيّ في الأمريكيتين، و2666، بهذا الترتيب التاريخي. تُعدّ هذه الروايات قلب مشروع بولانيو الأدبي لأنها مصدرُ أغلب الشخصيات المحورية في رواياته الأخرى، ولأنها أكبر أعماله وأكثرها اكتمالًا. وسأكتفي في هذا المقال بالحديث عن رجال التحرّي المتوحشون.

تؤرخ رواية رجال التحرّي المتوحشون، بأصوات متعددة، قيام مجموعة من الشعراء الشباب الصعاليك، بقيادة أرتورو بيلانو وعوليس ليما، بتأسيس حركة شعرية تدعى الواقعية الأحشائية، ثم رحيل حفنة منهم للبحث عن الشاعرة الأسطورية التي ألهمتهم إنشاء الحركة، واسمها ثِساريا تيناخيرو. وبأسلوب يليق بعملٍ يهدف إلى تأريخ أصوات جيل بأكمله، تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام مرتبة تاريخيًا:

القسم الأول، واسمه مكسيكيون ضائعون في المكسيك، يُغطي عام 1975، ويسرده خوان غارثيا ماديرو، الشاعر الذي يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، بأسلوب الخواطر، فيحكي عن انضمامه إلى الحركة التي يسرق أعضاؤها الكتب من المكتبات، ويُموّلون مجلتهم، التي تحمل عنوان لي هارفي أوزوالد (قاتل الرئيس الأمريكي السابق، جون ف. كينيدي)، عبر بيع الحشيش، لا لشيء إلا لأنه «يجب تغيير الشعر المكسيكي»، فقد «كان وضعنا غير مستديم بين إمبراطورية أوكتافيو باث وإمبراطورية بابلو نيرودا. أي بين المطرقة والسندان»9.

القسم الثاني، الذي يحمل عنوان رجال التحري المتوحشون، يقفز بعد تقديم شتى شخصيات هذا الجيل إلى قلب سنوات منفى مؤسسَي حركة الواقعية الأحشائية، أرتورو بيلانو وعوليس ليما، العابر للقارات، والذي يمتد من عام 1976 حتى عام 1996. هذا القسم هو الأطول، وهو مليء بالمشاجرات والنقاشات الأدبية («هناك لحظات لقراءة الشعر ولحظات للملاكمة»10) وزيارات للسجون، ولقاءات مع شخصيات حقيقية من بينها أوكتافيو باث نفسه، عدو الحركة اللدود، ويسرده أكثر من ثلاثين صوتًا فريدًا. تتجلى عبقرية بولانيو الأدبية في هذا القسم بالذات، فقد جعل كل واحد من هذه الأصوات متميزًا عن الآخر. هدفُ هذا القسم هو التأريخ لجيلٍ انمحى من الذاكرة، تمامًا كمدرسة الواقعية الأحشائية، التي كانت كلها «رسالة حبّ، التبخترَ المعتوه لطائرٍ أحمق تحت ضوء القمر، شيءٌ دهمائي بما يكفي ولا قيمة له».11

أما في القسم الثالث، الذي يحمل عنوان صحارى سونورا، فنقفز رجوعًا إلى عام 1976، عندما يهرب غارثيا ماديرو وبائعة الهوى لوبِّ بمساعدة عوليس ليما وأرتورو بيلانو، من قوّاد متوحش ورجل شرطة فاسد، للبحث عن ثِساريا تيناخيرو في صحارى سونورا.

إن رجال التحرّي المتوحشون هي ببساطة أكثر روايات بولانيو انفتاحًا وحيوية وشبابًا. لكنها تترك الكثير من الأسئلة بلا أجوبة واضحة، وهذه تقنية بولانيوية حتى النخاع. مع ذلك، يبقى علينا أن نسأل: ما الذي حثّ كل هذه الشخصيات على محاولة تغيير أدب أمريكا اللاتينية؟ وما الذي حدث لثِساريا تيناخيرو؟

ربما حاول أبناء هذا الجيل تغيير أدب أمريكا اللاتينية لأن الأدب («نتاجُ مطرٍ غريبٍ من الدم والعرق والمني والدموع»12)، صراعٌ لا نهاية له ولا غاية منه، وربما لأن الرغبة بخوض هذه الصراع أكبر من القدرة الفعلية عليه. لقد عبّر بولانيو عن ذلك في أحد أشهر مقالاته عندما قال: «الكُتب فانية، واللقاءات الجنسية فانية، لكن الرغبة بالقراءة وممارسة الجنس أزلية؛ تتجاوز موتنا ومخاوفنا وآمالنا بالسلام»13. الأدبُ إذًا هو كل «الجهود والأحلام» التي اختلطت «في فشلٍ واحد، وإن هذا الفشل اسمه الفرح»14. إن نتاج بولانيو الأدبيّ مليء بالأحاديث عن الأدب. الأدب كما قال على لسان غارثيا ماديرو «ليس بريئًا أعرفُ هذا منذ كنتُ في الخامسة عشرة»15. لكنه أيضًا مستقبلٌ ضارٍ يستحق العناء من أجله. «الشعر فقط – ولنكن واضحين، بعضٌ منه فقط – مفيد لك، الشعر فقط ليس خراء»16.

إن انتهاء رواية رجال التحرّي المتوحشون في صحارى سونورا ليس صدفة بالمرة، فهذه الصحارى ستكون فيما بعدُ قلب رواية 2666 الأسود، حيث قُتلت فيها – وبالقرب منها، في مقاطعة خوارِث – منذ نهاية الثمانينات أكثر من مئتي امرأة في ظروف غامضة. في هذه الصحارى اختفت ثِساريا تيناخيرو، ويمكن قراءة اختفائها على أنه مقدمة للبحث المحموم عن معنى الشؤم الذي يلفّ كل تلك المنطقة، والذي يُشكل دعامة 2666.

ملاحظات على ترجمة رجال التحرّي المتوحشون

عندما قرأتُ، لأول مرة، ترجمة رفعت عطفه التي صدرت هذا العام عن منشورات الجمل، سُررت كثيرًا واستطعت أن أغض النظر عن ركاكة العبارة هنا، أو عدم دقتها هناك. لكنني عدت فقرّرت أن أقسو على الترجمة عندما علمت أن منشورات الجمل اشترت حقوق كل أعمال بولانيو، وأن القائم على تلك الترجمة سيكون رفعت عطفه وبالتالي ليس من المقبول التساهل في هذه الكارثة.

لقد استخدمتُ للتمحيص والمقارنة ترجمة ناتاشا ويمر الإنكليزية، فويمر هي مُترجمة بولانيو المُعتمدة في العالم الناطق بالإنجليزية وقد حازت ترجماتها على عدة جوائز عالمية جعلت منها اسمًا ساطعًا في عالم الترجمة. بالإضافة إلى ذلك قارنت ترجمة ويمر بالنص الإسباني الأصليّ لغرض التأكّد. فرغم أنني لا أُتقن الإسبانية، إلا أن شبهها بالإنجليزية أعانني على استنتاج تراكيب الجُمل النحوية، ومقارنة الكلمات المفتاحية في النص الأصلي بمقابلها المُترجَم. بعد قيامي بكل ذلك، قررتُ أن أقترح بعض الترجمات البديلة للعبارات التي اخترتها كأمثلة على عيوب الترجمة العربية. لنقُل إن هذه محاولة في خطّ ترجمة أخرى لنفس النص.

لنبدأ بهذه الفقرة على سبيل المثال:

«في بحر الشعر الهائل كان يميّز عدة تيارات: مخنثون، ومستلوطون، دعسوقات، مجنونات، لوطيون، فراشات ومستحورون وخِناث. ومع ذلك فالتياران الأكبران هما تيار المخنثين واللوطيين، والت ويتمان، مثلًا كان شاعراً مخنّثًا بابلو نيرودا كان شاعرًا مستلوطًا، وليما بلاك كان مخنثًا دون أدنى شك، وأكتافيو باث كان مستلوطًا، بورخِس كان خُنثية، أي أنه فجأة يمكن أن يكون مخنثًا وفجأة يمكن أن يصير لا جنسيًا، روبن داريّو كانت مجنونة بل وملكة ومثالًا للمجنونات»17.

وقارنوها بترجمة ويمر الإنجليزية:

«Within the vast ocean of poetry he identified various currents: faggots, queers, sissies, freaks, butches, fairies, nymphs, and philenes. But the two major currents were faggots and queers. Walt Whitman, for example, was a faggot poet. Pablo Neruda, a queer. William Blake was definitely a faggot. Octavio Paz was a queer. Borges was a philene, or in other words he might be a faggot one minute and simply asexual the next. Rubén Darío was a freak, in fact, the queen freak, the prototypical freak»18.

في الترجمة العربية عدة تضاربات، فـ«queer» (والتي تعني «مُغايرين») مرة تُترجم على أنها «لوطيين» ومرة «مستلوطين» (ومن هم «المستلوطون»؟). وويليام بليك، الشاعر البريطاني العظيم، ليس ليما بلاك. و«philene» لا تعني «خُنثية»، وإنما هي كلمة لاتينية تعني «مُحبي البشرية» (أو غير المُفرقين بين أصحاب الميول الجنسية)، و«butches» لا تعني «لوطيون»، وإنما «سُحاقيات» (لتمييزها عن «المثليات»، فهي تعني المُنتميات إلى صورة المثليات التقليدية)، وهكذا دواليك. ورغم أنه من المفهوم أن ترجمة كلمات كهذه إلى اللغة العربية أمرٌ صعب، إلا أن من يعجز عن تحرّي الدقة والحفاظ على المعنى عليه ألّا يقترب من نصوص كاتب مثل بولانيو.

كل هذا لا يتضح إلا عند القراءة المتأنية لترجمة رفعت عطفه لرواية رجال التحرّي المتوحشون. فرغم الأخطاء الجسيمة في الترجمة، إلا أن صوت بولانيو أكثر تميّزًا من أن يغرق تمامًا فيها.

إلا أن أعمال بولانيو تستحق أكثر من ذلك بكثير، فهي بعضُ أهمّ وأفضل وأثرى الأعمال في الأدب العالمي المعاصر. المُضحك والمُبكي في الأمر هو أن بولانيو نفسه قد تحدّث عن مثل هذه الحالة بالضبط في مقال له بعنوان «الترجمة سندان»:

«كيف تميزون العمل الفنّي؟ كيف تقومون بفصله، ولو للحظة، عن الجهاز النقدي الملتصق به، وعن مفسريه، ومستصغريه، والسارقين منه بلا كلل – قدره الوحيد المحتوم؟ الأمر سهل. ترجموه. وليكن المترجم أبعد ما يكون عن البراعة. انزعوا صفحات عشوائية منه. ارموه في العليّة. فلو أتى بعد كل ذلك طفلٌ وقرأه، وبعدما قرأه تملّكه وصار مخلصًا له (أو غير مخلصٍ له)، وأعاد ترجمته، ورافقه في رحلته نحو الحافة، وأثرى كلّ منهما الآخر، وأضاف الطفل بعض القيمة الإضافية إلى قيمته الأصلية، عندها نعرفُ أن ما أمامنا هو جهاز أو كتاب قادر على التواصل مع كل البشر؛ لا حقلًا محروثًا وإنما جبلًا، لا صورةُ الغابة الظلماء وإنما الغابة الظلماء نفسها، لا سرب حمامات وإنما طائر عندليب»19.

«رجال التحرّي المتوحشون» هي هذا الجبل، وتلك الغابة الظلماء، وطائر العندليب ذاك. وهي تستحق ترجمة أفضل من هذه بكثير.

1. الترجمات كلها (عدا تلك التي أشير إليها) من عملي.

2. Bolaño, Roberto, The Savage Detectives (trans. by Natasha Wimmer), Picador, 2007; ix

3. لقد استفدت كثيرًا من مقدمة ناتاشا ويمر للنسخة الإنكليزية من رجال التحري المتوحشون عند كتابة هذا الجزء من المقال، لذا، لمعلومات إضافية، راجع: Bolaño, Roberto, The Savage Detectives (trans. by Natasha Wimmer), Picador, 2007

4. Bolaño, Roberto, «Ernesto Cardenal and I», Romantic Dogs (trans. by Laura Healy), New Directions, 2008; 13

5. Bolaño, Roberto, «The Romantic Dogs», Romantic Dogs (trans. by Laura Healy), New Directions, 2008; 3

6. Bolaño, Roberto, «The Vagaries Of The Literature Of Doom», Between Parentheses (trans. by Natasha Wimmer), New Directions, 2011; 26

7. «The Great Bolaño», a review by Francisco Goldman, The New York Review of Books (July 2007)

8. Bolaño, Roberto, The Savage Detectives (trans. by Natasha Wimmer), Picador, 2007; xiv

9. بولانيو، روبرتو، رجال التحرّي المتوحشون (ترجمة رفعت عطفه)، منشورات الجمل، 2017؛ 35

10. المصدر السابق، 16

11. المصدر السابق، 200

12. Bolaño, Roberto, «On Literature, The National Literature Prize, And The Rare Consolations Of The Writing Life», Between Parentheses (trans. by Natasha Wimmer), New Directions, 2011; 113

13. Bolaño, Roberto, «Literature + Illness = Illness», The Insufferable Gaucho (trans. by Chris Andrews), New Directions, 2010; 133

14. بولانيو، روبرتو، رجال التحرّي المتوحشون (ترجمة رفعت عطفه)، منشورات الجمل، 2017؛ 485

15. المصدر السابق، 204

16. Bolaño, Roberto, 2666 (trans. by Natasha Wimmer), Picador, 2009; 226

17. بولانيو، روبرتو، رجال التحرّي المتوحشون (ترجمة رفعت عطفه)، منشورات الجمل، 2017؛ 112

18. Bolaño, Roberto, The Savage Detectives (trans. by Natasha Wimmer), Picador, 2007

قارنوها بالأصل الإسباني أيضًا:

«Dentro del inmenso océano de la poesía distinguía varias corrientes: maricones, maricas, mariquitas, locas, bujarrones, mariposas, ninfos y filenos. Las dos corrientes mayores, sin embargo, eran la de los maricones y la de los maricas. Walt Whitman, por ejemplo, era un poeta maricón. Pablo Neruda, un poeta marica. William Blake era maricón, sin asomo de duda, y Octavio Paz marica. Borges era fileno, es decir de improviso podía ser maricón y de improviso simplemente asexual. Rubén Darío era una loca, de hecho la reina y el paradigma de las locas.»

Bolaño, Roberto, Los Detectives Salvajes, Editorial Anagrama, S.A., 1998; 85

19. Bolaño, Roberto, «Translation Is An Anvil», Between Parentheses (trans. by Natasha Wimmer), New Directions, 2011; 241

حبر

————————–

أنا سرير صموت

ترجمة مجاهد مصطفى

أنا سرير صموت

سرير الواحدة صباحاً

سرير الرابعة صباحاً

سرير بعينين مفتوحتين دائماً

وأنتظر نهاية عالمي الشخصي.

أنا السرير الأسود لماليفيتش

أنا السرير المريض

الذي يتزحلق داخل الغروب

السرير الأعرج للأطفال

بعينين مفتوحتين دائماً.

أنا سرير يحلم بالبيانو

سرير مرتبط بِشِعْرِ الرئتين

سرير شَرِهٌ يلتهم الستائر والسجادات

وأنتظر نهاية عالمي الشخصي.

————————–

خلال ألف سنة لن يبقى شيء

ترجمة أحمد يماني

خلال ألف سنة لن يبقى شيء

مما كُتب في هذا القرن.

سوف يقرأون جملا منفردة،

أثر نساء ضائعات،

شذرات أطفال عاجزين عن الحركة،

عيناك البطيئتان والخضراوان

ببساطة لن تكونا موجودتين.

سيكون شيئا أشبه بالأنطولوجيا اليونانية،

وأكثر بُعدا منها حتى،

كشاطئ في الشتاء

من أجل دهشة أخرى ولا مبالاة أخرى.

—————————–

بين الذباب

ترجمة أحمد يماني

أيها الشعراء الطرواديون

لم يعد هناك شيء

مما كان يمكن أن يكون لكم

موجودا

لا معابد ولا حدائق

ولا شعر

أنتم أحرار

أيها الشعراء الطرواديون الرائعون.

———————-

ترجمة باسم المرعبي

منذ زمن لم يرسل لك أحد رسالة(*)

منذ زمن لم يرسل لك أحد رسالة    عبر الفنار

في الغروب    الشفاه مشقّقة من الريح

في الشرق يقومون بثورة     قطة

تنام في حضنك

أحيانا تكون سعيداً بشكل هائل

(* تمّ توزيع الأسطر والكلمات في نسخة الترجمة، وفقاً للنص الأصل).

باتريسيا بونس

الذكرى الوحيدة التي أحملها معي من تشيلي

تخصّ فتاة في الثانية عشرة

كانت ترقص وحدها في طريق مفروش بالحصى

وجدت نفسي في كهف

بارتفاع متر وبعرض عشرين متراً

كهف من أغصان ودغل

عند حافة الطريق.

أزاحت هي الأغصان وابتسمت لي.

—————————-

ترجمة باسم المرعبي

قصيدتان إلى لاوتارو بولانيو

إقرأ الشعراء القدامى

اقرأ الشعراء القدامى، يا ولدي،

سوف لن تندم على ذلك

بين شِباك العنكبوت والخشب المتعفن

في السفن التي اصطدمت بقاع المطْهر

هناك يمكثون

ويغنون!

مضحكون وبطوليون!

الشعراء القدامى

يحيون مع نذورهم

بدوٌ منتشرون

ضحّوا للاشيء

(لكنهم لا يعيشون في اللاشيء

بل في الأحلام)

إقرأ الشعراء القدامى

واعتنِ بكتبهم.

هذه واحدة من النصائح القليلة

التي يمكن لأبيك أن يسديها إليك

————————-

ترجمة باسم المرعبي

مكتبة

الكتب التي اشتريتها

في المطر غير المعتاد

وفي الحَر

ذلك العام

1992

والتي كنت قد قرأتها

أو التي لن أقرأها، أبداً

الكتب التي لابني أن يقرأها

هي مكتبة لاوتارو

التي سوف تتحمل

مطراً آخر

وأيامَ حرٍ شديد، أُخرى

ـ لذا، تكون هذه المناشدة:

أيتها الكتب الصغيرة، العزيزة، تحمّلي

جوبي الأيام كفرسان العصور الوسطى

واعتني بابني

لقادم السنوات

—————————

قذراً.. بأسمال بالية

على قلبي. ممزقا، لكن به حياة،

قذرا بأسمال بالية ومفعما بالحب.

في طريق الكلاب، حيث لا يرغب أحد في الذهاب إلى هناك.

درب لا يسلكه سوى الشعراء

حينما لا يعود أمامهم شيء آخر ليفعلوه.

لكن أنا كان لا يزال لدي الكثير لأنجزه!

ومع ذلك ها أنا هنالك: أقتل نفسي

بالنمل الأحمر

وبالنمل الأسود أيضا، أطوف بالضياع

الخاوية: الفزع يتصاعد

حتى يلامس النجوم

مواطن من تشيلي تربى في المكسيك بوسعه تحمل أي شيء،

هكذا كنت أعتقد، لكن هذا لم يكن حقيقيا.

ينفطر قلبي بكاءً كل ليلة. يقولون، إن كينونة الانسان

شفاه محمومة اكتشفت لاحقا أنها شفتاي،

كينونة الانسان، كينونة الانسان، النشوة

المتناثرة على ضفاف تلك الضِياع المهجورة.

ظهر حكماء ورجال دين، عرافون

وقطاع طرق

مثل حقائق مائية وسط حقائق معدنية.

وحدهما الحمى والشعر يسببان الهلاوس.

وحدهما العشق والذكريات.

وليس هذه الدروب أو هذه الوديان.

وليس هذه المتاهات.

إلى أن عثرت روحي في النهاية على قلبي.

كان عليلا، هذا حقيقي، ولكن فيه حياة.

*ترجمة طه زيادة

——————————-

16 قصيدة

ترجمة: أنس طريف الحوراني

المصدر: Bolaño, Roberto. Tres. New York: New Directions; Bilingual Edition. 2011. Trans. Laura Healy.*

31. حلمت أن الأرض قد انتهى أمرها. و أن البشريّ

الوحيد الذي بقي ليتأمل النهاية كان فرانز

كافكا. في السماء، كان العمالقة يتقاتلون

بلا هوادة. و من كرسي حديديّ في السنترال بارك،

كان كافكا يشاهد العالم يحترق.

 ———————-

32. حلمت أني أحلم و أني رجعت إلى المنزل

متأخراً. في السرير وجدت ماريو دي سا كارنيرو

نائماً مع حبي الأول. و عندما رفعت عنهما الغطاء

اكتشفت أنهما ميتان و، عاضاً شفتيّ حتى

أدمتا، رجعت إلى الشارع.

———————-

33. حلمت أن أناكريون كان يبني قلعته

أعلى هضبة قاحلة ليهدمها فيما بعد.

———————-

34. حلمت أني كنت محققاً أمريكياً لاتينياً طاعناً

في السن. كنت أعيش في نيويورك، و كان مارك توين هو

الذي استأجرني لأنقذ حياة شخص دون

وجه. قلت له، “ستكون قضية بالغة الصعوبة، سيد

توين.”

 ———————-

35. حلمت أني كنت أقع في حب أليس شِلدون.

لم تكن ترغب بي. لذا حاولت أن أتسبب بمقتلي

على ثلاث قارات. و مرت الأعوام. و أخيراً، عندما

كنت قد غدوت عجوزاً، ظهرت لي على الطرف الآخر

من منتزه في نيويورك و أخبرتني بإشارات

(تشبه تلك التي يستخدمونها على حاملات الطائرات ليساعدوا

الطيارين على الهبوط) أنها لطالما أحبتني.

———————-

36. حلمت أني كنت أضاجع آنايس نين على

لوح حجر بازلتيّ هائل الحجم.

———————-

37. حلمت أني كنت أنيك كارسون مكّلرز في

غرفة مضاءة بالكاد ربيعَ عام 1981. و كنّا غارقَين

في سعادة لاعقلانية.

———————-

38. حلمت أني قد رجعت إلى مدرستي الثانوية القديمة

و أن ألفونسه دوديه كان معلمي الفرنسية.

و لوهلة جعلنا شيء خفي ندرك أننا كنا

نحلم. ظل دوديه ينظر خارج النافذة

و يدخن غليون تارتاران.

———————-

39. حلمت أني ظللت أغط في النوم بينما زملائي

يحاولون تحرير روبير ديزنوز من معسكر

اعتقال تيريزان. عندما استيقظت كان صوت

يأمرني بالتحرك. “أسرِع، بولانيو، أسرِع،

ليس هناك وقت لنضيعه.” و عندما وصلت إلى هناك، لم

أجد إلا تحرياً عجوزاً ينبش في

حطام الهجوم الذي ينبعث منه الدخان.

———————-

40. حلمت أن عاصفة من أشباح الأرقام كانت

الشيء الوحيد الذي تبقى من البشرية بعد ثلاثة

مليارات عام من زوال الأرض من الوجود.

———————-

41. حلمت أني أحلم و أني وجدت في أنفاق

الحلمِ حلمَ روكيه دالتون: حلمُ

الشجعان الذين ماتوا فداءَ كميرٍ لعين.

 ———————-

42. حلمت أني كنت في الثامنة عشرة من عمري و أني قد رأيت صديقي

العزيز، الذي كان أيضاً في الثامنة عشرة من عمره، يمارس الحب مع والت

ويتمان. كانا يمارسان الحب على كرسي هزاز، و يتأملان

غروب شمس سيفيتافيكيا العاصف.

———————-

43. حلمت أني كنت سجيناً و أن بويثيوس كان

رفيق سجني. “انظر، بولانيو،” قال، ماداً

يده و قلمه في الظلال:

“إنها لا تهتز! إنها لا

تهتز!” (ثم أضاف بعد قليل

بصوتٍ هادئ: “لكنها ستهتز حال

رؤيتها ذاك اللقيط ثيودوريك.”)

———————-

44. حلمت أني كنت أترجم الماركيز دو ساد

بضربات فأس. كنت مجنوناً يسكن

الغابات.

———————-

45. حلمت أن باسكال كان يتحدث عن الخوف

بكلمات كريستالية الوضوح في حانة في سيفيتافيكيا:

قال، المعجزات لا تهدي، لكنها تدين.

———————-

46. حلمت أني كنت محققاً أمريكياً لاتينياً طاعناً في السن

و قد استأجرتني مؤسسة غامضة لأجد

شهادات وفيات السبِك** الطائرين. سافرت حول

العالم، ماراً بمستشفيات، و ساحات حرب، و بارات

بُلكيه، و مدارس مهجورة.

* نشرت هذه المختارات في الموقع الإلكتروني التالي أيضاً: http://bombsite.com/issues/999/articles/4864

** Spic هي إهانة إثنية تستخدم للإشارة إلى الإسبان أو المكسيكيين الذين لا يستطيعون التحدث بالإنجليزية، يرجع أصلها إلى العبارة الإسبانية: “no spika de Ingles”، التي تعني “لا أستطيع التحدث بالإنجليزية.” ]المترجم[.

———————————

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى