الأحداث التي جرت في الساحل السورينصوص

أختي في جبال العلويّين: هلع أنْ يكسر بابك في الليل وحش ضاحك لا يحبُّ من أسماء الله إلا المنتقم/ جولان حاجي

13-03-2025

        الله والخنازير

        يشتدُّ خفقان قلبي أمام وجوه الأطباء والصيادلة الذين قُتلوا في الساحل.

        أختي، الطبيبة الكردية المقيمة منذ خمسة وعشرين عاماً في قرية الدالية، قرب جبلة، أسعفت بعض الجرحى أمس، بعد القصف بالمدافع ونيران الرشاشات. أسعفتهم بما تستطيع، بخياطة جرح أو كيس سيروم.

        كيف سأتخيّل الآن ما تنتظره كردية وعائلتها في قرية لـ «النصيرية»؟

        أين المفرّ وكلّ الطرق مغلقة؟

        «كلُّنا في الفخّ، والكهرباء مقطوعة». دقائق من اتصال الواتساب في الوقت المستقطع من الكابوس.

        من أين سيأتيك النوم، وكيف ستحمي قلبك من الانفجار، إذا سمعت عن جثامين عائلة تعمل في البيوت البلاستيكية ببانياس، أو طالبة طبّ، كردية بالصدفة، قتلتها طلقة طائشة وهي نائمة في المدينة الجامعية باللاذقية؟ كيلومترات من أرتال السيارات، المتجّهة إلى الساحل، المصوّرة من الجوّ، آتون إلى قتلك، وأنت وحدك تماماً.

        هلع أنْ يكسر بابك في الليل وحش ضاحك لا يحبُّ من أسماء الله إلا المنتقم.

        رعب أنْ تسمع «قُتلوا بدم بارد»، رعب «أن تقرأ النفير» أو «حيَّ على الجهاد» و«الأمور لم تتّضح بعد». الاشمئزاز من «الفلول» و«المظلومية» وكل هذا الهراء أمام قطرة الدم الهائلة التي اسمها سوريا، المسفوحة في حفرة العالم. قتلى في السيارات والحافلات (المفضوحة بأسماء مدنها)، جثث في الشوارع وساحات الكراجات بالقرى، في أحراش السنديان، بين أشجار العرعر والشربين.

        ملثّمون بلباسٍ مموّه يتجوّلون بالدراجات النارية في الأزقة والشوارع، ويطلقون النار في الهواء. القتلة ينهبون البيوت أولاً، جوعى في رمضان ولا يفطرهم الدم، ثم يكنسون بلحاهم أرواحَ ساكنيها.

        «الرُّوس يتفرّجون على صفقة الموت.  قلنا إن الأمر انتهى، لكنهم عادوا ليصلوا رعب الليل برعب النهار. ليس لنا في هذا الرعب إلا رحمة الله. لا ندري من هم، شيشان، أوزبك، سوريون، حمزات، عمشات؟ ربما بينهم من بالوا على قبر حافظ الأسد؟ كمدمني الكابتاغون وجوههم مخيفة. كيف سنميز لحاهم الطويلة من لحى الشبيحة؟ لا ندري ممن يثأرون؟ ولمن؟ إلى أي كهف في الوعر سنهرب؟»

        القتلة يفضّلون الطرق المعبّدة، ووجهتهم العنوان نفسه في كل قرية، لأنه العنوان اللامع في عيونهم: الثأر.

        مرة أخرى، حقول القتل مُضاءة بالصور. طوال الصباح أتخبّط هناك وأنا هنا، تائهاً بين الكوابيس، وحدي كجميع الذين أحبّهم. أدقّق ما يصادفني، أدقّقه حتى العياء. أكلُّ هذه الصور هي النسيان؟ إلى أين العودة؟ كان السوريون موعظة الخراب، المغادرين في الحكاية التي رُويت. والآن، تحت كل خطوة لغم الهوية، في حياة تبتعد عن الحياة كنبأ يُسمع ثم يُنسى.

        ريح آذار، على سفوح جبال العلويين، تحمل بين يديها البداية والنهاية وترميهما في البحر، ككلّ تلك الزهور، زهور العرس والجنازات.

        (8 آذار 2025)

        الأيام السوداء على لسان أختي

            أكانت حياةُ قتَلَتِنا أغلى من حياتنا؟

            (جورج برنانوس، «المقابر الكبرى تحت القمر»)

        -1-

        عصر يوم الخميس 6 آذار. كنتُ في السرفيس، راجعة من جبلة إلى الدالية، حين بدأت الاتصالات تنهال على السائق عند دوير بعبدة: «الهيئة في الضيعة. خذ طريق وادي القلع». كانت هناك دورية من الأمن العام قد أغلقت الساحة للسؤال عن شاب محدّد بالاسم. رفض أهل القرية تسليمه، لأنّ من يذهب لا يعود عادة. تراجعوا في النهاية، تصغيراً للمشكلة، بعد المشاجرة وتبادل الشتائم. اعتقلت الدورية الشاب المطلوب، وذهب معهم خاله ورئيس البلدية والمختار. لكن يبدو أنّ أهل القرية لم يحتملوا أن يُشْتم ابنهم على أرضهم. سرعان ما كمن بعض الشبّان لقوات الأمن العام وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا منهم ثمانية عشر عنصراً، وقُتِل منهم أربعة.

        لم تكن الشمس قد غربت حين سمعنا عن وصول قنّاص إلى مدخل القرية. هنا بدأ الرعب. النوافذ في مثل هذه الظروف مخيفة، ويجب الابتعاد عنها. أسعفتُ جارنا الجريح الذي أصيب بطلقة في ساقه. أصابت طلقة شقيقَ زوجي وأوقعته عن واحدة من تلك المصاطب الزراعية التي تعرفها في الدالية، فسقط من ارتفاع أربعة أمتار. من أين كنّا سنأتي بالدم لتدبير نزيفه؟ كانت أكسجته أقل من 50 بالمئة ، وهبط ضغطه حتى صار نبضه كالخيط لا يكاد يُجَسّ. نجا بأعجوبة. قام حقاً في اليوم الثالث، ونحن في بداية الصيام المسيحي.

        -2-

        في يوم الجمعة، وجدوا الشاب المطلوب الذي أخذته دورية الأمن العام مقتولاً على الطريق، مرميّاً بين الأشجار.

        قصف الطيران بيت عانا بقذيفتين. قُتل لواء سابق في جوفين مع ابنيه، أحدهما صيدلاني والآخر طبيب بيطريّ. سمعت من أهل القرية إنّ مسلحين مجهولين قتلوا أهل مقداد فتيحة [مؤسّس «درع الساحل»]، ولم يفلت أحد منهم. لو كان المجرمون المعروفون ومهرّبو السلاح وتجّار الكابتاغون وحدهم يهاجَمون لما خفنا. روّعتنا مذابح الأبرياء. المسلّحون الجدد يعرفون أنّ ريف جبلة بأكمله علويّ. كنت أتخيّلهم في قرى أعرفها، يقتحمون البيوت بيتاً فبيتاً، ولا يوفّرون أحداً، لأن الجميع مشبوهون بالسكن هنا. سكنك تهمتك. قالها أحد المسلّحين: «كلُّكم جنود منشقّون». المفارقة أنّ «الجنود المنشقّون» هو الاسم المعتمد للعسكريين السابقين الذين سلّموا أسلحتهم بعد تسوية أوضاعهم مع الحكومة الجديدة.

        لم ننَمْ ولم نغيّر ثيابنا، في انتظار أيّ إشارة للهروب إلى الأحراش. كنا سنترك للمجرمين بيوتنا. فلننجو بجلودنا، وليسرقوا ما يريدون. فلينهبوا ويحرقوا. ربما حصة العلويين من القتل الكبير انتهت. لا ندري من التالي. إذا كانت المقتلة سترتدّ إليهم مرة أخرى، فسيكون مصيرهم كالهنود الحمر. سمّى الأميركيون إحدى حواماتهم «الأباتشي»، على اسم إحدى القبائل التي أبادوها. لن أنسى تلك الدقائق عند ظهور الحوّامات في السماء. حين رأيناها تحلّق فوقنا، قلنا لم يبقَ لنا إلا الموت.

        كانت الضربة الأقسى في بانياس. أرعبنا الوشاة، فبعض الحقودين في المدينة وشوا بأسماء العلويين وعناوينهم وتناقلتها صفحات الفيسبوك. كان الفاصل في هذه الإبادة هو دوّار المصرف، فشماله يسكن العلويون، وجنوبه السنّة حيث ظلّت المحلات مفتوحة ولا ترى على الأرض شظية زجاج واحدة. في يوم الرعب الأقصى، بدا لي ذلك الحاجز الخفيّ منيعاً هائل الأبعاد. ابتسم الآن بعدما ذكّرتني بجدار الزمن في أساطير الهند: سور حديدي طويل شاهق يحاول ناسكٌ أنْ يهدّه بريشة.

        كان شمال المصرف في بانياس جهة التنكيل والتحطيم. دِيست جثث المدنيين بالسيارات. كُوّمت كالقمامة في صناديق المركبات. أخبرنا أصدقاؤنا أن بعض المنفّذين من الأويغور والشيشان والأوزبك، كأنهم آلات ينفّذون أوامر لا نعرفها. ربما لم يكونوا مثل شبيحة بشار في التعفيش، لأنهم يريدون الأذى الصرف، ولا يبيعون مسروقاتهم فيما بعد. أرادوا أن يحرموا ضحاياهم من كل شيء. كان يسلبونهم هواتفهم، ويحطمّونها قدّام عيونهم. كنت أعرف زوجين فقيرين يحرسان مشتلاً للزهور كثير الأبواب. صباح يوم الجمعة، كانا يتناولان الفطور تحت الأشجار حين امتلأت الحديقة بالمسلّحين، الشيشان على الأغلب. صاحب المكان ميسور الحال، من سنّة جبلة. كان قد خزّن في مستودعه ثلاثمائة بيدون زيت زيتون. نهبوها بالكامل، ولما استمهلتهم الزوجة قليلاً، كان الجواب طلقة في الرأس.

        -3-

        مخاوف الأزمنة الغابرة تلمع في عيون الناس في قرى العلويين. كأن قلوبهم مفطورة على هذا الخوف: احتمال الهروب من أيّ مكان انتقلوا للعيش فيه، مثل عشوائيات عشّ الورور والمزة 86 في الشام، مسرعين إلى جبالهم الأمّ التي انحدروا منها. كانوا حريصين على الاحتفاظ بأيّ مسكن في قراهم، ولو مجرد غرفة على سطوح آبائهم، إلى أنْ صعد خوفهم نحوهم.

        حتى قبل هذا الانفجار في الجمعة السوداء، كنا مرهَقين من مخاوف الخطف التي كانت تخلي الشوارع منذ الخامسة مساء، خصوصاً في المدن حيث الذلّ أقسى وأشدّ. ليل فارغ موحش، لكنه مملوء بترقّب بشع.

        نجا ابني من زلزال شباط 2023، فصلته دقائق عن الموت في انهيار أحد المباني. في السنة الأولى من دراسته هندسة الاتصالات في جامعة حمص، كان متأخّراً عن إحدى المحاضرات، فسأل زميله أنْ يستعير دفتره. سأله الزميل عن اسمه، ولما عرف أنه علي ومن الدالية، أغلق الدفتر وسحبه من أمامه. هذا الموقف، التافه والمقلق، أعاده إلى كنف الذين يعرفهم أو يعرف منابتهم.

        كنت أتصل بابني مراراً على الهاتف كلما ذهب إلى الجامعة. أرعبتنا المذبحة التمهيدية في قرية فاحل بريف حمص. في كانون الثاني الماضي، أتى مجهولون مسلحون بالدوشكا، لم يقولوا من هم. أتوا يفتشون منازل العلويين عن الفلول والأسلحة، ثم اقتادوا شباناً مدنيين ولم يعودوا. عثر عليهم أهلهم قتلى، مذبوحين أو مقتولين بالمطارق.

        -4-

        مئات آلاف العلويين، العسكريين والمدنيين، خسروا وظائفهم منذ هروب بشار في 8 كانون الأوّل. مَن تبقّى من الموظفين في هذا الغلاء لا يتنقّلون ولا يركبون المواصلات، لأن رواتبهم لا تغطّي حرفياً إلا ثمن الخبز فقط. لا مواسم هنا كالجزيرة، ولا مغتربون ليساعدوا أهلهم بالحوّالات. إلى متى سيتقشّفون بالعيش على الخبز والبصل الأخضر المزروع في حاكورة البيت؟ إلى متى ستكفي المونة لدى فلّاحي التبغ والزيتون؟

        يقول لي سمّان القرية: «صرنا كالأوروبيين نشتري الخضار بالقطعة». كنت في دكّانه حين أتت طفلة تشتري رأس ثوم وحبة بطاطا واحدة وقدحاً من زيت الذرة. بقية الوجبة بالماء والملح، والنار من عيدان الأحراش.  اللعنة، كأنه عصر الصحابة في مسلسلات رمضان. في الواقع، الناس أهلكهم الجوع. في أيام بشار، كان بعضهم يحصل على حفنة من الرز أو البرغل من الأمم المتحدة، لأنّ لصوص المساعدات بالمرصاد. كانت المعونات تُباع على البسطات، وكنّا نسمع أنّ إحدى مهمات أسماء الأسد هي الحفاظ على تجويع الشعب. كنت أصدّق أنّ المعونات تُطمر في مكبّات القمامة، ولا تُعطى للناس. لا يزال المحتاجون حولك كيفما جالت عيناك. فلمَن ستمدّ يد العون، هذا إذا استطعت؟ هل نستطيع أن نشتقّ فعلاً من «الغجر» ونقول: إنّ سوريا بكاملها «تغجّرت»؟

        برغم كلّ اليأس والكآبة اللذين يفتكان بقلبي، أقول لك يا أخي: نحن السوريون كالفلسطينيين، لا أحد أقوى منا في البقاء ومصارعة البؤس.

        المخطوفة

        الخائفون مبعثَرون داخل أجسادهم.

        مَنْ راقب جداول الربيع في شعاب الدالية وأطال النظر، فقد يصدّق أنّ الظلمة تشرق أحياناً.

        مخلوقٌ لا وجه له في ظلام رأسك، مكتومٌ كغضبٍ قديم، ثقيلٌ كالدابّة وسريع كلسان الحيّة. تكاد تلمح طيفه الأسود وسط الأحراش، يهبط الوديان ويصعد السفوح، من أحشائك إلى حلقك. لا تراه، لكنّه آتٍ ليقبض روحك، وبين فكّيه قلبك. عينه على الحبّ يريد قتله، يريد أنْ يقلب اللطفَ ضعفاً، والبراءة عاراً.

        «حدّقْ بي!» لا تنصاع لأمره، وأنت ترى اسمك تحت قدمه اليمنى، وتحت اليسرى وجهك.

        بغتةً، كجناح مقطوع يضرب الهواء، يخفقُ الماضي كلّه.

        مُسبَلَ العينين، جوابك جواب الفقير الصامت:

        «سكين اليوم في يدك مرآةُ الأمس حيث لمعتْ ابتسامتك».

        برج بابل المفقودين

        مَن أورث المذعورين هذا البيت المبنيّ على سطح موجة؟

        الاتصالات مقطوعة، والمجهولون العنيفون، بين الأشجار، على مبعدة مئات الأمتار منك.

        بيتك مضاء بالطاقة الشمسية منذ العام الماضي، وأنا أتخيّل أشياء لم تقع حين لا يردّ هاتفك.

        هل كنتِ، بين البقع الرطبة لجدران الإسمنت غير المطلية، تسعفين مذعورة أغرقتْ فراشها بما استفرغته معدتها، الخاوية إلا من ماء الينبوع؟ هل حاولتْ أن تنهي حياتها بسمّ الجرابيع، كالعاشقات اليائسات، أم هناك مَن سمّم الماء؟ لا يزال القرويون يخزّنون ماء المطر في خزانات إسمنتية كالغرف، أو يستقون من الينابيع. كانت ستخجل من رائحة غرفتها في حضورك، واصفرار الشرشف بتلك الحموضة المخزية. كنت ستطمئنينها، وربما تمسحين العرق البارد عن جبهتها، وتناولينها منشفة مبلَّلة لتمسح فمها:

         «لا تخافي حبيبتي. الحرب انتهت وما انتهت. لا أدري ما نحن فيه الآن».

        عرفتُ سيدة من تلك الجبال، تحلم بمزرعة من الأبقار والدجاجات، وسمعت مرة قنبلة انفجرت في البحر. كان التقيُّؤ والدموع جوابَ جسدها حين تسمع صوت الرصاص أو تشمّ رائحة البارود.

        المنتشون بالانتصارات سممّوا الهواء بهزائمنا، ونحن نسمعهم يذيعون أسماء القتلى، حاذفين منها أعداءهم.

        برج بابل المفقودين.

        إشارة النصر الوحيدة الممكنة يرسمها جبلان أخضران مقابل شرفتك.

        عودة الأنفاس

        ما أجمل أنْ يكون اسمي: «الحالم بك».

        أنتِ الخائفة، تطمئنيني: «لم يبقَ إلا القليل. شارفنا على النهاية».

        أيّ نهاية؟ أيّ رحلة قطارها أطول من رتل الراقصين السكارى، لا نرى مَن يقوده إلا في المنعطفات؟

        لم يهلكنا ما فقدناه حتى الآن، لأن رجوعنا بعد دقائق، منذ سنين. ظهورنا موجوعة من محاولات النوم على مقاعد الطريق، تيبّستْ رقابنا التي نحاول طقطقتها عبثاً. جنينا معرفة قاسية بعرق قلوبنا. لم نفُزْ بـ «الكنز الناقص للعيش»، حتى لو تعلمنا جيداً كيف تُعاش بالثواني الدقائقُ المتبقية. على هذا المنوال، نسجت السنوات قمصاناً ضيقة على أرواحنا.

        يطمئنني صوتك. لا ندمَ، لأنني سافرت أو لأنك بقيت. أسنقول وداعاً للدموع على الهاتف، لجفاف الحلق أمام الغرباء، للتعرّق تحت النظرات؟ أما الوعود المزيَّفة فأنا مدركٌ وفاءَها جيداً، لم تفارق حياتي يوماً كي تفارقها الآن.

        ولكن، رغماً عن كل ما جرى، لديّ وعد صغير. في المرة القادمة، على الأقل سأسمع معك أغنيات من البحر الأسود في فارنا. سنتذكر معاً فشل عمّي «الكيّس» في مشروع تجارته بالجبنة البلغارية وجلود الثعالب، سنتذكّر لقاءه المطوّل مع السفير القبرصيّ وعطشه الدائم إلى العيران وإيمانه بالمقدرات السحرية للَّبَنْ، حتى تغمض الضحكة عينيك وتثلّم بالغمازات خدّيك.

        اللقاح الأوّل

        في أيّام بشّار، تابعتِ حملة للتلقيح في حي الدريبة بجبلة. دارت الممرّضة في الأزقّة بمكبّر الصوت ليأتي الأهالي بأطفالهم. كان الهواء مشحوناً، لأن الحيّ سنيّ بكامله، والفكرة الشائعة أنّ الممرضات كلّهن علويات.

        الحكومة الجديدة سرّحت تسريحاً تعسّفياً مئاتِ الأطباء والممرضات لأنهم فائضون عن الحاجة في مستشفى جبلة. يُقال إن مديره الجديد يحمل شهادة دكتوراة من جامعة ما في إدلب.

        لا يردّ هاتفك، فأحاول إزاحة الخوف جانباً لأتخيّل مرة أخرى، بما أستطيع من هدوء، أشياء لم تحدث لك.

        كأنْ يخبركِ أحد المرضى:

        -دكتورة عفيفة، إن العارف هو الخائف في كتب العرفان.

        العارف لا يواسي أحداً بـ «اليقين» لأنّه اسمٌ من أسماء الموت. أتخيّل مريضك مولعاً بالسجع والقوافي، كالأطفال في تلك النكات البائخة عن الجناس بين السعر والسعير، والشعر والشعير.

        تجيبينه على لسان باستور الذي فقد ابنه في حرب لا تعرفينها، واستأجر عربة للبحث عنه، جوّاباً المياتم والمستشفيات والمقابر في ألمانيا وفرنسا:

         -العلم والسلم سينتصران على الجهل والحرب.

        وتحيط ضحكاتكم المتعبة بتكشيرة المريض. أمهات شرب الحزن نورَ وجوههن، الآباء المفلسون جنود مسرَّحون من جيوش الماضي، ومستقبل الصغار كالسلالم التي تفضي إلى العليات والأقبية، من دون نوافذ أو مخارج.

        الجنود القُدامى هربوا إلى البرية يختبئون بين الصخور، لأن الجنود الجدد قادمون. جيوش الحاضر بُعثت من حُطام المدن وقيعان البراميل ووحول المخيّمات.

        أليس شهداء الأكاذيب على كلّ الجبهات؟

        لم تصدّقي أنّ القصص التي تتناقلها الأجيال لا تزال تدور كالثأر في العروق.

        مَن كان سيصدّ أولئك المحاربين المسعورين الذين يُذِلّون المستضعفين بإجبارهم على العواء؟

        شفى باستور الصبيّ جوزف مايستر الذي عضّه كلب مسعور أربع عشرة عضّة. أتتْ به أمّه من الألزاس إلى باريس لتعرضه على حكيم يلقّح الكلاب المسعورة. لم يكن قد جرّب لقاحه إلا على الكلاب والأرانب. كان جوزف أول إنسان تلقّى التطعيم ضدّ داء الكلَب سنة 1885. نجا الصغير الذي كان راعياً للأغنام ومربّياً لديدان القزّ. ولما كبر، عمل حارساً لمعهد باستور، حيث يرقد العالم وزوجته متجاورين، لأنه رآه أجدر بالحراسة من مراقد كل القديسين، حتى انتحاره إثرَ احتلال النازيين باريس 1940. كان الحارس قد أورث ابنته ثقافته الجديدة، فعلّمها، نقلاً عمّن شفاه، كيف تستخدم المجهر. لم يلقّنها شيئاً عن الله والملائكة، فمتّعها جهلها بأعاجيب أخرى لا تراها عيناها الجميلتان.

        ثقب في الجدار

        ابتعدتِ عن الحكمة إلى وضوح الحاجات. التجربة أعلى من كلّ الأحكام.

        أمامك ثقب حفرته رصاصة في الجدار، على طرفيه يقف العقلُ والإرادة حائرين ماذا سيدفنان فيه؟

        سيكفل الزمن كلّ هذه المنازل الجريحة.

        ما أبغضَ أنْ يصير جرحك بيتك بعدما كان بيتك جرحك.

        (10 آذار، 2025)

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى