عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 13 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
الأحداث التي جرت في الساحل السوري
———————————–
أحداث الساحل السوري… الخلفيات والتداعيات وردّات الفعل الدولية
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
13 مارس 2025
شهدت مناطق الساحل السوري أحداث عنف طائفي دامية خلال الفترة 6 – 10 مارس/ آذار 2025، في أعقاب مواجهات عسكرية بين فلول من نظام الرئيس السابق بشّار الأسد وقوات الأمن التابعة للإدارة السورية الجديدة، أسفرت عن سقوط مئات القتلى من المدنيين، وقد يكون العدد تجاوز الألف، والعشرات في صفوف قوات الأمن العام، وكذلك من المتمرّدين المحسوبين على النظام السابق. تعد هذه الأحداث نقطة تحوّل، ويقرر اتجاهها سلوكُ القوى السياسية الفاعلة في سورية، ولا سيما الإدارة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام.
خلفيات أحداث الساحل وتداعياتها
تصاعدت في الأسابيع الأخيرة الهجمات التي تشنها مجموعات من فلول النظام السابق ضد قوات الأمن العام التي تتبع الإدارة السورية الجديدة في مناطق الساحل السوري. وكانت هذه الإدارة، التي نجحت عشية سقوط النظام في تجنّب حصول تجاوزات طائفية على نطاق واسع، قد دعت فلول النظام إلى تسوية أوضاعهم وتسليم سلاحهم مباشرة بعد سقوطه. وقد استجاب عشرات الآلاف من منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية التي جرى حلها فعليًّا لحظة سقوط النظام، ورسميًا في ختام “مؤتمر النصر” الذي عقدته الفصائل المسلحة في 29 يناير/ كانون الثاني 2025، واختارت خلاله أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا للبلاد. وقد مُنح هؤلاء بطاقات مؤقتة تسمح لهم بحرية التنقل، من دون إعفائهم من الملاحقة القانونية في حال ارتكابهم جرائم. وشملت التسويات أيضاً عدداً من كبار ضباط النظام ومسؤوليه، يعتقد أن بعضهم أبرم اتفاقات تسوية لتجنب القتال أثناء عملية ردع العدوان، مثل اللواء طلال مخلوف، قائد اللواء 105 في الحرس الجمهوري. وبحسب محافظ اللاذقية، بلغ عدد الذين تقدّموا بطلبات لتسوية أوضاعهم أكثر من 85 ألف عنصر، في حين رفض آلاف آخرون التسوية أو تسليم سلاحهم، ولجؤوا إلى الجبال عند دخول إدارة العمليات العسكرية مناطق الساحل السوري. ويُعتقد أن بعضهم مطلوب في جرائم كبرى ارتكبوها خلال الصراع الذي امتد أكثر من 13 عاماً، ومن ثمّ فهم لا يملكون خياراً سوى القتال أو مواجهة العدالة.
ظلت خطوة الحل الشامل وغير الانتقائي للجيش، وخطوات التخلص من عشرات آلاف الموظفين في مؤسسات الدولة إجراءات خلافية، ولا سيما أن الإدارة الجديدة ليست قادرة ولا لديها أو لدى الاقتصاد السوري حاليًا بدائل لاحتواء الضرر الناجم عنها، كما عبرت عن موقف مغترب عن مؤسسات الدولة عمومًا، لا النظام فحسب.
خلال الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام، كانت هجمات الفلول ضد السلطات الجديدة تهدف إلى الضغط من أجل التوصّل إلى تسوية تفضي إلى إصدار عفو عام، لكن الأمور أخذت منحىً أكثر حدّةً وتنظيماً في الأسبوع الأخير، عندما شنّت هذه الفلول عملية عسكرية منسقة شارك فيها آلاف العناصر تحت قيادة ما سمّي بـ “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، وهو إطار عسكري أعلن عن تأسيسه العميد غياث دلة، الضابط السابق في جيش النظام، وقائد ما يسمى “ميليشيا الغيث” العاملة في صفوف الفرقة الرابعة، التي كان يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام السابق. وردّت قوات الإدارة الجديدة بهجوم لم يستثن المدنيين. شمل هجوم الفلول مدن الساحل السوري الكبرى جميعًا (اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس) في محاولة للسيطرة على مراكزها، كما جرت معارك طاحنة في ريف تلك المدن، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى في صفوف قوات الأمن العام، معظمهم سقطوا في كمائن محكمة. وبسبب شراسة الهجمات وقلة عدد عناصرها اضطرّت الحكومة إلى الاستعانة بفصائل معارضة غير منضبطة لصدّ الهجوم، ارتكب بعضها مجازر طائفية في المناطق والقرى العلوية التي دخلتها. وشارك في ذلك أيضاً بعض الوحدات من قوات الأمن العام في سلوك انتقامي واضح. وأظهرت الصور مشاهد مروعة لقتل عائلات بأكملها، هذا عدا الإذلال على أساس طائفي. وقد بين هذا السلوك وجود فجوة كبيرة بين الخطاب الإعلامي للقيادة في دمشق وثقافة عناصر هيئة تحرير الشام؛ فهؤلاء لم يتحولوا إلى جنود مسؤولين في جيش وطني بمجرد اتخاذ قرار بتسميتهم جيشًا أو قوات الأمن العام. وكان كثير من المدنيين من محافظات إدلب وحماة وغيرها توجّهوا إلى المناطق الساحلية لمساعدة الحكومة في صد الهجوم في عملية تحشيد طائفي واضحة، وكانت التصريحات الأولى للمسؤولين مُرحبةً بها بوصفها تعبيراً عن وحدة الشعب والدولة. وقد أسفرت هذه المجازر عن سقوط مئات القتلى من الطائفة العلوية، بينهم نساء وأطفال، في حين فرّ الآلاف إلى الجبال أو عبروا الحدود مع لبنان. والحقيقة أن الأعداد الفعلية غير معروفة بعد فقد تتجاوز الألف، كما أن وسائل الإعلام منعت من التحرك والتغطية بحرية. وغالبية الفيديوهات التي يعتمد عليها صورها مقاتلو الهيئة بأنفسهم. واستهدف فلول النظام، بدورهم، العائلات على الطرقات العامة بين اللاذقية وإدلب.
وبهدف استمالة الطائفة العلوية، التي كانت تعتمد كليّاً على الدولة في الحصول على فرص عمل ومصادر دخل، استثمر المتمردون من فلول النظام السابق في مشاعر الخوف والإقصاء التي تنتشر في أوساط الطائفة العلوية بعد حلّ الجيش السابق وأجهزته الأمنية، إضافة إلى سياسات التسريح التعسفي التي تبنتها الإدارة الجديدة في إطار ما عدّته مكافحة الفساد والمحسوبية وتخفيف الأعباء المالية، مع أن الاعتبارات الطائفية كانت واضحة في عمليات التسريح، إلا أن نجاحهم ظل محدودًا.
مزالق الطائفية
ليست الطائفية مسألة جديدة أو طارئة أو استثنائية في سورية، وإن التعامل معها من هذا المنطلق هو عملية إنكار. وتُجنِّب عملية الإنكار القيادات السياسية والإعلامية والثقافية مواجهة خطرها. عرفت سورية تفجّر العنف الطائفي في كثير من المنعطفات في تاريخها، ولسنا بصدد مراجعة هذا التاريخ. ولكن الظاهرة تتخذ بعدًا خطيرًا في مرحلة انتشار الخطاب الشعبوي، ووسائل التواصل، والترحيب بالمشاركة الجماهيرية في الخطاب الثوري.
ليست مصادفة أن بدايات الثورة حملت شعارات صادقة مثل “لا للطائفية”؛ لأن الناشطين أدركوا خطرها وخوف الناس من تفجّرها إذا سقط النظام. فقد أدت سنوات طويلة من حكم عائلة الأسد، والطغمة التي تشاركها نِعَم الحكم من جميع الطوائف، إلى توظيف أوساط واسعة من المنتمين إلى الطائفة العلوية في أجهزة الدولة، ولا سيما الأجهزة الأمنية بدوافع الولاء. لم يكن غالبية هؤلاء من الحكام، بل من المحكومين. وفي ظل هذه العقود الطويلة من القمع، جرت عملية تدريجية لتحويل السوريين السنة إلى طائفة؛ طائفة الأغلبية المظلومة، لا سيما أن بعضهم كان يعتقد أن الحكام هم العلويون والمحكومون هم المسلمون السنة، مبسِّطًا طبيعة نظام الحكم إلى درجة التعمية والتجهيل، ومتجاهلًا الظلم اللاحق بالكرد والدروز والعلويين أنفسهم. ويذكّر ذلك بتحويل الشيعة العراقيين إلى طائفة مظلومة في ظل ما عُدّ حكم الأقلية السنية في العراق (وهو خطاب وجد قبولاً في الغرب أيضًا). ونشطت في المجتمع السوري قوى سياسية واجتماعية وثقافية من جميع الطوائف والانتماءات، قاومت هذه التعميمات، ومنها رجال ونساء قضوا عقودًا في سجون الأسد. وفي المقابل، كانت ثمة قوى سياسية منظمة تروج الخطاب الطائفي لأغراض التحشيد، تتراجع عنه أحيانًا، ثم تعود وتتبناه.
مع تحول الثورة إلى العنف المسلّح، جرت عمليات قتل على خلفية طائفية قامت بها مليشيات النظام، وكذلك فصائل معارضة. هذه الظاهرة ليست جديدة إذاً. ولكن القوى المؤيدة للثورة غالباً ما تجاهلت الخطاب والممارسة الطائفيين لدى الفصائل المسلحة، ولا سيما الإسلامية التي لم تتبنَّ أصلًا خطاب الثورة، خشية تفريق الكلمة وتقديم خدمة غير مباشرة للنظام.
وبعد انهيار النظام، انتشر شعور أن الحكم انتقل من الأقلية العلوية إلى الأكثرية السنية؛ وهو شعورٌ زائف. فالسنة محكومون حاليّاً أيضاً مثل بقية الطوائف. صحيح أن الحكام الحاليين سنة في أصولهم وعقيدتهم، ولكنهم يشكلون أقلية صغيرة عددًا ومذهبًا قياسًا بعدد السنة السوريين وتنوعهم الهائل. وعلى كل حال، لا يجوز قياس الأمور بهذه المعايير، ولكن من يستخدم الطائفية يقع في هذا التناقض. يجب وقف الترويج لهذه المقولات التي تهدف إلى جعل الطائفية السنية قاعدة النظام الرئيسة. فأولًا، لأن هذا لا يكفي؛ فالسنة لا يحيون على الهوية الطائفية، فهم يحتاجون إلى مصادر العيش الكريم وحقوق المواطنة. وقد تلهي الطائفية وسياسات الهوية عن المطالبة بها لفترة قصيرة فقط. ثانيًا، يقود هذا الخطاب الضاغط الإدارة الحالية إلى تبني مقاربة “نحن” و”هم” (مضمرة) تجاه بقية فئات الشعب السوري؛ ما يجعل من الدولة طرفاً اجتماعيّاً قبل أن تباشَر عملية بنائها، بعد أن هدمت غالبية مؤسساتها. فبدل العلاقة بين المواطن والسلطة، ومؤسسات المجتمع المدني والسلطة، تصبح المطالب نوعًا من الصراع. وهذا لا يُحلّ إلا بتسويات من دون عملية اندماج في “شعب سوري واحد” (كما في الشعار الشهير)، فلا يبقى منه سوى تسمية تطلق لتجمع “بالاسم” ما هو متفرّق في الواقع. ومن الضروري مواجهة هذا الخطر قبل أن يستفحل. ثالثًا، لا يجوز القول إن الإدارة لا تعترف بأكثرية وأقلية وتتعامل في الوقت ذاته على أنها هي الأكثرية والبقية أقليات. في هذه الحالة، تصبح المحاصصة الحل الوحيد؛ فلا يجوز فرض طابع بعينه على الدولة (يعدّه بعضهم طابعاً أكثريّاً، مع أنه ليس كذلك)، ثم مطالبة من أصبحوا “الآخرين” بالاندماج في ظله. فإما دولة مواطنة وإما محاصصة (مضمرة أو معلنة)، ومن لا يستطيع القبول بمصطلحات المواطن وأمة المواطنين، عليه أن يقبل بالمحاصصة. أخيراً، تعني الطائفية السياسية العنف الكامن، وتعبيره الرئيس هو الخوف الدائم الذي يعيشه الناس في بعض المناطق؛ لأنهم ليسوا آمنين على حياتهم وأملاكهم، والذي يمكن أن يخرج من الكمون في أزقة المدن ليلًا، أو في إغارات متبادلة بين قوى نائية، أو ينفجر في صورة مجازر دموية تشكل وصمة عار. والدليل على عمق الأزمة أن ثمّة من يدافع عما حصل أو يبرّره بعد انكشاف الحقائق.
ردّات الفعل الدولية
لاقت المجازر الطائفية التي شهدتها منطقة الساحل موجة استنكار واسعة عبّرت عنها خصوصاً القوى الدولية، ففي تغريدة على منصة إكس، قال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إن بلاده “تدين الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، بمن فيهم الجهاديون الأجانب الذين قتلوا الناس في غرب سورية في الأيام الأخيرة، وأن الولايات المتحدة الأميركية تقف مع الأقليات الدينية والإثنية في سورية، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والدرزية والعلوية والكردية، وتقدّم تعازيها لأسر الضحايا”، وأنه “يتعين على السلطات المؤقتة في سورية محاسبة مرتكبي هذه المجازر ضد الأقليات”. أما روسيا فوصف وزير خارجيتها سيرغي لافروف ما حصل بأنه “انفجار للعنف غير مقبول تمامًا”، وأن روسيا “تشعر بالقلق إزاء كل ما يجري في سورية”، وأنها “تبذل جهودًا مع المجتمع الدولي لضمان الأمن لجميع الطوائف والفئات وجعل سورية خالية من التهديدات الإرهابية”، وأنها “تتشاور مع الولايات المتحدة في الأمم المتحدة”، حيث “يجري العمل على صياغة ردود فعل مناسبة”. وقد لجأ مئات المدنيين من الطائفة العلوية إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية خلال الأحداث الطائفية. وفي حين عبّر المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تولك عن تلقّي الأمم المتحدة “تقارير مقلقة للغاية تحدثّت عن مقتل عائلات بكاملها تضم نساءً وأطفالًا، فإنه ينبغي إجراء تحقيقات سريعة وشفافة ومحايدة في كل الجرائم والانتهاكات الأخرى، ويجب محاسبة المسؤولين عنها انسجامًا مع معايير القانون الدولي وقواعده. والعدالة الانتقالية حاجة ملحة”. وعقد مجلس الأمن، في 10 مارس، جلسة مغلقة بطلب من روسيا والولايات المتحدة لبحث التطورات الأمنية في الساحل السوري، وسط دعوات “لمحاسبة المتورطين والدخول في عملية سياسية تضمن حقوق الأقليات”. أما الاتحاد الأوروبي فنشر بياناً عبّر فيه عن “إدانته الشديدة للهجمات الأخيرة على قوات الحكومة المؤقتة في المناطق الساحلية من سورية، والتي نسبتها تقارير إلى عناصر موالية للأسد، وجميع أعمال العنف ضد المدنيين”. وطالب بضرورة “حماية المدنيين في جميع الظروف مع الاحترام الكامل للقانون الإنساني الدولي”. كما دعا “جميع الجهات الخارجية الفاعلة إلى الاحترام الكامل لسيادة سورية ووحدتها وسلامة أراضيها”. وأصدرت ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا بيانات مماثلة، وألقت أخبار المجازر في الساحل السوري بثقلها على اجتماع دول جوار سورية الذي عقد في عمّان في 9 مارس، بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء هيئات الأركان ومديري أجهزة المخابرات في تركيا والأردن، ولبنان، والعراق، وسورية. وأكد الاجتماع أن “أمن سورية واستقرارها ركيزة للأمن والاستقرار في المنطقة”، ودان “المحاولات التي تستهدف أمن سورية والإرهاب بكل أشكاله، والتعاون في مكافحته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا”.
أما إسرائيل، فقد استغلت هذه الأحداث وحاولت الاستفادة منها، إذ اتهم وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس قوات الحكومة السورية بارتكاب “فظائع ضد المدنيين العلويين”، وجدّد التأكيد على أن إسرائيل “ستحمي نفسها من أي تهديد قادم من سورية”، وأن “الجيش الإسرائيلي سيبقى في المنطقة العازلة وفي مرتفعات جبل الشيخ، وسيواصل حماية مستوطنات الجولان والجليل”، وأنه سيعمل على إبقاء جنوبي سورية خاليًا من الأسلحة والتهديدات، متعهدًا بـ “حماية السكان الدروز في المنطقة، ومن يمسّهم سيدفع الثمن”، على حد تعبيره.
خاتمة
ألحقت أحداث العنف الطائفي التي شهدتها مدن الساحل السوري وأريافه، وأسفرت عن مقتل المئات من المدنيين العزّل، أضراراً بالغة بمسار الانتقال السوري الذي بدأ بعد سقوط نظام الأسد، وما زالت وجهته غير معروفة؛ فلا إجابة عن سؤال: انتقال إلى ماذا؟ فقد عمّقت هذه الأحداث الشروخ بين فئات المجتمع السوري وأظهرت عجز الحكومة عن حماية مواطنيها، وبددت كل الجهود التي بذلتها على مدى ثلاثة أشهر منذ سقوط النظام للظهور بمظهر الحكومة المسؤولة والقادرة على تجنّب أعمال العنف الطائفي. فهي لم تتعامل مع أصل المشكلة المتعلقة بالطائفية التي تبدو أمرًا رائجًا ومصرحًا به في بعض الأوساط، بل ويتطابق مع دعم الإدارة الجديدة في نظر البعض. لا يجوز تجاهل قضية الطائفية، والمطابقة الموهومة للأكثرية الطائفية بالأكثرية السياسية، أو الحاكمة. ولا بد من مواجهة مسألة المواطنة السورية المتساوية التي تشمل المساواة في الحقوق وفي فرص المشاركة في مؤسسات الدولة، التي تبدو التعيينات جارية فيها على أساس الولاء لا الكفاءة. وقد تكون أحداث الساحل ألحقت ضررًا بالغًا بجهود الحكومة لرفع العقوبات، الأميركية خاصة، حيث تضع واشنطن حماية الأقليات شرطًا رئيسًا لرفعها. ويعد رفع العقوبات الأميركية ضروريًا للنهوض بالاقتصاد السوري الذي دمرته الحرب، ولإعادة الإعمار، ولنجاح الحكومة الجديدة في التعامل مع التحديات المعيشية الصعبة.
ورغم أن الحكومة السورية سارعت إلى احتواء الضرر، إذ اعترفت بوقوع انتهاكاتٍ طائفيةٍ، وتعهدت بالتحقيق في أحداث الساحل من خلال إنشاء لجنة تحقيق ومحاسبة المسؤولين، فإن استعادة ثقة السوريين تتطلب اتخاذ خطوات إضافية مهمة على رأسها إشراك كل فئات المجتمع في العملية السياسية، وتشكيل حكومة تمثيلية بعيدًا عن الإقصاء والاستئثار، وتجريم التحريض الطائفي، بما في ذلك الجاري دون توقف على وسائل التواصل، والتعامل مع كل السوريين باعتبارهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات بغضّ النظر عن انتماءاتهم الطائفية والدينية والإثنية، والذي لا يجوز أن يبدو حسنة أو مكرمة، والإسراع في إطلاق مسار عدالة انتقالي يكفل محاسبة المجرمين، ويحدّ من عمليات الانتقام خارج إطار القانون، ويطوي صفحة النظام السابق وانتهاكاته.
العربي الجديد
———————————
قمعي وإبادي: نظرات في عنف الدولة في سوريا/ اسين الحاج صالح
على الدولة ألا تكون أهلية كي يكف المجتمع عن أن يكون أهلياً
12-03-2025
خبرنا في سورية خلال 14 عاماً ضربين من العنف، ضرب قمعي وضرب إبادي، يُسهِّل سياق صراعنا إدراك الفرق بينهما. فالعنف الإبادي، يقترن بـ«أهلنة» الدولة، أو بنمو الطابع الأهلي للفريق الممارس للعنف. العنف القمعي، بالمقابل، هو عنف الدولة العامة الذي يستهدف قوى أو أفعالاً دون تمييز يُحيل إلى المنبت أو الجذر الأهلي. بعبارة أخرى مألوفة أكثر، كلّما اتسعت مساحة التلاقي بين العنف والطائفية والدولة نما الطابع الإبادي لهذا العنف، وبالعكس يجنح العنف لأن يكون قمعياً أكثر وإبادياً أقل كلّما تقلصت هذه المساحة. وتحوز التشكيلات الطائفية المسلحة غير الدولتية طاقة إبادية على ما أخذنا نرى في عام 2013 وما بعد، وإن حدّت قدراتها المادية والتسليحية من هذه الطاقة بالمقارنة مع الدولة.
ويُفترض بالعنف القمعي في الحالة المثلى أن يكون منضبطاً بقواعد معلومة، متناسباً مع المخالفة أو الجريمة المفترضة، غير شخصي (أعمى عن حيثية الشخص)، وغير إذلالي بالتالي. العنف الإبادي، بالمقابل، فائض وغير متناسب، عشوائي ولا يمكن توقّع مقداره، إذلالي، وفي سياقنا يعامل الأشخاص كعيّنات عشوائية على جماعات أهلية هي المستهدفة بالإبادة.
وفي الربط بين العنصر الأهلي والعنف الإبادي منطق لا يصعب تبيّنه. فضروب التمايز الديني أو الإثني أو العرقي أو القومي، ومنها كذلك ما نسميه في سورية والمشرق التمايز الطائفي، هذه الضروب تسهّل نقل العلاقة بين الجماعات الأهلية، المتمايزة وفقاً لهذه الخطوط (الديني والعرقي…)، إلى نطاق العلاقة بين بشر ولا-بشر، أو بين مراتب في البشرية بعضها أقل شأناً وبعضها أرفع شأناً وقيمة، بما يحول دون التماهي أو الشعور بوحدة الحال بين منسوبي الجماعات، وما يبيح أو حتى يوجب التخلّص من أولئك اللا-بشر، أو البشر المنحطي المرتبة، على يد من هم أرفع قيمة واعتباراً. الإبادات الحديثة كلها تتضمن هذا البعد التقييمي الذي يثبّت مجموعة بشرية في صورة فاسدة أو شريرة، تمهد للتخلص منها. كان اليهود طفيليين فاسدين، يمتصّون دم العرق الآري، وينخرطون في مؤامرة يهودية بلشفية طعنت ألمانيا في ظهرها عند نهاية الحرب العالمية الأولى، لذلك وجب القضاء عليهم نهائياً في سياق الحرب العالمية الثانية. ووُصِف التوتسي في رواندا بأنهم صراصير وأجانب، ما خفض عتبة استهدافهم أثناء ما يوصَف بأنه الجينوسايد الأوسع قاعدة اجتماعية في التاريخ، لمشاركة قطاع واسع من الهوتو، أكثرية الروانديين، في قتل 800 ألف من جماعة التوتسي خلال 100 يوم فقط من عام 1994. ووصِف مسلمو البوسنة وكوسوفو بأنهم أجانب وبقايا محتلين أتراك، يعيشون دون حق في صربيا الكبرى، وهذا وقت كان قادة ديماغوجيون يرفعون من حرارة المشاعر القومية إلى درجة الحمى. في كل هذه الحالات وغيرها، القتل الخطابي يسبق القتل الفعلي ويمهد له.
وأقرب إلى سياقنا السوري بعد الثورة ثنائية إرهابيين وتنويعاتها (إمارات سلفية، دواعش، متخلفين، متعصبين…) وكفار وتنويعاتها (نصيرية، باطنيين…). ولضرب أمثلة عينية أكثر، كان يحدث أن توقِف حواجز النظام أشخاصاً لانحدارهم من محلة بعينها، ويُنادى على الشخص المعني: داريّا، انزل! أو: درعا، تفضل! يُعتقلون بعدها وقد لا يُعلم لهم مصير. اليوم بعد سقوط النظام يُسأل الناس في بعض المناطق بفجورٍ طائفي كامل: سنّي واللا علوي؟ وبالطبع العلوي هو الذي يتعرض للمخاطر. هذه نداءات إبادية.
سنوات ما بعد الثورة السورية، وبصورة أقل كثافة سنوات الحكم الأسدي كلها، هي سنوات أهلنة الدولة والمجتمع في سورية، أو تراجع طابعهما العام والجامع، ودرجة متقدمة من نزع المشتركات بين السوريين، المشتركات التي تصنع شعباً من أناس مختلفين. المنحى الإبادي في ما عرفته سورية من عنف يتصل بهذا الميل العام المديد. وهو ما كان يُخشى منه وقت سقوط النظام، وما أخذ يحدث بدءاً من يوم 6 آذار في مناطق الساحل السوري.
المستجد بعد الثورة دخول العنصر الجهادي، وهذا أجنبي في كل مكان، وأجنبيته مضاعفة: أجنبي عن منطق الدولة العامة مثل الجماعات الأهلية، ثم هو أجنبي أكثر منها لعدم ارتباطه بمجتمع وذاكرة وتاريخ ولغة وحساسية، ما يجعله يشغل موقعاً استعمارياً حيال المجتمعات المحلية التي يسيطر عليها. ومنذ الآن ينبغي القول إن الصحيح بخصوص هؤلاء الأجانب هو تجريد غير القادرين على العودة إلى بلدانهم من السلاح، وفرض إقامتهم في مواقع بعينها.
في العنف الممارس من قبل قوى الحكم الحالي في الساحل مكوّن قمعي، تمارسه القوى الأقرب للتكوين الدولتي (الأمن العام، وبعض الجيش الجديد)، ويتوجه ضد القوى الأسدية المسلحة، لكنه مخلوط بمكوّن أهلي إبادي بارز، يرجح لمرتكبيه المباشرين أن يكونوا قد اقترفوه بدوافع طائفية سنية و/أو جهادية. هذا يعود على الدولة بنزع صفتها العامة. لم ننتقل من الثورة إلى الدولة، مثلما قرر أحمد الشرع، بل إلى شكل مختلف عن الحكم الأسدي من الدولة الأهلية، وهذه حرب أهلية مستمرة، أو هي استمرار لحربنا الأهلية يحافظ على أهلنة الدولة والمجتمع.
ما يجري الآن في الساحل من حرب أهلية يجعل السلم الأهلي صعباً بعدها بالضبط بسبب العنصر الإبادي في هذه الحرب من طرف فريق «الدولة». كان كانط قد نصح المتحاربين بأن لا يرتكبوا في زمن الحرب ما يجعل السلم بعدها مستحيلاً، وفي باله وقتها، في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حروب الدول وما قد تشهده من فظائع. الحرب الأهلية في مجالنا، في سورية وقبلها في العراق ولبنان وغيرها، تعرض استعداداً خاصاً لأن تؤبّد نفسها عبر ارتكاب جرائم يتعذر نسيانها أو غفرانها، تسمّم العلاقة بين الأطراف إلى حد أن يستحيل السلم بعدها. بينما كانت تُرتكب فظائع في الساحل وتُقتل عائلات بأكملها، «غرّدت» السيدة عائشة الدبس، مسؤولة مكتب المرأة في الإدارة الحالية، تندد بـ«مرهفي الأحاسيس» الذين نسوا مجزرة الكيماوي، وألحقت التغريدة بصور أطفال من شهداء المجزرة. المجزرة الكيماوية هي بالفعل من الفظائع المشينة التي تُعسّر فرص السلم بعدها، لكن السيدة الدبس تستخدمها لإضفاء النسبية على جريمة جارية الآن، تشارك المجزرة الكيماوية في صفة تعسير السلم بعدها. في هذا ما يؤبد حالة الحرب الأهلية والاستعدادات الإبادية، وفيه فوق ذلك قلة احترام للضحايا، الضحايا القدماء وليس الجدد فقط، وذلك عبر الاستخدام الأداتي لهم لتبرير انحياز سياسي راهن.
ما تفتقر إليه سورية اليوم هو الدولة العامة. الدولة القائمة اليوم هي أقرب إلى دولة أهلية، والدولة الأهلية لا دولة في واقع الأمر، بل غَلَبة وشوكة وقهر. وهي، «دولة» اليوم، لم تبذل جهوداً متسقة لتجاوز الأهلي في تكوينها أو لمشاركة سياسية تحدّ منه. وبحكم موقعها العام تتحمل هي المسؤولية عن الوضع القائم اليوم. على الدولة ألا تكون أهلية كي يكف المجتمع عن أن يكون أهلياً، ومن أجل «السلم الأهلي». بالمناسبة، هذا التعبير الرائج في سورية في بضع الشهور الأخير متناقض ذاتياً، فالسلم لا يقوم على الانتظام الأهلي للمجتمع، على سورية يتجاور فيها دون أن يختلطوا فعلياً سنّيون وعلويون ودروز واسماعيليون وغيرهم، مسلمون ومسيحيون وغيرهم، عرب وكرد وغيرهم، بل على أشكال مدنية من الانتظام الاجتماعية تقوم على الطوعية واستقلال الأفراد والحريات العامة، بما فيها حرية التنظيم والكلام. الدولة العامة المدنية تقمع، وربما بقسوة، لكن عنفها ينضبط بمنطق عام، منطق المصلحة العامة (يُسمّى أحياناً منطق الدولة أو سبب الدولة raison d’etat). سحق قوى الفلول الأسدية المسلّحة يندرج ضمن عنف الدولة-الأمة القمعي.
الدولة الأهلية، بالمقابل، دولة غير عامة وغير عاقلة، مثلما يجدر بنا أن نعرف من سيرة الحكم الأسدي طوال 54 عاماً. وحين تغيب القوة العاقلة، الدولة العامة والمدنية، لا يسع المرء اليوم إلا الإهابة بالعقلاء من الوطنيين السوريين لبذل كل جهد ممكن لوقف العنف الإبادي، كما لتجنب وإدانة الخطابات الهائجة والتحريضية. العقلاء هم الدولة في غياب الدولة، كما في حضورها بشكل أهلي وغير عاقل.
موقع الجمهورية
——————————-
المواجهات في الساحل السوري.. التداعيات والمواقف
نشر في 11 آذار/مارس ,2025
مقدمة
انفجرت الأوضاع الأمنية في الساحل السوري، على إثر قيام مجموعة منظمّة في الساحل، بقيادة بعض ضباط النظام السابق، بمهاجمة قوات الأمن العام في الساحل، مما استدعى طلب تعزيزات من قوات الأمن العام، لضبط الأوضاع، ولكن ردّة الفعل جاءت واسعة وغير منظمة، حيث شاركت في العملية بعض فصائل الجيش الوطني المعروفة بسلوكها غير المنضبط، فضلًا عن حشودٍ غفيرة من مواطنين سوريين اندفعوا من مدن أخرى بأسلحتهم نحو الساحل، استجابةً لإطلاق بعض رجال الدين حملة نفير، من على منابر المساجد وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. وأدت تلك العمليات على مدى عدة أيام، من 6 آذار حتى 8 آذار، بالإضافة إلى مقتل أكثر من مئة من عناصر الأمن العام، إلى مقتل أكثر من مئة من المسلّحين المتمرّدين، ومقتل نحو ألف شخص من المدنيين، قُتلوا انتقامًا بلا ذنب تحت تأثير ردّة فعل اتخذت طابعًا طائفيًا، وكان لذلك الأمر أثرٌ سيئ، داخليًا ودوليًا.
استغلّ بعض ضباط النظام القديم، ممن عُرفوا بارتكابهم جرائم سابقة، أوضاع الاحتقان التي تصاعدت على مدى الشهور الثلاثة الماضية إثر سقوط النظام، وجنّدوا بضع مئات من أبناء الساحل، حيث تصاعد الاحتقان بعد حل مؤسسات الجيش والأمن والشرطة، وفقد مئات الآلاف من عناصر هذه المؤسسات وظائفهم ومصادر دخلهم، وكان الجزء الأكبر منهم من أبناء الساحل، إضافة إلى عشرات الآلاف ممن سُرّحوا من وظائفهم من مؤسسات الدولة المدنية، من دون تأمين وظائف ومصادر دخل بديلة، ويضاف إلى ذلك آثار إجراءات التسوية التي فُرضت على جميع منتسبي مؤسسات الجيش والأمن والشرطة المنحلة، إذ أدت إلى تصاعد الشعور بالإهانة والحنق في صفوف هؤلاء، إضافة إلى العمليات التي تقوم بها مجموعات الأمن العام، ضمن ما يسمى “ملاحقة الفلول” التي لم تحدد قائمة متهمين محددين، بناءً على سياسة عامة محددة للعدالة الانتقالية، حيث لم تُشكل هيئة للعدالة الانتقالية، ولم تُحدّد إجراءات محددة للاتهام والاعتقال، ولا يوجد محاكمات، مما أطلق يد العناصر للتصرّف على نحو يخالف المبادئ التي تلتزم بها المؤسسات الحكومية عادة، ووصلت في العديد من الحالات إلى القتل. وقد خلقت كل هذه الأوضاع مناخًا ساعد مجموعة من الضبّاط السابقين في عهد الأسد، وهم ضبّاط مطلوبون لارتكابهم جرائم سابقة على مدى سنوات الحرب، في أن يجنّدوا معهم بضع مئات، وأن يقوموا بعملياتهم التي تهدف إلى زعزعة الاستقرار.
التصعيد العسكري في الساحل السوري: أحداث الأيام الأربعة الأولى
اليوم الأول: 6 آذار/ مارس 2025 – الهجوم المفاجئ
شنّ “لواء درع الساحل”، بقيادة مقداد فتيحة، هجومًا منسقًا على عدة مواقع عسكرية وأمنية في وقت واحد، وقد تزامن ذلك مع حملة إعلامية واسعة، وتظاهرات في بعض المناطق الساحلية مثل طرطوس، وكان الهدف من الهجوم السيطرة على نقاط عسكرية استراتيجية، حيث هاجمت مجموعات من “لواء درع الساحل” حواجز الأمن العام والمؤسسات المنتشرة في بانياس وجبلة واللاذقية، وتمكّنت من قتل 15 عنصرًا من الأمن العام، إلى جانب السيطرة على نقاط تفتيش على الطرق الرئيسية، ما أتاح للمجموعات المسلحة السيطرة على بعض القرى الجبلية في ريف اللاذقية لبعض الوقت.
بالتوازي مع ذلك، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أخبارٌ عن انتهاكات. وفي المقابل، دعوات إلى النفير العام في بعض المدن والبلدات السورية لنصرة قوات الأمن، فتوجهت فصائل عسكرية ومدنيّون من مختلف المناطق السورية، إلى الساحل، محمّلين بالسلاح، وبأعداد كبيرة تُقدّر بآلاف المقاتلين والمدنيين، وقد اتخذت تلك الحملة طابعًا طائفيًا، صبّ الزيت على النار، فبدلًا من أن يظهر الصراع أنه بين عصابات خارجة عن القانون وقوات الأمن العام، بدا وكأنه صراعٌ سنّي علويّ، وأدّى إلى فوضى في عمليات التعبئة، وعدم تنسيق الدعم العسكري من قبل وزارة الدفاع، الأمر الذي أسفر عن وقوع انتهاكات وحوادث قتل بحق بعض المدنيين.
اليوم الثاني: 7 آذار/ مارس 2025
مع تصاعد الهجمات وانتشارها، أعلنت الإدارة الجديدة إطلاق حملة أمنية واسعة لاستعادة السيطرة وفرض النظام، وأرسلت تعزيزات عسكرية، من محافظات إدلب وحماة وحمص وحلب، إلى مناطق الاشتباكات، وشنت قوات الأمن العام مع القوات العسكرية التي جاءت للمساندة مداهمات مكثفة في قرى ريف اللاذقية، طرطوس، وحماة، بهدف تعقب أفراد المجموعات المهاجمة، وأسفرت العمليات عن اعتقال مئات الأشخاص، بينهم مدنيون لم تثبت مشاركتهم في الهجمات، مما أدى إلى استياء شعبي واسع.
وبحسب بعض الروايات، تم تنفيذ إعدامات ميدانية بتهمة التعاون مع المسلّحين، وبحق مدنيين، ووفقًا لتقارير حقوقية، بلغ عدد القتلى 779 شخصًا، منهم ما يقارب 211 مدنيًا، خلال هذه العمليات[1]، مما أدى إلى انتقادات دولية واسعة، بسبب تلك الانتهاكات.
اليوم الثالث: 8 آذار/ مارس 2025
في صباح يوم 8 آذار/ مارس، أعلنت وزارة الدفاع السورية أن قواتها تمكّنت من استعادة السيطرة على معظم المناطق التي شهدت اضطرابات، خلال اليومين السابقين، وتم تنفيذ عمليات تطويق للمسلحين الفارّين، لمنعهم من إعادة تنظيم صفوفهم أو شنّ هجمات جديدة، وبالرغم من هذا الإعلان، استمرت حالات الكرّ والفرّ في بعض القرى الجبلية، مما يشير إلى أن الوضع لم يستقر تمامًا بعد.
خريطة رقم (1): النقاط التي هاجمتها العصابات التابعة للنظام بين 6-9 آذار / مارس 2025
للحصول على الخريطة بدقة عالية: الرابط
على الرغم من أن العمليات العسكرية استهدفت المسلّحين، فإن تقارير حقوقية أكدت وقوع انتهاكات عدة ضدّ المدنيين، وتم توثيق حالات اعتقال تعسفي، وعمليات قتل خارج نطاق القانون، وأدى ذلك إلى انتقادات دولية واسعة، وإلى فتح تحقيقات موسعة لمحاسبة جميع الأطراف المتورطة في هذه الانتهاكات. وأسفرت الاشتباكات عن نزوح مئات العائلات من المناطق المتضررة، إلى مناطق أكثر أمانًا، كما التجأ عدة آلاف إلى قاعدة حميميم، ولجأت عائلات كثيرة إلى لبنان، وزاد الضغط على البنية التحتية الضعيفة في المدن والبلدات المجاورة، وتأثرت الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه بشكل كبير، فتفاقمت معاناة السكان المدنيين الذين وجدوا أنفسهم وسط صراع لا يعترف بحيادهم.
أدت المعارك إلى تعطيل شبكات النقل والتجارة في المناطق المتضررة، وتسبب ذلك في ارتفاع أسعار السلع الأساسية، نتيجة انقطاع الإمدادات وتأثّر الأسواق المحلية، وتأثرت موانئ الساحل التي تعتبر مراكز اقتصادية حيوية، بسبب العمليات العسكرية، وتراجع النشاط الاقتصادي في المنطقة.
عززت المعارك حالة الاستقطاب الداخلي في سورية، حيث زادت المخاوف من تصاعد التوترات الطائفية والعرقية، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا خطيرًا، حيث استغلّت بعض الجهات هذه الأحداث لنشر معلومات مضللة وإثارة الفتن، وقادت حسابات مرتبطة ببقايا نظام الأسد وخارجية حملة إعلامية ممنهجة، لنشر أخبار مضللة ومنسقة، تهدف إلى تشويه الحقائق والتأثير في الرأي العام، مستفيدة من غياب إعلام رسمي أو ناطق رسمي حكومي أو أي مصدر رسمي للمعلومات، ما ترك البابَ مفتوحًا لوسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها من مساحة واسعة للشائعات.
تشكيل لجنة تحقيق وطنية
في 9 آذار/ مارس 2025، أصدر الرئيس أحمد الشرع قرارًا بتشكيل لجنة وطنية مستقلة، للتحقيق في الأحداث والانتهاكات التي وقعت في المناطق الساحلية منذ 6 آذار/ مارس 2025، وتألّفت اللجنة من خمسة قضاة وعسكري واحد ومحام واحد، وكُلِّفت بالكشف عن الظروف والأسباب التي أدت إلى هذه الأحداث، وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات ضد المدنيين وعناصر القوات الأمنية، على أن يتم تقديم تقريرها خلال 30 يومًا.
في دمشق، نظّم ناشطون وقفة احتجاجية صامتة حدادًا على الضحايا المدنيين وعناصر الأمن الذين قُتلوا خلال الاشتباكات، ورفعوا لافتات كتب عليها “الدم السوري ليس رخيصًا”، لكن الوقفة شهدت مشادات مع متظاهرين مضادين، تطوّرت إلى اشتباكات بين الطرفين، فاضطرت قوات الأمن للتدخل وإطلاق النار في الهواء لتفريق الحشود.
وألقى الرئيس أحمد الشرع خطابين متلفزين متوجّهًا بهما إلى الشعب السوري، تناول فيهما التطورات الأخيرة وموقف الحكومة منها، وجاءت تلك الخطابات في توقيت حرج، حيث كانت البلاد تشهد توترًا غير مسبوق، ما جعل من الضروري توجيه رسالةٍ تطمئن المواطنين، وتؤكّد وحدة الدولة وسيادة القانون. وأدان الشرع بشدة أعمال العنف التي شهدتها مناطق الساحل، معتبرًا أنها تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، وإثارة الفتنة بين مكونات الشعب السوري، وشدد على أن الحكومة لن تتهاون مع أي محاولات للمساس بالسلم الأهلي، ورغم خطاب الرئيس الشرع فقد استمرت التوترات.
ردود الفعل الدولية
أعربت الأمم المتحدة عن قلقها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بمقتل عائلات بأكملها، بما في ذلك نساء وأطفال، داعيةً إلى وقف فوري للعنف، وإجراء تحقيقات شفافة ومحايدة في هذه الجرائم، وأدانت واشنطن بشدة الهجمات التي استهدفت المدنيين، مؤكدةً وقوفها إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية في سورية، وداعيةً السلطات الانتقالية إلى محاسبة مرتكبي هذه المجازر. لكن الاتفاق بين الحكومة الجديدة و (قسد) جاء ليؤكد أن أميركا داعمة للحكومة الجديدة، وأعربت لندن عن صدمتها من التقارير التي تتحدث عن مقتل أعداد كبيرة من المدنيين، وحثّت السلطات في دمشق على حماية جميع السوريين، وضمان مسار واضح للعدالة الانتقالية، وأكّدت برلين ضرورة منع وقوع مزيد من الهجمات، وأعربت عن استيائها من التقارير التي تتحدث عن عمليات قتل جماعي في الساحل السوري.
بتاريخ 10 آذار/ مارس، عقد مجلس الأمن اجتماعًا مغلقًا حول سورية، وقد استبقته المندوبة الأميركية في المجلس بتصريحٍ لافتٍ، حيث أكدت أن هناك دلائل واضحة على النفوذ الخبيث لإيران وسعيها لإعادة ترسيخ وجودها في سورية من خلال مجموعات تحظى بالدعم المالي واللوجستي الإيراني، وأن المجتمع الدولي سيدعم الحكومة السورية.
أما الدول العربية، فقد أعربت كل من القاهرة وبغداد عن قلقهما البالغ إزاء التطورات الأمنية في الساحل السوري، مؤكدتين رفضهما القاطع لاستهداف المدنيين، وداعيتين إلى ضبط النفس واتباع الحلول السلمية بدلًا من التصعيد العسكري. وأدانت كلٌّ من السعودية وقطر والإمارات والكويت والبحرين الجرائمَ التي ترتكبها مجموعات خارجة عن القانون في سورية، وأكّدت وقوفها إلى جانب الحكومة السورية في جهودها لحفظ الأمن والاستقرار، وشدّدت الأردن على دعمها للإجراءات التي تتخذها الحكومة السورية لحماية أمن البلاد واستقرارها، وأدانت محاولات زعزعة الأمن ودفع سورية نحو الفوضى.
وعلّقت وزارة الخارجية التركية على التطورات، مشدّدة على ضرورة عدم السماح لمثل هذه الاستفزازات بأن تصبح تهديدًا للسلام في سورية والمنطقة، ووصف حزب العدالة والتنمية أحداث الساحل السوري بأنها “هجوم إرهابي يستهدف وحدة سورية واستقرارها”، رافضًا أي محاولات لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
في يوم 9 آذار/ مارس 2025، عقد في عمّان اجتماع لدول جوار سورية، بحضور وزراء الخارجية والدفاع والمخابرات في دول جوار سورية، وأصدر المجتمعون بيانًا يؤكد الوقوف إلى جانب الحكومة السورية، والحرص على أمن سورية، ومنع التدخلات الخارجية بشؤونها، والعمل المشترك لمحاربة الإرهاب.
من جانب آخر، عبّرت روسيا عن قلقها إزاء تدهور الوضع في سورية، ودعت جميع القادة السوريين إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف إراقة الدماء وحماية المدنيين، مشدّدة على أهمية تعزيز الوئام الوطني واحترام حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، وتسعى روسيا منذ سقوط نظام الأسد إلى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في الساحل السوري، حيث توجد قاعدة حميميم وميناء طرطوس، وتحاول موسكو التأقلم مع الواقع الجديد عبر مفاوضات مع الإدارة الجديدة لضمان استمرار وجودها العسكري.
من جهة إيران، أصدر المرشد الأعلى علي خامنئي تصريحات تحريضية مباشرة ضدّ الإدارة الجديدة، معتبرًا أن ما يجري هو “مؤامرة ضد محور المقاومة”، وكانت إيران تحاول في الفترة الأخيرة إعادة تموضع أدواتها هناك، وربما استغلت حالة الاحتقان لدى بعض العلويين لتأجيج الصراع.
ومن خلال تحليل المواقف الدولية من الأحداث، يتبين أن بعض الدول الغربية تدين العنف وتطالب بالتحقيق، لكنها لا تعلن دعمًا مباشرًا للحكومة الجديدة، وأن الدول العربية منقسمة، فبعضها يدعم الحكومة صراحةً، وبعضها يكتفي بالدعوة لضبط النفس، في حين إن تركيا كانت داعمة للحكومة الجديدة في دمشق، وحذر وزير خارجيتها إيران مراتٍ من اللعب في سورية، أما روسيا وإيران فإنهما تحاولان حماية مصالحهما الاستراتيجية، لكن بطرق مختلفة، حيث تعتمد روسيا على التفاوض السياسي، وتلجأ إيران إلى التصعيد الإعلامي والتحركات الميدانية.
قد تؤدي الانتهاكات التي حصلت إلى تصاعد الضغوط الدولية على الحكومة السورية، وقد تستخدم بعض الدول الغربية ملفّ الانتهاكات كورقة ضغط لإبطاء عملية رفع العقوبات عن سورية، ما يعني أن هذه الأحداث قد تؤثر في مستقبل الاقتصاد السوري، وكانت الحكومة السورية تأمل في تخفيف العقوبات الدولية تدريجيًا، لكن الأحداث الأخيرة قد تعرقل هذه الجهود، خاصة مع تصاعد الانتقادات الدولية بشأن الانتهاكات، واستمرار المواجهات قد يدفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تمديد أو حتى تشديد العقوبات، ما قد يزيد من الأعباء الاقتصادية على الإدارة الجديدة.
أثارت هذه المواجهات قلقًا دوليًا، بسبب بعض الانتهاكات، وهو ما يضع الحكومة أمام اختبار صعب في تحقيق التوازن بين فرض الأمن وضمان العدالة والمحاسبة، وفي الوقت نفسه، أظهرت هذه الأزمة خطورة المعلومات المضللة في تأجيج النزاع، ما يعكس الحاجة الملحّة إلى تطوير آليات تحقق أكثر صرامة، ومكافحة التضليل الإعلامي الذي أصبح أحد أدوات الصراعات الحديثة.
سياسيًا وإقليميًا، فرضت هذه الأحداث على الدول الفاعلة في الملف السوري إعادة تقييم مواقفها، حيث انقسمت بين مؤيدة للحكومة الانتقالية، ومطالبة بمحاسبة الأطراف المسؤولة عن التصعيد، هذا التفاعل الإقليمي والدولي يعكس حقيقة أن استقرار سورية لا يعتمد فقط على التوازنات الداخلية، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمتغيرات الجيوسياسية والعلاقات الإقليمية، ما يجعل ترسيخ الاستقرار مرهونًا بالتفاهمات الدولية بقدر ما هو مرهون بالوضع الداخلي.
مقترحات:
تكتسب الأحداث الأخيرة أهمية كبيرة ودلالات خطيرة، تستوجب على الحكومة الوقوف والنظر من علٍ إلى مجمل المشهد السوري، لمنع تكرار ما حدث من جهة، ولاستخلاص الدروس ولامتصاص مفاعيل ما حدث، حيث تحتاج المرحلة الحالية إلى إجراءات عملية وحاسمة، لضمان الاستقرار وبناء سورية الجديدة على أسس عادلة ومستدامة:
– تعدّ إعادة كسب ثقة المجتمع أمرًا جوهريًا، فالشعب هو خط الدفاع الأول ضد الفوضى والجريمة، يجب أن تكون هناك إجراءات واضحة تعزز دور المواطنين في رفض العصابات التي تعبث بالاستقرار، بحيث يصبح الوعي المجتمعي جزءًا من الأمن الوطني، لا يمكن تحقيق هذا الهدف من دون برامج تواصل مجتمعي فعالة ومبادرات تعزز الشعور بالمشاركة والمسؤولية لدى المواطنين.
– تفعيل الحوار الوطني، وتشكيل هيئة وطنية تضمّ شخصيات ذات خبرة تمثل مختلف المناطق والمكونات السورية، مع تشكيل هيئات مماثلة في جميع المحافظات، هذا الحوار لا ينبغي أن يكون مجرد حدث شكلي، بل عملية حقيقية تستمر لعدة أشهر، يتم فيها مناقشة قضايا أساسية، بدءًا من الأحياء الصغيرة وصولًا إلى المستوى الوطني، مثل هذه العملية ستنتج أفكارًا مفيدة للسلطة، وستسهم في إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري.
– تشكيل فرق عمل مختصة لوضع استراتيجيات واضحة، في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، لذا يجب إعادة الكوادر المدنية إلى مواقعها، ويجب أن تقدّم السلطة الجديدة وعودًا واضحة بمعالجة أوضاع الموظفين الذين تم الاستغناء عنهم في الإدارات المدنية، مع إعادة من لم تثبت إدانتهم بالفساد أو الجرائم إلى مواقعهم، مما يحقق نوعًا من العدالة الوظيفية، ويعزز استقرار الجهاز الإداري في الدولة، كذلك، يجب استعادة الكفاءات السورية من الداخل والخارج، فالكثير من الخبراء مستعدون للمساهمة في إعادة بناء سورية، لكنهم بحاجة إلى بيئة عمل تشجع على ذلك.
– تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية أصبح ضرورة ملحة، حيث يجب وضع إجراءات شفافة وواضحة تضمن أن الاعتقالات تتم بناءً على أدلة كافية، مع استهداف كبار قادة النظام السابق، وإعلان أسمائهم بشكل واضح، وقد أثبتت تجربة الدول التي خرجت من حروب داخلية أن التوسع في المحاسبة العشوائية قد يؤدي إلى حروب أهلية مستمرة، ويجب أن تتم محاكمة المعتقلين في محاكم علنية عادلة، لضمان نزاهة العدالة وعدم تحوّلها إلى أداة للانتقام، على أن تشمل العدالة الانتقالية الجناة من كل الأطراف.
– لا بد من تجاوز مبدأ “الانسجام” الذي يترجم بالولاء على حساب الكفاءة، وهو ما انعكس سلبًا على الأداء الحكومي في المراحل السابقة، وتحقيق العدالة والمساواة في تولي المناصب يجب أن يكون وفقًا لمعايير واضحة، وليس بناءً على الانتماءات السياسية أو العائلية، هذا ما عكسه الرئيس أحمد الشرع في خطابه، عندما أكد أن “سوريا لجميع أبنائها”، ومن الضروري تجسيد هذا المبدأ في تشكيل المجلس التشريعي والحكومة، وإعادة العديد من الكوادر التي أُقصِيت.
– أن يصدر الإعلان الدستوري في أسرع وقت ممكن، وأن يكون ملبيًا لتطلعات الشعب السورية وتطلعه للحرية والديمقراطية.
– الإسراع بتشكيل حكومة تجمع بين التمثيل المتوازن والكفاءة، وأن تملك الصلاحيات والإمكانيات، وأن تسعى للحصول على مساعدات من الدول الصديقة، بما يمكنها من تغطية النفقات الإضافية الناتجة عن إعادة هيكلة المؤسسات وتطوير الخدمات الأساسية، وتوفير هذه الموارد سيساعد في توسيع السوق المحلية وتشجيع الإنتاج والاستثمار، وفي خلق فرص عمل جديدة تسهم في إعادة تنشيط الاقتصاد الوطني.
– إعادة هيكل القضاء، ليكون مؤسسة مستقلة قادرة على تحقيق العدالة، بعيدًا عن أي تدخلات سياسية، مع تعزيز مبدأ الشفافية والمحاسبة، لضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة، ومنع أي تجاوزات قد تؤثر على ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
– الحرص على أن تنجز لجنة التحقيق في الانتهاكات الأخيرة مهمّتها بشفافية ومهنية وسرعة، وأن يُحال جميع المنتهكين إلى العدالة، وأن تُعلن نتائج التحقيق، مما سيكون لها عدة آثار إيجابية، داخليًا وخارجيًا.
– أن يظهر الإعلام الرسمي إلى الوجود بأسرع وقت، وأن يكون هناك ناطق رسمي يخرج إلى الناس بفترات متقاربة.
– تنفيذ قرار حل الفصائل المسلحة، ودمجها في الجيش الجديد، مع توزيع أفرادها على وحدات عسكرية مختلفة، لمنع بقاء نفوذ بعض الفصائل التي عُرفت بفسادها، هذه الخطوة ستسهم في إنهاء حالة الانقسام داخل المؤسسة العسكرية وتحقيق الانضباط المطلوب في القوات المسلحة.
– من الضروري إعادة دعوة الضباط المنشقين الراغبين والقادرين على الخدمة للانضمام إلى الجيش الجديد، حيث يحمل هؤلاء خبرات عسكرية وانضباطًا قد يُسهم في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وتعزيز فاعليتها
– الإعلان بقوة عن ملاحقة من ينشر خطاب الكراهية في المجتمع، حيث إن التحريض الطائفي والعرقي يشكل وقودًا للصراعات الجديدة، ويؤدي إلى زعزعة الاستقرار.
– أن تتوقف إجراءات التسوية القائمة حاليًا، إذ إنها توحي بأن جميع الأفراد متّهمون وعليهم إثبات براءتهم، وهو نهج يزيد من الشعور بالإهانة والغبن، ويعمّق الانقسامات داخل المجتمع، بدلًا من ذلك، يجب أن يكون هناك نهج جديد يقوم على إعادة دمج الأفراد في المجتمع، مع الأخذ بعين الاعتبار الأخطاء التي ارتكبها البعض أثناء فترة حكم النظام السابق، من دون أن يتحول ذلك إلى عقاب جماعي دائم.
– لا يمكن الاستغناء عن جهاز الشرطة السابق بمجمله، لأن خبرته أساس في ضبط الأمن الداخلي، ولا يمكن استبداله بقوات أخرى خلال فترة قصيرة، كما تحاول الحكومة الحالي، ويجب دعوة عناصر الشرطة للعودة إلى عملهم، مع ضبط أي انتهاكات سابقة، لضمان أن يصبح هذا الجهاز أكثر مهنية وفاعلية.
– أن تولي السلطة الجديدة أهمية خاصة لرفع العقوبات، والعمل الجاد على رفعها، فبدون رفعها لن يكون ثمة استثمار ولا إعادة إعمار ولا عودة لاجئين.
إن مصلحة سورية وشعبها اليوم تكمن في العمل على بناء دولةٍ لجميع أبنائها، تتحقّق فيها القيم الإنسانية التي ثار السوريون من أجلها، وتسمح بحرية التنظيم وحرية التعبير وحرية الاعتقاد، وتعزز المواطنة المتساوية، دولة بإدارة حكومية ذات كفاءة ومسؤولية، تعمل لخلق بيئة سليمة تزدهر فيها قدرات السوريين أفرادًا وجماعات.
[1] تغريدة لمدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، على منصة X، بتاريخ 10، آذار/ مارس 2025، الرابط: https://bit.ly/4iEE8WD
تحميل الموضوع
مركز حرمون
———————————-
أمّ أيمن: حارسة جثث أبنائها في الساحل السوري/ مناهل السهوي
13.03.2025
لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.
أمّ أيمن، السيدة زرقة سباهية لم تكن مجرّد أمّ ثكلى، بل حارسة ألم عميق وذاكرة قسوة بالغة. أربعة أيام قضتها بجوار جثث أبنائها وحفيدها، الذين قتلهم مسلحون متشدّدون في قريتها، تحاول منع القتلة والكلاب الشاردة من انتهاك جثثهم، بعدما منعها المسلحون من دفنهم. جلست تحرس ما تبقى من وجودهم، كما لو أن بقاءها قربهم يردّ عنهم قسوة الموت الثاني.
القتلة وثّقوا جريمتهم بالفيديو، متباهين بشماتتهم بالسيدة التي تقف مكلومة قرب جثامين أبنائها.
لا شيء في هذا العالم يُمكن أن يبرّر مشهد أمّ في السادسة والثمانين من عمرها، واقفة أمام جثث أبنائها، وحدها في وجه القسوة، تتكئ على نفسها، تُصارع الانكسار، وتُجادل قتلة سرقوا منها كل شيء إلا صمودها، لتقول لهم بما تبقى لها من قوة: “فشرت”.
وقعت الجريمة في السابع من آذار/ مارس، حين اقتحمت مجموعات أمنية، كان بعض عناصرها مكشوفي الوجوه وآخرون ملثمين، منزل العائلة في قرية قبو العواميد في ريف القرداحة، وفقاً لما روته ابنة السيدة زرقة للمرصد السوري لحقوق الإنسان. لم يكتفِ القتلة بإزهاق الأرواح، بل حرموا الأمّ من حقّ دفن أبنائها. تروي الابنة: “كانت تناوب على حراستهم ليلاً ونهاراً”.
ومنذ 6 آذار / مارس تُرتكَب مجازر بحق الطائفة العلوية، وكل من يحميها في الساحل السوري، على يد فصائل مسلحة تابعة الإدارة الجديدة، وبحسب ما قالت ابنة زرقة للمرصد السوري، قام المسلحون بتفجير أقفال المنزل بالقنابل، قبل أن ينهبوا محتوياته، ويجبروا الشبان الثلاثة على الخروج.
وقالت الابنة: “سألهم المسلحون: “أنتم علوية أم سنية؟ لا تهمّهم الاجابة: بكل الأحوال سوف تُقتلون، قالوها ثم أطلقوا النار عليهم، رغم تأكيد الشبان أنهم مدنيون، ويُدرّس اثنان منهم اللغة الإنجليزية في الجامعة”.
في الفيديو الذي انتشر على نطاق واسع، يوجّه أحد المسلحين كلاماً ساخراً للأمّ: “هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.
لا شيء يُمكن أن يبرر وقوف أمّ مكسورة أمام جثث أبنائها، بينما يضع غريب قدمه على رأس أحدهم، متباهياً بقوته العسكرية والطائفية. هذه ليست حرباً فقط، بل سقوط أخلاقي مدوٍّ، تتشابه فيه الأدوار، فيما تبقى الأمّهات السوريات وحدهن في ساحة الفقدان.
مشهد الأمّ المنكوبة أمام جثث أبنائها وحفيدها هو التجسيد الأقسى للحقد الطائفي – السياسي في سوريا. أمّ مكلومة يُطلب منها أن تسلُّم جثث أبنائها، في صورة تُعيدنا إلى أمهات فقدن أبناءهن خلال الثورة، حينما اتصل أمن الأسد بعائلاتهم، وطلبوا منهم أن يأتوا ليستلموا جثث أبنائهم بعدما نكلوا بهم.
أمّ أيمن، التي لم يكفِها فقدان منزلها في زلزال 6 شباط/ فبراير 2023، وجدت نفسها أمام فقدان أشدّ قسوة… فقدان أبنائها. تعيش في بيت متواضع، تعمل مع عائلتها في الزراعة، تُكافح كما تُكافح آلاف الأمّهات السوريات لإبقاء الحياة قائمة رغم كل شيء. أحد أبنائها الذين قُتلوا كان مترجماً وكاتباً، والآخر عسكرياً أجرى تسوية قبل ثلاثة أشهر.
ليست هذه القصة استثناء، بل صورة مصغّرة عن سوريا كلها. هذه العائلة تُشبه كثيراً من العائلات السورية في الجنوب والشمال، عائلات أنهكها الفقر، لكنها لم تستسلم، عائلات دفعت أبناءها نحو التعليم مهما كان الثمن، رغم العوز والقهر.
“هذول ولادك… نحن عطيناكم الأمن بس أنتم غدارين”، لتصرخ في وجهه: “فشرت”.
من يقتل السوريين اليوم ليس غريباً، رغم وجود المقاتلين الأجانب الذين يرتكبون انتهاكات جسيمة بلا شك، لكن يكفي متابعة فيديو الأم زرقة وسماع اللهجة لندرك أن القاتل سوري، قاتل ربما كان قبل أشهر فقط ضحية، ليجد نفسه اليوم في موقع لا يختلف عن مكان من كانوا يظلمونه.
والأكثر قسوة من الجريمة ذاتها، هو أننا بدل أن نحزن مع هذه الأمّ ونواسيها، ننشغل بالبحث في هويّات الضحايا، كأننا بحاجة إلى إثبات أنهم ليسوا من فلول النظام كي نُبرّر تعاطفنا معهم، لكن حتى لو كانوا كذلك، هل يُعاقَب الأبناء بالموت، وتُعاقَب الأمّهات بالتشفّي؟
هذه ليست مجرّد معركة أخلاقية خاسرة، بل سقوط في دوامة استرخاص للألم السوري، وللأمّهات السوريات اللواتي دفعن أثمان الثورة منذ أربعة عشر عاماً، وحتى اليوم. كأننا نُعيد إنتاج منطق الجلاد نفسه، ولكن بثوب مختلف، حيث يُقاس الحزن ويُفلتر التعاطف وفقاً للانتماءات، لا وفقاً للإنسانية.
لماذا يجب أن نبرهن أن أبناءها ليسوا فلولاً؟ لماذا نصرّ على تصنيف الموت قبل أن نسمح لأنفسنا بالحزن؟ كأننا نختار الأمهات اللواتي يستحققن التعاطف، ونتجاهل حزن الأخريات عمداً، كأن الفقدان نفسه يحتاج إلى شهادة حسن سلوك.
للحقيقة، يجب أن تكون هذه الجريمة لحظة يقظة، أن تحوّل أنظارنا جميعاً إلى المكان الصحيح، لنرى بوضوح نتائج العنف والتجييش الطائفي، ونُدرك إلى أين أوصلتنا هذه الدوّامة القاتلة. يجب أن تكون صرخة تجمعنا في موقف واحد ضد وحشية القتل، لكننا، مرة أخرى، على ما يبدو، أضعنا البوصلة.
وبدل ذلك، تحوّلت الأنظار نحو أسئلة من قبيل “إنهم من فلول النظام”، “لولا فلول الأسد لما حدث ذلك”، “هذه الصورة مزيّفة”، “نعم، قُتل علويون، لكن ليس بهذه الأعداد”، “دعهم يذوقون معاناتنا”… كلها حجج لا تدافع عن الحقيقة، بل تكشف عن خوفٍ عميق لدى أصحابها، من أن يكونوا قد تحوّلوا، دون أن يدركوا، إلى الوجه الآخر للأسد.
التبرير هو أسوأ ما يُمكن أن يحدث اليوم في سوريا، ليس فقط لأنه يعكس نهج الأسد وأتباعه في تبرير المجازر وإنكارها، بل لأنه يمثّل انحرافاً متعمداً عن الحقيقة، بهدف حماية وُجهات النظر والمعتقدات، حتى وإن كان ذلك على حساب العدالة والضحايا.
سهيل ريحان ابن زرقة وإحدى الجثث التي تكوّمت أمامها، كتب في 8 كانون الأول/ ديسمبر محتفلاً بسقوط الأسد: “وطن واحد شعب واحد، مع فجر يوم جديد، فلنوحّد جهودنا لخدمة الناس وسوريا الواحدة الموحّدة، فليكن هدفنا الأسمى بناء سوريا الجديدة في هذا العهد الجديد”.
لكن “سوريا الجديدة” قتلت سهيل، سهيل الذي وقف إلى جانب انتصار سوريا، الذي هتف لها وظنّ أنه جزء من ملامحها المقبلة. لم يُقتل لأنه قاتل ضدها، بل لأنه لم يُثبت بما يكفي أنه ليس علوياً مؤيداً للأسد، وكأن مجرّد انتمائه الطائفي بات تهمة تستوجب التصفية.
السيدة أم أيمن ليست مجرد أمّ مفجوعة، بل هي صورة لكل أمّ سورية، لكل امرأة حملت أبناءها في قلبها، قبل أن تحملهم على يديها. لهذا رأينا الكثير من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تشبّهها بأمهاتنا، فهي ليست غريبة عنا، بل نسخة من وجوه الأمهات اللواتي كبرنا في دفء أذرعهن.
تُشبه أم أيمن كل أمهاتنا، بوشاح الرأس المربوط بإحكام، والثوب الطويل، والجاكيت الصوفي الذي ربما حاكته بنفسها في ليالي الشتاء الطويلة، تماماً كما تفعل أمهاتنا. لها الاتكاءة نفسها، الحزن المكابر نفسه، والحب نفسه الذي لا يتزحزح أمام الموت والخذلان.
تقول الصحافية والناشطة مزنة أصلان التي فقدت والدها على يد قوات نظام الأسد وتهجّرت من القصير هي وعائلتها: “متضامنة مع خالة أم أيمن الي ذكرتني بـ 2011 لما فاتت قوات النظام لبيتنا واعتقلت خيي عمره 16 سنة من قدام عيونا وقعدوا يلدوعوه بالسجاير قدام الماما”.
لم يعد الموقف السياسي أو الفعل هو ما يحدّد مصير الإنسان في هذه الحرب، بل اسمه، طائفته، جذوره، نظرة الآخر إليه. هكذا، تحوّلت البوصلة الأخلاقية لكثيرين إلى الطائفة، لا أكثر ولا أقل، وكأن العدالة لم تكن يوماً هدفاً، بل مجرّد سلاح آخر في يد المنتصر.
وسط هذه المذبحة، تُهمَّش أصوات الأمّهات، تُقصى نساء سوريا عن القرار، كأن الحرب شأن رجالي بحت، وكأن الأمّهات لسن صاحبات الحق الأول في تحديد مصائر أبنائهن. هل سألهن أحد إن كنّ يُردن الاستمرار في هذا الطريق الدموي؟ أكاد أجزم أنه لو كان القرار بيد الأمّهات، لما وصلنا إلى هذا الخراب، لما كان هناك كلّ هذه القبور المفتوحة، ولا كلّ هذه الدموع التي لا تجد من يمسحها.
وكما كتبت الشاعرة وداد نبي: “ليس للأمهات طائفة أو دين، انتموا إلى دموع أمّهاتكم، لننجو معاً”.
درج
——————————-
سورية بين الأمل وخيبته/ حسان الأسود
13 مارس 2025
لا يكتفي البشر بما بين أيديهم، فطبيعتهم مختلفة عن بقيّة الكائنات الحيّة. لذلك تراهم يتطوّرون باستمرار، والتطوّر يبدأ عندهم بفكرة أو بخيال أو بحلم، ومن الأفكار جاءت العلوم، بينما ولّد الخيالُ الآدابَ والفنون، وكان نصيب الأحلام أن تخلق الثورات والحروب. يسعى الإنسان، على الدوام، إلى ما لا يمتلكه، فتراه يجوب البحار ويشقّ الفضاء ويغوص في مكنونات المادّة والنفس البشرية. يخرق الإنسان الحدود ويوسّع دوائر معارفه، ثمّ يضبطها في حيّز ليستوعبها، فاكتشف القوانين ليضبط فيها عقله المتمرّد قبل الأشياء والعوالم، ولكي يعيد دمج ذاته بالطبيعة اخترع الأديان، ثمّ اهتدى إلى وجود الخالق. ولمّا عجز عن ربط المحسوسات بالغيبيات اخترع الفلسفة، فبدأ حرفة التعميم من الجزئيات إلى الكليّات.
كانت ثورتنا السورية حلماً بمستقبل أفضل، مرّ في نومنا الذي امتدّ منذ 8 مارس/ آذار 1963، فأيقظ فينا حماسةً لا تخبو، وعزيمةً لا تلين، فصمدنا بوجه أعتى نظام بطشٍ عرفته البلاد في طول تاريخها، وانتصرنا رغم وقوف كلّ جناة الأرض في طريقنا، فكان 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 يوم الحسم مع الاستبداد بلا رجعة، وكان التحرير بداية القيامة السورية الجديدة. ولأننا دفعنا الغالي والنفيس للوصول إلى هذا اليوم، نحن نطمح إلى الكثير والأفضل. من هنا تأتي نقاشاتنا المستمرّة حول مسارات بناء سورية الجديدة، ومن هنا يأتي الثناء على كلّ إيجابية، والنقد لكل سلبية أو خطأ أو انحراف. جاء انهيار النظام نتيجة حتمية لعوامل النخر الداخلي التي صنعها بذاته، وتضافرت معها ظروفٌ إقليمية ودولية عديدة، فكانت الفصائل العسكرية القوى الوحيدة القادرة على ملء الفراغ الأمني والعسكري، وهذا أورث شرعية ثورية لا تكفي بذاتها لتغطية الفراغ الدستوري والسياسي والإداري في البلاد. حاولت السلطة الجديدة التأسيس لشرعيةٍ مقبولةٍ شعبياً ودولياً، فحكمتها توازناتُ القوى الداخلية بدايةً، الأمر الذي تمثّل بمؤتمر إعلان النصر، الذي ضمّ غالبية الفصائل العسكرية.
فرحنا بالتحرير الذي حفظ الدماء والممتلكات، تفاعلنا مع مؤتمر إعلان النصر الذي نصّبت فيه الفصائل العسكرية رئيساً خلال المرحلة الانتقالية، تساجلنا كثيراً بشأن مؤتمر الحوار الوطني، فكان فريقٌ منا يراه كافياً وقد حقّق النتائج المرجوّة منه بالتأسيس لمشروعية شعبية تغطّي ضرورات المرحلة، وتؤسّس لإعلانٍ دستوري وحكومة انتقالية ومجلس تشريعي مؤقّت. بينما رأى فريقٌ آخر أنّه قزّم من مؤتمر سوري كبير تأسيسي ثانٍ ليأتي على شكل ورشة عمل مشابهة لما تقوم به أيّ منظمة مجتمع مدني. رأي الفريق الأول أنّ الظروف الإقليمية والدولية استدعت الاستعجال، بينما رأى الثاني أنّ الظروف ذاتها تقتضي تعميق الحوار البيني السوري للوصول إلى عقد اجتماعي جديد، وعهد وطني دائم. وفي كل الأحوال، لا يمكن لنا معرفة الصواب من الخطأ في كلا الرأيين، والتاريخ سيحكم علينا وعلى ما قمنا به.
قبل أيّامٍ، ناقشنا الإعلان الدستوري واللجنة المكلّفة بكتابة مسوّدته، واختلفنا على كيفية تشكيل اللجنة، وعلى صلاحياتها وطبيعة مُخرجات عملها، وعلى موضوع الإعلان الدستوري وجوهر موادّه والجهة المختصّة بإصداره. ليس هذا الاختلاف ترفاً ولا تزيّداً، بل هو وضع صحّي، يدلّ على حراك مجتمعي قويّ يتابع الانخراط في الشأن العام. لقد ولّى الزمن الذي كان الشعب فيه مقصىً عن المشاركة في رسم مسارات حياته، وجاء اليوم الذي سنشارك فيه بصناعة حاضرنا ومستقبلنا من دون خوفٍ أو تردّد. بمرور الأعوام الأربعة عشر على اندلاع الثورة السورية، باتت البلاد حُطاماً على حطام، فلا بنية تحتية ولا اقتصاد ولا موارد مالية ولا قوى بشرية عاملة، تُضاف إلى ذلك عقوبات اقتصادية خانقة. أدّت الحرب التي شنّها النظام على الشعب إلى تذرّر العقد الاجتماعي وتفتت الهُويَّة الوطنية، وهذا عزّز الهُويَّات الفرعية، التي لم تكن دائماً على توافق مع الهُويَّة الوطنية السورية.
نناقش اليوم ما يحصل في الساحل السوري، وانقسمنا هنا أيضاً بين مُنكرٍ وجود مشكلةٍ من أساسها حاصراً الأمر بفلولٍ مجرمة، لا تريد القبول بانتصار الثورة، وتصرّ على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، ومدّعٍ وجود حرب إبادة جماعية على الأقلّية العلوية من الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية. صوت الحقيقة غائبٌ عن المشهد، فصوت الرصاص والشعبوية والخوف والتخوين أعلى من صوت العقل.
لا يماري أحدٌ بأنّ التحرير كان سلساً، ولم تقع فيه انتهاكاتٌ، أو تجاوزاتٌ بحقّ العلويين، فقد كانت أرتال السيارات المحمّلة بضباط الجيش والمخابرات وعائلاتهم تمرّ أمام قوات ردع العدوان متّجهة من دمشق وحمص وحماة وحلب إلى الساحل، من دون أن تتعرّض لها الأخيرة بالأذى. كان خطاب رئيس البلاد الجديد واضحاً أننا سنذهب إلى محاسبة الجناة من دون المساس بالأبرياء، لكنّ المتضرّرين من هذا الأمر كثيرٌ عديدهم، فكل من تلوّثت يداه طوال 14 عاماً سيكون عرضة للملاحقة، والحلّ الأمثل في رأيه استمرار الفوضى والحرب، إن لم يكن إعادة الحال إلى ما كان عليه وإسقاط العهد الجديد. المتورّطون في الجرائم بالآلاف، بل بعشرات الآلاف، فكيف لنا أن نصدّق ركونهم وقبولهم بالهزيمة؟
لكنّ النفوس محتقنة، وجاءت بعض ممارسات الإدارة الجديدة مخيّبة للآمال بالنسبة لأهالي الضحايا، فإجراء التسوية مع عدنان مخلوف وأمثاله، وإبقائهم طلقاء، شكّل صدمة كبيرة لدى الناس، وولّد شعوراً بأنّ المجرمين سيفلتون من العقاب، وهذا أدّى إلى فورة من الغضب تجلّت بالحشود الشعبية الكبيرة التي تشكلت عفوياً للتصدّي لهجمات الفلول في الساحل.
تعامل الرئيس بمسؤولية كبيرة مع هذه التطوّرات، فخطب بالشعب مرّتَين خلال 48 ساعة، وأصدر الأوامر باتباع القانون وتعليمات القادة، وعدم ارتكاب الجرائم، ووعد بمحاسبة المنتهكين. وشكّل لجنةً لتقصّي الحقائق وأخرى للسلم الأهلي، وهذه استجابة سريعة ومسؤولة، على عكس ما كان يصدُر من رأس النظام البائد، الذي تأخّر أسبوعين، قبل أن يخطب في مجلس الشعب ضاحكاً ساخراً من دماء السوريين. يبقى أن نرى وقفاً لمشاركة الفصائل غير المنضبطة، وإحالة العناصر الذين ارتكبوا التجاوزات إلى القضاء، والسماح للهلال الأحمر والدفاع المدني والإسعاف بالدخول إلى الساحل لمساعدة الناس المنكوبين هناك. يجب أن يسمح للصحافة والإعلام بالدخول أيضاً لإظهار الحقائق كما هي، فقد ولّى زمن التعتيم والتغطية على التجاوزات والجرائم. سورية اليوم في مفترق طرق، وأهلها يراوحون بين الأمل وخيبته، وعسى ينتصر الأول وتولّي الثانية بغير رجعة.
العربي الجديد
—————————–
في المظلومية السنية و العلوية السياسية/ عبد الناصر كحلوس
هي مقالتي الأولى في سوريا الحرية بعد التحرر والانعتاق، بعد النصر وهروب الجزار… بعد حوالي 62 سنة من سرقة البلاد واستلاب العباد، منذ انقلاب 63 وتوغل النظام العسكرتاري في حياتنا وأحلامنا وشراييننا… هي الحرية التي حلمنا بها وتمنيناها.
كثيرًا ما يردد الناس المثل: “كلمة الحق بتقهر”، فهل هي فعلًا كذلك؟! وكيف يرى الناس ذلك على الأرض، بعيدًا عن الميديا وثرثرتها، وعن حديث النخب وفلسفة المثقفين والمتثاقفين؟
ربما لأننا اعتدنا على المجاملات أو على النفاق وتمسيح الجوخ، بات الحق مكروهًا، والحقيقة موجعة مؤلمة، أو ربما هي تجلٍّ لمقولة عمر بن الخطاب: “ما ترك لي الحق من صاحب”. وعليه، سأتكلم بصراحة دون مواربة، حتى لو كانت جارحة.
فلا سكوت بعد اليوم، بعد الثمن الباهظ الذي دفعناه جميعًا، يجب أن نتكلم ونسمي الأشياء بمسمياتها، ونفتح كل الجروح ونعقمها حتى لو آلمتنا، وننبش كل الألغام وننزع فتيلها، حتى نبني سوريا بقواعد سليمة وعلى أرضية صحيحة نظيفة، كما نتمنى ونشتهي.
باتت مفردة “الأقليات” الكلمة الأكثر تداولًا وانتشارًا بعيد التحرير، وصار الحديث بها وعنها “ترند” كما يقال بلغة الميديا. وحاولت جاهدًا ألّا أتحدث عنها، لكن غلبتني شهوة الكتابة بعد الحرية أولًا، واللغط الذي قد يحدث شررًا قد لا تحمد عقباه ثانيًا، فرأيت أن أدلي بدلوي فيما أعتقد.
هناك فهم خاطئ، سهوًا أو عمدًا، لمفهوم الأقلية والأكثرية، حين يكون المعيار هو الكم والعدد، لا الفعل وقوة التأثير. فالطائفة السنية أو السنة في سوريا هم أقلية منذ انقلاب 63 وتسلم اللجنة العسكرية وبداية تحييد المكون السني من مراكز القرار والفعل، ومن المناصب الفعلية السيادية، والإبقاء على ديكورات سنية كركوزاتية هنا أو هناك. وتبعها لاحقًا تحييد مكونات أخرى كالدروز مثلًا (حركة تسريح الضباط الدروز بعد قتل حاطوم)، ثم العمل على “علونة” الدولة، وزج الطائفة العلوية كواجهة لحكم عائلة الأسد (وهو أحد أسباب الخلاف مع صلاح جديد ورفاقه وحبسهم)، فيما سمي بـ “الحركة التصحيحية”.
ما جعل كل الإدارات الهامة والحساسة، كالجيش والأمن والمخابرات، تدار بقيادات علوية، حتى وإن بدا في الواجهة ضباط سنة. ولا يختلف الأمر كثيرًا في كافة مناحي الحياة السورية من مدراء ووزراء ومحافظين، مع إطلاق يدهم بلا رادع ولا قانون في النهب والفساد والإفساد، لا بل وزاد على ذلك استصدار قوانين تحميهم من الملاحقة القانونية أو العقابية، إضافة إلى قوانين الإيجار والاستيطان في المدن الكبرى، ونقل النفوس والخلط واللغط لصالح الدوائر الانتخابية… إلخ، مما عرفه السوريون وعاشوه وعانوه.
وجاءت مجزرة حماة وأحداثها والاستهداف السني “المظلومية السنية ” . لتكرس العلوية السياسية وهي وليدة توظيف العصبية الطائفية في لعبة السلطة و تحولت اللهجة العلوية وطريقة نطق حرف القاف إلى جواز مرور، وصار البعض من غير الطائفة يستخدمه على مبدأ التقية، وباتت اللهجة العلوية ومكان قيد النفوس في البطاقة الشخصية (إن كان “من فوق، من الضيعة أو محيطها”) جواز مرور دبلوماسي في دوائر الدولة ومفاصلها، يضفي حصانة ورهبة لحامله.
واستمر الحال على ذلك حتى بداية الثورة السورية، آذار 2011، حين قرر بشار الأسد الحرب على السوريين، وأعاد الاعتبار للمكون السني وجعله الأكثرية!! فكانت أكثرية المدن التي دمرت سنية، وأكثرية الشهداء من السنة، وأكثرية المعتقلين من السنة، والمهجرين من السنة، والمفقودين والملاحقين من السنة، وأعيد الاعتبار لهم ولكن بأكثرية الموت.
هل يعني ذلك أن كل الطائفة العلوية كانت مع الأسدين؟ لا أبدًا، فهناك مهمشون وفقراء ومعارضون علويون دفعوا أثمانًا من حياتهم في معارضة الأسد، ومنهم من القرداحة نفسها، معقل حافظ الأسد. وإن كانت غالبية الطائفة العلوية قد تم اختطافها عبرتفقيرقراها وتغييب أي خدمات أو فرص عمل، لزجهم بطريق واحد هو الدولة والقائد.
قد يخطر لسائل : ألم تشارك باقي المكونات بالثورة ؟ الجواب : نعم شاركوا وقدموا شهداء على مذبح الحرية، كما كل مكونات الوطن السوري، وكل أصيل وحر، ومنهم من العلوية أيضًا. ولكن كانت مشاركاتهم فردية، على كثرتها أو قلتها، ولم تتحول لحالة جمعية أو تترافق ببيان من مجموعة أو كتلة ما أو جهة ما أو كنسية ما , هذه الحالات (طبعا لها أعذارها ومبرراتها). ولا ينفي ذلك وطنيتها وسعيها للحرية ونصرة أبناء وطنها.
وجاء يوم 8/12/2024، وهرب الأسد، وانتصر البلد، وتحقق الحلم و أكثر، فعموم السوريين أنهكهم التعب، وتسلل لقلوبهم اليأس من فشل المحاولات خلال 14 سنة للإطاحة بالأسد، ولكن الفجر انبلج وسوريا حرة بدون الأسد… حصلت المعجزة والمفاجأة للناس والدول معًا، كيف حدث ذلك بدون أي تدخل خارجي أو تقسيم أو وصاية وبأيدي أبنائها؟! وأخيرًا تنفس السوريون الحرية.
وبدأ السوريون كمن خرج للضوء بعد سنين في العتمة، وظهر ذلك جليًا في تعبيراتهم عن الحرية وانفعالاتهم في الساحات. فقبل أن يفرغ أهالي المعتقلين من البحث عن ذويهم، أو أن يأخذ السوريون حيزًا لحزنهم والبكاء على من فقدوا، خرجت أصوات تتساءل عن شكل الدولة، وعن النسوية، وعن الدستور، وعن المحاسبة والقصاصوعن وعن !! مما أثار موجة غضب بين عموم السوريين المكلومين، خصوصًا بعد كشف أسرار السجون والمعتقلات والمسالخ البشرية، وعلى رأسها سجن صيدنايا.
وهُنا، وبسببِ الاستقطابِ الرهيبِ والاحتقانِ بين المظلومية السنية والعلوية السياسية ، اعتقدَ الكثيرونَ أنَّ العلويينَ سينكفئونَ في مدنِهم وقُراهُم، وسيخبُو صوتُهم ولو لفترةٍ حتى تهدأَ النفوسُ وتمضيَ الأيامُ الأولى فالمشهد عظيم ومهول…. إلَّا أنَّ العكسَ حدث.
وبدأتِ القصةُ حينَ أعطتِ السلطةُ الجديدةُ مهلةً لتسويةِ أوضاعِ العسكريينَ أو المقاتلينَ أو فلولِ النظامِ وتسليمِ أسلحتِهم، وبعدَ مضيِّ المهلةِ وبدءِ التمشيطِ وحدوثِ بعضِ التجاوزات، خرجَ بيانٌ يدَّعي تمثيلَ العلويينَ أشعلَ النارَ. فقد كان ينبغي أن يُعلنَ، وبِلُغةِ التسامحِ ولهجةِ التوددِ، اعتذارَ الطائفةِ للشعبِ السوريِّ عن تحكُّمِ عائلةِ الأسدِ بها، وتجنيدِ غالبيتِها لخدمةِ بطشِه، وعن إدانتها لكلِّ من تلطَّختْ أيديهِ بدماءِ السوريينَ، واستعدادِها لتسليمهِ لقضاءٍ عادلٍ نزيهٍ، وأنَّها كانتْ مغلوبةً على أمرِها ومختطَفةً من الأسدِ.
لكنَّ ذلكَ لم يحصلْ، بل جاءَ الخطابُ بفوقيةٍ ولهجةِ السلطةِ وفرضِ الشروطِ، وليُختتمَ بالوعيدِ والتهديدِ!! وتتابعتْ بعدَه بعضُ الحوادثِ في الساحلِ، وبياناتٌ أخرى ادَّعى مُطلقوها أنَّهم مشايخُ الطائفةِ، وتطوَّرَ الأمرُ معهم من التهديدِ إلى طلبِ الحمايةِ الدوليةِ والتدخُّلِ الخارجيِّ، ما دفعَ بعضَ المكوناتِ أيضًا لطلبِ العونِ حتى من إسرائيلَ!!
ويجدرُ التنويهُ أنَّ هذا الطرحَ لا يُمثِّلُ الطائفةَ ولا بقيَّةَ المكوناتِ، فقد ظهرتْ أصواتٌ علويةٌ وطنيةٌ غلَّبتْ سوريَّتَها على طائفيَّتِها، ورفضتْ ذلكَ جملةً وتفصيلًا، لا بل وهاجمتْه، وطالبتْ أن تُحلَّ مشاكلُنا تحتَ سقفِ سوريَّتِنا، وأنْ ينضويَ الجميعُ تحتَ سلطةِ الدولةِ، وأن الخلاص من الأسد خلاص للجميع وأن مستقبل سوريا الحرة هدفنا و كلُّنا سوريونَ أولًا وقبلَ كلِّ شيءٍ.
مما أوردْنا أعلاهُ نلحظُ أنَّ الأسدَ نجحَ إلى حدٍّ ما في ترسيخِ فكرةٍ لدى عمومِ السوريينَ أنَّ العلويةَ والسلطةَ والاستبدادَ والقمعَ والأسدَ واحدٌ، وأنَّ المستهدَفَ هو الأكثريَّةُ العدديَّةُ السُّنيَّةُ، دونَ أنْ يُعفيَ باقي المكوناتِ من الضررِ أيضًا. وهُنا توجَّبَ على الجميعِ التحلِّي بأخلاقِ وشعاراتِ الثورةِ: واحد واحد، الشعبُ السوريُّ واحد، وأنْ تكونَ العدالةُ الانتقاليةُ هي المقدِّمةَ نحوَ السِّلمِ الأهليِّ، دونَ أنْ يُعفيَ ذلكَ المكوناتِ جميعًا من استحقاقاتٍ تتمثلُ بـ:
- هناكَ فلولٌ للنظامِ السابقِ ومنتفِعونَ ومهرِّبونَ وتجارُ مخدراتٍ سيضربونَ على وترِ السِّلمِ الأهليِّ، كما أنَّ هناكَ خلايا لدولٍ لا يعجبُها التحريرُ، وهناكَ ميليشياتٌ نائمةٌ، وهناكَ وهناكَ… الكلُّ يتربَّصُ بسوريا وحريتِها، فيجبُ الوعيُ والحذرُ.
- يجبُ أن يتحلَّى المكونُ السُّنيُّ بخُلقِ الثورةِ وتعاليمِ شريعتِهِم بالعدلِ والإحسانِ والتسامحِ، وأنَّه لا تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى، وأنَّ خسارتَهُ الكبيرةَ كانتْ مِهرًا للحريةِ، وأنَّ الآخرينَ خسروا أيضًا، وإنْ بنسبةٍ أقلَّ، لكنها كبيرةٌ نظرًا لصِغرِ مكوِّنِهم، والابتعادِ عن روحِ التشفي والانتقامِ والثأرِ وفكرةِ المظلوميةِ حتى نَبنيَ وطنًا، لأنَّ ذلكَ لا يُفضي إلَّا إلى الخرابِ والدمارِ والخسارةِ للجميعِ.
- أن يُبادرَ العلويونَ أفرادًا أو كياناتٍ إلى الاعتذارِ من الشعبِ السوريِّ، والاعترافِ بجرائمِ النظامِ، والاعترافِ بزجِّ الطائفةِ معه في حربِه، وتوجيهِ الأصابعِ إلى من ساندهُ منهم، وذكرِ أسماءِ من ساعدَهُ في القتلِ وسفكِ الدمِ، وتسليمِهم، والإرشادِ عنهم، ودعوةِ العقلاءِ منهم لضبطِ النفسِ حيالَ كلامِ التعميمِ من البعضِ والخلطِ بينَ النظامِ والعلويينَ تدريجيًّا سيزول ، لنمنح الوقت لاستتبابِ الأمنِ والعدالةِ الانتقاليةِ التي تُنصفُ الجميعَ، وتقبُّلِ فكرةِ أنَّ العلويينَ اليومَ مواطنونَ عاديونَ، وليسوا سادةً أو قادةً أو أصحابَ امتيازاتٍ، وأنَّ لهم حقوقًا وعليهم واجباتٌ أسوةً بكلِّ سوريٍّ في الوطنِ.
- الحفاظُ على النصرِ والدفاعُ عنهُ، والعملُ على التنميةِ والنهوضِ بالبلدِ، وأنَّ الإصلاحَ درجةٌ درجةٌ ويحتاجُ إلى وقتٍ.
يجب ان نعي أن سوريا فعليًّا فيها طائفتانِ:
طائفةُ القتلِ والإجرامِ، وتتمثَّلُ بالنظامِ وكلِّ من وقفَ معهُ وساندَه وشاركه بأي شكل.
طائفةُ الشرفاءِ، وهي كلُّ من عارضَ الأسدَ، وظُلمَ، وأيَّدَ الثورةَ، ووقفَ معها ودعمها .
كلُّنا سوريونَ، وكلُّنا عانينا من تسلُّطِ وبطشِ النظامِ، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتةٍ. لا فضلَ لأحدٍ على أحدٍ في الثورةِ، ولا لمدينةٍ على مدينةٍ… كلٌّ قدَّمَ على قدرِ استطاعتِه ونحن ننظر للمستقبل… سورية لوحة جميلة بكل ألوانها.
انتصرَتْ ثورتُنا، ويجبُ أنْ ننتصرَ نحنُ على خلافاتِنا وعلى وجعِنا، وأنْ نمضيَ قُدُمًا نحوَ سوريا الجديدةِ، وأنْ نحيا من اليومِ
مواطنينَ لا رعايا شركاءَ لا أُجراءَ أحرارٍ لا عبيدَ
————————————
سورية ما بعد الأسد في امتحان المواطنة الجديدة/ دلال البزري
13 مارس 2025
مشكلة “الأقلّيات” في سورية، على مختلف ألوانها، كانت جليّةً منذ سقوط بشّار الأسد وتولّي أحمد الشرع زمام السلطة. كانت مع الأكراد، الأقلّية العرقية الأولى، ثمّ كانت مع الدروز، والآن العلويين، ومعارك دارت في قلب منطقتهم الساحلية بقراها وبلداتها، في اللاذقية وجبلة وطرطوس، سُجّلت فيها انتهاكاتٌ مروّعةٌ بحقّ مدنيين علويين، وأرواحهم وممتلكاتهم وكرامتهم، بلغ عدد ضحاياها ألف قتيل. وبرز خلال المعارك اسما غياث الدلّة وإبراهيم حويجة، المرتبطين بأجهزة القتل السورية في ظلّ حكم بشّار الأسد. وهذه واحدةٌ من مؤشّرات شراسة المعركة، والمقبل منها. وقد تنجح السلطة الجديدة الشرعية بكبح جِماح قادتها، في المديَين القصير أو المتوسّط، ولكنّ انتصاراتها ستكون أمنيةً – عسكريةً وحسب. أمّا الباقي، أي الشروط السياسية والمعنوية والقانونية والدستورية التي ستحمي هذا الانتصار، فيعوزها كثيرٌ من التغيير، وإلا عادت الأقلّية العلوية، وغيرها من أقلّيات، إلى خوض معارك حقوقها المهدورة في حصّتها من السلطة الجديدة.
ما يُحرّك أولئك المتمرّدين، ما يؤمّن لهم حاضنةً شعبيةً، أو بيئة حصينة، الحقوق التي يرونها آخذةً في النقصان، من يوم حيازة الشرع السلطة، وما يُعزّز إحساسها هو المناخ المفعم بالأفعال والأقوال المنثورة بطريقة منظّمة وفوضوية، في آن معاً، أن السُنّة السوريين (وهم الغالبية) انتصروا على العلويين، وأن عليهم استعادة حقّهم في الحكم. من الطبيعي أن تبدأ المعارك بتلك “الهبّة” الجهادية، التي أطلقها مشايخ إدلب لـ”جهاد” ضدّ العلويين، لنجدة جيش الإدارة الجديدة، والخروج من المساجد في مناطق أخرى لإطلاق صيحات “الله أكبر”، والمطالبة الجماهيرية بحمل السلاح ضدّ العلويين المنتفضين، ناهيك عن تعبيرات سبقت ذلك كلّه، خلال الأشهر الثلاثة الأولى لحكم أحمد الشرع، تشي بأن جماهير غفيرة من السوريين منضوية تحت ثأر تاريخيٍّ، حان الآن قطافه. شعاراتٌ من نوع “إقصاء العلويين”، ورميهم بأوصاف قذرة، أو ربطهم بـ”اجتثاث البعث”، وتعرّض العلويين أفراداً وأبناءَ قرى (ريف حماة خصوصاً) لمضايقاتٍ لفظيةٍ وجسديةٍ عشيّة الحدث، عند الحواجز والطرقات وفي داخل القرى، وضغوط من نوع مواعظ لبس الحجاب، كأنّها ردّ على نزعه أيام رفعت الأسد… وغيرها من الممارسات والشعارات الرائجة وسط أفراد الفصائل والجماهير “المؤمنة” بالشرع.
تلك هي الملامح العريضة لـ”البيئة” السُنّية الجماهيرية في سورية بعد تولّي الشرع رئاستها. ويمكن أن تكون إيران ومليشياتها على صلةٍ بهذه الثورة المضادّة، على درجةٍ متساوية، أو أقلّ أو أكثر من تدخّل إسرائيل في السويداء واستغلالها رفض الدروز السلطة الجديدة بطابعها السلفي، الأنتي علماني، أو من تدخّل أميركا لحماية الأكراد، في وجه العداء المطلق بينهم وبين تركيا. وهذه الأخيرة تنتظر من الشرع تسديد ديونه بدعمها حركته، أو من مؤازرة الروس المدنيين العلويين اللاجئين إلى قاعدتها العسكرية في حميميم، هرباً من مجازر تعرّض لها جيرانهم في أنحاء اللاذقية القريبة، أو المسيحيين الموزّعين في أنحاء سورية، الذين لا يملكون أرضاً ينطلقون منها للتعبير عن خوفهم من الدولة السلفية، ولكنّهم يتمرّدون بالهجرة من سورية بأعداد متزايدة، وبمساعدة الكنيسة.
في خطابه إلى المنتفضين من العلويين، يقول أحمد الشرع: “أنتم اعتديتم على كلّ السوريين، وارتكبتم جريمة لا تُغتفر، فكان ردّنا عليكم، ولم تتحمّلوه. ألقوا سلاحكم، وسلّموا أنفسكم قبل أن يفوتكم الوقت”. لم يتحدّث بلهجة سلمية، لأنه مثل جماهيره، أو انسجاماً مع جماهيره، يأخذ الثأر بعين جدّية. يزيد الثأر من شعبيّته في وسطهم، وهو لا يحتاج إلى غيرهم. والثأر يعفيه من التفكير بالبراغماتية التي تتسم بها كلّ صلاته مع الخارج ومع الداعمين. وقبل ذلك، كان ما تفوّه به كلّه عبارات عامّة، تشبه البيان الختامي الذي خرج به “مؤتمر الحوار الوطني”، وقد جمع شخصياتٍ سوريةً بارزةً، اختارها بنفسه، فكان شبيهاً بالمؤتمرات العربية، غارقاً في عموميّاته عن “وحدة سورية”، و”تعزيز الحرّية”، و”حقوق الإنسان”، و”ترسيخ المواطنة”، و”نبذ أشكال التمييز على أساس العرق والدين والمذهب”، وتحقيق “مبدأ تكافؤ الفرص بعيداً من المحاصصة العرقية والدينية”. يفترض بهذه التوصيات أن تكون الأكثر انفتاحاً على مبادئ الحداثة السياسية، وموضوع الأقلّيات، ولكنّها مجرّد توصيات، يمكن أن تتكرّر عشرات السنوات، من دون أن تتكلّم أبداً عن “الكيفية”، أي كيف تكون “المواطنة”، و”الحرّية” و”نبذ أشكال التمييز”… إلخ. فرجال الشرع الذين ينفّذون قراراته، جاؤوا من تجربة حكم سلفي عمرُه عشر سنوات، وهذا الحكم انتصر، وبقوا على سلفيّتهم، على قِصاصاتهم ضدّ المدنيين، محكوميهم في إدلب. قرارات الإعدام “الديني” التي نفّذوها، وفرمانات الموت والجهاد لديهم… كلّها لم تتغيّر، بل لم يُسمح بتناولها، إما بتغطيةٍ من الحماسة الشعبية، التي رأت في سقوط بشّار معجزةً إلهيةً، أو بالمنع المُبهم في تناول سيرة أصحاب هذه التجربة السلفية الحاكمة، فكيف يكون بذلك تنفيذ توصيات مؤتمر عن “المواطنة” و”الحرية”… إلخ؟
قد تكون المجازر المرتكبة بحقّ المواطنين السوريين المدنيين العلويين هي من قرارات هؤلاء الرجال لابسيّ ربطة العنق والطقم، لكن المؤكّد أن منفّذي المجازر بحقّ العلويين هم من أصناف المذكورين أعلاه القادمين من إدلب، والمعارك التي سينتصرون فيها أمنياً على البؤر المتمرّدة ستعجلهم أكثر تمسّكاً بعقيدة انتصارهم (السلفية)، النمط الذي لا يقبل اختلافاً وتعدّداً، لا في الآراء ولا في الطوائف، والذي يستوحي قوانينَه ممّا يفهمه من الشريعة. تبيّن أن أحمد الشرع عبقري في البراغماتية، استطاع أن يقنع العالم كلّه بأنه تخلّى عن تنظيم القاعدة وهيئة تحرير الشام، وصار الآن رجل دولة، وهذه حالة تجدها في مدّونات التاريخ، فيتحوّل صاحب الدور الأكبر إلى عكس ما كان عليه، مع إضافة أن ثمّة مسافة طويلة بين ما كان عليه الشرع وما يريد أن يصبح اليوم، من سلفيٍّ إلى عصري، يقنع العالم بأنه يريد العمل لدولة الحقوق والمواطنة. استطاع الشرع أن يتغيّر، وأن يتكلّم بلسان معاصريه، ولكن كيف لرجاله أن ينتقلوا من ذهنيةٍ سلفيةٍ، هي حكماً طائفية، إلى ذهنية المواطنة؟ وهل الإجابة عن هذا السؤال كافية لتحديد مصير الانتفاضات المقبلة، أم أن الحلّ الأمني سوف يطغى على غيره، فنكون في بداية طريقنا نحو ما يشبه دولة “البعث” الأسدية؟
سورية مثل لبنان، بحاجة أولاً إلى بناء دولتها. لا تبنيها براغماتية رئيسها وحسب، التي لا نعرف حتى الآن إلا سطحها، إنما رؤية صريحة متينة، أساسها الحرّية والمساوة، لا تخرقها طموحات هذه الدولة أو تلك، أو مظلوميات يمتزج فيها الحقّ بالباطل.
العربي الجديد
—————————–
عن إدارة الشرع وقدرته على اقتناص الفرص/ محمود علوش
2025.03.13
كان التمرد الذي قادته خلايا نظام المخلوع بشار الأسد في مناطق الساحل في السادس من مارس آذار الجاري اختباراً صعباً للرئيس أحمد الشرع على عدّة مستويات.
وحقيقة أن أهداف مؤامرة التمرد تتجاوز إخراج الدولة من مناطق الساحل إلى إسقاط الدولة السورية الجديدة وإشعال صراع طائفي وتأجيج مشاريع التقسيم التي تُهدد سوريا على الأطراف (قسد، الساحل، الجنوب) جعلت تعامل الشرع مع هذا الاختبار حاسماً ليس فقط على صعيد إظهار قدرة الدولة الجديدة في التعامل مع التحديات الأمنية الكبيرة، بل أيضاً على صعيد قدرتها في مقاربة التحدي الأمني من منظور المخاطر التي يجلبها على استقرار المرحلة الانتقالية ووحدة سوريا.
وهنا لا بُد من تسجيل بعض الخلاصات المُهمة لأحداث الساحل. الأولى أن الحكومة الجديدة ورغم أنها تبني سوريا من الصفر خصوصاً على مستوى المؤسستين العسكرية والأمنية قادرة على على التعامل بفعالية مع المخاطر الأمنية الكبيرة. والثانية، أن الحزم الذي أظهره الشرع في قمع تمرد الساحل أظهر إدراكه لمخاطر هذه المؤامرة وأهدافها الرامية إلى إشعال حرب أهلية تبدأ في الساحل وتنتشر في عموم سوريا وإلى تأجيج مشاريع التقسيم. والثالثة أن الانتهاكات المروعة التي ارتكبت بحق المدنيين في الساحل أظهرت فشل الدولة الجديدة في التعامل الاستباقي والفوري مع العوامل الذاتية التي تُساعد الأعداء الواضحين على تحقيق أهدافهم. مع ذلك، تُظهر إدارة الرئيس الشرع لاختبار الساحل براعته في تحويل الأزمات إلى فرص.
فمن جانب، نجح الشرع في تحويل مؤامرة الساحل من مؤامرة لإسقاط الدولة الجديدة إلى مؤامرة تستهدف إشعال حرب أهلية في سوريا وتُحاول توظيف المكونات السورية المختلفة كوقود لها. كما أن تأكيده على الحاجة للوحدة الوطنية وحماية السلم الأهلي كان موجّهاً بدرجة رئيسية إلى هذه المكونات لإظهار حجم المخاطر التي تُهددها. ومن جانب آخر، فإن إقرار الشرع بحدوث انتهاكات مروعة بحق المدنيين في الساحل ومسارعته إلى تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة بها وتوعّده بمحاسبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا أقرب الناس إليه، ساعداه أولاً في التأكيد على أن هذه الانتهاكات لم تكن سياسة دولة مُمنهجة، وثانياً في إظهار التزام الدولة بالتعامل مع أحداث الساحل من منظور عقلية الدولة وليس من منظور عقلية الثأر والانتقام.
علاوة على ذلك، فإن مسارعة الشرع إلى إبرام اتفاقية مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية لدمجها في الدولة الجديدة ثم إبرام اتفاقية مع وجهاء وأهالي محافظة السويداء الجنوبية لدمجها في الدولة أيضاً بالتزامن مع انتهاء العمليات العسكرية في الساحل، أظهرت براعته في تحويل التداعيات السلبية لأحداث الساحل على صورته وعلى صورة الدولة الجديدة إلى فرص لإظهار أن هذه الإدارة تعمل على تقليص عوامل الفوضى في سوريا لا تأجيجها، وهذا يُرسل رسائل طمأنة لبعض المكونات الداخلية المتوجسة من الإدارة الجديدة خصوصاً في الشمال والساحل والجنوب، ورسائل طمأنة أيضاً للمجتمع الدولي الذي يُراقب عن كثب كيفية إدارة الشرع لسوريا في هذه المرحلة الحساسة ولكيفية تعامله مع التحديات التي تُهدد السلم الأهلي والمجتمعي.
إن الجرائم المرتكبة بحق المدنيين في الساحل أضرت بالشرع والدولة السورية الجديدة أكثر من أي طرف آخر. ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم حاجة للشرع قبل أي طرف آخر ليست فقط من أجل إعادة ترميم صورة الشرع داخلياً وخارجياً، بل أيضاً من أجل تدشين ملف العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية. إن نهج الشرع علاوة على أنه يُقدم فرصاً جديدة للتحول السوري لتحقيق أقصى مشاركة وطنية فيه ولتحقيق المصالحة المجتمعية، ساعد في إسقاط مشاريع تقسيم سوريا مثل أحجار الدومينو بعد إفشال مؤامرة إسقاط الدولة ونجاح الشرع في تمكين السلطة الجديدة. واتفاقات دمج السويداء في الدولة بعد قسد خطوة إضافية نحو تفكيك مشاريع التقسيم. ويُظهر هذا النهج أن الشرع يُدير التحديات الداخلية الهائلة والتحديات الخارجية المُحيطة لسوريا من منظور الفرص قبل المخاطر.
جلبت أحداث الساحل فرصاً مُتعددة للشرع إذا ما أحسن استثمارها. على المستوى. الداخلي، تعزيز القبول الداخلي بالسلطة الجديدة لأنها السبيل الوحيد لمواجهة مشروع الحرب الأهلية وتقديم الدولة الجديدة كدولة لجميع السوريين من خلال تحويل الأزمة إلى فرصة للشروع في تحقيق المصالحة المجتمعية ومعالجة مظالم الحرب. تفكيك مشروع “الصراع الوجودي للأقليات” وهذا يترتب عليه خطوات جريئة خارج الصندوق. وكذلك التخلص من العوامل التي ما تزال تُفسد اعتدال الشرع وثقافة الدولة. وعلى المستوى الخارجي، فإن استثماراً داخلياً صحيحاً للأحداث، يُمكّن الشرع من تعزيز القبول الدولي به كضامن لمنع انزلاق سوريا إلى حرب أهلية ومن استثمار مشروع الفوضى لإقناع المُترددين بالتعامل معه في الخارج (الولايات المتحدة خصوصا) بأنه إدارته ضمانة لمنع عودة استثمار إيران وحلفائها الإقليميين في سوريا.
إن التوجه الدولي العام في سوريا هو لدعم إدارة الشرع. في الغالب، يُنظر في الخارج إلى أحمد الشرع على أنه الزعيم السوري الوحيد القادر على قيادة سوريا إلى الوحدة والاستقرار ومنع تحولها إلى بلد مضطرب ومصدر تهديد للأمن الإقليمي والعالمي. ما يهم العالم قائد قوي يفهم طبيعة سوريا وبراغماتي. ومن مفارقات الحالة السورية أن الإرث الثقيل الذي ورثه أحمد الشرع عن المخلوع الفار إلى موسكو، تعمل كمُحفزات قوية لإنجاح تجربته وليس العكس. قدرة الشرع على استثمار هذا الإرث بشكل صحيح تُحدد حجم الفرص التي يوجدها له. وحتى الآن، يُمكن القول إنه بارع في تحويل الإرث إلى فرص.
تلفزيون سوريا
———————
كيف تنجو سوريا من «نظام الأبد»؟
رأي القدس
تحديث 13 أذار 2025
شهدت سوريا، منذ السادس من الشهر الحالي، تدهورا أمنيا غير مسبوق، أدى إلى أسوأ موجة عنف منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون أول/ ديسمبر الماضي. بدأت الأحداث مع قيام مجموعات مسلحة مرتبطة بالنظام السابق بهجمات واسعة منسقة مما أطلق عمليات دفاعية للقوات الحكومية شاركت فيها فصائل عسكرية محلية، وتنظيمات إسلامية أجنبية، بالإضافة إلى مجموعات محلية من المدنيين المسلحين الذين قدموا لدعم القوات الحكومية. تطوّرت عمليات ملاحقة المهاجمين من الموالين للأسد إلى مواجهات عنيفة ارتكبت خلالها انتهاكات جسيمة بطابع انتقامي وطائفي.
حسب «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» فقد كان للفصائل المحلية والتنظيمات الإسلامية الأجنبية التابعة شكليا لوزارة الدفاع الدور الأبرز في ارتكابها. شمل ذلك عمليات قتل جماعي ممنهجة، واستهداف المدنيين، بمن فيهم أفراد طواقم طبية وإعلامية وعاملين في المجال الإنساني، كما طالت الانتهاكات المرافق العامة وعشرات الممتلكات العامة والخاصة، متسببة في موجات نزوح قسري طالت مئات السكان، ووثقت الشبكة عدد القتلى بين 6 و10 آذار/مارس بـ 803 أشخاص قتلوا «خارج نطاق القانون» بينهم 39 طفلا و49 سيدة، و27 من الكوادر الطبية وذلك في محافظات اللاذقية وحماة وطرطوس وحمص، فيما قدّر «المرصد السوري لحقوق الإنسان» حصيلة القتلى، حتى أمس الأربعاء، بـ1383 «غالبيتهم العظمى من العلويين».
تمثّل أحداث العنف الجارية في سوريا انفجارا فظيعا، إلى حدّ كبير، لتفاعل عوامل تراكمت خلال أكثر من نصف قرن من حكم طغيان الأسدين، الأب حافظ، والابن بشار، و14 عاما من الإجرام المهول ضد الثورة الشعبية السورية عام 2011، شكّلت الطائفية إحدى أدواته التي استهدفت بشكل ممنهج ومتقصد المكوّن الاجتماعي السنّي الذي قتلت وعذبت واختطفت منه مئات الآلاف، ودمّرت حواضره ومدنه وبلداته وقراه، ودفعت الملايين إلى اللجوء والنزوح.
أدى هذا التسعير الطائفي للسياسة والاجتماع السوريين، وانعدام الأمل بحماية دولية للسوريين (وخصوصا بعد تراجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن «خطّه الأحمر» فيما يخص استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية) وإحباط جمهور الثورة من إمكانيات التغيير، في اشتداد نزعات التطرّف الديني، والوعي الطائفي، واستقواء الاتجاهات الجهادية الراديكالية، وتضافر ذلك مع عقابيل الاحتلال الأمريكي للعراق، والحرب الطائفية بين الشيعة والسنة التي تبعته، في تعزز شعبية تنظيم «القاعدة» وخلفه تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي اجتاح شمال شرق سوريا وأعلن «خلافة» في مدينة الرقة عام 2014.
معلوم أن الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع كان أحد «المجاهدين» الذين ذهبوا للعراق لقتال الأمريكيين وأنه بعد سجنه وإطلاق سراحه عاد إلى سوريا مع أشخاص قلائل حيث أنشأ تنظيما سلفيا مسلّحا («جبهة النصرة») ثم أعلن على التوالي انشقاقه عن تنظيمي «الدولة» و«القاعدة» (وحربه عليهما) واتخاذه اسم «هيئة تحرير الشام» التي صارت أكبر الفصائل التي حكمت محافظة إدلب وصولا إلى هجومها الكبير الذي قضى على نظام الأسد.
يظهر التدرّج الزمنيّ الآنف مسارا معقدا للتطوّر من «الجهاد ضد الاحتلال» والتطرّف السلفيّ المسلّح الكاره للعالم، إلى تصالح للتديّن الشعبي مع الوطنية السورية والعداء لنظام الأسد، وهو مسار ما زال يتطوّر باطراد، ولكن ليس من دون عوائق كبرى، داخلية، كما حصل في هجوم الفلول، أو خارجية، وهو ما تمثّله هجمات وتوغلات وتهديدات إسرائيل.
لا تصلح «جهادية» وسلفية «هيئة التحرير» والفصائل الإسلامية الأخرى، لتفسير ما يحصل حاليا، فنظام الأسد المخلوع، «العلماني» و«القومي» و«الحداثي» كما اعتادت أدبيات غربية وعربية على وصفه، كان، إضافة إلى تغوّله الطائفي، نظاما إباديا بالتعريف (يتحدث «حفار القبور» الذي شهد في محكمة ألمانية أن النظام كان يدفن قرابة 7000 شخص كل أسبوع يتم تجميعهم من سجونه ومراكز اعتقاله) كما أن أغلب التيارات السياسية العربية، قومية وشيوعية وإسلامية، تسببت بمجازر.
تشير الخطوات السريعة التي اتخذتها السلطات السورية الحالية، من إعلان لجنة للسلم الأهلي ولجنة للتحقيق في أحداث العنف الأخيرة، إلى افتراق ملحوظ عن النظام السابق، كما تشير الخطوات السياسية، السريعة أيضا، من إعلان اتفاق أولي مع الأكراد، و«محضر تفاهم» مع دروز السويداء، إلى اتجاه محمود إلى التعاطي مع المكونات السورية يقطع بشكل كبير مع ممارسات نصف القرن الماضي لحكم الأسدين.
يرغب السوريون في دولة تمثّلهم وتضمّهم جميعا، بمن فيهم العلويون والدروز والأكراد وباقي المكونات الدينية والإثنية، ويتحوّل فيها السنّة من طائفة وعصبية (بسبب مقتضيات الصراع) إلى جزء من المكوّن العام، يسهم في ضمان العدالة والتنمية والاستقرار، ليس بالمحاصصة واتفاقات الطوائف، بل بنظام مدني ديمقراطي ليعيد سوريا إلى سكّتها التاريخية العظيمة ويشرك الجميع في البناء ويوفر آليات الحراك السياسي والاقتصادي والاجتماعي وينهي «نظام الأبد» الأسدي إلى الأبد.
القدس العربي
—————————-
حين يصبح الإنكار جريمة ثانية.. السادس من آذار وعودة سوريا لدائرة الدم/ إبراهيم زرقة
2025.03.13
كنا، أنا ورفاقي، ننتظر شهر آذار بلهفة مليئة بالأمل، عازمين على أن نجعل من هذا الشهر مناسبة لتخليد ذكرى من رحلوا، أولئك الذين كانوا ضحايا الألم السوري المستمر طوال أربعة عشر عاماً. حلمنا أن نلم جراح الوطن، أن نخفف عمن فقد أحبته، عمن لم يجد حتى الآن رفات أعز الناس إليه، وعمن عاد من نزوحه الطويل ليجد منزله قد صار حطامًا.
ولكن السادس من آذار لم يكن كما أردناه؛ جاء قاسياً، كطعنة في جرح لم يندمل. يوم بدأ كأنه إعادة لمشهد قديم، ذلك الجرح المفتوح منذ أول قطرة دم سالت على تراب سوريا. انتشرت روايات كثيرة عمّا حدث، ولم يكن يهمني حينها أن أصدق أو أن أشكك. كما لم تكن تساؤلاتي حول من أطلق الطلقة الأولى عام 2011، بل كانت عن كيف لتلك الطلقة أن تجرّ بلدًا بأكمله إلى أعماق مأساة لم تنتهِ بعد.
ذلك اليوم الأسود جعلني أتمنى لو أن بصيرتي قد خانتني حين أخبرت صديقتي وأهلي منذ فترة أنني أرى بركاً من الدماء في شوارع سوريا. وما كنت أخشاه تحقق؛ الشوارع اغتسلت بالدماء، الجثث تراكمت، والمشهد كان أشبه بصدى أبواب جهنم تُفتح أمامنا. الحرائق بدأت تشتعل في المناطق واحدة تلو الأخرى، والرصاص صار لغتنا اليومية.
وبدأت الفاجعة، نداءات المتطرفين علت، وتصاعدت أصوات على السوشيال ميديا تطالب الناس بحمل السلاح والالتحاق بالقتال. قبل أن نلتقط أنفاسنا، وصل إلى الساحل آلاف المقاتلين، بعضهم منضبط وبعضهم فاقد السيطرة. ثم بدأت المقتلة الكبرى.
كل صورة وفيديو وصلنا كان يعيد إلينا مشاهد السنوات الأربع عشرة الماضية، كأن شبح النظام وشبيحته لم يغادروا. تكدست الكوابيس على واقعنا، ونحن لا حول لنا ولا قوة سوى أن نقف أمام هذا المشهد المفجع نتساءل: أين نهاية هذا العذاب الذي نعيشه؟
تمر الساعات والجثث تتساقط على وقع كلمات بعض الناشطين الإعلاميين والمحرضين، كلمات تُشعل الحرائق في القلوب كما اشتعلت البيوت والأراضي وانتهكت الحرمات. يغضّون الطرف عن الأبرياء، يكذبوننا في كل كلمة نقولها، ويتهموننا بالفلول. ومع كل كلمة تُنشر، تتقوض مضاجعنا، وتحترق أرواحنا بلا رحمة. ليخرج بعدها رئيس المرحلة الحالية معترفاً بما جرى وواعداً بمحاسبة الجناة. ورغم ذلك، فإن المطبلين الجدد، وكثير منهم كانوا شبيحة للنظام المخلوع، ما زالوا ينكرون الحقيقة، ليزيدوا الجرح نزفًا، ويغرسوا سكينًا في قلوب الضحايا وأحبائهم.
حاولت استيعاب ما يحدث، لكنني بقيت عاجزًا عن التصديق. تتصل بي صديقتي، صوتها مشحون بالبكاء، تلحّ عليَّ أن أفعل شيئًا، أي شيء، لإيقاف القتل. يا لعجزي! كل شيء أعادني إلى ذكريات حربنا مع بشار الأسد؛ نحصي القتلى، نتأكد من الناجين، نبحث عن ملاذات آمنة، ونبكي بصوتٍ خافت. لكن الآن، بكاؤنا أصبح علنيًا ومليئًا بالقهر. والهوية باتت سيفاً مسلطًا يحدد مصيرنا، أي انكسار هذا الذي جعلنا أسرى لهذا الخوف الجديد؟
كتب لي أصدقاء كثر يعرضون إخراج عائلتي من القرية. لكن أي عائلة يقصدون؟ هل يقصدون عائلتي الضيقة؟ أم أقربائي؟ أم قريتي كلها؟ تخيلت لحظة أن أكون أنانيًا، أفكر فقط في سلامة عائلتي، لكن هناك من لم يجد سوى العراء ملاذًا، يتوسل رحمة من قلوب متحجرة لا تعرف الشفقة. ومع كل هذا، أدركت أن ما أعيشه اليوم هو ما تشاركته مع كثير من السوريين على مدى أربعة عشر عامًا. لكن الألم، حين يقترب من دائرتك الضيقة، له طعم آخر. ولربما حان الوقت لأن ننحني أمام الدماء، نصمت، نعلن الحداد على وطننا. نشعل شموعًا لذكراهم، أن نبكي لأول مرة بصوت واحد. ونترك الأمهات الثكالى يبكين ألمهن الذي يعود لعقود، ألم دفنوه خوفًا من أن يراه أحد.
أنا الذي عمل كصحفي متخفٍ تحت أسماء مستعارة، أخفي هويتي خوفًا من الاعتقال، أجد نفسي اليوم عاجزًا عن الكتابة، عاجزًا عن التعبير. الكلمات تخونني، والمشاعر تتناثر دون أن أستطيع ترجمتها. لا شيء يصف الفاجعة، ولا شعور يصف هذا العجز الذي يطاردني منذ أربعة عشر عامًا، منذ أن بدأ السوريون يُقتلون في المعتقلات، وفي ساحات المعارك، وفي بيوتهم، وفي كل مكان تطؤه أقدامهم. اليوم، الكتابة باتت عبئًا ثقيلًا. لمن سأكتب؟ ومن سيقرأ؟ أولئك الذين سأكتب عنهم ينامون في العراء، ينتظر بعضهم أن يُدفن بكرامة، بينما يخشى آخرون العودة خوفًا من الموت مجددًا. وفي الوقت ذاته، أسمع أصواتًا تنكر المجزرة! تخيلوا كم كان صعبًا علينا عندما أنكر شبيحة الأسد مآسينا وقتلانا. واليوم، تعاد المأساة في ظل غياب إعلام واضح ومحايد. هذا الإنكار أشبه بقتل الضحية مرتين.
وأخيرًا، اتفق الشرع وعبدي، ذلك الاتفاق الذي حلمنا به، لكنه جاء في وقت غارق بالحزن. الانتصارات عمّت الشوارع، وأُعلن عن حفلة في اللاذقية، في مدينة تنزف دما. كنت مذهولًا من هول الصدمة. عادت إلى ذاكرتي مجازر الغوطة وداريا وغيرها، وعلى بعد أمتار، كانت ساحات الدبكة في الأمويين تحتفل بانتصار الأسد على جثثنا. إذن، لم نصبح سوريين بعد لنحترم مأساة بعضنا البعض.، ولا أتحدث هنا فقط عن مأساة المدنيين، بل عن عناصر جهاز الأمن الذين زُجّ بهم في مواجهات لا خبرة لهم فيها. أمهات هؤلاء أيضًا يبكين أبناءهن، ويحق لهن دقائق صمت واحترام لحضرة الموت. كل الأفراح يجب أن تؤجل حتى نلملم جراحنا، وإلا فنحن نرتكب المجزرة مرتين.
لن أكرر الروايات التي تحدثت عن الساحل الذي احتضن أهلنا المهجرين الهاربين من بطش الأسد، ولا عن قصص التعايش التي عاشوها هناك. لكن الساحل والجبال كانا وما زالا رمزًا للبساطة والدفء وطيبة القلب. الساحل ليس فقط صحن برغل بحمص أو قرص شنكليش وزيت زيتون أصلي. إنه أكبر من ذلك بكثير. إنه أهازيج العتابا التي نحب، والدبكة التي نرقصها، وحكايات أجدادنا عن تاريخنا، وعيد الرابع الذي نحتفل به مع الأكراد،، وعيد البربارة الذي ننشاركه مع المسيحيين، وقصص معتقلي الثمانينات من قرانا، وقصص الحصاد والتعب لتأمين لقمة العيش.
منذ سقوط النظام، وأنا أقول إنني لن أشهد سوريا التي أحلم بها. لكنني سأعمل جاهدًا لتعيش أجيالنا القادمة في الوطن الذي نحلم به. اليوم، أعلم أن واجبنا أن نعمل كثيرًا كيلا يذوق أبناؤنا ما ذقناه من قهر وجوع وتشرد واعتقال وقصف وفقر. لعلنا يومًا نغني “موطني” بفخر، بجنسية سورية يتساوى فيها الجميع على أرض هذا الوطن، الذي كُتب له أن يُروى بدمائنا منذ بدء التكوين وحتى يومنا هذا
تلفزيون سوريا
—————————-
سوريا بين الأيام الدموية في الساحل ولقاء الشرع وعبدي/ بكر صدقي
تحديث 13 أذار 2025
كانت نهاية دموية فاجعة تلك التي ختمت الأشهر الثلاثة الأولى من حكم السلطة الجديدة في دمشق، أكلت من الرصيد الإيجابي الكبير لحملة «ردع العدوان» التي أسقطت نظام الأسد بلا إراقة دماء تقريباً. مئات القتلى بين مدنيين أكثرهم من العلويين، وعناصر الأمن العام، نهب ممتلكات وإحراقها، إذلال وإهانات مصورة في مقاطع فيديو انتشرت على وسائل التواصل، إضافة إلى فبركات كثيرة وخطاب كراهية منتشر زادا النار أواراً. حرب أهلية مضغوطة في بضعة أيام ظن السوريون أنهم نجحوا في تجنبها في بداية عملية التحرير.
ثلاثة أشهر خسرتها سوريا بلا أي إنجاز يذكر على طريق بناء سوريا الجديدة المأمولة، وكأنها كانت في حاجة للمذبحة الكبيرة التي جرت فصولها المشينة في مدن الساحل وأريافها لتراجع السلطة نفسها وحساباتها. حكومة مؤقتة انتهى مفعولها منذ تشكيلها الأحادي، فشلت في كل شيء بما في ذلك فتح قناة تلفزيونية رسمية كمصدر موثوق لبياناتها وتصريحات أركانها وأعمالها، حتى لا نتحدث عن أي تحسين في حال الخدمات العامة كالكهرباء، بل إن الارتفاع الوهمي لسعر صرف الليرة السورية مع استمرار حالة التضخم وتفاقمها كان وبالاً على السوريين، إضافة إلى تسريح آلاف أو ربما عشرات الآلاف من وظائفهم والإلقاء بهم في هاوية الجوع. أما انعقاد ما سمي بمؤتمر الحوار الوطني فلم يتجاوز كونه بحثاً عن شرعية مصطنعة لم تكن السلطة في حاجة إليها. بالمقابل نسيت السلطة وعودها المتكررة بشأن تشكيل حكومة جديدة أوسع تمثيلاً في مطلع شهر آذار.
بالمقابل لا يمكن إنكار أن ثمة خططا مدبرة من الخاسرين من سقوط نظام الأسد، الفلول وإيران وإسرائيل نفسها، هي ما أوقعت السلطة في هذا الفخ الدموي. الكمائن التي نصبتها الفلول للأمن العام كانت الشرارة التي أطلقت سلسلة من الأخطاء كالنداء الذي أطلق للنفير العام وسمح بدخول الجهاديين الأجانب وبعض فصائل الشمال المنفلتة إضافة إلى متطوعين مدنيين ممن تحركهم أحقاد طائفية ارتكبوا بمجموعهم أكثر الفظاعات على ما تفيدنا شهادات متواترة. لقد زجت السلطة بشبان يفتقدون إلى الخبرة القتالية (الأمن العام) في معركة مطاردة شبيحة وضباط النظام السابق ممن لديهم خبرة كبيرة في القتال والانتهاكات، في مناطق جبلية يعرفون تضاريسها جيداً مقابل جهلها لدى عناصر الأمن العام الذين حصلوا على دورات عسكرية سريعة و«دورات شرعية»! فوقعوا في كمائن الشبيحة بسهولة.
أصابع إيران في تمرد الفلول لا تخفى، فقد دعا إليه المرشد علي خامنئي جهاراً نهاراً قبل أسابيع، وتم تشكيل «مقاومة شعبية» مزعومة و«درع الساحل» ومجالس عسكرية بقيادة ضباط معروفين كغياث دلا وإبراهيم حويجة ومقداد فتيحة وغيرهم. وثمة معلومات صحافية عن تنسيق محتمل مع كبار ضباط النظام الساقط الموجودين في موسكو وقد سمحت لهم السلطات الروسية باستخدام أرقامهم السورية على تطبيق واتس آب.
كان لافتاً، في هذا السياق الرسالة التي وجهها رامي مخلوف معلقاً على تلك الأحداث الدامية، فقد أشار إلى ضباط الفرقة الرابعة بصورة مباشرة متهماً إياهم بتأجيج الصراع و«المتاجرة بدماء العلويين» حسب تعبيره. وقال مخلوف إنه سيعود إلى المشهد السياسي مجدداً في الوقت المناسب وإنه على «تنسيق مباشر» في هذا الإطار من غير أن يوضح الجهة التي ينسق معها. فإذا أخذنا بسوابق من «تسويات الوضع» كحالة محمد حمشو أو فادي صقر وزير الداخلية السابق محمد الشعار، يخشى أن تكون السلطة بصدد «إدماج» مخلوف أيضاً في مرحلة «ما بعد الطوشة» في خطأ جديد لن تساهم في «طمأنة العلويين» كما قد تتوهم السلطة. فأمام هذه مروحة واسعة من الخيارات من شخصيات محترمة في «المجتمع العلوي» لم تتلوث بداء الأسدية إذا أرادت السلطة التباحث معهم بشأن تضميد الجراح وفتح صفحة جديدة. ولكن يبقى أن الطريق الأسلم إلى ذلك يمر عبر إتاحة الشروط اللازمة لقيام لجنة تقصي الحقائق بعملها بصورة جدية وأن تتمكن هذه اللجنة من تحديد المتهمين بالانتهاكات ثم تقديم هؤلاء إلى القضاء بلا أي تلاعب أو التفاف. على أن يكون هذا مقدمة لإقامة عدالة انتقالية لا يجوز تأخيرها أكثر مما حصل. فهذا هو الطريق لطي صفحة الماضي والبدء بترميم النفوس قبل إعادة إعمار المباني.
لقاء الشرع وعبدي في قصر الشعب: شكل هذا اللقاء الذي شهد توقيع الرجلين على اتفاق إطار بين السلطة المركزية وقوات سوريا الديمقراطية مفاجأة طيبة للسوريين المفجوعين بالدم الغزير الذي سال قبل أيام. فهذا الاتفاق يبشر بطي صفحة العقدة الأكثر صعوبة في بناء سوريا الجديدة، بالنظر إلى تداخل عوامل محلية وإقليمية ودولية فيها، وبالنظر إلى المساحة الجغرافية الواسعة التي تسيطر عليها قسد وتضم ثروات البلاد الزراعية والنفطية. حين انتشر خبر الاجتماع والتوقيع كان ثمة قلق بشأن الموقف التركي من هذا الحدث، لكنه سرعان ما تبدد من خلال تصريحات مؤيدة له على لسان الرئيس التركي بالذات، وهو ما لا يمكن فصله عن مسار الحل السلمي الذي تعمل عليه الدولة التركية بالشراكة مع عبد الله أوجلان الذي وجه حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وحل منظماته. يمكن القول إذن إن «طبخة» كبيرة نضجت ومن المحتمل أن تينع ثمارها سريعاً على خط دمشق ـ أنقرة ـ إيمرالي ـ قنديل مع مظلة دولية غير خافية من واشنطن وباريس. سنرى في الأسابيع القليلة القادمة كيف سينعكس ذلك إيجاباً على مختلف الملفات الداخلية في سوريا. ترى هل يتم حل «الجيش الوطني» بالتوازي مع حل «قسد»؟ هل يتم تسليم من قد تتهمهم لجنة تقصي الحقائق من عناصر فصائل الجيش الوطني للقضاء، أم نشهد صراعاً مسلحاً جديداً في الشمال لتحقيق ذلك بالقوة؟ وهل كان في تأخير تشكيل الحكومة الجديدة خيراً، وأنها قد تكون بتشكيلتها المأمولة من حيث الشمول مفاجأة ثانية تضاف إلى إنجاز الاتفاق الإطاري؟ وهل يحل مقاتلون من قسد محل شبان الأمن العام في محاربة الفلول في مناطق الساحل الوعرة، في ترجمة لأحد بنود الاتفاق الإطاري المخصص للتعاون بين الطرفين في محاربة الفلول؟
أسئلة بين أخرى كثيرة طرحها الواقع الجديد الذي ظهر بعد لقاء الشرع وعبدي، سنراقب الأجوبة عليها في الأيام والأسابيع القادمة.
الرحمة لشهداء الأيام السوداء في الساحل من مدنيين وأمن عام، القصاص العادل للقتلة.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————-
امتحان الإسلاميين في سوريّا/ سهيل كيوان
تحديث 13 أذار 2025
لم يسبق لدولة عربية أن وصل فيها إلى سدّة الحكم تنظيمٌ إسلامي، باستثناء حركة الإخوان المسلمين التي وصل رئيسها المرحوم محمد مرسي من خلال الانتخابات في مصر، حكم خلالها لفترة ثلاثة عشر شهراً فقط، ثم جرى الانقلاب على الرئيس وشيطنة الحركة وإخراجها عن القانون وزجُّ عشرات الآلاف من أبنائها في السّجون.
مرّة أخرى يمرُّ أحد تيارات الإسلام السياسي في امتحان صعب، في بلد مركزي عربيّاً وإقليمياً، وله أهميته الدولية. لم يكن وصول هذا التّيار سهلا، فقد سقط في الطريق ملايين الضحايا من السّوريين، بين قتيل وجريح ومتشرّد، قبل أن يولي رئيس النّظام الأدبار ويهرب إلى روسيا.
يمرُّ التيار الإسلامي في طبعته السُّورية الحالية، بامتحان ستكون له إسقاطاته على المنطقة العربية كلِّها، فهل سينجح هذا التيار في إدارة البلد؟ وهل سيُخرجُ النّاس من حالة اليأس الطويلة، إلى فسحة من الأمل؟ هل سينجح في إدارة البلد ذي التعدّدية الكبيرة، وهل ستكون الفرص متساوية لجميع الناس! بلا شك أنَّ هناك من يسعى، وسوف يسعى إلى إفشال هذا التّيار، وهؤلاء كثيرون، من داخل سوريا وخارجها. هناك تخوّفات مشروعة لدى أبناء مذاهب وطوائف معيّنة، وهناك أصحاب منطلقات فكريّة لن يروا في حكم الإسلاميين إلا الشّر مهما حاول هذا النظام أن يبدي مرونةً. هناك عداءٌ متأصّل لدى بعض التيارات السّياسية مثل التيارات القومية والاشتراكية والليبرالية واليسارية للتّيارات الإسلامية، مثلما أنه متأصّل لدى التيارات الإسلامية ضد هذه القوى، ويرى فيها خصوماً أيديولوجيين يصعب ترويضهم ولا يؤتمن جانبهم. هنالك من لن يهدأ له بال ما لم تشتعل الحرب الأهلية في سوريا من جديد، ويروّجون ويبشّرون لهذه الحرب، ونستطيع أن نرى ذلك من خلال التجييش الطائفي، وإذكاء الصراعات والتخويف من المقبل.
هنالك فلول النّظام البائد التي لن تسلّم بهزيمتها، ومحاولة الانقلاب الأخيرة تشهدُ على أنّ الفلول ما زالت قوّة قادرة على التّخريب، وعلى إشعال نيران الفتنة، وليس لديهم ما يردعهم، ومستعدون للتضحية بعشرات آلاف أخرى من السوريين، إذا ما كان هذا يضمن لهم العودة إلى السُّلطة، وهم مستعدون لأية تحالفات ممكنة مع أي جهة كانت. فلول النّظام البائد من القيادات العسكرية الذين يتحملون مسؤولية عما كان يجري من انتهاكات ومجازر بحق السّوريين خلال سنوات الحرب الأهلية، يدركون أنّه لا سبيل لهم في النجاة من عقوبة قاسية قد تصل إلى الإعدام، إلا من خلال اختلاق الفوضى واستعادة زمام المبادرة، وسوف يحاول هؤلاء جرّ قوات النّظام الجديد إلى ردود أفعال قاسية، كي يثبتوا أنّه نظام عاجز عن إدارة البلد، وعن حماية المدنيين في وقت الأزمات، وقد يبادر هؤلاء لعمليات فظيعة بحق المدنيين وإلصاقها بالنظام الجديد. يحاول هؤلاء القادة الهاربون من العدالة ربط مصير الأبرياء من أبناء طائفتهم بمصيرهم هم، وإظهار أنفسهم كمنقذين لأبناء الطائفة، وبأنّ السُّلطة الجديدة تضمر شرّاً لجميع العلويين، ولا تميّز بهذا بين مدنيٍّ ومقاتل، حتى إنّها مستعدة لقتل وإذلال أولئك الذين رحّبوا بها في بلداتهم من أبناء الطائفة العلوية. من خلال الفوضى تسعى الفلول للحصول على شرعية ودعم عربي ودولي، معلن أو غير معلن لإفشال السُّلطة الجديدة. سوف يمارس هؤلاء أعمال التّخريب قدر الممكن، بالاعتداء على مؤسسات الدولة، والممتلكات العامة والخاصة، وتنفيذ اغتيالات لإثارة البلبلة وعدم الاستقرار.
دولة الاحتلال الإسرائيلي من جانبها تتدخّل في محاولة لرسم الخريطة السّورية الجديدة، وتدفع باتجاه الحرب الأهلية والانقسامات، لأنّ تقسيم أي بلد عربي يعود عليها بالفائدة، وتستطيع تجييره لصالحها، والعكس صحيح، فوحدة أي بلد عربي واستقراره تزعجها، خصوصا إذا كان بلداً تحتلُ أجزاءً منه، ولها أطماع في أجزاء أخرى. إسرائيل تصف السُّلطات السّورية الجديدة كمجموعة إرهابيين، بهدف ابتزازها، ودفعها إلى تغيير موقفها ولهجتها تجاه الاحتلال، والسّير في ركب التطبيع، مقابل مساعدتها في رفع العقوبات الأمريكية والغربية عنها، وشرعنتها. وأهم من جميع أعداء الإسلاميين، يتعلّق نجاح التجربة بهم هم أنفسهم، بقيادتهم التي يقف على رأسها أحمد الشّرع. هل تستطيع القيادة الجديدة أن تطبّق الدستور الجديد المقترح، وأن تفي بالبنود، التي جاءت فيه كما نُشر في المُسوّدة، خصوصا في موضوع حرية التعبير والحرّية الشّخصية وحرية العبادة! هل ينجحون بالفعل أن يُشعروا جميع السُّوريين بأنّهم يعيشون في ظلّ قانون واحد يطبّق على الجميع من غير تفرقة! هل سيمنحون الحريّات الشّخصية مساحة كافية ليشعر الناس فيها بأنّهم تحرّروا بالفعل من دولة المخابرات المُزمنة، وأنَّ المواطن قادرٌ على انتقاد السُّلطة وأن يدلي برأيه المعارض والنّاقد وأن يبوح بأفكاره، من غير التعرّض إلى المساءلة أو المسّ بمصدر معيشته! هل سيُشعرُ السُّوريين كلُّهم بأنهم تحرّروا من أحكام الطوارئ التي لاحقتهم جيلا بعد جيل! وهل ستعود خيرات بلدهم عليهم ويحظون بحياةٍ كريمةٍ بعد سنوات، بل عقود عجاف! هل ستنجح في أن يكون القرار السّوري متحرِّرا من التأثيرات أو التدخّلات الأجنبية، كما يليق بالدولة السُّورية.
نجاح التجربة قد يكون نموذجاً للتقليد، بسبب تعطش الشّعوب العربية إلى العدالة ودولة جميع المواطنين، وهذا ما يخشاه كثيرٌ من الأنظمة العربية التي تعمل ألف حساب للتيارات الإسلامية، لقدرتها على التنظيم والانتشار لأسباب عقائدية وتاريخية وإمكانيات تنظيمية، ورغبة في تجربة مختلفة عن تجارب الأنظمة، التي تعيد إنتاج نفسها، تحت مسميات مختلفة ولكنها واحدة في جوهرها القمعي. تعرّضت التيارات الإسلامية إلى هجمات مستمرّة وقاسية، وتصعب إزالة ما علق بها من تشويهات وشيطنات، بعضها تتحمّل هي مسؤوليته، بسبب ممارسات بعض فصائلها، كذلك فإنّ الكثير منها فبركات، والذكاء الاصطناعي تطوّر وقادر على ما هو أخطر. أعداء هذا التيار كثيرون من خارجه، وكذلك وفي أحيان كثيرة، بل والأخطر يأتي من بين صفوفه. أحد أهم البنود التي جاءت في مسودة الدستور هو، استقلال القضاء، واعتباره هيئة فوق جميع الهيئات وهذه قضيّة جوهرية، في دولة قانون. الدستور المقترح كما نُشرت مسوّدته، يعتبر جيداً جداً في ظروف سوريا وما نجم عنها بعد الحرب الأهلية، ولكن يبقى التطبيق هو الأهم، فهنالك دولٌ تتغنّى بالدّيمقراطية في دساتيرها، ولكنّها فاشلة في التطبيق، وهناك من يعطّلون الدستور في أقرب فرصة. حتى في دول عريقة في الديمقراطية، لا يطبّق القانون على جميع الناس بصورة متساوية، خصوصاً في القضايا السّياسية، مثلا في تعامل الشّرطة الألمانية مع مناصري فلسطين، أو في تعامل السُّلطات الأمريكية مع الطالب العربي محمود خليل من جامعة كولومبيا.
هنالك تساؤل عن دور الفرد في التاريخ وما هي قدرته على التأثير في مساره، في الحالة السّورية الراهنة بمقدور القائد الحالي أحمد الشّرع، أن يغيّر مسار تاريخ المنطقة، وأن يدحض ما بنته الدعاية والتحريض ضد الإسلاميين على مدار عقود، إذا ما حقّق أحلام السوريين كلهم في الوحدة والكرامة والعدل، فيصبح نموذجاً يحتذى، ولكنه إذا فشل بسبب داخلي من خلال إساءة إدارة السّلطة، ممّن هم حوله، أو من خلال تقوقع فكري أو طائفي، فستكون هذه خيبة كبيرة، وربّما آخر محاولة للتيارات الإسلامية في الوصول إلى السّلطة والقيادة.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
——————————
سوريا الواقع والافتراض/ طارق الحميد
12 مارس 2025 م
أحسن الرئيس أحمد الشرع في الخطوات التي اتخذها من أجل نزع فتيل أزمة خطرة، تهددت سوريا في بضعة أيام بشكل لافت ودراماتيكي، لأن مستصغر الشرر بأحداث الساحل وقفت خلفه رياح عاتية من التحريض والتضليل.
ولا يمكن الاستخفاف بالدم والقتل والأعمال الانتقامية، ولو وقعت بحق إنسان واحد، وليس مائة، أو مئات، فحقن الدماء مقدم على كل شيء، وأياً كانت الدماء سواء لمواطنين أو رجال أمن، كما أن نبذ الطائفية أمر واجب في الدولة، أي دولة.
نزع الرئيس الشرع فتيل الأزمة، واتخذ إجراءات مهمة فاقت تصور داعميه من السوريين، وهي إجراءات عقلانية لخَّصها بقوله إن المخطئ سيُحاسب ولو كان قريباً منه، وتوَّج جهوده تلك بحكمة نتج عنها إبرام اتفاق مع «قسد».
وهو ما يعني أن الشرع، وبكل حكمة، استعاد جغرافياً ثلث الدولة، وبتوقيت مهم، ورغم أن أصواتاً كثراً كانت تطالبه بمواجهة الأكراد، فإنه فضَّل الحكمة والمفاوضات. والإشكالية أن كل ذلك لا يعني أن سوريا قد تجنبت الأزمات.
والسبب أن هناك واقعاً بسوريا، وأن هناك عالماً افتراضياً يؤطر الأحداث فيها. والقصة ليست قصة وسائل التواصل، أو الإعلام، بل أكبر. فمنذ اندلاع أحداث الساحل السوري أجد سؤالاً واحداً على لسان كل مَن ألتقيه أو أتواصل معه.
والسؤال هو: «ما حقيقة ما يحدث بسوريا»؟ وعندما تشرح تأتي الإجابة أيضاً واحدة: «الآن فهمت». وهو سؤال السعودي، والسوري، واللبناني، والمصري، والغربيين. وقد يقول القارئ: ومَن يقول إنك تملك الإجابة الصحيحة؟
وهذا سؤال مهم، والسبب أن التضليل على سوريا كبير، وهو استمرار لما شهدناه من تضليل فيما عُرف زوراً بـ«الربيع العربي»، بل وتطور في آليات التضليل. فمنذ «الربيع العربي»، وبقيادة الرئيس الأميركي الأسبق أوباما، بدأ التضليل حول سوريا حين سمّاها «الحرب الأهلية».
ورغم أن السوريين لم يرفعوا السلاح، وإنما كانت مطالبهم مشروعة، إلى أن بدأ «القمع الأسدي»، ثم التدخل الإيراني و«حزب الله» وكذلك التدخل الروسي، وباقي القصة معروف. ومن حينها لم يتوقف التضليل تجاه سوريا.
واختلطت الأوراق عندما اعتقد البعض أن هناك «كتالوج» موحد للمنطقة، وكل ما له علاقة بالإسلام السياسي، والدليل أن أحداً لم يلحظ كيف صمت الإسلاميون حول التدخلات الإسرائيلية بسوريا، بينما هَبُّوا بقصة تهجير غزة!
وعليه، هناك واقع في سوريا اليوم يتم تجاهله، وهناك عالم افتراضي يتم تداوله، والأمثلة كثيرة، فرغم كل ما قدمت سوريا الجديدة من خطوات إيجابية، وفي ظرف 3 أشهر، فإننا نجد تشكيكاً ممنهجاً.
يخرج فلول الأسد بالسلاح، وبمساعدة من «حزب الله» وإيران، وبالأشكال كافة، ومنها الإعلامي، فتجد صوتاً عالياً يحدثك عن «مجزرة» و«طائفية»، وتنتشر الصور المزيفة بوسائل التواصل، وتنطلق المطالبات بتدخل خارجي.
ومطالبات بإطالة أمد العقوبات، وزيادتها، ومن أشخاص طالما أشغلونا بالمواطنة، واستعادة الدولة، ووقفنا معهم سابقاً، وتحديداً في العراق ولبنان، لكن اتضح أنهم ينطلقون من منطلقات طائفية، وتحت غطاء «حماية الأقلية».
وعليه، فخير ما يمكن فعله لسوريا اليوم هو دعمها، بحمايتها من تدخل بعض دول الجوار. وهذا يتطلب موقفاً حقيقياً من أصدقاء سوريا الجديدة.
الشرق الأوسط»
——————————-
هل ثمّة صراع بين إيران وتركيا؟/ زياد بركات
13 مارس 2025
ليس ثمّة ما هو أسوأ لإيران من أن تجد نفسها وإسرائيل في الموجة نفسها في الشأن السوري. وهو كاشفٌ وفاضح، فبينما تسعى تلّ أبيب جهراً إلى استغلال المرحلة الانتقالية في سورية، يبدو أن طهران منشغلة بالأمر نفسه، وهو العودة بأيّ ثمن إلى ما كانت عليه قبل فرار المخلوع، وإذا تعذّر الأمر فلا بأس من التخريب، وهو كثيرٌ (للأسف!)، رغم أنه لا يعود عليها بنتائج حقيقية لحسن الحظّ.
على إيران أن تُسلّم أن نفوذها العابر للحدود ضُرِب في مقتل بفرار الأسد واغتيال حسن نصر الله، وأن عليها أن تُعنى بشؤونها، خاصّة أن النار تقترب منها هذه المرّة، بعد عقود من أحزمة الصدّ التي أنشأتها في بلاد المشرق العربي واليمن، وأن تعرف أن علاقاتٍ ندّيةً ما أمكن مع “مستعمراتها” القديمة (والوصف على تطرّفٍ وسخرية)، أفضل لها وللمنطقة، وأن التغيّرات العاصفة والمفاجئة في جوارها قد تتركها في عزلةٍ خانقةٍ كلّما سعت إلى التخريب أو استعادة دور انتهت شروطه وأسبابه.
لم يخطئ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في تشخيصه وضع إيران في المنطقة، في حواره مع قناة الجزيرة، فالسياسة التي تعتمد على فصائل مسلّحة (في دول الجوار) خطيرة، ومن شأنها الانقلاب ضدّك، وإذا كنتَ تحاول إثارة التوتّر في دولة ثالثة، فإن دولة أخرى تستطيع إزعاجك داخل حدودك بدعم جماعات ضدّك في بلادك.
ومعلومٌ أن تصريحات الوزير التركي لم تكن عفو الخاطر، بل تعني كثيراً في وقتٍ بدأت فيه بلاده بملء الفراغ الذي نشأ بخروج إيران من سورية، وتلك من طبيعة معادلات القوة والنفوذ في العالم، وإيران ليست استثناءً هنا، خاصّة أن تدخلها تسبّب في تمزيق مجتمعات المنطقة وتطييفها، وإعادتها إلى القرون الوسطى، فطهران ليست قوةً حداثيةً، ولم تنقل لهذه المجتمعات إرثاً في الموسيقى والفلسفة والآداب والأزياء عندما تغلغلت فيها، بل سرطنتها بمفاهيم محض طائفية ولا تنتمي إلى العصر، ولا حتى إلى القرن التاسع عشر.
ولم تفعل هذا وحسب، بل حوّلت هذه المجتمعات دروعاً بشرية لها، تحارب بها وبنخبها، وعندما يحين وقتُ المذبحة تنأى بنفسها. وما حدث مع حزب الله كان درساً لمن يريد أن يتعلّم، ففي اللحظة الحاسمة جرى فصل مسارات الصراع فتُرك الحزب يواجه وحدَه حرب إسرائيل عليه، بينما تفرّغ مسعود بزشكيان للتودّد إلى الولايات المتحدة.
… هل ثمّة صراع في الأفق بين إيران، التي تنسحب من المشهد، وتركيا التي بدأت تتصدّره؟ … الصراع لم يغب يوماً حتى نُفاجأ به، فإيران عملياً دخلت منذ الثمانينيّات في خطّ نفوذ الأتراك ومجالهم الحيوي في المنطقة، فالتداخل الإثني والديني التركي أكبر من الإيراني، وإرثُه ممتدٌّ إلى الدولة العثمانية، مقارنةً بطهران التي اكتشفت أن الطائفة حصان طروادة لاختراق المنطقة، وهو ما تيسّر لها لهشاشة دول المنطقة وغياب إجماعاتها الوطنية، لا لعبقرية المؤسّسة الإيرانية.
لا يعني هذا في حال ترحيباً بمستعمرٍ جديد، وأنقرة أكثر ذكاءً من تسويق نفسها على هذا النحو، بل مقارنةً بين دولةٍ تلعب دوراً في مجال حيوي لها، وأخرى أوجدت مجالها وأقحمته في المعادلات، وكان أن انهار بين ليلةٍ وضحاها بغياب أدواتها أو ضعف هذه الأدوات. وكان عليها أن تعترف بخساراتها وتنسحب وتُعنى بشؤونها، لكنّ من شأن إنكارها الوقائع الجديدة إضعافها أكثر، وقطع الطريق عليها لإنشاء علاقات جديدة وصحية مع دول المنطقة، تكون فيه جاراً طيّباً يصدّر الكافيار (إذا شاء) إلى هذه الدول، ويقيم أسابيع سينمائية في عواصمها.
في ردود بعض المسؤولين الإيرانيين على تركيا، ثمّة من يذهب إلى أنها (تركيا) تتعامى عن الأيادي الأميركية والإسرائيلية السرّية والخفية في تطوّرات المنطقة، وهو ما قاله المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية في “إكس”، لكنّه أغفل أن بلاده ترغب بمصافحة الأيادي الأميركية لا غيرها، وذلك ما فعلته عندما تخلّت عن حزب الله، حليفها وأداتها الرئيسة في المنطقة، وهو يُدَّك ويُباد، مراهنةً على أن دور العاقل الذي يكبح صبيان الحي قد يجلب لها المنافع، فما حمت حليفها ولا كسبت رضا الأميركيين، الذين كلما تنازلتَ لهم طالبوك بما هو أكثر، وأن إضعاف العهد الجديد في سورية، واللعب على تناقضات المكوّنات المجتمعية، يجمعها مع إسرائيل أكثر من تركيا، ويجعلهما في صفّ واحد، وإن اختلفت الدوافع.
العربي الجديد
———————-
لوموند: الانتقال بسوريا في خطر
تحديث 13 أذار 2025
تحت عنوان “الانتقال في سوريا مهدّد”، قالت صحيفة لوموند في افتتاحية عددها اليوم الخميس، إن سوريا قدّمت خلال الأيام القليلة الماضية وجهين: الوجه الأسوأ، ثم وجه الأمل.
فقد بدأ كل شيء يوم الخميس 6 مارس/ آذار الجاري بهجوم استهدف قوات الرجل الجديد القوي في البلاد، الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. وقد شنت الهجوم ميليشيات ما تزال وفية للدكتاتور بشار الأسد، الذي أُطيح به في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وذلك في المعقل الساحلي للأقلية العلوية التي ينتمي إليها، توضّح الصحيفة الفرنسية.
هؤلاء الموالون لديهم كل ما يخشونه من سوريا متصالحة مع ذاتها، حيث سيكون عليهم الرد على الجرائم التي ستظل الديكتاتورية مرتبطة بها إلى الأبد. لكن الانتقامات الدموية التي نفذها بعض رجال السلطة السورية الجديدة ضد الأقلية العلوية أعادت إحياء شبح انزلاق البلاد إلى أعمال عنف طائفية لا نهاية لها، يغذيها تطرف إسلاموي كان أحمد الشرع أحد أتباعه قبل أن يبتعد عنه، تُضيف لوموند.
فأمام أول اختبار كبير له منذ وصوله إلى السلطة، تحرك أحمد الشرع بسرعة متعهداً بالعثور على مرتكبي الانتهاكات ومعاقبتهم. لم يكن لديه خيار آخر، فسلطته وصورته على المحك. وتعد اللجنة التحقيقية التي تم تشكيلها (بمشاركة أعضاء علويين) خطوة أولى، لكن يجب أن تسفر عن نتائج، ويجب تحقيق العدالة، حتى لو كان ذلك ضد من اعتمد عليهم الشرع في الماضي، تتابع صحيفة لوموند في هذه الافتتاحية.
وما إن عاد الهدوء بالكاد إلى المعقل العلوي حتى تم الإعلان عن اتفاق واعد في دمشق يوم الاثنين الماضي على الجبهة الطائفية الثانية التي تواجهها السلطات الجديدة. يتعلق الأمر بالاتفاق الذي توصّل إليه الشرع وقائد القوات الكردية التي تسيطر على شمال شرق البلاد، مظلوم عبدي. وهو ما يبعد في المدى القريب خطر التفكك الذي سيحكم على سوريا بالبقاء لعبة في أيدي القوى الإقليمية الرئيسية، سواء كانت تركيا أو إيران أو إسرائيل، توضح الصحيفة الفرنسية.
وبالطبع، ما يزال هذا الاتفاق المبدئي بحاجة إلى تطبيقات دقيقة، من دمج الميليشيات الكردية ضمن قوات الأمن التابعة للنظام الجديد إلى تقاسم عائدات الإنتاج النفطي والغازي المتواضع لبلد دمرته الحرب الأهلية والعقوبات الدولية.
ومع ذلك، فإنه يمثل قطيعة كبيرة مع النهج الذي تعاملت به عائلة الأسد مع الأقلية الكردية لعقود. ولا شك في أن إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، عبد الله أوجلان، تخليه عن السلاح في تركيا يوم 27 فبراير/ شباط الماضي، قد ساهم في تحقيق هذا الاختراق.
هاتان الصورتان لسوريا تثيران بلا شك تساؤلات كبرى لدى الدول التي يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على مستقبلها. وتحديداً، تلك القادرة على التأثير في قرار الإبقاء على العقوبات المرتبطة بالنظام السابق أو رفعها، والتي ما يزال البلد يدفع ثمنها، تقول صحيفة لوموند، موضّحة أنه من المفهوم أن هذه الدول تفضل التريث لتقييم مدى جدية أحمد الشرع في استعادة السيطرة على الوضع وضمان العدالة فيما يتعلق بالجرائم التي ارتُكبت في الأيام الأخيرة.
لكن هذه الموجة من العنف تؤكد أيضاً أن أيّ غياب لتحسين الأوضاع المعيشية للسوريين سيفيد أولئك الذين لا يريدون نجاح الانتقال الجاري. ومع ذلك، فإن الفشل في تحقيق ذلك سيضمن استمرار معاناتهم، تقول الصحيفة الفرنسية.
————————
الصفقة مع “قسد” تطفئ نار مجلس الأمن…”اندبندنت عربية” تحصل على مسودة الجلسة المغلقة/ مصطفى الأنصاري
شدد القرار المرتقب على محاربة الإرهاب ووحدة البلاد وأغلق الباب أمام التدخل الدولي وثمن تشكيل لجنة التحقيق
الأربعاء 12 مارس 2025
علمت “اندبندنت عربية” من مصادر مطلعة على مداولات الجلسة السرية لمجلس الأمن حول الأحداث المأسوية في الساحل السوري بأن الدول المعنية توافقت على صيغة قرار كان يتوقع أن يكون شديد اللهجة، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السورية بتشكيلها لجنة تحقيق وإحرازها الصفقة المفاجئة مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) جميعها دفعت إلى تخفيف حدة الخطاب وأطفأت نيران الغضب الدولي.
وذكرت المصادر التي اطلعت على المسودة أن القرار، خرج بصيغة يغلب عليها “التوازن والإنصاف لجهود الحكومة السورية الموقتة”، على رغم إدانته لأعمال العنف غير الشرعية التي شهدتها مناطق غرب سوريا وراح ضحيتها المئات، وفق أرقام دمشق نفسها.
وحتى إن جاء القرار في سياق إدانة الانتهاكات، إلا أنه وفق ما توضح المسودة التي حصلت عليها “اندبندنت عربية” تضمن تأكيداً دولياً والتزاماً بـ”استقرار سوريا ووحدة أراضيها”، وهو أمر كثيراً ما كان نقطة مركزية في قرارات الدول العربية ومواقفها نحو سوريا، فضلاً عن حكومة الشرع الذي كان صريحاً في رفض الفيدرالية أو أي تنازل باتجاه تقسيم البلاد طائفياً أو عرقياً أو جغرافياً.
وكان دبلوماسيون قالوا الأحد الماضي إن الولايات المتحدة وروسيا طلبتا من مجلس الأمن الدولي عقد اجتماع مغلق أول من أمس الإثنين لبحث تصاعد العنف في سوريا، وهو الاجتماع الذي يترقب إعلان نتائجه اليوم.
إلى ذلك تناولت المسودة الجانب الأكثر حساسية في الملف السوري وهو “الإرهاب”، إذ أكدت ضرورة “محاربة الإرهاب في سوريا”، مما تقول الحكومة إنها تسعى إليه، إلا أن انتقادات دولية وإقليمية حاصرتها حيال صدقية ذلك التوجه وهي لا تزال تضم في صفوفها مقاتلين أجانب، بعضهم ينتمي إلى خلفيات متطرفة ذكر شهود عيان أنهم خلف بعض الانتهاكات التي حدثت، لكن التحقيقات النهائية هي التي ستسفر عن التصور الموثق.
وكانت الرئاسة السورية أصدرت قراراً الأحد الماضي بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل، فيما شدد الرئيس السوري أحمد الشرع على أن بلاده “لن تسمح لأي قوى خارجية أو محلية بجرّها إلى فوضى أو حرب أهلية”، متعهداً بأن إدارته ستقوم بـ”محاسبة كل من تسبب في أذى للمدنيين… وأنه لا يوجد خيار أمام فلول النظام السابق سوى الاستسلام على الفور”.
وتضمن قرار المجلس وفق مسودته التي اطلعت عليها “اندبندنت عربية” تثمين المجلس الخطوات التي اتخذتها دمشق في شأن إعلانها تشكيل لجنة تحقيق للمحاسبة. ولم يشِر البيان إلى أي تلميح أو تهديد بـ”تدخل دولي في سوريا”، مثلما ترغب أطراف موالية للنظام السابق تحت غطاء دعم الأقليات.
وكان مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حض في وقت سابق على تحقيق المساءلة عن جميع الجرائم المرتكبة على الساحل السوري، ورحب بإعلان سلطات تصريف الأعمال تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، داعياً إلى ضمان أن تبقى التحقيقات سريعة وشاملة ومستقلة ونزيهة.
ولضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات والتجاوزات المروعة، قال تورك إن “من الضروري للغاية أن تتماشى عملية التدقيق في الفصائل المسلحة ودمجها في الهياكل العسكرية السورية مع التزامات البلاد بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني” وأن تتناول بصورة كاملة مسؤولية جميع المتورطين في الانتهاكات السابقة أو الأخيرة لحقوق الإنسان في سوريا.
واستبق الاتفاق مع “قسد” قرار مجلس الأمن في أعقاب جلسته المغلقة إذ أعلنت الرئاسة السورية الاثنين الماضي أنها توصلت إلى اتفاق يقضي بدمج “كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز”.
توازن القرار له مغزى
في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، أعرب عبدالعزيز بن صقر، رئيس مركز الخليج للأبحاث، عن أهمية قرار مجلس الأمن بشأن أحداث سوريا، مشددًا على “توازن القرار وإنصافه” في دعم جهود الحكومة السورية المؤقتة. وأوضح أن القرار “يدين الأعمال العنيفة غير الشرعية” التي أدانتها الحكومة، مؤكدًا على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واستقرارها، مشيرًا إلى أن هذا التوجه يتماشى مع أهمية محاربة الإرهاب وفقًا لموقف الحكومة المؤقتة.
وأضاف بن صقر: “إن القرار يثمن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، بدءًا من إنشاء لجنة تحقيق ووصولاً إلى الوعود بمعاقبة أي طرف يرتكب الجرائم وضمان إرسال التعزيزات الأمنية لاستقرار الوضع”. ورجح أن تخفيف لهجة القرار كان له علاقة محورية بالوصول إلى اتفاق مع قوات قسد الكردية، مما يدل على أن التوازن في صياغة القرار ساهم في تعزيز الجهود الأمنية والتعاون اللازم لتحقيق الاستقرار في المشهد السوري.
الساحل لا يشكل تهديدًا
وفي تعقيب على ما تسرب من قرار المجلس، أكد المحلل السوري غسان إبراهيم في حديث مع “اندبندنت عربية” أن الوضع في سوريا معقد للغاية، وأن “حله ليس سهلاً بسبب تصادم الأطراف وانتشار الكراهية والطائفية”، مشيرًا إلى أن هذه المشكلات تحتاج إلى وقت لمعالجتها ولا يمكن التعامل معها بالاستعجال. وأوضح أن الرئيس الشرعي يتعامل مع الأوراق الداخلية بهدوء، “إذ يدرك أن التسرع لن يُثمر عن نتائج إيجابية، باستثناء ملف الأكراد الذي سارع في التعامل معه لإرسال رسالة واضحة للغرب بضرورة الانسحاب من سوريا وترك الشأن السوري للسوريين”.
وأضاف إبراهيم أن التحديات الأمنية في الساحل “ليست كبيرة نظرًا لقلة المقاتلين، إلا أن الاستعجال في معالجتها قد يؤدي إلى تسلل جماعات متطرفة وارتكاب جرائم تُورط النظام”. كما أشار إلى أن قضية الدروز ليست مقلقة؛ فهم لا يمتلكون هدفًا انفصاليًا ولا قوة عسكرية تهدد الاستقرار، مما يجعل الملف قابلاً للحل التدريجي.
وأوضح المحلل السوري أن التحدي الأكبر يكمن في التعامل مع الملفات الخارجية، خاصة مع الدول غير المتوافقة مع النظام؛ إذ إن استمرار العقوبات يؤدي إلى غياب إعادة الإعمار ويثير استياءً داخليًا نتيجة عدم تحقيق الوعود بتحسين الوضع الاقتصادي والخدمات. ومن هنا، يركز الشرع على تصفية هذه الملفات الخارجية باعتبارها المفتاح لرفع العقوبات، مما يعكس طبيعة “عقلية الشرع” البراغماتية في إدارة المشهد السوري.
———————-
مخاوف من اضطرابات في لبنان بعد وصول سوريين هاربين من “العنف الطائفي“
الحرة – واشنطن
13 مارس 2025
موجة لجوء جديدة شهدها لبنان بعد أن عبر الآلاف من السوريين العلويين الحدود مع لبنان في أعقاب الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة الساحل السوري.
وتثير حركة النزوح هذه العديد من المخاوف ليس فقط جراء الضغط الهائل على مناطق شمال لبنان التي تعاني أصلا من تدهور في الأوضاع المعيشية، وإنما بسبب مخاوف تتعلق بحزب الله اللبناني، والقلق من اندلاع أعمال عنف على أساس طائفي في المناطق ذات الغالبية السنية مثل طرابلس.
أطراف سياسية اعتبرت أن موجة النزوح الجديدة تبدد الرهان على إمكانية عودة اللاجئين السوريين في لبنان بعد سقوط نظام الرئيس الأسد في 8 ديسمبر 2024، فيما ذهبت أطراف أخرى إلى إبداء مخاوفها من تغيير في التركيبة السكانية.
في وقت أكد آخرون أنه وسط هذه المخاوف، استغل “حزب الله”، المصنف على قوائم الإرهاب في أميركا، التطورات في سوريا وانعاكاستها على لبنان، لتحقيق مصالح ومكاسب داخلية، وإبعاد الأنظار عن مساعيه لتعزيز حظوظه في الحصول على السلاح بعد أن قطع سقوط حليفه الأسد طرق إمداده عبر سوريا.
ضمان عودة السوريين بعد زوال الأسباب
النائب اللبناني السابق مصطفى علوش من طرابلس وصف الوضع في سوريا بـ “المأساة الحقيقية”، مشيرًا إلى أن عدد السوريين الذين عبروا الحدود اللبنانية الشمالية إلى طرابلس يُقدّر بـ “بضعة آلاف”.
وأضاف أن هذا الرقم يبقى ضئيلًا مقارنةً بـ “مليون ونصف مليون سوري هربوا سابقًا بسبب خوفهم من بطش نظام الأسد”.
وتابع علوش قائلاً إن هؤلاء السوريين، بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم، يُعتبرون لاجئين يمرون بأزمة حقيقية، وبالتالي من الضروري أن يتحرك لبنان لدعم الاستقرار في سوريا، كما أنه يجب ألا تتم إعادتهم دون ضمانات توفر لهم الأمان في وطنهم.
ولكنه أشار إلى أن موجة النزوح هذه تمثل “معضلة جديدة تواجه السلطات اللبنانية”، خاصة في ظل المخاوف الأمنية من تسلل عناصر بين النازحين لهم “خلفيات استخباراتية أو خبيثة”، وترغب في إشعال الفتن والنعرات الطائفية وأعمال الشغب في لبنان.
وأوضح علوش أنه يجب أن يكون هناك انتشار للجيش اللبناني على الحدود لضمان الأمن، مؤكداً أن الهدف الرئيس للسلطات اللبنانية يجب أن يكون الحفاظ على أرواح الناس وضمان عودة السوريين إلى بلادهم بعد زوال الأسباب التي أجبرتهم على اللجوء.
من جهة أخرى، عبّر النائب اللبناني السابق فارس سعيد من بيروت عن مخاوفه من وصول السوريين “العلويين” إلى طرابلس، المدينة التي قال إنها شهدت لسنوات طويلة “اقتتالًا طائفيًا” بين منطقة جبل محسن ذات الغالبية العلوية ومنطقة باب التبانة ذات الغالبية السنية.
وأضاف سعيد أن هناك خوفًا من عودة “الأمور إلى ما كانت عليه سابقًا”، ومن أجل منع تكرار تلك الأحداث، كشف سعيد عن عقد اجتماع يوم الجمعة للاتفاق على “إعلان طرابلس” بمشاركة شخصيات سنية وشيعية ومسيحية، “لتأكيد الحفاظ على السلم الأهلي والعيش المشترك بين كافة الطوائف اللبنانية”.
وأشار إلى أن الخطر في مدينة طرابلس لا يكمن في استقبال السوريين ، وإنما في إمكانية “ان يستفيق شمال لبنان بظهور الشياطين القدامى” الذين قد يثيرون الفتن.
وردًا على القلق من احتمال استغلال حزب الله للوضع، قال سعيد “كلما كانت الدولة اللبنانية قوية وكان جيشها حازمًا، كلما قلت إمكانية استغلال حزب الله للوضع من أجل العودة إلى المسرح السياسي وإعادة تعزيز نفوذ إيران في المنطقة”.
وعبر رجال ونساء وأطفال سوريون أحد الأنهار بحثا عن الأمان في لبنان، الثلاثاء، لينضموا إلى المئات الذين فروا إلى الدولة المجاورة خوفا على حياتهم وهربا من عمليات قتل طائفية تستهدف العلويين.
كذلك لجأ آلاف النازحين العلويين إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري بعد المجازر. ووفق المرصد، السوري لحقوق الإنسان، ترفض عائلات احتمت في القاعدة الروسية الخروج منها والعودة إلى منازلها، خوفا من تعرّضها لانتهاكات أو لكون منازلها قد دمّرت.
وقتل 1383 مدنيا على الأقل غالبيتهم العظمى من العلويين جراء أعمال عنف شهدتها منطقة الساحل في غرب سوريا اعتبارا من السادس من مارس، بحسب حصيلة جديدة كشف عنها المرصد السوري لحقوق الإنسان، الأربعاء.
وقتل هؤلاء في “عمليات إعدام على يد قوات الأمن ومجموعات رديفة لها”، وفقا للمرصد الذي أوضح أن هذه العمليات تركزت “يومي 7 و8 مارس”.، وأن الحصيلة تواصل الارتفاع لأن “توثيق أعداد القتلى لا يزال مستمرا”.
وبدأت أعمال العنف تتصاعد في منطقة الساحل السوري التي يقطنها عدد كبير من العلويين، الخميس، عندما قالت الحكومة السورية إن قواتها تعرضت لهجوم من قبل مؤيدين للرئيس المخلوع بشار الأسد، وهو من الطائفة العلوية.
وتعهد رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، الاثنين، بمعاقبة المسؤولين عن هذه الجرائم، بمن فيهم حلفاؤه إذا لزم الأمر.
الحرة – واشنطن
—————————
رئيس لجنة تقصي الحقائق في الساحل السوري لـ”الحرة”: لدينا لوائح بالشهود والمتهمين المحتملين
13 مارس 2025
قال المتحدث باسم لجنة تقصي الحقائق في الساحل السوري، ياسر الفرحان، لقناة “الحرة”، الخميس، إن “اللجنة تباشر عملها على الأرض ولديها لوائح بالشهود والمتهمين المحتملين”.
وأكد الفرحان في المقابلة التي أجراها مع قناة “الحرة” أن “اللجنة ستقوم بالتحقيق بكل العمليات التي وقعت بالساحل” وأن “موقف السلطة السورية جاء من خلال تشكيل لجنة التحقيق بقضية انتهاكات ضد المدنيين”.
وقال: “نحن لجنة تقصي حقائق نقوم بعملنا التحقيقي ونسلم التحقيق” للرئيس الانتقالي، أحمد الشرع.
وشدد الفرحان على أن “اللجنة ستحيل من يثبت تورطهم بالهجمات إلى النيابة العامة”.
وقتل 1383 مدنيا على الأقل غالبيتهم العظمى من العلويين جراء أعمال العنف التي شهدتها منطقة الساحل في غرب سوريا اعتبارا من السادس من مارس، على ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان في حصيلة جديدة، الأربعاء.
وبدأ التوتر في السادس من مارس في قرية ذات غالبية علوية في ريف اللاذقية على خلفية توقيف قوات الأمن مطلوبا.
وسرعان ما تطور الوضع إلى اشتباكات بعد إطلاق مسلحين علويين، قالت السلطات إنهم من الموالين للرئيس المخلوع بشار الأسد، النار على عناصر قوات الأمن في أكثر من مكان، وفق المرصد السوري.
وتحدث المرصد عن عمليات “إعدام ميدانية” بحق مدنيين خصوصا من الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد.
وفي أحدث حصيلة للمدنيين، أحصى المرصد مقتل 1383 شخصا غالبيتهم الساحقة من العلويين، خصوصا في محافظتي اللاذقية وطرطوس في “عمليات إعدام على يد قوات الأمن ومجموعات رديفة لها”.
وأوضح أن هذه العمليات تركزت “يومي 7 و8 مارس”، مشيرا إلى أن الحصيلة تواصل الارتفاع لأن “توثيق أعداد القتلى لا يزال مستمرا”، على الرغم من توقف أعمال العنف.
وقتل العديد من الأشخاص داخل منازلهم أو في الحقول، وفقا لمدير المرصد، رامي عبد الرحمن.
وروى كثر من سكان المنطقة الساحلية لوكالة فرانس برس تفاصيل مروعة عن المعارك وعمليات التمشيط الأمنية وعمليات قتل لمدنيين.
ونشر مقاتلون وناشطون والمرصد السوري منذ بدء التصعيد مقاطع فيديو تظهر عمليات إطلاق رصاص بشكل مباشر على أشخاص عزل بملابس مدنية، وأخرى تظهر فيها عشرات الجثث بملابس مدنية مكدس بعضها قرب بعض على الأرض. ولم تتمكن فرانس برس من التحقق من مقاطع الفيديو.
ونددت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بحجم العنف “المروع” في منطقة الساحل، مشيرة إلى توثيق العديد من حالات الإعدام التعسفية ومقتل عائلات بأكملها بمن فيهم نساء وأطفال وأفراد عاجزون عن القتال.
وأعلنت الرئاسة السورية، الأحد، تشكيل لجنة تحقيق “للكشف عن الأسباب والملابسات التي أدت إلى وقوع تلك الأحداث، والتحقيق في الانتهاكات بحق المدنيين وتحديد المسؤولين عنها”.
وأكدت اللجنة، الثلاثاء، عزمها على ترسيخ العدالة و”منع الانتقام” خارج نطاق القانون.
وأعلنت السلطات توقيف سبعة أشخاص على الأقل منذ الاثنين، قالت إنهم ارتكبوا “انتهاكات” بحق مدنيين في الساحل، وأحالتهم على القضاء العسكري.
الحرة – دبي
———————-
العقوبات وتأثيرها.. كيف قد تسهل الولايات المتحدة وأوروبا انهيار سوريا المقبل؟
ربى خدام الجامع
2025.03.12
أنهى سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من كانون الأول لعام 2024 قرابة 54 عاماً من حكم آل الأسد والحكم الديكتاتوري لسوريا، إذ قبل عشرة أيام على ذلك، شن تحالف لفصائل المعارضة المسلحة التي تمركزت في شمال غربي سوريا هجوماً سعى لإحكام السيطرة على الريف الغربي لحلب، بيد أن هذا التحرك العسكري الجسور والمنضبط تسبب بانهيار سريع على خطوط جبهات النظام تباعاً، وفي نهاية الأمر سقط نظام بشار الأسد كقصر من ورق، بعد أن اعتراه الفساد والتشتت وأفرغ من محتواه.
بعد مرور قرابة 13 عاماً على النزاع المضني الذي كان شعار نظام الأسد خلاله: (الأسد أو نحرق البلد)، تحقق كل ما قيل في ذلك الشعار بأبشع الطرق، غير أن الحرب السورية وضعت أوزارها بطريقة مفاجئة وفجة.
فقبل أسابيع على ذلك، أخذت مجموعة تضم عشر دول أوروبية تقريباً ترأستها إيطاليا تضغط بشكل كبير على الاتحاد الأوروبي من أجل إجراء مراجعة شاملة للسياسة المعنية بسوريا ومن أجل العودة للتعامل مع نظام الأسد، إذ بعد تقييم الأزمة السورية واكتشاف أنها وصلت إلى مرحلة جمود دائمة، أخذت إدارة بايدن تبحث في السر عن فرصة لعقد اتفاق يقضي بتخفيف العقوبات على نظام الأسد، وكان أساس كل ذلك هو أنه منذ ربيع عام 2023 طبعت معظم دول الشرق الأوسط علاقاتها مع الأسد بعد أن خلصت إلى أنه خرج من الحرب السورية منتصراً، وبأن الطريق الوحيد لحل كثير من الآثار الجانبية المترتبة على الأزمة السورية يعتمد على إشراك النظام نفسه في الحل.
ولكن، وفي غضون عشرة أيام، بدأت من 27 تشرين الثاني وحتى الثامن من كانون الأول، انقلبت على أعقابها تلك التقييمات الأساسية التي حددت نهج معظم دول العالم تجاه سوريا، إذ بعد سنوات من التنديد بأزمة اللاجئين المستعصية والتي ضغطت على اقتصاد الدول الإقليمية وأثارت حفيظة السياسات الشعبوية في أوروبا، فضلاً عن السخط تجاه تجارة المخدرات التي كانت تدر على النظام البائد مليارات الدولارات، وتواصل العنف واستمراره، وتزايد الاحتياجات الإنسانية، أخذ المجتمع الدولي يراقب من بعيد كيف هرب الأسد فجأة ففتح بذلك الباب أمام تطورات هائلة، إن لم تحمل تلك التطورات حلولاً لكل تلك المشكلات دفعة واحدة.
ولكن، في الوقت الذي كان رحيل الأسد بشرى خير بالنسبة لكثيرين، فإن الانتقال الذي ترتب على ذلك والذي حدث بسرعة في دمشق تم بإدارة عنصر فاعل لم يختره سوى قليلون للعب هذا الدور، وهذا العنصر ليس سوى هيئة تحرير الشام، التي كانت في السابق فرعاً لتنظيم القاعدة الذي تشكل على أعقاب سلفه أي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، فقد أتت الهيئة وزعيمها، أحمد الشرع، حاملين في جعبتهم كثيراً من الأمور.
غير أن الهيئة في عام 2025 هي نتاج لثماني سنوات من التطور المنطقي غير المسبوق ضمن العالم السلفي الجهادي، إذ بعد أن أعلنت عن فك ارتباطها بتنظيم القاعدة في أواسط عام 2016، تقبلت الهيئة وجود القوات العسكرية التركية في أراضيها، ووافقت ثم التزمت بوقف إطلاق النار لسنوات طويلة بضمانة روسية-تركية، ثم نجحت بالقضاء على تنظيم الدولة والقاعدة ضمن أراضيها، وخلال السنوات القليلة الماضية، دعمت الجماعة “حكومة الإنقاذ” المؤلفة من تكنوقراط في شمال غربي سوريا والتي وفرت الخدمات العامة بشكل أكبر وبكفاءة أعلى مقارنة بمناطق سورية أخرى، في الوقت الذي أخذت قياداتها تتواصل بالسر مع حكومات الدول الغربية وتتعامل معها، وذلك على المستويين الدبلوماسي والأمني، وخلال تلك السنين، تغير التوجه الأيديولوجي للجماعة بشكل نهائي بعيداً عن التوجه المحلي والعالمي، فتخلت عن “الجهاد” واعتنقت “الثورة”، والعلم الأخضر للانتفاضة الشعبية السورية.
وعلى الرغم من تلك التغيرات الملحوظة، لم يتوقع أحد لأحمد الشرع أن يقف في يوم من الأيام في القصر الرئاسي بسوريا وهو يرتدي بزة رسمية ويضع ربطة عنق في أثناء ترحيبه بوزراء خارجية الدول الأجنبية والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كما لم يتخيل له أحد أن يصعد على متن طائرات الدولة الخاصة ليزور السعودية وتركيا، وأن تصله دعوة من باريس عبر الرئيس إيمانويل ماكرون. إذ بعد سنوات من الدبلوماسية والاجتماعات السرية مع الدبلوماسيين في تركيا، اعتلى وزير خارجية الشرع أسعد الشيباني (المعروف باسم زياد العطار) منصة المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بتاريخ الثاني والعشرين من شهر كانون الثاني ليشارك في جلسة نقاش وجهاً لوجه مع طوني بلير.
في الوقت الذي سارعت الحكومات الإقليمية وأوروبا للتعامل مع فريق أحمد الشرع بدمشق، كذلك فعلت إدارة بايدن، إذ كانت بربارة ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، أول من التقى بهذا الفريق في دمشق في العشرين من كانون الأول، وبحسب الأخبار، فإن المبعوث الرئاسي لشؤون الأسرى، روجر كارستينس، وكبير المستشارين الذي عين حديثاً، دانييل روبنشتاين، كانا حاضرين في ذلك الاجتماع، ولكن بحسب ما ذكرته ثلاث شخصيات رفيعة من هيئة تحرير الشام، حضر الاجتماع “جنرال أميركي” أيضاً، ووفقاً لما ذكروه، ولما جاء على لسان الشرع نفسه، فإن الجنرال انفرد بالشرع بنهاية الاجتماع ووصف له كيف راقب المعركة بأكملها “عبر المسيرات والأقمار الصناعية” ووصفها بأنها أكثر عملية عسكرية “تميزاً” و”تنظيماً” شاهدها في حياته، ثم أخرج من جيبه ميدالية وقدمها للشرع مهنئاً إياه على نصره.
التعاون مع أميركا
وخلال الأسابيع التي تلت ذلك الحدث، أقامت الولايات المتحدة علاقة استخباراتية رسمية مع العملية الانتقالية التي تترأسها هيئة تحرير الشام، وذلك عبر وزارة الداخلية التابعة لها (والتي يرأسها أنس خطاب، الذي كان أمير تنظيم الدولة في العراق على الحدود السورية العراقية)، والنخبة من الأمن العام، فكانت أكبر مخططات تنظيم الدولة ارتكاب مجزرة بالمسلمين الشيعة في مقام السيدة زينب بدمشق، غير أن الأمن العام أحبط تلك العملية بفضل الاستخبارات الأميركية إلى جانب إحباطه لما لا يقل عن سبع مخططات أخرى بحسب المقابلات التي أجريت في دمشق. وبعيداً عن المستوى الاستخباراتي، مايزال الجيش الأميركي يتواصل بشكل منتظم مع العملية الانتقالية التي تترأسها الهيئة، وينسق عمليات لمحاربة تنظيم الدولة في البادية السورية، مع تسهيل المفاوضات الدورية الشخصية التي تتم بين شركاء أميركا من قوات سوريا الديمقراطية وقيادات الهيئة في قاعدة الضمير الجوية القريبة من دمشق. هذا ولقد سمح الجيش الأميركي للقرار الصادر عن شركاء أميركا من الجيش السوري الحر الموجود في قاعدة التنف بقبول الاندماج ضمن العملية التي تترأسها الهيئة والتي تسعى إلى تشكيل قوات مسلحة جديدة في سوريا.
وحالياً، ماتزال العملية الانتقالية التي تجري في سوريا اليوم تحت إدارة مجلس الوزراء وفريق من المحافظين يتألف جله تقريباً من قيادات هيئة تحرير الشام وحلفائهم الإسلاميين، وعلى رأسهم حركة أحرار الشام والجبهة الإسلامية، وبالنسبة لمعظم السوريين في مختلف أنحاء البلد، فإن هذه الحكومة المؤلفة من “لون واحد” تعتبر مصدراً للقلق، بما أن التنوع الكبير الموجود بسوريا بقي بلا أي تمثيل.
ولكن، في الوقت الذي خرج علينا الرئيس المؤقت لسوريا الذي نصب نفسه بنفسه كشخصية من المشاهير، اكتشفنا بأن شعبيته الحقيقية تتجلى من خلال حواره مع السوريين القادمين من مختلف أنحاء سوريا، فقد نشأ الشرع وترعرع ضمن بيئة دمشقية من الطبقة الوسطى العليا وكان يدرس في مدرسة خاصة بمنطقة المزة التي يسكنها النخبة، ولذلك عاد الشرع لشخصيته القديمة التي تترك أثراً آسراً على الناس، كما تحولت زوجته وأطفاله إلى شخصيات عامة اليوم، إلى جانب إظهاره لحنكة سياسية مؤثرة وتكيفه السريع مع الوضع عند تعرضه لانتقادات، وهنالك من يقول أنه عين “مستشاراً متخصصاً بالأزياء” حتى يرتب له ما ينبغي عليه ارتداؤه.
صبر السوريين لن يستمر إلى الأبد
بيد أن البراغماتية والفطنة السياسية لن تمضي معه أبعد من ذلك عندما يواجه هول التحديات التي تشهدها سوريا، إذ يقع الاقتصاد المنهار في عين كل معضلة، بعد أن دمر أكثر من 50% من البنية التحتية الأساسية لسوريا، ونزح أكثر من نصف سكان البلد، وأصبح 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر وخسرت الليرة السورية 99% من قيمتها، وبلغت حدة الأزمة الاقتصادية أعلى درجاتها، كما أن المساعدات الأممية المخصصة لسوريا قد تراجعت بشكل كبير منذ رحيل الأسد، في وقت تضاعفت الحاجة للمساعدات وأصبحت أعلى مما كانت عليه في السابق. وبما أن الفرحة العارمة التي أعقبت سقوط الأسد جعلت الشعب يصبر لفترة أطول بوجود سلطات تصريف الأعمال الجديدة في سوريا، فإن هذا الكبت والصمود لن يستمر إلى الأبد، إذ تبدو الوعود الطامحة والتطمينات المكرورة جيدة، بيد أن تحقيق تقدم مطلوب بات أمراً واجباً.
وفي خضم هذا الجو السائد، أحكمت العقوبات الأميركية والأوروبية الخناق على رقبة سوريا، إذ خلال الأسابيع الأخيرة لبايدن في الرئاسة، أعلنت إدارته عن رخصة عامة تمتد لستة أشهر وتسمح للطاقة وللحوالات النقدية بالوصول إلى سوريا لفترة مؤقتة، ولكن بحسب ما ذكره بعض رجال الأعمال السوريين الموسرين والحكومات الإقليمية الساعية للاستثمار في سوريا، فإن تلك الإجراءات المؤقتة لم تقدم سوى القليل لتهدئة المخاوف القديمة وإزالة صفة الخطر عن الأوضاع داخل المؤسسات المالية التي باتت بحاجة لتسيير تلك الصفقات المالية. وفي تلك الأثناء، أوحت أوروبا بأنها منفتحة على فكرة تخفيف العقوبات طوال أسابيع، من دون أن تتخذ أي خطوات فعلية. ولهذا، فإن أي أمل ببدء الاقتصاد السوري باستعادة عافيته مايزال حلماً بعيداً عن التحقق.
معضلة قسد وحلها
وعلى مقلب آخر، كشفت الاجتماعات التي عقدت مؤخراً مع المجتمع المدني من مختلف أنحاء سوريا مدى تراجع شعبية قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على شمال شرقي سوريا بإجماع السوريين من مختلف القطاعات، إذ جرى الحديث عن “احتلال” قسد لأراض سورية، و”سرقتها” للموارد الطبيعية في البلد (أي النفط والغاز والموارد الزراعية) كمشكلة تحتاج إلى حل فوري، ويفضل أن تحل بصفقة دبلوماسية أو بعمل عسكري إن لزم الأمر.
غير أن قسد ذات الغالبية الكردية عرض عليها الحصول على حقوق كاملة للمجتمع الكردي، كما عرض عليها أن تصبح الكردية اللغة الرسمية الثانية لسوريا، وأن تحظى قسد بتمثيل في جميع الجهات الحكومية الانتقالية، ولكن شريطة تسليم الموارد الموجودة ضمن المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى دمشق، والأهم من ذلك أن تحل قسد نفسها وأن تضع مقاتليها الذين يقدر عددهم بالآلاف وبشكل كامل تحت إمرة القوات المسلحة الجديدة لسوريا، على أن يجري توزيع المقاتلين لتأدية خدمتهم في مختلف أنحاء البلد. وبعد أسابيع من مواصلة المحادثات وتوقفها ثم متابعتها من جديد، تم التوصل أخيراً إلى اتفاق بين قسد ودمشق في العاشر من آذار، وقعه في العاصمة السورية أحمد الشرع وقائد قسد مظلوم عبدي، وينص هذا الاتفاق على اندماج قسد ضمن الحكومة المؤقتة وتحت إمرتها. وفي الوقت الذي سيحتاج التنفيذ الكامل لبنود الاتفاقية إلى وقت، وفي الوقت الذي ماتزال كثير من العوائق تقف في الطريق، تحولت الاتفاقية إلى مصدر للاحتفال في عموم سوريا، كما أنها تعتبر إنجازاً مهماً للغاية بالنسبة للجيش الأميركي الذي بقي جزءاً لا يتجزأ من المفاوضات والاتفاقية.
احتمال الانهيار السوري الثاني
ومع تقدم العملية الانتقالية في سوريا، ظهرت أمامها تحديات جسيمة، إذ بالنسبة للمجتمع الدولي، فإن ضمان نجاح العملية الانتقالية يجب أن ينظر إليه على أنه فرصة تاريخية لإعادة رسم شكل الشرق الأوسط ولتوجيه ضربة قاصمة للأجندة الإقليمية الثورية التي تحملها إيران، ولكن في الوقت الذي تستعد المنطقة برمتها لتقديم دعم كبير لسوريا المدمرة التي أضحت بحاجة ماسة للمساعدة، ماتزال أوروبا بطيئة في هذا المضمار، أما إدارة ترامب فغائبة تماماً. ثم إن الحرية التي اكتشفتها سوريا منذ مدة قريبة قد تتعرض لمشكلات معقدة، وخاصة فيما يتصل بالدور القيادي الذي تلعبه هيئة تحرير الشام، غير أن الوقت ليس لصالح سوريا، ناهيك عن أن الوقت يمر بسرعة كبيرة. لذا في حال عدم رفع العقوبات، عندئذ يحق لنا أن نتهم الولايات المتحدة وأوروبا بتسهيل عملية الانهيار المحتمل بما سيفتح فصلاً آخر من فصول النزاع المرير وانعدام الاستقرار في سوريا.
وقد لمح العالم والشعب السوري شكل الانهيار الثاني في مطلع آذار من هذا العام، وذلك عندما تسببت الهجمات غير المسبوقة التي شنها مسلحون علويون موالون للأسد في إحدى الليالي بوقوع عنف مريع طوال يومين قتل خلالهما مئات المقاتلين والمدنيين في كل من اللاذقية وطرطوس. وتشير الأدلة الأولية التي تشتمل على محادثات تم اعتراضها ووثائق جرى ضبطها، إلى احتمال أن يكون لإيران دور في الهجمات الأولى، والتي كان هدفها الواضح إثارة حالة مجنونة من القتل بدافع الانتقام والثأر. وفي الوقت الذي عبرت محاولة الحكومة المؤقتة تشكيل لجنة تحقيق وآليات لإحقاق العدالة عن أولى البوادر الطيبة، فإن عجزها في السيطرة على الأحداث واحتمال تواطؤها في بعض الجرائم يمثل تهديداً وجودياً لحكمها. وفي الوقت الذي تتوق الغالبية الساحقة من السوريين للاستقرار، فإن وجود هؤلاء الأشخاص الحريصين على الرجوع إلى حالة الفوضى يجعل مستقبل البلاد في وضع متقلب لا يمكن لأحد أن يتوقع إلى أين سيفضي.
المصدر: Hoover Institution
تلفزيون سوريا
——————————
إيران في سوريا بعد الأسد: محاولات يائسة لاستعادة النفوذ وعودة إلى سياسة الفوضى
2025.03.12
إسطنبول – حسام الملحم
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، لم تستوعب إيران الصدمة. فالحدث الذي أفرح الشعب السوري وخلّص المنطقة والإقليم من نظام حكم دموي عاش لعقد ونصف على تجارة المخدرات، أقلق إيران وأخرج سوريا من فلكها ومن محورها، ودمّر مشروعها الذي عملت على إطالة حكم بشار الأسد في سبيله، لتنتقل طهران من العمل العلني إلى الاشتغال في كواليس المشهد السوري.
ومنذ الأيام الأولى لإسقاط الأسد والإطاحة بمنظومة حكمه، لم تقدّم إيران رسائل إيجابية تجاه دمشق، فاتهم رأس الهرم فيها، المرشد علي خامنئي، أمريكا وإسرائيل وتركيا بالتخطيط للأحداث التي أسقطت الأسد، وقال: “إن ما جرى في سوريا كان لدولة مجاورة (في إشارة إلى تركيا) دور واضح فيه، لكن أمريكا وإسرائيل هما السبب الرئيس لذلك”.
كما اعتبر أن قوى المعارضة السورية تسعى لاحتلال سوريا، مضيفاً أن المقاتلين (في إشارة للفصائل السورية المعارضة) يسعون إلى احتلال الأرض من شمال سوريا إلى جنوبها، في الوقت الذي تسعى فيه إيران لترسيخ وجودها في المنطقة، مهدداً باستعادة “الشباب الغيور” لـ”المناطق المحتلة”.
وفي وقت لاحق، وصف خامنئي انتصار الثورة السورية بـ”الفوضى”، وتوعد بهزيمة إرادة الشعب السوري الذي أسقط الأسد، وقال: “ليس لدى الشاب السوري ما يخسره، فماذا يفعل؟ يجب عليه أن يقف بإرادة قوية أمام أولئك الذين خططوا ونفذوا لهذه الحالة من انعدام الأمن”.
التصريحات الإيرانية هذه قابلها رفض رسمي من دمشق لأول مرة منذ عقود، جاء على لسان وزير الخارجية أسعد الشيباني، الذي حذّر إيران من نشر الفوضى في سوريا، ودعاها لاحترام إرادة السوريين وسيادة سوريا. كما قوبلت برفض عربي جماعي اعتبر التصريحات الإيرانية تجاه سوريا تأجيجاً للفتن بين أبناء الشعب السوري.
تلويح بحرب أهلية في سوريا
ورغم أن طهران خففت دبلوماسياً من لهجتها ضد دمشق، حين تحدث وزير خارجيتها عن أن القرار بشأن مستقبل سوريا مسؤولية السوريين وحدهم، عادت إيران إلى سيرتها الأولى بضخ التصريحات العدائية حيال دمشق على لسان مسؤولين عسكريين في “الحرس الثوري الإيراني”، وصولاً إلى تصريحات مستشار خامنئي للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، الذي قال في 4 من آذار: “إن هناك احتمالية لاندلاع حرب أهلية في سوريا في أي لحظة”، كما تحدث عن أدلة تراها إيران تشير إلى وجود مقدمات لتفكك الدولة السورية، من منظوره.
الموقف الإيراني من دمشق لم يقابل برفض سوري وعربي فقط، إذ انتقد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، نهج إيران في إدارة السياسة الخارجية عبر ميليشيات في دول إقليمية، واصفاً إياها بأنها “سياسة عالية المخاطر”، وتفرض أعباء هيكلية كبيرة على المدى الطويل على النظام الإيراني والمنطقة. ما قابله رد إيراني غير ودي، ودعوة علي أكبر ولايتي للمسؤولين الأتراك للالتزام بـ”الآداب الدبلوماسية”، على اعتبار أن طهران “لن تصمت أمام مبالغات أنقرة”، وفق قوله.
وفي خطوة تصعيدية إضافية، استدعت الخارجية الإيرانية السفير التركي في طهران للاحتجاج على تصريحات فيدان، بعدما وصفتها بأنها “غير بناءة للغاية”، لترد أنقرة باستدعاء القائم بالأعمال الإيراني لديها.
إيران لن تتوقف عند هذا الحد، وهي مسألة متوقعة سياسياً، وحذّرت منها الولايات المتحدة لمرتين في شباط، على لسان القائمة المؤقتة بأعمال الممثل الدائم لها في مجلس الأمن، دورثي شيا، التي حذّرت في 22 من شباط الماضي من محاولات طهران إعادة ترسيخ نفوذها في سوريا، وقالت: “إن مؤشرات تحذيرية لنفوذ إيران الخبيث وعزمها على إعادة ترسيخ وجودها في سوريا واضحة”.
كما قالت شيا أمام مجلس الأمن في 12 من الشهر نفسه: “نحن نشعر الآن بالقلق إزاء التقارير التي تتحدث عن تشكيل مجموعات جديدة في سوريا تحرض على العنف، بما في ذلك من خلال محاولة جر إسرائيل إلى صراع مباشر، وتتحدث التقارير عن أن هذه المجموعات تتلقى الدعم المالي واللوجستي من إيران، حتى بعد مغادرة هذه الأخيرة للبلاد”.
عودة إلى “لغة الميليشيات”
وخلال الفترة الماضية، تشكّلت عدة ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون في الساحل السوري، تدين بالولاء للنظام السابق، وعملت على ضرب السلم الأهلي واستهداف قوات الأمن العام التابعة للحكومة السورية، من خلال كمائن غادرة، وصولاً إلى إعلان إيران ومباركتها تشكيل ما قالت إنه “جبهة المقاومة الإسلامية” في سوريا، تحت مسمى “أولي البأس”.
وإلى جانب أن شعار الميليشيا المذكورة قريب بالشكل من شعارات كل الميليشيات التي شكلتها إيران في المنطقة، فالفصيل اتخذ لنفسه ذات الاسم الذي أطلقه أمين عام “حزب الله” اللبناني، نعيم قاسم، على المعركة مع إسرائيل، إثر اغتيال الأمين العام السابق، حسن نصر الله.
وسائل إعلام إيرانية، منها وكالة “مهر”، نقلت عن القائد العام لـ”الجبهة”، دون أن تسميه، أن هذه الخطوة “رد فعل طبيعي وشرعي لمواجهة محاولات التقسيم والتهجير التي تتعرض لها البلاد”.
كما ذكرت أن “الجبهة خرجت من رحم الشعب السوري لمواجهة أي محاولات للمساس بأمن البلاد في ظل غياب القوى السياسية والاجتماعية التي كانت تدير سوريا سابقاً”، ما يضع إيران في حالة إنكار ورفض اعتراف مستمر بالإدارة السورية الجديدة، في خطوة تتعارض مع مخرجات اجتماعات الرياض الدولية بشأن سوريا، ومؤتمر باريس الدولي بشأن سوريا، حين نصّ بياناهما الختاميان على دعم الحكومة الانتقالية في سوريا، ودعم عملية الانتقال السياسي وصولاً إلى حكومة تشاركية تمثّل مختلف أطياف الشعب السوري.
وفي 6 من آذار، بدأت فلول نظام الأسد والميليشيات المشكلة تحت نفس الراية باستهداف أرتال لقوات الأمن السوي الحكومي في الساحل السوري أوقعت خلال يومين أكثر من 100 قتيل من عناصر الأمن، ما قابلته الحكومة بإطلاق حملة أمنية ما تزال مستمرة لتطهير المنطقة من الفلول بعد حالة الفوضى التي سببوها على المستوى الإنساني والخدمي.
ويرى المحلل السياسي العراقي المقيم في واشنطن، هيثم هيتي، أن بقايا محور إيران في المنطقة لها دور كبير في العملية ضد الحكومة الجديدة في سوريا، رداً على سرعة إثبات الحكومة الجديدة نفسها وظهورها بصورة إيجابية جداً، أمام العرب والمجتمع الدولي، فجاءت هذه الخطوة لتوريط الحكومة السورية بأعمال بشعة نوعاً ما في سبيل تشويه صورتها وإسقاط الصورة الإيجابية التي كونتها في ثلاثة أشهر.
وقال المحلل السياسي لموقع “تلفزيون سوريا”، إن إيران الآن لا تقبل أن تكون سوريا بالكامل محط نفوذ تركي، ما يعني دعم طهران لـ”قسد” أو الفلول، فإن لم تحصل على كل سوريا، فيمكن من منظورها أن تحصل على جزء عبر سعيها إلى زعزعة الوضع، أو فدرلة سوريا، رداً على تركيا، وهي خطوة تحمل مخاطر لإيران في الوقت نفسه.
استقرار سوريا يهدد مصالح إيران
الباحث السياسي المختص بالشأن الإيراني وقضايا الشرق الأوسط، وجدان عبد الرحمن، أوضح لموقع “تلفزيون سوريا” أن سوريا كانت العمق الاستراتيجي الأهم لإيران، وفقدان السيطرة عليها يُشكل ضربة قوية لاستراتيجيتها الإقليمية. فسوريا هي الممر الأساسي برياً الذي يسمح لطهران بتزويد “حزب الله” بالسلاح، وتعزيز نفوذها في المنطقة عبر التمويل، وحتى من خلال تجارة المخدرات مثل “الكبتاغون”، الذي كان يُصنع في سوريا ويمثل مصدر دخل مهم لتمويل أنشطتها، ما يجعل خسارة سوريا خسارة كبرى للنظام الإيراني، ولهذا لن تسمح طهران بوجود استقرار حقيقي في سوريا، لأن استقرارها لا يخدم مصالحها، ويهدد نفوذها الإقليمي.
كما أن الوجود الإيراني في المنطقة مبني على خلق الفوضى وعدم الاستقرار، لأنه كلما استقرت الأوضاع في الدول المجاورة، زادت الضغوط على الداخل الإيراني، ما قد يؤدي إلى نقل المعركة إلى داخل إيران نفسها. لذلك، من المتوقع أن تواصل إيران محاولاتها لإعادة فرض نفوذها في سوريا، سواء من خلال الميليشيات التابعة لها أو عبر عرقلة أي حلول سياسية حقيقية.
وبالنسبة لتقديم إيران تصريحات دبلوماسية قبل العودة للهجة التهديد، بيّن الباحث أن تضارب التصريحات جزء من النهج السياسي لطهران منذ تأسيس “الجمهورية الإسلامية” ولا يقتصر على الخلاف بين المؤسستين السياسية والعسكرية، بل يمتد إلى داخل كل منهما، لتظهر تصريحات متناقضة بين السياسيين أنفسهم، وبين القيادات العسكرية أيضاً، دون أن يعني ذلك تبايناً في مراكز القرار، على اعتبار أن المادة 110 من الدستور الإيراني تنص على أن المرشد الأعلى هو واضع السياسات العامة للدولة داخلياً وخارجياً، وصاحب الكلمة الأخيرة في القضايا الاستراتيجية.
وبناء على ذلك، فما يبدو تضارب تصريحات هو جزء من تكتيك سياسي إما للمناورة أو لتمرير رسائل متعددة لجهات مختلفة.
وطالما اعتمدت إيران على الميليشيات التابعة لها في سوريا ولبنان وأذرعها في سوريا لتنفيذ أجندتها الإقليمية، لكن مع التراجع الحاد في قوة هذه الميليشيات تراجع تأثير إيران وتحديداً داخل سوريا، حيث لم يتبقى لها سوى بعض الخلايا المتفرقة التي لا تستطيع فرض واقع جديد.
الحملة الأمنية والعسكرية ضد فلول النظام أنهتها وزارة الدفاع السورية في 10 من آذار، وكانت هجوم الفلول والحملة التي أعقبته 803 قتلى، بينهم 172 عنصراً من قوات الأمن العام و211 مدنياً، قتلوا بإطلاق نار مصدره فلول الأسد.
وتخلل الحملة انتهاكات من قبل أفراد عسكريين دفعت الرئيس السوري إلى تشكيل لجنة تقصي حقائق، وأخرى للسلم الأهلي.
وفي مقابلة أجراها مع وكالة “رويترز” في 10 آذار، حمّل الرئيس السوري، أحمد الشرع، الفرقة العسكرية التي كان يقودها ماهر الأسد شقيق بشار (الفرقة الرابعة) ودولة أجنبية متحالفة معها، المسؤولية عن إراقة الدماء في الساحل السوري.
ورغم أن الشرع لم يذكر إيران بالاسم، لكنه أشار إليها بأنها جهة تضررت من التغيير الذي جرى في سوريا، وليس هناك خسارة بحجم خسارة إيران بعد سقوط النظام وفرار بشار الأسد.
مع سقوط نظام الأسد وخروج ميليشيات إيران عن الخدمة في سوريا، باستثناء من تحاول دعمهم في الساحل أو شمال شرقي سوريا، انقطع الطريق البري بين ميليشياتها في العراق ولبنان. وهذا يعني بالضرورة قطع خط الإمداد الإيراني عبر البر لـ”حزب الله”، كما أن الخيار الجوي غير متاح طالما أن مطار رفيق الحريري في بيروت تحت أنظار إسرائيل. وبالتالي، فالتركيز على الساحل السوري يعني تركيزاً على طريق بحري تتمناه إيران، فالبر مغلق، ولا وجود لقبول شعبي أصلاً لإيران في الأراضي السورية، حيث يعتبرها الشعب السوري شريكة للأسد بالقمع والقتل والتدمير عبر أذرع طائفية حاولت من خلالها تغيير صورة البلاد على مختلف المستويات، وهو ما نسفه بلمح البصر انتصار الثورة في سوريا.
تلفزيون سوريا
————————————-
مجموعة الأزمات: في خضم كل المخاطر سوريا ما تزال تتحسس طريقها بعد سقوط الأسد
ربى خدام الجامع
2025.03.12
تواجه الحكومة السورية المؤقتة أكبر تحد لها منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، إذ في السادس من آذار، نفذت قوات شبه عسكرية موالية للنظام المخلوع هجمات نسقت لتنفيذها سلفاً ضد قوات الأمن العام في كل من جبلة وبانياس على ساحل المتوسط، فدفع هذا الهجوم إلى قيام هجوم مضاد سريع وفوضوي شنته قوات الأمن وغيرها من الفصائل المسلحة التي تدعم الحكومة، وهكذا وقعت اشتباكات عنيفة في كل من اللاذقية وطرطوس وحماة وأسفرت عن كثير من القتلى بين صفوف قوات الأمن، إلى جانب مقتل عدد كبير من المتمردين الجدد، وفي الوقت الذي لم يتم التحقق من أعداد القتلى بدقة، تشير التقارير إلى مقتل مئات المدنيين أيضاً في تلك الأعمال الوحشية الصادمة التي شملت إعدامات ميدانية نفذتها بعض العناصر التابعة للحكومة. ويبدو بأن جميع الضحايا المدنيين من الطائفة العلوية التي تنتشر في مدن الساحل السوري وقراه، أي للطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد، كما أن معظم المجندين في جيش النظام البائد ومخابراته منها.
تعتبر هذه المرحلة مرحلة خطرة لبلد يعاني الأمرين وهو يحاول الخروج من الحكم الاستبدادي لنظام الأسد والحرب المدمرة التي امتدت لعقود، وينطبق الأمر ذاته على الحكومة المؤقتة التي يتعين عليها أن تكون موضع ثقة للشركاء الأجانب، حتى يرفعوا عنها العقوبات التي أصابت اقتصاد البلد في مقتل، إلى جانب إقناعهم بمساعدتها في إعادة الإعمار. فالسلطات الجديدة تُقلق سوريين ومن هم في الخارج، ولا يمكنها تحمُل تبعات جرائم جديدة تنفذ بحق الشعب السوري. ولهذا أعلن الرئيس المؤقت أحمد الشرع بأن حكومته ستحاسب: “كل من تورط في سفك دماء المدنيين” وأضاف بأنه: “لا أحد فوق القانون”، ولذلك ينبغي على دمشق أن تتحرك بسرعة وبشكل حاسم فتفصل العناصر المسلحة المتهمة بارتكاب فظائع من الخدمة الفعلية مع ضمان بقاء أشد عناصرها انضباطاً في المناطق الحساسة، كما ينبغي عليها أن تقوم وعلى الفور بكبح جماح جميع الفصائل المسلحة وضمها جميعاً تحت لواء قيادة صارمة، وأن تعقب ذلك بخطوات أولية لإقامة عدالة تقوم على الشفافية وتعمد لمحاكمة المتهمين بارتكاب أعمال القتل الأخيرة وكذلك أي مرتكب لأي جريمة قد تحدث مستقبلاً، وينطبق الأمر ذاته على الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد وغيره خلال الحرب، إلى جانب التنسيق من أجل إجراء حوار يمكن للسوريين من مختلف المشارب أن يناقشوا من خلاله مخاوفهم وأولوياتهم مع السلطات ومع بعضهم بعضاً، على أن يكون هذا الحوار أشد مصداقية وأوسع مشاركة من الذي يجري التحضير له اليوم.
التوتر الذي وصل إلى ذروته
إن اندلاع العنف في السادس من آذار أوصل التوتر الذي كان يحتدم شيئاً فشيئاً طوال أشهر إلى ذروته وذلك ضمن أجزاء من الساحل السوري والمناطق الرئيسية الموجودة فيه حيث يعيش معظم أبناء الطائفة العلوية. إذ بعد انهيار نظام بشار الأسد، تعهد قادة العلويين بدعم الحكومة الانتقالية التي تترأسها هيئة تحرير الشام الإسلامية. وبالمقابل، تعهدت الهيئة بحماية الطائفة من كل من يسعى للانتقام من أجل المظالم التي وقعت خلال حقبة الأسدين. ولكن القلق ظل يساور أغلب العلويين الذين جندوا بأعداد هائلة ضمن قوات النظام، وكان الأسد يستعين بهم على الدوام كوقود للحرب، ولهذا اعتقدوا بأنهم جميعاً سيجبرون على دفع ثمن ما نفذه النظام البائد من أعمال تخريبية، كما خافوا أن يحرموا من مقدرات البلد الاقتصادية ومن المشاركة السياسية في ظل القيادة الجديدة.
قبل العنف الذي قام في بداية آذار في كل من اللاذقية وغيرها، رشحت أخبار حول حدوث هجمات متفرقة استهدفت علويين وجرى تداول ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومعظم تلك الأخبار نشرتها حسابات يديرها معارضون للسلطات الجديدة، ولكن من الصعب التحقق من صحتها. وبعض مقاطع الفيديو التي نشرت إما أعيد تدويرها كونها حدثت في زمان أو مكان آخرين، أو أنها مجرد فبركات صريحة، ويرى البعض بأن بعض تلك الحوادث وقعت بالفعل، ومن الواضح بأنه لا يوجد انضباط أو قيادة أو تحكم بين بعض العناصر التابعة لقوات الحكومة، وخاصة تلك العناصر التابعة لفصائل مسلحة أخرى غير الهيئة والتي أصبحت تتبع للحكومة الآن.
بيد أن تواصل تلك الحوادث واستمراريتها غذى الإحساس بانعدام الأمان، وخلق تهديداً وجودياً بين عدد من أفراد الطائفة العلوية الذين بلغ منهم التوتر كل مبلغ بعد الانهيار المفاجئ لنظام الأسد. فأصبح العلويون أشد قلقاً من غيرهم، نظراً للدور الذي لعبه كثير منهم في جيش النظام البائد ومخابراته والقوات الرديفة له والتي انحلت إثر انهيارها، بما أن عناصر تلك القوات لم تعد تحصل على راتب من الدولة، ثم إن التوتر الكبير الذي تحس به الطائفة العلوية تجاه نوايا الحكومة الجديدة سمح لأصوات موالية للأسد بأن تردد أفكارها بين أبناء الطائفة، وبعض هؤلاء الموالين تمنوا للنظام البائد بأن يعود، في حين أن بعض الضباط وقادة الميليشيات السابقين حافظوا على علاقاتهم مع الجماعات المسلحة الموجودة خارج سوريا، وعلى رأسها حزب الله في لبنان، والدول الأجنبية مثل إيران. ولهذا ولكل تلك الأسباب مجتمعة، توفرت ظروف قيام تمرد واستمراره، وخاصة في المنطقة الجبلية الممتدة على الساحل السوري.
نظام جديد يسعى لتحقيق الاستقرار
إن ظهور تمرد منظم يهدد جهود هيئة تحرير الشام في ترسيخ سيطرتها وحكمها ونشر الاستقرار في سوريا بما يساعد هذا البلد الذي مزقته الحرب وأفقرته على إعادة البناء. إذ عندما وصلت الهيئة إلى دمشق في مطلع شهر كانون الأول الماضي، كان تعداد مقاتليها قد وصل إلى ثلاثين ألفاً، في حين أن بقية فصائل الثوار مجتمعة كان لديها نحو ثمانين ألف مقاتل، ومعظم هؤلاء المقاتلين ينتمون إلى الجيش الوطني السوري الذي تدعمه تركيا، وهو عبارة عن مجموعة من الميليشيات التي تتفاوت في انضباطها ولا تجمعها قيادة موحدة. فما كان من الحكومة المؤقتة إلا أن عدلت وضع الجماعات التابعة لها وحشدتها تحت لواء الهيئة ضمن ما يعرف بعملية الدمج الجديدة للأمن العام، وسعت لنشر قطعات تلك القوات في مختلف أنحاء المناطق التي تسيطر عليها من سوريا، مع سعيها في الوقت ذاته لتجنيد متطوعين جدد، وإعادة فلول عساكر النظام وعناصره الأمنية إلى بيوتهم من دون أن تدفع مستحقاتهم. وهكذا أصبح بوسع قوات الأمن العام الجديدة أن تنتشر بسرعة في مناطق عدة بالبلد، وخاصة في العاصمة وكبرى المدن مثل حلب وحماة، فأعادت الثقة بها وحافظت على الهدوء في تلك المناطق، غير أن العساكر الجدد الذين لم يتلقوا سوى الحد الضئيل من التدريب، لم يكن لهم دور فاعل في المناطق التي فرزوا إليها، وعلى رأسها حمص. كما أن معظم الفصائل المسلحة واصلت نشاطها بشكل شبه مستقل عن قيادة الأمن العام.
في المناطق التي تعرض الأمن العام لضغط شديد، مثل حمص المدينة والريف، إلى جانب ريف حماة، أخذت الاضطرابات تستعر منذ سقوط الأسد، فقد خلفت الحرب إرثاً ثقيلاً من العنف الطائفي في تلك المناطق التي تتسم بتنوعها السكاني الكبير، واليوم، شهدت حالات قتل انتقامية عديدة، إلى جانب حالات الخطف، التي كانت من أجل فدية في بعض الأحيان، ما خلق إحساساً بالغضب العارم بين عامة الناس، ولم يتضح الدافع وارء كل عملية عنف، بيد أن العلويين كانوا الطرف الذي تلقى معظم تلك العمليات، بما أن أغلبها وقع في الساحل وفي حمص أو حماة. ولذلك أضحت السلطات الجديدة في دمشق تعاني وهي تحاول إعادة الأمان للشارع، إما بسبب عدم توفر إمكانيات لديها لتحقيق ذلك أو بسبب عدم قلقها حيال ذلك، وهذا ما أسهم في تغذية الإحساس باضطهاد الدولة وظلمها بين صفوف العلويين بشكل خاص.
وإلى جانب العنف، تلوح قضية مستقبل العلويين في الدولة السورية الجديدة، فقد سعت قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة للتخفيف من مخاوف الطائفة عندما قدمت نفسها بأنها ليست طائفية، وخلال حملات الاعتقال التي نفذها الأمن العام، سعى للقبض فقط على الأشخاص المتورطين بجرائم لصالح نظام الأسد البائد. أما عملياً، فقد كان لدى العلويين مبرر للشك بتلك التطمينات، لأنهم تعرضوا لإقصاء كبير من الأطر السياسية والعسكرية الجديدة على سبيل المثال، كما لم تقدم الحكومة أي خطة لإدماج من سرحوا من العساكر في جيشها الجديد، وعللت ذلك بالجروح الغائرة التي خلفتها الحرب بالإضافة إلى رفض معظم مقاتلي الثوار للخدمة إلى جانب أعدائهم السابقين. وقد خشي معظم الشارع السوري من توظيف ضباط النظام السابقين أو مسؤوليه الحكوميين الذين يعتبرونهم عناصر مكنت النظام البائد من ممارسة عنفه المفرط. ويعتبر انعدام الأمان على المستوى الاقتصادي تحدياً هائلاً هو أيضاً، إذ في الوقت الذي أضر تسريح أعداد هائلة من الموظفين بالقطاع الحكومي الشعب بكامله، كان العلويون أشد من تضرر ضمن النصف مليون الذين سرحوا من القطاع الأمني، إذ خسر غالبيتهم السكن الذي قدمته له الدولة، كما تعرضت زوجات ضباط الأمن اللواتي وظفن في القطاع العام للطرد أيضاً، لأنهن اعتبرن مذنبات هن أيضاً أو غير جديرات بالثقة نظراً لارتباطهن بأزواجهن.
وسرعان ما تحولت المظالم المترتبة على ذلك والإحساس بانعدام الأمن إلى عنف، فخلال أول شهرين من حكم الحكومة المؤقتة، بدأت فلول نظام الأسد التي لجأت إلى المناطق الجبلية، وأغلبها علوي، والقريبة من الساحل، بشن هجمات على قوات الأمن الجديدة في محاولة صريحة لإبداء حالة انتقام قاسية قد تدفع أهالي المنطقة إلى الوقوف في صفهم. ففي الثالث من آذار مثلاً، قتل متمردون عنصرين من الأمن العام في هجوم مباغت على حي الدعتور باللاذقية، ما دفع السلطات إلى شن عملية للقبض على الجناة الذين قتلوا أربعة مدنيين. وعموماً، فإن الجهود التي بذلوها لاستدراج الأمن العام وكسب تأييد الشارع لم تحقق سوى نجاحات محدودة، بما أن أهالي المناطق العلوية تعاونوا في أغلب الحالات مع قوات الأمن بدلاً من أن يحموا المتمردين. ومع ذلك أصبحت حركة التمرد الناشئة أشد تنظيماً، فنفذت عدداً أكبر من الهجمات التي وصلت إلى ذروتها في أحداث السادس من آذار.
دفعت هجمات المتمردين إلى قيام تعبئة عامة في عموم البلد وذلك لعناصر الحكومة إلى جانب العناصر الفاعلة المسلحة الموالية لها والتي تعمل على ما يبدو خارج سيطرة حكومة دمشق، فردت تلك القوات بشكل خطر وبوحشية كبيرة، وأخذت تتبادل إطلاق النار مع المتمردين الذين واصلوا عمليتهم، غير أن تلك القوات قتلت مدنيين في مدينة بانياس على الساحل السوري القريبة من مدينة اللاذقية، وكذلك في قرية المختارية الواقعة على الطريق الدولي بين اللاذقية وحلب، إلى جانب مناطق أخرى. فما كان من قوات الأمن العام الخاضعة لسيطرة دمشق إلا أن اتخذت خطوات بناءة في بعض المناطق، وذلك عندما عمدت مثلاً لحماية أحياء العلويين في مدينة حمص عبر تشكيل جدار بشري لصد كل من يحاول الانتقام، لكنها فشلت في مناطق أخرى في منع وقوع المجازر التي ارتكبت باسم الحكومة.
اللعب بالنار
قد يتعرض النظام السوري الجديد لمعضلة حقيقية في حال لم تفكر الحكومة المؤقتة بطريقة للتعامل بشكل أفضل مع التمرد الذي زاد ضدها، بعد أن أثر العنف بشكل سلبي حتى الآن على مكانة الحكومة في الداخل والخارج، كما شككت القوى الإقليمية بالسلطات الجديدة، وعلى رأسها إيران وإسرائيل، بما أن لدى كل منهما أجندتها الخاصة بسوريا، ومن المرجح لكلتيهما أن تعتبر تدهور الأوضاع في سوريا بمثابة دليل على استمرار وجود طموحات جهادية لدى الحكومة المؤقتة، كما قد تسعى كل منهما لاستغلال الانقسامات الطائفية في البلد. أما الولايات المتحدة التي خلفت عقوباتها أقسى وطأة على سوريا، فمن المرجح أن يشتد رفضها لفكرة الرجوع عن تلك العقوبات.
وهنا ينبغي على دمشق أن تتصرف بحكمة وسرعة، لأن القمع التعسفي من شأنه أن يزيد من الدعم الشعبي للعناصر الموالية للأسد، فيدفعها لتنفيذ مزيد من العمليات، وهذا ما سيوقع سوريا في دائرة جديدة من القمع والعنف. وبوسع سوريا أن تستلهم ما يحذرها من تلك المغبة من الدروس المستفادة من جارها العراق، إذ بعد إسقاط الولايات المتحدة لصدام حسين، تسبب تهميش السنة العرب الذين اعتبرهم حكام العراق الجدد مسؤولين عن جرائم النظام السابق، بانعدام الاستقرار واستمرار العنف في العراق لعقد من الزمان، قامت خلاله حرب طائفية لمدة ثلاث سنوات. وقد تظهر حالة مماثلة في سوريا اليوم، وذلك لأن أحداثاً دموية مثل التي وقعت في مطلع آذار لن تتسبب في جعل العلويين وحدهم يشعرون بالعزلة والغربة في بلدهم، بل قد تدفع أيضاً بقية الأقليات إلى الشعور بذلك، وعلى رأسهم المسيحيون والشيعة والإسماعيليون والدروز والكرد.
ولكن السرعة في معالجة الأمور تصب في جوهر الحل، إذ في الوقت الذي يفتقر المتمردون للإمكانيات التي تجعلهم يمثلون خطراً عسكرياً حقيقياً خارج الجبال الساحلية، يمكن أن تخرج أجزاء من البلد عن سيطرة الحكومة تحت وطأة لسلسلة من الهجمات المتواصلة على قوات الأمن العام، وبفضل الدعم الذي قد يصل إلى الفلول من عناصر فاعلة خارجية مثل إيران وحزب الله، إلى جانب الرد العسكري المنهك للأمن العام بقوة مفرطة، وفي حال حدوث هذا السيناريو، سيصعب على الحكومة المؤقتة أن تخضع جماعات أخرى لسيطرتها.
يبدو بأن الشرع مدرك لخطورة المرحلة، إذ بعد أن ألقى نصائح عامة تحث قوات الأمن على التصرف وفقاً للمبادئ الأخلاقية في خطابه الذي ألقاه في السابع من آذار، عبر عن رؤية أبعد من ذلك في خطابه الثاني، وذلك عندما شدد على المحاسبة، لتشمل محاسبة العناصر التابعة للحكومة، وأعلن عن تشكيل لجنتين، إحداهما لتقصي الحقائق والأخرى من أجل السلم الأهلي. وستقوم اللجنة الأولى بالتحقيق في أسباب الاضطرابات وتحديد المسؤولين عنها ومحاسبتهم، وسيشمل ذلك العناصر التابعة للحكومة الذين تورطوا في أعمال عنف ضد المدنيين إلى جانب أولئك الذين هاجموا قوات الأمن. أما اللجنة الثانية فستركز على التقرب من الطوائف والاستماع لمخاوفهم، وتقديم الدعم والحماية، وتعزيز التماسك الوطني، أي بالعموم، وبالإضافة إلى ما قامت به الحكومة المؤقتة في أحداث العنف التي وقعت في مطلع آذار، يتعين عليها أن تتصرف بسرعة فيما يخص محاسبة الجماعات المسلحة المتحالفة والمسؤولة عن ارتكاب العنف والتنكيل بالمدنيين.
أما على مستوى العمليات، فيجب على قيادة الأمن العام أن تضطلع بمسؤولية مباشرة عن حملة إعادة النظام للبلد، وضمان توقف العمليات الانتقامية. كما يجب توقيف الجماعات والأفراد المتهمين بأعمال عنف، وعرضهم على التحقيق، على أن تقوم القيادة المشرفة على التحقيق بفرز القطعات التي تلقت أفضل تدريب إلى مناطق مثل محافظة اللاذقية بما أن هذه المحافظة هي أكثر محافظة مهددة بمزيد من الاضطرابات. ويتعين على هذه القيادة أيضاً أن تحشد عدداً من الفصائل المسلحة التابعة للحكومة المؤقتة، مع التأكد من إتباع قادتها لأوامر القيادة والتحقيق مع من لا ينصاعون للأوامر، ومن يتجاوزون سلطاتهم أو من يفعلون ما هو أسوأ من كل ذلك. ويجب على الحكومة أن تضع خطة لمشاركة العلويين وغيرهم من الطوائف بشكل فاعل ضمن الجهود الساعية لحفظ الأمن، وذلك عبر إقامة حالة تعاون وثيقة مع زعماء الطائفة. كما بوسعها تجنيد العناصر الذين خضعوا لفحص أمني من جهاز الشرطة القديم، والذين لم يتورطوا بالعنف الذي مارسه نظام الأسد البائد بشكل كبير.
أما قضية العدالة بالنسبة للفظائع التي ارتكبت خلال الحرب فهي قضية أشد تعقيداً، نظراً لمطالبة السوريين بمحاسبة النظام على جرائمه أشد المحاسبة. ولعل عدم القيام بأي إجراء على هذا الصعيد حتى الآن قد أسهم في دفع المدنيين للاقتصاص بأنفسهم، الأمر الذي لابد أن يذكي المخاوف بين الطوائف من شر الوقوع ضحية لهذا القصاص. وبالمقابل، فإن تلميح الشرع بأنه يعتزم محاسبة مسؤولي النظام السابق قد يؤجج مقاومة المتمردين بشكل كبير، ومن حيث المبدأ، لابد من ترك القضايا الخلافية المعنية بالعدالة الانتقالية لتناقش ضمن حوار وطني، ولتبت بأمرها حكومة تقوم على مشاركة أكبر، وكل ذلك يجعل من عملية إقامة حوار أشد مصداقية أمراً غاية في الأهمية. وإلى أن يحين ذلك، وفي حال قبضت الحكومة على ضباط النظام السابقين، فينبغي عليها أن تقوم بذلك بطريقة شفافة، عبر تحديد هوية من تم القبض عليهم وعلى أي أساس تم توقيفهم، إلى جانب توفير الإجراءات القانونية بحق كل من يجري احتجازه.
ولعل الأهم من كل ذلك هو أن توجه الحكومة مؤشرات واضحة بأن للعلويين مستقبل سياسي واقتصادي في سوريا الجديدة، لأن ذلك يعتبر أفضل طريقة للتعبير عن عدم اعتبارهم جميعاً مسؤولين عما ارتكبه نظام الأسد، ولعل قيام حوار وطني تشاركي يشمل جميع الأطياف قد يكون بداية طيبة، إذ عندئذ سيتسنى لجميع السوريين من كافة البيئات التعبير عن مظالمهم، ومنها تعرضهم للتهميش بعد سقوط الأسد، إلى جانب التعبير عن آمالهم بالمستقبل، لأن هذه الإجراءات من شأنها تبديد الشكوك بين الطوائف، ويجب أن يتم ذلك بشكل عاجل وعلى المدى القريب، لأنها ستزيد ثقة السوريين بالنظام الجديد كما ستطمئن العلويين على وجه الخصوص من أن الحكومة الجديدة ستلتزم بما قطعته على نفسها فيما يتصل بضمان توفير الأمن ونشر المساواة بين الجميع.
المصدر: The International Crisis Group
تلفزيون سوريا
————————————-
نازحون في أحراج الساحل السوري… وشكاوى من اعتداءات/ حسام رستم
13 مارس 2025
على الرغم من انخفاض حدة العمليات العسكرية في مدن وقرى الساحل السوري وحالة شبه الهدوء التي تعيشها المنطقة أخيراً، إلا من بعض الانتهاكات والاعتداءات، لا يزال كثيرون من المدنيين بعيدين عن منازلهم وقراهم، وبعضهم لجأ إلى الأحراج والغابات رغم تطمينات الحكومة السورية ودعوتهم للعودة. وبعد إعلان وزارة الدفاع السورية يوم الاثنين الماضي انتهاء العملية العسكرية في الساحل السوري ضد فلول النظام السابق، لوحظ توقف الحملات العسكرية على قرى طرطوس واللاذقية، وترافق ذلك مع إقامة حواجز عسكرية لقوى الأمن العام في الطرقات الرئيسية المؤدية لهذه المناطق، لا سيما طريق طرطوس ـ اللاذقية الدولي. ولم تسجل اشتباكات مع مسلحين موالين للنظام السابق، ولم يعلن رسمياً عن سقوط أي قتلى من الأمن العام أو قوات وزارة الدفاع.
الانتهاكات في الساحل السوري
وقال المواطن بشار عيسى من ريف طرطوس لـ”العربي الجديد”، إن “الانتهاكات التي كان يرتكبها الجيش السوري ومسلحون موالون له توقفت بالمجمل في طرطوس، باستثناء مناطق قرفيص وحريصون والسن”، وهي قرى سكانها من الطائفة العلوية، موضحاً أن هناك مناشدات من الأهالي بوجود “فصيل متشدد” من مقاتلين أجانب هم من يقوم بعمليات سلب وحرق في المنطقة. وأضاف أن بعض حالات السرقة وإحراق الممتلكات سجلت بعد إعلان انتهاء العملية العسكرية في قرية حمام واصل بريف القدموس. وحول عودة الأهالي النازحين من قراهم في طرطوس، قال عيسى إن غالبية الأهالي لا يزالون في الأحراج منذ عدة أيام خوفاً من عمليات قتل، وسط غياب لكل مقومات الحياة من كهرباء ومياه ومواد غذائية.
من جانبه، قال محمد قاسم وهو من سكان مدينة بانياس، جنوبي طرطوس، التي شهدت انتهاكات في حي القصور طاولت مدنيين من الطائفة العلوية، إن الوضع ضمن المدينة عاد إلى الهدوء. وفي الريف، زار أنس عيروط، وهو أحد أعضاء لجنة السلم الأهلي التي عينها الرئيس السوري أحمد الشرع أخيراً، قرى تعنيتا وبارمايا واسقبلوه واستمع لشكاوى أهالي القرى، كما أوصل الخبز للمدنيين بعد أيام من انقطاعه عنهم. ورغم إعلان توقف العمليات العسكرية في الساحل السوري إلا أن آلاف المدنيين يقيمون في قرى اللاذقية بشكل متفرق في الأحراج البعيدة عن الطرق، خوفاً من تجدد الانتهاكات.
وحول استمرار وجود بعض الانتهاكات في هذه القرى، رغم قرار وقف العمليات العسكرية، قال أنس عيروط، وهو عضو في لجان المصالحة التي عيّنها الرئيس السوري أحمد الشرع لـ”العربي الجديد”، إن المجموعات التابعة لوزارة الدفاع انسحبت، وربما من غير المستبعد أن تكون بعض الانتهاكات ارتُكبت في هذه القرى من مقاتلين من خارج المنطقة. وشدّد على أنه “سيجري التحقق من هذه الانتهاكات وملاحقة كل المسؤولين”، مؤكداً أن هناك جهوداً كبيرة يبذلها الأمن العام حالياً لإعادة الأمن لجميع أرجاء المنطقة.
عناصر أمنية في جبلة، 10 مارس 2025 (عمر حاج قدور/فرانس برس)
وقالت الصحافية هند عباس، وهي من أهالي بلدة القطيلبية بريف جبلة، لـ”العربي الجديد”، أمس، إن المدنيين يتوزعون في الأراضي الزراعية والأحراج لليوم الرابع، من دون طعام أو شراب أو وسائل اتصال. وأكدت أن القرى الممتدة من حريصون حتى السن، مروراً بالقطيلبية، الراهبية، السلاطة تتعرض لاعتداءات متفرقة ومتواترة يتم فيها إحراق المنازل من قبل مجموعة مسلحة قالت إنها تابعة للجيش السوري. كما أكدت أن قرى الشير والشلفاطية بريف اللاذقية تشهد نقصاً كبيراً في كل المقومات الأساسية (طعام وحليب أطفال وملابس) بسبب احتراق المنازل، وهروب الأهالي إلى الأحراج والأراضي الزراعية.
والاثنين الماضي، ظهر محافظ اللاذقية محمد عثمان في مقطع مصور خلال زيارة قريتي صنوبر وإسطامو في ريف جبلة، ودعا جميع المدنيين للعودة إلى قراهم. وأكد أن الأمن العام لن يعتقل من خضع للتسوية سابقاً، والمطلوبون هم فقط من شاركوا في الأيام الأخيرة بالاعتداء على عناصر الأمن العام وقوات وزارة الدفاع. كما أجرى وزير الداخلية السوري، علي كدة، أول من أمس الثلاثاء، زيارة إلى مدينة جبلة وحي الدعتور في اللاذقية، والتقى عدداً من الأهالي والوجهاء للاطلاع على أوضاعهم والاستماع إلى شكاواهم. ومنذ اندلاع المعارك في الساحل السوري قبل نحو أسبوع، اختار مئات من سكان مدينة جبلة وقراها من الطائفة العلوية، اللجوء إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية. وزارت القاعدة خلال اليومين الماضيين عدة وفود رسمية وعسكرية تابعة للحكومة السورية من أجل إقناع الأهالي بمغادرتها والعودة إلى منازلهم بعد إعلان انتهاء العمليات العسكرية، وسط رفض معظمهم ومطالبتهم بحماية روسية لهم أو حماية دولية.
وقال مدير منطقة جبلة، أمجد سلطان، لـ”العربي الجديد” إن من بين الموجودين في قاعدة حميميم عسكريين رموا ملابسهم وأسلحتهم بعد الغدر والاعتداء على دوريات الأمن العام ومع اقتراب القوات الأمنية منهم لجأوا إلى القاعدة. وأكد سلطان أنهم أوصلوا تطمينات للأهالي ونقلوا لهم صورة الواقع الحالي في الخارج، مضيفاً أن نحو 3500 شخص دخلوا القاعدة وبدأ بعضهم الخروج على دفعات إلى منازلهم ومن بينهم مصابون ومرضى تم نقلهم لمستشفيات اللاذقية للعناية بهم. ونظم النازحون في القاعدة الروسية تظاهرة الأحد الماضي، طالبت بالحماية الروسية على منطقة الساحل أو تنفيذ الحماية الدولية. وقال المحامي السوري أمجد الغريب، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن البعض بات يستغل قضية وجود القاعدة الروسية في الساحل السوري لترويج مطالب التدخل الروسي في المنطقة، مع بث الكثير من الشائعات التي تطالب النازحين إلى القاعدة بعدم مغادرتها حتى تحقيق مطلب الحماية الدولية.
إعادة الثقة وإزالة الخوف
وأكد الغريب أن هناك حاجة كبيرة حالياً لإعادة الثقة وإزالة الخوف من قلوب المدنيين من الطائفة العلوية بعد أن ترك الكثير منهم منازلهم وأحياءهم، والأمر يحتاج لأكثر من مجرد الزيارات الرسمية والعمل على إغاثتهم بداية وإطلاق حملات مساعدة لهم من محافظات أخرى، وتعزيز هذه الإجراءات بسياسة صارمة على الأرض تمنع عودة الانتهاكات، وتجرم الأعمال الطائفية. وأكد أن المضي في محاسبة مرتكبي الانتهاكات يوجّه رسالة مهمة للجميع في الدولة الجديدة، مفادها بأن القتل خارج القانون لا يمكن أن يمر من دون عقاب على عكس ما كان يحصل في عهد النظام السابق.
وفي أحدث البيانات، أعلنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الأربعاء، ارتفاع عدد القتلى خارج نطاق القانون، منذ 6 مارس/ آذار الحالي حتى 12 منه في الساحل السوري إلى 878 قتيلاً. وقتلت فلول نظام الأسد، بحسب الشبكة، ما لا يقل عن 429 شخصاً؛ 204 أشخاص من عناصر قوات الأمن العام و225 مدنياً. أما القوى المسلحة المشاركة في العملية العسكرية ضد فلول نظام الأسد، التي شملت بحسب الشبكة، فصائل عسكرية، سكاناً محليين مسلحين (سوريين وأجانب) وعناصر الأمن العام، فقتلت ما لا يقل عن 449 شخصاً، بينهم مدنيون وعناصر من فلول الأسد منزوعو السلاح. وأشارت إلى أن الغالبية العظمى من هؤلاء قُتلوا على يد الفصائل العسكرية التي انضمت أخيراً إلى إدارة الأمن العام. وأشارت الشبكة السورية إلى أنّ من الصعوبة بمكان التمييز هنا بين المدنيين وفلول نظام الأسد الذين نُزع سلاحهم، لأن الفلول كانوا يرتدون ملابس مدنية. وبحسب الشبكة أيضاً، فإن “هذه الحصيلة لا تشمل القتلى من فلول نظام الأسد الذين قُتلوا في أثناء الاشتباكات، حيث لا يُعَدّ ذلك انتهاكاً للقانون”.
العربي الجديد
———————-
سهيل الحسن “النمر”… مخالب نظام الأسد للفتك بسوريا/ سوسن مهنا
معركة الغوطة الشرقية إحدى أكثر المحطات دموية في مسيرته العسكرية ومزق البلاد بالبراميل المتفجرة
الخميس 13 مارس 2025
سيبقى اسم سهيل الحسن مرتبطاً بالدمار الذي لحق بسوريا، وسيظل رمزاً لمرحلة من العنف الممنهج الذي دفع البلاد إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
سهيل سلمان الحسن، المعروف بلقب “النمر” هو ضابط سوري وُلد عام 1970 في قرية بيت عانا بمنطقة جبلة في محافظة اللاذقية، وينتمي إلى الطائفة العلوية، ويعتبر أحد أبرز الضباط السوريين الذين برزوا خلال الحرب الأهلية السورية.
صعد نجمه بعد عام 2011، حينما اعتمد عليه النظام السوري البائد في قيادة العمليات العسكرية الأكثر دموية، مستخدماً أساليب قمعية وحشية، كان أبرزها سياسة “الأرض المحروقة”، والاعتماد على البراميل المتفجرة كسلاح رئيسي لإخضاع المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في ذلك الوقت، وقاد سهيل “قوات النمر”، وهي وحدة نخبوية تابعة للجيش السوري.
اعتمد عليه رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد في العديد من العمليات العسكرية الكبرى، واشتهر باستخدام تكتيكات قاسية، بما في ذلك استخدام البراميل المتفجرة، ما تسبب في دمار واسع ومقتل آلاف المدنيين.
في أبريل (نيسان) 2024، عين الحسن قائداً للقوات الخاصة السورية، خلفاً للعميد مضر محمد حيدر، هذا التعيين عُد حينها إشارة إلى تعزيز النفوذ الروسي في سوريا، بخاصة أن الحسن كان يُعتبر من أبرز الشخصيات العسكرية المقربة من روسيا.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2024، ومع شن المعارضة السورية حملة عسكرية واسعة أسفرت عن سقوط نظام الأسد، عاد اسم الحسن إلى الضوء مجدداً، حيث قاد القوات الخاصة في جيش الحكومة السورية السابقة والتي عملت على صد هجوم المعارضة العنيف على مدينة حماة.
صعود سهيل الحسن في الجيش السوري
تخرج الحسن في أكاديمية القوات الجوية السورية عام 1991، وبدأ خدمته في سلاح الجو ووحدات الدفاع الجوي، قبل أن يلتحق بالاستخبارات الجوية، وهي إحدى أكثر الأفرع الأمنية نفوذاً في سوريا، وهناك، برز كخبير في “إدارة العمليات الخاصة”، وتولى تدريب وحدات مهمتها تنفيذ عمليات أمنية حساسة ضد الجماعات المسلحة والمعارضة.
مع اندلاع الثورة السورية، كُلف الحسن بمواجهة “الجماعات المسلحة” التي سيطرت على العديد من المدن والبلدات السورية، وسرعان ما أصبح قائداً لما يُعرف بـ”قوات النمر”، وهي وحدة عسكرية نخبوية تابعة للجيش السوري، وهذه القوة لعبت دوراً محورياً في استعادة السيطرة على العديد من المناطق الاستراتيجية لمصلحة النظام، لكنها ارتبطت بجرائم حرب موثقة، من بينها استهداف المدنيين بالبراميل المتفجرة والقصف العشوائي.
البراميل المتفجرة واستراتيجية القتل الجماعي
يُعتبر سهيل الحسن من أبرز مهندسي سياسة استخدام البراميل المتفجرة، وهو سلاح بدائي لكنه ذو قدرة تدميرية هائلة، ويتكون البرميل المتفجر من أسطوانة معدنية مملوءة بمواد شديدة الانفجار، مضاف إليها شظايا معدنية أو مواد حارقة، ويتم إسقاطه من الطائرات المروحية على الأحياء السكنية، ولا يمكن توجيه هذه البراميل بدقة، مما يجعلها سلاحاً عشوائياً ذا تأثير كارثي على المدنيين.
بدأت عمليات القصف بالبراميل المتفجرة بشكل مكثف منذ عام 2012، حيث استُخدمت في قصف مدن مثل داريا وحلب وحمص والغوطة الشرقية، وتشير تقارير منظمات حقوقية إلى أن هذه البراميل مسؤولة عن مقتل آلاف المدنيين، إذ كانت تُستخدم لإرهاب السكان وإجبارهم على مغادرة مناطقهم، في إطار سياسة ممنهجة لـ”التطهير السكاني”.
وفقاً لتقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن البراميل المتفجرة قتلت أكثر من 11 ألف مدني بين عامي 2012 و2019، بينما قدرت الأمم المتحدة أن استخدامها شكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي الإنساني، إذ إنها استُخدمت في استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق الشعبية.
معارك الغوطة الشرقية حملة إبادة بدم بارد
كانت معركة الغوطة الشرقية إحدى أكثر المحطات دموية في مسيرة سهيل الحسن العسكرية، وفي عام 2018 قاد “قوات النمر” في هجوم ضخم على المنطقة التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، ووفقاً للنظام السابق في عملية لـ”تطهيرها (الغوطة) من الجماعات المسلحة”، استُخدمت البراميل المتفجرة والقصف الجوي والمدفعي بكثافة، مما أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين وتشريد عشرات الآلاف.
كان الهدف الأساس للحملة هو إجبار السكان على الاستسلام أو التهجير، وانتهت الحملة بعد شهرين من القصف العنيف، حيث توصلت الفصائل المسلحة إلى اتفاق مع روسيا للخروج من المنطقة، بينما تم تهجير عشرات الآلاف من المدنيين إلى شمال سوريا.
دوره في خدمة روسيا وإيران
الحسن المدرج على قائمة العقوبات الأوروبية، كان في البداية محسوباً على النظام السوري بطبيعة الحال، إلا أن نفوذه ازداد بشكل ملحوظ بدعم مباشر من روسيا، ليعتبر لاحقاً “رجل روسيا” داخل سوريا، حيث شارك في عدة عمليات إلى جانب الشرطة العسكرية الروسية، وكان من أبرز الضباط الذين تلقوا تدريبات مباشرة من قبل المستشارين العسكريين الروس.
في المقابل، كان يُنظر إليه كخصم لمراكز القوى المدعومة من إيران داخل الجيش السوري، بخاصة الفرق العسكرية التي يقودها ضباط مرتبطون بـ”الحرس الثوري الإيراني”، وفي أبريل 2024، أُعيد تعيينه قائداً للقوات الخاصة السورية، وهو منصب زاد من نفوذه وجعله في صدارة المشهد العسكري، بخاصة في ظل تصاعد الصراع الروسي– الإيراني على النفوذ داخل الجيش السوري.
القوات الخاصة قوة النخبة وامتداد تاريخي
وفي خطوة عكست حينها التغيرات داخل بنية الجيش السوري، قرر رئيس النظام بشار الأسد تعيين اللواء سهيل الحسن قائداً للقوات الخاصة، بدلاً من العميد مضر محمد حيدر، هذا القرار برز الأهمية المستمرة لهذه القوات ضمن تشكيلات النخبة في الجيش السوري، إلى جانب الحرس الجمهوري، وعرفت القوات الخاصة، والتي لقبت أيضاً بـ”الوحدات الخاصة”، بكونها من أبرز التشكيلات القتالية في سوريا، وتعود جذورها إلى عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، حين أسسها اللواء علي حيدر، أحد أبرز القيادات العسكرية آنذاك، والذي لعب دوراً محورياً في أحداث حماة عام 1982.
كانت هذه القوات تُعرف سابقاً باسم “قوات الصاعقة”، لكن مع تدخلها في لبنان، تغير اسمها إلى “القوات الخاصة”، حيث تولت إدارة الملف السوري على الأراضي اللبنانية لسنوات، وتميزت القوات الخاصة بنظامها القتالي القائم على الأفواج بدلاً من الألوية، ولعبت دوراً محورياً في دعم الحرس الجمهوري بحماية المنشآت الرئاسية والمشاركة في العمليات العسكرية ضد الفصائل المسلحة.
دعم روسي وتسليح متطور
وحظيت تلك القوات بامتيازات تسليحية وتدريبية خاصة من قبل الجيش الروسي، إذ كشفت تقارير عن تزويدها بأحدث المعدات العسكرية الروسية، ففي عام 2019 أكدت وكالة “سبوتنيك” الروسية أن هذه القوات تلقت تجهيزات متطورة، كما خضعت لتدريبات نوعية على يد القوات الروسية.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2023، نفذت القوات الخاصة السورية إنزالاً جوياً للمرة الأولى من طائرة “إيل-76″ تابعة لسلاح الجو الروسي، ضمن مناورات أشرفت عليها وزارة الدفاع الروسية، وجاء في بيان للوزارة الروسية، حينها، ” للمرة الأولى في تاريخ الجيش السوري، تدرب العسكريون السوريون على تنفيذ عملية قفز جماعي ليلي من طائرة من طراز ’إيل-76‘ تابعة للقوات الجوية والفضائية الروسية، وذلك باستخدام المظلات ذات الأغراض الخاصة ’أرباليت-2‘ من ارتفاع 5 آلاف متر باستخدام أجهزة الرؤية الليلية”.
سهيل الحسن صعود مستمر وسط العقوبات الدولية
كان الحسن يحضر لقاءات رفيعة المستوى، من بينها اجتماع بشار الأسد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة حميميم الجوية في ديسمبر (كانون الأول) 2017، علماً أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة الساحل السوري، والتي قام بها فلول الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء السورية (سانا) عن مدير أمن محافظة اللاذقية قوله إن “المجموعات المسلحة التي تشتبك معها قواتنا الأمنية في ريف اللاذقية تتبع لمجرم الحرب سهيل الحسن”، تساءل العديد من المراقبين عن الدور الذي لعبته روسيا في هذه الأحداث، وذلك لقرب القواعد الروسية العسكرية، حميميم القريبة من جبلة، وقاعدة ميناء طرطوس الاستراتيجية من مكان اندلاع الأحداث.
الحسن الذي رُفع إلى رتبة “لواء” مطلع عام 2023، يخضع ومنذ سنوات لعقوبات أميركية وأوروبية، نتيجة تورطه في عمليات عسكرية من بينها الهجوم الكيماوي في دوما عام 2018، وفق تقرير صادر عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وذلك نتيجة لدوره في القمع الوحشي، واعتُبر أحد المسؤولين المباشرين عن ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما صنفته تقارير غربية، مثل تقرير لمجلة “دير شبيغل” الألمانية، على أنه “رجل روسيا الأول في سوريا”، وأحد الأسماء التي قد يتم الدفع بها في المستقبل كخليفة محتمل لبشار الأسد في حال قررت موسكو استبداله بشخصية أكثر طاعةً لها أو كجزء من تسوية تتم في سوريا في ذلك الوقت، ووصفته المجلة الألمانية بأنه “مجرم حرب”.
الانتكاسة والاختفاء المفاجئ
وأخيراً في مارس (آذار) الجاري برز اسمه مرة أخرى مع تصاعد التوتر في الساحل السوري، حيث أشارت تقارير إلى تورطه في تنظيم تحركات عسكرية تهدف إلى استعادة السيطرة على المنطقة، مستخدماً بقايا القوات الخاصة السابقة التي كان يقودها.
وأعلنت قوات الأمن السورية عن اشتباكات في ريف اللاذقية مع مجموعات مسلحة تابعة للضابط السابق سهيل الحسن، مما يشير إلى تورطه في تحركات عسكرية ضد الحكومة السورية، وسط أنباء عن خلافات حادة بينه وبين قيادات عسكرية أخرى داخل النظام السوري البائد، وهذا التطور يشير إلى أن الحسن، الذي كان يوماً ما أحد أقوى رجال النظام، قد أصبح الآن في مرمى الاستهداف، إما من قبل خصومه داخل النظام، أو من قبل القوى الدولية التي تسعى إلى تقليص نفوذ العسكريين المرتبطين بجرائم حرب.
هل انتهى دور النمر؟
يظل السؤال الأهم: هل انتهى دور سهيل الحسن، أم أن روسيا قد تجد له دوراً جديداً في المستقبل؟ المؤشرات الحالية تُظهر أن أوراقه احترقت بخاصة مع العملية الأخيرة في الساحل السوري، لكن بالنظر إلى تاريخه في ارتكاب المجازر والولاء المطلق لموسكو، قد لا يكون خروجه من المشهد بهذه السهولة، وعلى أي حال، سيبقى اسم سهيل الحسن مرتبطاً بالدمار الذي لحق بسوريا، وسيظل رمزاً لمرحلة من العنف الممنهج الذي دفع البلاد إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
———————
صعوبات في دفن ضحايا الساحل السوري/ جلنار العلي
12 مارس 2025
لم يتمكن ذوو الضحايا في الساحل السوري من دفن ضحاياهم ووداعهم كما أرادوا، نظراً لأعداد الضحايا التي لا تتسع لها مستشفيات محافظتي طرطوس واللاذقية. لذلك، لجأت بعض الجهات إلى إقامة مقابر جماعية لدفن الضحايا الذين انتشلت جثامينهم من الطرقات والأحراج وشرفات المنازل. ويتحدث ناشط إعلامي في محافظة طرطوس، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، عن صعوبة إجراءات الدفن؛ فخلال الأيام الأولى للمجازر الطائفية، لم يكن يسمح بالدفن وخصوصاً في المناطق التي سيطرت عليها الفصائل المتفلتة، والتي شهدت توترات مستمرة. لكن بعدما دخلت قوات الأمن العام إلى بعض القرى، كان يسمح لأربعة أشخاص فقط ضمن العائلة الواحدة بدفن موتاهم في أوقات محددة. أما بالنسبة للقرى التي كان عدد الضحايا فيها كبيراً جداً، فلم تكن هناك إمكانية للدفن الفردي. لذلك، خصصت أماكن لإقامة مقابر جماعية، كما هو الحال في حي القصور بمدينة بانياس وريفها، وكذلك الأمر في اللاذقية في مناطق القرداحة وصنوبر جبلة، حيث لا تزال هناك جثث متكومة على جوانب الطرقات، بحسب الناشط.
إلى ذلك، يشير زين نيوف، وهو شاب يعيش في العراق قتل والداه وشقيقه في ريف بانياس، إلى أن أحد معارفه جاء برفقة منظمة الهلال الأحمر العربي السوري للإسراع بعمليات الدفن، في ظل الصعوبات التي يواجهها الأهالي. وعمدت المنظمة إلى نقل الضحايا من المنزل إلى إحدى المقابر الجماعية مباشرة دون المرور بالمستشفى أو إعداد تقرير طب شرعي، وذلك بعد مضي يومين على وجودهم داخل المنزل وسط ظروف أمنية صعبة منعت الأقارب من دفنهم في وقت سابق.
وعلمت “العربي الجديد” أن الكثير من المنظمات العاملة في الساحل السوري أمّنت خلال اليومين الماضيين نقل جثث إلى المستشفيات ليتمكن الأهالي من استلامها، في الوقت الذي تعاني فيه تلك المستشفيات من انقطاعات متواصلة في التيار الكهربائي وضغط يفوق قدرتها الاستيعابية.
ويبين مسؤول منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، في الساحل السوري عبد الكافي كيال أنه “في ظل الأوضاع التي تشهدها محافظتا اللاذقية وطرطوس، تقوم فرق الدفاع المدني السوري بواجبها الإنساني بالاستجابة لنداءات الاستغاثة وإخماد الحرائق والإسعاف وانتشال جثامين الضحايا وتقديم عدد من الخدمات المنقذة للحياة، في إطار القدرة على الوصول للنداءات والاستجابة بما يتوافق مع مبادئ العمل الإنساني وسلامة الفرق”. ويشير كيال إلى أن فرق الدفاع المدني السوري بدأت بانتشال جثامين الضحايا جراء أحداث تاريخ الثامن من مارس/ آذار الجاري، بعد تلقي بلاغات بدأت من مدينة بانياس، حيث انتشل 122 جثماناً من محافظتي طرطوس واللاذقية حتى يوم أمس الثلاثاء 11 مارس. ويوضح أن هذا العدد يمثل فقط الجثامين التي تم انتشالها وتوثيقها من قبل الدفاع المدني السوري، علماً أنه يتم انتشال الجثامين بعد وصول بلاغات عن أماكن وجودها من قبل السكان، ويتم توثيق الجثامين التي ينتشلها الدفاع المدني السوري أصولاً، ثم يجري نقلها إلى المستشفيات وتسليمها إلى الطبابة الشرعية لتقوم بمسؤوليتها سواء في ما يتعلق بحفظها أو تسليمها أو غير ذلك من الإجراءات المتبعة.
ويبيّن كيال أن أبرز الصعوبات التي تواجههم هي التحديات الأمنية وتعرض فرق الدفاع المدني للاستهداف المباشر بالرصاص أثناء قيامها بواجبها الإنساني، وهو ما صعّب الوصول إلى بعض القرى والمناطق، وخصوصاً الجبلية والأرياف الشرقية. ويتحدث عن صعوبة تتعلق بالقدرة الاستيعابية للجثامين في مراكز الطبابة الشرعية في طرطوس واللاذقية، ولا يمكن انتشال الجثامين دون تنسيق معها. وفي طرطوس، سلمت جثامين من قبل الطبابة الشرعية لذويها بعد تشكيل لجنة لتسليمها بعد التعرف إلى هويات أصحابها.
وفي ما يتعلق بالدفن، يؤكد أن الفرق لا تدفن الضحايا ولا تشارك بشكل مباشر في عملية الدفن بحد ذاتها. وفي ما يتعلق بالمقابر الجماعية، فهي لا تتعامل معها مطلقاً لأن ذلك يحتاج إلى تفويض قانوني وجنائي. حتى بالنسبة للجثامين المدفونة، فلا يمكن نبش أي قبر دون تفويض، لافتاً إلى وصول الكثير من البلاغات عن جثامين مدفونة في بعض القرى لكن لا يمكن التعامل معها إلا بتفويض قانوني وجنائي أيضاً.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد أصدرت تقريراً أولياً، أمس، أشارت فيه إلى أن حصيلة ضحايا الانتهاكات التي وقعت في الساحل السوري، ومعظمها في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة، بلغت 803 أشخاص، خلال الفترة الممتدة من السادس إلى العاشر من مارس.
——————————–
هيومن رايتس ووتش” لإجراءات سريعة تحمي مدنيي الساحل السوري
الخميس 2025/03/13
قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن إعدامات ميدانية وفظائع أخرى وقعت في المنطقة الساحلية السورية في أعقاب هجمات متمردين على قوات الأمن السورية وأثناء العمليات الأمنية اللاحقة للحكومة، مع تحمل المجتمع العلوي وطأة العنف.
وأشارت المنظمة الحقوقية في بيان، إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع أقر بأن “أﻄرافاً عديدة دخلت الساحل السوري وحدثت انتهاكات عديدة”، فيما لم يتم بعد تحديد المدى الكامل للجرائم أو مرتكبيها بشكل قاطع.
وبدأت موجة الانتهاكات الأخيرة بعد هجمات منسقة في 6 آذار/مارس شنها مسلحون مرتبطون بنظام الأسد المخلوع، ما أسفرت عن مقتل 231 عنصر أمن حتى 9 آذار/مارس، بحسب “قيادة العمليات العسكرية” التابعة للحكومة الحالية عبر قناتها الرسمية في “تيلغرام”. ورداً على ذلك، أجرت قوات الأمن الحكومية، ومنها الفصائل التابعة لوزارة الدفاع، “عمليات تمشيط” في جميع أنحاء المنطقة.
وانضمت إلى هذه العمليات جماعات ومسلحون مجهولون، دخل العديد منهم محافظتي طرطوس واللاذقية من أجزاء أخرى من سوريا بعد دعوات رسمية للتعبئة العامة. وظهرت مرتكبو الجرائم في فيديوهات غير مؤكدة منشورة في” تيلغرام” ، وكثير منهم يرتدون بزات عسكرية، وهم يرتكبون إعدامات خارج القضاء، ونهب، وإطلاق النار عشوائياً على المنازل والقرى، إضافة إلى سوء المعاملة وانتهاك الكرامة الشخصية على نطاق واسع، بما في ذلك الخطاب الطائفي.
وعلق آدم كوغل، نائب مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في “هيومن رايتس ووتش”: “وعد القادة الجدد في سوريا بإجراء قطيعة مع أهوال الماضي، لكن ثمة تقارير عن انتهاكات جسيمة على نطاق صادم ضد سوريين أغلبهم من العلويين في الساحل وأماكن أخرى في سوريا. الإجراءات الحكومية لحماية المدنيين ومقاضاة مرتكبي إطلاق النار العشوائي والإعدامات الميدانية وغيرها من الجرائم الخطيرة يجب أن تكون سريعة ولا لبس فيها”.
وتعهدت الحكومة السورية بإجراء تحقيق مستقل في الموضوع ومحاسبة مقترفي الانتهاكات على الجرائم التي قاموا بها، في تحد جديد يضاف للائحة طويلة من التحديات السياسة والاقتصادية والأمنية التي تواجهها دمشق بعد التخلص من نظام الأسد الدكتاتوري أواخر العام الماضي.
وقال الرئيس السوري أحمد الشرع في مقابلة مع وكالة “رويترز” قبل أيام، أن عمليات القتل لأفراد من الطائفة العلوية في الساحل السوري، تهدد مهمته في توحيد البلاد، مؤكداً أنه سيعاقب المسؤولين عن ذلك، حتى لو كانوا من حلفائه وأقرب الناس إليه. وأضاف في أول مقابلة مع وكالة عالمية عقب أحداث الساحل، أن سوريا “هي دولة قانون، والقانون سيأخذه مجراه”، مؤكداً أنه من “غير المقبول أن تُسفك قطرة دم واحدة في غير وجه حق، وأن يذهب هذا الدم سدى من دون محاسبة أو معاقبة”.
ولم تتمكن “هيومن رايتس ووتش” من التحقق من عدد المدنيين الذين قتلوا أو نزحوا، لكن النعوات المتداولة في “فايسبوك” تشير إلى مقتل المئات، بما في ذلك عائلات بأكملها. وأفادت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” في 9 آذار/مارس أن الفصائل المسلحة والأفراد التابعين لها كانوا مسؤولين عن مقتل قرابة 396 شخصاً “من المدنيين وأفراد غير مسلحين من بقايا نظام الأسد”. وأشارت تقديرات أخرى إلى أن عدد القتلى المدنيين يصل إلى 800 شخص. كما أفادت “الشبكة السورية” عن مقتل مدنيين على أيدي فصائل مسلحة تابعة لنظام الأسد المخلوع.
وبحسب “هيومن رايتس ووتش” حثت قنوات حكومية في “تيلغرام” الناس على التوجه إلى الساحل “لدعم إخواننا”، لكن هذا الخطاب تغير بسرعة مع تأكيد المسؤولين لاحقاً عدم ضرورة قدوم المتطوعين. وفي 6 آذار/مارس، أعلن مدير “الأمن العام” في اللاذقية عن تعبئة أمنية كاملة، في حين أمر وزير الدفاع بنشر الجيش لسحق الموالين للأسد. وبحلول 7 آذار/مارس، أعلن الرئيس الشرع أن زمن “العفو والمسامحة” مضى، وركز على “تحرير” و”تطهير” المنطقة بينما حث قوات الأمن على حماية المدنيين.
وأفادت قيادة العمليات العسكرية أنه تم حشد حوالي نصف مليون مقاتل لهزيمة “الانقلاب النصيري”، و”نصيري” مصطلح يقصد به إهانة العلويين. وقالت لاحقاً أن “حشوداً شعبية غير منظمة” قامت بـ”انتهاكات فردية”. وفي 9 آذار/مارس، أعلن الرئيس الشرع عن تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في أحداث 6 آذار/مارس في غضون 30 يوماً، وتعهد بإحالة المسؤولين عن الجرائم إلى القضاء.
وتحدثت “هيومن رايتس ووتش” إلى طالب طب علوي عمره 22 عاماً فر من مدينة بانياس سيراً على الأقدام مع عائلته بعدما علم بمقتل أربعة من أقاربه. ووجدوا مأوى في منزل على مشارف إحدى القرى. وقال: “نشعر بالجوع والبرد، لكن تستحيل العودة إلى المدينة لأننا لا نشعر بالأمان هناك. هنا أيضاً، لا توجد راحة، فكلما سمعنا صوتا نركض إلى البرية لنتوارى”.
وأضاف أنه اتصل بـ”الهلال الأحمر السوري” و”الخوذ البيضاء” لإخلاء المكان، لكنهم أخبروه أنهم ليس لديهم القدرة على ذلك. وأكمل: “قالوا لنا أن نتصل بالسلطات، لكن لا توجد طريقة للوثوق بهم. أولويتنا القصوى الآن هي البقاء أحياء واللجوء خارج هذا البلد إذا نجونا من هذا”.
وراجعت “هيومن رايتس ووتش” فيديوهات وصوراً لواقعة إعدام جماعي في قرية المختارية في ريف اللاذقية وحددت موقعه الجغرافي، حيث أحصت جثث 32 رجلاً على الأقل. وقال ناشطون سوريون في المنطقة الساحلية أن العلويين وغيرهم في المنطقة يعيشون في خوف بسبب الانتهاكات التي حدثت أثناء “عمليات التمشيط” منذ كانون الأول/ديمسمبر الماضي، إضافة إلى الخسارة واسعة النطاق لسبل العيش بسبب الفصل التعسفي من الوظائف وحل قوات الجيش والأمن السابقة.
ومنذ كانون الأول/ديسمبر، كانت هنالك حوادث تحريض عديدة ضد المجتمعات ذات الأغلبية العلوية والشيعية، شملت تخريب أضرحة دينية علوية وتدميرها وتوزيع منشورات مناهضة للعلويين بشكل واسع. كما تم الإبلاغ عن انتهاكات في سياق “عمليات التمشيط” الأمنية، منها القتل الميداني، منذ أوائل كانون الثاني/يناير على الأقل، وشملت الانتهاكات القرى ذات الأغلبية العلوية في ريف حمص الغربي.
وقالت “هيومن رايتس ووتش” أنه يجب على الحكومة السورية أن تضمن فوراً أن يتمكن المدنيون الذين يريدون الفرار من القيام بذلك بطرق آمنة وأن تتمكن المنظمات الإنسانية من تقديم المساعدة إلى أولئك الذين يحتمون في القرى النائية، بما يشمل الغذاء والمساعدات الطبية وخيارات النقل الآمن إلى أماكن أخرى.
ورأت المنظمة أن العنف في المنطقة الساحلية السورية يظهر الحاجة الملحة إلى العدالة والمساءلة. ويجب أن تشمل المساءلة عن الفظائع جميع الأطراف، وتحتاج جهود العدالة إلى معالجة الانتهاكات الماضية والمستمرة، وضمان محاسبة المعتدين وتعويض الضحايا. كما ينبغي للقيادة السورية الجديدة أن تتعاون بشكل كامل مع المراقبين المستقلين، بما يشمل “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا” و”لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا”، وتضمن لهم الوصول من دون عوائق.
وقال كوغل: “العدالة لا تكون حقيقية إذا كانت تطبق فقط على البعض من دون الآخرين. يجب أن تمتد المساءلة إلى جميع منتهكي حقوق الإنسان، بغض النظر عن انتماءاتهم السابقة أو الحالية. من دون ذلك، سيظل السلام والاستقرار الدائمان في سوريا بعيدَي المنال”.
المدن
——————————-
نساء الساحل وويلات سجون الأسد وسطوة أنيسة مخلوف
الخميس 2025/03/13
في روايته الشهيرة “إلى الأبد ويوم”، يروي عادل محمود قصة تحول مصيري شهدته والدته، المرأة العلوية البسيطة التي عانت الفقر المدقع، قبل أن تنقلب حياتها رأساً على عقب مع صعود ابنها، الضابط عدنان محمود، إلى قمة السلطة.
مع تسلمه قيادة فرع الأمن السياسي في الفيحاء، تبدلت حياة والدته جذرياً؛ فأصبحت تمتلك السيارات، وتحظى بمرافقة خاصة، وانتقلت من النوم على الأرض إلى سرير وثير، مرتديةً العباءات الفاخرة. لكن هذا الرخاء لم يدم طويلاً، إذ انقلبت حياتها رأساً على عقب عندما اعتقل ابنها، الذي منحها الرفاه، شقيقته بيديه ووضعها في المنفردة بيديه ، متهماً إياها بـ”معارضة” نظام الأسد… وطالبا منها اثناء اعتقالها ان ترتدي “البنطال بدل التنورة ” ليصفعها بقوة حين اجابت”خايف علي من عناصرك”.
وهكذا تحول الفخر إلى غضب، والرفاهية إلى كابوس، وعاد السواد ليخيم على حياة الأم مجدداً. حتى على فراش الموت، لم تكن وصيتها الأخيرة طلباً للرحمة، بل توسلاً لابنها كي يخرج أخته من السجن، علّها تراها قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد.
هي حكاية من حكايات نساء الساحل الفقيرات، وجزء من التاريخ الطويل والمعقد للمرأة في دهاليز السياسة. فمنذ الأزل، لعبت النساء أدواراً مؤثرة في الأنظمة الحاكمة، وسجلت كتب التاريخ أسماء ملكات حكمن بقبضة من حديد، ونقشت المعابد صورهن، وخلدت الثائرات اللواتي تحدين الاستبداد، سواء في صفوف الأحزاب أو خلف قضبان السجون.
ومن بين تلك الحكايات، تبرز قصة خنساء حوران، حسنة الحريري، المرأة التي ذاقت ويلات المعتقلات في سجون الأسد، وعاشت لتروي الفظائع التي ارتكبت داخلها. لم تكن شهادة الحريري مجرد كلمات، بل صرخة في وجه الظلم، تفضح أهوال التعذيب والانتهاكات التي تحولت إلى سياسة ممنهجة، حيث لم تكن السجون سوى مقابر باردة، والعدالة فيها كلمة غائبة.
وفي الساحل السوري، لم يلمع اسم امرأة في دوائر السلطة كما لمع اسم أنيسة مخلوف، زوجة الرئيس حافظ الأسد، الذي يلقبه أنصاره بـ”الرئيس الخالد”. ويُقال إن لها دوراً خفياً في إعادة توزيع النفوذ بين أبنائها، ومنح الامتيازات لعائلتها من وراء الستار، خصوصًا آل مخلوف، الذين تحولوا إلى ركيزة اقتصادية للنظام. كما يُشاع أن نفوذها كان أحد الأسباب التي حالت دون محاسبة عاطف نجيب، المسؤول الأمني الذي أشعل شرارة الثورة السورية بتنكيله بأطفال درعا.
لكن أنيسة لم تكن المرأة الوحيدة التي امتلكت سطوة في دوائر الحكم المغلقة. فقد عُرفت زوجة أحمد الأسد، الأخ غير الشقيق لحافظ، بأنها صاحبة كلمة لا يُرد لها طلب، وكان يُطلق عليها “مختارة العيلة”. قصدها الضباط بحثاً عن التعيين والترقية، ولجأ إليها الفقراء أملاً في الحصول على وظيفة، ما سمح لها بتكوين ثروة طائلة على مر السنين. إلا أن هذه السطوة لم تحمِها من الأثمان الباهظة للعبة السلطة، حيث انتهى بها المطاف تدفع ثمن الصراعات العائلية، فاقدةً أبناءها وأحفادها، في مشهد يُعيد تكرار القاعدة الأزلية: في عالم السياسة، لا شيء مجاني، حتى لمن امتلكوا النفوذ… وكان آخر الأمر فقدانها لهلال الاسد الذي بات يلقب نفسه برئيس الساحل قبل ان تتم تصفيته من قبل النظام ذاته، وألصق الامر بالمجموعات الارهابية.
في ذلك الوقت كان نضال نساء الساحل الاصيلات صامتاً، وخجولاً، ويشبه ملامحهن الوديعة، التي أخفى الفقر المدقع قسوتهن خلفها. في الماضي، قبل أن يصل حافظ الأسد إلى سدة الحكم، كانت الفتيات يُرسلن للعمل خادمات في دمشق وحلب وبيروت، وعندما منع النظام هذه الظاهرة، لم يقدم بديلًا يحميهن من براثن الحاجة، فكان الملاذ الوحيد هو الأرض، وكانت الحياة تدور بين زراعة التبغ وحصاد القمح، وجلب الماء على ظهور الحمير، وغسل الملابس بصابون الغار على ضفاف الينابيع، بينما النار تشتعل تحت الموقد البدائي.
في الصباح الباكر، تمضي النساء إلى الحقول يحملن المعاول، يسلقن القمح، ويسهرن لحراسة المحصول من الطيور، وحين تأتي الطيور لتأكل، تبتسم إحداهن وتقول: “الطير روح بريئة”. أيادٍ متشققة تعجن الطحين، وتوقد التنور بحطب جُمِع من البراري، لتعانق رائحة خبزها الطازج المارة، لكنه ينفد سريعاً، حتى تعود المرأة إلى بيتها بما بقي منه، تقدمه لأطفالها مع الزيت والملح.
الزيت نفسه يُسكب فوق البرغل بحمص، الوجبة الساحلية الأشهر، طبعاً من دون لحم. وفي الليالي الباردة، تحتضن الأم أطفالها، تحاول تدفئتهم بجسدها، قبل أن تعود مع شروق الشمس إلى الحقل، تقطف التبغ، تشكه، وتعلقه على الأشجار ليجف، ثم تبيع محصول العام كله بخمسين ألف ليرة سورية، فتفتتها بين متطلبات حياة لا ترحم. يأتي الصيف، فتجهز الحطب لشتاء قاسِ ينتظرها.
تمر السنوات، ويبيض شعرها، ويكسو التشقق جسدها، لكنها تبقى صلبة، محبة، تمامًا كنساء الساحل اللواتي ظهرن بعد مجازر القرى المنكوبة، تصرخ إحداهن “فشرتوا”! وجثث اولادها امامها حين يحدثها من قتلهم عن الغدر، وأخرى سبعينية تقول بصوت يرتجف في فيديو تم تداوله على منصات التواصل الاجتماعي: “نحنا منحبكن وانتو بتحبونا، والله خفت ومتت من الرعبة وكنت بالجبل”. ثم تختم كلماتها: “كليتنا إخوات”.
جملة لو تحققت، لربما صانت الدم السوري، وفتحت باباً لتساؤلات مشروعة: هل نحن إخوة فعلاً؟ أم أن الحقد الطائفي أعمى القلوب؟
المدن
——————————–
أرق يصاحب المجزرة/ دلير يوسف
13.03.2025
هذا الأرق… هذا الأرق ليس جديداً. هذا أرق رافق مجازر سابقة، في الحولة والبيضا وداريا وكرم الزيتون والغوطة ولبنان وغزّة، هذا أرق أعرفه ويعرفني، هذا أرق يقودني إلى موسيقى محدّدة تعينني على لياليّ، هذا أرق يقودني إلى قراءة الشعر.
سوريا استنزفت كل شيء منّا، إيماننا بأنفسنا وبإنسانيتنا وبالبشرية وبالأخلاق وبالكرامة، إيماننا بالحياة نفسها. هكذا أفكر وأنا أعاني أرقاً منذ أيام. لا أستطيع النوم مذ بدأت المجزرة الأخيرة في قرى الساحل وبلداته. أشاهد مقاطع الفيديو، أُرسل رسائل أطمئن فيها على أصدقائي ممن يعيشون هناك، أقرأ تحليلات وآراء من كلّ التوجّهات وأتمنّى لو يسكت الناس ويتركون الموتى يموتون بهدوء. لا أستطيع أن أفهم خطاب الكراهية والتحريض. من أين يأتي كلّ هذا؟
أتذكّر نصاً كتبته عن الموت في بدايات الثورة، تساءلتُ فيه مَن يقتل مَن؟ وأجبتُ نفسي بأن الجواب ليس مهماً، فكلّه موت. سألت أسئلة كثيرة: كيف يصير القتل؟ ما الدافع؟ ما الذي يشعر به القاتل حين يقتل القتيل؟ هل أورثنا آباؤنا غريزة القتل؟ هل للموت صوت؟ وعندما يهمّ القاتل بالقتل، هل ينظر إلى عينيّ من يقتله، أم ينظر إلى خياله، فيقتل الخيال؟
الأرق الذي أعرفه
هذا الأرق… هذا الأرق ليس جديداً. هذا أرق رافق مجازر سابقة، في الحولة والبيضا وداريا وكرم الزيتون والغوطة ولبنان وغزّة، هذا أرق أعرفه ويعرفني، هذا أرق يقودني إلى موسيقى محدّدة تعينني على لياليّ، هذا أرق يقودني إلى قراءة الشعر.
يقول محمد مهدي الجواهري: “فرَّ ليلي من يدِ الظلمِ/ وتخطّاني ولم أنمِ، كلّما أوغلت في حلمي/ خِلتُني أُهوي على صنمِ، مرحباً: يا أيها الأرقُ/ فُرشتْ أُنساً لك الحَدَقُ، لكَ من عينيَّ منطلقٌ/إذ عيونُ الناس تنطبِقُ”
أبحثُ عن معنى الأرق على الشبكة العنكبوتية، وأنا نَعِس بالكاد أفتح عيني. يقول “الإنترنت” إن الأرق هو اضطراب في النوم أو تقطّعه أو انخفاض جودته، مما يعود سلباً على صحّة المريض النفسية والجسدية.
أبحث عن “الأرق المرافق للمجزرة” فأرى تنويعات في الأخبار بتواريخ مختلفة: جرائم الحرب في السودان، مجازر في سوريا، مخيم جنين، غزّة، أخبار قديمة من حروب العراق والجزائر.
أبحث عن “الأرق في الأدب”، كلّ الكتّاب والشعراء عانوا من الأرق والسُهاد في بعاد الحبيب. ألم يعاني أحد منهم أرقاً بسبب صور وخيالات ألف جثّة وجثّة ماتت في مجزرة ما؟
لماذا أكتب؟ وكيف أكتب والدماء تسيل بكثرة، وبغزارة أشدّ من غزارة أمطار تهطل فوق جزيرة استوائية؟ عن ماذا أكتب؟ عن المجزرة الجديدة؟ عن تلك البلاد النائمة على أطراف بحر ممتدّ يصل شرياني؟ عن تلك البلاد المسكونة بالجراح والآلام، عن أناس قُتلوا وزرعوا الأرض بأسمائهم كما لو أنهم أشجار في غابة تُحيي نفسها بعد كلّ مجزرة؟
لماذا لا أنام؟ اللعنة.
هل أكتب عن الموت الملتفّ حول البلاد؟ عن الدمار والخراب؟ أبالكتابة أُحيي العظام وهي رميم، أم أُنزل ذلك الحمل من على كتفيّ وأقول: سلاحي القلم، وبماذا أستطيع أن أساعد إلا بالكلمة؟
“يا حيف”
مذ بدأ القتل الأخير لم أستطع أن أكتب سوى كلمتيْ “يا حيف” على وسائل التواصل الاجتماعي، في إشارة إلى أغنية “يا حيف” التي كنّا نغنيها ونتناقلها سراً في بدايات الثورة في العام ٢٠١١. لم أستطع أن أقول أو أكتب شيئاً. كلّ ما فعلته كان رسائل عزاء لأصدقاء وصديقات فقدوا بعضاً من أهلهم، ورسائل اطمئنان. لا شيء آخر. لا أفكار. أشعر بأن الكلام لا معنى له. الآراء لا معنى لها. التحيّز وإثبات وجهات النظر لا معنى لهما. لكن إن لم نتفاعل مع شيء كبير بحجم ما يحدث، كيف سنضمن ألا تُعاد هذه المجازر في المستقبل؟
يبدو أن لكلّ الناس آراء، وفي أوقات المجزرة تحتدّ الآراء ولا يقبل الناس الناس. أتفاعل بإعجاب هنا على منشور يقول شيئاً يعجبني، وأتجاهل عشرات المنشورات الأخرى، التافهة، أو التي لا توافق أفكاري.
أتمنّى أن تكون هذه المجزرة هي الأخيرة، وأن يعمّ بعدها الصمت.
هل كل رأي يستحق أن يُسمع؟
أظنّ أنه لا يصحّ أن يكون لكلّ الناس رأي في كلّ شي. بعض الآراء خراء محض، ما معنى أن يقول أحدهم مثلاً: “برأيي الأرض مسطحة”. اعذرني يا حبيبي، هذا ليس برأي، هذا خراء.
الأمر نفسه ينطبق في أوقات المجازر، يبدو أن لكلّ الناس آراء في كلّ شيء. لكن، حين كنت في دمشق في بدايات هذا العام، احتلّتني فكرة تقول إن الحديث عن سوريا، وعن معنى سوريا، والتفاعل بين السوريين والسوريات، والحديث عن نوع الحكم وطريقته، تختلف بين وسائل التواصل الاجتماعي والحياة اليومية في الشوارع.
هذا الأرق يأخذني لتذكّر هذه الفكرة وأنا أتصفّح “فيسبوك” و”انستغرام” و”تلغرام” و”X”. الناس في الشارع وفي المقاهي وفي البيوت يحكون أشياء مختلفة عن تلك المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. أولئك الذين يصيحون على “الإنترنت” موجودون في الشارع أيضاً، لكن صوتهم ليس بهذا العلو.
ليس السلاح وحده السبب…
يبدو أن قلّة النوم تجعلني أفكر في السلاح، من أين جاء كلّ هذا السلاح؟ كم جنى تجّار السلاح من الأموال خلال المقتلة السورية؟ من الطبيعي أن تنتج المجازر عن هذا السلاح الكثير جداً، المترافق مع الجهل والتعليم السيئ والتعصّب والعنصرية والانتماءات الما قبل وطنية.
تراودني فكرة أن لا أمل في سوريا، خلص. هي هكذا وستبقى هكذا. منذ مئات؛ أو أقول آلاف، السنوات حروب هذه البلاد تجرّ حروباً. لا راحة، “حرب في طيز حرب”، مجزرة تلو الأخرى، دائرة مغلقة لا تنتهي.
تراودني فكرة أن أقطع كلّ علاقة لي بسوريا، بكلّ أهلها وناسها (أهلي وناسي) بكلّ شوارعها وبيوتها وطوائفها وقومياتها، أن أقطع كلّ حبل يصلني بها وأكمل حياتي في برلين، وكأنني لم أولد وأكبر هناك.
لكن، والله أحبّها. أحبّ تلك البلاد. أحبّها حباً لا تفسير له. لا فكاك لي عنها ومنها.
أرمي الفكرة، وأجلب من ذاكرتي قولاً أحبّه للمفكّر السوري بو علي ياسين، الذي تدور مجزرة هذه الأيام في مسقط رأسه في ريف اللاذقية: “أشدّ الناس حاجة إلى التوعية والتنوير هم أشدّ الناس عداء لهذه الحركة التنويرية، ذلك لأنهم أكثر الناس انسحاقاً، وبالتالي أشدّهم حاجة إلى السلوى والسلوان”.
أقول لنفسي: هيّا حاول النوم، غداً يوم آخر، واعمل بما يمليه عليك ضميرك وقيمك، وتأمّل أن تكون هذه هي المجزرة الأخيرة في تاريخ هذه البلاد.
****
كيف يأتي النوم
والباب مسدود بألف جثّة؟
ألف جثّة!
قرأت مرةً رواية، لا أذكر منها إلا أن دماً تحوّل إلى بستان ورد
هل كان ورداً جورياً؟
خزامى؟
أحبّ أن أتخيّل بستاناً من الخزامى
ألف جثّة!
ألف جثّة صارت بحراً من الخزامى
أمشي بين الخزامى وأعدّها:
واحد، اثنان، ثلاثة… مئة… مئة وخمسون…
أتعب
الحقل يمتدّ والشمس في منتصف السماء تراقب كلّ شيء
كعهدها.
أستلقي بين الخزامى
فأرى نفسي جثّة
أُكمل العدّ:
مئتان وخمسون، مئتان وواحد وخمسون، مئتان واثنان وخمسون…
لا أصل إلى آخر الحقل
عشرة آلاف، عشرة آلاف وواحد، عشرة آلاف واثنين…
أتعب…
…
…
لقد مات قلبي.
– كاتب ومخرج من سوريا
درج
——————————–
زاخاروفا: قاعدة حميميم استقبلت نحو 9 آلاف سوري فروا من العنف والقتل في الساحل
الخميس 13 آذار 2025
أعلنت وزارة الخارجية الروسية أنّ قاعدة حميميم في اللاذقية استقبلت نحو 9 آلاف سوري، معظمهم من النساء والأطفال، فروا من القتل والعنف في مناطقهم في الساحل السوري.
وأعربت المتحدثة باسم الخارجية، ماريا زاخاروفا، عن «صدمة بالغة إزاء الأحداث المأساوية التي وقعت في سوريا». وقالت: «الضحايا المدنيون أبرياء، واستخدام العنف ضد المدنيين أمر غير مقبول ولا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال، وموسكو تدين مجازر المدنيين وتأمل في معاقبة المسؤولين عنها».
وأشارت زاخاروفا إلى أنّ القاعدة الجوية الروسية في حميميم «فتحت أبوابها أمام الفارين الذي كانوا يبحثون عن ملاذ آمن من أعمال العنف». وأضافت: «كانوا يبحثون عن النجاة، مدركين أن الأمر أصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم. استقبل جنودنا أكثر من 8 آلاف شخص، وفقاً للإحصاءات، حتى يوم أمس، زهاء 9 آلاف شخص معظمهم من النساء والأطفال».
ورأت أنّ السلطات الحالية في دمشق «تدرك مسؤوليتها في حماية حقوق مواطنيها الشرعية في سوريا، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية»، لافتة إلى أنّ روسيا تتابع «عن كثب جهودهم لاستعادة الأمن والاستقرار».
ولفتت إلى أنّ القيادة السورية أكدت «التزامها بالحفاظ على الوحدة الوطنية، وشكلت لجنة للتحقيق في هذه الأحداث»، آملة «أن يتم تحديد المسؤولين عن هذه الأعمال ومعاقبتهم بشكل عادل».
وأشارت زاخاروفا إلى أن روسيا «تحافظ على اتصالات مع السلطات السورية الحالية»، مؤكدة أن الجانب الروسي «لم يتلقَّ أي معلومات عن إصابات بين المواطنين الروس في الأحداث التي شهدتها محافظتا اللاذقية وطرطوس السوريتان».
——————————
مشهد الساحل السوري له خلفية/ سليمان جودة
13 مارس 2025 م
ليست صدفة أن تشهد سوريا ما شهدته في منطقة الساحل، بعد ساعات من عودة أحمد الشرع من قمة فلسطين في القاهرة.
فلقد بقيت البلاد هادئة منذ سقوط نظام بشار الأسد، بل إن سقوطه نفسه كان بغير إطلاق رصاصة واحدة في دمشق حيث كان يتحصن، ولا في شمال البلاد حيث كانت قوات «هيئة تحرير الشام» تتقدم نحو العاصمة. كنا نتابع ذلك قبل ثلاثة أشهر بالضبط من وقوع أحداث الساحل، وكنا ندعو أن يدوم الهدوء، وأن يلتفت السوريون إلى بناء ما فاتهم أن يبنوه في بلدهم طوال سنوات حكم الأسد، وبالأصح إعادة بناء ما تهدم في تلك السنين.
وقد كانت هناك علامات على أن السوريين مشغولون في هذه الفترة بأنفسهم، وعازمون على الانشغال ببلدهم، وراغبون في الذهاب به إلى المستقبل.
تجد هذا في حديث سابق للرئيس الشرع، حيث قال أكثر من مرة إنه ليس معنياً بالدخول في مشكلات مع أي طرف خارجي، وإن ما يعنيه هو أن يتفرغ مع بقية السوريين لإعادة تأهيل ما لا بد من تأهيله لوضع البلد على طريق العصر. قال هذا بوضوح في أكثر من مناسبة، ولم يكن هذا مما يُرضي قوى إقليمية، حيث لا يسعدها أن يقوله فضلاً عن أن يفعله.
لقد تذكرت قصة الوزير الإنجليزي الذي زار القاهرة في أعقاب ثورة 1952 والتقى جمال عبد الناصر الذي أبلغه أنه ليس منشغلاً بالدخول في أي صراع مع إسرائيل، وأن كل ما يشغله في هذه المرحلة هو أن يعمل على تنمية بلاده وتحسين ظروف المعيشة لمواطنيه ولا شيء آخر. بعدها طار الوزير إلى تل أبيب والتقى ديفيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل، الذي سأله عن أخبار القاهرة فأبلغه الوزير بما سمعه من عبد الناصر.
إلا أن بن غوريون، عدّ أن ما سمعه أسوأ خبر يسمعه، لأن إسرائيل لا يسعدها أن تنشغل دولة من حولها في المنطقة بمثل ما قاله عبد الناصر. لا يسعدها ذلك لا في القاهرة، ولا في دمشق، ولا في أي عاصمة من عواصم العرب.
وقبل أيام كانت وكالة «الأناضول» التركية قد أذاعت تقريراً عن اليهود السوريين الذين عادوا إلى البلاد بمجرد سقوط نظام الأسد، وكانت قد سألت بحور شمطوب، رئيس الطائفة اليهودية السورية، عما إذا كانت إسرائيل تمثلهم، فانزعج الرجل من السؤال وكان رده معبّراً عن انزعاجه. قال: «هُم إسرائيليون ونحن سوريون».
كان رد شمطوب قد لخص كل شيء، لأنه عاد بالأمور إلى أصولها، ولأنه ارتفع بجنسيته فقدمها على ما عداها، وكان هذا هو الأصوب طبعاً، لأن سوريته سابقة على يهوديته، ولأن العودة بالانتماء إلى الوطن يجعل الجميع ينتمون إلى أصل واحد، ويعيشون تحت سقف جامع، وبالتالي يقطع الطريق على كل ما يمكن أن يفرق بين المواطنين.
ولم يختلف حديث بعض الرموز الدرزية عن حديث شمطوب، فسمعنا من أكثر من رمز سوري درزي أن انتماءه هو لبلده طول الوقت، وأن أحداً منهم لم يطلب من إسرائيل حماية تقول هي أنها ستوفرها لهم. لم يحدث، وكان حديثها عن حمايتها التي تعرضها تطفلاً زائداً عن الحد، وكان دساً للأنف فيما لا شأن لها به ولا فيه.
وعندما كان الشرع في قمة فلسطين سألوه، فقال إن سوريا عادت إلى حضنها العربي، وإن هذه العودة سابقة على حضوره القمة، وإنها عودة تتواصل وتكمل طريقها، وإن سوريا ومصر جناحان في جسد طائر واحد. قال الرجل هذا الكلام ثم عاد إلى بلاده، ومن بعدها بساعات معدودة قامت القيامة في منطقة الساحل، وأحس الغيورون على أرض الشام بجزع شديد تجاهها، وبدا وكأن ما قاله الشرع في القمة، وما قاله رئيس الطائفة السورية اليهودية، وما قاله بعض رموز الدروز، لم يصادف هوى لدى الذين لا يسعدهم أن تكون سوريا قريبة من عمقها العربي، ولا أن تتحرر من الذين استثمروا فيها طويلاً في أيام النظام السابق.
تسألني عن الحل فأقول: إنه لدى كل سوري، لأن السوريين لو آمنوا عن يقين بأن سوريتهم هي التي تجمعهم ولا شيء سواها، فلن ينال منهم طرف، مهما كان بأس هذا الطرف، ولن تكون سوريا إلا التي يريدونها ويذهبون إليها. فليراهن السوريون على أنفسهم، وليقطعوا الطريق على الذين يشعلون الفتنة، فهذا هو الرهان الوحيد الرابح.
الشرق الأوسط
——————-
منها تفخيخ طرق بالساحل السوري.. مقداد فتيحة يهدد بمزيد من العنف
قائد مليشيا لواء درع الساحل يهدد الدولة السورية
13/3/2025
تداول جمهور منصات التواصل في سوريا فيديو جديدا قالوا إنه لقائد مليشيات “لواء درع الساحل” مقداد فتيحة يهدد فيه قوات وزارة الدفاع والأمن السورية بما سماه المرحلة الثانية من المعركة إذا لم تنسحب من قرى الساحل من خلال تفخيخ الطرقات وإعدام الأسرى واغتيال العناصر.
وأبرز ما لفت رواد العالم الافتراضي الزي الذي كان يرتديه فتيحة في المقطع الذي ظهر فيه مهددا ومتوعدا، وهو لباس خاص بالجيش السوري، وقالوا إن فتيحة ظهر سابقا وهو يرتدي لباس الأمن العام، والآن ظهر وهو يرتدي ملابس خاصة بعناصر وزارة الدفاع السوري لقتل المدنيين واتهام الحكومة بجرائمه، حسب قولهم.
الارهابي مقداد فتيحة متزعم فلول الاسد في الساحل السوري يهدد بفيديو جديد بتفخيخ الطرقات وزيادة استهداف الشعب السوري
سابقاً ظهر وهو يرتدي لباس الامن العام، اليوم يظهر وهو يرتدي ملابس خاصة بعناصر وزارة الدفاع السوري
لقتل المدنيين واتهام الحكومة pic.twitter.com/WXqgbepsH3
— عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) March 12, 2025
وأضاف آخرون أن “مقداد فتيحة وأمثاله من فلول الأسد لا يمثلون سوى بقايا مشروع فاشل لفظه الشعب السوري بكل مكوناته”.
وكتب أحدهم “من يهدد الدولة ويتوعد بالدماء لا يمكن أن يكون إلا أداة مأجورة تحاول عبثا نشر الفوضى. سوريا أكبر من فلول مهزومة تتستر خلف أقنعة الإرهاب، والمحاسبة قادمة لكل من تلطخت يده بدماء الأبرياء”.
تمادى كثيرا المجرم #مقداد_فتيحة وظهر بفيديو جديد يزعم وجود أسرى من الأمن العام لديه متوعدا بإعدامهم والانتقال للمرحلة الثانية من معركة درع الساحل وهيا تفخيخ الطرقات واستعمال الأسلحة الكاتمة.
يجب أن يكون إغلاق ملفه أولوية لا تؤجل#الساحل_السوري pic.twitter.com/CwFp58IxEl
— ahmed alaasi (@ahmedalasi) March 13, 2025
وتعليقا على الفيديو، قال ناشطون إنه يدينه أكثر، ولا بد من استخدامه بكل اللغات ليصل لكل العالم، حتى يروا مع من يتعاملون، وهذا أكبر دليل على الإجرام وتهديد الأمن والاستقرار حسب وصفهم.
ولفت انتباه بعض المتابعين السلاح الذي ظهر بيد فتيحة، وقالوا إن هذا السلاح لا يوجد منه بجيش نظام الأسد، ويوجد فقط عند الروس.
هذا السلاح لا يوجد منه بالجيش المهزوم الفارّ القاتل الأسدي هذا السلاح يوجد فقط عند الروس وأتكلم بهذا الموضوع بكل ثقة واتحدا أحد يثبت أن هذه البندقية فينتوريز موجودة بالجيش السوري أو شوهدت مع القوات جيش بشار
— abdallah M.F (@abdallahMsultan) March 12, 2025
ودعا ناشطون الحكومة الحالية إلى اتباع نهج الولايات المتحدة وتخصيص مكافأة مالية قدرها 25 ألف دولار أو ما تراه مناسبا لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مقداد فتيحة.
وأشار هؤلاء إلى أن التجارب السابقة أظهرت أن مثل هذه المكافآت تشجع الأفراد على تقديم معلومات حيوية، كما فعل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) في ديسمبر/كانون الأول 2024 عندما أعلن عن مكافأة قدرها 3 آلاف دولار لمن يدلي بمعلومات عن السجون السرية في سوريا.
انكشاف الكذب مستمر والإرهابيين من فلول النظام البائد يكشفون أنفسهم ويعلنون أنهم قتلوا المدنيين والعسكرين في الساحل السوري
الارهابي الفار مقداد فتيحة يهدد بتفجير الطرقات والمنازل وقتل المدنييين ويقر ويعترف بأنه وعصابته الاجرامية قتلوا اكثر من ٣٠٠٠ شخص مدني ومن عناصر وأفراد… pic.twitter.com/EeFHxlxql7
— د.المحامي طارق شندبTarek Chindeb (@tarekchindeb) March 12, 2025
وطالب بعض الناشطين بإصدار قوائم بأسماء ومعلومات المجرمين والمطلوبين للعدالة من النظام البائد مع منح مكافآت مالية للأشخاص الذين يدلون بمعلومات تؤدي إلى القبض على هؤلاء المجرمين. كما يجب أن يجرم كل من يساعد أو يساهم في إيواء أو التواطؤ مع هؤلاء المطلوبين، أو يمتنع عن الإبلاغ عنهم للسلطات المختصة.
أدعو الحكومة الحالية إلى اتباع نهج الولايات المتحدة وتخصيص مكافأة مالية قدرها 25 ألف دولار او ماتراه مناسبا لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مقداد فتيحة. تُظهر التجارب السابقة أن مثل هذه المكافآت تشجع الأفراد على تقديم معلومات حيوية، كما فعل الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)…
— Rim Albezem (@Reem_mbc) March 12, 2025
المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي
——————————-
أختي في جبال العلويّين: هلع أنْ يكسر بابك في الليل وحش ضاحك لا يحبُّ من أسماء الله إلا المنتقم/ جولان حاجي
13-03-2025
الله والخنازير
يشتدُّ خفقان قلبي أمام وجوه الأطباء والصيادلة الذين قُتلوا في الساحل.
أختي، الطبيبة الكردية المقيمة منذ خمسة وعشرين عاماً في قرية الدالية، قرب جبلة، أسعفت بعض الجرحى أمس، بعد القصف بالمدافع ونيران الرشاشات. أسعفتهم بما تستطيع، بخياطة جرح أو كيس سيروم.
كيف سأتخيّل الآن ما تنتظره كردية وعائلتها في قرية لـ «النصيرية»؟
أين المفرّ وكلّ الطرق مغلقة؟
«كلُّنا في الفخّ، والكهرباء مقطوعة». دقائق من اتصال الواتساب في الوقت المستقطع من الكابوس.
من أين سيأتيك النوم، وكيف ستحمي قلبك من الانفجار، إذا سمعت عن جثامين عائلة تعمل في البيوت البلاستيكية ببانياس، أو طالبة طبّ، كردية بالصدفة، قتلتها طلقة طائشة وهي نائمة في المدينة الجامعية باللاذقية؟ كيلومترات من أرتال السيارات، المتجّهة إلى الساحل، المصوّرة من الجوّ، آتون إلى قتلك، وأنت وحدك تماماً.
هلع أنْ يكسر بابك في الليل وحش ضاحك لا يحبُّ من أسماء الله إلا المنتقم.
رعب أنْ تسمع «قُتلوا بدم بارد»، رعب «أن تقرأ النفير» أو «حيَّ على الجهاد» و«الأمور لم تتّضح بعد». الاشمئزاز من «الفلول» و«المظلومية» وكل هذا الهراء أمام قطرة الدم الهائلة التي اسمها سوريا، المسفوحة في حفرة العالم. قتلى في السيارات والحافلات (المفضوحة بأسماء مدنها)، جثث في الشوارع وساحات الكراجات بالقرى، في أحراش السنديان، بين أشجار العرعر والشربين.
ملثّمون بلباسٍ مموّه يتجوّلون بالدراجات النارية في الأزقة والشوارع، ويطلقون النار في الهواء. القتلة ينهبون البيوت أولاً، جوعى في رمضان ولا يفطرهم الدم، ثم يكنسون بلحاهم أرواحَ ساكنيها.
«الرُّوس يتفرّجون على صفقة الموت. قلنا إن الأمر انتهى، لكنهم عادوا ليصلوا رعب الليل برعب النهار. ليس لنا في هذا الرعب إلا رحمة الله. لا ندري من هم، شيشان، أوزبك، سوريون، حمزات، عمشات؟ ربما بينهم من بالوا على قبر حافظ الأسد؟ كمدمني الكابتاغون وجوههم مخيفة. كيف سنميز لحاهم الطويلة من لحى الشبيحة؟ لا ندري ممن يثأرون؟ ولمن؟ إلى أي كهف في الوعر سنهرب؟»
القتلة يفضّلون الطرق المعبّدة، ووجهتهم العنوان نفسه في كل قرية، لأنه العنوان اللامع في عيونهم: الثأر.
مرة أخرى، حقول القتل مُضاءة بالصور. طوال الصباح أتخبّط هناك وأنا هنا، تائهاً بين الكوابيس، وحدي كجميع الذين أحبّهم. أدقّق ما يصادفني، أدقّقه حتى العياء. أكلُّ هذه الصور هي النسيان؟ إلى أين العودة؟ كان السوريون موعظة الخراب، المغادرين في الحكاية التي رُويت. والآن، تحت كل خطوة لغم الهوية، في حياة تبتعد عن الحياة كنبأ يُسمع ثم يُنسى.
ريح آذار، على سفوح جبال العلويين، تحمل بين يديها البداية والنهاية وترميهما في البحر، ككلّ تلك الزهور، زهور العرس والجنازات.
(8 آذار 2025)
الأيام السوداء على لسان أختي
أكانت حياةُ قتَلَتِنا أغلى من حياتنا؟
(جورج برنانوس، «المقابر الكبرى تحت القمر»)
-1-
عصر يوم الخميس 6 آذار. كنتُ في السرفيس، راجعة من جبلة إلى الدالية، حين بدأت الاتصالات تنهال على السائق عند دوير بعبدة: «الهيئة في الضيعة. خذ طريق وادي القلع». كانت هناك دورية من الأمن العام قد أغلقت الساحة للسؤال عن شاب محدّد بالاسم. رفض أهل القرية تسليمه، لأنّ من يذهب لا يعود عادة. تراجعوا في النهاية، تصغيراً للمشكلة، بعد المشاجرة وتبادل الشتائم. اعتقلت الدورية الشاب المطلوب، وذهب معهم خاله ورئيس البلدية والمختار. لكن يبدو أنّ أهل القرية لم يحتملوا أن يُشْتم ابنهم على أرضهم. سرعان ما كمن بعض الشبّان لقوات الأمن العام وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا منهم ثمانية عشر عنصراً، وقُتِل منهم أربعة.
لم تكن الشمس قد غربت حين سمعنا عن وصول قنّاص إلى مدخل القرية. هنا بدأ الرعب. النوافذ في مثل هذه الظروف مخيفة، ويجب الابتعاد عنها. أسعفتُ جارنا الجريح الذي أصيب بطلقة في ساقه. أصابت طلقة شقيقَ زوجي وأوقعته عن واحدة من تلك المصاطب الزراعية التي تعرفها في الدالية، فسقط من ارتفاع أربعة أمتار. من أين كنّا سنأتي بالدم لتدبير نزيفه؟ كانت أكسجته أقل من 50 بالمئة ، وهبط ضغطه حتى صار نبضه كالخيط لا يكاد يُجَسّ. نجا بأعجوبة. قام حقاً في اليوم الثالث، ونحن في بداية الصيام المسيحي.
-2-
في يوم الجمعة، وجدوا الشاب المطلوب الذي أخذته دورية الأمن العام مقتولاً على الطريق، مرميّاً بين الأشجار.
قصف الطيران بيت عانا بقذيفتين. قُتل لواء سابق في جوفين مع ابنيه، أحدهما صيدلاني والآخر طبيب بيطريّ. سمعت من أهل القرية إنّ مسلحين مجهولين قتلوا أهل مقداد فتيحة [مؤسّس «درع الساحل»]، ولم يفلت أحد منهم. لو كان المجرمون المعروفون ومهرّبو السلاح وتجّار الكابتاغون وحدهم يهاجَمون لما خفنا. روّعتنا مذابح الأبرياء. المسلّحون الجدد يعرفون أنّ ريف جبلة بأكمله علويّ. كنت أتخيّلهم في قرى أعرفها، يقتحمون البيوت بيتاً فبيتاً، ولا يوفّرون أحداً، لأن الجميع مشبوهون بالسكن هنا. سكنك تهمتك. قالها أحد المسلّحين: «كلُّكم جنود منشقّون». المفارقة أنّ «الجنود المنشقّون» هو الاسم المعتمد للعسكريين السابقين الذين سلّموا أسلحتهم بعد تسوية أوضاعهم مع الحكومة الجديدة.
لم ننَمْ ولم نغيّر ثيابنا، في انتظار أيّ إشارة للهروب إلى الأحراش. كنا سنترك للمجرمين بيوتنا. فلننجو بجلودنا، وليسرقوا ما يريدون. فلينهبوا ويحرقوا. ربما حصة العلويين من القتل الكبير انتهت. لا ندري من التالي. إذا كانت المقتلة سترتدّ إليهم مرة أخرى، فسيكون مصيرهم كالهنود الحمر. سمّى الأميركيون إحدى حواماتهم «الأباتشي»، على اسم إحدى القبائل التي أبادوها. لن أنسى تلك الدقائق عند ظهور الحوّامات في السماء. حين رأيناها تحلّق فوقنا، قلنا لم يبقَ لنا إلا الموت.
كانت الضربة الأقسى في بانياس. أرعبنا الوشاة، فبعض الحقودين في المدينة وشوا بأسماء العلويين وعناوينهم وتناقلتها صفحات الفيسبوك. كان الفاصل في هذه الإبادة هو دوّار المصرف، فشماله يسكن العلويون، وجنوبه السنّة حيث ظلّت المحلات مفتوحة ولا ترى على الأرض شظية زجاج واحدة. في يوم الرعب الأقصى، بدا لي ذلك الحاجز الخفيّ منيعاً هائل الأبعاد. ابتسم الآن بعدما ذكّرتني بجدار الزمن في أساطير الهند: سور حديدي طويل شاهق يحاول ناسكٌ أنْ يهدّه بريشة.
كان شمال المصرف في بانياس جهة التنكيل والتحطيم. دِيست جثث المدنيين بالسيارات. كُوّمت كالقمامة في صناديق المركبات. أخبرنا أصدقاؤنا أن بعض المنفّذين من الأويغور والشيشان والأوزبك، كأنهم آلات ينفّذون أوامر لا نعرفها. ربما لم يكونوا مثل شبيحة بشار في التعفيش، لأنهم يريدون الأذى الصرف، ولا يبيعون مسروقاتهم فيما بعد. أرادوا أن يحرموا ضحاياهم من كل شيء. كان يسلبونهم هواتفهم، ويحطمّونها قدّام عيونهم. كنت أعرف زوجين فقيرين يحرسان مشتلاً للزهور كثير الأبواب. صباح يوم الجمعة، كانا يتناولان الفطور تحت الأشجار حين امتلأت الحديقة بالمسلّحين، الشيشان على الأغلب. صاحب المكان ميسور الحال، من سنّة جبلة. كان قد خزّن في مستودعه ثلاثمائة بيدون زيت زيتون. نهبوها بالكامل، ولما استمهلتهم الزوجة قليلاً، كان الجواب طلقة في الرأس.
-3-
مخاوف الأزمنة الغابرة تلمع في عيون الناس في قرى العلويين. كأن قلوبهم مفطورة على هذا الخوف: احتمال الهروب من أيّ مكان انتقلوا للعيش فيه، مثل عشوائيات عشّ الورور والمزة 86 في الشام، مسرعين إلى جبالهم الأمّ التي انحدروا منها. كانوا حريصين على الاحتفاظ بأيّ مسكن في قراهم، ولو مجرد غرفة على سطوح آبائهم، إلى أنْ صعد خوفهم نحوهم.
حتى قبل هذا الانفجار في الجمعة السوداء، كنا مرهَقين من مخاوف الخطف التي كانت تخلي الشوارع منذ الخامسة مساء، خصوصاً في المدن حيث الذلّ أقسى وأشدّ. ليل فارغ موحش، لكنه مملوء بترقّب بشع.
نجا ابني من زلزال شباط 2023، فصلته دقائق عن الموت في انهيار أحد المباني. في السنة الأولى من دراسته هندسة الاتصالات في جامعة حمص، كان متأخّراً عن إحدى المحاضرات، فسأل زميله أنْ يستعير دفتره. سأله الزميل عن اسمه، ولما عرف أنه علي ومن الدالية، أغلق الدفتر وسحبه من أمامه. هذا الموقف، التافه والمقلق، أعاده إلى كنف الذين يعرفهم أو يعرف منابتهم.
كنت أتصل بابني مراراً على الهاتف كلما ذهب إلى الجامعة. أرعبتنا المذبحة التمهيدية في قرية فاحل بريف حمص. في كانون الثاني الماضي، أتى مجهولون مسلحون بالدوشكا، لم يقولوا من هم. أتوا يفتشون منازل العلويين عن الفلول والأسلحة، ثم اقتادوا شباناً مدنيين ولم يعودوا. عثر عليهم أهلهم قتلى، مذبوحين أو مقتولين بالمطارق.
-4-
مئات آلاف العلويين، العسكريين والمدنيين، خسروا وظائفهم منذ هروب بشار في 8 كانون الأوّل. مَن تبقّى من الموظفين في هذا الغلاء لا يتنقّلون ولا يركبون المواصلات، لأن رواتبهم لا تغطّي حرفياً إلا ثمن الخبز فقط. لا مواسم هنا كالجزيرة، ولا مغتربون ليساعدوا أهلهم بالحوّالات. إلى متى سيتقشّفون بالعيش على الخبز والبصل الأخضر المزروع في حاكورة البيت؟ إلى متى ستكفي المونة لدى فلّاحي التبغ والزيتون؟
يقول لي سمّان القرية: «صرنا كالأوروبيين نشتري الخضار بالقطعة». كنت في دكّانه حين أتت طفلة تشتري رأس ثوم وحبة بطاطا واحدة وقدحاً من زيت الذرة. بقية الوجبة بالماء والملح، والنار من عيدان الأحراش. اللعنة، كأنه عصر الصحابة في مسلسلات رمضان. في الواقع، الناس أهلكهم الجوع. في أيام بشار، كان بعضهم يحصل على حفنة من الرز أو البرغل من الأمم المتحدة، لأنّ لصوص المساعدات بالمرصاد. كانت المعونات تُباع على البسطات، وكنّا نسمع أنّ إحدى مهمات أسماء الأسد هي الحفاظ على تجويع الشعب. كنت أصدّق أنّ المعونات تُطمر في مكبّات القمامة، ولا تُعطى للناس. لا يزال المحتاجون حولك كيفما جالت عيناك. فلمَن ستمدّ يد العون، هذا إذا استطعت؟ هل نستطيع أن نشتقّ فعلاً من «الغجر» ونقول: إنّ سوريا بكاملها «تغجّرت»؟
برغم كلّ اليأس والكآبة اللذين يفتكان بقلبي، أقول لك يا أخي: نحن السوريون كالفلسطينيين، لا أحد أقوى منا في البقاء ومصارعة البؤس.
المخطوفة
الخائفون مبعثَرون داخل أجسادهم.
مَنْ راقب جداول الربيع في شعاب الدالية وأطال النظر، فقد يصدّق أنّ الظلمة تشرق أحياناً.
مخلوقٌ لا وجه له في ظلام رأسك، مكتومٌ كغضبٍ قديم، ثقيلٌ كالدابّة وسريع كلسان الحيّة. تكاد تلمح طيفه الأسود وسط الأحراش، يهبط الوديان ويصعد السفوح، من أحشائك إلى حلقك. لا تراه، لكنّه آتٍ ليقبض روحك، وبين فكّيه قلبك. عينه على الحبّ يريد قتله، يريد أنْ يقلب اللطفَ ضعفاً، والبراءة عاراً.
«حدّقْ بي!» لا تنصاع لأمره، وأنت ترى اسمك تحت قدمه اليمنى، وتحت اليسرى وجهك.
بغتةً، كجناح مقطوع يضرب الهواء، يخفقُ الماضي كلّه.
مُسبَلَ العينين، جوابك جواب الفقير الصامت:
«سكين اليوم في يدك مرآةُ الأمس حيث لمعتْ ابتسامتك».
برج بابل المفقودين
مَن أورث المذعورين هذا البيت المبنيّ على سطح موجة؟
الاتصالات مقطوعة، والمجهولون العنيفون، بين الأشجار، على مبعدة مئات الأمتار منك.
بيتك مضاء بالطاقة الشمسية منذ العام الماضي، وأنا أتخيّل أشياء لم تقع حين لا يردّ هاتفك.
هل كنتِ، بين البقع الرطبة لجدران الإسمنت غير المطلية، تسعفين مذعورة أغرقتْ فراشها بما استفرغته معدتها، الخاوية إلا من ماء الينبوع؟ هل حاولتْ أن تنهي حياتها بسمّ الجرابيع، كالعاشقات اليائسات، أم هناك مَن سمّم الماء؟ لا يزال القرويون يخزّنون ماء المطر في خزانات إسمنتية كالغرف، أو يستقون من الينابيع. كانت ستخجل من رائحة غرفتها في حضورك، واصفرار الشرشف بتلك الحموضة المخزية. كنت ستطمئنينها، وربما تمسحين العرق البارد عن جبهتها، وتناولينها منشفة مبلَّلة لتمسح فمها:
«لا تخافي حبيبتي. الحرب انتهت وما انتهت. لا أدري ما نحن فيه الآن».
عرفتُ سيدة من تلك الجبال، تحلم بمزرعة من الأبقار والدجاجات، وسمعت مرة قنبلة انفجرت في البحر. كان التقيُّؤ والدموع جوابَ جسدها حين تسمع صوت الرصاص أو تشمّ رائحة البارود.
المنتشون بالانتصارات سممّوا الهواء بهزائمنا، ونحن نسمعهم يذيعون أسماء القتلى، حاذفين منها أعداءهم.
برج بابل المفقودين.
إشارة النصر الوحيدة الممكنة يرسمها جبلان أخضران مقابل شرفتك.
عودة الأنفاس
ما أجمل أنْ يكون اسمي: «الحالم بك».
أنتِ الخائفة، تطمئنيني: «لم يبقَ إلا القليل. شارفنا على النهاية».
أيّ نهاية؟ أيّ رحلة قطارها أطول من رتل الراقصين السكارى، لا نرى مَن يقوده إلا في المنعطفات؟
لم يهلكنا ما فقدناه حتى الآن، لأن رجوعنا بعد دقائق، منذ سنين. ظهورنا موجوعة من محاولات النوم على مقاعد الطريق، تيبّستْ رقابنا التي نحاول طقطقتها عبثاً. جنينا معرفة قاسية بعرق قلوبنا. لم نفُزْ بـ «الكنز الناقص للعيش»، حتى لو تعلمنا جيداً كيف تُعاش بالثواني الدقائقُ المتبقية. على هذا المنوال، نسجت السنوات قمصاناً ضيقة على أرواحنا.
يطمئنني صوتك. لا ندمَ، لأنني سافرت أو لأنك بقيت. أسنقول وداعاً للدموع على الهاتف، لجفاف الحلق أمام الغرباء، للتعرّق تحت النظرات؟ أما الوعود المزيَّفة فأنا مدركٌ وفاءَها جيداً، لم تفارق حياتي يوماً كي تفارقها الآن.
ولكن، رغماً عن كل ما جرى، لديّ وعد صغير. في المرة القادمة، على الأقل سأسمع معك أغنيات من البحر الأسود في فارنا. سنتذكر معاً فشل عمّي «الكيّس» في مشروع تجارته بالجبنة البلغارية وجلود الثعالب، سنتذكّر لقاءه المطوّل مع السفير القبرصيّ وعطشه الدائم إلى العيران وإيمانه بالمقدرات السحرية للَّبَنْ، حتى تغمض الضحكة عينيك وتثلّم بالغمازات خدّيك.
اللقاح الأوّل
في أيّام بشّار، تابعتِ حملة للتلقيح في حي الدريبة بجبلة. دارت الممرّضة في الأزقّة بمكبّر الصوت ليأتي الأهالي بأطفالهم. كان الهواء مشحوناً، لأن الحيّ سنيّ بكامله، والفكرة الشائعة أنّ الممرضات كلّهن علويات.
الحكومة الجديدة سرّحت تسريحاً تعسّفياً مئاتِ الأطباء والممرضات لأنهم فائضون عن الحاجة في مستشفى جبلة. يُقال إن مديره الجديد يحمل شهادة دكتوراة من جامعة ما في إدلب.
لا يردّ هاتفك، فأحاول إزاحة الخوف جانباً لأتخيّل مرة أخرى، بما أستطيع من هدوء، أشياء لم تحدث لك.
كأنْ يخبركِ أحد المرضى:
-دكتورة عفيفة، إن العارف هو الخائف في كتب العرفان.
العارف لا يواسي أحداً بـ «اليقين» لأنّه اسمٌ من أسماء الموت. أتخيّل مريضك مولعاً بالسجع والقوافي، كالأطفال في تلك النكات البائخة عن الجناس بين السعر والسعير، والشعر والشعير.
تجيبينه على لسان باستور الذي فقد ابنه في حرب لا تعرفينها، واستأجر عربة للبحث عنه، جوّاباً المياتم والمستشفيات والمقابر في ألمانيا وفرنسا:
-العلم والسلم سينتصران على الجهل والحرب.
وتحيط ضحكاتكم المتعبة بتكشيرة المريض. أمهات شرب الحزن نورَ وجوههن، الآباء المفلسون جنود مسرَّحون من جيوش الماضي، ومستقبل الصغار كالسلالم التي تفضي إلى العليات والأقبية، من دون نوافذ أو مخارج.
الجنود القُدامى هربوا إلى البرية يختبئون بين الصخور، لأن الجنود الجدد قادمون. جيوش الحاضر بُعثت من حُطام المدن وقيعان البراميل ووحول المخيّمات.
أليس شهداء الأكاذيب على كلّ الجبهات؟
لم تصدّقي أنّ القصص التي تتناقلها الأجيال لا تزال تدور كالثأر في العروق.
مَن كان سيصدّ أولئك المحاربين المسعورين الذين يُذِلّون المستضعفين بإجبارهم على العواء؟
شفى باستور الصبيّ جوزف مايستر الذي عضّه كلب مسعور أربع عشرة عضّة. أتتْ به أمّه من الألزاس إلى باريس لتعرضه على حكيم يلقّح الكلاب المسعورة. لم يكن قد جرّب لقاحه إلا على الكلاب والأرانب. كان جوزف أول إنسان تلقّى التطعيم ضدّ داء الكلَب سنة 1885. نجا الصغير الذي كان راعياً للأغنام ومربّياً لديدان القزّ. ولما كبر، عمل حارساً لمعهد باستور، حيث يرقد العالم وزوجته متجاورين، لأنه رآه أجدر بالحراسة من مراقد كل القديسين، حتى انتحاره إثرَ احتلال النازيين باريس 1940. كان الحارس قد أورث ابنته ثقافته الجديدة، فعلّمها، نقلاً عمّن شفاه، كيف تستخدم المجهر. لم يلقّنها شيئاً عن الله والملائكة، فمتّعها جهلها بأعاجيب أخرى لا تراها عيناها الجميلتان.
ثقب في الجدار
ابتعدتِ عن الحكمة إلى وضوح الحاجات. التجربة أعلى من كلّ الأحكام.
أمامك ثقب حفرته رصاصة في الجدار، على طرفيه يقف العقلُ والإرادة حائرين ماذا سيدفنان فيه؟
سيكفل الزمن كلّ هذه المنازل الجريحة.
ما أبغضَ أنْ يصير جرحك بيتك بعدما كان بيتك جرحك.
(10 آذار، 2025)
موقع الجمهورية
—————————–
متحدّياً طهران وتل أبيب: مظلوم عبدي ينتقم للشّرع/ سمير صالحة
تحديث 13 أذار 2025
من غير المستغرب أن تشتعل الأجواء في الساحل السوري ذي الكثافة السّكّانية العلويّة، وأن نرى ارتدادات هذا الاشتعال تتفاعل في أكثر من مكان، وأن يحمل معه هذا التفجير، برغبة إيرانية إسرائيلية وعبر ما بقي من فلول النظام السابق، نقاشات سياسية وإعلامية واسعة واكبتها اصطفافات وانقسامات حول مجريات الأحداث وتأثيرها على سوريا والمنطقة.
احتمال كبير أن تكون تركيا هي الدولة الثانية بعد سوريا الأكثر تفاعلاً مع اشتعال الوضع في الساحل السوري. السبب ليس فقط رقص إيران وإسرائيل على معزوفة واحدة، والتقاء مصالحهما وأهدافهما في الداخل السوري وفي مواجهة السياسة التركية، بل لوجود شريحة سكّانية واسعة من العلويين الأتراك الذين تربطهم قرابة بعلويّي الجانب الآخر من الحدود، وأقلقهم ما يجري في غرب سوريا، كما يقول رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو.
يردّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أمام منصّة دول الجوار السوري المجتمعة في العاصمة الأردنية أنّ “هناك من يريد إخراج سوريا عن مسارها الجديد عبر القيام بأعمال التحريض والاستفزاز”. ويعلن مساعد رئيس الجمهورية التركي جودت يلماز أنّ “محاولة عرقلة خروج سوريا من محنتها التي يقودها فلول النظام السابق وبعض من يتحرّك خارج القانون لن تنجح”. ما يقلق أنقرة ليس فقط ما يجري في مناطق الساحل السوري لأنّ الأوضاع سيتمّ تطويقها هناك، بل احتمال انتقاله إلى مناطق سوريّة أخرى في الجنوب والشرق تحت طابع مذهبي وعرقي، وهو ما يعقّد الوضع الأمنيّ والسياسي أكثر فأكثر، واستهداف سياسة تركيا السوريّة وعلاقاتها مع الحكومة السورية الجديدة التي تحوّلت إلى شراكة استراتيجيّة تثير غضب المتضرّرين من ذلك، وفي مقدَّمهم إيران وإسرائيل.
من غير المستغرب أن تشتعل الأجواء في الساحل السوري ذي الكثافة السّكّانية العلويّة، وأن نرى ارتدادات هذا الاشتعال تتفاعل في أكثر من مكان
مفاجأة كبرى
كان من المفترض أن تركّز هذه المادّة على مواصلة الحديث عن الخطر المحدق بسوريا بعد انفجار الأحداث في الساحل، وأن يدور الحديث عن الوضع الأمنيّ والسياسي الصعب الذي ينتظر سوريا الجديدة بعد إشعال جبهة الساحل، لكنّ الرئيس السوري أحمد الشرع دفعنا إلى تغيير المسار والحديث عن الإنجاز الثاني الكبير الذي يحقّقه خلال 3 أشهر على طريق بناء سوريا الجديدة عبر تفاهماته المفاجئة مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية التي قلبت الطاولة في اللحظة الأخيرة.
عندما كانت:
– نقابة محامي مدينة هطاي تستعدّ لتقديم شكوى ضدّ أحد الإعلاميين المقرّبين من حزب العدالة بسبب مقالته عمّا يجري في الساحل السوري بتهمة إثارة النعرات.
– وكانت قيادات حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض تعرب عن قلقها من “تصاعد العنف ضدّ العلويين في اللاذقية ومحيطها، وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، والمخاوف من ارتكاب مجازر ضدّ الأقلّيات”.
– العديد من الأصوات والمنظّمات الدولية كانت تدعو إلى إجراء تحقيقات فوريّة وشفّافة ونزيهة في جميع عمليات القتل والانتهاكات التي حدثت في الساحل السوري، ومحاسبة المسؤولين عنها.
– الخارجية الروسيّة كانت تضع اللمسات الأخيرة مع نظيرتها الأميركية على تفاهم الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لطرح مستجدّات الوضع الأمنيّ المتدهور في سوريا. ثمّ تعلن أنّ مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف استقبل السفير التركي في موسكو تانجو بيلغيتش بناء على طلبه، في لقاء جرى خلاله “تبادل معمّق لوجهات النظر حول الوضع في الشرق الأوسط مع التركيز على تطوّرات الوضع في سوريا”.
– وكان التصعيد الإعلامي والسياسي الإيراني الإسرائيلي في ذروته في محاولة للاستثمار في تلك الأحداث عبر تحريض الأقلّيات والترويج لـ”جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا” وجماعة ” أولي البأس”.
– وكانت السيناريوهات التي تتحدّث عن دور “قسد” في مخطّط تفجير الوضع الأمنيّ السوري تتفاعل وتنتشر.
يردّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أمام منصّة دول الجوار السوري المجتمعة في العاصمة الأردنية أنّ هناك من يريد إخراج سوريا عن مسارها الجديد
أعلنت رئاسة الجمهورية السوريّة توقيع اتفاقية بين الشرع وعبدي بعد أسابيع من المفاوضات انتهت بمفاجأة لا تقلّ قيمة عن رسالة أوجلان لعناصر حزب العمّال الكردستاني وداعميه في قنديل وشرق الفرات لترك السلاح وحلّ الحزب وإنهاء العمل المسلّح ضدّ القوات التركية.
حفرة السّاحل
تضمّ الاتفاقية ثمانية بنود أهمّها: الاعتراف بالمجتمع الكردي مكوّناً أصيلاً في الدولة السورية، وضمان حقوقه، ودمج كلّ المؤسّسات المدنية والعسكرية في شمال سوريا وشرقها ضمن إدارة الدولة السورية، وضمان عودة جميع المهجّرين السوريّين إلى مناطقهم مع توفير الحماية اللازمة لهم، ودعم الدولة السورية في مواجهة التهديدات التي تمسّ أمنها ووحدتها، ورفض دعوات التقسيم.
هناك مراعاة إقليمية ودولية في بعض بنود الاتّفاق للّاعبين المؤثّرين في الملفّ السوري. لكنّ الأهمّ هو ولادته بصناعة سورية – سورية تأخذ في الاعتبار مصالح سوريا وشعبها أوّلاً.
حتّى لو كانت الجهود التركية الأميركية العربية، بعيداً من الأضواء، هي المسهّل والمحرّك، وحتّى لو سبق هذا الإنجاز ما حقّقته أنقرة من خلال إقناع عبدالله أوجلان بالتخلّي عن مواقفه وطروحاته الكردية. وكان عبدي يعلن تبنّيه لما دعا إليه أوجلان قبل انعقاد مؤتمر حزب العمّال من خلال التراجع عن الكثير من المطالب والمواقف السياسية والعسكرية، مخيّباً آمال المراهنين على مشروع سياسي في إطار حكم ذاتي كردي في سوريا. وتسجّل التفاهمات بين دمشق والقامشلي في خانة الشرع الذي كانت طهران وتل أبيب تريدان رميه في حفرة الساحل السوري على أن لا يخرج منها.
أساس ميديا
——————————-
سوريا المستقبل… لا تقسيم ولا إيران/ خيرالله خيرالله
2025-03-13
يتغيّر المشهد الداخلي السوري بسرعة كبيرة. انتقل، في غضون ساعات، من الضربة القويّة التي تعرّض لها النظام الجديد الذي وقع في فخّ نصبته له إيران عبر استخدام “فلول النظام السابق” في الساحل السوري… إلى الاتّفاق الذي وقّعه الرئيس أحمد الشرع مع مظلوم عبدي القائد العامّ لـ”قوات سوريا الديمقراطية”.
وقّع الشرع اتّفاقاً مع الأكراد أقلّ ما يمكن وصفه بأنّه اتّفاق تاريخي يمثّل نقلة نوعية في مجال رسم الخطوط العريضة لسوريا المستقبل المتصالحة مع نفسها، أي مع السوريين من كلّ المذاهب والطوائف والمناطق والقوميّات.
يكفي التمعّن في النقاط الثماني التي تضمّنها الاتّفاق بين الشرع وعبدي للتأكّد من أنّ سوريا انتقلت إلى مرحلة مختلفة لا مكان فيها للتقسيم ولا للإقصاء، أقلّه من الناحية النظريّة. بات هناك اتّفاق خطّيّ يحمل توقيع “رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة” يؤكّد “الاعتراف بالمجتمع الكردي جزءاً أصيلاً من الدولة السوريّة”.
الأكيد أن ليس في الإمكان تبرير ما تعرّض له العلويّون في الأيّام التي سبقت توقيع الاتّفاق مع الأكراد. تبيّن أنّ هناك فصائل تكفيريّة مسلّحة خارجة عن سلطة الدولة مستعدّة لارتكاب مجازر في حقّ الأقلّيّة العلوية التي لا يزال قسم منها يرفض، للأسف، الاعتراف بالواقع الجديد المتمثّل بسقوط نظام آل الأسد. حسناً فعل أحمد الشرع عندما سارع إلى تشكيل لجنة تحقيق، تضمّ عضواً علويّاً هو خالد الأحمد، من أجل تأكيد أنّ هذه الفصائل لا تمثّل الدولة، مبدياً استعداده لمحاسبة كلّ من على يده دماء بريئة. في النهاية، كان قسم من العلويّين من ضحايا آل الأسد، مثلهم مثل السوريّين الآخرين.
يبدو واضحاً من خلال تطوّر الأحداث في الساحل السوري أن لا رغبة دولية في تقسيم سوريا من جهة، وأنّ هناك معارضة غربيّة شديدة لأيّ عودة إيرانية إلى سوريا
رسالة للدّروز
الأكيد أيضاً أنّ من الضروري استخلاص العبر من أحداث الساحل السوري. في مقدَّم تلك العبر أنّ الغرب عموماً ليس مستعدّاً للدخول في لعبة التقسيم التي يراهن عليها الضبّاط الموالون للنظام السابق، والذين يلقون دعماً إيرانيّاً مباشراً أو عبر “الحزب” في لبنان والحكومة العراقية برئاسة محمّد شيّاع السوداني وفصائل من “الحشد الشعبي”، الذي هو جزء من تركيبة هذه الحكومة. ليس هناك في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، من يريد عودة “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى سوريا كما كانت عليه الحال أيّام بشّار الأسد لا يزال في دمشق. في طبيعة الحال، ليس في الغرب من يريد السماح لإيران بالعودة أيضاً إلى لبنان بعدما حوّل “الحزب”، في مرحلة معيّنة، بيروت إلى مدينة إيرانية على شاطئ المتوسّط.
من هذا المنطلق، كانت هناك لملمة سريعة لأحداث الساحل السوري. ليس صحيحاً أنّ الأمم المتّحدة بعثت بلجنة تحقيق إلى القرى التي وقعت فيها مجازر. يوجد بيان صادر عن “مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانيّة في سوريا” ينفي نفياً قاطعاً “زيارة الساحل السوري لإجراء تحقيقات في المنطقة”.
يبدو واضحاً من خلال تطوّر الأحداث في الساحل السوري أن لا رغبة دولية في تقسيم سوريا من جهة، وأنّ هناك معارضة غربيّة شديدة لأيّ عودة إيرانية إلى سوريا، سواء إلى الساحل أو دمشق أو الجنوب السوري، من جهة أخرى. أكثر من ذلك، يعتبر ما حدث في الساحل السوري رسالة إلى الدروز أيضاً الذين هم جزء من النسيج السوري. فحوى الرسالة أنّ الرهان على كيان درزي، حتّى لو دعمته إسرائيل، ليس رهاناً في محلّه. توجد معلومات عن التوصّل قريباً إلى اتّفاق مع المكوّن الدرزي على إدارة الدروز لمؤسّسات الدولة في السويداء على أن يفتح باب التطوّع لدروز السويداء في وزارة الدفاع السورية. وسيتضمّن الاتّفاق بنوداً أخرى في شأن ظروف انتشار الأمن السوري في السويداء وهو ما تم التداول به بين الشرع ووفد السويداء منذ أيام.
من الواضح أنّ أحداث الساحل السوري صارت من الماضي، خصوصاً إذا استطاع الحكم الجديد في سوريا ضبط الفصائل التكفيرية غير المنضبطة وتدجينها
تبدو أحداث الساحل السوري قابلة للمعالجة، خصوصاً في حال تبيّن أنّ أحمد الشرع مستعدّ للطلاق تماماً مع ماضيه القريب حين كان يُعرف بـ”أبي محمد الجولاني”. يشير الاتّفاق الذي وقّعه مع “قسد” (قوات سوريا الديمقراطية)، أي مع الأكراد، إلى أنّ الرجل مستعدّ للتأقلم مع الواقع القائم، بما في ذلك الاعتراف بأن ليس أمامه غير هذا الخيار في حال كان يسعى بالفعل إلى قيام سوريا جديدة، الدولة التي فيها مساواة بين كلّ المواطنين، سوريا المختلفة عن سوريا النظام العلويّ الذي أسّسه حافظ الأسد تحت عنوان “السجن الكبير”… والذي سمح لإيران بوضع يدها على البلد.
مستقبل جديد
يختزل الخيار المتوافر لأحمد الشرع البنود التي تضمّنها الاتّفاق مع الأكراد. مثل هذا الاتّفاق لم يكن ممكناً لولا الضوء الأخضر الأميركي. إنّه أيضاً اتّفاق يرضي تركيا التي لديها هاجسها الكردي. يتمثّل هذا الهاجس في قيام كيان كردي مستقلّ في سوريا تنتقل عدواه إلى تركيا نفسها.
من المفيد ملاحظة أنّ الاتّفاق بين الشرع وعبدي حظي بتشجيع من الزعيم الكردي مسعود بارزاني الذي قدّر تقديراً كبيراً الاعتراف بحقوق المواطن الكردي في سوريا. وجاء الاتّفاق بعد أيّام من إعلان عبدالله أوجلان زعيم حزب العمّال الكردي (PKK)، من داخل سجنه التركي، عن تخلّي حزبه عن الكفاح المسلّح في تركيا.
من الواضح أنّ أحداث الساحل السوري صارت من الماضي، خصوصاً إذا استطاع الحكم الجديد في سوريا ضبط الفصائل التكفيرية غير المنضبطة وتدجينها. من الواضح أيضاً أنّ الاتّفاق مع الأكراد يمثّل المستقبل، خصوصاً أنّه يتحدّث عن “دمج كلّ المؤسّسات المدنيّة والعسكريّة في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية”، وعن “رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بثّ الفرقة بين كلّ مكوّنات المجتمع السوري”.
تتطلّع سوريا، على الرغم من كلّ المشاكل التي تواجهها وخصوصاً في المجال الاقتصادي، إلى مستقبل آخر مختلف، بعيداً عن التقسيم وبعيداً عن إيران، التي لم يعد لها ما تستثمر فيه غير إثارة “المسألة العلويّة”. هذه صفحة طُويت، وطُويت معها صفحة استخدام الأراضي السوريّة لإغراق لبنان بالفتن عبر سلاح غير شرعي، ولا خلاص لهذا البلد من دون الخلاص منه نهائياً.
أساس ميديا
——————————-
================
