الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 14-15أذار 2025

تحديث 15 أذار 2025

————————

العدالة الانتقالية أولاً/ بشير البكر

15 مارس 2025

تتطلّب الأحداث الطائفية في الساحل السوري من السلطة تحرّكاً عاجلاً، وقراراتٍ ومواقف شجاعة، من أجل الانتقال بحال البلد في خطوة مهمّة إلى الأمام، من حال الفوضى إلى استعادة الدولة. ويجب أن تشكّل التعدّيات والتجاوزات ضدّ المدنيين من أبناء المنطقة فرصةً لتراجع السلطة أساليب عملها، وطرق تفكيرها، قبل أن تفقد الرصيد الشعبي الذي حازته بفضل إسقاط بشّار الأسد، وتخليص البلد من نظام الجريمة. وأول خطوة مطلوبة منها أن تراجع نفسها، وتغيّر منهجها في بناء مؤسّسات الدولة، سياسياً وأمنياً وإعلامياً، والعمل فوراً على الخروج من الدائرة الضيّقة التي رسمتها حول نفسها، منذ وصولها إلى دمشق في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.

رسالة الأحداث واضحة جدّاً، أن الوضع السوري يعاني من احتقان طائفي شديد، ولا يحتمل قيادة البلد انطلاقاً من ردّات الفعل، بل من خلال سياسات تقوم على الاعتراف بالواقع، ومواجهته بشجاعة ومن دون تردّد، وليس على أساس أنه انتقل من ملكية آل الأسد إلى جهات جديدة باتت تملك الحقّ في تصنيف باقي السوريين وفق معايير مذهبية ومناطقية، ومحاسبة بعضهم على جرائم ارتكبها النظام البائد على أسس طائفية.

على نحو عاجل، على السلطة معالجة آثار الأحداث على نحو جادّ ومحترف وشفّاف، ليس انطلاقاً من النتائج فحسب، بل من الأسباب أولاً، كيلا تتكرّر في هذه المنطقة، ومناطق أخرى مرشّحة للانفجار، ولا سبيل إلى ذلك سوى الانطلاق بتطبيق العدالة الانتقالية، بداية من محاكمة الذين ارتكبوا جرائمَ ضدّ المدنيين وقوات الأمن في الساحل السوري خلال الأيام الماضية على قدم المساواة، وهذا شرطٌ ضروريٌّ حتى يقتنع السوريون كلّهم بالعدالة حكماً فصلاً في كل قضايا المرحلة الماضية، التي تعود إلى عقود.

على السلطة الحالية أن تضع في صدارة الأولويات محاكمة المجرمين واللصوص، الذين ارتكبوا جرائم قتل وسرقة في الساحل، وكذلك الفلول الذين حاولوا إعادة نظام آل الأسد، علناً، ومن دون استنسابية، أي أن تشمل العسكريين والمدنيين، المحسوبين على الفصائل والفلول، الأفراد والقادة، حتى تحقّق الهدف المنشود، لأن إحقاق العدالة هو المقياس الأوّل لمصداقية السلطات الجديدة، وهذا يوجب التحلّي بالشفافية والحزم، حتى تكون الخطوات مقنعة، وألا يتم السكوت عن مرتكبي التجاوزات، كما حصل في أحداثٍ سابقة قبل انتصار الثورة، قام بها أفراد وقادة من ممّا كان يعرف بـ”الجيش الوطني”، ومنها ما جرى ضدّ الكرد في عفرين. وإذا لم تحاسب السلطة الجديدة مرتكبي الاعتداءات والتجاوزات، فإنها سوف تخسر أغلبية السوريين، وتقدّم لنفسها صورة سيئة للعالم. ولهذا سوف يشكّل إعلان نتائج التحقيق بتعدّيات الساحل نقطة فصل.

باتت السلطة أمام فرصة ثمينة كي تؤسّس مسار العدالة الانتقالية، انطلاقاً من محاكمة مرتكبي التجاوزات، وفلول العهد البائد، وتعزّز التفاف السوريين حول الدولة السورية، التي ينبغي بناؤها على أسس العدالة والتشاركية والديمقراطية، وقد سبق لسورية بطوائفها كلّها أن عبّرت عن ذلك في لحظة إسقاط المعتوه بشّار الأسد، وعائلته من المجرمين واللصوص. ويجب عدم التهاون بمسألة تنظيف البلد من وجود الذين يتلقّون الدعم من إيران وغيرها، وتفويت الفرصة على مشروع التقسيم الذي تتبنّاه إسرائيل، وتنادي به علانيةً، من خلال ادّعاء حماية مكوّنات سورية بعينها، ويشكّل الاتفاق بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إنجازاً مهمّا يقطع الطريق على المخطّط الإسرائيلي، وقد جاء في لحظة سياسية حسّاسة بعد أحداث الساحل، ليوجّه رسالة إلى الخارج بأن سورية عصيّة على التدخّلات الخارجية، حينما تكون موحّدةً داخلياً.

العربي الجديد

————————————-

مسؤوليّتنا في أحداث الساحل السوريم راتب شعبو

15 مارس 2025

شهد الساحل السوري، منذ 6 مارس/ آذار الجاري، مجازر طائفية رهيبة، كنّا اعتقدنا (ساذجين ربّما)، أن سورية تجاوزتها، وبدأت تضع أقدامها في طريق جديد، بعد أن تخلّصت من نظام المجازر. كانت شرارةَ انطلاق المجازر في الساحل عمليةٌ عسكرية (كمين) لعناصر من النظام السابق ضدّ دورية للأمن العام، راح ضحيّتها أفراد الدورية كلّهم، ثمّ رافق عمليات الإبادة الطائفية التي انطلقت عقب هذا الكمين مجموعة كمائن غادرة ومنسّقة (الاستغاثة بدورية للأمن العام ثمّ استهداف الدورية المقبلة تلبيةً للنداء) من هذه العناصر المفلسة سياسياً وأخلاقياً، حتى في أوساط السوريين العلويين، تسبّبت في استشهاد بين مائة ومائة وخمسين من عناصر الأمن العام، بحسب التقارير.

لم يصدُر من المجتمع العلوي ما يؤيّد هذه العمليات ضدّ عناصر الأمن العام، الذين غالباً ما كانوا الجهة التي يستنجد بها (وليس ببقايا النظام) العلويون خوفاً من جماعات الإبادة، كما لم يذهب شباب الطائفة العلوية إلى الانضواء مع هذه العناصر المجرمة، التي تبحث عن زعزعة الأمن، كي تجد لها مخرجاً من المحاسبة. لم يذهب العلويون إلى الموت، لا سعياً وراء إعادة نظام كان قبل سقوطه أصلاً في عداد الأموات، ولا دفاعاً عن “فلولٍ” مفلسين، لكن الموت جاءهم وهم في بيوتهم، بعد أن سلّم منهم من كان يملك السلاح سلاحه إلى الدولة، وباتوا عزّلاً بالكامل. يشهد على ذلك أن أحداً من جماعات الإبادة لم يتعرّض لأيّ أذىً، بينما يقتلون العائلات واحدة واحدة، ويتفنّنون بإذلال الأهالي وتعذيبهم وقطف أرواحهم، ويطلقون تصريحات طائفية مقزّزة، وينتقلون من قرية إلى أخرى بطريقةٍ تذكّر كاتب هذه السطور بحالة المهاجع في سجن تدمر، حين يبدأ فريق التعذيب جولته، فنسمع الأصوات وهي تقترب من المهجع، وليس لنا إلا أن ننتظر الوحشية المقبلة.

رحّب عموم السوريين العلويين بالسلطة الجديدة، ولم نشهد أيّ حوادث ضدّ القوات التي بدأت تشغل فراغ الدولة. إحدى العائلات التي أبيدت كانت قد نشرت صوراً لأفراد العائلة، عقب سقوط النظام، وهم يحتفلون بـ”النصر” ويرقصون رافعين شاراته ويلفّون أنفسهم بالعلم الأخضر. وقد نشر كثيرون المنشورات الوطنية والثورية لأحد الشباب من ضحايا المجزرة، ولم يكن هذا الشاب سوى ابن المرأة الشجاعة التي شغلت صورتها وسائل التواصل، وهي تردّ تهمة الغدر التي يوجّهها إليها قتلة غارقون في الغدر. ولكنّ ترحيب العلويين بالسلطة الجديدة تضاءل، وبدأ أملهم يخبو، على وقع ما راحت تُسمّى “التجاوزات الفردية”، التي كانت طوال الفترة الماضية بمثابة تمهيد وجسّ نبض قبل إطلاق العنان للمجازر.

الواقع أن الأشهر الثلاثة السابقة للمجازر الطائفية لم تخلُ يوماً من اعتداءات وانتهاكات بحقّ السوريين العلويين، وصل بعضها (مجزرة فاحل في أواخر يناير/ كانون الثاني، ومجزرة أرزة في بداية فبراير/ شباط) إلى ما يشبه بروفات للمجازر التي نتكلّم عنها. طوال هذه الفترة، كان كثيرون يقلّلون من شأن تلك الانتهاكات، مطالبين بإعطاء السلطة الجديدة الوقت، مكرّرين عبارة “كنا نتوقّع مجازر فظيعة لكنّها لم تحصل”، سيراً على المنطق الذي يكرّس قبول الواقع بمقارنة السيئ بما هو أسوأ، وعلى اعتبار أنه لا حدود للسوء، فإن ما هو واقع، وفق هذا المنطق، ينبغي قبولُه دائماً، وأن النقد والاحتجاج ليس سوى تذمّر أو “نقّ”. وهذا لا يعني أن أصحاب هذا المنطق (الفاسد سياسياً) لا يمكن أن يرفضوا الواقع، إنهم يرفضونه، ولكن حسب مبدأ كيفيٍّ لا علاقة له بقيم أو بمبادئ عامة، ولذلك تراهم يقبلون اليوم ما كانوا يرفضونه بالأمس. فكما يعرض هؤلاء جلداً سميكاً حيال مجازر اليوم، فيما كانوا يستفظعون مجازر الأمس، يستفظع أمثالُهم مجازر اليوم، فيما كانوا يعرضون جلداً سميكاً حيال مجازر الأمس. هذا من العيوب الكبيرة في ثقافتنا السياسية، العيوب التي تجعلنا عاجزين عن الخروج من دائرة التسلّط والمجازر.

قناعتنا أن الموقف غير الأخلاقي، الذي عرضه التبريريون المتهاونون مع الانتهاكات بحقّ المدنيين العلويين الأبرياء، التي كانت توصَف خلال الأشهر الثلاثة الماضية “حوادث فردية”، وليست نهجاً للسلطة الجديدة، والذين سعوا إلى تكذيبها وكتمها لصالح “بناء الدولة”، كما كرّر من يعتقدون أنفسهم حكماء وبعيدي نظر، كان من جملة الأسباب التي جعلت المجازر اللاحقة ممكنةً، وكان من جملة الأسباب التي تقود اليوم إلى بناء دولة فئوية شبيهة بسابقتها، أي تقود، في النهاية، إلى تقويض معنى الدولة.

وعلى سيرة الدولة، كثير من “حكماء” الأمس كانوا يبرّرون ويتهاونون مع جرائم النظام السابق بحقّ الخارجين عليه، من منطلق الحفاظ على الدولة أيضاً، في الحالتَين تبرّر الجرائم حبّاً بالدولة، ولكن أيّ دولةٍ تلك التي تقتل أو تتهاون في قتل محكوميها وإذلالهم. هل يرى هؤلاء أن مجتمعنا محكومٌ بالاختيار بين دولة تسلّطية عدائية تجاه محكوميها ودمار الدولة والفوضى؟… الواقع أن هؤلاء يندبون أنفسهم كي يكونوا جنوداً أو خدماً لأصحاب النفوذ والسلطة، ولا يخرُجون على السلطة (حين يخرجون) إلا لخدمة متنفّذين تسلّطيين جدد.

لا يتراكم في بلداننا إلا الدمار والموت. تذهب الجهود الفكرية المنيرة والسياسية الخيّرة هباءً، ولا تتراكم، ولا يجد أصحابها سوى العجز أمام زحف الهمجية الفظيع. لا تجد سورية، بعد كلّ شيء، ما يقف في وجه الحثالة التي تظهر في السطح وتمارس أبشع أنواع جرائم الإبادة الطائفية. هكذا تشهد الشوارع النكوص من الهتاف للحرّية إلى الهتاف لـ”إبادة العلوية”، هذا في بلد شهد ثورةَ “كرامة وحرّية”، ودفع ثمناً غالياً لأنه تهاون فيما مضى مع بناء دولة تقوم على التمييز والاحتكار والعنف. حتى يتساءل المرء، كيف كان هؤلاء، الذين تفوح من أفواههم رائحة الجثث اليوم، أنصار ثورة في الأمس؟

لا شيء كريماً يتراكم في هذه البلاد، التي تتوالى فيها النكبات، وتصبح النكبة السابقة منطلقاً للتالية وأساساً لتبريرها. الناس أنفسهم الذين ضحوا من أجل قيم وأفكار وطنية وعادلة، يهجرون هذه الأفكار، ويتلكّؤون في إدانة الجريمة التي كانوا ضحيةَ ما يشبهها بالأمس. الناس أنفسهم الذين كانوا يجتهدون للردّ على أكاذيب وروايات الأسد، تراهم يردّدون أكاذيب وروايات لا تقلّ سخفاً.

العربي الجديد

————————

أنا يقتلني نصف الضمير أكثر/ بسام يوسف

2025.03.15

هل تتذكرون “علي مصطفى المحمد”، الطفل الذي لا يتجاوز العاشرة من عمره، الجالس على قارعة الطريق بجانب بيوت مهدمة، في قريته “كفرنبودة” في ريف حماة الشمالي، والذي رد على سؤال أحد ما قائلاً ببساطة طفل مقهور:

“نحنا بشار الأسد قتلنا، نهبنا، نحنا قاعدين هون أشو عملنالو لبشار الأسد، نحنا منعبي مي لنشرب، نحنا مالنا ذنب، دمر بيوتنا..الخ”.

لا أبالغ إن قلت أنني شاهدت هذا الفيديو عشرات المرات، وشاركته على صفحتي عدة مرات، ليس هذا ما أريد قوله، ما أريد قوله أنني في المرة الأولى لمشاهدتي له بكيت بصمت للحظات، ثم بكيت بحرقة، ولم أكمل الفيديو.

بعد ساعات قررت إكمال مشاهدة الفيديو، كنت أتحدى صمود روحي، لكنني فشلت وبكيت مرة أخرى، وحتى اليوم ورغم كل رهاناتي على عبور هذا الفيديو دون أن تدمع عيناي إلا أنني أفشل دائماً في هذا التحدي، ما إن تدمع عينا “علي” في الفيديو حتى تدمع عيناي.

شاهدت مئات الفيديوهات المؤلمة والصادمة خلال سنوات الثورة السورية، كان القهر يقبض على روحي مثل كماشة، وأغص وتدمع عيناي في مرات كثيرة، لكن فيديو “علي” ظل يحفر في روحي على نحو مختلف، يشعرني كما لو أنني أرى في عينيه الدامعتين وصوته الطفولي المبحوح حزن العالم كله.

منذ أيام وأنا أعيش الإحساس نفسه بعد رؤيتي للأم السورية “أم أيمن” وهي تجلس بجانب جثث ابنيها وحفيدها، صامتة بينما يضع مسلح قدمه على رأس جثة ابنها، لا تتوسل له كي ينزل قدمه، ولا تصرخ، ولا تبكي، كأنما سكب القهر قوة العالم في روحها، وهو – أي المسلح – وبلا أي اختلاجة ضمير، أو أي شعور بالإنسانية، أو أدنى احترام لأم مفجوعة على بعد أمتار منه، يلتقط لوحشيته، ولبشاعته ذكرى يتباهى بها.

وضعت صور وفيديو “أم أيمن” السوريين جميعاً أمام معضلة أخلاقية كبيرة، فانقسموا حولها، لكن الصادم في الأمر أن نسبة ساحقة منهم حاولت المداورة في الأمر، وأخرجته من جوهره بوصفه جريمة، أو فعلا صادما أخلاقياً، ودينياً وإنسانياً، وذهبت به إلى السياسة، فتعددت الروايات وتناقضت وكذب بعضها بعضاً، لكن في كل هذا الانقسام ثمة ما يشكل برأيي جوهر الفاجعة الأهم، والتي تتكثف بأننا غدونا بمعظمنا بلا أخلاق، مشوهين إلى حد التساؤل العميق عن مدى قدرتنا على أن نكون بشر أسوياء.

بالتأكيد لم يكن ما حدث استثناء في السنوات السابقة، فقد شاهد السوريون آلاف الصور والفيديوهات الأشد قسوة وألماً، لكن ما يختلف اليوم هو أن ما يحدث الآن يحدث بعد انتصار الثورة، وبعد سقوط النظام، أي أن ما ثار السوريون لإخراجه من حياتهم، ودفعوا ثمناً غالياً من أجل ذلك، يعود ليشكل جزءاً من حياتهمّ!!

برأيي أن الانقسام الأخطر الذي تجلى في الأيام الأخيرة لم يكن بالمعارضة أو التأييد للسلطة الحالية، ولم يكن بالطائفية، رغم خطورتها، بل كان في الأخلاق، فالجريمة مهما بلغت بشاعتها لم تعد جريمة، بل أصبحت رأياً سياسياً، ولها أنصارها، ومؤيديها، والمدافعين عنها، وباعتبارها أصبحت رأياً فلا بد أن يكون في مواجهتها رأي آخر، أي أصبح لكل رأي جرائمه المبررة، والمقدسة، والتي يختلف السوريون اليوم حولها ويفترقون على عداوات حقيقية.

المجزرة الأخلاقية الكبرى التي نعيشها اليوم ستفوق في تداعياتها ما فعلته سنوات الثورة كلها، ففي الاختلاف حول المصالح، والاختلاف في العقائد والهويات الفرعية ما يمكن الاشتغال عليه عبر توافقات ثقافية وقانونية ودستورية، وبالتالي يمكن إيجاد عقد اجتماعي ناظم لجموع التباينات والاختلافات، وهناك تجارب لا عد لها في عالمنا المعاصر، لكن كيف يمكننا إيجاد حل للاختلاف بين “جرائمنا” و”جرائمهم” وهل بالإمكان إيجاد عقد “جرائمي” على غرار العقد الاجتماعي؟!، وبيت الشعر الشهير الذي قرأناه صغاراً وحفظناه على مقاعد الدراسة ” للشاعر أحمد شوقي: “وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”، هل يصبح حقيقة في علم اجتماعنا اليوم؟!

في الجريمة لا يمكنك أن تكون طائفياً، كما في سعر الصرف، وكما في السرطان والسل، وكما في كرة القدم، وكما .. وكما.. فالجريمة هي تعريف تتطابق العلوم الاجتماعية والقانونية والسياسية في عالمنا المعاصر عليه، لكن الموقف من الجريمة هو ما يميز عالمنا الراهن، وفي تباين المواقف بين الدول حول جريمة ما تلعب السياسة وكواليسها دوراً أساساً في هذا التباين، لكن ماذا بخصوص تباين الأفراد في موقفهم من الجريمة؟

قد يكون هناك عوامل عديدة تؤثر في موقف الأفراد من الجريمة، منها السياسة والمقدس ومصالح الأفراد، والثقافة وغير ذلك لكن العامل الحاسم في هذا هو الضمير، فالضمير هو صاحب القرار في تقييم مدى أخلاقية الفعل، ومدى اقترابه من الجريمة، وأخطر الضمائر ليس النائم، بل هو “نصف الضمير” الذي يجد في كل جريمة أو فعل إمكانية أن يجد لحامله ما يجعله يتنقل بين الحق والباطل كلاعب محترف.

في محنتنا الراهنة، في سوريتنا القادمة، لا يمكننا أن نكون بنصف ضمير، فهذه البلاد المثخنة بالعنف والحقد والدم والجرائم ثمة حاجة ماسة للضمير المترفع عن العصبيات والمصالح.

تلفزيون سوريا

———————-

 لجنة التحقيق الأممية في ذكرى الثورة: سوريا بحاجة إلى عدالة حقيقية لإنهاء الفوضى

2025.03.15

حذرت لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن سوريا من خطورة تصاعد العنف في البلاد، مشددة على أن سوريا بحاجة إلى عدالة حقيقية لإنهاء الفوضى، والمساءلة عن الانتهاكات بغض النظر عمن ارتكبها.

وفي في الذكرى الـ14 للثورة السورية، دعت اللجنة إلى “تجديد الالتزام بالسلام والعدالة وحقوق الإنسان”، معتبرة أن سوريا “تقف على مفترق طرق عشية الذكرى الرابعة عشرة للنزاع والأزمة التي تمر بها، وفق لجنة الأمم المتحدة بشأن سوريا.

وقال رئيس اللجنة، باولو بينهيرو إنه “بينما نتأمل في هذه الذكرى الأولى بعد انهيار الحكومة السابقة والابتهاج الذي أعقب ذلك، يذكرنا العنف المروع في الأسبوعين الماضيين بالتحديات الهائلة التي تنتظرنا”.

وأضاف أن السوريين “يحتاجون في هذه اللحظة إلى تجديد الالتزام بالسلام والعدالة وحماية حقوق الإنسان لكسر حلقة العنف وضمان المساءلة عن الانتهاكات، بغض النظر عمن ارتكبها”.

ودعت لجنة التحقيق الأممية إلى “تجديد الالتزام بالسلام والعدالة وحماية حقوق الإنسان”، مشيرة إلى أن “هذا هو السبيل الوحيد لكسر دوامة العنف وضمان المحاسبة عن الجرائم المرتكبة من جميع الأطراف”.

تحقيقات نزيهة تعرض نتائجها على الرأي العام

وأعربت اللجنة عن قلقها العميق إزاء موجة العنف الأخيرة في الساحل السوري، والتقارير التي أفادت بمقتل العديد من المدنيين، معظمهم من الرجال، ولكن أيضاً من النساء والأطفال، وهي أحداث قيد التحقيق حالياً.

وأشادت اللجنة بقرار الحكومة السورية فتح تحقيق مستقل في الأحداث الأخيرة، مشددة على “ضرورة أن يجري التحقيق دون تدخل، وأن يحافظ على استقلاليته ونزاهته، وأن يعرض نتائجه بشكل شامل أمام الرأي العام السوري، مع تحديد تفاصيل تسلسل الأحداث والجرائم والانتهاكات المزعومة التي ارتكبتها جميع الأطراف المعنية”.

تحذير من المعلومات المضللة وخطاب الكراهية

كما أعربت لجنة التحقيق الأممية عن قلقها من انتشار المعلومات المضللة على الإنترنت، خاصة مقاطع الفيديو التي تدّعي توثيق انتهاكات حديثة لكنها تعود إلى سنوات سابقة أو نزاعات أخرى، محذرة وحذرت أيضاً من تداول وتصاعد خطاب الكراهية التحريضي على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي قد يؤدي إلى مزيد من العنف.

وشدد عضو اللجنة، هاني مجلي، على أن “موجة العنف الجديدة يجب ألا تجعل سوريا تنحرف عن مسارها الهش نحو مستقبل مستقر ومزدهر وعادل، وهو مسار كانت قد بدأت للتو في السير نحوه عندما اندلع العنف مرة أخرى”.

وقال المفوض الأممي إن الحكومة السورية “التزمت باحترام وحماية حقوق الإنسان للجميع في سوريا من دون استثناء”، مؤكداً أن جميع السوريين “متساوون في الحقوق”.

تحقيق العدالة وإنهاء العقوبات

وشددت لجنة التحقيق الأممية على ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في سوريا منذ العام 2011، سواء في عهد النظام المخلوع أو من قبل الجماعات المسلحة.

ودعت إلى الحفاظ على الأدلة المتعلقة بهذه الجرائم، بما في ذلك الوثائق الرسمية ومواقع المقابر الجماعية، لدعم أي جهود مستقبلية لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة.

وفي الوقت نفسه، حثت اللجنة المجتمع الدولي على رفع العقوبات القطاعية التي تعيق التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، محذرة من أن تدهور الوضع الاقتصادي قد يؤدي إلى تجدد العنف.

ملف المفقودين وإعادة تأهيل المفرج عنهم

وسلطت لجنة التحقيق الأممية في بيانها الضوء على قضية آلاف المعتقلين الذين أُفرج عنهم من مراكز الاحتجاز التابعة للنظام المخلوع في كانون الأول الماضي، مؤكدة أنهم بحاجة إلى دعم لإعادة تأهيلهم جسدياً ونفسياً، بالإضافة إلى حل التبعات القانونية المرتبطة باعتقالهم ومصادرة ممتلكاتهم.

ودعت اللجنة الحكومة السورية إلى تكثيف الجهود لمعرفة مصير عشرات الآلاف من المفقودين منذ عام 2011، بالتعاون مع المجتمع المدني السوري والمنظمات الدولية، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

وأكدت عضو لجنة التحقيق الأممية، لين ولشمان، أن الضحايا والناجين من النزاع في سوريا “يستحقون معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بهم”، مشيرة إلى أن السوريين “يواجهون صدمة وطنية وعابرة للأجيال، ويحتاجون إلى تضامن دولي حقيقي يساعدهم على بناء مستقبل قائم على الكرامة والسلام”.

تلفزيون سوريا

—————————

الإيكونوميست: هل يمكن لرئيس سوريا أن يوحدها بعد أن سفكت فيها الدماء؟

ربى خدام الجامع

2025.03.14

قالت مجلة “الإيكونوميست” في تقرير لها إن سوريا شهدت أعمال عنف دامية بعد سقوط رئيس النظام السوري بشار الأسد في كانون الأول 2024. وذكرت المجلة أن مجموعات مسلحة شنّت هجمات في منطقة الساحل السوري في السادس من آذار، ما أسفر عن مقتل مئات الأشخاص ونزوح الآلاف إلى التلال والغابات ولبنان، وسط تقديرات بوقوع أكثر من 800 قتيل، بينهم مدنيون.

موقف الرئيس

وأوضحت “الإيكونوميست” أن الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، واجه تحديًا كبيرًا في احتواء الأزمة. ففي الأيام الأولى، ألقى خطابًا استخدم فيه عبارات دينية أثارت الجدل، لكنه سرعان ما غيّر موقفه، وقدم نفسه كقائد وطني للجميع. واتخذ إجراءات لتهدئة الأوضاع، من بينها تعيين شخصيات من مختلف المكونات السورية في مناصب حكومية، وإنشاء لجنتين للتحقيق في أحداث العنف والعمل على المصالحة الوطنية.

وأشارت المجلة إلى أن الشرع فاجأ الأوساط السياسية بإعلان اتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية”، يقضي بدمجها ضمن مؤسسات الدولة، في خطوة نحو إعادة توحيد البلاد. كما تحدثت عن جهود مماثلة للتواصل مع الزعامات الدرزية، في إطار مساعيه لتعزيز الاستقرار.

توترات داخلية وتحديات المصالحة

وقالت “الإيكونوميست” إن أعمال العنف الأخيرة كشفت عن التحديات العميقة التي تواجه سوريا بعد سنوات الحرب. ولفتت إلى أن الانقسامات المجتمعية لا تزال تلقي بظلالها على الوضع السياسي، مشيرة إلى أن بعض المناطق شهدت ردود فعل متباينة إزاء الأحداث.

وأضافت المجلة أن تصاعد التوتر دفع العديد من العائلات إلى البحث عن ملاذات آمنة، بينما لجأ الآلاف إلى قاعدة حميميم الروسية. وفي دمشق ومدن أخرى، سادت مخاوف من توسع دائرة العنف، ما زاد من تعقيد المشهد الأمني.

صراع على الشرعية والموارد

وذكرت “الإيكونوميست” أن الشرع يواجه تحديات كبيرة في تحقيق التوازن بين الأطراف المختلفة، إذ لم يبدأ بعد أي عملية للعدالة الانتقالية، كما لم يحدد بوضوح خططه لإعادة دمج المسؤولين السابقين غير المتورطين في انتهاكات. ورأت المجلة أن العقوبات المفروضة على سوريا خلال حكم الأسد تسببت في أزمة اقتصادية حادة، ما جعل الحكومة الجديدة غير قادرة على دفع رواتب الموظفين، بينما تستمر بعض الجماعات المسلحة في فرض نفوذها على الأرض.

وقالت المجلة إن الشرع لم يُظهر بعد التزامًا واضحًا بمشاركة أوسع في الحكم، إذ لم ينفذ الوعود التي أطلقها بشأن تشكيل حكومة موسعة ووضع دستور جديد. وبدلًا من ذلك، استمر في إدارة البلاد عبر فريق مقرب منه، ما أثار تساؤلات حول توجهاته المستقبلية.

صفقة مع الأكراد وآفاق المستقبل

وأشارت “الإيكونوميست” إلى أن الاتفاق الذي أبرمه الشرع مع “قوات سوريا الديمقراطية” قد يعيد السلطة المركزية إلى شمال شرقي البلاد لأول مرة منذ سنوات. وأضافت أن هذه الخطوة قد تعزز موقفه العسكري وتوفر تمويلًا لحكومته عبر السيطرة على الموارد النفطية في المنطقة، كما أنها قد تشجع مجموعات أخرى على السعي لتفاهمات مماثلة.

لكن المجلة حذّرت من أن الاتفاق قد يواجه تحديات، مشيرة إلى أن وثيقته التنظيمية لم تحدد تفاصيل واضحة، وأرجأت عملية الاندماج حتى نهاية العام. ونقلت عن مسؤول كردي قوله إن “قسد ستبقى كتلة موحدة دون تغييرات كبيرة”، ما يثير تساؤلات حول مدى واقعية تنفيذ الاتفاق.

وختمت “الإيكونوميست” تقريرها بالإشارة إلى أن الشرع، رغم الصعوبات، تمكن من تحقيق خطوة سياسية قد تفتح الباب أمام استقرار تدريجي، لكنه لا يزال أمام تحديات كبيرة تتعلق بإعادة بناء الدولة ومعالجة آثار الحرب.

المصدر: The Economist

———————-

الساحل السوري: هل هي أزمة عابرة أم مرض مزمن؟/ محمد حميدة

لم تكد تمر ساعات قليلة على المعارك التي جرت في الساحل السوري ولم يكد يعلم أحد عمقها ولا أعداد من شاركوا فيها، ولم تتكشف بعد مدى عمق الأزمة إلا ونحن في الطريق من دمشق متجهين للساحل.

وبالرغم من الاتصالات لتأمين الفريق في رحلته إلى هناك إلا أن الطريق مازال يحمل خطورة.

وصلنا إلى حمص ومنها إلى طرطوس لم تظهر آثار المعارك جلية بعد، ربما بعض السيارات المحترقة وعدد معتبر من نقاط التفتيش.

وصلنا إلى طرطوس منتصف نهار الأحد بعد يومين على الشرارة الأولى لما حدث في الساحل يوم السادس من مارس آذار.

هدوء حذر يلف أرجاء المدينة، المتاجر مغلقة، الناس في الشارع قليلون، حالة من الترقب والاستغراب كلما مررنا بأحد ما، عمليات التمشيط كانت ما تزال جارية من قبل عناصر الأمن السوري.

ونحن أمام مبني المحافظة محاطين بعدد كبير من مسلحي وزارة الدفاع بأشكالها المختلفة ننتظر الإذن بالعمل، قال لنا أحدهم أن أبو علي وأشار إلى أحدهم يرتدي زي أسود جندي استطاع فك أسر 14 من عناصر الأمن السوري من قبضة “الفلول” بقدرته على المفاوضة.

ما إن اتجهت عينيا للكاميرا لأكون على الهواء مع التلفزيون إلا وبدأ ثلاثة منهم بتسجيل ما أقول على كاميرات المحمول الخاصة بهم.

عناصر الأمن السوري

انتهينا من البث المباشر على الهواء واستقبلنا رئيس الدائرة السياسية هناك استقبالا جيداً ورتب لنا لقاءً مع محافظ طرطوس مع السماح بجولة سريعة بالمدينة بصحبة الأمن.

قال لنا أحمد الشامي محافظ طرطوس إن الإدارة الجديدة من البداية حرصت على تهدئة الأمور وعدم إثارة النعرات لكن هجوم من أطلق عليهم اسم “الفلول” قلب الموازين.

ولأول مرة نعرف من المحافظ أن من سقطوا في أول ضربة من قبل مؤيدي النظام السابق كانوا بالعشرات.

الرجل كان منطلقاً في الكلام معنا سواء في التسجيل أو قبله مباشرة وحينما سألناه على الانتهاكات، رمى المسؤولية على عاتق فرق غير نظامية وليست منتمية لوزارة الدفاع جاءت مندفعة من إدلب وحلب وحمص وهم من قاموا بارتكاب انتهاكات!

طرطوس

خيوط النهار بدأت تذهب ورأينا أنه من الأفضل المبيت في طرطوس قبل الانطلاق إلى اللاذقية في اليوم التالي لكن الأمن رفض وجودنا في المدينة، وأصر على اصطحابنا إلى خارج طرطوس باتجاه حمص مرة أخرى.

في اليوم التالي صباح الاثنين 10 مارس آذار، كنا على الطريق من حمص إلى اللاذقية.

على مدى أكثر من ثمانين كيلو متراً -المسافة بين طرطوس واللاذقية- كانت سيارة فريق بي بي سي عربي هي الوحيدة تقريباً التي تسير في طريق كلما أوغلت فيه كلما زادت حدة مشاهد المعارك التي دارت قبل قدومنا بأقل من يوم.

على جانبي الطريق عدد هائل في مناطق كثيرة من فوارغ الطلقات.

عندما بدأ البحر يظهر على يسارنا هادئا منساباً وكأنه لم يكن شاهداً على عمليات القتل التي حدثت في الساحل بدأنا نعرف أننا مقبلون على بانياس.

وبدأت الإجراءات الأمنية تزداد شدة ونقاط الأمن يزداد عددها بعيد مدينة بانياس التي شهدت كراً وفراً بين عناصر الأمن و مسلحين مؤيدين للنظام السابق.

عناصر الأمن السوري

مشاهد صادمة

في الطريق شاهدنا عدداً كبيراً من السيارات المحترقة، منها على جانب الطريق، وأخرى في نهره وتم استهدافها بمن فيها.

كم السيارات يؤشر على أن ما حدث في الساحل السوري في السادس من مارس آذار، كان كبيراً.

على جانب الطريق قبل مدينة “جبله” شاهدنا سيارة بيضاء اللون تبدوا مدنية اخترقها عدة طلقات نارية.

وفجأة “صاح السائق يا ساتر، جثث جثث في الشارع” عدنا أدراجنا لنتفقد هذه الجثث لم نستطع أن نعرف إن كان بينهم نساء! فقط أربع جثث ملقاة على قارعة الطريق، وليسوا بعيداً عن سيارة تم استهدافها ربما منذ يومين على الأقل.

ربما هؤلاء كانوا ظاهرين للعيان على قارعة الطريق ومازال في الداخل بين الأحراش عدد غير معروف من القتلى من الجانبين.

كلما اقتربنا من جبله ومشارف القرداحة تزداد على الطريق المنازل والمحال والأبنية والأضرحة المحترقة على جانبي الطريق بشكل واضح رصدنا دخانا يخرج من منازل قيل لنا أنها في قرية حريصون.

دخلنا اللاذقية وقد انتصف النهار، بدت لنا المدينة هادئة لكن مع انتشار أمني مكثف من عناصر مختلفة من الأمن، ومن الشرطة العسكرية، ومن عناصر الأمن الجنائي، ووازرة الدفاع، نقاط تفتيش منتشرة على كافة الميادين في المدينة، لكن الحركة فيها كانت شبه عادية.

الناس كانوا في سياراتهم كانوا يلقون علينا التحية وبعضهم عرض علينا الاستضافة.

أثناء تحضيري للانضمام للبث الحي على الهواء لتلفزيون بي بي سي، في دوار الزراعة في قلب اللاذقية اقتربت فتاة في أواخر العشرينات من عمرها تستفسر عن اسم القناة، وبعد دردشة صغيره قالت الفتاة، إنها من سكان أحد الأحياء العلوية في اللاذقية، ولم يحدث أي قتال في الحي، “ولكن فقط بين الفينة والأخرى كنا نسمع أصوات إطلاق الرصاص فيصيبنا الخوف خاصة بعد القصص المروعة التي حكاها لنا أقاربنا في ريف اللاذقية” بحسب الفتاة.

بعد أن وقفنا قليلاً في دوار الزراعة التقينا شاباً قال إنه يعمل محامي وأضاف “أصابنا الخوف والرعب مما يحدث، لكن عناصر الدولة فرضوا حمايتهم علينا لقد تعودنا على أن نعيش مع بعضنا البعض ليس لدينا طائفيه مطلقا” قالها وابتسم مغادراً.

حي علوي وشهادات أقرب للصراخ

طلبنا من الأمن الدخول إلى حي الدعتور ذي الأغلبية العلوية في الشمال الشرقي للمدينة، والذي كان مسرحاً لاشتباكات بين ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وبين عناصر الأمن السوري، لكن الأمن رفض دخولنا إلى الحي أو حتى الاقتراب منه.

أشار أحد المواطنين لنا أن هناك أحياء أخرى ذات أكثرية علوية من الممكن أن تزوروها، لم يحدث لهم شيء.

ذهبنا إلى أحد تلك الأحياء التي أشاروا لنا أنه حي يكسنه علويون.

الحي من الخارج يبدو منظماً وحين تدلف إليه تجد المباني طابق أو طابقين ويبدو عليه رقة الحال وبه أماكن غير منتظمة.

حينما دلفنا إلى مكان واسع نزلت من السيارة لأجد الأهالي كلهم مشدوهين خائفين وجلين من أي سيارة غريبة تدخل إلى حيهم.

سريعاً عرفت نفسي وفريقي لثلاثة من الجالسين أمام منزلهم وكانت أعمارهم تتراوح ما بين الخمسين والستين عاماً، بعد نظرات ترقب وسماع لهجتي المصرية، ومعي زميلي العراقي والسوري بدأ الاطمئنان يدخل إلى قلوبهم وبدأوا يتحدثون إلينا، مؤكدين أن حيهم لم يتعرض لقتال “لكننا في انتظار أن يحدث شيء” قال أحدهم بلكنة حادة هي أقرب للصراخ منها للشكوى.

صاح رجل آخر نزح من مناطق الريف، بعينين زائغتين حائرتين بين الكلام والسكوت رجوته أن نسجل معه على أن نخفي وجهه وصوته قال لا أرجوك “سوف يذبحوننا” فقلت متسائلاً لكن أنتم لم يحدث معكم شيء هنا في الحي قال “ومن يدرينا”.

صرخ أحدهم “أحنا أربع أيام بلا مياه أو كهرباء لدينا مولدات كهرباء لشحن المحمول” فسألت مستفسرا المحمول؟ قال محدثي وكان رجلا في الأربعين من عمره: “حتى نستطيع أن نسجل بالفيديو لو أن أحداً جاء ليذبحنا!”

وقال آخر موجهاً كلامه لي: لدي عائلة في الريف نصفهم قتل والنصف الاخر في الأحراش يبيتون ليلهم في برد الشتاء ولا يجرؤون على النزول إلى البيوت، فقلت له رغم دعوات الأمان من الأمن؟ قال: بالرغم من ذلك.

صاحت سيدة من وراء الناس الواقفين أمامنا “العلوية بالنسبة لهم كلهم فلول “نحنا ما استفدنا شي من النظام السابق كما ترى الحال وشربنا قتل من الحالي” بحسب قولها.

وحينما تعالت الأصوات وكبر حجم الناس حولنا انسحبنا من المكان بعد أن زاد صراخ الناس “مين ينقذنا؟ انتوا قادرين تحمونا؟” فضلنا ترك المكان قبل أن يتحول الأمر إلى تهديد لسلامة الفريق.

من فوق تله من تلال البحر تبدوا مدينة اللاذقية جميلة بمبانيها ذات اللون الأبيض الذي ينعكس من ضوء الشمس التي تغرب على مياه البحر المتوسط.

الناس تستعد للإفطار وأصوات الآذان تعلوا من هنا وهناك. هذه مدينة رائعة رائقة حيي بها أن تكون قبلة للسائحين وليس قبلة للمتقاتلين.

وأنا أتأمل جمال البلدة هاجمني السؤال التالي.

هل هي بذور حرب طائفية؟

صاح المسؤول عن الأمن في المشفى الوطني في اللاذقية تم الهجوم علينا مساء الجمعة والأحد من هذا المبنى، وأشار إلى مبنى تحت الإنشاء، لكننا تعاملنا معهم قبل أن يهربوا.

أشار الرجل الذي أتى لإجراء المقابلة إلى أن المنطقة التي يظن أن مؤيدي الرئيس السابق يأتون منها قائلاً “هذه المنطقة كلها يسكنها فلول النظام، قبل أن يتراجع ويقول من الطائفة العلوية”.

زلة اللسان الخاصة بالمسؤول عن الأمن بالمشفى قد تشير إلى العقلية التي تتحرك على الأرض من بعض العناصر والفصائل فهناك معادلة خاطئة أشار إليها أحمد الشامي محافظ طرطوس وهي ربط كل الطائفة العلوية بالنظام السابق واعتبارهم “فلول”.

وأضاف الشامي أن الإدارة الجديدة حاولت منذ البداية أن ترسخ بأن ما فات قد فات ولنبدأ من جديد لكن ما حدث من الفلول كان حالة من “الغدر” بحسب تعبيره.

“الغدر” هذا التعبير سمعناه كثيراً في مقاطع مصورة بثها مسلحون أثناء ارتكاب انتهاكات ضد العلويين في الساحل.

وبحسب شهود العيان في حي من أحياء اللاذقية فإن بعضاً من الانتهاكات كانت تجري ضد الطائف العلوية قبل قيام عناصر مواليه للرئيس السابق بالضربة الأولى في معركة الساحل والتي أودت إلى انتهاكات موثقة بالصور والمقاطع المصورة ضد الطائفة العلوية، وذلك حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.

الدولة قامت بعمل لجنة تحقيق حول الانتهاكات، ولكن هل تستطيع اللجنة نزع فتيل أزمة طائفية في سوريا

————————

سوريا قد تصبح أكبر مكسب استراتيجي لإسرائيل في “الشرق الأوسط الجديد” لنتنياهو/  مصطفى سالم

نشر السبت، 15 مارس / آذار 2025

“عليهم بناء سوريا الآن وليس قتل بعضهم البعض”.. شاهد ما قالته محللة عن الشرع والعلويين والعنف الطائفي في البلاد

(CNN)–  بعد ساعات فقط من إطاحة المتمردين الإسلاميين بالديكتاتور السوري بشار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أطراف مرتفعات الجولان المحتلة، مُطلاً على سوريا، وقال في رسالة مصورة إن هذا السقوط التاريخي سيخلق “فرصاً بالغة الأهمية” لإسرائيل.

مع انزلاق سوريا إلى الفوضى بعد سقوط الأسد، حيث أن شعبها الذي مزقته الحرب يُصارع مستقبلاً غامضاً، وأقلياتها العرقية والدينية تُبدي حذرها من التاريخ “الجهادي” للقيادة الجديدة، رأت حكومة نتنياهو فرصةً سانحة للمضي قدما في مسعاه لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو مساعي تتوخى تقسيم سوريا إلى مناطق حكم ذاتي أصغر.

وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر لقادة أوروبيين في اجتماع عُقد في بروكسل الشهر الماضي: “لا يمكن لسوريا المستقرة إلا أن تكون سوريا اتحادية تضمّ مناطق حكم ذاتي مختلفة وتحترم أساليب الحياة المختلفة”.

ومنذ هجوم حركة “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه من صراعات إقليمية، تباهى نتنياهو مرارًا وتكرارًا بـ”تغيير وجه الشرق الأوسط” لصالح إسرائيل، ويرى التطورات في سوريا نتيجة مباشرة لأفعال إسرائيل، وهو الآن ينتهز الفرصة لتوسيع سيطرته الإقليمية وإنشاء مناطق نفوذ من خلال السعي إلى تحالفات مع الأقليات في أطراف سوريا.

وفي الأيام التي تلت الإطاحة بالأسد، أمر نتنياهو بشن هجوم بري غير مسبوق في سوريا، مما دفع القوات الإسرائيلية إلى عمق أكبر في البلاد من أي وقت مضى، وأدى إلى قلب 50 عامًا من الوفاق الضمني بين إسرائيل وعائلة الأسد.

وسرعان ما أدى هذا التصعيد إلى التخلي عن تعهد نتنياهو الأولي بممارسة “حسن الجوار” تجاه سوريا الجديدة.

 واستهدفت مئات الغارات الجوية القدرات العسكرية لجيش الأسد لمنع وقوعها في أيدي الجماعات المسلحة، واستولت القوات الإسرائيلية على جبل الشيخ، أعلى قمة في سوريا، وموقع استراتيجي حيوي يطل على إسرائيل ولبنان وسوريا.

 واستهدفت إسرائيل يوم الاثنين مواقع رادار ومراكز قيادة عسكرية في جنوب سوريا، ويوم الخميس استهدفت حركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية في العاصمة السورية دمشق.

وتعهدت إسرائيل بمواصلة عملياتها، حيث صرّح مسؤول إسرائيلي لشبكة CNN أن بلاده لن تسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار في الجنوب، معتبرة إياها تهديدًا للمواطنين الإسرائيليين.

تغيير الحدود

ظلت حدود إسرائيل مع سوريا دون تغيير إلى حد كبير منذ حرب عام 1967، عندما احتلت مرتفعات الجولان السورية وضمتها لاحقًا في خطوة رفضها معظم المجتمع الدولي، لكن أيدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، ولكن الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا طمست خطوط تلك الحدود مع استيلائها على المزيد من الأراضي.

 ولم ترسم إسرائيل حدودها بالكامل مع جيرانها.

لمدة نصف قرن، حكم حافظ الأسد وابنه بشار سوريا بقسوة، وتحملا الحروب والثورات والانتفاضات، وأججا المخاوف الطائفية لردع دعوات التغيير.

 وتجنب الأسد الابن المواجهة المباشرة مع إسرائيل، لكنه وفّر لعدوها اللدود، إيران، طرق إمداد رئيسية للجماعات المسلحة التابعة لطهران، وأبرزها “حزب الله” في لبنان، الذي أطلق آلاف الصواريخ على إسرائيل خلال الحرب بين إسرائيل و”حماس”.

وأطاح الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أحمد الشرع – المعروف سابقًا باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، والذي كان مرتبطًا سابقًا بتنظيم القاعدة – بالأسد في هجوم خاطف بدعم تركي قبل توليه السلطة في ديسمبر، وتخلّى عن الزي العسكري التقليدي، وارتدى بدلة وربطة عنق، وصرّح مرارًا لوسائل الإعلام الأجنبية بأنه لا يرغب في مواجهة إسرائيل.

وقالت ناتاشا هول، الزميلة البارزة في برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: “كان يعتقد أنه يستطيع التودد إلى إسرائيل من خلال طمأنتها بأنه لن يكون هناك عنف على طول حدودها ولن يكون هناك قتال معها لكن إسرائيل تشجعت خلال العام والنصف الماضيين، وبدعم من إدارة ترامب، ولديها طموح أكبر”.

وطاالب نتنياهو بنزع السلاح الكامل من جنوب سوريا، كما قال إن القوات الإسرائيلية المنتشرة داخل المنطقة العازلة التي فرضتها الأمم المتحدة وخارجها في مرتفعات الجولان بعد سقوط نظام الأسد، ستبقى إلى أجل غير مسمى في الأراضي السورية المحتلة.

وكذلك يقول المسؤولون الإسرائيليون الآن إنه سيكون هناك وجود عسكري إسرائيلي في سوريا “لأجل غير مسمى”، ودعوا إلى حماية الدروز والأكراد السوريين، وهم أقليات مهمة تعيش في جنوب وشمال شرق سوريا على التوالي.

ويسكن الدروز ثلاث محافظات رئيسية قريبة من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل في جنوب البلاد.

وقال وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس الأسبوع الماضي، بعد أن قتلت القوات الموالية للشرع مئات من أفراد الأقلية العلوية ردًا على محاولة أنصار الأسد السيطرة على مدن قرب ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​السوري: “خلع الجولاني (الشرع) جلبابه، وارتدى بدلة، وتظاهر بالاعتدال – والآن نزع القناع وكشف عن هويته الحقيقية: إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة، يرتكب فظائع بحق السكان المدنيين”.

وأبرزت المذبحة، التي أودت بحياة أكثر من ٨٠٠ شخص من كلا الجانبين، الخطر الذي يتهدد نظام الشرع الهش، في ظل تكثيف الأطراف الإقليمية جهودها لعقد تحالفات مع مختلف الطوائف داخل سوريا.

وإذا نجحت إسرائيل في إنشاء منطقة منزوعة السلاح في سوريا بدعم من السكان الدروز المحليين، فسيُخضع ذلك أجزاءً كبيرة من جنوب البلاد للنفوذ الإسرائيلي، مما يُمثل أكبر سيطرة إقليمية لإسرائيل في سوريا منذ تأسيسها.

وقال تشارلز ليستر، الزميل البارز ورئيس مبادرة سوريا في معهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة، لشبكة CNN: “هناك خطر حقيقي من أن يؤدي ذلك في النهاية إلى دوامة من التصعيد”، وأضاف: “لم تفعل الحكومة السورية المؤقتة شيئًا ردًا على كل هذه الإجراءات الإسرائيلية، وإذا تغير هذا الوضع، فقد تشتعل الأوضاع”.

وفي الأسابيع الأخيرة، اتخذ الشرع موقفًا أكثر صرامة تجاه تحركات إسرائيل، مُدينًا تقدمها باعتباره “توسعًا عدائيًا”، في حين يسعى إلى المصالحة مع الأقليات ذاتها التي تقربت منها إسرائيل.

وبعد يوم من العنف الدموي على الساحل خلال عطلة نهاية الأسبوع، وقّع الشرع اتفاقية تاريخية مع القوات التي يقودها الأكراد لدمجهم في مؤسسات الدولة، ويُقال إنه على وشك توقيع اتفاقية مماثلة مع الدروز في جنوب سوريا.

وذكرت كارميت فالنسي، الباحثة البارزة في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، بأن “تصرفات إسرائيل مدفوعة بقلقها من امتداد الاضطرابات وعدم الاستقرار في سوريا إلى أراضيها”.

وقالت فالنسي لـCNN: “ما يحفز إسرائيل هو الخوف من ظهور نظام إسلامي معادٍ لها بالقرب من حدودنا… لقد قرروا عدم الاعتماد على ما يجري الآن، بل التأكد من أنه في حال ظهور أي تهديد، فسيكون موجودًا للحد منه”.

 وتابعت: “التصور السائد في إسرائيل هو أنه لا ينبغي الاعتماد على البراغماتية التي يُظهرها الشرع حتى الآن، وأننا يجب أن نكون مستعدين للسيناريو السلبي.

مغازلة الأقليات السورية

في الوقت الذي يسعى فيه نتنياهو إلى توسيع نفوذ إسرائيل في سوريا، فقد خصَّ دروز سوريا بالحماية، ساعيًا إلى التحالف مع أقلية دينية قد تُحرم من حقوقها على يد الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا.

وأوعز نتنياهو وكاتس للجيش الإسرائيلي في وقت سابق من هذا الشهر “بالاستعداد للدفاع” عن الدروز في سوريا، وقالا إن إسرائيل “لن تسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء” الدروز.

 وقد يُسمح أيضًا للدروز السوريين بالعمل في مرتفعات الجولان المحتلة.

وعلى الرغم من أن معظم دروز الجولان يُعرّفون أنفسهم بأنهم عرب سوريون ويرفضون دولة إسرائيل، إلا أن بعضهم قبل الجنسية الإسرائيلية.

 وفي إسرائيل، يُطلب من المواطنين الدروز الخدمة في الجيش – على عكس مواطنيهم العرب المسلمين والمسيحيين.

ورفض العديد من أفراد الطائفة الدرزية السورية عرض نتنياهو للدعم منذ سقوط الأسد، وخرجت الحشود إلى شوارع السويداء، وهي مدينة سورية ذات أغلبية درزية، احتجاجًا على دعوته لنزع السلاح من جنوب سوريا، واتهم زعماء إقليميون يمثلون الطائفة إسرائيل بأهداف توسعية.

وحذّر وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي اللبناني الذي يحظى باحترام واسع بين الدروز خارج لبنان، من طموحات إسرائيل الأسبوع الماضي.

وقال في مؤتمر صحفي عُقد في بيروت، الأحد: “إسرائيل تريد استغلال القبائل والطوائف والأديان لمصلحتها الخاصة، إنها تريد تفتيت المنطقة”، وأضاف: “على الدروز توخي الحذر”.

ومع ذلك، رحب بعض أفراد المجتمع الدرزي، القلقين من أن يفرض الشرع حكمًا إسلاميًا صارمًا في سوريا، بعرض نتنياهو سرًا، معتبرين إياه ضمانًا للحماية في مستقبل غامض، وفقًا لما ذكره ناشط محلي وصحفي لـCNN.

وفي أعقاب تصريحات نتنياهو، شكّل بضعة آلاف من الدروز فصيلًا مسلحًا يُسمى “المجلس العسكري”، على حد قولهم.

وقال ليستر إن هذه المجموعة “بالكاد تحظى بأهمية تُذكر، هناك فصيل صغير جدًا في السويداء يبدو أنه يُلمح إلى فكرة انفتاحه على نوع من الحماية الخارجية”.

كما ترى إسرائيل أكراد سوريا حليفًا محتملًا، ودعت إلى حمايتهم من الحملة العسكرية التركية.

 وتُلقي تركيا باللوم على المسلحين الأكراد السوريين في ارتباطهم بحزب العمال الكردستاني، وهو جماعة انفصالية مسلحة في تركيا.

وقالت هول: “تكمن مشكلة إقامة تحالفات مع أقليات مسلمة غير سنية أو غير عربية في أن معظم السوريين يرغبون في الوحدة، لذا أعتقد أن إسرائيل ستواصل محاولاتها لخلق التوتر لأن طموحاتها كانت خارجية للغاية، مما أدى إلى نتائج عكسية وخلق لحظة من الوحدة بين السوريين”.

مناطق النفوذ

في حين أن تحركات إسرائيل في سوريا ربما كانت الأكثر وضوحًا، إلا أنها ليست اللاعب الإقليمي أو العالمي الوحيد الذي سعى إلى توسيع نفوذه هناك.

وتعتزم تركيا، التي عارضت نظام الأسد لفترة طويلة وسعت إلى الإطاحة به، توقيع اتفاقية دفاع مع الشرع قد تسمح بنشر طائرات مقاتلة في قاعدتين في وسط سوريا.

وقال ليستر: “لدى تركيا خطط، بإذن من دمشق، لاحتلال قاعدتين جويتين رئيسيتين على الأقل في وسط سوريا، ونشر طائرات مقاتلة في سوريا من أجل فرض بعض مظاهر السيادة السورية، وبالطبع هذا موجه إلى إسرائيل”.

وأرسلت المملكة العربية السعودية، حيث وُلد الشرع وقضى سنواته الأولى، طائرةً ملكيةً الشهر الماضي لنقله إلى الرياض لعقد اجتماعات مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في لفتة جريئة أكدت عزم المملكة على إعادة تأكيد هيمنتها في المنطقة، مع الإشارة إلى تراجع النفوذ الإيراني الهائل في سوريا.

وفي غضون ذلك، فقدت روسيا، التي كان لها دور محوري في إبقاء الأسد في السلطة مقابل وجود عسكري استراتيجي على البحر الأبيض المتوسط، موطئ قدمها في سوريا.

وأفادت وكالة “رويترز” للأنباء الشهر الماضي أنه في ظل عدم وضوح موقف ترامب بشأن سوريا والقلق من تنامي نفوذ تركيا، تضغط إسرائيل على الولايات المتحدة للسماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية هناك في محاولة لإبقاء البلاد ضعيفة ولامركزية.

ولم تتمكن CNN من تأكيد التقرير.

وقال نتنياهو في مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو الشهر الماضي: “إذا كانت أي قوة أخرى في سوريا اليوم تعتقد أن إسرائيل ستسمح لقوى معادية أخرى باستخدام سوريا كقاعدة عمليات ضدنا، فهي مخطئة تمامًا”، وأضاف: “ستعمل إسرائيل على منع أي تهديد قد ينشأ بالقرب من حدودنا في جنوب غرب سوريا”.

————————

الطوائف السورية.. مزيج حساس واختبار صعب للقادة الإسلاميين الجدد

تحديث 15 أذار 2025

دمشق: قال الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي قاد مقاتلوه هجوما أطاح بحكم عائلة الأسد في ديسمبر كانون الأول، إنه سيؤسس مجتمعا يشتمل كافة الطوائف في بلد يتميز بمزيج طائفي وديني حساس.

لكن هذا التعهد يواجه اختبارا صعبا بسبب حملة قتل تستهدف الطائفة العلوية في سوريا التي ينتمي إليها الرئيس المخلوع بشار الأسد والتي اندلعت بعد هجوم شنّه موالون للأسد على قوات الحكومة الجديدة.

ويبدي بعض السوريين والقوى الخارجية مخاوف من أن يفرض الشرع حكما إسلاميا صارما أو يستبعد بعض الطوائف من مواقع السلطة في بلد يضم أقليات عديدة، مثل الدروز والأكراد والمسيحيين والعلويين.

وجاء في إعلان دستوري صدر أمس الخميس أن الفقه الإسلامي سيظل المصدر الأساسي للتشريع.

وفيما يلي نظرة على الطوائف والأقليات في سوريا، التي دمرتها حرب أهلية دامت لسنوات في أعقاب انتفاضة عام 2011 التي قادها المسلمون السنة في سوريا ضد القادة العلويين.

العلويون

طائفة صغيرة تعتبر فرعا من الشيعة وتقدّس الإمام علي بن أبي طالب. وتتركز الطائفة العلوية في سوريا لكن لها وجودا في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.

معظم العلويين في سوريا هم من المزارعين الفقراء الذين ينحدرون من المنطقة الجبلية الغربية على البحر المتوسط.

وأصبح الرئيس الراحل حافظ الأسد، والد بشار، أقوى شخصية علوية عندما استولى على السلطة في انقلاب عام 1970 بعد صعوده داخل حزب البعث.

واعتمدت عائلة الأسد خلال حكمها على العلويين وقلدتهم مناصب في الجيش والأمن والمخابرات، لكن كثيرين منهم ظلوا يعانون من الفقر والقمع كغيرهم من السوريين في أثناء حكم العائلة.

وتعرض العلويون عبر التاريخ للاضطهاد إذ عانوا من غزو الصليبيين والمماليك والعثمانيين، وخاضوا حروبا داخلية أيضا.

السنة

يُشكلون الأغلبية في أنحاء العالم الإسلامي، باستثناء عدد قليل من الدول. وتخضع كل الدول العربية تقريبا لحكم سنّي، وظلّ قادتها لفترة طويلة متوجسين من علاقة الأسد الوطيدة بإيران الشيعية غير العربية.

سحق حافظ الأسد مسلحين سنة وقتل ما لا يقل عن 10 آلاف في مدينة حماة عام 1982 في أكثر الحوادث دموية في التاريخ العربي الحديث.

ومع ذلك، عزز حافظ علاقاته مع التجار السنة في دمشق وحلب، المركز التجاري لسوريا، وعيّن السنة في مناصب حكومية. ويقول بعض السنة إن بشار الأسد تعمد إقصاء هؤلاء التجار بعد ذلك وفضل أن يحظى أقاربه العلويون بالمصالح التجارية.

في مارس آذار 2011، اجتاحت مظاهرات مناهضة لحكم الأسد أنحاء سوريا، مطالبة بمزيد من الحريات والقضاء على الفساد. وبعد أن شنت الحكومة حملة قمع، تحولت الانتفاضة إلى حرب أهلية وهو ما وضع المعارضة، ومعظمها من الأغلبية السنية، في مواجهة قوات الأسد المدعومة من فصائل شيعية من أنحاء الشرق الأوسط.

ويبدي بعض المتطرفين السنة عداء شديدا للأقليات إذ يعتبرونهم كفارا، كما يعادون إيران الشيعية التي دعمت الأسد.

وحمّلت حكومة الأسد حكام دول عربية سنية مسؤولية تأجيج الانتفاضة، وقالت إن بين المقاتلين الذين حاربوها متطرفين طائفيين.

المسيحيون

تمسك العديد من المسيحيين في سوريا بالأسد، لكنهم قالوا إنهم فعلوا ذلك خوفا من أن ينتهك الإسلاميون السنة حقوق الأقليات في حال وصولهم إلى السلطة.

انضمت شخصيات مسيحية بارزة أخرى إلى المعارضة السورية.

ينقسم المسيحيون إلى عدد من الطوائف، بعضها مجتمعات صغيرة ذات جذور عريقة في سوريا تعود إلى ما قبل الإسلام. ويشملون طوائف الروم الأرثوذكس والموارنة والسريان الأرثوذكس والكاثوليك والكلدان والآشوريين والأرمن الأرثوذكس والكاثوليك. كما يوجد بعض البروتستانت.

الدروز

هم أقلية عربية تمارس شعائر دينية مشتقة أصلا من الإسلام، ويعيشون في لبنان وسوريا وإسرائيل وهضبة الجولان المحتلة، ولهم مكانة مميزة وسط مزيج الأديان والثقافات بالمنطقة.

في سوريا، يتمركز معظمهم في محافظة السويداء الجنوبية، لكن هناك آخرين يعيشون حول دمشق وفي شمال سوريا.

للدروز هوية متماسكة وعقيدة تميزهم ظهرت في القرن الحادي عشر، وتضم عناصر من الإسلام وفلسفات أخرى مع التركيز على التوحيد والتناسخ والسعي وراء الحقيقة.

يحافظون على درجة من السرية حول ممارساتهم الدينية.

يوجد في إسرائيل عدد صغير من الدروز ويعيش البعض أيضا في هضبة الجولان، التي احتلتها إسرائيل من سوريا في حرب عام 1967.

وهددت إسرائيل بالتدخل عسكريا في سوريا إذا واجه الدروز هناك أي تهديدات.

(رويترز)

———————————–

ليس هناك من تطهير إثني «أعمى»/ وسام سعادة

تحديث 15 أذار 2025

بصعوبة بالغة، يمكن اعتماد «الثأرية» منظارا صالحاً وكافياً لتفسير تمادي العنف وصيرورته أعمال تطهير إثني نسقيّة.

ينطبق على نكبة منطقة الساحل السورية ما انطبق على سابقاتها: عدم كفاية تفسير الأمور بالثأرية.

في أحيان كثيرة يأتي تسجيل التطهير الإثني في حيز «الثأري» تهوينياً أو اختزالياً للحاصل، بشكل غالباً ما يركّز على العشوائية لنفي الطابع الممنهج لهذا العنف، في حين لا يحضر التطهير الإثني إلا بسمتيه هاتين: العشوائية، لكن الممنهجة.

هو النهج المستظل بعشوائيته. العشوائية المُصمّمة، المستبطنة لغاية، بصرف النظر عن درجة الوضوح من عدمه في مآل هذه الغاية. ليس هناك من عنف «أعمى». العنف الإثني عنف «قصديّ» أكثر من سواه.

الثأري موجود، إنما للثأري حدوده، يصعب الركون اليه كنموذج تفسيري شامل. هو عنصر من اللوحة، عنصر يمارس أيضاً دوراً تضليلياً، «إغماضياً» للوحة ككل.

أن تقول إن العنف يتخذ طابعاً ثأرياً فهذا غالباً ما يعني أنك تتطوع لقطع الطريق على فهم ما هو «غير ثأري» في هذا العنف. وما هو غير ثأري في العنف التطهيري – الإثني هو الأخطر. وأخطر ما فيه أنه لا يتحلل من تلقائه.

الثأري لا يفسّر نفسه بنفسه، كما لو كانت المجموعات البشرية طناجر ضغط يغلي في داخل كل واحد منها الحقد مطولاً، إلى أن يفيض على الأخرى.

تفسير العنف الإثني الواسع النطاق بالدافع الثأري فيه ردّ لكل المسائل إلى متلازمة «التعالي» على الثأر أو «الغوص فيه» وفي الحالتين لا يعود التطهير الإثني قابلاً للنظر إليه، والتحرك في مواجهته.

التطهير يحتاج لما يُجاوز الثأر: يحتاج إلى ما قد يستظل بالثأر كي يستدعي تبديلاً في العمق، في الأحجام مثلاً، في إعادة تشكيل خارطة انتشار الجماعات والأقوام. التطهير الإثني هو عمل سياسي من ألفه إلى يائه. سياسي قدر ما هو إثني. رده إلى الثأرية تبرئة له من السياسة، وتبرئة للسياسة منه. ليس صحيحاً أن العنف بعامة فيه تعليق للسياسة، وأن السياسة متابعة له مغايرة له في الأسلوب. للعنف سياساته. العنف الإثني هو سياسة تستهدف إعادة تكوين مجتمع ما على صورتها.

المجتمعات المتعددة إثنياً هي بالمطلق عالية المخاطر لجهة قابلية الأمور فيها للتدهور إلى نكبات من التطهير الإثني؛ ليس بسبب «الثأرية» وإنما بسبب أن الخرائط المتخيلة للجماعات ونطاق وسعة انتشارها هو مجال صراعي، وهذا الصراع قلما يكون متوازناً. هناك المتغلب، وهناك المغلوب، ثم تنقلب حال الغلبة.

في المجتمع المتعدد إثنيا، لا يندفع المتغلب نحو المغلوب بالتطهير الإثني فقط لطلب الثأرية، وإنما لطلب ما هو أخطر منها: جعله يتحلّل كمغلوب، أو يضمر، أو يتبنى «المنبوذية» كوعي لذاته من الآن فصاعداً. والإسهام من وراء ذلك في تشكيل هوية المتغلب الجمعية، بتصليب عودها في ضوء هذا المنعطف الدموي، وربط هذه الهوية الجمعية المعمّدة بالدم، بأيديولوجيا تعبوية ترى من وراء الجماعات والملل الدينية أصنافاً مختلفة من البشر، بل أصنافاً مشكك بأنها من نفس المنزلة من «البشرية». بشر أقل من سواهم، وبشر أكثر من سواهم. عليك أن تشعر بأنك أكثر بشرية من سواك، وأن تطعن الآخر في «بشريته» كي تفتك به في موجة تطهير إثني. لا يسعك ذلك بالنازع إلى الثأر فقط لا غير.

بالقدرة نفسها الذي لا يعود فيه ممكناً رد التطهير الإثني إلى الثأرية ودوامة الحقد المراكم يصير من الواجب التفتيش عن آليات التمهيد لهذا التطهير وتزخيمه وحمايته رمزياً واعتراض أي استنطاق محرج لصناعه ولقابلية تجدده.

التسويغ للتطهير الإثني له في الزمن الحديث عنوان واحد: الأدلجة. ما من تطهير إثني من دون أدلجة. تطهير إثني معقم أيديولوجياً؟ غير موجود. هناك تصور شائع كما لو أن الإبادة الراوندية كانت بلا أدلجة. وهذا قد يعود للجهل بالباع الطويل لأيديولوجية «قوة الهوتو» في رواندا وبوروندي، على حساب قوميتي التوتسي والتوا. تغذت هذه الأيديولوجيا من عناصر تصنيفية عرقية كولونيالية أوروبية ترد الهوتو إلى أصول «حامية» في مقابل التوتسي «الأشد زنوجة». تعامل المروجون لـ«قوة الهوتو» بهذه المباطنة للتصور الأوروبي: أي أنهم في واقعهم المحلي، هم «البيض» هم العرق النبيل، وأن الآخر، التوتسي، يحسدهم على ذلك، ولا يحلم إلا بإبادتهم. بالتالي ينبغي إبادته كي لا يبيد.

عندما لا يكون التطهير الإثني صادرا عن الرجل الأبيض في المستعمرات وأشباه المستعمرات فهو كثيراً ما يجيء من ضمن آليات استبطان هذه القسمة بين «العرق النبيل» المزعوم وبين «العرق النجس» هنا قوم يعتبر نفسه أنه يجسد «البياض» في نطاقه، وهنا قوم يناسبه اعتماد الموقع الآخر في هذه السردية، أي أنه المظلومية المطلقة، التي حين تظلم تعدل، لكنها لا تفعل ذلك فقط للثأر، وإنما.. للاقتلاع، لتدمير الوجود الإثني لقوم ما، على أرض ما، بحجة أنه ليس هناك من خيار ثالث: إما أن تبيد وإما أن تباد. دور الأدلجة والأسطرة، يكمن تحديداً هنا. في جعل من يرتكب فعل التطهير الإثني أو المتوسع في اتجاه الفعل الإبادي يقنع نفسه بأن التطهير الإثني «ضرورة حيوية» له، لا خيار لديه بأن لا يقدم عليها.

للمضي إلى التطهير الإثني تحتاج إذا، بالمحصلة لثلاثة أمور: العمل على إعادة تشكيل خارطة انتشار الجماعات. تأجيج الشعور بأنك إن كنت رحوماً، فلن يرحمك الآخر، وبالتالي ما أن يبادرك عنف المغلوب حتى تزيد عليه معدل الغلبة بدافع استئصالي. واقتناعك في الأول والآخر، أن مفهوم «البشر» ليس بالمشترك بينك وبين من تريد التخلص منهم. فإما أنك بشر من رتبة أعلى، وإما أنك تعتبرهم بشرا قد داخلتهم أرواح شريرة، أو سرت في عروقهم دماء مريبة.

كاتب من لبنان

القدس العربي

———————————–

الخوارزمية الطائفية/ سنان أنطون

تحديث 15 أذار 2025

أعادت مشاهد وتفاصيل المذابح الشنيعة التي اقترفتها فصائل منضوية تحت مظلة النظام الحاكم في دمشق، ضد المدنيين العلويين في الساحل السوري، إلى أذهان العراقيين وغيرهم، فصول العنف الطائفي الذي فتك بالعراق، بالذات بين 2006 و2008. لا يتطابق السياقان السوري والعراقي تماماً بالطبع، ولكلٍ مساراته وخصوصياته وتعقيداته. لكنهما يشتركان في مظاهر وتبعات وآثار خلفتها عقود من حكم الأنظمة الديكتاتورية والحروب، والتدخّلّات والاحتلالات، وما أنتجته كل هذه وتلك من تمزّق للنسيج الاجتماعي، وتحوّلات في الهويات وتطييفها، وتفكّك، أو تفكيك مؤسسات الدولة، بعد إسقاط نظام وترسيخ آخر بمساعدة ومباركة دول إقليمية وقوة عظمى.

من السذاجة أن يتوقّع المرء انتقالاً مرناً وسلساً بعد انهيار أي نظام، خصوصاً في بلاد أنهكتها حروب طويلة ومصاعب اقتصادية وزلازل اجتماعية. مع ذلك، هناك تجارب سابقة وقريبة، وعِبَر كان من الممكن الاستفادة منها، وهناك مطبّات وتحديّات متوقّعة، حذّر منها الكثيرون واقترحوا استراتيجيات للتعامل معها.

سألني أحد طلابي الأسبوع الماضي، حين ناقشنا عودة الفاشية والعنصرية بقوة في خطاب وممارسات الكثيرين في «الغرب»: هل يتعلّم الناس من التاريخ؟ وكان جوابي: كلّا، يبدو أن معظمهم لا يتعلّمون. لكن هناك من لا يريد أن يتعلّم من التاريخ، ولا رغبة لديه في ذلك أصلاً. ولا في انتقال البلاد إلى سلم أهلي، وإن ردد هذا المصطلح كثيراً، كما لا نية لديه لتحولها من ديكتاتورية إلى حكم يرسي دعائم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويعمل من أجلها. حكم يبدأ بإعادة بناء وطن ومفهوم مواطنة تصوغهما، وتحدد أطرهما شرائح وقوى تمثل المجتمع بأطيافه (لن أستخدم لفظة «مكونات» المقيتة والمسمومة، التي سادت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وأصبحت متداولة). ولعل الحاكم الجديد يصبو إلى تكرار تاريخ آخر! قبل أشهر من غزو العراق وإسقاط النظام السابق (الذي كان كاتب هذه السطور ضده كما كان ضد الغزو لأسباب لا حاجة لشرحها بعد كل ما حدث) أكّد عراقي طالما استأنس برأيه الكثيرون في إدارة بوش وفي الحيز العام في الغرب، باعتباره مرجعاً وعارفاً متبحّراً بسياسة العراق وتاريخه ومجتمعه. وانبهر به الكثيرون من الليبراليين العراقيين، أكد صاحبنا أن العراق سيشهد تحولاً ديمقراطياً بعد الاحتلال، وسيكون مثالاً يحتذى في المنطقة! وتحدّث أيضاً عن نظريته في التعامل مع تركة النظام وحزب البعث، التي طبّقت لاحقاً وعرفت بالاجتثاث. أخطأ هذا الرجل، تقريباً في كل تصوراته وتحليلاته الساذجة، ووعوده بأن يستقبل العراقيون الأمريكيين بالورود والحلوى. لكنه أصاب في أن ما أحاق بالعراق سيكون مثالاً سلبياً وكارثياً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور. في الثالث والعشرين من أيار/مايو 2003، أعلن الحاكم المدني للاحتلال الأمريكي، بول بريمر، عن حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية ومؤسسات أخرى وبذلك تم تسريح حوالي 400 ألف من الضباط والجنود والموظفين. تضاربت المبرّرات في ما بعد من قوله إنه لم يكن هناك جيش أصلاً، لأنه انهار بعد الاحتلال، إلى اعترافه بعد سنوات أن ذلك كان خطأ جسيماً. وأدى هذا القرار إلى تهميش وتعطيل مئات الآلاف من المواطنين، اقتصاديا واجتماعيا، وخلق فراغاً خطيراً. وهو يشبه القرار الذي اتخذه الشرع في سوريا.

إن حل مؤسسات دولة بأكملها، مهما كانت مهترئة ومستنزفة، من دون وجود رؤية جديّة وحقيقية للتغيير، وخطة مدروسة لاستيعاب العديد من كوادر هذه المؤسسات وخبراتها، لبناء مؤسسات جديدة، يؤدي إلى المزيد من الكوارث والفوضى. تتصاعد، بعد سقوط كل نظام ديكتاتوري دموي، أصوات تنادي بمطالب مشروعة وملحّة لمحاكمة المتورطين بالجرائم، التي اقترفتها رموز النظام بحق المواطنين ولتوثيقها، ولتعزيز السلم الأهلي، فعلاً وليس قولاً. وهناك تجارب في عدد من الدول نجحت في إرساء تقاليد وآليات وإنشاء هيئات تشرف على العدالة الانتقالية وتخفّف من الاحتقان وتحتويه. وغياب سياسات ومبادرات جدية كهذه يفاقم الوضع، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. يزداد الوضع خطورة في مناخ إقليمي مهيأ ومعبّأ للتحريض الطائفي والكراهية وتبرير قتل المدنيين، كما رأينا من تدوينات وتعليقات برّرت، بل ابتهجت واحتفت بقتل الآخر وتشفّت بذبحه. فالخوارزمية الطائفية تضع كل علوي في خانة «الفلول» وتبيح قتله، بما أن النظام كان «علوياً» وهي مقولة متهافتة، تماثل في تهافتها مقولة «النظام السنّي» في العراق. يمكن للمرء أن يورد الكثير من الحقائق التي تبين تهافت هذه التصنيفات التي تختزل وتسطّح الكثير، وتفترض تماهي الهوية مع الطبقة والأيديولوجيا، وتصور البشر وكأنهم كتل خارج التاريخ. وهي أسلحة فتاكة.

يفترض أن يكون المُنْطلق الأخلاقي الواعي للإنسان رفض قتل المدنيين، بلا استثناء ومن دون «ولكن». أما حين يصبح كل من يحمل السلاح قاضياً ومحكمة ومدعيّاً عاماً، وحين تجتمع هذه كلها في فرد دستوره وقوانينه، لا تتعدى مفردة واحدة على بطاقة هوية، تفصح عن الجماعة التي ولد فيها صدفة، أو لكنة تشي بذلك، أو حتى اسمه، فتلك بوابة تؤدي إلى جحيم جديد وأنهار من الدم ستغرق ما لم يغرق.

كاتب عراقي

القدس العربي

——————-

عربٌ سُنّة لكنهم ليسوا مسلمين/ عمر قدور

السبت 2025/03/15

استلمت هيئة تحرير الشام السلطة في سوريا بعد إسقاط الأسد وفراره في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. وكما صار معلوماً، وفق سردية معممة، قدّمت الهيئة وجهاً معتدلاً جداً بالقياس إلى ما هو متوقّع من تنظيم إسلامي جهادي، نشأ زعيمه في أحضان الجهادية التي حاربت الأميركان في العراق، وتميّزت مع نظيرتها الشيعية بأعمال عنف طائفية شديدة القسوة. بدورهم، قدّم عناصر الهيئة في الأسابيع الأولى نموذجاً جيداً على الانضباط واحترام المدنيين، ونالوا الإشادة على ذلك في مناطق التنوع الطائفي، خصوصاً في مناطق يغلب عليها المنبت العلَوي.

سلوك عناصر الهيئة، وقياداتها من خلفهم، كان مهماً لسببين، الأول منهما صدوره عما فُهِم كابتعاد عن الأيديولوجيا الدينية للهيئة، والعلويون بموجبها مارقون دينياً عن الإسلام الصحيح “السُني”. أما الجانب الذي لا يقل تأثيراً فيختزله تعبير “النظام النصيري”، وهو تعبير كان معتمداً في “دولة إدلب” التي حكمتها الهيئة بقبضة من حديد على مختلف المستويات، بما فيها المستوى التعليمي الخاص بتنشئة الأجيال الجديدة، أي أن هناك بين مقاتلي الهيئة من تشرّب تعبير “النظام النصيري” بوصفه اختزالاً لطائفة مارقة دينية ومجرمة (على الأقل) سياسياً، لذا كان لسلوكهم الطيب مغزى إيجابياً مركّباً.

قائد هيئة تحرير الشام، الذي ظهر باسمه الحقيقي، راح بدوره يرسل الإشارات التي تتضمن طي صفحة “أبي محمد الجولاني”، وهو لقبه الذي كان معتمداً وشائعاً في إدلب. وتحدث مبكراً عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، على نحو أراد من خلاله طمأنة قسم من السوريين، وتهدئة البعض الآخر المتعطّش إلى إجراءات راديكالية يريد من السلطة الجديدة اتخاذها.

تحولات السيد الشرع نالت اهتماماً واسعاً جداً بوصفها دليلاً إلى تحول أعمّ في فكر الهيئة وسلوكها، بل صار الاهتمام مفرطاً في الشكلانية من خلال متابعة دقيقة لما يلبسه ولطول لحيته ومغزى لون ربطة العنق التي يرتديها. وما بدأ على أنه اهتمام بدوافع سياسية انزلق بمعظمه إلى ما يمكن تشبيهه بتقديس الفرد، وأحياناً بلغة مشابهة للغة تقديس الفرد التي استخدمها موالو العهد البائد، حيث يهمِّش تقديس القائد (الفرد) مَن حوله في السلطة أولاً، فلا تؤخذ أقوالهم أو أفعالهم بجدية، ويُعامل كما يُعامل غلاة المعجبين نجمهم؛ بمحبة غير مشروطة بمطالب سياسية محددة أو ببرامج ونتائج ملموسة. لقد وصل الأمر بجريدة حكومية إلى نشر مقال عمّا يجتذب النساء في شخصية السيد الشرع!

الاهتمام بالقائد، متضمناً بوادر عبادة الفرد، لم يكن في الشهور الثلاثة الأخيرة صناعةً إسلامية. على العكس، يمكن الجزم بوجود نسبة كبيرة من المتدينات والمتدينين الذين لم يتورّطوا فيها، لأن إيمانهم العميق يردعهم عمّا في تقديس الأفراد من شبهة الشرك. هذه الصناعة مدفوعة بأمرين؛ واحد منهما هو النزوع إلى البحث عن بطل منقذ خارق، وقد تحقق هذا لأصحابه على نحو مشابه للأفلام التراجيدية ذات النهاية السعيدة غير المتوقعة. أصحاب هذا النزوع لا يريدون التمعّن في سياق الأحداث التي أدّت إلى التغيير الكبير في دمشق، بل يرفضون ذلك عمداً.

النزوع الثاني المتمم للأول هو الملمح الطائفي، فالبطل المنقذ هو ابن الطائفة المظلومة، وها هو قد انتصر لها أخيراً. وفق هذا التصور، ثمة مظلومية سنية، تعرّض أصحابها للإبادة والتهجير منذ عام 2011، وحانت أخيراً لحظة الانتصار. إلا أن لحظة الانتصار ليست تدشيناً لتراخي عصب المظلومية السُنّية، بل إن كثراً من المنضمين مؤخراً إلى العصبوية السُنية لم يكونوا يفصحون عنها من قبل، ونسبة منهم كانت تعلن عن عدائها لأيديولوجيا هيئة تحرير الشام وكل ما تمثّله الهيئة.

السُنّيّون الجدد، إذا جاز التعبير، هم سُنّيّو السلطة الجديدة، وقد حلّوا مكان الموالاة القديمة وبالمفردات اللغوية والبصرية ذاتها في معظم الأحيان. إنهم طائفة سلطة أكثر بكثير مما هم طائفيون في الأصل. ونستطيع القول أن السنيون الجدد ساروا بعكس التحولات المعلنة لهيئة تحرير الشام، فإذا كانت مقتضيات السلطة قد جعلت الهيئة أكثر اعتدالاً فإن استلام الهيئة السلطةَ جعلهم أشد تطرفاً، أو بالأحرى جعلهم يقطعون الطريق سريعاً من موقعهم غير الإسلامي إلى محاولة تصدّر الخطابات الطائفية على السوشيال ميديا.

يجوز القول إن الإسلاميين استثمروا في المسألة الطائفية للوصول إلى السلطة، أما السُنيون الجدد فهم متطوعون طائفيون، مدفوعون بما هو انتهازي رخيص أحياناً، إذ يعتقدون أنهم يرضون السلطة. وهذا بالتأكيد شيك على بياض قد يصعب رفضه من الأخيرة إن لم يكن استخدامه مغرياً فوراً. وهناك بينهم من لا يدفعه جشع انتهازي، بل يكفيه وهم امتلاك السلطة، وهو ما يذكّر بطائفيين علويين كان لديهم وهم مماثل أيام الأسد، ولا عجب في أن نظراءهم السُنّة لم يتعظوا من الدرس والمآل.

اليوم هناك نسبة، هي الأكبر على نحو صريح من السُنيين الجدد، والذين ليسوا مسلمين على ما توحي به هذه الكلمة من صورة نمطية في حقل السياسة. نتحدث عن فئات متنوعة، بينها المحافظ والمتحرر اجتماعياً، ومعظمها لا يُبدي مظاهر ملحوظة من التدين، بل يشهر البعض منها كونه لادينياً. هذه الفئات، على تنوعها، لم تتورع عن توزيع صكوك انتماء تحت يافطة: إنهم يشبهوننا. والحديث كان عن ملامح السيد الشرع وزوجته، وأتى أيضاً في سياق جدل حول النقاب، وحول تعيين مسؤولة عن شؤون المرأة. ولا يخفى ما يوجد في هذا التنميط من غزل للسلطة الجديدة، ومن إنكار ونفي لسوريين آخرين لا يشبهونها شكلاً وفق هذا الزعم، كما لا يخفى البعد الطائفي المستتر تحت هذا التنميط، وقد شهدنا مثيلاً له أيام الأسد: توّجه هو نفسه بالحديث عن مجتمع متجانس.

بعض الذين انفتحت شهيتهم مؤخراً على الحديث في المسألة الطائفية هم أيضاً من السنيين الجدد، وهم يحتسبون كل من لا يشاطرهم الرأي بحذافيره منكراً للطائفية ينبغي إقناعه، من دون أن يعبّروا عن أية حساسية تتعلق بالمرحلة الانتقالية الراهنة، على الأقل حتى تستتب الأوضاع في البلد، ويُشرع في العدالة الانتقالية، العدالة التي لا تقتصر على محاكمات المتهمين فقط، وإنما تتضمن محاكمة الإرث السابق كله بهدف عدم تكراره نفسه أو مقلوباً. والمستتر لدى البعض منهم على الأقل هو عزمهم على تكرار الماضي مقلوباً، وهذا فحوى استرجاع ذكريات دموية من الماضي القريب أو الأبعد لتبرير ما يقولون إنه مجرد تجاوزات للسلطة الجديدة.

إنهم عرب بدرجة أقل ربما مما هم سُنة، فالعروبة تُدفع إلى الصدارة فقط بعدّها من لوازم مواجهة الأكراد غير المنضوين حتى الآن تحت إمرة السلطة الجديدة. ومن المحتمل جداً أن الكثير من السنيين الجدد قد أضناهم وأدماهم موقع المهزوم الذي بدا حكراً عليهم لوقت طويل، أو على ما يمثّلون، ويحتاجون إلى اختبار النصر الذي حصلوا عليه، بما في ذلك اختباره بالقوة والبطش. وسيكون من الصعب عليهم القبول سريعاً بأن المظلومية والسلطة لا تجتمعان، وأنهم الآن أهل سلطة لا ينازعهم عليها أحد، والنزاع الوحيد على طبيعتها لا على مَن يكون على رأسها. أيضاً، من الصعب عليهم التخلّص سريعاً من فكرة المؤامرة الكونية على السُنّة، والنظر بواقعية إلى حدث التحرير كانقلاب في المواقف الدولية له أبعاده الإقليمية والدولية، ولا توجد قوة داخلية قادرة على تغييره.

حتى يحدث ذلك، سيبقى التناقض، وقد يشتد، بين ادّعاء تمثيل الوطن السوري وبين تمثّل عصب طائفي يبقى محدوداً رغم أكثريته، وسيبقى التناقض نفسه بين اشتداد العصب الطائفي والقول إن السُنة في سوريا هم الأمة، بمعنى أنهم قادرون على استيعاب المختلف وجاهزون لذلك. على هذا تأخذ المطالبة بالعدالة أهمية استثنائية، لأنها كفيلة بوقف التحريض الذي يتغذّى على غيابها أو يتذرّع به، ولأنها السبيل لفتح جراح السنوات الماضية بقصد المعالجة لا زيادة الاحتقان، ولأنها ترياق ضد المنهمكين في صنع وثن السلطة.

المدن

—————————–

سوريا والجوار: إعادة تشكيل الخطاب/ أحمد جابر

السبت 2025/03/15

تسارعت الأحداث السورية بعد فرار منظومة السيطرة الأسدية، وتوالت التطورات، فكان لها وقع المفاجأة، مثلما كان لها “صدمة” اللامتوقع، في أوساط سياسية متابعة، وفي أوساط استعملت عدّتها الفكرية القديمة، فما أصابت، ولجأت إلى ما هو موروث من تحديد مُدُني شائع، أو حزبيّ متقادم ومعروف، فخابت وضلّت الطريق إلى التقاط مغزى المشهد الجديد الذي نقل سوريا من ضفّة إلى ضفّة، فانتقل معها المراقبون الذين لم يتوانوا عن تبديل المواقف والضفاف.

“الحبكة” السورية، لم تتضح كل خلفياتها، لكن محاولة الانقلاب الأخيرة على الوضع الجديد، ساهمت في إلقاء الضوء على ألوان من خيطانها. بعض الخيطان كان في مرمى التخمين، وبعضها كان في “مدى” الظن، وبعضها كان في دفاتر التوجّس والاحتمال… حصيلة كل ذلك، اجتمعت في عنوان واحد كانت له الغلبة، هو عنوان تأمين قاعدة ارتكاز داخلية، لتكون لاحقاً نقطة انطلاق صوب المدى السوري، لاستعادته من السلطة الجديدة، فإذا تعذّر الفوز بالكلّ السوري، يُكتفى بالجزء منه، على حساب الجغرافيا السورية، وعلى حساب الشعب السوري، ومن دون التفات إلى مصير الأخير الذي يمكن أن تُلقى فيه سوريا الكيانية.

في العادة، وعند كل حدث مفصلي، يطرح سؤال: من المستفيد؟ هذا السؤال يحضر الآن في الواقع السوري الجديد، والجواب عنه يكون قاصراً إذا قيل: إن المستفيد هو العدو الإسرائيلي. هذا تحصيل حاصل جرى اجتراره طويلاً، وهو مائل للعيان اليوم في الجولان وفي جنوب لبنان، لذلك يصير الاستطراد بالسؤال ضرورياً لكي يبلغ الجواب فسحة النور. إذن، واستطراداً، من المستفيد من اللعب في الميدان السوري اليوم؟ لقد قيل إن فلول النظام السابق هي التي قامت بالانقلاب، وإن تلك الفلول قد تلقّت دعماً خارجياً، وإن قيادتها باتت معلومة، ومعلوم أيضاً من حرّكها، ومن قاد تحركاتها الميدانية.

العلم بأدوات الجريمة، وبهوية المجرمين أمر مهم، ومهم أيضاً العلم بالمحرّض وبالداعم وبالمتدخل، لكن الأهم سيبقى الوقوف أمام نتائج التدخل، وأمام حصيلة الاشتباك الذي ذهب ضحيته المئات من المدنيين، في عملية تصفية وحشية. هذا على صعيد سوري أهلي خاص، والأهم سيبقى موضوع الموقف من الأطراف المتداخلة التي أشير إليها بالبنان وبالبيان.

الرد الرسمي السوري، كان واضحاً في الإدانة، وفي التمسك بمحاسبة القتلة الذين استهدفوا المدنيين، وكان الرّد واضحاً في اختيار إفشال أهداف الانقلاب في بعدها الانشقاقي الاقتتالي الأهلي، وفي بعدها التحالفي الخارجي، الرد السريع منع الاستثمار في الفتنة الطائفية والمذهبية، مثلما منع احتمال التدخل الخارجي، عندما كسر مرتكزاته الداخلية.

خطاب وخطاب

لقد فوجئ “الخطاب” الجاهز بالمرونة الرسمية التي أبداها أولئك القادمون من “الإسلام السياسي” واكتشف كثيرون بأن الحنكة المُدَنية ليست حِكْراً على أبناء الجمعيات، وأن السرعة في التقاط إشارات الحدث، ومن ثم التكيّف معها، ليست اختصاصاً حصريّاً لهذا الكاتب أو لذاك “المفكّر” الاستراتيجي. لعلّه يمكن القول إن مجموع البيانات والشروح التي تناولت الوضع السوري قبل المحاولة الانقلابية، ظهر تَخَلُّفها السياسي عن اللحاق بالآن السوري، بعد فشل تلك المحاولة. لقد طغى على مجموع المقاربات طابع “المطلبية”، وقليلة هي المقاربات التي تخلّت عن لغتها الوعظية الإرشادية، والأقل من هذه وتلك، النصوص التي صدرت من موقع المسؤولية عن سوريا، قبل نظامها، فسارت بمسؤولية أيضاً، على جادّة الموضوعية، وذهبت بناءً على ذلك، إلى معاينة المشهد السوري الجديد، بممكناته، وكما يقدم نفسه في الداخل وحيال الجوار، مع ما يرافق ذلك من مهمّات جِسام، ومع ما يحيق بالمحاولة الجديدة كلها، من مخاطر شديدة، وهي تدق على أبواب الواقع السوري بكل تعقيداته.

مدخل إلى الخطاب

طلب استقرار سوريا هو العنوان الأول البسيط الواضح الذي تحتاجه سوريا اليوم. الاستقرار مدخل إلى الانصراف الهادئ إلى إعادة ما هدمه النظام السابق خلال عقود طويلة.

عناصر الاستقلال، الداخلية والخارجية، هو العنوان الثاني، فالعلاقة بين الداخل والخارج وثيقة، والترابط قائم بين الوطني المحليّ، والسياسة الوطنية الخارجية. تتقدم في الداخل مهمة إعادة صياغة الوحدة الوطنية السورية، صياغة غير قسرية، وغير اختزالية، وفي هذا المجال خطا الحكم الجديد خطوات واقعية ملموسة، وتتقدم في الداخل عملية إعادة بناء “الهيكل” الدولتي العام، وإطلاق العجلة الاقتصادية. فهذه من شروط إعادة إنتاج وتوسيع القاعدة الاجتماعية للحكم الجديد. فحيث يكون يُسْرُ العيش، وحيث تكون الكفاية الاجتماعية، يتراجع الاحتقان الاجتماعي، وتتراجع إمكانات استغلال التوتر وتوظيفه في سياسات زعزعة مجتمعية.

على صعيد خارجي، لا يملك السوريون تَرَف الخصومة مع الجوار القريب، ولا يبدو أنهم يسعون إليه، لكنهم يملكون حق وموقف رفض تدخل الجوار القريب، أو المحيط البعيد، في شؤونهم الداخلية، ويملكون الحق، وعليهم واجب، مطالبة المتدخّل بالكفّ عن سياساته، والمطالبة أيضاً بمساعدتهم على الوقوف في وجه التدخلات الخارجية.

سياسة حسن الجوار، هي ما يرددها الحكم السوري حتى الآن، وسياسة التنبيه هي ما اختارها بديلاً من لغة الاتهام… لذلك من حقّ المسؤول السوري أن يدعو الآخر إلى الالتزام بعلاقة حسن الجوار وأن يعتمد ما يراه ضرورياً من سياسة تعامل مع “الجار” إذا ما أصرّ على إذكاء نار الخصام.

أبعد من سوريا

بات واضحاً حجم الاندفاعة الخارجية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، من ضمن خطة شاملة تصل إلى حدّ إعادة النظر في الكيانات وفي المجتمعات. النموذج الفلسطيني دليل، فما يحتشد في الأفق هجوم اقتلاع للشعب، وهجوم احتلال لما تبقى من أرض فلسطين.

النموذج اللبناني دليل آخر، اتفاق لوقف الأعمال العدائية تخرقه الآلة الحربية الإسرائيلية كل يوم، من دون إدانة، وتعيد القوات المعادية احتلال أجزاء من الأرض، فيطالب السياسي الأميركي بإخلائها، ويقدم طلبات أحادية تستهدف الجانب اللبناني، فتكون عوناً للعدو في عدوانه.

النموذج السوري دليل إضافي، والشواهد تحتشد من الجولان والقنيطرة وحوض اليرموك، إلى تدمير البنية الحربية للجيش السوري، إلى تنصيب العدو نفسه حامياً للأقليات. وهنا أيضاً، لا صوت للسياسة الأميركية إلاّ ذاك المشكّك بقدرة السوريين على إعادة صياغة بنيانهم في إطار وحدة وطنية جديدة، اكتسبت دفعاً لها بعد انضمام العنصر الكردي إليها، وبعد ما تردد عن استعداد العنصر الدرزي للمشاركة في مسيرة البناء الجديدة.

النماذج المستهدفة، تطرح ضرورة الانصراف إلى التفكير بمآل المنطقة العربية كلها، فالخطر يطال مصر مثلما يطاول الخليج مجتمعاً، ومعه سائر البلاد العربية.

التفكير الجماعي العربي، يعيد الاعتبار إلى العامل القومي في حدّه الدفاعي، وفي صيغته التكاملية، بعيداً من أوهام سادت ثم بادت عن كل “الجملة القومية”.

التأسيس على العامل القومي قد يسمح للعرب مجتمعين باحتلال بقعة ولو ضيقة، على خريطة “التواجد” العالمي، كبلدان وكأوطان، هذا لأن طاقة الاندفاعة الأميركية قد تصل إلى حدود تفكيك البنى الموروثة، لإعادة تركيبها بما يلائم ضرورات “الأمركة” المتجددة، التي لم تسلم من ضغط قوتها أوروبا الحليفة، ولا الجيران فوق القارة الأميركية الواحدة. على وجوه شتّى، الشعوب العربية في حال الدفاع عن الوجود، الوجود الفاعل الذي يمنع عنها صفة الشعوب، أو الدول غير النافعة.

في الأثناء، على الخطابة الوطنية، والخطابة العربية، أن تنتبه إلى أن القاموس الحالي، لا يضم بين صفحاته أكداس أماني الخطباء، وعلى هؤلاء أن يدركوا، أنه من غير المعقول الطلب إلى المغنّي الغناء، وعنقه رازحة تحت حدّ السكين.

المدن

——————————————

الصدع الطائفي في سورية/ نبيل سليمان

15 مارس 2025

إذا صحّ وسْم المجتمع السوري بالتقليدي منذ إعلان الكيان السوري بعد الحرب العالمية الأولى، إلى أن بدأ التحديث يغلب عليه، فقد كانت الطائفية الاجتماعية متحدة بالطائفية السياسية في الزمن الأول التقليدي، بينما بدأت الطائفيتان تتمايزان مع التحديث منذ خمسينيات القرن العشرين، وإن ظلتا تشتبكان من حين إلى حين، ومن موقع إلى موقع. وعلى أية حال فقد كانت الطائفية في سورية حتى العقد السابع من القرن العشرين، وبتشبيه عزمي بشارة في كتابه “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” ذلك الفيل الأبيض المنتصب في غرفة المجال العمومي الذي يتظاهر الجميع بأنه لا يراه. وبالتالي: كانت الطائفية سردية المجالس الخاصة، حيث يصخب ادعاء التعايش بأثر تراجعي في التاريخ، فيذهب القول إلى أن الشعب مسالم وبريء من أية طائفية، ويُمارَس التطهر من أية لوثة فردية أو جماعية طائفية.

أسرعَ الهمسُ بالطائفيةِ إلى الفضاء السوري منذ بداية زلزلته سنة 2011. وسرعانَ ما اصطخب بها هذا الفضاء، سياسيًا أولًا وثانيًا، وثقافيًا ثالثًا أو رابعًا. وكما في العراق من قبل، أخذت الأسئلةُ المتعلقةُ بذلك تتفجر: هل بدأ تشكيلُ هويةٍ سوريةٍ أو عراقيةٍ جديدة، يعود فيها المكبوتُ الطائفيُّ بطريقةٍ محرَّفة؟ هل نحن بإزاء تشكيلِ ما يصح وصفُهُ بالهوية الكبسوليةِ المنغلقةِ على ذاتها؟

ينبغي ألا نغفلَ عن أن الطائفيةَ، كهويةٍ فرعية، كانت حاضرةً في المرحلة العثمانية من تاريخنا. كما حاولتْ المرحلةُ الفرنسيةُ تسييسَ وتكريسَ هذه الهوية، بل وشرذمتَها من جهة، وقَوْمَنَتَها من جِهة أخرى. ولئن كانت السرديةُ الطائفيةُ قد تراجعت بعد الاستقلال، مقابلَ هيمنةِ وأولويةِ السرديةِ القوميةِ العربية، وثانويةِ السرديات الأخرى الشيوعيةِ والإسلاميةِ والقوميةِ السورية، فقد أخذت السرديةُ المهيمنةُ تتشقق، مقابلَ بروزِ السرديةِ الطائفية، منذ انفجارِ الصراعِ المسلحِ المرموزِ له بأحداثِ حماة 1982. لكنّ كلَّ ذلك لا يقاس بما جاء به زلزال 2011، حيث بدأت صدوعُ الهويةِ تطلعُ. وسرعانِ ما بدا أن العماءَ الطائفيَّ قد أصاب شطرًا من السياسة والإعلام، كما أصابَ الشطرَ الثقافيَّ التابعَ للسياسي، حيث أخذت تتطايرُ المِزَقُ والرُّقعُ الثقافيةُ السياسيةُ، بالاضطراد مع تواترِ وتصاعدِ الخطفِ والاغتيال والتهجير والكراهية وسائر أشكال العنف الطائفي.

ليست الطائفية إلا ظاهرة اجتماعية سياسية وإشكالية، لا علاقة لها بالضرورة بتعدد الديانات والمذاهب، وإن تكن قابلة للتفعيل في البيئات المتعددة دينيًا ومذهبيًا. لكن النسب الطائفي كالنسب الديني، يتحدد بما هو الأب عليه. بعبارة أخرى: أنت سنّي أو علوي أو درزي أو مسيحي أو إيزيدي إذا كنت من (ظهر – صُلْب) سنّي أو علوي أو درزي أو مسيحي أو إيزيدي، وما همّ أن تكون ملحدًا أو علمانيًا أو أن تسلخ جلدك الطائفي أو الديني، فالعلاقة الجنسية بين أبيك وأمك تحدد طائفتك.

وبالنظر إلى الطائفية كتحديد من الفرد لهويته، وذلك على أساس من التعصب الديني أو المذهبي، يمضي القول مع عزمي بشارة إلى أن الطائفية تعني تحويل الطائفة إلى متخيل يفكك العلاقات في الدولة الحديثة. وتتميز الطائفية في العصر الحيث ببروزها في صراع مع الهويات الأخرى للفرد ذي الانتماءات المتعددة (العشائرية – الجهوية – السياسية…) فيغلب الانتماء الطائفي على الهويات الأخرى للفرد، وهو ما يبرز في الوعي الاجتماعي القابل لرفع هوية واحدة فوق الهويات الأخرى.

أما الأهم في هذا السياق وفي هذا النظر، سواء بالنسبة للصدع الطائفي في سورية أم في سواها، فهو تحوّل الطائفية المتخيلة إلى بنية اجتماعية فكرية، حيث يجري تطييف الناس، وإن لم يكونوا جميعًا طائفيين، كما في لبنان منذ إعلان الكيان اللبناني عام 1920، وكما في العراق بعد زلزال 2003، حيث تحدد البنية الطائفية نواحي الحياة كلها، ويعلو الهتاف بالعيش المشترك والوحدة الوطنية والديمقراطية التوافقية!

للحديث عن الطائفية كمتخيل اجتماعي، يحسن الابتداء بما للمتخيل من دور في بناء الحقائق الاجتماعية والذوات التي تعيش تلك الحقائق. فالمتخيل الاجتماعي هو الطريقة التي يتخيل بها الناس محيطهم الاجتماعي، محمولًا في الصور والقصص والأساطير. ويتابع عزمي بشارة فيما يقول في المتخيل الاجتماعي، محللًا ومطورًا ما جاء به تشارلز تايلر في كتابه “المتخيلات الاجتماعية الحديثة”.

ففي الإجابة على السؤال “ما هو المتخيل الاجتماعي؟” يكون المتخيل هو الفهم المشترك الذي يجعل الممارسات الاجتماعية ممكنة، إضافة إلى الإحساس العام المشترك بالمشروعية. والمتخيل الاجتماعي بالتالي أمر معقد، يشتمل على حس بالتوقعات العادية التي تكون لدى كل منا تجاه الآخر، وعلى نوع من الفهم المشترك الذي يمكننا من القيام بالممارسات الجمعية التي تصنع حياتنا الاجتماعية. وهنا تتشكل الأسئلة اللاهبة: كيف يقف كل منا تجاه الآخر؟ كيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ كيف نرتبط بالجماعات الأخرى؟

وفي تقديم عزمي بشارة لترجمة كتاب بندكت أندرسن “الجماعات المتخيلة” نقرأ: “ليست الجماعة المتخيلة جماعة خيالية، بل حقيقية وواقعية، لا لأن فعلها وتأثيرها حقيقي وواقعي فحسب، بل لأن تخيلها يجري بأدوات واقعية، قائمة. والناس في هذه الحالة لا يتخيلون شيئًا من العدم وبواسطته. بل يحتاج تخيل هذه الجماعة إلى أدوات ناشئة تاريخيًا “. ويستتبع ذلك القول بأنه إذا ما عبرت الطائفة الدينية حدود القرية أو البلدة، وكان تصور الانتماء إليها ممكنًا كما لو أنه انتماء إلى جماعة، فهي جماعة متخيلة.

على هدي من كل ذلك يأتي الحديث عن الصدع الطائفي في سورية. وربما كان أوجع وأكبر ما في هذا الصدع هو ما يتعلق بالطائفة العلوية، كما سيتبين.

عندما أقامت فرنسا الاتحاد الفيدرالي بين دولة حلب ودولة دمشق، رفض ممثلو جبل الدروز الانضمام إلى الاتحاد، فأعلن المندوب السامي الفرنسي استقلال دولة جبل الدروز. وفي 7/5/1923 تلقت المفوضية الفرنسية السامية برقية من (الزعماء) العلويين والمسيحيين والتركمانيين والاسماعيليين والسنيين، وذكروا أنهم يمثلون خمسة أسداس سكان دولة العلويين التي كانت تشمل من سورية اليوم محافظتي اللاذقية وطرطوس وأجزاء من محافظتي حمص وحماة، وهي ما عرف بـ (الإقليم العلوي). وأكد أولاء الزعماء أنهم يرفضون الانضمام إلى دولة الاتحاد. ويلاحظ هنا التنوع الطائفي والإثني للزعماء. وسوف يتكرر الأمر عام 1936، عندما تدافرت برقيات الاستقلاليين (الانفصاليين) من شتى الطوائف، وبرقيات الوحدويين من الطوائف نفسها، إلى وزير الخارجية الفرنسي، في سياق المفاوضات السورية الفرنسية في باريس. ومما تعلّل به الانفصاليون العلويون أنه ليس ثمة ما يجمعهم بدولة الاتحاد والحكومة المركزية في دمشق. وها هو محمد هواش في كتابه “عن العلويين ودولتهم المستقلة” ينقل مما برّر به الانفصاليون دعواهم: “فطرق التربية في المنزل والمدرسة والعادات القومية والأهداف مختلفة بيننا وبين السنّة كل الاختلاف. ورغم أنه تجمعنا معًا حضارة القرن العشرين، إلا أن تناقضنا الديني والعقائدي متغلغل في كل مجالات الحياة الاجتماعية”.

ومن برقية الانفصاليين ينقل هواش أيضًا: “فما هو المنطق الذي يعطي السوريين الحق في حكمنا ويحرمنا من حق الحكم الذاتي؟” فالانفصاليون ينكرون الهوية السورية البتّة. وقد كان من الموقعين الشاعر الشهير بدوي الجبل الذي سيتراجع ويعتذر معترفًا بالخطأ. أما المفارقة فهي أن آخر الكلاسيكيين العرب هذا كتب منذ يفاعته إلى مماته غرر قصائده، وربما غرر الشعر الكلاسيكي، في التولّه بالشام وبالوحدة.

بالمقابل أبرق العلويون الوحدويون إلى وزير الخارجية الفرنسي – كما ينقل هواش – معلنين أنهم “مسملون كما أن الإغريق أرثوذكس والبروتستانت مسيحيون”، وبالتالي، فرغبات الأكثرية الساحقة من سكان بلاد العلويين، كما يكتبون، هي بالوحدة السورية. وبين الموقعين من العلويين طبيبان وأربعة محامين وسبعة وعشرون شيخًا، وهي أرقام هامة في ذلك الزمن. وكانت الجمعية (العلوية المسلمة) الممثلة للعلويين من المهاجرين إلى الأرجنتين، قد رفعت الصوت عاليًا منادية بالوحدة.

قبل ذلك بسنتين كان وفدٌ من الوحدويين العلويين قد زار دمشق مؤكدًا على الوحدة ورافضًا الانفصال. وقد استمرت الدولة العلوية المستقلة تحت الراية الفرنسية حتى كانون الثاني/ يناير 1942، حيث ضُمّت هي ودولة الدروز إلى (الأم) في دمشق. وكان الانفصاليون في جبل الدروز كما ينقل محمد هواش قد أبرقوا إلى وزير الخارجية الفرنسي، بالتوازي مع برقية الانفصاليين العلويين: “يطلب الشعب الدرزي بإصرار الاحتفاظ باستقلاله الذي تمتع به منذ فجر التاريخ”. وجاء في البرقية أيضًا: “يأبى كل أفراد الشعب الدرزي الانضمام إلى سورية، ويرفضون فكرة إلحاق جبل الدروز بالدولة السورية”. ومثل الانفصالية الطائفية العلوية والدرزية كانت الانفصالية المسيحية كما عبرت عن نفسها في الفترة نفسها في الحسكة، عاصمة الجزيرة السورية.

إنها المعمعة السياسية في اللبوس الطائفي. وللإسلامي منه – يقول محمد المختار الشنقيطي بحق: “فأغلب الهويات الطائفية في الثقافة الإسلامية، مثلًا، ترجع في جذورها إلى خلافات سياسية، تطورت مع الزمن إلى انشقاق عقائدي، وفكري”. وفي صلب هذه المعمعة كان التدخل الخارجي متمثلًا في سورية بالانتداب (الاستعمار) الفرنسي.

مع الاستقلال وجلاء الاستعمار الفرنسي تبدد الصوت الانفصالي، وخفت الصوت الطائفي، وبخاصة في سياق المدّ القومي العربي والوحدوي واليساري في الخمسينيات من القرن العشرين، بما في ذلك الحضور الشيوعي. وعلى الرغم من حضور الإخوان المسلمين في تلك الفترة أيضًا، إلا أن الصوت الطائفي ظل خافتًا. أما بعد مفصل 1963 واستيلاء البعث على السلطة والدولة، فقد أخذ الصوت الطائفي يعود، بينما أخذ الصوت القومي العربي واليساري يتراجع، وكل ذلك يستدعي الحديث عن تصديع الديكتاتورية للمجتمع. وفي هذا الحديث يتواصل التجاذب في سورية بين الهوية الوطنية وبين ما بعد الهوية، بين الدولة وما بعد الدولة، بين التباب والبدد، وبين النهوض كدولة ديمقراطية تتعدد فيها الانتماءات الهوياتية وإمكانيات الاختيار، مما سيخفف طغيان الهوية الواحدة. فالرهان هو على أن يتواصل وينضج هذا الذي يجري من إعادة بناء الهوية الوطنية على أساس عقد اجتماعي جديد.

لقد أخذ صوت الأسلمة والطائفية يعلو مبكرًا، بعيد الثورة/ الحراك/ الانتفاضة/ الزلزال عام 2011، مشتبكًا مع صوت المظاهرات السلمية ومع العسكرة بوجهيها الحاكم والمعارض. وفي هذا السياق زايدت أصوات بعض المثقفين ذوي المنبت العلوي على نظرائهم من ذوي المنبت السني، في تخوين الطائفة العلوية. ومن هذا الرعيل من لم يشفع عنده لآلاف الشباب والشابات من ذوي المنبت العلوي، أنهم ذاقوا ويلات سجون النظام ومعتقلاته طوال عقود، وكذلك بعد عام 2011. بل بلغ الأمر ببعضهم حد العنصرية، مثلهم مثل ما سيلي من عنصرية داعش، ليس بصدد العلويين فقط، بل بصدد المسيحيين أيضًا، بل وبصدد (كل من هو ليس منا) من بقية الفسيفساء السورية. وقد سميتُ هؤلاء ونظراءهم الإقصائيين الموالين (كتّاب وفناني التدخل السريع) تيمّنًا بقوات التدخل السريع السيئة الذكر. غير أن ذلك ليس (القصة كاملة)، إذ ثمة أصوات ثقافية أخرى، أرسلت خطابًا ثقافيًا مختلفًا، بل ونقيضًا لما تقدم، وأشبه ببالع السكين ذات الحدين، إذ يناله ما يناله من أذى الفريقين اللذين جرى الحديث عنهما أعلاه.

ضفة ثالثة

—————————–

هل تورطت روسيا في دعم فلول الأسد بالساحل السوري؟/ باسل المحمد

15/3/2025

شهد الساحل السوري خلال الأيام القليلة الماضية أحداثا وصفت بأنها من بين الأعنف منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، واشتدت وتيرة الاشتباكات بين قوات الأمن العام وعناصر وزارة الدفاع التابعة للإدارة السورية الجديدة، وبين فلول النظام السوري السابق.

وقد أثارت هذه المواجهات التي اتسمت بالتزامن والتنسيق تساؤلات عن الأطراف الخفية التي تقف وراءها، خصوصا أنها استهدفت نقاطا وحواجز عسكرية تابعة للأمن العام في توقيت واحد، مما أضفى المزيد من الغموض على المشهد الأمني المتوتر في المنطقة.

وفي الوقت الذي اتهمت فيه الإدارة السورية في دمشق جهات خارجية بالوقوف خلف هذه الأحداث التي خلفت مئات الضحايا، بينهم مدنيون وأطفال، وظهور اتهامات لإيران بدعم التمرد العسكري على لسان مسؤولين سوريين، يبرز تساؤل مهم حول إمكانية أن يكون لروسيا ـالحليف التقليدي لنظام الأسدـ دور فيما جرى بالساحل السوري.

ويدعم هذا التساؤل أن المناطق التي شهدت الهجمات هي نفسها التي توجد فيها قاعدتان روسيتان: الأولى “حميميم الجوية” القريبة من جبلة بريف اللاذقية، والثانية ميناء طرطوس الإستراتيجية.

كان الموقف الروسي الرسمي ضبابيا وأقل وضوحا تجاه الاشتباكات التي شهدها الساحل السوري، على عكس المواقف الإقليمية والأوروبية التي بدت واضحة من حيث إدانة أعمال العنف والمطالبة بحماية المدنيين، ودعوة الأطراف الخارجية إلى احترام سيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها.

وقد بدا هذا الموقف واضحا من خلال تصريحات المسؤولين الروس، حيث رفض المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف التعليق على تفاصيل الوضع الميداني في الساحل السوري، وذلك في اليوم الثاني لأحداث السابع من مارس/آذار، واكتفى بالقول “الأمن اللازم لجنودنا متوفر على المستوى المطلوب” مضيفا “بشكل عام، لا أود التعليق على سير هذه العمليات، لأننا لا نعرف التفاصيل”.

من ناحيته، وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الثلاثاء 11 مارس/آذار الجاري الأحداث الأمنية الذي شهدتها منطقة الساحل السوري بأنها “غير مقبولة”، مطالبا السلطات السورية بضمان مشاركة كافة مكونات المجتمع في العملية السياسية.

وأكد -خلال مؤتمر صحفي- أنه لا بد من ضمان مشاركة المجموعات كافة في العملية السياسية في سوريا والسلطات الجديدة تدرك ضرورة ذلك.

هامش للمناورة

يرى مراقبون أن هذا النهج كان مقصودا للحفاظ على هامش مناورة سياسي، إذ لا تريد روسيا أن تظهر وكأنها تتخلى عن حلفائها السابقين في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تتجنب دعمهم بشكل مباشر إذ إن كلفة ذلك ستكون مرتفعة، كما أن الغموض بالتصريحات يمنحها القدرة على تغيير موقفها لاحقا وفقا لمجريات الأحداث.

وبدا هذا التغيير واضحا، بحسب الباحث في الشأن السوري وائل علوان، بعد تمكن الإدارة الجديدة من إفشال مخططات الفلول بالسيطرة على مدن الساحل السوري من جهة، ووصول الحكومة السورية إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” من جهة أخرى.

ويتابع علوان -في حديثه للجزيرة نت- أن هذا الموقف السلبي وغير المتعاون مع الإدارة السورية تجاه أحداث الساحل، قد ينعكس سلبا على روسيا من خلال خسارة المزيد من أوراقها التفاوضية لتأمين مصالحها الإستراتيجية في سوريا.

من ناحية أخرى، يبرز تناقض الموقف الروسي من خلال تصريحات صحفية لبيسكوف نفسه، إذ أوضح في العاشر من مارس/آذار الجاري أن روسيا ترغب برؤية سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة، وأضاف أن بلاده تسعى من أجل استقرار سوريا والمنطقة بأسرها.

دعم الفلول

وسط هذه الضبابية في الموقف الروسي، إلى جانب انتشار تسجيلات صوتية نُسبت إلى فلول الأسد، يُزعم فيها وجود تنسيق مباشر مع القوات الروسية في قاعدة حميميم، بما في ذلك تزويدهم بالسلاح، زادت الشكوك حول وجود صلة لروسيا بدعم فلول النظام في محاولة منها لإثارة الفوضى، ثم فرض حلول تخدم أهدافها الإستراتيجية.

وفي هذا السياق، ينفي المستشار رامي الشاعر، المقرب من الخارجية الروسية، وجود أي علاقة لروسيا بالأحداث التي شهدتها مدن وقرى الساحل السوري.

ويوضح الشاعر -في حديثه للجزيرة نت- أن هدف هذه الاتهامات هو تشويه سمعة روسيا، التي سعت خلال السنوات الماضية إلى وقف الاقتتال السوري- السوري، وفرض “نظام التهدئة” من خلال التعاون مع تركيا وإيران عبر صيغة أستانا.

وتؤيد روسيا، بحسب الشاعر، الإدارة الجديدة في دمشق، وهي على تواصل معها في كثير من القضايا، وعلى ثقة بأن الإدارة ستسيطر على كل المناطق في الساحل السوري، وستحاسب كل من تورط بالانتهاكات ضد المدنيين.

من جانبه، ينقل الصحفي والخبير بالشأن الروسي، رائد جبر، في حديثه للجزيرة نت عن مصادر دبلوماسية روسية نفيها وجود أي معطيات أو إشارات تدل على تورط روسيا بهذا الموضوع.

وأكدت هذه المصادر، بحسب جبر، أن روسيا لن تسمح لأي أشخاص موجودين ضمن الأراضي الروسية أو خارجها بالتعامل مع فكرة زج روسيا في هذا الموضوع.

وبشأن الدعوة الروسية لعقد اجتماع في مجلس الأمن، يقول جبر إنها موجهة، وفقا للمصدر نفسه، للحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، واتخاذ خطوات لمساعدة سوريا في وضعها الحالي اقتصاديا ومعيشيا كتخفيف العقوبات المفروضة عليها.

مجلس الأمن

وشهد مجلس الأمن توافقا روسيا-أميركيا للمرة الأولى منذ سنوات على الدعوة لعقد جلسة مشاورات مغلقة وعاجلة في مجلس الأمن الدولي، عنوانها بهدف إصدار بيان حول “أحداث الساحل السوري”.

وشهدت، بحسب وكالات، انتقادات روسية للحكام السوريين الجدد وألقت عليهم باللوم في الانتهاكات التي لحقت المدنيين، ومن المتوقع إصدار بيان رئاسي يدين أحداث العنف ويدعو الحكومة السورية لحماية المدنيين.

من ناحيته، يرى الباحث علوان أن من الصعب الجزم بصحة الأخبار والتسجيلات المتداولة حول تورط روسيا في دعم تمرد مسلح في الساحل السوري، وقد يكون من مصلحة قادة الفلول الذين نظموا الحراك أن يوهموا “الشارع العلوي” بوجود دعم روسي مباشر، بهدف إشراك أكبر عدد ممكن من الناس في تمردهم المسلح.

استغلال روسي

خلافا لما سبق، يرى كثير من المتابعين للشأن الروسي أن روسيا قد تستفيد من أحداث الساحل على المدى الطويل، من خلال استغلالها بما يخدم مصالحها الجيوسياسية في سوريا التي تعتبر حجر الزاوية بالنسبة لوجودها ومصالحها في الشرق الأوسط.

وعن الخسارة التي يمكن أن تلحق روسيا في حال ثبت تورطها بدعم التمرد العسكري في الساحل السوري، يرى الباحث السياسي، نادر الخليل، أن هذا الموضوع إن تم فهو يشير إلى خطأ إستراتيجي في تقدير الموقف من قبل المسؤولين الروس.

وقد يكون هذا الخطأ، بحسب حديث الخليل للجزيرة نت، نابعا من عاملين:

ويشار إلى أن المتابع لتغطية وسائل الإعلام الروسية لمجريات الأحداث في الساحل يلاحظ تبني سردية متماشية إلى حدٍ كبير مع رواية فلول النظام، ومن ذلك موقع “لينتا” الإلكتروني الروسي واسع الانتشار، الذي عنون نصه عن الأحداث في الثامن من مارس/آذار الجاري بالقول “المسيحيون والمسلمون الشيعة يثورون ضد السلطات السورية الجديدة. لقد جاؤوا إلى القاعدة العسكرية الروسية طلبا لحمايتهم من الإبادة الجماعية”. وأرفقه بعنوان ثانوي “السلطات السورية ترتكب مجازر بحق العلويين والمسيحيين في شرق وجنوب سوريا”.

ووكالة “نوفوستي” الرسمية عنونت نصها في السابع من الشهر الحالي بالقول “خبير يصف أحداث اللاذقية بأنها بداية صراع أكثر خطورة في سوريا”، إلى جانب تساؤل كبرى صحف الأعمال الروسية “فيدوموستي” في عنوان نص نشرته في العاشر من الشهر الجاري “هل تؤدي الانتفاضة السورية إلى مزيد من إراقة الدماء؟”.

وتعليقا على هذه التغطية، لا يعتقد الخبير الروسي رائد جبر أن ذلك يعكس موقفا حكوميا رسميا داعما للتمرد في الساحل السوري، ويضرب جبر مثالا على ذلك الموقف من القضية الفلسطينية، التي كانت تشهد تفاوتا بين اللهجة الدبلوماسية الروسية التي تتخذ مواقف مناصرة للفلسطينيين، بينما كانت الصحافة ميالة لإسرائيل.

حماية المدنيين

ومع إعلان الحكومة السورية عن وجود “دول وجهات خارجية” تدعم العمل المسلح ضد الدولة، تداول جمهور منصات التواصل الاجتماعي معلومات غير مؤكدة تدعي أن الروس قاموا بتشجيع أهالي الساحل، وخاصة من الطائفة العلوية، على اللجوء إلى قاعدة حميميم تحت ذريعة “الحماية”.

ووفقا لما تم تداوله، فقد طُلب منهم هناك التوقيع على بيان يطالب بتدخل دولي لحمايتهم. وقد رأى مدونون سوريون في هذا السيناريو محاولة روسية للتمهيد لتدخل مباشر تحت غطاء دولي وربما بمباركة من الأمم المتحدة.

وكانت قاعدة حميميم قد فتحت أبوابها لاستقبال عناصر من فلول النظام السابق وعوائلهم الهاربين من مطاردة الحكومة السورية، وقامت بتجهيز مخيمات بكل ما يلزم من مأوى وإمدادات غذائية وطبية.

ولم تقتصر الإجراءات الروسية في قاعدة حميميم على الجانب الإنساني فقط، بل شملت أيضا استعراضات جوية ومناورات دفاعية، من ذلك ما أفادت مواقع محلية أن مقاتلة روسية أقلعت من القاعدة في اليوم الأول للاشتباكات، وحلقت فوق المروحيات التابعة لوزارة الدفاع السورية، وحذرتها من مغبة استمرار القصف على مناطق ريف جبلة وأجبرتها على العودة إلى قواعدها.

وتعليقا على حركة الطيران النشطة التي شهدتها القاعدة، يذكر الخبير جبر أن هذه الحركة تأتي ضمن المهمات الخاصة للطيران في القاعدة، وأنه لا يمكن لروسيا التدخل بأي شأن سوري داخلي إلا بعد التنسيق مع الإدارة الجديدة في دمشق.

وبالنسبة لحماية المدنيين، يقول جبر إن روسيا ليست هي المبادرة لطرح هذه الفكرة، وإنما هناك بعض الفئات في الساحل السوري قدمت عرائض إلى الروس من أجل الحماية.

من ناحيته، يستبعد المستشار الشاعر أن تقدم روسيا، التي تتواصل مع العديد من الجهات الدولية لرفع العقوبات عن الشعب السوري، على خطوة من قبيل حماية المدنيين تحت وصاية دولية، لأنها ستكون خطوة سلبية في مفاوضاتها مع دمشق من أجل الإبقاء على القواعد الروسية وتعزيز الوجود الروسي، وربما فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

وكانت وفود من منطقة جبلة وإدارة الأمن العام قد وصلت إلى قاعدة حميميم الجوية بمحافظة اللاذقية يوم السبت الثامن من مارس/آذار، لطمأنة الأهالي الموجودين فيها وإعادتهم لقراهم، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة الأنباء السورية (سانا)، إلا أن الأهالي لم يستجيبوا على الفور لنداءات المسؤولين بالعودة.

المصدر : الجزيرة

———————-

كيف تنظر واشنطن إلى “مجازر” الساحل؟/ شربل أنطون -واشنطن

15 مارس 2025

هل انتهت المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية في سوريا بمجزرة؟ وهل وقع أحمد الشرع في فخ انتقام طائفي أم في “محاولة انقلاب” نصبها فلول نظام الأسد بدعم إيراني؟.

أسئلة عدة تطارد رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا بعد أحداث الساحل، منها: هل عاد أحمد الشرع إلى ثوبه الجهادي وغطّى مجزرةً قام بها من كان يُقاتل في صفوفهم حتى الأمس القريب؟ ومن هي “العناصر غير المنضبطة” التي تحدث عنها أحمد الشرع؟ ولماذا أمر بإرسال نحو نصف مليون مقاتل إلى الساحل السوري على مرأى العالم ومسمعه؟

مهما يكن من أمر، فإن مسؤولية النظام الحاكم في سوريا كشف ومحاسبة المسؤولين عن المذابح الطائفية التي حدثت مؤخراً في الساحل السوري.

ولحماية الأقليات السورية، على الدول العربية والمجتمع الدولي مسؤولية الضغط لكشف ملابسات هذه المجازر ضماناً لعدم تكرارها.

شبكة حماية قانونية دولية للأقليات في سوريا؟

هل توفر إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب شبكة حماية قانونية دولية للأقليات في سوريا خلال هذه المرحلة الانتقالية، بعد أن أدان وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو المجازر وحدد منفذيها دون مواربة، ورفعت واشنطن الموضوع إلى مجلس الأمن الدولي؟

“تدين الولايات المتحدة الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، بما في ذلك الجهاديين الأجانب، الذين قَتلوا الناس مؤخراً في غرب سوريا. وتقف الولايات المتحدة إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والدرزية والعلوية والأكراد، وتقدم تعازيها للضحايا وأسرهم. ويتعين على السلطات المؤقتة في سوريا محاسبة مرتكبي هذه المجازر ضد الأقليات في سوريا”، على حد تعبير  روبيو.

وتطالب السناتور الديمقراطية جين شاهين السلطات السورية بـ”التحقيق في ما حدث، وتقديم المسؤولين عن قتل المدنيين إلى العدالة. لأن الشعب السوري لم يقم بإسقاط نظام الأسد الوحشي ليجد نفسه مجددا في ظل قمعٍ وعنفٍ أكبر”.

من جهتها، تشير صحيفة واشنطن بوست إلى أن المجزرة في الساحل السوري “تثير تساؤلات خطيرة بشأن ما إذا كان أحمد الشرع راغباً أو قادراً على كبح جماح مجموعة واسعة من الفصائل المسلحة التي لا تزال تعمل في جميع أنحاء البلاد”. فكيف يمكن للرئيس ترامب أن يُعالج هذه المسألة بشكل جذري لمنع تكرار المذابح ضد الأقليات في سوريا؟

أيُّ سياسة أميركية تجاه سوريا ما بعد الأسد؟

الممثل الأميركي الخاص السابق لشؤون سوريا، جيمس جيفري، قال لبرنامج عاصمة القرار على قناة الحرّة: “على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسةً أكثر وضوحاً وفعالية تجاه سوريا. هناك العديد من المشاكل مع حكومة دمشق الجديدة برئاسة الرئيس الشرع. ومع ذلك، فقد اتخذ( الشرع) خطواتٍ إيجابيةً عديدة. والأهم من ذلك، أنه الشخص الوحيد القادر على حكم سوريا حالياً؛ والشرع عازمٌ تماماً على إبعاد إيران. وهذا هو الشاغل الأمني الأكبر لنا في دول جوار سوريا، بما فيها إسرائيل والأردن وتركيا وغيرها.”

وأضاف جيفري: “لذا، أرى أننا بحاجة إلى ربط خطواتنا المستقبلية، بما في ذلك الإعفاءات أو رفع العقوبات المحتمل وتوثيق العلاقات، بخطوات نحو مزيد من دمج الأقليات، بالإضافة إلى التحقيق في عمليات القتل حول اللاذقية. والأهم من ذلك، استبعاد أيٍّ من هؤلاء الأجانب ذوي الخلفيات الإرهابية من رعاية الحكومة السورية”.

ويقول جوشوا لانديس، مدير قسم الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما: “تريد الولايات المتحدة الاستقرار في سوريا. كما تريد حماية شركائها الأكراد. وتريد واشنطن أيضاً ضمان عدم تمدد داعش في المنطقة. وألا يُطلق سراح سجناء داعش فيعودوا إلى التآمر ضد السوريين والمجتمع الدولي”.

لذا، يُضيف لانديس، فإن “الحفاظ على علاقات جيدة مع كل من النظام والأكراد، أمرٌ بالغ الأهمية للولايات المتحدة، التي ترغب في ذلك. كما ستحرص الولايات المتحدة على ألا تُرهِب الحكومة الجديدة الشعب السوري، وأنها ستفي بوعودها، بإشراك جميع أطياف الشعب السوري في صياغة دستورٍ يتضمن انتخاباتٍ حرةً خلال أربع سنوات”.

انتهاء “شهر العسل الانتقالي” في سوريا؟

يحذر الباحث في معهد واشنطن آرون زيلن من “انتهاء شهر العسل الانتقالي في سوريا بعد المجازر والتضليل الذي تمارسه السلطة الانتقالية حول المجازر ضد المواطنين العلويين”.

ويضيف: “إن سلوك لجنة تقصي الحقائق في سوريا سوف يؤدي إما إلى بناء شرعية الحكومة الجديدة أو تدميرها، وكذلك احتمالات انتقال مستقر للسلطة”.

وهذا ما يحتم على واشنطن بعض السياسات تجاه أحمد الشرع وفريقه: “ربما يكون من الضروري تأجيل رفع العقوبات الأميركية إلى حين التحقق بشكل ملموس من التقدم في تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي في سوريا. وهذا يعني تعزيز الاستقرار والعدالة الانتقالية والحكم الشامل للسوريين جميعاً، مع خدمة المصلحة الأميركية العليا المتمثلة في مواجهة إيران ووكلائها. كما أن واشنطن تحتاج إلى إجراء مناقشات صعبة مع حلفائها في أنقرة والقدس، حول تضارب مصالحهما في سوريا، وحول ضرورة ضبط تدخلهما” في الشأن السوري.

بين أحمد الشرع و”الشيطان الذي نعرفه” !

إن “أحمد الشرع جهادي منذ فترة طويلة” يقول سيبستيان غوركا، مساعد الرئيس ترامب، لقناة الحرة.  “فهل أصلح نفسه؟ هل هو رجل أفضل الآن؟ هل هو شخص يؤمن بالحكومة التمثيلية؟ اسأل المسيحيين. اسأل العلويين في المنطقة واسأل أي أحد عانى على يديّ أحمد الشرع الجهادي. لم أجد أبدا قائدا جهاديا أصبح ديمقراطيا أو آمن بالحكومة” التمثيلية.

لكن “لا يمكن إغفال أن سوريا كانت حاضنة للإرهاب في ظل حكم نظام الأسد” برأي ديفيد شنكر، الذي يضيف : “مثلما يفرض تواجد الشرع وهيئة تحرير الشام في السلطة تحديات، فإنه يمثل كذلك فرصا للولايات المتحدة؛ فسوريا لم تعد تشكل تهديدا عسكريا لجيرانها. كما أن دمشق اختارت ألا تجدد استئجار روسيا للقاعدة البحرية في طرطوس، ما يحد من الانتشار الروسي في البحر المتوسط. كما أن سوريا الجديدة ليس لها مصلحة في إدامة العلاقة الاستراتيجية مع طهران ووكلائها الإقليميين. ولم يعد بإمكان إيران تسليح حزب الله عن طريق الأراضي السورية.”

وأضاف: “نهاية نظام الأسد كانت تطورا إيجابيا للولايات المتحدة وشركائها في المنطقة. الشيطان الذي نعرفه كان سيئا لمصالح الولايات المتحدة لدرجة أنه حتى الشرع يمكن أن يكون خيارا أفضل”. حسب تعبير ديفيد شنكر، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى خلال ولاية ترامب الأولى.

بدايات نظام فدرالي في سوريا؟

من ناحية أخرى، كيف يرى خبراء “عاصمة القرار” التوافقات الأخيرة بين الحكومة السورية المؤقتة والأكراد والدروز ودور الجيش الأميركي في تسهيل الاتفاق بين الشرع وقسد؟.

“توفر هاتان الاتفاقيتان لهذه المناطق درجة من الحكم الذاتي لم نكن نعتقد أنها ستتمكن من الحصول عليها. لقد وافق الرئيس السوري الجديد على ما يبدو أنه بدايات نظام فيدرالي في الدستور الجديد. مما يعني وفقًا لكل من الأكراد والدروز درجة من الحكم الذاتي” كما يقول الباحث الأميركي جوشوا لانديس.

هذه الاتفاقات هي “خطوات في الاتجاه الصحيح” برأي السفير جيمس جيفري، الذي يطالب “المجتمع الدولي والدول العربية والأوروبية والأمم المتحدة ومنظمات، بالعمل مع حكومة دمشق على تعزيز استقرار الوضع في سوريا وبالتالي في المنطقة بأسرها واحتواء إيران”.

فرضت المجزرة ضد العلويين في سوريا تحديات جديدة على السلطة السورية المؤقتة وعلى داعميها لمنع انحراف المرحلة الانتقالية إلى فوضى وحرب طائفية قد تؤدي إلى تقسيم بلد منهك بالحروب. فهل ينجح التعاون الأميركي الروسي بشأن سوريا في حماية البلد وتنوعه العرقي والديني؟

شربل أنطون -واشنطن

الحرة

—————————–

مقداد فتيحة… أطلق فتنة الساحل السوري وتوارى/ مصطفى رستم

تسبب بمصرع العشرات في قرى اللاذقية ووثق بنفسه أعمال التعذيب والتصفية والتمثيل بالجثث وحرق المعتقلين أحياء

السبت 15 مارس 2025

ملخص

 إزاء تكرار كمائنه التي تستهدف أفراد الأمن العام، وخطاباته المتمردة التي تفوح منها رائحة القتل والانتقام والطائفية، رجح متابعون تلقيه دعماً عسكرياً ومالياً للاستمرار بتمرده وعصيانه حتى أفضى الأمر إلى تأسيسه لما أطلق عليه “درع الساحل”، وهي ميليشيات تضم فلول النظام ممن رفضوا تسليم أسلحتهم وإجراء تسوية مع السلطات الجديدة.

بعضلات بارزة وزي عسكري يقف مصوباً سلاحه الرشاش على رأس أحد المعتقلين الجالسين أرضاً قبل تصفيته، صورة واحدة من مئات الصور التي توثق انتهاكات أحد أكثر مجرمي سوريا تعطشاً للدماء في جيش النظام البائد.

إنه مقداد فتيحة صاحب أول تمرد عسكري بعد سقوط بشار الأسد وهروبه إلى العاصمة الروسية، شخصية أثارت جدلاً بظهوره المتكرر متلذذاً بقتل الأبرياء المدنيين وتصفيتهم خلال سنوات الحرب الماضية، بينما رفض تسليم سلاحه وقاد مجموعة من فلول النظام ممن شابها كثير من التساؤلات حول ارتكابها مجازر بحق المدنيين خلال عقد الصراع الأهلي.

رجل الكمائن الدامية

لم يتردد اسم شخصية موالية منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر (كانون الأول) كما تردد اسم فتيحة، ففي الوقت الذي انكفأت كل الشخصيات السياسية والحزبية والأمنية والعسكرية عن الظهور، وظلت حبيسة صدمة الخسارة المزرية التي لحقت بجيش كامل لم يصمد أكثر من عشرة أيام، خرج صاحب العضلات المفتولة يتوعد السلطات الجديدة بالثأر مرتدياً وشاحاً أخضر في إحدى هذه الإطلالات، واستمرت حلقات استعراض البطولة هذه حين ظهر ملثماً في الكهوف والحقول وأثناء قيادته المركبات.

 وإزاء تكرار كمائنه التي تستهدف أفراد الأمن العام، وخطاباته المتمردة التي تفوح منها رائحة القتل والانتقام والطائفية، رجح متابعون تلقيه دعماً عسكرياً ومالياً للاستمرار بتمرده وعصيانه حتى أفضى الأمر إلى تأسيسه لما أطلق عليه “درع الساحل”، وهي ميليشيات تضم فلول النظام ممن رفضوا تسليم أسلحتهم وإجراء تسوية مع السلطات الجديدة.

يغلب على “أبو جعفر” كما يطلق عليه شخصيته الانفعالية والارتجالية، وهو ما يظهر عبر خطاباته المصورة حتى قبل سقوط النظام في معارك تحرير سوريا، حيث عرف بإطلالات متلاحقة في المعارك التي دارت بين غرفة عمليات “ردع العدوان” والقوات النظامية أثناء تقدم المعارضة نحو مدينة حماة ومنها إلى دمشق.

ولم يكتف بلغة التحدي أثناء ظهوره برفقة مقاتلين مدججين بالسلاح حتى بعد الخسارة المدوية للنظام السابق، بل بدا كقائد مجموعة عسكرية يجر أذيال الخيبة، مستغرباً من سقوط الفرقة “25 مهام خاصة”، وهي الفرقة العسكرية الأكثر تدريباً وتتبع سهيل الحسن الملقب بـ”النمر”، أحد أشهر ضباط الجيش، حيث أدارت وحدته عمليات عسكرية على مدى سنوات طويلة في مواجهة قوات المعارضة والفصائل المتشددة منذ عام 2019 وحتى قبل سقوط النظام.

فلول في الجبال

يتهم ناشطون حقوقيون مقداد بارتكاب انتهاكات وتجاوزات واسعة، وبأن لديه سجلاً أسود أثناء تأدية خدمته كمتطوع في “الحرس الجمهوري”، وهي وحدة مقاتلة معروفة بولائها الشديد لنظام الأسد، كما نسبت إليه عمليات تجارة في المخدرات والبشر مع جرائم تصفية وتعذيب، ووثق هو بنفسه بالصوت والصورة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي أعمال التعذيب والتصفية والتمثيل بالجثث وحرق المعتقلين أحياء، وتقدر التقارير الحقوقية أن مئات من الضحايا قضوا على يده.

استمرت هذه الانتهاكات حتى بعد سقوط النظام، حيث تسبب بمصرع عشرات من الأشخاص في قرى اللاذقية، بعضهم من أبناء طائفته الدينية ممن عارضوا أعماله وتصرفاته التي أثرت بشكل سلبي في السلم الأهلي، وتسببت جولاته الافتراضية على وسائل التواصل بتأجيج المشهد والاحتقان الطائفي وتعمد افتعال اشتباكات سريعة وخاطفة ومن ثم الهرب.

إلى ذلك، لاقت تصرفات فتيحة استياء بين القاطنين الآمنين والراغبين في العيش بسلام، لكن مع استمراره بارتكاب انتهاكات وضربات بحق قوى الأمن وأسرهم على مدار ثلاثة أشهر، بات من الضروي استقدام تعزيزات عسكرية واسعة لملاحقته مع فلول النظام البائد.

ويجزم محافظ اللاذقية محمد عثمان، في تصريحات لـ”اندبندنت عربية” بانتقال مجموعات الفلول إلى الجبال والوديان بعد العملية الأمنية الأخيرة. مؤكداً أن ملاحقتهم تحتاج إلى وقت، ومن المتوقع أن ينفذوا أعمالاً تخريبية ليثبتوا للرأي العام أنهم ما زالوا حاضرين.

وكشف تلفزيون سوريا القريب من الحكومة الجديدة عن تواجد مقداد فتيحة بين سوريا ولبنان عبر دراسة التضاريس وجغرافية الأمكنة التي تواجد بها، وتبين أنه يتنقل عبر منطقة حدودية اسمها “حكر الضاهري” يمكن للأشخاص العبور من خلالها عبر قطع نهر بشكل يسير، وهو ما يفسر الدعم الذي يتلقاه بسبب سهولة تنقله، وفي مقابل ذلك يطالب السوريون من كل الطوائف باعتقاله ومحاسبته.

ساحل الجحيم

ويثير مقطعه المصور بعد ظهوره مرتدياً لباساً يشبه لباس أفراد وزارة الدفاع، توجساً من تنفيذ أعمال إجرامية بحق مدنيين، وقد ظهر فتيحة حاملاً سلاحاً حديثاً ومتطوراً أثار انتباه المتابعين، وذكر أحد المتخصصين العسكريين أن “هذا السلاح لا يوجد له مثيل في الجيش السوري”، ما يعطي إشارة إلى دعم جديد يتلقاه.

وعلى رغم تأييد فريق يتبع النظام البائد، لا سيما من العسكريين المطلوبين للعدالة، لمقداد فإن الأوساط الشعبية من مختلف الطوائف في اللاذقية تنبذه لأنه كان سبباً مباشراً في تأجيج معارك جبال الساحل، وأفادت مصادر أهلية بأن المنطقة كانت تعيش حالاً من الأمان، لا سيما أبناء الطائفة العلوية، ولم تسجل أية انتهاكات، لغاية الكمين الغادر الذي نفذه واندلاع أحداث السادس من مارس (آذار)، بل إن النشطاء الحقوقيين يطالبون بالقبض عليه ومحاكمته، بينما يصف مدير “المرصد السوري لحقوق الإنسان” مقداد فتيحة بـ “رجل إرهابي أشعل الفتنة في الساحل بين أبناء الشعب”.

وفي تسجيل جديد لمقداد وجه رسالة إلى ما وصفها بـ”حكومة الأمر الواقع” حملت تهديداً بالانتقال إلى مرحلة جديدة من القتال، واعترف بقتل أكثر من 1000 عنصر من عناصر الأمن العام خلال ساعات بعد الهجوم على قرية الدالي، وأضاف في تسجيل مصور “لقد عجزتم عن مواجهتنا فاتجهتم نحو النساء والأطفال وحرقتم المنازل”.

وهدد قائد ميليشيات “درع الساحل” في آخر رسائله المثيرة للجدل، والتي تحمل على الدوام لغة التهديد بوجود عدد كبير من الأسرى لديه، السلطة الجديدة للبلاد في حال عدم انسحاب قواتها من الساحل بأنه سيتعامل بطريقة مختلفة مع الأسرى، مع إدخال مقاتليه بين مقاتلي الجيش والأمن بأسلحة صامتة، بحسب وصفه.

—————————

فَشَر / ربيع بركات

12/3/2025

“فَشَر” قد تكون ردًا على تهمة قِتالها، هي السيدة السبعينية ذات الجسد المنحني كعلامة سؤال، “أهل السنة” أجمعين. و”فَشَر” قد تكون ردًا على محاولة المسلحين الواقفَين أمامها اختزال “أهل السنة” بفعلتِهما وقولِهما.

رأيتُ في الفيديو بالأمس امرأة، بدَت في سنّ السبعين. وقفَت أمام حاملِ كاميرا لا نراه ورَجُلٍ آخر بصحبته، في مكان ما عند الساحل السوري حيث ارتُكبت مجازر.

من خلف الكاميرا كان الرجلان يتناوبان على الكلام، كل منهما بصوت يطفح بهرموناتِ من أَزهق أكثر من حياة ويقدر على إزهاق المزيد. لقد قتلا ولديها للتو وكانا يتوعّدان. لكنّ أداءهُما، شبه المسرحي، كان يوحي بذنبٍ مستتر.

“هيدول اولادك؟ الله لا يسامحك.

رح ندعس عليكم ان شالله قريبًا، لأنكم إنتو اللي بديتوا” (بدأتم).

قرب السيدة كانت جُثتا ولديها مرميّتين. وكانت طوال حفلة الوعيد ثابتة في مكانها. يداها على خصرها، كما لو أنهما تشدّان الخصر صعودًا. وجسدها المُنحني يأخذ شكل علامة سؤال دالّة، ويكاد يستحيل نصًا ناطقًا متهكمًا: من أنتما؟

لكنّ السيدة السبعينية، في حقيقة الأمر، لم ترُدّ. بل اكتفت بهز رأسها. “ان شالله”، قالت بين ساخرة ومحيلة الأمر إلى ربٍ يقاتل الرجلان باسمه.

“إنتو اللي بديتوا”.

كرّر المسلّح حامل الكاميرا تهمته ثلاث مرات، كما لو أنه يبرّر فعلته ويغتسل من إثم.

“إنتو غدارين”. كرّرها ثلاث مرات أيضًا، كما لو كان يتابع الاغتسال من دم مسفوك. ثم أردف صوت الرجل المرافق له: “عم يقاتلوا أهل السنّة”. وأضاف الأول: “اعطيناكم الأمان، بس غدرتوا فينا”.

عندها قرّرت السيدة أن ترُدّ: “فَشَرت”.

“يلا استلمي اولادك. استلميهم، استلميهم”.

كرّر دعوتَه ثلاث مرات مجددًا كمن يؤكّد قوّة حجّته أمام الوالدة والجُثتين المرميّتين. لكنّ كلمة “فَشَرت”، برغم الصوت الخافت الذي قيلت به، ظلّت تطنّ في الأذن. كما لو كانت ذات صدى مديد.

وفَشَر ــــ أي كلامُكَ مليءٌ بالزور والبطلان ــــ تصلح لأن تكون ردًا على تهمة قِتالها، هي السيدة السبعينية ذات الجسد المنحني كعلامة سؤال، “أهل السنة” أجمعين. و”فَشَر” قد تكون ردًا على محاولة الرجُلَين الواقفَين أمامها اختزال “أهل السنة” بفعلتِهما وقولِهما.

وفَشَر قد تنطوي على رفض نفي التهمة: نحن مُتنا وأنتم ومن مثلكم قاتِلونا. لن تسلُبوا منا الجُثث. لن تسلُبوا روايتنا. لن تدفنوا معنا مشهديّة المذبحة. ولن تمحوا كل باب منزل فُتح لمُسلحين وأُزهقت خلفه الأرواح.

قيل في البطلان “ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل / وكلّ نعيم لا محالة زائلُ”. والبطلان هنا في البيت الشهير للشاعر الجاهلي، الصحابي لاحقًا، لَبيد بن ربيعة، ينطبق على كلّ ما دون الجوهر المطلق. 

نحن في حضرة هذا المشهد، وغيره مئات المشاهد، أمام بطلان روايات الجوهرانية المطلقة المتعلّقة بالطوائف، أي مقولات أن كلّ طائفة أو جماعة من البشر تنطوي على جوهر ثابت، ثمين تستحق معه الرفعة أو رخيص يُنزلها إلى أسفل درك.

فَشَر.

كلمة السيدة العجوز كانت تدحض سردية أُنفقت عليها أموال طائلة، ودُبّجَت في سبيلها آلاف الفتاوى. كانت كمن يقول إن الثورة هي لمن قام في سبيل انتزاع حرية من نظام متجبّر وتثبيت هذه الحرية كقيمة للسوريين دون تمييز. كمن يقول إن الحرب السورية بوصفها فعل انتقام، وما انطوَت عليه هذه الحرب من مآسٍ، لم تكن فعل بطولة قط.

“فَشَر” تصلح للجم اللسان السليط الردّاح. تصلح للردّ على كلام يلوكه مذيع على قناة تلفزيونية إذ يزعق “ألا يستحق العلويون الإبادة؟”، ثم يرفقه بعبارة “يقول أحدهم”، كمن يُبرّئ نفسه من إثمٍ تمامًا كحامل السلاح.

و”فَشَر” هي لمن ابتلع لسانه في حضرة الموت واحتفل بميلاد بلد جديد. “فَشَر” هي لمن حاول بألف طريقة طمس المعالم، لا بالقول “هم بدأوا” فحسب، ولا بالإحالة إلى عبارة “هم” و”نحن” الخادعة على الدوام فقط، بل بالقول هم لم يكونوا أصلًا. أو هم أصل البلاء. من مخيّمات اللاجئين في إدلب والشتات السوري إلى حوافّ سواحل الشام. “فَشَر” تفنيدٌ لمن يقول أو يوحي بأنّ أي جماعة ليست من هذه الأرض أو لا تستحق أن تكون.

“فَشَر”، بعدما أُطلقت في الهواء، باتت تحتمل ألف تأويل وتصلُح لأن تُلبَس ألفَ تفسير، كأي نص بليغ ينطوي على دلالات لا حصر لها. تمامًا كـ”معلِش”، حين قالها وائل الدحدوح أمام أفراد أسرته المُكفّنين، في الأيام الأولى لمذبحة المستعمِر الوحيد في منطقتنا، الدخيل الوحيد على هذه الأرض، بحق أهل غزة.

“فَشَر” باتت متحرّرة من فم السيدة السبعينية نفسها، التي ينحني جسدها كعلامة سؤال. رُميَت في الفضاء الرحب في وجهنا كصفعة كفٍّ مدوّ. رُميَت في وجه صمتنا، كعلامة تعجّب فارقة

أوان

————————–

====================

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 14 أذار 2025

————————

تركيا منزعجة وإسرائيل ضائعة: اليد الأميركية ترعى الشرع/ منير الربيع

الجمعة 2025/03/14

خفايا كثيرة لم تتوضح حتّى الآن حول اشتباكات الساحل السوري وخلفياتها. فإلى جانب الروايات العديدة التي أصبحت معروفة، تبقى هناك روايات أخرى، من بينها ما يرد عن دخول إيران بشكل مباشر على خطّ هذا الصراع، لأن طهران كانت قد علمت بمفاوضات جدية تقودها الولايات المتحدة الأميركية لإرساء تفاهم بين دمشق والأكراد، فجاءت معركة الساحل لقطع الطريق على أي مصالحة بين أحمد الشرع والفصائل الكردية. لكن ما يتضح أكثر هو حجم الاهتمام الأميركي بسوريا، والحفاظ على وضعية الشرع مع إعطائه فرص سياسية كثيرة. وما يمكن قوله باختصار، إن واشنطن هي التي وفرت كل مقومات الصمود للشرع، خصوصاً بعد معركة الساحل، وفي ظل المساعي المستمرة لإصلاح العلاقة مع الدروز.

غرفة عمليات

بالتزامن مع المعارك التي كانت قائمة في الساحل، كانت غرفة عمليات أميركية مهمتها مواكبة الملف السوري، تضغط في سبيل معالجة الكثير من الملفات العالقة، أولها معالجة العلاقة بين دمشق والأكراد، وبين دمشق والسويداء. وقد تركز العمل على خفض التصعيد بشكل نهائي بين دمشق وشمال شرق سوريا، بالإضافة إلى العمل على تهدئة الوضع في الساحل مع إعطاء هامش للشرع كي يحسم. شدد الأميركيون على ضرورة تجميد أي نشاط لبعض القوى العسكرية الموالية لتركيا، وخصوصاً “فرقة سليمان شاه” بقياد محمد الجاسم المعروف بلقب “أبو عمشة”. لا سيما أن الكثير من المجازر التي ارتكبت في الساحل السوري تتحمل مسؤوليتها هذه الفصائل، وخصوصاً “العمشات” و”الحمزات”. وقد اعتبر الأميركيون أن هذا سيؤدي إلى تفجير كل الواقع السوري، بالإضافة إلى إصرار الفرقتين على خوض المعارك ضد الفصائل الكردية ورفض الاتفاق. يتواصل الضغط الأميركي لإخراج هاتين الفرقتين من الساحل السوري بشكل كامل، وصولاً إلى العمل على حلّ الفصيلين. بينما في المقابل، هناك إصرار لدى الحمزة وأبو عمشة على البقاء في الساحل وعلى مواصلة القتال ضد الأكراد. وهذا يشير إلى إمكانية بروز توتر أميركي- تركي بسبب الاختلاف في المقاربات.

غطاء أوروبي

في الموازاة أيضاً، كانت هناك مفاوضات روسية سورية، أصبحت معروفة الآن بعد تصريح الشرع لوكالة رويترز حول التفاوض مع الروس على مسألة بقائهم في القواعد العسكرية في اللاذقية وطرطوس. هنا تتداخل الحسابات الجيوستراتيجية للدول على الساحة السورية. إذ أن الأوروبيين لا يعتبرون أن مصلحتهم تقتضي باستمرار السيطرة الروسية على الموانئ السورية. لذا، كانت هناك مواقف أوروبية واضحة تدعو الى الحفاظ على وحدة سوريا، ورفض حصول أي اهتزاز أمني أو عسكري. بدا ذلك وكأنه غطاء للشرع كي يحسم المعركة ويعيد السيطرة على الساحل. على الرغم من المواقف الأوروبية الواضحة التي كانت تشير إلى ضرورة حماية الأقليات ووقف ممارسة العنف، لكن الهم الأكبر هو عدم ترك روسيا هي المتحكمة بمنطقة الساحل، وتوفير الدعم للشرع كي لا يكون مضطراً للاستسلام إلى موسكو. هنا لا بد من التذكير بأن فرنسا تأخرت في إعلان الاعتراف بأحمد الشرع والترحيب بوصوله، بانتظار أن تضمن تجديد عقد شركة cma cgm في مرفأ طرطوس. وللمفارقة أنه في اليوم الذي جرى تجديد العقد صدر الترحيب الفرنسي على لسان الرئيس إمانويل ماكرون.

المصلحة الأميركية

على الرغم من هذه المواقف الأوروبية، تبقى هناك نقطة غير محسومة بالنسبة إلى الأوروبيين، وهي تتصل بالعلاقة الروسية الأميركية. إذ لم يتمكن الأوروبيون من تكوين تصور واضح حول حقيقة الموقف الأميركي من الوجود الروسي في سوريا. في المقابل، عمل الأميركيون على ممارسة ضغوط على إسرائيل لتخفيف حدة الضغط العسكري والسياسي على سوريا. فعلى الرغم من الالتقاء الأميركي الإسرائيلي استراتيجياً، هناك خلاف أساسي على طريقة إدارة الملف. ويعتبر الأميركيون أن ما يقوم به الإسرائيليون يهدد بتفجير المنطقة ككل على أساس طائفي أو عرقي أو قومي، وهو لا يصب في المصلحة الأميركية، وسط تركيز على حماية الاستقرار. لذلك، عملت واشنطن على تقديم مقترحين لمعالجة علاقة دمشق مع الأكراد ومع الدروز، مع توفير ضمانات أميركية للأكراد والدروز بعدم التعرض لهم من قبل دمشق، وتوفير كل الضمانات الأمنية لهم.

إصرار الأميركيين على تحقيق مصالحة دمشق مع الأكراد، يُعد مشكلة بالنسبة إلى تركيا، أو يندرج في سياق تضارب المصالح. أما إصرار الأميركيين على دعم الشرع ليتمكن من الحفاظ على السلطة في دمشق، مع ما يقتضيه ذلك من الوصول إلى اتفاق مع الأكراد، قد يُعد مشكلة بالنسبة إلى إسرائيل أيضاً، التي تقول منذ اليوم الأول إنها تسعى إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ. كذلك، هناك استنفار تركي إسرائيلي. ففي الوقت الذي تسربت فيه أخبار عن نية أنقرة بناء قواعد عسكرية في البادية السورية، كانت إسرائيل تسرب مشروعها للدخول من الجنوب السوري باتجاه السويداء ومنها إلى البادية وصولاً إلى شمال شرق سوريا، أي فتح خط مباشر مع الأكراد.

هنا تزايدت الضغوط الأميركية، من أجل عدم انفجار الوضع السوري بشكل كامل. وفي موازاة كل التضارب في الحسابات، يواصل الشرع نشاطه السياسي المتصل بتكوين السلطة، من إطلاق الإعلان الدستوري، إلى البحث في تشكيل حكومة على الأرجح ستكون من 22 وزيراً. وهو سيضم إليها وزيراً كردياً، وآخر مسيحياً، مع إمكانية انضمام وزير درزي. وذلك يتوقف على توقيع الاتفاق النهائي مع الدروز في السويداء، وهم ينقسمون بين من يؤيد ويتحمس لتوقيع الاتفاق ومن لا يزال يتريث، فيما تتواصل المساعي الأميركية لإنجاز هذا التفاهم، والذي سيكون عبارة عن اعتماد مبدأ اللامركزية الموسعة، بما تتضمنه من احتفاظ كل منطقة بفصائلها وبنوع من اللامركزية الضرائبية أو المالية، بما يرضي هذه المكونات.

ما تريده إسرائيل

إسرائيل حتى الآن لا تبدو أنها تتمتع بقناعة واضحة أو برنامج لما تريده في سوريا، هناك ما يشير إلى ضياع إسرائيلي في كيفية التعاطي مع الملف السوري، وما إذا كانت تريد لسوريا أن تكون مستقرة على سلطة أساسية في دمشق مع توسيع هامش اللامركزية بالنسبة إلى المناطق الأخرى، على أن يكون ذلك مقابل دخول الشرع في مفاوضات سياسية أو ديبلوماسية معها، قد يكون الهدف منها الوصول إلى اتفاق. أم أن مصلحتها تقتضي بقاء حالة انعدام الاستقرار والصراعات الداخلية في سوريا، كي تشغلها عن التأثير في الساحات الأخرى.. أم نسج تفاهمات مع دمشق مقابل ضمان عدم التسبب بأي اهتزاز للاستقرار على الحدود مع إسرائيل، وبضمان ضبط الحدود اللبنانية، ومنع أي شكل من أشكال تهريب الأسلحة أو الأموال لحزب الله. أم أن إسرائيل تريد تكريس أمر واقع سياسي بالاستناد إلى ما حققته عسكرياً، من خلال عملية القضم العسكري والجغرافي، والاحتفاظ بما سيطرت عليه، أم أنها تريد الوصول إلى اتفاق سلام مع دمشق مع تخلي الأخيرة كلياً عن الجولان. بالنسبة إلى سوريا، فما تريده هو العودة إلى اتفاقية فض الاشتباك في العام 1974، ولا يريد الشرع الدخول في اتفاق سلام، ولا يريد التنازل عن الجولان.

تركيا وإيران

أما تركيا، فهي تعتبر نفسها متضررة من الاتفاق بين دمشق والأكراد، فهي لم تكن شريكة بما جرى، ولا تزال أنقرة تشدد على ضرورة حلّ الفصائل العسكرية الكردية، ولا توافق على اندماج هذه القوات ضمن التشكيلات السورية الجديدة. هذه التطورات، دفعت بوزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإجراء زيارة إلى دمشق، لمناقشة كل الملفات. لكن بوادر عدم الاتفاق تظهر من خلال تراجع لدى “العمشات” و”الحمزات” عن الاستعداد لحل نفسيهما عسكرياً والانضواء ضمن التشكيلات السورية، علماً أن هذين الفصيلين يصران على مواصلة القتال ضد المجموعات الكردية.

إيران في هذه المعادلة، تبدو الطرف الأضعف والأكثر غياباً. فهي ربما أرادت استغلال أي فوضى في سوريا، من أجل إعادة فرض نفوذها وفتح طرق الإمداد العائدة لها. وهو ما حاولت التقاطع عليه مع روسيا من خلال أحداث الساحل. تلك الأحداث التي تعتبر دمشق أنها أجهضتها وقد حصلت على دعم دولي وعربي لذلك. حسابات إيران، سورياً، ولبنانياً، لا بد لها أن تنعكس على حسابات إسرائيل. فإن كانت تل أبيب تريد استمرار الفوضى في سوريا لتمرير مشروعها وتحقيق أهدافها، لا بد لها أن تنظر بعين أخرى إلى أن طهران وحدها الجاهزة للاستثمار في هذه الفوضى وإعادة ترتيب مشروعها. في دمشق، ثمة من يقول إن الحسم في ذلك سيكون بيد الأميركيين وما يتوصلون إليه مع إيران، إما تصعيداً أو تفاهماً. ولكن على الرغم من كل التحديات والمخاطر، يبقى المسؤولون في دمشق يعبرون عن ارتياحهم لمسار الأمور، وللموقف الأميركي.

المدن

—————————

جدلية الأمن والسياسة في سورية/ حسين عبد العزيز

14 مارس 2025

أن تشنّ عصاباتٌ من فلول النظام البائد هجوماً عسكرياً مباغتاً في الساحل السوري على قوات الأمن والجيش فهذا ليس مفاجئاً من مجموعة ما تزال ترتبط أيديولوجياً ونفسياً وطائفياً بنظام الأسد، ولها مصلحة مباشرة بإسقاط نظام الحكم الجديد. وأن تخرج في السويداء مظاهراتٌ مندّدة بسياسات الإدارة الجديدة، تنتهي بإنزال العلم السوري، ورفع الراية الدرزية في محلّه، لم يكن مفاجئاً، إذ تصرّفت بعض فئات اجتماعية، منذ بداية الثورة السورية عام 2011، على أساس هُويَّاتي ضيّق. غير أنه لم يقتصر على أقلّيات، بل برز ايضاً بين الأكثرية، والمقصود هنا رجالات الأمن والجيش الجديد من الطائفة السنّية، الذين ارتكبوا إعداماتٍ ميدانيةً في الشوارع لأشخاص عزّل مدنيين.

ليس مهمّاً من الناحية المعرفية التساؤل ما إذا كانت الأقلّيات ما تزال تفكّر وتعمل على أساس هُويَّاتي، خصوصاً في اللحظات التاريخية الفارقة، حين يكون الاجتماع السياسي مهدّداً، أو مضطرباً وغير واضح المعالم، بل إن التساؤل عن أسباب سلوك الأقلّيات مسلكاً هُويّاتياً يغدو عبثياً لا قيمة معرفية له، في ظلّ مجتمع ودولة قاما (عقوداً خلت) على أساس عمودي، لا مواطنة فيه. يكون السؤال معرفياً حين يُطرح على الشكل التالي: ما هي الأسباب التي دفعت علويين في الشمال الغربي من سورية إلى البدء بعمليات عسكرية، بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام الأسد، وتشكّل إدارة حكم جديد؟… وهو سؤال ينطبق أيضاً على مناطق درزية؟ وربّما لاحقاً على كردية؟… لا تكفي الإجابة عن هذا السؤال اعتماداً على تباين الهُويَّة الاجتماعية: طوائف منفتحة ومتحرّرة اجتماعياً في مقابل منظومة حكم إسلامية منغلقة اجتماعياً يمكن أن تفرض رؤيتها على الجميع. كما لا تكفي الإجابة اعتماداً على التنافر الهُويَّاتي والأيديولوجي أيضاً بين الطرفَين، فمن نافلة الفعل الطبيعي أن تُعبّر الأطراف عملياً عن رؤيتها، محمولة بحمولات سياسية أو اجتماعية أو طائفية.

السؤال المهم: ما الذي دفع فلول النظام إلى الانتقال من حالة القوة إلى حالة الفعل، وما الذي دفع دروزاً إلى رفع علمهم الخاصّ بدلاً من العلم السوري؟… هنا جوهر المسألة، فالنزعات الذاتية المحكومة بأيديولوجيات ورغبات نفسية ومشاعر طائفية موجودٌ دائماً ولا تختفي بسهولة، لكنّها، وإن كانت شرطاً للتحرّك والفعل، فإنها ليست سبباً مباشراً لذلك. لقد كان للسلوكات الفردية للعناصر الأمنية والعسكرية في الإدارة الجديدة، من جهة، وغياب آلية حوار سياسي مع قيادات المكوّنات الاجتماعية السورية، خصوصاً مع أبناء الطائفة العلوية، من جهة أخرى، دورٌ رئيسٌ في استمرار المخاوف لدى الأقلّيات.

كشفت الأشهر الثلاثة الماضية من حكم الإدارة الجديدة افتقادهم فهماً للعلاقة الجدلية بين الأمن والسياسة، خصوصاً في المراحل الخطيرة أو الانتقالية. تعامل الحكام الجدد في الملفّين الأمني والسياسي من منظار أحادي الجانب. صحيحٌ أن سيطرتهم على الحكم جاءت بأقلّ التكاليف الدموية، وصحيحٌ أنهم أعلنوا من اليوم الأول انفتاحهم على جميع المكوّنات السورية باعتبار أفرادها مواطنين سوريّين، وصحيحٌ أنهم أعلنوا أنهم لن يتعرّضوا إلا لمجرمي النظام السابق، إلا أن بناء الدول لا يقوم على التطمينات والخطابات السياسية العامّة.

في الملفّ الأمني، تعاملت السلطة الجديدة وفق حكمٍ شديد المركزية، فأعلنت أن جميع المليشيات يجب أن تحلّ نفسها وتنخرط في الجيش الجديد أفراداً لا مجموعاتٍ، وليس مقبولاً بقاؤها على هذا النحو. وعلى الرغم من صحّة الدعوة نظرياً (إذ هكذا تُبنى الجيوش الحديثة على أساسٍ فرديٍّ لا على أساس مكوّنات اجتماعية لها صبغة هُويَّاتية معيّنة)، لكن الواقع السوري المتمثّل بوجود قوىً عسكريةٍ ذات لون هُويَّاتي خاص، ولها وزنٌ وارتباطاتٌ إقليمية ودولية، كان يحتم قبول دخولها في الجيش فصيلاً قائماً بذاته في المرحلة الأولى من بناء الدولة، على أن يتم لاحقاً (وخلال سنوات) عملية انصهار تدريجية داخل الجيش، وهذا ما حدث في بعض التجارب التاريخية، فالأولوية الرئيسة في مراحل الانتقال المفصلية، هي عملية بناء الثقة والاندماج في مؤسّسةٍ عسكريةٍ واحدة، بغضّ النظر عن طريقة توزّع الأفراد والجماعات فيها، فلكلّ تجربة خصوصيتها التاريخية.

في الملفّ السياسي، تعاملت الإدارة الجديدة بمركزية شديدة أيضاً، فقامت بخطوات غير مدروسة عبر تشكيلها حكومة من لون واحد، ولجنة حوار وطني، ثمّ لجنة للإعلان الدستوري. والغريب أن سلوك السلطة السياسي في هذا المجال كان يتحرّك وفقاً لمعطيات الخارج، لا الداخل، بمعنى أن هذه الخطوات كانت موجّهة إلى المجتمع الدولي من أجل الحصول على دعمه السياسي والاقتصادي، ولم تكن مبنيةً تماماً على اهتمامات فرقاء الداخل السوري. يبدو من المعطيات القائمة، أن إدارة أحمد الشرع لم تدرك العلاقة الوثيقة بين الأمن والسياسية، فلا تتحقّق الأولى من دون الثانية، فالبداية يجب أن تكون سياسيةً، وما إن يتمّ التوافق السياسي بين فرقاء الوطن حتى تصبح المسائل الأمنية والعسكرية والاقتصادية تحصيل حاصل.

من هنا، الأولية الجوهرية لبناء سورية الجديدة، وللحيلولة دون انزلاق الأمور إلى فوضى تهدّد البلد بأكمله، وعلى الرئيس وإدارته العمل بجدّية على ضمان التوافق مع المكوّنات السورية كلّها، حتى لو اضطرّ، في هذه المرحلة، إلى تقديم تنازلات عسكرية وسياسية، فمن دون نشوء ثقة وطنية بين الجميع، تبدو سورية متجهةً إلى المجهول. إنجاز هذه الأولويات مهمة الدولة الجديدة بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مهمة الآخرين، شركاء الوطن.

العربي الجديد

————————–

سورية… الجريمة وتداعياتها/ حسام كنفاني

14 مارس 2025

لا يمكن وصف ما شهده الساحل السوري في الأيام القليلة الماضية إلا بأنه جريمة مكتملة العناصر، طاولت مدنيين آمنين في حملة انتقامٍ طائفيةٍ لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها، وفي المقدمة تأتي السلطة الجديدة برئاسة أحمد الشرع التي أقرّت بحصول “انتهاكاتٍ” من عناصر محسوبين على هيئة تحرير الشام، من المفترض أنهم باتوا أفراداً في الأجهزة الأمنية الجديدة، وشكّلت لجان تحقيق للتدقيق بما حدث ومحاسبة المتورّطين.

كثير من السرديات خرج لشرح  الجرائم (وتبريرها) باعتبارها وقعت من “أفرادٍ غير منضبطين”، وأن لا علاقة مباشرة لـ”الأمن العام”، وهو المسمّى الجديد للقوى الأمنية التابعة للهيئة. غير أن حجم الاعتداءات والإعدامات في عديد من مدن الساحل السوري وقراه يؤكّد أن الأمر أكبر من “أعمال فردية”، ويقترب من العمل الانتقامي المنظّم، خصوصاً إذا ما نظرنا إلى عدد القتلى الذين سقطوا، وسيتكشف مع الوقت. فرغم أن عدد الضحايا الموثقين لا يزيد عن الألف، تتحدّث تقديراتٌ عن أن العدد قد يتخطّى خمسة آلاف.

وحتى لو افترضنا أن كل ما حدث كان نتيجة انفلات عناصر لا تُدين بالولاء الكامل لهيئة تحرير الشام أو الأجهزة الأمنية الجديدة، فذلك لا يُعفي السلطات من المسؤولية، خصوصاً أن هذه العناصر عملياً تعمل تحت لواء السلطة، بعد قرار حلّ الفصائل وإدماجها ضمن الأجهزة الأمنية الجديدة، وهو ما أدركه النظام بإعلانه تشكيل لجنة التحقيق، والتي نأمل أن تكون جدّية في المحاسبة والعقاب.

ما جرى يحمل مخاطر وتداعياتٍ كثيرة على سورية الجديدة التي كنّا متفائلين بنهوضها بعد أكثر من 50 عاماً من حكم حزب البعث. بداية التداعيات داخلية، وتطاول، بالدرجة الأولى، الفئات التي تعتبر نفسها أقليةً في النسيج السوري، التي لم تعد تشعُر بالأمان في محيطها، وهو ما يفتح باباً للتدخّلات الخارجية في الوضع السوري. وفعلاً خرجت مطالباتٌ كثيرة بالوصاية الدولية لحماية “الأقليات” في سورية. ويضاف إلى ذلك المحاولات الإسرائيلية، السابقة لأحداث الساحل، لاختراق المجتمع الدرزي السوري من باب “الحماية”. مثل هذه المحاولات المتوقع أن تتضاعف، وقد تجد لها آذاناً أكثر إصغاء في هذه المرحلة.

واضحٌ أن السلطات الجديدة تدرك ذلك، وسارعت إلى محاولة احتواء الأمر وتطمين أطياف المجتمع. ولعل الاتفاق الذي وقّعه الشرع مع زعيم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، غير أن العبرة في التطبيق، وخصوصاً أن العناوين في الاتفاق عامة جداً، ومن شأن عدم الاتفاق على تفاصيلها إفشال أي تفاهمات، سواء بالنسبة إلى كيفية دخول قوات “قسد” في الجيش، أو نسبة توزيع النفط بين المحافظات، وغيرها نقاط كثيرة ستدرسها اللجان على مدى عام.

لا تقلّ التداعيات الخارجية لأحداث الساحل أهمية، سيما أن السلطة الجديدة تعوّل بشكل أساسي على انفتاح الخارج عليها لمحاولة ترميم الواقع الاقتصادي المنهار في الداخل. لم تعفِ المواقف الغربية من جرائم الساحل السلطة من المسؤولية، ما من شأنه أن ينعكس على أي تقدّم محتمل في خطوات رفع العقوبات عن سورية، والسماح بتدفق الأموال إليها. ولا شك أن تقارير ستصدُر قريباً عن منظمّات حقوقية دولية تفند الوضع وتوثق الأحداث، ما قد يزيد تعقيد الموقف الدولي من النظام والانفتاح عليه والثقة به.

السلطة الجديدة اليوم في موقف حرج، فعدم رفع العقوبات والتخفيف من الفقر يعني مزيداً من التوترات الداخلية، لذا عليها اتخاذ خطوات أكثر جدّية في مكافحة آفة الطائفية في الداخل السوري قبل استفحالها، وإثبات أنها جديرة بالثقة في قيادة سورية إلى برّ الأمان، وليس إلى الهاوية، في هذه المرحلة الانتقالية.

العربي الجديد

————————

عن هامشيّتنا وحرّيتنا والخيارات الضيّقة جداً أمام “الجميع”/ شكري الريان

14.03.2025

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

كانت الكاتبة اللبنانية دلال البزري، هي أول من طرح السؤال المتعلق بمدى ارتباط حريتنا كمثقفين بهامشيتنا. أظن هذا على حد معرفتي، وأعتقد أن الفترة التي نُشر فيها مقالها، أو مداخلتها المتعلقة بهذا الموضوع، في واحدة من كبريات الصحف العربية، كانت في نهاية التسعينات، أو بداية الألفية الجديدة. وغالباً تم النشر، ومن خلال ندوة ما عقدت حول هذا الموضوع، في واحدة من الصحيفتين الرئيسيتين اللتين كنت أتابعهما آنذاك: السفير أو الحياة.

لم أنس المقال، وموضوعته الرئيسية، طيلة تلك السنوات، لأنه كان يتعلق بخياراتي الشخصية، في ذلك الوقت، وكل وقت. وأظنه كذلك يتعلق بخيارات أي مثقف عربي، ابتُلي بالعيش في ظل نظام ديكتاتوري شديد التوحش، عندما يتعلق الأمر بتجاوز الخطوط الحمراء التي تبقي ذلك النظام جاثماً فوق أنفاس الجميع.

بالنسبة إلي، في ذلك الوقت، وكنت أنهي ثلاثينياتي، كان يفترض بسؤال كهذا أن يكون قد عفى عليه الزمن. إذ بات من المستحيل، على أي سوري، أن يعيد التفكير في خيارات، كانت محدودة جداً، طيلة سنوات القهر التي بدأت فعلياً، حتى قبل أن يستولي الأسد على السلطة. ولكني، وكأي مبتلى بتلك التي يسمونها في سوريا “السوسة”، وكانت “سوستي” هي الشأن العام الذي لم أعرف كيف ابتعد عنه، ولو من باب الفضول، ما كان أمامي من بد سوى الإمعان في التفكير حول تلك “الخيارات” التي كنت أعرف سلفاً أنني كنت مجرداً منها أصلاً، ومنذ مطلع شبابي، حيث كان طموحي الشخصي يدور في فلك ما يمكن للعملية الإبداعية، أياً كان شكلها، أن تمنحه من قيمة مضافة لحياة، هي أقرب إلى الموت منها إلى أي شيء آخر.

كان الأمر برمته مؤلماً جداً، لشاب يعرف سلفاً أنه لو أراد أن يجد لنفسه طريقاً، فعليه أن يجد “راعياً”، ويمتثل لشروط ذلك الراعي، بحيث يخرج بنتيجة هي أسوأ من تلك التي يعيشها فعلاً، وهو خارج “أسوار” أية مؤسسة، يمكن أن تحويه وأسئلته معه.

عن سبل النجاة بين الهامش والمتن

هامشيتي، طيلة السنوات التي سبقت طرح السؤال أعلاه، ولحقتها، لم تكن عسلاً من الحرية، بقدر ما كانت عذاباً مقيماً، لأبقي على الحد الأدنى من طموحي الشخصي، في مواجهة حياة، لم تكن أبداً تشبه الحياة، في ظل البؤس والخوف اللذين تقاسمهما جميع السوريين، وكل العرب، وإن بدرجات متفاوتة، في ظل ذلك الكابوس الذي مثله نظام الاستبداد، أياً كان البلد الذي يهيمن عليه.

كان الأمر أشبه بمن يحاول أن يسرق شيئاً، على حساب أشياء أخرى، أكثر ضرورة وإلحاحاً، فقط ليقنع نفسه بأنه ما زال يتنفس. في الوقت الذي شهدت فيه، كغيري كثر، بعض أقراننا وهم “يمضون” في طريق “نجاحهم”، محوّلين الأثمان التي دفعوها، ومن حريتهم بالذات، إلى امتيازات لا تقبل الجدل.

لا أقصد الجميع بالتأكيد، وبالذات أولئك الذين تمكنوا من تقديم إضافات فعلية، من أبناء الأجيال التي سبقتنا، ومن أبناء جيلي، من دون أي تنازل عن حريتهم. ولكن أكثر أبناء جيلي، السوريين بالذات، ممن دفعوا أثماناً حقيقية من أعمارهم، وفي السجون غالباً، لم ينجُ لنقول بأن الثمن جدير بأن يدفع. بعضهم أفلت من تلك الخاتمة السوداء، أي الغياب الكامل- الهامشية في أسوأ حالاتها وأكثرها ظلاماً، أفلتوا بفعل عناد ومثابرة مشهودين، مضافاً إليهما بعض الحظ الذي مكنهم من أن يصلوا في النهاية إلى ممارسة ما تيسر لهم من أي قدر من الحرية، وتمكنوا من تقديم إضافاتهم التي بقيت نادرة كندرة مسار كان يجب أن يكون هو المتن، فتحول إلى هامش بدوره، فقط لتضيق مساحة الأمل في وجوه بقيتنا.

بقي “المتن” تماماً كما كان دائماً، على رغم بعض اللمعات التي كانت تظهر فقط لتؤكد ندرتها أكثر من أي شيء آخر. وبقي السؤال معلقاً دائماً: كيف يمكنني كمثقف، أن أقدم ما عندي، في ظل حالة تفرض علي، إن أردت المضي في خياراتي إلى نهاياتها، أن أبقى دائماً في ذلك الهامش؟! الذي، وإن استثنينا السجون من ضمن مساحته، فلن يبق منه الشيء الذي يمكن أن يعول عليه ليحتويك ويحتوي أحلامك معك، إلا اللهم إن كنت من عشاق الكلام مع النفس، حتى ولو كان مدخلاً موثوقاً إلى الجنون.

الآن، وبعد كل هذه السنوات، يعود السؤال نفسه ليطرح نفسه عليّ، في مواجهة وضع غير مسبوق، وغير متوقع نهائياً، هو ذلك الذي نعيشه في سوريا حالياً.

بالنسبة الى السوريين، وبالاستناد إلى الوضع الذي خلقته ثورتهم ضد الطغيان، وأدى إلى فرار الطاغية، هناك نوعان من الهامشيين: أولئك الذي بقوا داخل البلاد، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار منها. لو استثنينا حملة البنادق، المتمترسين دائماً في المتن، فهذا يعني أن الباقين في الهامش هم السوريون بسوادهم الأعظم.

كان المأمول، وبعد فرار الطاغية، أن يستعيد السوريون، الهامشيون، جزءاً من فعاليتهم، ويتقدموا باتجاه المتن، ليساهموا في تقرير مصير بلادهم، حسب الإجراءات المتبعة في أي مكان في العالم، بعد سقوط الديكتاتور. ولكن هذا لم يحدث.

ليست مجرد “مؤشرات” ما تقول هذا، إنها وقائع، وترتيبات، وقرارات، وبنى، وممارسات وصلت درجة الإبادة الممنهجة، كما حدث في اليومين الأخيرين في قرى الساحل السوري، هي نفسها ممارسات النظام البائد، لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

لا تزال “البنية الأمنية العسكرية” فاعلة، ومقررة، وتحتل المركز في بنية النظام الجديد، بل هي نفسها من نصبت الرئيس الجديد، من دون الحاجة إلى انتخابات، حتى ولو شكلية! تلك البنية التي انتقدها الراحل طيب تيزيني بشجاعة لافتة في… مؤتمر حوار وطني آخر! ولكنه عقد في ظل الطاغية، ومع ذلك لم يتوان التيزيني عن الإشارة إلى أس الخلل في البلاد كلها. الأمر الذي أكسبه نقمة النظام، ومحبة كل السوريين. هذه “البنية الأمنية العسكرية” لا تزال موجودة حتى الآن، وكل الذي تغير هو طائفة باروناتها فقط، وطائفة ضحاياها أيضاً!

في ظل بنية كهذه، عدنا جميعاً، أياً كان مكان سكنانا، إلى الهامش مرة أخرى. هذا ينطبق على سوريي سوريا، وسوريي المنافي، بمن فيهم سوريو الغرب.. مع فارق، أن الأخيرين هم الأكثر حظاً بين الجميع، أقله، يمكنهم ممارسة هامشيتهم من دون الخوف من الإكراهات التي عاشوا في ظلها طيلة أعمارهم في سوريا الأسد، بعيداً عن قبضة تلك “البنية الأمنية العسكرية”.

وكما يبدو واضحاً، خصوصاً خلال الأيام الأخيرة، فإن تلك الإكراهات لن تزول عن كاهل سوريي سوريا، بما فيها الخوف من بطش النظام الجديد، الذي أبدى شهية، ليس فقط للسطوة والسيطرة، بل إن شهيته وصلت درجة الإبادة؛ أو، كأضعف الإيمان، التغاضى عن تلك الإبادة محيلاً الارتكابات إلى “أخطاء وتجاوزات فردية”، كما ظهر لدرجة تقارب الفضيحة.

والنظام الحالي، فوق هذا كله، مزود بماكينة مدافعين عن كامل سياسته، كائنة ما كانت! ماكينة أكثر حماسة، وديناميكية، وسعة، وخبرة أيضاً، بكثير من ماكينة النظام السابق، بالاستناد إلى “شرعية” جديدة، يراها البعض “ثورية”؛ ويراها آخرون مستندة إلى “مظلومية سنية”، التي وبرغم أنه لا يمكن إنكار فظائعها، إلا أن طريقة استثمار النظام الجديد لها تصل إلى حدود الاستقطاب الشديد، في وضع يصبح فيه هذا الاستقطاب صبَّاً للزيت على النار، فقط لتأمين قاعدة شعبية حصرية له. كما لحظنا خلال الأيام الماضية، حيث خطاب الشحن والمظلومية، بلغ ذروة غير مسبوقة، فقط للتغطية على مذبحة أخرى، أو، في أحسن الأحوال، لتبرئة النظام القائم منها!

وهناك من يخلطوا الشرعيتين، “الثورية” و”المظلومية السنية”، ليخرجوا بـ “شرعية” بنكهة أقوى.

بلاد على قارعة الطريق

في هذا الهامش، أعود لمواجهة السؤال نفسه الذي لم ينفك يطرح نفسه عليّ، ولكن هذه المرة وأنا أعيش حالة لا تفرض أي تردد أو تراخٍ، أو استسلام لقدر أعمى، كذلك الذي كان طاغياً خلال سنوات الأسد السوداء. وما يزيد الأمر إلحاحاً، هو التطورات المتسارعة، في بلاد تعيش في حالة اضطراب لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تقود الجميع.

“يمكنك أن تقول كلمتك إلى النهاية، من دون أي خوف من أي شيء،” أقول لنفسي، ولكن لا ألبث أن أجد نفسي مواجهاً بسؤال آخر: “وماذا عن أولئك الذين علقوا داخل سوريا؟! أية قيمة، لأية كلمة يمكن أن تقال، صدقاً أو كذباً، إن لم يقتنع هؤلاء بالذات بها، بحيث تصبح، وعبرهم هم قبل أي أحد آخر، موضع إجماع لا يمكن إنكاره من أية جهة كانت، حتى ولو امتلكت أسلحة العالم كله”. للمناسبة، ليست السلطة الحالية في سوريا وحدها من يمتلك السلاح… هناك إسرائيل أيضاً، وهناك… وهناك… 

في نص موجع لأبعد درجة يمكن تخيلها، كتبت الروائية السورية سمر يزبك، انطباعاتها عن زياراتها الأولى لدمشق بعد سقوط الطاغية. يزبك كانت من أوائل الذين توجهوا إلى سوريا، بعد أيام فقط من فرار الأسد. وهناك، انفتحت أمامها الفاجعة على مصراعيها، وعبرها شاهدنا بعضاً من هول ما كان الطاغية قد أغلق عليه الباب بإحكام: الإذلال بكل معانيه، في بلد تركت، تقريباً بالكامل، على قارعة الطريق.

رجال ونساء وأطفال، لا يجدون مصدر رزق لهم سوى التسول! هذه واحدة من صور عدة، وإن كانت أشدها إيلاماً، للهول السوري وقد انفتح أمام العالم كله. أشدها إيلاماً، لأن البديل الأكثر هولاً، لهؤلاء، فيما لو طالبوا بأكثر من قارعة الطريق، هو سجن صيدنايا الرهيب، أو مذبحة مفتوحة في الهواء الطلق، ومتنقلة على كامل الجغرافيا السورية. هذه كانت حالنا… وللأسف، لا تزال.

البحث عن الأمل في غابة الوحوش!

“ولكن، وبعد السقوط، هناك فارق مهم، اسمه الأمل. طالما أشد طغاة العالم، قسوة وعتهاً، قد رحل، فلا بد أن يكون هناك مكان للأمل. من دونه لا يمكن لأولئك أن يغادروا قارعة الطريق، ولو حتى عبر خيالهم”، يقول لك زائر آخر لدمشق.

لا معنى للأمل، من دون طريق واضح إليه. هذا ما تحاول السلطة الحالية في دمشق أن تمحوه. ليس الأمل، فهو مفيد لهم في هذه الظروف، ولو لشراء الوقت لتثبيت سلطتهم. ما تحاول محوه هو الطريق نفسه.

والحال هكذا، لا بد من المضي في طريق الكلام الصريح إلى نهايته، وبحدود هامش يبدو أننا، أولئك المصرّين على الكلام الصريح، لا نجد بداً من توسيعه، حتى لا يقتصر على سجن، أو مستشفى مجانين. وهذا ما تحاول السلطة، أية سلطة، في أي زمان ومكان، أن تفرضه في هامش تريده تحت قبضتها، تماماً كالمتن الذي رسمته بحد الخوف.

ولكن الهامش مخيف أيضاً بدوره، لأولئك الذين يجهلونه. فمن يجهل شيئاً، يصبح هذا الشيء عدواً له. نحن، سكان الهامش الأزليين، نعرف هامشنا جيداً. نعرف كيف نتحرك، نختبئ، ونظهر، ونباغت، نقول كلمتنا، كما القنبلة، في مكان، لنعود ونهاجم من مكان آخر.

الطاغية لا يعرف الهامش، أبعده عن نظره، ولو إلى حين. ولكنه بقي يشعر بمكمن الخطر فيه. ولو أراد استتباعه، إن استطاع، لما عاد هامشاً أبداً، وصار جزءاً من السجن الكبير الذي أرخى بظلاله تماما على المتن. لذلك، يبقى الهامش، هامشياً، بمعنى فالتاً من قبضة الطاغية. ولذلك أيضاً، فهو المكان المتاح لنا، لنمارس حريتنا، بانتظار أن يسمعنا من لن يخسروا إلا بؤسهم، فيما لو قرروا أن يلحقوا بنا، بعيداً عن متن لم يترك لهم إلا قارعة الطريق، أو الموت في السجون، أو في المذابح. 

ولكن، هل محاولة كهذه جديرة بأن تخاض، وهي لا تمتلك أكثر من أثرها الصوتي… كقنبلة صوتية ليس أكثر؟! هنا المشكلة بالنسبة الى الطغاة، وهنا ميزتنا التي لا ننفك، من فرط ضعفنا، نصدق أننا نمتلكها. الكلمة ليست مجرد قنبلة صوتية. إنها بدء التكوين نفسه.

ولهذا، الهامش هو بيتنا، و”غابة الوحوش” التي يخشاها كل الطغاة، إلى أن نعود إلى مكاننا الطبيعي… المتن، الذي سنعيد تشكيله على قياس أحلامنا.

 – كاتب فلسطيني سوري

درج

———————–

حين يكون الحقّ طائفياً/ رشا عمران

14 مارس 2025

أن تكون ضدّ الظلم وضدّ سفك الدماء وضدّ الانتهاكات هذا موقف إنساني وأخلاقي، وواحدٌ من بديهياتٍ لا يجوز النقاش فيها أبداً. كان هذا موقفي منذ أوّل لحظة في الثورة السورية التي بدأت عام 2011، ويعتبر بعضُهم أنها انتهت مع فرار بشّار الأسد، وبدأ الآن بناء الدولة السورية. لم يكن ما يحدث وقتها يحتمل عندي أيّ شكّ في ضرورة الوقوف مع الثورة ومساندتها بكلّ ما يمكنني. ما كان يفعله النظام وقتها جريمة كاملة لا مواربة فيها، ولا تحتمل الشكّ. ولم أتردّد لحظةً في تصديق كل ما كنت أسمعه من الضحايا أينما كانوا، فقد رأيت بأمّ عيني نوعيةَ الجرائم التي كان نظام الأسد لا يتورّع عن ارتكابها. وفي الوقت نفسه، لم أصدّق حرفاً من أنواع التبريرات كلّها، التي كان النظام يتذرّع بها في حربه ضدّ السوريين، وتبنّاها أيضاً كثيرون من أقاربي وعائلتي.

لم أكن أملك لمؤازرة الضحايا سوى كلمتي. لهذا لم أتوقّف لحظةً عن فضح جرائم الأسد، وفضح ممارساته التي ترسّخ الطائفية في سورية وتعزّزها، وتؤسّس لخراب مقبل. لم أوفّر وسيلةً واحدةً لهذا. كتابة مقالات، كتابة منشورات في صفحتي في “فيسبوك”، ظهور إعلامي ومقابلات في الفضائيات العربية والعالمية. فعلت هذا وأنا في الداخل السوري قبل أن يطلب مني رسمياً مغادرة سورية في نهاية 2011، سورية التي لم أعد إليها، تاركةً خلفي عائلةً وأصدقاءَ ومشاريعَ وأحلاماً، بقيت وقتاً طويلاً مؤمنةً أنني سوف أعود إليها. لهذا، ربّما لم أسعَ للحصول على جنسية دولة أخرى، كنتُ سوريةً وقرّرت أن أبقى سوريةً إلى آخر لحظة في حياتي، حتى لو لم تتح لي فرصة العودة.

مقابلات وكلام جميل ومطمئن، يبشّر بسورية عادلةٍ رغم الصعوبات كلّها (قدّمتها السلطة الجديدة بعد التحرير)، استبشر بها خيراً السوريون كلّهم، بمن فيهم الخائفون من التغيير ممن زرع نظام الأسد في وجدانهم الجمعي أنهم سيتعرّضون للذبح في حال رحيله. كان كلام السلطة الجديدة عن سورية التي ستكون لجميع أبنائها كافياً لإزالة المخاوف، أو على الأقلّ تحييدها واستعادة الثقة بالمواطنة بين الخائفين والوطن.

ولكن يبدو أن تركة الأسد كانت أثقل بكثير ممّا توقّعنا. هكذا، فجأة صحا السوريون، بعد ثلاثة أشهر من التحرير، على مجازر تُرتكب في الساحل السوري، لا صفة لها سوى المجازر الطائفية، بعد إعلان نفير جهاديّ في الجوامع لمساندة الفصائل التي تقاتل الفلول في الساحل، لنكتشف صباح اليوم التالي أن مجازر جماعية ارتُكبت بحقّ مدنيين علويين في مدينتي بانياس وجبلة وريفهما، مجازر لا شبيه لها سوى مجازر الأسد، بالأسلوب نفسه وبالطائفية نفسها، وبالثقة نفسها في تصويرها ونشرها في وسائل التواصل، تفاخراً بهذا الانتصار العظيم. وكعادة منظومة الأسد، حُمّل الفلول والعناصر غير المنضبطة مسؤولية المجازر. حرفياً، قتلٌ على الهويّة، نهب الممتلكات وسرقتها بالكامل، حرق قرى بأكملها، إذلالٌ متطابقٌ مع طريقة النظام السابق، عشرات الآلاف مشرّدون في البراري والجبال محاصرون ممنوعون من العودة وممنوعون من الطعام والشراب والدواء حتى للأطفال. كانت المجازر تنتقل من قرية إلى أخرى، وكُثرٌ من مثقّفي الثورة السورية، ممن كانوا رفاق درب ذات يوم، يمرّون عليها مرور الكرام أو يتّهمون الفلول بها أو يتهموننا بالطائفية لأننا نكتب عنها.

لا وصف للخذلان الذي شعرتُ به من موقف بعض أصدقاء من المثقّفين السوريين الصامتين عن هذه المجازر التي تشبه الفضيحة. كنتُ أظن أن تنديدهم بها وتوجيه الاتهام إلى المجرم الحقيقي بديهية تشبه بديهية الوقوف ضدّ نظام الأسد وجرائمه. ولكن يبدو أن ما حدث خلال السنوات الماضية عمّق حالة الشرخ لدى مثقّفين سوريين كثيرين في فهمهم للحقّ، وفي مفهوم الهُويَّة أولاً، لم تختلف هُويَّتهم عن هُويَّة الغوغاء المنقادين خلف نفير جهادي، وهم يصيحون “بالذبح جيناكم”، سوى بقدرتهم على خلق أعذار لمواقفهم المخزية، التي يؤكّدون من خلالها أن ثورة أخرى في سورية يجب أن تحدث، بعد أن طوت الهُويَّة الطائفية صفحة الثورة الأولى إلى الأبد.

العربي الجديد

—————————

«أحداث» لا تنتهي: كيف تُطبّع ثقافتنا مع الإبادة؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 14 أذار 2025

تُخلّف مآسي الإبادة الجماعية، القائمة على أساس عرقي أو إثني أو ديني، آثاراً اجتماعية وثقافية ونفسية عابرة للأجيال، فإلى جانب الجيل، الذي شهد أعمال القتل والتهجير بشكل مباشر، تنشأ أجيال تتعرّف على الإبادة من المرويات، الشفهية غالباً، المنقولة إليها من ذويها وأفراد مجتمعها، أو بقاياه، ما يخلّف رضّاً نفسياً، «تأسيساً» إن صح التعبير، لدى تلك الأجيال، يبني جانباً مهماً من فهمها لذاتها، وثقافتها، بل حتى لأصل وطبيعة وجودها في هذا العالم. وبالطبع، لا تتسم المرويات الشفهية بالدقّة، وتختلط فيها عيوب الذاكرة؛ مع الصدمات التي تعرّض لها الراوي؛ والانطباعات المتغيّرة عبر الزمن؛ وأشكال التهويل أو التهوين أو الأسطرة، التي ترافق انتقال الرواية من شخص إلى آخر. ولذلك، فإن كثيراً من الدول، التي شهد تاريخها جرائم إبادة جماعية، تعمل على نوع من «تثبيت الرواية»، عبر تدوين معياري، تقوم عليه مؤسسات معيّنة، وغالباً ما يدخل في أنظمة التعليم والإعلام والقانون، كي لا تؤدي سيولة المرويات الشفهية إلى تصاعد الحقد والنزعات الثأرية في المجتمع، أو خلق جماعات معزولة. كما تُعتبر تلك الرواية اعترافاً رسمياً بمعاناة الجماعة التي تعرّضت للإبادة، ما يساهم بإعادة إدماج أفرادها، وتصفية الذاكرة الجمعيّة.

يثير تدوين رواية الإبادة بدوره كثيراً من المشاكل، حول دقتها، وشمولها، والسلطة المؤسساتية وراءها، ومغزاها السياسي في الحاضر، إلا أن التدوين المعياري والاحترافي، مع فتح إمكانية نقده، يبقى، في معظم الأحوال، أفضل من ترك هذه المسائل الاجتماعية والتاريخية الحساسة بيد أفراد ومجموعات، قد تحوي كثيراً من المتطرفين، وأشباه الأميين، من الناشطين والمحرّضين العرقيين والإثنيين.

ربما يكون كل هذا «قضايا عالم أول»، بحسب العبارة الساخرة الشهيرة، فعلى الرغم من أن دولاً عالمثالثية كثيرة، اعتمدت التدوين الرسمي، وتثبيت الرواية، للتعاطي مع ماضيها الدموي، إلا أن الحال في المنطقة الناطقة بالعربية، خاصة في المشرق، بعيد جداً عن مثل تلك التجارب، والنزاعات حولها: يبدو غالباً أن هنالك نوعاً من التطبيع مع مجازر الإبادة الجماعية، ولا يقتصر التطبيع على رفض أغلبية أشباه الدول في المنطقة، أو إهمالها، لمسائل التدوين المعياري والاعتراف، بل في ممارسات خطابية، يشارك بها «نخب» وناشطون، ونعاصرها اليوم بكل وضوح، لأقلمة الإبادة. ونعني بـ»الأقلمة»، توطين الممارسات المروّعة، بما يرافقها من خطابات الكراهية، والصور، والمقولات الأيديولوجية، في قلب الثقافة السائدة، ما يجعلها جزءاً مقبولاً واعتيادياً من لغتنا، وثقافتنا السياسية، ونظامنا الرمزي، وتصوراتنا عن العالم. ليست عملية الأقلمة هذه وليدة اليوم، بل يمكن تتبّع أصولها عميقاً في تاريخ الدول القومية لما بعد الاستقلال، بل وقبل هذا بكثير، ولكنها الآن تجري بأسلوب يبدو أقلّ إتقاناً، وتماسكاً أيديولوجياً، ما يجعلها أقرب لاحتيال صريح.

قد تكون محاولة تتبع آليات هذا الاحتيال، وبعض جذوره، أجدى حالياً من التساؤل عن دوافعه، فهي قد تعين على تخفيف الدائرة المفرغة للهمجية، التي تمرّ بها مجتمعات كثيرة، وخاصة المجتمعات السورية. فليكن السؤال إذن: كيف تعوّدنا على أقلمة الإبادة، لدرجة أن ينطلي على كثير منّا احتيال خطابي، لا يمكن وصفه إلا بالرديء؟

جُمَل كاذبة

يمكن رصد ثلاث آليات واضحة للاحتيال الخطابي الحالي، أولها التواطؤ على قص واقتطاع وتشويه الجُمل الصحيحة، التي قد تعبّر عن الإبادة الجماعية، لدرجة الوصول إلى جُمل وعبارات، لا يمكن وصفها إلا بالكاذبة، وليس الخاوية من المعنى. وذلك التواطؤ جماعي، يدرك معظم ممارسيه ما يفعلون.

لعل المثال الأشهر، وربما التأسيسي في التاريخ السوري، هو عبارة «أحداث حماة»، التي درجت للتعبير عن مجزرة الإبادة الجماعية، التي شهدتها المدينة عام 1982. «أحداث» مفردة كاذبة في سياق المجزرة، لأنها واسعة الدلالة إلى أقصى حد، فقد تكون «الأحداث» اشتباكات، أو بعض الفوضى، أو مشاجرة جماعية، أو أي شيء آخر، فكل ما يقع في مدينة أو قرية ما، هو «أحداث» في نهاية المطاف. تواطأ أغلب السوريين، بمن فيهم أهل المدينة نفسها، على استخدام تلك العبارة الكاذبة، خوفاً من النتائج الوخيمة، لذكرهم مفردة «مجزرة» أو «إبادة». أما أنصار النظام السوري السابق، فكانوا مرتاحين جداً للعبارة، لأنهم فعلاً يعتبرون ما جرى «أحداثاً»، على طريقتهم في تنظيم الأحداث.

اليوم في سوريا، يتم الحديث عن «تجاوزات وبعض الفوضى»، بحسب تعبير رأس السلطة ، بخصوص مجازر الساحل السوري، التي ترقى لدرجة الإبادة الجماعية، والتطهير الإثني/الطائفي. بعض من يتخذون «مسافة من السلطة» قد يستخدمون مفردتي «انتهاكات» و»جرائم»، وكل تلك العبارات والمفردات كاذبة، إذا اعتمدنا على المعايير الدولية المعتمدة لتعريف الإبادة الجماعية.

تؤدّي الجُمَل الكاذبة وظيفة خطابية وسياسية أساسية، وهي تمرير الممارسات المروّعة بشكل اعتيادي، وغير لافت، في التداول اللغوي ضمن الحيّز العام، «الجرائم» و»الانتهاكات» و»التجاوزات» تجري كل يوم، وبالطبع كلها «أحداث»، وهكذا قد يتساوى قتل عائلات بأكملها على الهوية، مع جنحة سرقة بسيطة، أو جريمة سرقة موصوفة (أي مشدّدة العقوبة لظروفها الخطيرة على أمن المجتمع). في عُرف القانون، الأولى تُصنّف ضمن التجاوزات والانتهاكات؛ والثانية ضمن الجرائم. أما الإبادة الجماعية، فلا يمكن أن تُذكر بوصفها «جريمة» وكفى، بل تُقال وتُكتب بصيغتها الكاملة: «جريمة إبادة جماعية». وبالطبع هذه الصيغة لها تأثير شديد على انتباه المتلقي، يصل لحد التحفيز العصبي، وتؤدّي إلى تغيير كامل في طبيعة التعاطي مع المسألة التي نتكلّم عنها.

تعاني اللغة العربية المعاصرة كلها من مشكلة، يمكن تسميتها «العبارات التي لا تقول شيئاً»، أي المليئة بالتكرار الإنشائي، والمفاهيم غير المنضبطة، والمفردات غير واضحة الدلالة، ما يجعل تلك العبارات أقرب للهراء، إلا أن المشكلة في سياق التعبير عن الإبادة الجماعية ليست الهراء، بل الكذب الصريح. فالمُتكلّم بالهراء لا يهتم أصلاً بصدق أو كذب، فيما الكاذب يعرف حقيقة ما، ويتعمّد إخفائها أو تشويهها.

الابتزاز بـ«الفتنة»

غالباً ما يكون لكل كذبة مبرّر، من وجهة نظر الكاذب، وهذا يقودنا إلى الآلية الثانية للاحتيال الخطابي، وهي الابتزاز بالفتنة، إذ يرى ممارسو ذلك الاحتيال، أن وصف ما يحدث بعبارات صادقة، له نتائج وخيمة، منها تأجيج الأحقاد والصراعات، أي «الفتنة»، وهي مفردة ذات دلالة مترسّخة ووازنة في التراث العربي والإسلامي.

ما يجعل ذكر «الفتنة» ابتزازاً في سياقنا، هو عملية قلب غريبة للعالم، إذا تصبح جريمة الإبادة الاجتماعية نفسها، الأمر المقبول، الذي يجب أقلمته، والذي لا يُسبّب «الفتنة»؛ فيما التعبير الصادق عنها هو المشكلة والجريمة، التي يجب إنهاؤها، لأنها هي «الفتنة». فلتستمر المجازر إذن، ولنعش تحت تهديدها الدائم، الذي يستبطنه أي خطاب مؤيّد للسلطات، فالممنوع ليس القتل الجماعي، بل الحديث عنه. يصمت كثيرون خوفاً من ذلك الابتزاز، إذ قد يجدون أنفسهم في موضع الاتهام، وليس مرتكبو الجريمة، أو مؤيّدوها ومبرروها.

عملياً، يؤدّي الوصف الصادق إلى تخفيف «الفِتَن»، وليس العكس، فهو قد يُسكت المحرّضين على جرائم الإبادة الجماعية، ويعرّضهم لعواقب، في الدول التي تعرف سيادة القانون؛ كما يضع أي جهة تمارس الإبادة في موضع الاتهام، خاصة على مستوى القانون الدولي، ما قد يدفعها إلى تخفيف ممارساتها، ولو بشكل طفيف. وفي كل الأحوال، فإن جرائم الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر عليها، والأيديولوجيات المؤدّية إليها، هي «الفتنة»، وليس توصيف ما جرى ويجري، بأكبر قدر ممكن من الدقّة والصدق.

الابتزاز اللغوي الشامل من مشاكل اللغة العربية المعاصرة أيضاً، ويجعل كثيراً من مستخدميها يميلون إلى تجنّب الصدق، أو التعبيرات المباشرة. وربما أمضينا جانباً كبيراً من حياتنا تحت ضغط الابتزاز.

تنزيه النظام

الآلية الثالثة للاحتيال الخطابي هي «تنزيه النظام»، ولا نعني بـ»النظام» هنا الأنظمة الحاكمة في هذا البلد أو ذاك، بل كامل نظام المجتمع، بما يشمله من أنظمة فرعية، مثل أنظمة السياسة والقانون والأخلاق والدين والإعلام والتعليم، وهي غالباً مرتبطة بالدولة، بمعناها الأعمق، أي مجموعة الأجهزة العنفيّة والأيديولوجية، والمؤسسات البيروقراطية، والسياسات الحيوية، ونمط السيادة، ورواياتها المؤسِّسة. يقوم الاحتيال الخطابي بربط جرائم الإبادة الجماعية بشخصية أو مجموعة شخصيات، ويُسقط عليها كل صفات الشر والفساد، فيبدو الخلاص منها نهاية الشرور، فيما النظام نفسه بريء، ويمكنه أن يستمر بعدها، ليُصلح ويتجاوز «الأخطاء».

تبدو هذه أقرب لحكاية أطفال رديئة، منها إلى فهم الأسباب الفعليّة، المؤدّية لوقوع مجازر إبادة جماعية في بلد ما. بالطبع، لكل جريمة إبادة مسؤول أول ومباشر، من الناحية السياسية والجنائية، هو غالباً رأس النظام، ولكن مجرّد الإطاحة به لا يعني أن النظام نفسه لن يُنتج مزيداً من المجازر.

في الدول، التي ترغب جديّاً بعدم تكرار مآسي الإبادة الجماعية، تسعى النخب الحقوقية والسياسية والثقافية والتعليميّة، إلى إعادة بناء نظام المجتمع بأكمله، بحساسية عالية، قد تصل أحياناً إلى تغيير ما اعتُبر «هوية» بلدانها، أو إعادة تأويلها، وذلك لأن الإبادة لا يمكن أن يرتكبها شخص، أو ميليشيا، أو حتى جيش فحسب، بل محصّلة «ثقافة» كاملة، لا بد من تحليل ما فيها من عوامل بنيوية مُنتجة للمأساة، وبدون ذلك قد يفقد أي تغيير سياسي معناه.

إلا أن المسألة تصير شديدة الإشكالية، مع انهيار أنظمة التحضّر نفسها، وبقاء مخزونها الأيديولوجي والخطابي، كما في حالة معظم دول المشرق. نحن هنا لا نتحدّث جديّاً عن «نظام» متسق، قابل للتفكيك، بل بالأحرى عن «لا نظام»، يمكنه استخدام ما يشاء من عناصر أيديولوجية، بدون أي تماسك منطقي أو سياسي. هكذا قد تجد أية مجموعة من اللصوص، مبرراً لارتكاب مجزرة إبادة جماعية، بناءً على شذرات من هذا الخطاب أو ذاك، مكدّسة فوق بعضها بطريقة مثيرة للعجب.

في نهاية المطاف، توجد جهة مسؤولة عن إدارة أزمة «اللا نظام» هذه، يمكن ويجب محاسبتها بالتأكيد، باعتبارها المسؤول الأول والمباشر عن جرائم الإبادة، ولكن مشكلة كسر دائرة الهمجية نفسها عميقة ومحيّرة فعلاً. كيف يمكن إعادة بناء نظام لمجتمعات دخلت، منذ سنوات طويلة، في أطوار نزع التحضّر، وما زالت تُنتج المآسي بدون توقّف؟

الموضوع أكبر من تقديم إجابات بسيطة، إلا أن أي إجابة أو حل يبدآن بوصف الحالة بعبارات صادقة، قابلة للتحليل والنقد. يجب الخلاص من «الأحداث» والالتفات إلى كارثة نزع التحضّر، التي تؤدي إلى نزع إمكانيات استمرار الحياة نفسها في المنطقة.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————–

هل هي دولة القانون في سورية؟/ جعفر العلوني

14 مارس 2025

الآن، حقّاً، ينفتح الجرح السوري من جميع الجهات. بدأ هذا الانشقاق في نسيج جسمه عام 1970، مع الانقلاب العسكري لحافظ الأسد وجماعته، وحين استولوا على الحكم مؤسّسين سلطة الحزب الواحد، حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي هيمن على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد وأماتها حتى عام 2024. راح ذلك التمزّق الأوّلي للجرح يزداد عُمقاً واتساعاً، ولم يتوقّف عن النزيف. حافظ عليه حافظ الأسد (القائد الوحيد والأوحد إلى الأبد) من دون أن يبرأ؛ احتكر وعائلته البلاد، وصادر الحياة البرلمانية والسياسية، ووضع البلاد كلّها في إناء واحد. قسّم المجتمع بين قسمين: القائد – السلطة، من جهة، والشعب من جهة ثانية، ليفرز بين منطقَين مُغلقَين: السلفية (تهمة تُوجّه إلى كلّ من يُعارض استبداده) والبعثية. كانت الأخيرة باسم عروبة عرجاء جوفاء مجدوعة الأنف، قمعت الحرّيات ووقفت ضدّ أبسط حقوق الإنسان، مرسّخةً الانشقاق والتفرّق باسم الوحدة، والجمود باسم التطوّر، والجهل باسم العِلم. هكذا أقام الأسد الأب سلطةً تبرع في الاحتكار والاستئثار والاتّجار، سلطة العذاب والمرارة، سلطة الانحدار، وصولاً إلى توريث بلاد كاملة (كأنّها مزرعة له) لابنه. ومع توريث الحُكم للأسد الابن، كان النسيج السوري قد تلف، وانبثّت جراثيم النظام البعثي الأمني في طبقات ذلك النسيج بشكل كامل: الفساد، الشعارات الفضفاضة، التخوين، السجون، الطائفية، العشائرية، القبلية، التبعية، القبضة الأمنية وما ارتبط بها من حياة ثقافية واجتماعية تبشيرية ودعائية. ومع هذا كلّه، ازدادت شهوة السلطة التسلّطية تكالباً عند الابن، واستفاقت شهوات جديدة أكثر تكالباً، شهوات المال والتجارة التي احتكرتها عائلته، مؤسّسةً بذلك دستوراً من الامتيازات والانتهاكات والاحتكارات، يرعاها الولاء، وإلا القتل أو السجن.

في عام 2011، حاول الشعب بشكل سلمي أن يعالج هذا الجرح، وخرج إلى الشوارع، محتلّاً الساحات ومطالباً بشيء واحد لا غير: الحرّية. لكنّ الديكتاتور الابن، شأنه كشأن أبيه، زاد هو نفسه من ورم الجرح، ودفع سورية عبر سياسته الأمنية والعسكرية والطائفية إلى حرب دامت 14 عاماً، انتهت أخيراً بفراره وسقوط نظامه. فرار وسقوط يستدعيان تأمّلاً عميقاً، لا في طريقة الهرب وحدها، بل في البنى التاريخية والسياسية والدينية والثقافية والاجتماعية التي أدّت إلى هذه الظاهرة الديكتاتورية واستمرارها، ثمّ سقوطها بهذا الشكل. لم تتأخر القوات التي أسقطت الأسد في دخول قصر الحكم. كان في رأسها أبو محمّد الجولاني، الذي صار يُعرف عربياً وعالمياً، في ليلة وضحاها، باسم أحمد الشرع، لتبدأ معه مرحلة جديدة من تاريخ سورية أكّد فيها، هو نفسه، “ضرورةَ المصالحة الوطنية، وصياغة دستور جامع، وملاحقة مرتكبي جرائم النظام لضمان العدالة، وحماية الأقلّيات، وتشكيل لجنتَين لاختيار مجلس تشريعي ومؤتمر للحوار الوطني، وإعلان دستوري يكون مرجعاً قانونياً، وتحقيق السلم الأهلي ومحاربة الفساد”.

وفي أول خطر يتعرّض له السلم الأهلي الهشّ، خصوصاً بعد محاولاته خياطة الجرح الذي ورثه عن نظام البعث الديكتاتوري، لم تتأخّر السلطة الحالية القائمة في سورية بتمزيق هذا السلم مجدّداً، لتشقّه في جميع الجهات، مُرتكبةً عبر فصائل تابعة لمؤسّسة الدولة الأمنية والدفاعية (التي يُفترض أن تدافع عن الأرض والمواطنين) ممارسات تُعيد البلاد إلى جحيم القرون الوسطى، وتطمس مفهوم المواطنة، بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، وترسّخ مفهوم الطائفية بأبشع أشكاله، عبر قتل أبناء طائفةٍ محدّدة وكأن لا قيمة لهم، لمجرّد الانتماء إلى طائفة.. مجرّد الانتماء لا غير. بدا واضحاً من هذه الممارسات، ومن المعجم اللغوي الذي رافقها وصدر عنها، أن السلطة القائمة تعتبر نفسها سلطةَ الجماعة “الأكثر” و”الأقوى” و”الأحقّ”، وعلى هذا الأساس تعاملت مع البقية، لا بوصفهم مواطنين يتساوون في المواطنة، بل بوصفهم “أقلّيات دينية” لا يخضعون لسلطة الجماعة، وبالتالي وجب عليها بوصفها “أكثرية دينية” قتالهم ومحاربتهم وذبحهم. اليوم، بعد تلك الأحداث في الساحل السوري، والانتهاكات والمجازر التي ارتُكبت بحقّ المواطنين العُزّل، أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً، والتي تُذكّرنا بمجازر نظام الأسدين (الأب والابن)، سواء بمدينة حماة في ثمانينيّات القرن المنصرم، أو غيرها من المدن السورية طيلة العقد الماضي، يحقُّ لنا أن نسأل: إلى أين تمضي سورية؟ إلى دولة القانون التي تحترم المواطن بوصفه إنساناً، بغض النظر عن انتماءاته ومذهبه ودينه وطائفته أم إلى دولة “الشرع” التي لا تقيم وزناً لحرّية الفرد، ولتجربته الإنسانية، وترفض الآخر المختلف عنه تكفيراً أو قتلاً؟ وهل يقبل شرع الله تكفير الناس وقتل الأطفال والنساء والشيوخ في بيوتهم وحرقها بجثثهم؟ وهل قتل الأبرياء بدم بارد يمتُّ بصلة لشرع الله؟ أيّ دولة إذاً، هي تلك البلاد التي تُدعى سورية اليوم؟ أيّ دولة إن لم تكن دولة القانون والمواطنة والإنسان الحرّ، إن لم تكن دولة شرع الله؟… هل هي إذاً، “دولة” أبو محمّد الجولاني؟

العربي الجديد

—————————–

في وقائع الساحل السوري … أيضاً وأيضاً/ معن البياري

14 مارس 2025

كانت رايات العبّاسيين سوداً، عندما أقاموا دولتهم، وعندما أعملوا في أسلافهم الأمويين تذبيحاً وتقتيلاً، ليس فقط من أهل السلطة التي تمرّدوا عليها وأسقطوها، وإنما في كل ناس بني أميّة، فقد فتّشوا عنهم في منازلهم ومخابئهم. لمّا سقطت دمشق في أيديهم اقترفوا مجازر متتابعة فيهم، ولعل في تلقيب أول خلفائهم، والذي تسلّم الدولة في عمر السادسة والعشرين، بأنه أبو العبّاس السفّاح، شاهداً على مجرى الدم الغزير الذي افتَتحت به الدولة الجديدة قيامتها، وقد طاردت فلولَ الأمويين في الشام وفلسطين ومصر و”أمصار” أخرى، وكان الأمر أن لا يُترَك أُمويٌّ حيّاً ولو تعلّق بأستار الكعبة. وكانت معجزةً نجاة عبد الرحمن بن معاوية بن هشام (الداخل) وهربه إلى الأندلس، حيث أرسى هناك دولةً قويةً ممتدّة. وأختار لك، قارئ هذه السطور، أن تُطالع النصّ السردي لمسلسل “صقر قريش” (2002)، في رواية كاتبه السيناريست وليد سيف، بجزئيْها “الرايات السود” و”النار والعنقاء”، ولك أن تُعيد مشاهدة العمل الدرامي الجذّاب، ولكن جثثاً كثيرةً ستترامى قدّامك، وتُقلق نومَك وتُتعبك. … ولكن، مهلاً، ليس العبّاسيون وحدَهم من قارفوا ارتكاباتٍ قبليةً وطائفيةً مروّعةً في من عدّوهم خصوماً لهم، فقد فعلَ هذا وغيرَه مثلُهم في أطوارٍ أخرى في التاريخ الإسلامي الذي لو أبحرتَ في قراءته قد تخلُص إلى أن القتل الكثيفَ ظلّ مفتتح الانتقال من سلطةٍ إلى أخرى، بل طاول العنفُ جثث الموتى، ومن ذلك أن قبور قادةٍ وخلفاء أمويين نبشها العبّاسيون، ولمّا وجدوا واحدة منها سويّةً بعض الشيء، ضربوها بالسياط وأحرقوها.

ليس يُؤتى على ذلك المثال العبّاسي المريع، وليس يُشار إلى متوالية دمٍ كثيرٍ في حروب الفتك والنهب الأهلية في التاريخ الإسلامي، للقول إن ثمّة ما يُشابهها في تواريخ الأمم من كراهيّاتٍ أشعلت حروباً أهلية، كما في أوروبا التي قضى 12 مليوناً من أبنائها في حروب الكاثوليك والبروتستانت في 30 عاماً، وإنما يُؤتى على هذا كله، بإيجاز (وكل إيجازٍ مخلٌّ)، للعبور إلى أن المذبحة الطائفية، في الساحل السوري، أخيراً، ومعها حالة الخوف الثقيلة الباقية هناك، موصولةٌ بإرثٍ عربيٍّ مديدٍ في تاريخ المسلمين، وبغرائز الكراهيّات التي تتعمّد بشهوة الانتقام والثأر، العمياء بداهةً عندما يُقتّلُ ناسٌ مدنيون أبرياء، بينهم أطفالٌ ونساء، كما وقع في أرياف جبلة وبانياس وطرطوس، الكراهيّاتُ التي يرى المقيمون فيها أنفسَهم حُماة طائفة أو دين، وينظرون إلى الأغيار جماعاتٍ لها عنوانٌ مذهبيٌّ ولا شيء غيره. والحادثُ لدى “جهاديين”، سوريين ومستورَدين، أنهم “يتخيّلون” هذا، إذا ما استعنّا بما ذهب إليه عزمي بشارة في تشخيص “الطائفة”، عندما ترى جماعةٌ هويّتها في دينٍ أو مذهبٍ تنتمي إليه، من دون أن يكون التديّن شرطاً في هذا الاعتبار. وعندما يشرح بشارة في كتابه المخصوص “الطائفة… الطائفيّة… الطوائف المتخيّلة” (2018)، يلحّ على البحث في الظروف السياسية والاجتماعية التي تجعل هذه المجموعة أو تلك تعرّف نفسها، أولا، على أساس الاشتراك في العقيدة أو المذهب. ما يُجيز لنا القول، الصحيح على الأرجح، إن بحث السوريين الراهن عن “سلم أهلي” يعودُ إلى نقصانه بين ظهرانيهم، ليس لأنّ صفة هؤلاء أنهم سنّة أو صفة أولئك أنهم علويون، وإنما إلى أن ممارساتٍ فوقية (سلطوية) أنتجت ظروفا سياسية واجتماعية جعلت هذا التعيين مُشهراً، وتنبني عليه اعتباراتٌ وظلال، فصارت المظلوميّات إيّاها، وتفشّت التعميمات البائسة، والمتجذّرة ربما، عن السنّة أصبحوا حاكمين في سورية بعد أن كان العلويون أهل الحكم. ومع ضعف شعور السوريِّ بانتسابه إلى دولةٍ لكل مواطنيها ذاع هذا الخطاب، المجوّف في جوهره، والصحيح في بعض حوافّه، وأصبح أرضيةً لتفسير كل أداءٍ سياسيٍّ أو إجراءٍ أمني. وبقدر ما تصلُح هذه العين المجهرية لرؤية هذا الحال في سورية، فإنها كانت تصلُح لرؤية حالٍ غير مشابهٍ في العراق.

مؤدّى القول أن الحاجة شديدة الإلحاح والوجوب إلى أن يشفى العرب من أمراضٍ تسبّبت بها سلطاتٌ ظالمة، لم تُقم العدالة الاجتماعية ولا المواطنة الحقة … أما عن الكيفيّات التي تأخذهم إلى هذا الشفاء، فوحدها أدمغة أهل الفكر وأهل الحكم العاقل أدرى بها، وليس قارئ روايةٍ لوليد سيف بعد مشاهدتها مسلسلاً تلفزيونيّاً.

العربي الجديد

———————–

جرائم الساحل السوري والامتحان الأخلاقي للدولة!/ يحيى الكبيسي

تحديث 14 أذار 2025

ما جرى من جرائم وانتهاكات مروعة في الساحل السوري كان أمرا متوقعا، ففي مقالة كتبتها يوم 26 كانون الأول 2024، بعنوان «معضلتان لا بد من حلهما في سوريا» قلت: «لا يمكن أن تتجاهل الإدارة السورية الجديدة موضوع ضباط وأفراد الجيش السوري النظاميين، والمؤسسات الأمنية طويلا؛ فاستحقاقات الرواتب ستكون ضاغطة على الطرفين معا، ويجب أن تكون هناك حلول سريعة لها، بدلا من أن تفلت الأمور عن السيطرة. وحتى في حال اتخاذ قرار خاطئ بحلهما مثلا، لن تُحل هذه المشكلة بل ستتفاقم، ولا يمكن ترك هذه الآلاف من الجنود والضباط المسلحين والمدربين من الذين يمتلكون القدرة على التنظيم، دون إيجاد حلول حقيقية، خاصة في الحالة السورية حيث شكّل العلويون نواة صلبة لهذه المؤسسات على مدى السنوات الـ 54 الماضية. وإن كانوا أقلية ديمغرافية، فهم يملكون «حيزا جغرافيا» خاصا بهم في الساحل السوري، وشرقي حماة وحمص، وهذه العوامل الثلاثة تشكل قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مع سياق إقليمي يسمح باستخدامهم ضد الوضع الجديد في سوريا.

في الوقت نفسه لا يمكن التعامل مع فكرة تشكيل جيش جديد، وقوات أمنية جديدة، اعتمادا على ميليشيات ذات بنى إيديولوجية وطائفية وجهوية، والقول بإمكانية فك ارتباطها بمرجعياتها الأصلية هو محض وهم!

وهذا ما حصل تماما، هجوم منظم شنته جماعات من هؤلاء الضباط والجنود السابقين من العلويين على قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة، أسفر عن مقتل العشرات من العسكريين (الشبكة السورية لحقوق الإنسان تحدثت عن 172 فردا منهم، بينما أوصل المرصد السوري لحقوق الإنسان عددهم إلى 125 فردا). فضلا عن ارتكاب انتهاكات واسعة بحق المدنيين، والمنشآت المدنية، من بينها مهاجمة المستشفيات.

لتقابل هذه الهجمة بهجوم فوضوي شاركت فيه ميليشيات متنوعة، ذات مرجعيات مختلفة، وبعضها يؤمن بفكرة الانتقام المقدس، وقد سبق لها أن ارتكبت جرائم موثقة وانتهاكات واسعة، بينها الإعدامات الميدانية خارج إطار القانون. خاصة مع تداخل الرد العسكري على الهجوم، بدوافع الانتقام، فغالبية المقاتلين في هذه الميليشيات التي تشكل عماد القوات النظامية للحكومة السورية المؤقتة، هم نتاج 13 عاما من مسلسل المجازر والجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد، والكثير منهم يماهي تماما بين نظام بشار الأسد وبين العلويين بشكل عام، فضلا على تعمد نظام الأسد تشكيل العديد من الميليشيات التي اعتمدت على العلويين خارج إطار المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية.

كل هذا يضع السلطة السورية المؤقتة أمام امتحان أخلاقي حقيقي، فمجرد تشكيل لجنة تقصي حقائق مستقلة لا يعني شيئا إذا لم تكن هناك نتائج حاسمة تحدد هوية من قاموا بتلك الجرائم والانتهاكات، أفرادا وميليشيات، وملاحقتهم ومحاسبتهم ووصف ما قاموا به بأنه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب مكتملة الأركان، ثم القيام بإجراءات حقيقية تمنع تكرار مثل هذه الجرائم مرة أخرى عبر إعادة هيكلة القوات العسكرية والأمنية، بما يمنع تحولها إلى تجمعات لميليشيات موازية للجيش وقوات الأمن النظاميين وتكون دولة داخل الدولة، لكل منها عقيدته القتالية الخاصة، وإيديولوجيته الخاصة.

وما يؤخذ على السلطات السورية حتى اللحظة هو عدم نشرها أي أرقام عن أعداد الضحايا من العسكريين والمتمردين والمدنيين، فنشر هذه الأرقام لا علاقة له بلجنة التحقيق التي شكلت، بل هو مؤشر على الشفافية في التعاطي مع هذه الجرائم والانتهاكات، وعلى عدم التغطية عليها.

الأمر الأهم هنا يجب أن لا تقع السلطة السورية المؤقتة، أو اللجنة التحقيقية المستقلة، في التمييز بين الجرائم على قاعدة الفعل ورد الفعل. فالجرائم تصنف تبعا لطبيعتها، وليس تبعا لهوية مرتكبيها، أو تبعا لدوافعها. وأن لا يقع كلاهما في غواية التغطية على ما جرى توهما منهما أن هذا يسهم في تخفيف الاحتقان، على العكس تماما، فان أي محاولة للتغطية على ما جرى، سيكون دافعا للشعور بالمظلومية التي يمكن استخدامها لتكرار ما حدث!

إن أي تلاعب في التقارير والتحقيقات حول جرائم من هذا النوع في سياق صراع داخلي وغياب الاستقرار الأمني والسياسي، من شأنه أن يبقي هذا الصراع مفتوحا وقابلا للاستمرار. ونورد هنا مثالا ضمن عشرات الأمثلة على وضع مشابه في العراق؛ حيث شكل رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي عام 2016 لجنة للتحقيق في عمليات إعدام خارج إطار القانون، وعمليات إخفاء قسري لمئات المدنيين، وقد انتهت اللجنة إلى إثبات إعدام 17 مدنيا خارج إطار القانون، واتهمت شخصا واحدا بالقيام بهذه الجريمة، دون تفسير كيف يمكن لشخص واحد (ينتمي لميليشيا ويأتمر بأمرها) أن يقتل هذا العدد ويدفنهم في مقبرة جماعية! وأثبتت اللجنة أيضا أن عدد «المفقودين» حسب البيانات التي أعدتها، بلغ 673 مفقودا! وأن حالات القتل والفقدان تمت «في قاطع مسؤولية الشرطة الاتحادية وقوات بدر اللواء الخامس حشد شعبي وكتائب حزب الله حشد شعبي».

وكان هذا الاستخدام لمفردة «المفقودين» متعمدا في الحقيقة، وهدفه عدم اتهام الدولة بالمسؤولية عن تلك الجرائم، لأن القانون العراقي يعرف المفقود بأنه «من غاب بحيث لا يعلم إن كان حياً ام ميتاً، يحكم بكونه مفقوداً بناء على طلب كل ذي شأن» وهذا لا ينطبق مطلقا على ما جرى من جرائم، بل ما ينطبق هنا هو مصطلح الاختفاء القسري وهو «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون» (الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري 2006).

وقد تحدث تقرير اللجنة عن جرائم محددة، وتحدث عن قوات رسمية محددة، لكنه لم يتهم أحدا، ولم يطالب بملاحقة أو محاسبة أحد، باستثناء شخص وحيد، اختفى هو والقضية لاحقا ولا يُعرف عنه شيء الى اليوم!

إنَ على السلطة السورية الجديدة أن تتعلم من دروس الفشل العراقية، تحديدا الأخلاقية منها فيما يتعلق بالصراعات ذات الحمولة الطائفية، وأن أي خطأ ترتكبه، سيجرُ خلفه خطايا، أوضحها تحققا اليوم، هو إعطاء الدولة هوية طائفية محددة، بما يسهم في تعميق الهوة بين فئات اجتماعية محددة والدولة من جهة، مع ما يترتب على ذلك من انقسامات اجتماعية حادة؛ فغض الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي جرت في الساحل السوري وعدم ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم، وتسهيل إفلاتهم من العقاب، لن يكون سوى انحياز طائفي من الدولة ضد مواطنيها.

كاتب عراقي

القدس العربي

—————————

قرارات الرئاسة السورية… محاولة لتعزيز الثقة/ محمد أمين

14 مارس 2025

أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، أول من أمس الأربعاء، قراراً يقضي بتشكيل مجلس الأمن القومي بـ”هدف تنسيق وإدارة السياسات الأمنية والسياسية في البلاد”. ووفق القرار، فإن المجلس سيكون برئاسة رئيس الجمهورية، وسيضم في عضويته وزراء الخارجية والدفاع والداخلية، إضافة الى مدير الاستخبارات العامة، ومستشارين يتم تعيينهما من قبل رئيس الجمهورية وفقاً للكفاءة والخبرة، وخبيراً تقنياً متخصصاً لمتابعة الشؤون التقنية والعلمية ذات الصلة بعمل المجلس. ويضاف هذا القرار إلى مجموعة قرارات صدرت عن الرئاسة السورية خلال فترة زمنية قصيرة، يبدو أن الهدف الرئيسي منها استعادة ثقة المواطن بالدولة، لا سيما بعد ما رافق العملية العسكرية ضد فلول الأسد في الساحل السوري من انتهاكات وجرائم بحق المدنيين، بما في ذلك تشكيل أكثر من لجنة للحفاظ على السلم الأهلي الذي تعرض بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد إسقاط الأسد، لأكثر من اختبار.

مساعي الرئاسة السورية

 كما سعت الرئاسة السورية الى إرسال تطمينات للأقليات الدينية والمذهبية، وأنها لن تتسامح مع أي شخص أو طرف يهدد السلم الأهلي، لذا شكّلت لجنة في هذا الإطار في الساحل، فضلاً عن لجنة لتقصي الحقائق عما حدث من تجاوزات بحق مدنيين في المنطقة. وواصلت الرئاسة السورية بذل الجهود من أجل التوصل مع الفعاليات الاجتماعية والدينية والعسكرية في محافظة السويداء، لتفاهمات تبدد مخاوف سكانها وتفعّل المؤسسات الحكومية، خصوصاً الأمنية والخدمية. كما توصلت الرئاسة السورية لاتفاق وُصف بـ”التاريخي” مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) قبل أيام.

وهددت التجاوزات التي حدثت أخيراً بحق مدنيين على أساس طائفي، الاستقرار والسلم الأهلي في البلاد، ما استدعى هذه القرارات والخطوات لرأب الصدع بين مكونات الشعب السوري. ومنذ سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، وُضع السلم الأهلي أكثر من مرة على محك المخاوف والهواجس، التي تفجرت مدفوعة بتردي الحالة المعيشية وتراجع الاقتصاد وتردد أطراف دولية في رفع العقوبات المفروضة على سورية.

وتعليقاً على سلسلة القرارات والخطوات التي أقدمت عليها الرئاسة السورية خلال فترة زمنية قصيرة، رأى الباحث في مجال الهوية والحوكمة، زيدون الزعبي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن هذه الخطوات “مهمة بالتأكيد، ولكنها غير كافية”، مضيفاً أن البلاد بحاجة إلى إنشاء هيئة عدالة انتقالية في أسرع الآجال، وهيئة للوفاق والسلم الأهلي. اللجنة التي شُكّلت لهذا الغرض جيدة إلا أنها تشمل منطقة الساحل فقط. موضوع السلم الأهلي بحاجة إلى عمل وطني كبير.

في السياق، رأى الباحث السياسي عرابي عرابي في حديث مع “العربي الجديد” أن تشكيل مجلس للأمن القومي من قبل الرئاسة السورية: “سيكون مهماً لدعم البلاد في السياسة الخارجية والاقتصاد والأمن”، مضيفاً أن موضوع السلم والاستقرار من مهام هذا المجلس الذي سيصدر القرارات التي ستنفذها الوزارات المعنية. وأعتقد أن السلم الأهلي يتطلب إجراءات على مستويات متعددة، اقتصادية واجتماعية وتنموية، فضلاً عن العمل السياسي الدؤوب. وعُدّ تشكيل مجلس لـ”الأمن القومي” خطوة غير مسبوقة في تاريخ سورية، فرضتها تحديات داخلية تهدد السلم الأهلي والاستقرار، وخارجية تستهدف السيادة والجغرافية، وأبرز مثال عليها التدخل الإسرائيلي في جنوب سورية، المصحوب بتهديدات لفظية من كبار المسؤولين في تل أبيب حيال الإدارة الجديدة في سورية.

تشكيل مجلس الأمن القومي

حول ذلك، رأى الباحث السياسي عبد الرحمن الحاج في حديث مع “العربي الجديد”، أن “تشكيل مجلس الأمن القومي خطوة مهمة تساعد على الاستجابة السريعة للتهديدات واتخاذ القرار المناسب”. وأضاف أن مأسسة الاستجابة للتهديدات المتعلقة بالأمن القومي خطوة جديدة غير مسبوقة في تاريخ سورية، ولكنها مجرد إجراءات ينبغي اتخاذها لمواجهة التهديدات المحتملة لاستعادة الثقة بسيطرة الدولة وقدرتها على التحكم وبسط الأمن. وبرأيه من أبرز هذه الإجراءات التي على الإدارة القيام بها “استكمال بناء الجيش وإدماج القوات والفصائل فيه بصفتهم أفراداً ليكون ولاء الجيش للوطن وليس لقادة الفصائل”، مضيفاً أن استكمال بناء قوات الأمن وتدريبهم وتسليحهم بشكل مناسب أمر يجب أن يستمر. واعتبر الحاج أن “سورية بحاجة إلى أعداد كبيرة من المجندين في قوات الأمن العام”، مشدّداً على أن الشراكة السياسية في الحكومة الانتقالية من مكونات المجتمع السوري كافة، أمر في غاية الأهمية، لأن شعور الجميع أن هذه دولتهم يأتي من هذه الشراكة. كما رأى الحاج أن “رأب الصدوع الاجتماعية واستقرار المجتمع في سورية يجب أن يُتمم بتشكيل هيئة عدالة انتقالية”، التي قال إنها الوجه الآخر لضمان ألا يحدث تهدد للأمن القومي على المدى الطويل.

العربي الجديد

—————————

من سايكس وبيكو إلى برنار لويس/ عارف العبد

الجمعة 2025/03/14

استدعت التطورات في سوريا، وخصوصاً تلك التي شهدتها مدن وقرى الساحل السوري، وما استهدف أهل المنطقة، من السكان العلويين، بالاعتداء والمجازر وأعمال القتل، الاهتمام والإثارة. وبالتالي، المتابعة والتتبع، مع مزيد من الأسئلة المحمومة حول مستقبل التطورات في المشرق العربي، المترابط في الخصوصية والأوضاع السياسية والجغرافية والتركيبة الاجتماعية المتنوعة والحساسة.

وتكاد تكون التطورات والانتهاكات والمجازر، التي ارتكبت ضد السكان الآمنين والعزل، في الساحل السوري وجبل العلويين، بمثابة الصدمة الصاعقة، والتجربة المستجدة، المروعة والمهولة، التي تشهدها سوريا ما بعد انقلاع آل الأسد. وبالتالي، تشكل التجربة الأولى والمحك الفعلي لمصداقية السلطة الجديدة في سوريا، والتي يقف على رأسها الرئيس السوري للمرحلة الجديدة الانتقالية أحمد الشرع. وهي تشكل إثباتاً، إذا ما تخلى أبو محمد الجولاني عن شخصيته السابقة، وانتقل إلى أحمد الشرع، أو لا يزال متمسكاً في شخص الماضي، ومسيطراً عليه. لأن ما تعرض له السكان العلويون غير مسبوق وغير مقبول، ولا يمكن المرور عليه أو السماح بتكراره.

بل إن السؤال الأشد إلحاحاً وصعوبة هو، ماذا يعني ما جرى في الساحل السوري، وإلى أين تتجه سوريا والمنطقة من حولها بعد ذلك؟ خصوصاً وأن ما جرى يترافق مع تطورات خطيرة ومهمة أخرى، تتمثل بالخطوات المتصاعدة التي تنفذها إسرائيل، عبر توسيع وتدعيم احتلالها لمرتفعات الجولان وصولاً إلى أعلى قممه ومرتفعاته، وعلى وجه الخصوص قمة جبل الشيخ، إضافة إلى توغل في الجنوب السوري وفي محافظة السويداء تحديداً، ذات الغالبية والكثافة من الطائفة الدرزية.

الأخطر من ذلك هو إعلان إسرائيل وضعها السكان الدروز تحت حمايتها، مع تكثيف تحركاتها العسكرية وإطلاقها طائراتها، في مناورات في المنطقة، للدلالة على سيطرتها على الأجواء. وتحريض ومحاولة تشجيع ودفع السكان الدروز على الانفصال والابتعاد عن سلطة الحكومة السورية الجديدة. بما يعني ذلك من دفع نحو تجزئة سوريا، وتشجيع بقية القوى نحو التباعد والتفرق والابتعاد عن المركز الجامع في دمشق.. نحو مشاريع تقسيم وتجزئة سوريا إلى مناطق وكانتونات طائفية ومذهبية.

باختصار، السؤال الذي يطرح نفسه الأن، ما الذي جرى وإلى أين تتجه سوريا والمنطقة وما هي المشاريع المعدة، وما الذي يمكن أن يحدث وإلى أين تتجه الأمور؟

سايكس وبيكو

من المسلم به، أن القوى المسيطرة والمتفوقة عسكرياً، هي التي تتحكم بمسار الأمور والمناطق الخاضعة لسيطرتها في حاضرها ومستقبلها.

فبعد أن كان وُعد العرب بعد الحرب العالمية الأولى بدولة عربية مستقلة، من قبل القوى الغربية (بعد استفتاء لجنة كينغ كراين) قررت الدول المنتصرة في الحرب، وتحديداً فرنسا وبريطانيا، إعادة تشكيل المنطقة وتقسيمها وفقاً لرؤيتها ومصالحها وأطماعها، على أنقاض السلطنة العثمانية التي لقبت يومها بتركة الرجل المريض.

لهذه الأسباب اتفقت فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية آنذاك، على اقتسام النفوذ والمساحات والدول، في المنطقة وفقاً لمصالحهما.

جرت المفاوضات الأولية التي أدت إلى الاتفاق بين 23تشرين الثاني/ نوفمبر 1915 و 3 كانون الثاني/ يناير 1916، وهو التاريخ الذي وقع فيه الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على وثائق مذكرات تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية. وصادقت حكومات تلك البلدان على الاتفاقية في 9 و 16 أيار/مايو 1916.

قسمت الاتفاقية فعلياً الولايات العربية العثمانية، خارج شبه الجزيرة العربية، إلى مناطق تسيطر عليها بريطانيا وفرنسا، أو تحت نفوذها. خصصت الاتفاقية لبريطانيا ما هو اليوم فلسطين والأردن وجنوب العراق ومنطقة صغيرة إضافية تشمل موانئ حيفا وعكا، للسماح بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. أما فرنسا فقد سيطرت على جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان.

باختصار دول المشرق القائمة الآن، وتحديداً العراق والأردن وسوريا ولبنان، ظهرت نتيجة هذه القسمة، واستمرت وتستمر شكلياً حتى اليوم.

برنار لويس

الجديد في كل ما جرى، خصوصاً بعد اندلاع حرب طوفان الأقصى وتداعياته، في فلسطين ولبنان وسوريا، أن إسرائيل بنيامين نتنياهو بدأت تتحدث عن الشرق الأوسط الجديد، الذي تدعي وتريد إعادة تشكيله، على أنقاض الشرق الأوسط القديم، الذي شُكل نتيجة مباحثات سايكس وبيكو بداية القرن الماضي.

الجديد والخطير في كل التطورات الراهنة، أن أساس المشروع الحالي الذي ينفذ على الأرض بدعم قوي من الولايات المتحدة الأميركية، أثير وطرح من قبل المنظر والفيلسوف والمستشرق البريطاني برنارد لويس، في لندن (1916- 2018 .(وهو مستشرق بريطاني الأصل، يهودي الديانة، صهيوني الانتماء، أميركي الجنسية. تخرج من جامعة لندن، وعمل فيها مدرساً في قسم التاريخ للدراسات الشرقية والإفريقية.

وفّر برنارد لويس الكثير من الذخيرة الأيديولوجية والفكرية للمحافظين الجدد، وإدارة بوش في قضايا الشرق الأوسط، والحرب على الإرهاب؛ حيث يعتبر بحق المنظر الأساسي والرئيسي لكل موجة التدخل والسيطرة على المنطقة في العقدين الاخيرين، والتي انطلقت من نظرية ثانية متفرعة هي نظرية “صراع الحضارات” لهانتغتون، ولسياسة التدخل والهيمنة الأميركية في المنطقة.

جوهر فكرة أو نظرية لويس تقول: “إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم (تمدينهم). ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم حسب رأيه هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية”.

والحل لذلك براي لويس، أنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، وإعادة احتلال المنطقة، على أن تكون المهمة المعلنة، هي تدريب شعوبها على الحياة الديمقراطية، والعمل على استثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية.

 تردد في أكثر من موقع ودراسة، أنه في عام 1983 وافق الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع برنارد لويس، وبذلك تم اعتماد هذا المشروع، وإدراجه في ملفات السياسة الأميركية الاستراتيجية لسنوات مقبلة. وقد ارفق المشروع بخرائط للدول التي يجب أن تقام على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي.

وتقوم رؤية أو مشروع لويس على ثلاثة عناصر:

1- تغيير التركيبة السياسية القائمة في معظم دول العالم الإسلامي، لتصبح مبنية على مزيج من آليات ديمقراطية وفيدراليات إثنية أو طائفية. وهذا هو جوهر المشروع.

2- التركيز على هوية شرق أوسطية كإطار جامع للفيدراليات المتعددة المنشودة، لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في الشرق الأوسط الكبير المنشود، إذ بحضوره الفاعل تغيب الهويتان العربية والإسلامية عن أي تكتل إقليمي محدود أو شامل.

3- ضرورة إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، مما سيدفع الأطراف كلها إلى التسوية والقبول بحدود دنيا من المطالب والشروط.

المثير في مشروع لويس، أنه منذ الغزو الأميركي للعراق بدأ عملياً تطبيق هذه الرؤية، بدليل حالة دولة العراق الموزعة بين تجمعات طائفية وجهوية وعرقية. والدليل الثاني الأشد وضوحاً ما جرى ويجري في السودان، الذي توزع على أكثر من دولة ومنطقة نفوذ، إضافة إلى حال اليمن التي عادت يمنين، وليبيا المتفرقة، والآن سوريا غير المستقرة.

في تجارب التاريخ السياسية والعسكرية والاجتماعية، المتعددة، ثبت أن ما يجري في سوريا، ينعكس مباشرة على لبنان، والعكس صحيح.

لذلك يبقى السؤال الملح، على ماذا ستستقر سوريا، وكيف ستصبح الأوضاع في لبنان؟ هل ستبقى سوريا موحدة ومستقرة وينعم لبنان بمناخ مماثل، أم تنتقل المحنة من دمشق إلى بيروت؟

المدن

—————————-

اختبأ في خزان مياه”.. ناجون من “مجازر” الساحل يروون للحرة ما حدث

محمد الصباغ – دبي

13 مارس 2025

منزل من طابق واحد في إحدى قرى ريف اللاذقية في الساحل السوري. مثل بقية المنازل يعلوه خزان مياه، اختبأ فيه (ع.أ) نحو 5 ساعات، أثناء عمليات “القتل والسرقة والفوضى،” يقول.

(ع.أ)، مدرس كيمياء، رب أسرة، من سكنة قرية المختارية التي تبعد نحو 15 كيلومترا عن مدينة اللاذقية. فضل عدم الكشف عن اسمه خوفا على سلامة عائلته.

مثل قرى ومدن أخرى في الساحل السوري، شهدت المختارية “مجازر” وفق تعبير المرصد السوري، على أيدي فصائل مسلحة تابعة للإدارة السورية الجديدة.

بدأ التوتر في السادس من مارس في قرية ذات غالبية علوية في ريف اللاذقية، على خلفية توقيف قوات الأمن أحد المطلوبين.

وسرعان ما تطوّر الوضع إلى اشتباكات بعد إطلاق مسلحين علويين، قالت السلطات إنهم من “فلول نظام بشار الأسد”، النار على عناصر قوات الأمن في أكثر من مكان، وفق المرصد.

ثم بدأت الاعتداءات و”إعدامات ميدانية” لسوريين مدنيين في مناطق العلويين غربي سوريا، حسب منظمات حقوقية.

وقتلت الفصائل المسلحة وقوات  الأمن السورية من المدنيين، وفقا لأحدث حصيلة للمرصد، 658 شخصا في اللاذقية، و384 في طرطوس و171 في حماة و12 في حمص.

وأعلنت الرئاسة الانتقالية السورية تشكيل لجنة تحقيق “للكشف عن الأسباب والملابسات التي أدّت إلى وقوع تلك الأحداث، والتحقيق في الانتهاكات بحق المدنيين وتحديد المسؤولين عنها”.

وقالت السلطات السورية إنها أوقفت 7 أشخاص على الأقل منذ الاثنين، ارتكبوا “انتهاكات” بحقّ مدنيين في الساحل السوري. وأشارت إلى إحالتهم إلى القضاء العسكري المختص.

تواصل موقع “الحرة” مع مواطنين من سكان الساحل السوري. قالوا إنهم هوجموا “لمجرد أنهم ينتمون للطائفة العلوية”.

يقول أيهم غانم، وهو صحفي سوري يعيش في اللاذقية، إن المأساة بدأت، في السادس من مارس، إثر تعرض دورية للأمن العام لكمين في ريف مدينة جبلة، نفذه مسلحون موالون للنظام السابق.

مساء ذلك اليوم، “امتدت التوترات لتصل مناطق أخرى في جبلة واللاذقية وبانياس وطرطوس، وسط أصوات إطلاق نار واشتباكات قوية جدا”.

على مدار تلك الليلة، بدأت تتعالى أصوات بالدعوة “للجهاد ضد العلويين،” وفق شهادات حصل عليها موقع “الحرة”.

وقال (ع.أ) إنه خلال عودته إلى قريته، ظهر الخميس، “سمع بوجود اشتباكات في جبلة، فاعتقد أنه أمر عادي، حتى بدأت أصوات الرصاص تقترب بشكل مرعب”.

“قضينا يوم الخميس في رعب شديد، خصوصا بعدما بدأنا نتابع على وسائل التواصل الاجتماعي دعوات الجهاد والنفير العام ضد العلويين”.

قتل المئات في الساحل السوري خلال الأيام الماضية – فرانس برس

مجازر الساحل في سوريا.. حصيلة جديدة للقتلى العلويين

ارتفع عدد قتلى المدنيين العلويين على يد قوات الأمن السورية ومجموعات رديفة لها إلى 830، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، الأحد.

وتابع الرجل: “في حوالي الثامنة من صباح الجمعة. دخلت مجموعات مسلحة قريتنا، وكنا قد تلقينا تحذيرات من شباب هربوا من قرى مجاورة”.

“أنا متزوج، وزوجتي بالصدفة مثل كل خميس كانت تسافر لقضاء نهاية الأسبوع مع عائلتها في مدينة جبلة. كنت وحدي، واختبأت داخل خزان مياه على سطح البيت، بعدما أفرغته من المياه تماما”، يقول لموقع “الحرة”.

“بدأوا بإطلاق الرصاص نحو المنازل. ظلوا خمس ساعات في القرية”.

“الحلم بالهروب من سوريا”

“قضينا ليلة الخميس والأيام الثلاثة بعدها في المنزل، بعدما أغلقنا النوافذ وضعنا مقاعد خلف باب المنزل، وبقينا في رعب وسط ضجيج إطلاق النار”، يقول شاب آخر من مدينة جبلة لموقع “الحرة” عبر واتساب.

بيان أميركي جديد بشأن “العنف” في سوريا

قالت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، الاثنين، إن على السلطات السورية التحقيق ومحاسبة المسؤولين عن مقتل المدنيين.

يواصل حديثه: “كنا 13 شخصا، كنا نقرأ القرآن وندعو ألا يقتحموا منزلنا. دار الحديث أنهم لو اقتحموا فسنمنحهم كل شيء نملكه مقابل ألا يقتلونا”.

تحدثنا عن “الهروب والسفر خارج سوريا، حينما ننجو، بعد دعوات الجهاد المرعبة التي تابعناها خلال تلك الأيام”.

لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها السلطة الانتقالية في سوريا، أعلنت، الثلاثاء، عزمها على “ترسيخ العدالة ومنع الانتقام” خارج نطاق القانون.

وقال المتحدث باسم اللجنة، ياسر الفرحان، خلال مؤتمر صحفي في دمشق: “سوريا الجديدة عازمة على ترسيخ العدالة وسيادة القانون وحماية حقوق وحريات مواطنيها ومنع الانتقام خارج إطار القانون وضمان عدم الإفلات من العقاب”.

وتعتزم اللجنة “وضع آليات للتواصل” معها، على أن يتمّ الإعلان عنها في “القريب العاجل”، موضحا أن اختصاصات اللجنة “مفتوحة ومرتبطة بالحوادث التي وقعت يوم 6 و7 و8” مارس.

ابن قرية المختارية (ع.أ) الذي تحدث لـ”لحرة”، قال إن “فصائل مسلحة تابعة للسطات، اقتادت من قريته 15 رجلا، وطالب عناصرها الرجال بالعواء والنباح، قبل ضربهم وقتلهم في النهاية”.

وأضاف أنه بعد انسحابهم من القرية، كانت “رائحة الجثث في كل مكان، ولا ماء أو كهرباء وسط مخاوف بين السكان من الخروج من منازلهم”.

أشار أيضا إلى أن البعض “اختبأ بين الجرود والجبال والمزارع بعيدا عن المنازل”، وهو ما أكده الطبيب والكاتب السوري الذي قضي 16 عاما في سجون نظام الأسد، راتب شعبو.

يعيش شعبو في باريس، لكن عائلته تعيش في إحدى قرى ريف اللاذقية، وبدأ التواصل معهم منذ الخميس الماضي للاطمئنان على سلامتهم.

قال لموقع “الحرة”، إن أقاربه يعيشون في قرية كفرية، ولحسن الحظ لم تتعرض لهجوم، لكن السكان “تابعوا أرتال الفصائل المسلحة التابعة للسلطة تمر من أمام مدخل القرية نحو مناطق أخرى”.

وأضاف أنهم “عاشوا أياما صعبة، حيث كانوا يسمعون طلقات الرصاص باستمرار ويرون أعمدة الدخان المتصاعدة من البلدات المجاورة”.

سوريون علويون فروا باتجاه لبنان بعد عمليات القتل التي تعرضوا لها

أوضح شعبو أن أخيه يعاني من مشكلة في ساقه “وزوجته كبيرة في العمر ولديهما ابنة تعاني إعاقة، وقد اضطرت الأسرة لحمل أخي وترك المنزل والهروب إلى الجرود والأراضي الزراعية، ولم يعودوا لأيام خوفا من الهجمات”.

على الرغم من ذلك، “كانوا يخشون من أن يتم حرق الأحراش بعدما حدث ذلك في مناطق أخرى بواسطة القوى الأمنية، بحجة أن فلول نظام الأسد يختبئون في تلك المناطق”، وفق شعبو.

لا كهرباء.. لا مياه

قال غانم إنه حتى الثلاثاء، كانت الناس في بيوتها تخشى الخروج “وهذا طبيعي بعد الذي حدث”.

وأضاف: “الأعمال القتالية انتهت، والناس في انتظار خروج الفصائل بشكل عام وانتشار الأمن العام، لتنتشر الطمأنينة وتعود الحياة لطبيعتها”.

ابن جبلة (هـ.ن)، قال أيضًا إنهم لم يستطيعوا دخول أي قرية بسبب الحواجز، وانقطاع الكهرباء عن كامل محافظة اللاذقية. كان “التواصل منقطع عن معظم سكان ريف جبلة”.

ومع خروجه ورؤية تبعات الأحداث، قال: “الشوارع كانت مبكية، فوارغ الرصاص في كل مكان، والمحال منهوبة وحرق عدد منها، مع عشرات السيارات المدمرة”.

وتابع: “فقدت الكثير من أصدقائي في جبلة واللاذقية وبانياس”.

ة

موقف من الاتحاد الأوربي بشأن “الإعدامات الميدانية” في سوريا

أعرب الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء، عن قلقه “العميق إزاء” موجة “العنف” الأخيرة التي شهدتها المنطقة الساحلية في سوريا، وأسفرت عن سقوط عدد كبير من الضحايا، بينهم مدنيون.

الكاتب شعبو، قال إن أسرته تواصلت معه وأبلغته بعودتها للمبيت في المنزل ليلا، ثم توجهت في الصباح إلى الأحراش مجددا.

وتابع: “الخبز لم يصل القرية لستة أيام، وكانوا يسلقون البرغل، حيث لا شيء آخر يأكلونه. وفقط الثلاثاء وزع رجال السلطة ربطة خبز واحدة على كل منزل”.

وأعلنت وكالة الأنباء السورية، الليلة الماضية، بدء عودة التيار الكهربائي في عدد من أحياء مدينة جبلة وبعض قرى ريفها، بعد انقطاع لأيام.

وأرجعت الانقطاع إلى “اعتداءات فلول النظام البائد”، في إشارة إلى نظام بشار الأسد المخلوع.

ونشرت الوكالة تقارير من شوارع اللاذقية وبانياس لأشخاص تحدثوا عن “عودة الهدوء”، وبدأ مسؤولون يزورون مناطق عانت خلال الأيام الماضية.

لكن أشخاصا من تلك المناطق قالوا لموقع “الحرة” إن مشاعر الرعب لا تزال موجودة، والمخاوف من موجة عنف أخرى قائمة.

محمد الصباغ

الحرة

————————

المرصد السوري: حملات تحريضية ضد أحياء علوية في دمشق

الحرة – دبي

14 مارس 2025

أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، الجمعة، أن أحياء فقيرة ذات غالبية من الطائفة العلوية في دمشق تشهد تصاعدا في حملات التحريض والكراهية ضدها عبر الإنترنت.

وأوضح المرصد أنه يتم تداول منشورات تحريضية تدعو إلى تهجير سكان هذه المناطق.

وأشار إلى أن تلك الحملة تجري وسط غياب إجراءات واضحة لمكافحة خطاب الكراهية منذ التغيرات السياسية التي شهدتها سوريا في ديسمبر الماضي.

ووفقا للمرصد، فإن هذه المنشورات، التي يتم تداولها بشكل واسع على منصات التواصل الاجتماعي، تحتوي على محتوى مُفبرك يسعى إلى خلق حالة من التضليل الإعلامي، مما يعطي انطباعًا خاطئًا بوجود مطالبات شعبية بتهجير هذه الفئة، في حين يرى المرصد أنها جزء من حملة منظمة تهدف إلى تأجيج التوترات.

وأضاف المرصد أن هذه الحملة الإعلامية تأتي بالتزامن مع أعمال عنف شهدها الساحل السوري، حيث وثق المرصد مقتل 1,476 مدنيًا من أبناء الطائفة العلوية في حوادث وصفها بالمروعة.

وفي سياق متصل، أعرب المرصد عن قلقه إزاء الطريقة التي تصور بها بعض المؤسسات الحقوقية الدولية هذه الأحداث، حيث وصفها بعضها بأنها “نزاع بين أطراف متصارعة”، وهو ما قد يؤدي، بحسب المرصد السوري، إلى “تشويه” الحقائق وإعاقة أي مساءلة قانونية للجهات المسؤولة عن الجرائم بحق المدنيين.

ودعا المرصد المجتمع الدولي إلى التعامل بجدية مع محاولات نشر خطاب الكراهية، مشددًا على ضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة لحماية جميع الفئات المتضررة، ومنع تصاعد التوترات التي قد تؤدي إلى مزيد من العنف والانتهاكات في المستقبل.

الحرة – دبي

——————————

إيكونوميست: الوقت ينفد من الشرع وعليه مشاركة السلطة قبل أن تتفكك سوريا/ إبراهيم درويش

تحديث 14 أذار 2025

قالت مجلة “إيكونوميست” في افتتاحيتها، إن الوقت ينفد من رئيس سوريا أحمد الشرع، ويجب عليه التشارك في السلطة من أجل الحفاظ على وحدة بلاده.

ورأت المجلة أن سوريا شهدت أسوأ عنف طائفي منذ سقوط نظام بشار الأسد قبل ثلاثة أشهر، وربما منذ الهجمات الكيماوية على الغوطة الشرقية في عام 2013. وقد صُدم البلد الذي يشعر بوقع الديكتاتورية والحرب الأهلية.

ويُعتقد أن 800 شخص قُتلوا من مناطق الساحل السوري التي تعتبر معقل الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد.

وترى المجلة أن العنف يكشف عن المعضلة التي تواجه سوريا، والتي تتمثل في حكم البلد، فهل سيظل الحكم فيها مركزيا تتجمع السلطات في يد الحكومة المركزية التي ستكون قادرة على إرساء النظام والقانون، مع أن الرئيس أحمد الشرع، هو جهادي سابق وبالتزام مشكوك فيه لشمل الآخرين بمشروع بناء البلد؟ أم هل يجب على الأقليات الحفاظ على الأمن في المناطق التي تعيش فيها، حتى لو كان هذا على حساب تفكك البلد؟

وتعلق المجلة أن أسباب الأحداث الأخيرة لا تزال غامضة، وأفضل تكهن هو أن مقاتلين من الأقلية العلوية قاموا بمهاجمة  قوات الحكومة والمستشفيات. وردا على ذلك، سارعت ميليشيات سنية في قوافل ودخلت القرى والبلدات وقتلت مدنيين وأحرقت بيوتا، بحسب المجلة. وقالت إن الفيديوهات كشفت عن إجبار السكان على النباح كالكلاب قبل إطلاق النار عليهم.

وتعتقد المجلة أن الميليشيات السنية هي على الأرجح المسؤولة عن معظم القتل. والتفسير الخبيث هو أن الشرع لم يكن مستعدا للحد من قوة المتطرفين بين أنصاره. ولكن التفسير الأكثر سخاء هو أنه كان بطيئا في الرد على الأحداث، وحكومته ليست مسيطرة على الوضع. وتقول إن العنف في مناطق العلويين هو علامة على تفكك سوريا.

ففي شمال سوريا، للجماعات الكردية جيوبها الخاصة. وفي الجنوب، لميليشيات أخرى، بما فيها ميليشيات يقودها الدروز، مجال نفوذ. وتتدخل القوى الخارجية إما بذريعة حماية حدودها من الفوضى، أو لاغتنامها الفرصة للسيطرة على مستقبل سوريا. وتدعم إسرائيل الدروز، وتركيا تدعم الجماعات العربية السنية، وأمريكا تساند الأكراد.

ورغم دورها كأقوى منقذ لنظام الأسد المكروه، فلا تزال روسيا متكاسلة في الرد على أمل الاحتفاظ ببعض النفوذ، وربما الوصول إلى قواعدها الجوية والبحرية.

وتعلق المجلة أن الشرع حتى الآن كان مخيّبا للآمال. فخبرته السابقة كانت إدارة نظام غير ليبرالي في مدينة إدلب من خلال جماعته، هيئة تحرير الشام. وحتى الآن، يدير سوريا كزعيم ميليشيا. فقد تخلف عن المواعيد النهائية لتشكيل حكومة شاملة وإصدار إعلان دستوري وتعيين هيئة تشريعية، ولم يعبّر عن التزام بالقوانين العلمانية، ولم يظهر إلا تسامحا ضعيفا. ومع ذلك، فإن عيوب حكومته تعكس أيضا ضعف الدولة السورية. فهي لا تملك سوى عدد قليل نسبيا من القوات الخاضعة لسيطرتها المباشرة. كما أن الميليشيات العرقية المختلفة تتفوق على الجيش والشرطة عددا وعتادا.

وتحتاج سوريا حكومة مركزية، قادرة على استخدام سلطاتها لتفويض السلطات إلى المحافظات. وعلى الغرب رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضها لمعاقبة نظام الأسد البغيض، والتي تسبب حاليا ضائقة مالية خانقة.

لكن المسؤولية تقع على عاتق الشرع، وفق ما ترى المجلة. ففي هذا الأسبوع وبعد المجازر، اتخذ بعض الخطوات الإيجابية. فقد شكّل لجانا للتحقيق في العنف الطائفي، ووقّع اتفاقية لاندماج قوات سوريا الديمقراطية في قوات الأمن السورية. ولكنه بحاجة لعمل المزيد، ويجب تطهير جيشه من المتطرفين ودعوة المزيد من المعتدلين للانضمام إليه بحيث يكون لديه قوة الرد ولا يظهر على أنه أداة القوة السنية. كما يجب عليه تشكيل مؤسسات ووضع جدول زمني للانتخابات التي قد تطمئن السوريين بأن الحكومة القوية لن تكون تعبيرا عن القوة السنية. وعليه تفويض المزيد من السلطات إلى المناطق.

فإعادة بناء سوريا هي لعبة ثقة، فلو اعتقد المزيد من الناس بأن هناك مستقبلا متناغما، ستزداد فرص تحقيق ذلك. لكن مجزرة أخرى في عهد الشرع قد تنهي هذه اللعبة.

وقالت المجلة إن الأحداث التي جرت في 6 آذار/ مارس، حوّلت مناطق في الغرب السوري إلى “محور كارثة” حيث انتشرت الجثث في الشوارع، وفرّ الناس إلى الغابات أو إلى لبنان. وتقول إن الشرع يبدو أنه متردد بين ماضيه الجهادي وحاضره كرئيس، مشيرة إلى الفيديو الذي أصدره في أول يوم من الأحداث حيث حفل بالإشارات الدينية، وأجج فيه الصراعات وأشاد بـ”مقاتلينا الشرفاء”.

لكن مع تصاعد التوتر في البلاد، غيّر الشرع مساره بمهارة. ففي خطاب مصور ثان بعد يومين، تظاهر بأنه زعيم أمة، لا زعيم طائفة. ولأول مرة منذ توليه السلطة، عيّن علويين في مناصب قيادية وضمّهم إلى لجنتين: إحداهما للتحقيق في أعمال العنف، والأخرى لاستعادة “السلم الأهلي”.

وتبع ذلك في اليوم التالي، إعلان الاتفاق على دمج قوات سوريا الديمقراطية بقوات الأمن الحكومية. وهناك اتفاق محتمل مع الدروز الذين تحاول إسرائيل إغراءهم. ودعا الشرع في 11 آذار/ مارس الأئمة على حفل إفطار رمضاني ودعاهم للحديث عن المساواة بين كل الطوائف السورية في خطبهم ودروسهم الدينية. وكان من بين الحضور، صديق طفولته الشيخ أبو الخير شكري.

والتحدي أمام الشرع هو قدرته على الحفاظ على وحدة البلاد التي كانت قبل خمسة أيام على حافة الانهيار. فقد فتح العنف في الساحل السوري جراح الطائفية التي وعد الشرع بعلاجها.

وتشير المجلة إلى أن العلويين كانوا خائفين، حيث دعا مدير إذاعة دمشق الذي عيّنه الشرع لرميهم في البحر. وقد اعتبر قادة الشرع الساحلَ السوري منطقة عسكرية، وفرّ الكثير من العلويين وطلبوا حماية الخارج وحاولوا الدخول للقواعد الروسية هناك.

وفي دمشق ومدن أخرى، تخشى الأقليات أن يحول الجهاديون أنظارهم إليها. ويذكرهم سلوك الشرع الهادئ ببشار الأسد. ولا يزال الكثيرون يخشون أن يكون رئيسهم الجديد مجرد “إرهابي” يرتدي بدلة رسمية.

ولتسهيل توزيع الوظائف والمساكن على السنة، قام الشرع بحل القوات المسلحة القديمة وتطهير الخدمة المدنية وطرد المسؤولين السابقين من منازلهم الحكومية. وكما هو الحال مع اجتثاث البعث في العراق، فإن هذا يردع الأقليات عن تسليم أسلحتها ويؤجج دعم الثورة. وترى المجلة أن إرضاء السنة والأقليات هو تحد كبير وصعب.

فلو أراد الشرع السيطرة على المتطرفين، فإنه بحاجة لبدء العدالة الانتقالية التي تردد في القيام بها حتى الآن. وعليه التأكد من عودة العلويين الذين لم يشاركوا في فظائع النظام السابق إلى أعمالهم وحياتهم الطبيعية. وحتى ينجح في مهمته، فهو بحاجة للمال الذي لا يتوفر لديه الآن، بسبب العقوبات.

فعندما سيطر على الحكم، لم يكن لدى الدولة قوة عاملة، وبدون مال لدفع الرواتب سيظل يواجه مشكلة من المتشددين الذين سيتحدّون الجيش ويتعاملون مع الأقليات كغنيمة حرب. وفي النهاية، فهو بحاجة لتقاسم السلطة مع مكونات البلاد الأخرى. وبدون ذلك، سيفقد الشرع الثقة الوطنية، وسيفاقم تدهور الاقتصاد من مشاكله.

القدس العربي

—————————————-

 فسبكات سوريا: أصول الطائفية ونكرانها

المدن – ثقافة

الخميس 2025/03/13

فاروق مردم بيك

لنعترف، ونحن ندفن قتلانا، بانّ الطائفيّة مُتجذّرةٌ في بلادنا، تغفو حيناً ثمّ تستيقظ كلّما سنحت لها الفرصة مُتعطّشةً للدماء. ظننّا في وقتٍ مضى أنّ شعاراتنا القوميّة العربيّة كافيةٌ لاجتثاثها، ونُراوغها اليوم بالكلام على الوطنيّة السوريّة كما لو أنّ وطننا السوري لم تُمزّقه الأحقاد الطائفيّة التي راكمها الاستبداد الاسديّ طوال أكثر من خمسين سنة، وزادها حدّة تغوّل الحركات الجهاديّة. لا بدّ من الاعتراف بواقعنا على حقيقته لا كما نتصوّره أو كما نأمل أن يكون، هذا إذا أردنا بناء الوطنيّة السوريّة على أسسٍ متينة، حجراً حجراً.

مروان أبي سمرا

في بداية الثمانينات، كان الباحث الفرنسي ميشيل سورا، مَؤلف كتاب الدولة المتوحشة، يشدد على أن الطائفية سمة مركزية من سمات النظام الأسدي، وركن أساسي من أركان الدولة الَبربرية التي عمل على بنائها على أنقاض المجتمع السوري. ولكن طائفية النظام الأسدي، كانت كلما ازدادت تجذراً وعنفاً، كلما ازدادت نكراناً وتنكراً خلف الأقنعة الخطابية واللغوية، لدرجة أصبح معها مجرد تسميتها من المحرمات. ووجه سورا نقداً لاذعا للعلمانيين واليساريين السوريين الذين كانوا في أغلبيتهم الساحقة يشاركون في نكران طائفية النظام الأسدي ودولته المتوحشة. وما كان يضمره ذلك النقد هو أن النكران ذلك، وبالتالي الهروب من مواجهة المشكلة الطائفية، يساهم في تعميقها وتعميق تبعاتها التدميرية على المجتمع السوري. والحق أن هذا النكران، أو كما يقول بعض اللبنانيين، التكاذب الطائفي، استمر على حاله في الأوساط الليبرالية والعلمانية واليسارية، حتى إلى ما بعد الثورة وانتقال الدولة المتوحشة إلى طور الإبادة الطائفية، وإلى الإيغال في السيطرة على الطائفة العلوية، تجييشها وإعادة تشكيلها وصناعتها صناعة توحيش أسدية، لجعلها درع النظام والخزان البشري لحربه الإبادية. وفي ظل هذا النكران كانت تنمو وتنتشر في الأوساط السورية من الطائفة السنية ما يمكن تسميتها بـ”طائفية مَضادة”، تقوم على المساواة والمطابقة بين النظام الأسدي الطائفي، َمن جهة، والطائفة العلوية التي يجري تحميلها بمجملها وبمجمل أفرادها مسؤولية الجرائم الطائفية التي يرتكبها النظام الأسدي، بما في ذلك جرائم الإبادة. وبطبيعة الحال عمل الإسلام السياسي والجهادي على الدفع في هذه الوجهة الطائفية، وساعده في ذلك غياب المسألة الطائفية والتصدي لها في الفكر السياسي المعارض للنظام.

وها نحن اليوم أمام الحصاد الدموي للطائفية ونكرانها.

تيسير خلف

حول العلويين وأصولهم

أحد الأخوة العلويين من محافظة طرطوس أرسل لي على البريد الخاص منشوراً لأحد معاتيه العصر يقول فيه إنه على الذين يقتلون العلويين اليوم أن يعلموا أن هؤلاء هم أحفاد الفينيقيين، وطلب مني إيضاحاً حول هذه القضية من خلال معرفتي التاريخية.

لفتني المنشور وأضحكني في الآن ذاته. هل إدانة القتل مرتبطة بتاريخ شعب ما؟ مثلاً لو كان العلويون سومريين أو حثيين ما الذي يختلف في الأمر؟ وهل يختلف الأمر إن كانوا عرباً أو تركاً أو كرداً؟

أجبت الأخ العلوي على سؤاله بتسجيل صوتي مطول، وتمنى علي أن أنشر مضمونه لتعم الفائدة في هذه الأيام التي تشهد شيطنة لهذه الطائفة الكريمة عبر الكثير من الشائعات التي تطال الأصل والفصل والغايات.

في قناعتي أن تعريف العنصرية لا يخرج عن إطلاق الأحكام على الجماعات بوصفها جماعات. وفيما يخص الأخوة العلويين مروا خلال السنوات الخمسة عشر الماضية بصراع هوياتي خطير نتيجة الخيارات الصفرية التي زجهم فيها النظام المخلوع. فبدأ البعض يعزف على نغمة البحث عن هوية قديمة معروفة بتاريخ الحضارة للترفع والتمايز عن الهوية العربية التي كانت تتعرض في تلك السنوات للتحطيم على أكثر من صعيد.

ولكن تاريخ العلويين معروف وموجود في طيات الكتب، وهم مكون عربي أصيل، من الصحيح أنهم ينحدرون من منابت مختلفة ولكن هويتهم العربية لا جدال حولها.

من خلال تتبعي للمصادر التاريخية العربية أستطيع أن أضع تصوراً قد يكون قريباً من الحقيقة لتكوُّن هذه الطائفة السورية الكريمة.

الدليل التاريخي الأول هو ما ورد عن سيف الدولة الحمداني حين أسكن جماعة النصيرية الحرانية في جبال الساحل السوري الشمالية، فيما نعرفه اليوم بجبال اللاذقية بسبب التهديدات السلجوقية. ويبقى موضوع تحول صابئة حران إلى المذهب النصيري مجالاً للبحث التاريخي، ولكن في عهد سيف الدولة في القرن الخامس الهجري كان صابئة حران قد أصبحوا جماعة شيعية على مذهب ابن نصير.

وجد الحرانيون في جبال اللاذقية مجموعات من بني كلب وبني غسان الذين سبق أن أقطعهم معاوية بن ابي سفيان هذه الجبال لتعميرها وحمايتها بعد أن بنى استراتيجيته العسكرية القائمة على تحصين السواحل بالعرب حين لاحظ أنها خاصرة رخوة يجخلها الروم البيزنطيون وقت يشاؤون. ومن المعروف أن الكلبيين والغساسنة كانوا يشكلون عماد دولة معاوية في الشام. ولكن بعد سقوط دولة الأمويين اعتنق هؤلاء التشيع شأنهم شأن غالبية عرب الشام في حقبة الصراع الفاطمي العباسي على هذه البلاد، وكانت آخر إماراتهم هي إمارة بني منقد الكلبيين في شيزر.

في فترات تاريخية لاحقة انضم نصيريو عانة في العراق إلى نصيريي الساحل بقيادة الأمير المنتجب العاني، تلاهم نصيريو سنجار بقيادة الأمير المكزون السنجاري لتتشكل هذه الطائفة من هذه المكونات الأربعة، ومع احتفاظ القبائل والعشائر بأسمائها القديمة رغم ظهور مسميات حديثة.

الدولتان السلجوقية والايوبية هما المسؤولتان عن دفع العلويين النصيرية للسكن في الجبال بعد ان كانوا يتوزعون بالإضافة إلى جبال الساحل في بعض مدن وحصون الداخل.. وأدت العزلة الطويلة طوال العصرين المملوكي والعثماني إلى تكون أوهام حول هذه الطائفة التي كونت الشعب السوري كما نعرفه اليوم بعد خروج العثمانيين من بلاد الشام عام 1918.

سألني الأخ العزيز عن حقيقة الادعاء المنتشر بأن حافظ الأسد كاكائي. ضحكت وتذكرت صديقي المرحوم عز الدين سطاس وهو من شراكسة الجولان، حين اخبرني قبل سنوات طويلة بأن جميل الأسد في اجتماع مع بعض وجهاء الشراكسة في سوريا قال إن أصل عائلتهم شركسي. ولكنهم عاشوا مع العلويين فترة طويلة.. نفس الكلام كان جميل الأسد يقوله للأكراد وربما للتركمان القزلباش، رغبة منه لكسب تأييد هذه المجموعات، ولكن حافظ الأسد وعائلته من ابناء هذه البلاد، وربما أصل العائلة القديم من منطقة السويدية في لواء اسكندرون ولكنهم علويون عرب. ومن قال إن العرب أمة مقدسة لا لصوص فيها ولا قتلة ولا مجرمين؟

روزا ياسين حسن

الكثير من السنّة من أهل البلد ببانياس هم من ساعد النازحين العلويين المرعوبين من القتل الطائفي في أحيائهم. تأكيدات متوالية من شهادات الناجين من المجزرة. تؤكدها الكثير من الدعوات والمناشدات وحملات الدعم والإغاثة والخطب في المساجد لتحريم دم العلويين ورفض الفتنة الطائفية.

بالمقابل هناك دوماً من يدعو إلى قتل المدنيين لأنهم ببساطة علويون.

المجرم ما له طائفة، لا السني إرهابي حاقد طائفي، ولا العلوي فلول حاقد طائفي، لكن ما علينا إلا اجتثاث الحاقدين طائفياً من الطرفين الذين يلعبون بنا وبدمنا وببلدنا.

في بالمختصر مجرمين وفي بشر بدهم يعيشوا بأمان بهالبلد وكل نقطة دم لمدني بريء عندهم حرام.

—————————-

ملخص للاسبوعين الماضيين في القدموس

Samer Hindi

بتاريخ الخميس 27-2-2025 تم الغدر بالشابين حسين العبدالله وعمار المير علي واعدامهم ميدانياً بإحدى القرى المجاورة لمدينة القدموس وتم معرفة المجرم الذي قام بهذه الجريمة مع اشخاص آخرين .

وفي اليوم التالي الجمعة 28-2-2025 توجهت دورية من الأمن العام لإحضار المطلوبين وتعرضت لكمين غادر من المجرمين واستشهد الشاب علاء المصري من الامن العام والذي ينحدر من بلدة اسقاط -ادلب (ولاصحة لما تم تداوله عبر وسائل التواصل من تنكيل بجثة الشهيد)وبعدها تم اعتقال شخص للاشتباه بتورطه بالجريمة و بدأت تتكشف الحقائق عن وجود مجموعات مسلحة في الريف لأمر ما تبين سببه لاحقاً.

الخميس 6-3-2025 وبعد الافطار بقليل بدأت تتوارد أخبار لتجمع مجموعات لفلول النظام البائد على مداخل القدموس وعند قيام الأمن العام بدورية على أحد المداخل تعرض لكمين غادر واستشهد على اثره عنصرين من الأمن العام وشاب من القدموس وتم منع اسعافهم أو سحب جثثهن حتى الصباح.

وهنا بدأت الاتصالات ترد لأهالي القدموس لتسليم عناصر الأمن العام وتحييد شباب القدموس وأهاليهم عن هذا الموضوع وتمّ رفض هذا الأمر بشكل قاطع من شباب اللجنة الأمنية المتعاونة مع الأمن العام والأهالي وبدأت المفاوضات بين الأمن العام وشباب القدموس من جهة وفلول النظام البائد من جهة أخرى حتى صباح يوم الجمعة 7-3-2025 والتي أفضت لإنسحاب الأمن العام باتجاه مصياف لتجنيب القدموس حماماً من الدم وللحفاظ على سلامة عناصر الأمن العام .ورغم ذلك تمّ الغدر ونقض الإتفاق والتعرض للأمن العام على طريق مصياف وتمّ إختطاف الشخص الموقوف للاشتباه بتورطه بجريمة القتل التي حصلت بتاريخ 27-2-2025 للشابين من القدموس وبعدها وصلت عناصر  الأمن العام بسلام الى مصياف.

الجمعة 7-3 والسبت 8-3 وحتى ظهيرة الاحد 9-3 كانت البلدة بحماية شباب اللجنة الامنية بالقدموس والأهالي لحين عودة الأمن العام وأصبحت القدموس بعهدته.

-الشكر للأمن العام لتجنيب البلدة دماء الأبرياء و الشكر لشباب اللجنة الأمنية و الأهالي لرفضهم تسليم عناصر الأمن العام لفلول النظام المجرمين .

– رأي شخصي:

 ..عدم دخول الفلول للقدموس بعد إنسحاب الأمن العام سببه على الأغلب فشل الإنقلاب في الساحل وليس لتعهدهم بعدم الدخول للبلدة اثناء المفاوضات معهم (الفلول لا عهد لهم)

..أغلب الفلول هم عناصر خضعوا للتسوية.

..ماحصل في الشهور الثلاثة الماضية كانت بمثابة عفو عن هؤلاء الفلول والذين لا يؤمن جانبهم ورأينا كمية الأسلحة الموجودة لديهم.

..الشهور الماضية أثبتت صدق الإدارة الجديدة لسوريا(بشكل قاطع) بمنعها لفصائل معينة من الذهاب إلى الساحل وهذا مالم تستطع منعه مع الأسف بعد محاولة الإنقلاب الفاشل والغدر بعناصر الأمن العام ورأينا نتيجة مجيئهن للساحل.

…تجنبت القدموس من خلال الحدث الأول والثاني فتنة طائفية لا يستطيع أحد التنبؤ بما كانت ستؤول اليه الأمور.

– الرحمة لشهداء الأمن العام والرحمة للشهداء الأبرياء من المدنيين .

الفيس بوك

—————–

قراءة سريعة عما حصل في الساحل:

Fadel Abdul Ghany

بعد أسابيع من الاضطرابات الأمنية المحدودة، في المناطق الساحلية في سوريا، وخصوصًا #اللاذقية #جبلة #طرطوس، بدأت اليوم هجمات منسقة تستهدف مواقع عسكرية وأمنية حساسة، مما يدل على وجود تخطيط وتنظيم يتجاوز العمليات الفردية أو العشوائية. الأسلوب المتبع في هذه الهجمات، من حيث التنسيق بين المحاور المختلفة والانسحاب إلى المناطق الجبلية بعد التنفيذ، يعكس تكتيكات حرب العصابات المدروسة. كما أن تعدد الكمائن والاشتباكات المتزامنة في أكثر من موقع يشير إلى أن العصابات يمتلكون معلومات استخباراتية مسبقة عن تحركات القوات الأمنية، وهو ما يؤكد وجود جهات داخلية أو خارجية تقدم لهم الدعم اللوجستي والمعلوماتي.

هناك مؤشرات عن دور مؤكد لغرفة عمليات في قاعدة حميميم التي تديرها روسيا، في تنسيق بعض هذه التحركات، كما لوحظ عودة نشاط لوسائل الإعلام الإيرانية والروسية في تغطية التطورات في #سوريا، ما يشير إلى احتمالية وجود أجندات سياسية خلف التصعيد.

استجابة الدولة السورية للأحداث تعكس إدراكًا لخطورة التصعيد، حيث تم إرسال تعزيزات عسكرية وأمنية كبيرة من مختلف المحافظات إلى المناطق التي شهدت اشتباكات. عمليات التمشيط الجارية في الجبال المحيطة بالساحل السوري تؤكد أن السلطات باتت ترى في هذه الهجمات تهديدًا استراتيجيًا لا يمكن التعامل معه بأساليب تقليدية، خصوصًا مع صعوبة التضاريس التي تمنح المجموعات المهاجمة قدرة أكبر على الاختباء والمناورة.

هذه المؤشرات مجتمعة تعني أن المواجهة الحالية قد تكون بداية لمرحلة أكثر تعقيدًا، حيث سيتعين على الدولة السورية التعامل مع التهديدات الأمنية المباشرة، وأيضًا وهو الأهم، مع التداعيات السياسية لهذا التصعيد.

الفيس بوك

——————————

لا استطيع الا ان اتهم الدولة

Ahmad Nazir Atassi

كنت لا اريد ان اكتب لانه لا يوجد موضوع اكتب عنه. لا اكتب مواقف ولا اسرد احداث ولا اروج لايديولوجيا ولا ادعم طرفا على طرف، ولا انشر سردية معينة. عندما يبدأ الناس بقتل بعضهم البعض فالافضل الانسحاب اذا كنت لا تملك اية ادوات تجعلك فاعلا حقيقيا. وهل تعرفون من يملك هذه الادوات؟ الدولة بالطبع. وسنعود لذلك. لكن قررت ان اكتب لان صديقة عزيزة “نكشتني” وكأنها تقول لي اين انت يا نظير اريد منك ولو كلمة حتى اعرف هل بقيت هناك انسانية؟ ماجدة “شامية” من نوع آخر، من نوع نادر لا يمكن ان تصادفه الا اذا سافرت وسافرت. انها مصرية من اصول لبنانية، يسمونهم الشوام في مصر. مسيحية ولا اعرف طائفتها ولم اسأل. متزوجة من استاذ امريكي وتدرّس اللغة العربية في امريكا. انها ام لكل من صادفها وصديقة لكل من احتاجها وعربية لكل من اظهر عنصريته ومسيحية ربما في اوقات الفراغ. والحمد الله لا تعرف من شرق المتوسط الا كل ما هو جميل. ربما هرب اجدادها الى مصر هربا من احدى “كريزات” القتل التي تنتاب شرق المتوسط بين الفينة والاخرى.

ماذا استطيع ان اقول يا ماجدة. لا مبرر للقتل رغم ان عقولنا لا تنتج الا تبريرات القتل. والانكى من ذلك اني اتفهم اسباب القتل. ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة. القتل لا يأتي من الغضب فقط، بل من توفر الفرصة كأن يكون عدوك المتخيل ضعيفا ولا يقوى على الرد، واليوم تحول العلويون الى ضعفاء وقد كانوا بالامس اقوياء وعملوا اللي عليهم من الذنوب السورية المعروفة. عندما يقولون الان “المحرقة العلوية” لا اعرف ان كانوا يقصدون عندما قتل العلويون السنة ام عندما قتل السنة العلويين. وهل ستطال المسيحيين وغيرهم من الاقليات المتخيلة؟ ربما، الخير جاي لقدام. ويقولون الشعب السوري واحد، واحد في اي شيء، واحد في الكراهية ام واحد في القتل قاتلا، ام واحد في القتل مقتولا، ام واحد في تلفيق التبريرات، اكيد ليس واحدا في التعايش. اخي يجي واحد ويرمي يمين الطلاق، الاحوال لم تعد تحتمل طرفا من اهله وطرفا من اهلها. اكيد اللي كتب القرآن ما كان عايش بسوريا (او لبنان). وحتى الامهات يا ماجدة، بعضهن يبكين اولادهن والبعض الاخر يحرض على من بقي. وعلى الارض يستهدفون الشباب ربما ليحرقوا قلوب الامهات او ليشفوا غليل امهات اخريات. لم اعد اؤمن باختلاف المرأة. اثبتن انهن متساويات مع الرجال في التحريض على القتل. وحتى الام التي صوروها تحرس اجساد ابنيها لا بد انها تفكر اليوم كيف تربي الباقين لياخذوا بالثأر.

اليوم الكل يبحث عن سردية معقولة يؤمن بها، لكن لا احد يستطيع مسك اول الخيط، فلذاك الكل يؤلف ويختلق. نظريا هم يبحثون عن تريند عن نسق ليعمموه لكن لا يوجد نسق: الفلول ثاروا والامن قتلهم، الفلول قتلوا اهلهم، الفلول اسروا الامن وقتلوهم، الامن قتل الابرياء اعداما، لا الامن لا يفعل ذلك انهم اهلنا، الارتال غير المنضبطة تقتل، ابو دجانة هو السبب انهم مليء بالحقد، الشيشان الايغور (لا يجتمعان) يقتلون الناس لانهم غرباء، الحقد السني الاعمى، الحقد العلوي الاعمى، قتلوا الاطباء والمهندسين قتلوا خيرة شبابنا، ام علوية تبكي اولادها، اتركها فاولادها شبيحة وهي ربتهم، ام علوية تبكي اولادها الابرياء، اين كنتم عندما قصفونا، ام سنية تبكي اولادها … وعشرات غيرها من الروايات نصف الحقيقية او المتخيلة التي تحاول ان تعقلن الاحداث وان تعمم النسق وتبني السردية. لكن لا احد ينجح، كل يوم وكل حدث وكل صباح هناك شيء جديد ينسف انساق البارحة.

يخطر ببالي السنياريوهات والاسئلة التالية التي تبحث ايضا عن انساق: الارتال مجرد عفيشة، الارتال فصائل جيشها المشايخ، الارتال مجرد اشخاص على موتورسيلات يطلبون القتل ليشبعوا ثأرا، الارتال غير موجودة انها قوات الامن العام، لا يوجد امن عام انهم فصائل، الدولة ارسلت جنودها ليفتعلوا فتنة، ماذا لو اكتشفوا انهم يقتلون العلويين الغلط العلويين الذي لم يرموا البراميل او الذين لم يعذبوا في السجون، وماذا عن السنة و غيرهم في صفوف النظام، اين القتلة الحقيقيون الذبن نعرفهم بالاسم وتم توثيقهم على مدى عشر سنوات واكثر، من المستفيد، لماذا لا يزال القتل مستمرا، المحرضون اراهم على الفيسبوك من الطرفين لماذا هؤلاء لا يزالون على قيد الحياة، من الذي روج لسردية الطائفة المجرمة والطائفة المقتولة، من وظف طاقاته كلها لتوطيد هذه السرديات القاتلة، الى اية فئة اجتماعية ينتمي الضحايا والقتلة، هل الامر عشوائي، هل هناك انساق، هل سينجح المحاولون بايجاد سردية تشرح او تبرر ما حدث، وماذا عن الاحصائيات، وماذا عن نسب القتلى من السكان. ماذا لو لم يكن هناك اي نسق ماذا لو كانت مجرد سوق مفتوحة للقتل. وانظر الى اولئك المتباكين الذي وجدوها فرصة لتمرير مشاريع قديمة، كل المشاريع لها حقها اتركهم، ماذا عن المحتفلين بما يعتقدون انه اتفاق الاستقرار هل هذا وقت الاحتفال، ماذا عن التاريخ انه في منتصف موسم آذار  يبدو ان القتل ايضا ينتعش مع الربيع (هذا مثبت). ماذا لو بقينا دون استقرار على سردية، ماذا لو كنا نعوم في بحر من العشوائية القاتلة.

اعود الى الاشياء التي اعتبرها من خلال التجربة الطويلة ثوابت: هناك دائما انساق، هناك دائما مستفيدون، هناك دائما مشوشون وظيفتهم التشويش، هناك دائما سرديات يتم صنعها، هناك دائما صراع سرديات، هناك دائما عنصر عشوائي، الناس غير متساوين في التأثير، الدولة هي اكبر مؤثر. كنت اعارض كل من يقول بان دولة الاسد هي سبب كل ما يجري. كان غرضي هو اظهار العوامل الثقافية والفاعلين الاخرين، لكني كنت اعرف ان الدولة اكبر مؤثر. وعندما قال احدهم ان كل ما نعيشه هو من بقايا تأثير دولة الاسد، خطر لي خاطر. نعم ان دولة الاسد لم تمت والحرب لم تمت، ان لهما عطالة كبيرة ولا يزالان يفعلان فعلهما. لكن ماذا عن الدولة الجديدة، تلك الجماعة التي تريد ان تلعب كل ادوار الدولة وبسرعة هائلة. انها تريد كل احتكارات الدولة وكل قوة الدولة وكل شبكات الدولة وكل ريع الدولة وكل سلطة الدولة. هل نستطيع ان نحملها المسؤولية؟ هل لها تأثير الدولة ام انها تلعب لعبة اكبر منها؟

ان توزيع المسؤولية على الناس امر لا طائل منه اذا كنا نبحث عن المسؤول الحقيقي. لقد درّست مفهوم السببية وعملت على نسفه الى درجة اني اعرف ان المسؤولية هي مجرد لعبة نلعبها لتحقيق اغراض. كل طرف يلعب لعبة المسؤولية لتجريم الطرف المعادي. الدولة تلعب لعبة المسؤولية لتقضي على اعدائها. النخب تلعب لعبة المسؤولية لتكرس سلطتها وتتخلص من منافسيها. المجتمع يلعب لعبة المسؤولية ليبني المعايير الاخلاقية، وايضا ليحدد كيفية تطبيق هذه المعايير (الفئات الاجتماعية ليست متساوية اخلاقيا). واذا اخترت ان الوم طرفا فلانه عندي اجندة اريد تنفيذها. نعم اعترف واجندتي ليست ايجاد المجرمين ومعاقبتهم فكلنا يعرف ان هذا مستحيل. الانسان مخلوق يحتوي غريزة الحياة وغريزة القتل، وربما بنسب متساوية. وعندما ينفلت من الضوابط فانه يلجأ الى القتل كوسيلة مساوية في القيمة لاية وسيلة اخرى. المجتمع المستقر يفرض عقوبة على القتل لان القتل يهدد الحياة المشتركة. لكن متى ما رأت الجماعة انه لا حياة مشتركة مع جماعة اخرى فالقتل يصلح حلا مناسبا. ولا افضل لمعرفة هذا القانون الاجتماعي من النمط البدوي الصحراوي: عند البدو التعاون خيار والقتل خيال مواز ومتاح ايضا. في حال السلم يقومون بتفعيل اداة الثأر لوقف القتل وفي الحرب ينتهي دور الثأر لان القتل يصبح مباحا.

اجندتي هي الدولة، دولة المؤسسات، دولة الخدمة، دولة التعاقد (ثلاثة مبادئ اساسية)، وليس دولة الهيبة ودولة المركزية ودولة الاحتكارات ودولة الاغلبية ودولة الفرض. الدولة تستطيع ان تفرض قوتها اذا ارادت او ان تتفاوض ، والدولة تستطيع ان تفرض سرديتها او ان تسمح بصراع السرديات، والدولة تستطيع ان توقف القتل اذا ارادت او ان تفرض القتال والقتل، الدولة تستطيع ان تفرض القانون او ان تلغي القانون، الدولة تستطيع ان تفرض التعايش او ان تسمح بالاقتتال، الدولة تستطيع ان تقتصر على جنودها او ان تستدعي جنودا اخرين، الدولة تستطيع ان تفرض ايديولوجيا معينة او ان تسمح بحوار الايديولوجيات، الدولة تستطيع ان تفعّل المؤسسات او ان تقضي عليها، الدولة تستطيع ان تحتكر اي شيء او ان تسمح بالتنافس البنّاء. الدولة هي بنية المجتمع والصمغ اللاصق والقوة المحركة. انها البلاء الذي لا بد منه والجنة التي لا حياة دونها. التاريخ هو تاريخ الدولة، الاخبار تتحدث عن الدولة، القانون بيد الدولة، القتل المشروع الوحيد تقوم به الدولة. انها الرب الذي نعبده دون ان ندري. هناك حالات تغيب فيها الدولة (اخفاق او متعمد)، وهناك حالات تتغول فيها الدولة، وهناك حالات تتحول فيها الدولة الى خدمة. فماذا حصل في الايام الماضية؟ اي حال ينطبق على الاحداث؟

تحليلي ونظرتي هي اننا عشنا اياما من اخفاق الدولة قامت عناصر من نخبتها الجديدة بتحويله الى تغول لتفادي الاخفاق.

– الدولة فرضت على نفسها تجميع كل القطع الجغرافية والطائفية. كان بامكانها التفاوض بطرق متعددة (تفاوضت مع الدروز والاكراد).

– الدولة اختارت طريق المسامحة (التسوية العشوائية) وكان بامكانها اختيار طريق العدالة الانتقالية.

– الدولة تعامت عن السلم الاهلي وفضلت التدخل الامني.

– الدولة حلت الجيش وطردت الموظفين وكان بامكانها الدراسة المتأنية.

– الدولة اقتصرت على الايديولوجيا السلفية وكان بامكانها التركيز على الوطنية.

– الدولة طلبت الفزعة من الفصائل والمشايخ وكان بامكانها اللجوء الى المجتمع الدولي.

– الدولة طلبت دعم الفصائل لتشكيل جيشها وكان بامكانها طلب قوات تدخل عربية او دولية.

– الدولة عينت ارهابيا كرئيس جمهورية وكان بامكانها اختيار اي شخص اخر ليكون رئيسا او رئيس وزراء مع مجلس عسكري.

– الدولة روجت لسردية الغدر بعناصر الامن العام وكان بامكانها ترويج سردية تدعم الوحدة الوطنية.

– الدولة كرست سردية الطائفة المجرمة (وما يقابلها من تسامح) وكان بامكانها تكريس سردية الوحدة الوطنية.

وعشرات الاخطاء الاخرى. استنتاجي هو اما اننا نتعامل مع امارة سلفية طائفية من الطراز الاول لا تستطيع ان تكون دولة، او اننا نتعامل مع مراهقين لا يفقهون شيئا في السياسة والادارة وبالتالي لا يستطيعون ان يكونوا دولة.

الفيس بوك

————————–

ملاحظات/ حسام القطلبي

انكتب كتير بالأيام الماضية عن أنصار الثورة السورية يلي أظهروا خطاب متصالح مع المقتلة في الساحل ومبرر لها، وعن الأصدقاء الذين “صدمنا” بمواقف لهم تسيل منها دماء سوريين أبرياء. لا يكاد المرء يستطيع أن يضيف شيئاً أو قيئاً بهذا الصدد.

أود فقط أن أبدي دهشة مماثلة من مواقف أصدقاء اكتشفوا “علويتهم” فجأة، واكتشفنا معهم أنهم ربما صدموا هذه المرة أن الدماء قد تسيل من العلويين أيضاً! وأنهم ربما، بحكم التكرار المضني، اعتادوها سنيّة مثلاً فلم تك تثير تفجعهم البالغ أو إحساسهم بالمأساة وفداحة المجزرة كما هو حالهم اليوم، يكرر بعضهم مواقف صاخبة ودعوات للإدانة والسخط كان يسخر من مثلها بالأمس القريب في أحداث تخص حمص ودرعا وإدلب والغوطة، أو أقله أنه كان يمر عليها في الفيسبوك والإعلام دون كثير اكتراث وربما بتململ شديد (إنو خلصونا بقا ولو!)

هذه ليست إحدى الأعراض الجانبية لهذه المقتلة الفظيعة اليوم، بل عادة ما تكون مؤسسة ومبررة لمَقَاتِل أخرى مديدة قادمة. هو جزء من استمرار دائرة عنف لا تنتهي.

الثابت في الأمر أن صاحب الضمير الانتقائي بحسب هوية الضحية، لا يعول عليه. وهو ليس اليوم أو غداً في مكان جدير ومستحق ليقدم محاكمات أخلاقية وقيمية. هو بالأمس صمت عن قاتل واليوم يندب ضحية وغداً يهلل لقاتل وبعده يتفجع لضحية….

أصحاب هكذا ضمائر، وإن عن غير عمد ومن موقع استحقاق الضحية، لا يقدمون للمجتمع والبلاد سوى مزيد من الكراهية ويعدون، وإن عن غير إدراك، ببراميل دماء إضافية قادمة بعد حين.

————————

عودة الأسد إلى سوريا/ سعد بن طفلة العجمي

على الحكومة برئاسة أحمد الشرع أن تعمل بحزم لمحاسبة العناصر المجرمة حتى لو كانت من فصائل مقربة منه

الجمعة 14 مارس 2025 1:38

ملخص

لعل الاتفاق التاريخي بين الحكومة وقوات سوريا الديمقراطية يهدئ النفوس ويطمئن الناس ويبعث فيهم روح الأمل بمستقبل أفضل لسوريا الجديدة، لكن الأهم من كل التواقيع هو قطع الطريق على عودة الأسد عبر الضرب بحديد على الممارسات “الأسدية” الطائفية المقيتة بكل أنواعها.

كانت مشاهد مؤلمة تلك التي تسربت لمقتل عناصر من القوات السورية الحكومية، تلتها مشاهد أكثر بشاعة وإيلاماً لمذابح طائفية ضد العلويين في مناطق الساحل السوري، والأرقام تراوحت بين العشرات والمئات، وبعض المصادر تتحدث عن آلاف المدنيين العلويين، وآلاف أخرى نزحت للبنان المجاور.

يمكن تقديم شروحات لما جرى تتناول هشاشة النظام القائم بعد سقوط وهرب بشار الأسد، وتحاول فهم أو تبرير ما جرى على أنه وضع طبيعي مؤسف لمرحلة انتقالية لا تخلو من الفوضى والفراغ الأمني والسياسي والعسكري للدولة التي لا تزال تحبو بعد عقود من القهر والاضطهاد والقتل والتعذيب والتشريد والتهجير والدمار، وبأن فصائل غير منضبطة كانت وراء تلك البشائع المخزية، وبأن بعض تلك الجرائم ارتكبتها بقايا وفلول النظام نفسه في محاولة يائسة لإشعال حرب أهلية طائفية، وأن بعض الفيديوهات مفبركة من قبل فلول النظام أنفسهم، كما يمكن الإشارة بإصبع الاتهام لإيران التي تريد أن تهدم المعبد على من فيه بعدما تجرعت “كأس السم” بهرب حليفها بشار الأسد، وتحطم كل ما بنته ليس في سوريا وحسب، وإنما في لبنان الذي صرفت “دم قلب” شعبها على “حزب الله” فيه، ليصبح كل ذلك أثراً بعد عين.

كتبت مقالة في يناير (كانون الثاني) 2012 بعد عام من اندلاع الثورة بأن النظام سيعمل على “حرف مسار الأمور نحو طائفية يعمل على تأطيرها في كل مدن سوريا وقراها وبلداتها وضيعها، لتكون اللبننة هي السيناريو الأخير في محاولات البقاء اليائسة، كي يبقى النظام ضمن فوضى متناثرة تُسقط سوريا ولكنها تبقي على بقايا النظام”.

وأضفت في مقالة أخرى في فبراير (شباط) من العام نفسه أن نظام بشار يعمل على “تدبير الأمور ضمن سيناريو فوضى يراهن على أن يكون أكبر لاعبيه داخل سوريا، بتعبئة الأقليات من العلويين والمسيحيين والدروز وتخويفهم من بعبع السنّة القادمين لذبحهم”.

إن ما جرى في سوريا لا يمكن تبريره تحت أي مبرر، وعلى الحكومة السورية الانتقالية برئاسة أحمد الشرع أن تعمل بحزم وفق ما وعدت به، سوريا لكل السوريين ومحاسبة العناصر المجرمة حتى لو كانت من فصائل مقربة منه ومن “هيئة تحرير الشام”، وليبدأ السيد الشرع بتفكيك وطرد العناصر غير السورية مثل “أنصار الإسلام الكردية” و”أجناد القوقاز الشيشانية” و”الحزب الإسلامي التركستاني” القادم من جمهوريات وسط آسيا.

إن إعادة الظلم هو إعادة لنظام الأسد، فمعارضة نظام الأسد من قبل شعبه ومساندتهم من قوى الخير في كل مكان كان معارضة للظلم والقهر والقتل والطغيان والقتل الطائفي، واستنساخ ممارسات شبيحة الأسد بصيحات مختلفة لا يغير من بشاعتها ولا من “أسديتها” وإن اختلفت طوائف الشبيحة والقتلة هذه المرة.

وليست كل الأخبار الواردة من سوريا هذه الأيام دامية ومخزية، فقد جاء توقيع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية بقيادة مظلوم عبدي مع الحكومة السورية في دمشق برئاسة أحمد الشرع لانضواء “قسد” تحت الدولة السورية مبشراً بأمل توحيد سوريا ثانية، ولملمة جراح التشرذم الذي عاشته طوال سنوات البطش والطغيان على مدى 14 عاماً، وتسليم المناطق الشرقية الشمالية التي تسيطر عليها “قسد” للدولة المركزية في دمشق، ولعل هذا الاتفاق التاريخي يهدئ النفوس ويطمئن الناس ويبعث فيهم روح الأمل بمستقبل أفضل لسوريا الجديدة، لكن الأهم من كل التواقيع هو قطع الطريق على عودة الأسد عبر الضرب بحديد على الممارسات “الأسدية” الطائفية المقيتة بكل أنواعها.

——————————

مجازر العلويين والخيارات الممكنة/ وليد فارس

في سوريا مجموعات أخرى تختلف عن بعضها بعضاً على الصعد اللغوية والدينية والطائفية والقومية

الجمعة 14 مارس 2025 1:39

المعادلة الآن، لا سيما بعد الاتفاق الذي تم بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام” تمكين الدولة السورية الجديدة لكي تخرج من الحرب وتنطلق إلى النهوض الاقتصادي، إلا أن الجرح الذي فتح في اللاذقية وبانياس وطرطوس لا بد من أن يأتي أحد لتضميده.

خلال الأسبوع الماضي برزت عناوين صادمة في الصحافتين العربية والدولية حول تطور هائل في صوره ومحزن في وقائعه وصعب في حلوله، تمثل في مجموعة الأحداث الأمنية التي وقعت بمنطقة الساحل السوري وأهمها وأخطرها ما جرى تداوله عن قتل جماعي كبير من العائلات العلوية.

وأعلنت الأمم المتحدة أنها وثقت مقتل 1000 مواطن حتى الآن ورجح عدد من الهيئات غير الحكومية ارتفاع الأرقام المنتظرة إلى آلاف، إلا أن ذلك لن يحسم قبل مرور أشهر أو أكثر حتى صدور أي تقرير مفصل عن جهات دولية.

سلطات “هيئة تحرير الشام” في دمشق أوضحت أن هدف العملية الأمنية كان استئصال “فلول قوات الأسد” المتهمة بشن عمليات عسكرية ضد قوات الأمن والشرطة، وردت المعارضة العلوية أن لا علاقة بين أي شبكة من جنود سابقين في الجيش العربي السوري وأهالي الساحل العلويين، وتستمر الاتهامات والاتهامات المضادة حتى الآن. والأسئلة كثيرة ماذا حدث بالفعل؟ لماذا يحدث؟ وكيف يمكن إصلاح الأمور؟

على ضوء ما يجري في تلك المنطقة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط سنستعرض الوقائع والاحتمالات والسيناريوهات، لذا سنتطرق في هذه المقالة وبسرعة إلى وضع الطائفة العلوية بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي وإلى أين هي ذاهبة.

أولاً في بعض الوقائع المبسطة ولكنها معروفة أن في وسط البلاد أكثرية من الطائفة العربية السنّية، الموجودة أيضاً في بادية الشام وتشكل الأكثرية في العاصمة دمشق والمدن السورية الكبرى من حلب إلى حمص إلى حماة. ويمتد الوجود العربي السنّي إلى كامل أنحاء البلاد، بما فيها المناطق التي تضم أقليات إثنية ودينية.

وفي سوريا أيضاً مجموعات أخرى تختلف عن بعضها بعضاً على الصعد اللغوية والدينية والطائفية والقومية، وباختصار هناك إجماع على أن ثمة منطقة في شمال شرقي البلاد ضمن المثلث الواقع بين تركيا والعراق وسوريا يعيش فيها مجتمع كردي يمتد من شرق البلاد حتى منطقة عفرين على الحدود التركية- السورية ولها لغتها الكردية الخاصة ولها هويتها وتاريخها.

وشاءت الظروف التاريخية أن تكون الطائفة الكردية موجودة في شمال البلاد وشمال شرقها، بينما يتوزع الأكراد على مناطق متاخمة في العراق وتركيا وإيران. أما في شمال غربي البلاد، لا سيما في الجبال المتاخمة للساحل ومدنه، فهناك الطائفة العلوية وهي عربية إثنياً ولكنها منبثقة في المعتقد والتاريخ من المذهب الشيعي والعلويون قطنوا في تلك المناطق منذ قرون عدة وشكلوا مجتمعاً خاصاً بهم. أما في جنوب البلاد ما بين دمشق والحدود الإسرائيلية واللبنانية، فهناك طائفة أخرى هي الدروز التي لها خصائصها أيضاً والتي عاشت في تلك النواحي منذ قرون. أما المسيحيون فهم ربما أقدم الطوائف السورية وينتشرون في مناطق عدة، فهناك الآشوريون والسريان في منطقة الحسكة والخابور وهناك سريان وادي النصارى جنوب منطقة العلويين وهناك كتلة مسيحية داخل مناطق الدروز بين دمشق والجولان وهناك بالطبع أحياء مسيحية كاملة في دمشق قد تكون الأكثر عدداً لدى مسيحيي سوريا.

عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 تميزت منطقه الشمال الشرقي حيث وجود الأكراد الكثيف والمسيحيين وعرب سنّة بقيام إدارة ذاتية حتى انتهاء الحرب وتطورت الإدارة للتحول إلى منطقة واسعة جداً تحت سلطة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحصلت على الحماية الأميركية بسبب الحملة ضد تنظيم “داعش”.

وعندما انفجر الصراع بين “داعش” والسلطة السورية لنظام الأسد في معظم مناطق البلاد من شمالها إلى وسطها إلى قرب العاصمة والجنوب، بقيت منطقة واحدة سالمة هي منطقة جبال العلويين والساحل في الشمال الغربي حيث عاشت هذه الطائفة ومواطنون من الطوائف الأخرى بمن فيهم السنة والمسيحيون بسلام نسبي في الحرب.

أما بعد أن سقط الجيش العربي السوري بسرعة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 وهرب رئيس النظام بشار الأسد وسقطت المؤسسات بسرعة بين يدي “هيئة تحرير الشام”، فتغيرت الأمور وبدا وكأن الغيوم السوداء تتجمع فوق مناطق العلويين، ولكن ذلك لم يحدث بسرعة. فهل النظام الجديد أخذ وقته لكي يحصل على حد أدنى من الاعترافات الإقليمية والدولية التي مدت له جسوراً بهدف أن يكون عادلاً بين كل المجموعات السورية وأن يضع حداً للخروقات وألا يتخذ محولاً بين المحاور العربية.

المجموعة الجديدة الحاكمة في الشام فرضت ضغطاً على الأكراد من ناحية الشمال وضغطاً آخر على الدروز في الجنوب “لتسليم السلاح”، إلا أن المجموعتين لم تقبلا بمدّ السيطرة المركزية العسكرية للنظام على مناطقهما لأسباب تاريخية، لذا وبعد فشل “الهيئة” بدخول مناطق الأكراد والدروز قررت القوى الحاكمة في دمشق توجهها إلى منطقة ثالثة حيث هناك رفض شعبي للنظام الجديد لكن ليست هناك قوة عسكرية لتقاومه.

وكانت أهداف السلطة الأساسية واضحة وتتمثل في الآتي:

أولاً، إخضاع المنطقة لسلطة دمشق لتثبيت “السيادة الوطنية”، أي عملياً مد سيطرة “الهيئة” على مقاطعة الساحل لتكون عبرة للمناطق الممانعة لدخول “الدولة”.

ثانياً، تفكيك مجموعات عسكرية هاربة من الجيش السابق أطلق عليها اسم “فلول النظام” أو “الجيوب الأسدية”.

ثالثاً وهو الهدف الرئيس لتحرك “الهيئة” باتجاه الساحل السوري والجبال مع تأخر دام ثلاثة أشهر، السيطرة على الساحل وعلى المرافئ.

فعبر هذا الساحل سيتمكن النظام من أن يبرز قوته في البحر الأبيض المتوسط بمساعدة تركيا وأهم ما يصبو إليه نظام “الهيئة” أن يكون لاعباً كبيراً في مخزون الطاقة العالمي، فمن المعروف جيداً أن الساحل السوري يشرف على مساحة مائية واسعه جداً يحوي قاعها احتياطات هائلة من الغاز.

وكان النظام البائد وعد شركات عدة وحلفاء في المنطقة وعلى رأسهم النظام الإسلامي في إيران بأن يكونوا شركاء في التنقيب والاستفادة، وبعد سقوط النظام ووصول القوى الإخوانية إلى السلطة كان من الطبيعي أن تعمل السلطة الجديدة على السيطرة على الساحل لوضع اليد على هذه الثروة الهائلة.

وبات هناك محور مصالح اقتصادية ومالية يسعى إلى الوصول إلى الشاطئ والسيطرة على المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية السورية، مما قام بالدور الأكبر في عملية محاولة سيطرة “هيئة التحرير” وحلفائها على مناطق العلويين للوصول إلى الذهب الأسود.

لكن في النظر عن الأسباب الكثيرة والمتنقلة حول دخول بعض وحدات قوات “الهيئة” إلى أطراف بلدات علوية في الشمال الغربي مما أدى إلى وقوع ضحايا، كانت أوامر مركزية بالقضاء على ما سمي “الفلول”، ولكن السبب الأهم المحتمل هو إنهاء إمكان قيام “مقاومة علوية” تطلق في الساحل مجلساً عسكرياً ينتشر في المنطقة لمصلحة إدارة ذاتية كما في روجافا والجنوب.

ومع وقوع أول أحداث دامية على أطراف المناطق العلوية، رد شباب مسلح علوي قد يكون ضمن صفوفه عسكريون في جيش النظام السابق، مما أسفر عن قتلى بين القوى المتقدمة وأعضاء من ميليشيات “الهيئة”، فشنت أجهزة النظام عملية عسكرية واسعة للدخول إلى مناطق العلويين بهدف ضرب الشبكة التي أطلق عليها اسم “فلول النظام” وتوجهت وحدات عدة من دمشق والمدن الأخرى باتجاه الساحل السوري وحصل ما حصل.

وأعلنت الأمم المتحدة ومؤسسات غير حكومية عدة أنه وقعت مجازر واسعة قالت بعض المصادر إنها سجلت ألف قتيل وبعضها قال إنها أدت إلى نحو 6000 معظمهم من المدنيين ومن بينهم نساء وأطفال وإن هذه الأحداث لا تزال تحصل.

هنا بعض النقاط الأساسية:

أولاً، منطق الدولة إذ كان من المنتظر أن تقوم قوات “الهيئة” وميليشياتها باقتحام منطقة الساحل وبلداتها، لكن السؤال هو لماذا لم يتم ذلك عبر اتفاق بل عبر عملية عسكرية؟

ثانياً، بعد حدوث هذه المجازر الدموية كيف يمكن للسلطة المركزية أن تعيد بناء الثقة مع أهالي تلك المناطق. هل هذا ممكن؟ لماذا لم تقُم السلطة بعمليات مماثلة لإعادة الوحدة مع مناطق الشمال الشرقي؟ هل لأن تلك المناطق لها قوة عسكرية على الأرض وأية محاولة تقدم ستتحول إلى حرب طاحنة؟ والمنطق نفسه ينطبق على المناطق الجنوبية حيث لمحافظة السويداء قوة عسكرية ومن ورائها الجيش الإسرائيلي.

والنقطة المهمة الأخرى أن عدداً من الدول العربية اعترفت بالسلطة الجديدة وبصورة واضحة، ولكن الأحداث الدموية في مناطق العلويين تطرح سؤالاً حول هذه العلاقات. فهل تقوم الدول التي اعترفت بسلطة دمشق بالضغط عليها لكي تطلق تحقيقاً كبيراً حول ما حدث هناك أم إنها ستمتنع عن ذلك لعدم إحراج الدولة السورية العربية؟

وثمة نقطة مهمة، إذا نظم الأهالي في المناطق العلوية احتجاجات واسعة ضد ما جرى وطلبوا تدخل قوات دولية هل هناك حكومات بإمكانها أو لديها إرادة أن تتدخل عسكرياً لحمايه العلويين؟ حتى الآن لم نرَها، ولكن ذلك أيضاً سيخلق نوعاً من التردد الدولي في التعاطي مع الدولة السورية الجديدة.

أما في ما يتعلق بإسرائيل، فصدرت بعض الأصوات من المناطق العلوية مطالبة إياها بأن تحمي العلويين كما تحمي الدروز ولكن جغرافياً لن تساعد إسرائيل عبر وصولها إلى الشمال الغربي لبعده ولوجود دولة كاملة هي لبنان.

المعادلة الآن، لا سيما بعد الاتفاق الذي تم بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام” هي تمكين الدولة السورية الجديدة لكي تخرج من الحرب وتنطلق إلى النهوض الاقتصادي، إلا أن الجرح الذي فتح في اللاذقية وبانياس وطرطوس لا بد من أن يأتي أحد لتضميده.

كنا اقترحنا في الماضي أن تقوم السعودية برصيدها السياسي والدبلوماسي الكبير بدعوة الأطراف إلى اللقاء على أراضي المملكة والانطلاق بتصور جديد للمستقبل في سوريا، إلا أن أعمال العنف الهائلة التي حصلت على الساحل السوري قد تكون محفزاً لانطلاق مبادرة كهذه من قبل الرياض. فهل هناك أمل في أن يحصل ذلك؟

في سوريا الآن ثلاث ديناميكيات، الأولى التي بعثت ببعض الأمل ولكنه محدود هي الاتفاق بين الأكراد و”الهيئة” ومحاولة تخفيف التشنج بين الجنوب السوري ومجموعاته الدرزية والسلطة في دمشق، إلا أن نتائج ما حصل في مناطق العلويين أثرت في الأوساط الدولية لتطالب بالتحقيق بما جرى في الساحل من ناحية ومبادرات دولية وعربية قد تخفف التوتر من ناحية أخرى.

وإذ نختم هذه المقالة وقعت “قسد” و”الهيئة” على اتفاق الدمج لقواتها العسكرية، فهل سيطالب المجتمع الدولي باتفاقات مماثلة مع العلويين والدروز؟ سنرى.

——————————–

تبدّلات في المقاربة الأوروبية تجاه سوريا بعد أحداث الساحل

دبلوماسيون أوروبيون: أحداث الساحل قد تضع الإدارة السورية الجديدة في عزلة دولية

13-03-2025

        يعقد الاتحاد الأوروبي في السابع عشر من آذار (مارس) المقبل مؤتمراً للمانحين بشأن سوريا في العاصمة البلجيكية بروكسل. هذا المؤتمر الذي كان يُبحث في تفاصيله اللوجستية منذ سقوط النظام السوري، سيُبني على مخرجات مؤتمر باريس الذي انعقد في الثالث عشر من شباط (فبراير) في العاصمة الفرنسية، وهو يمثل «فرصةً من أجل مواصلة تعبئة الجهود الدولية» من أجل تشكيل «طوق أمان» لحماية مرحلة ما بعد الأسد ومرافقة السوريين في المسار الانتقالي، بحسب وصف مصادر دبلوماسية أوروبية تحدّثت إلى الجمهورية.نت.

        خلال اليومين الماضيين، خرجت إشاراتٌ وأخبارٌ متناقضة من الاتحاد الأوروبي عقب العملية العسكرية التي أطلقتها السلطات السورية المؤقتة في منطقة الساحل السوري لـ«لمحاربة فلول النظام». في البداية، نقلت وكالتا رويترز والأناضول عن مسؤولين سوريين ومصادر دبلوماسية أوروبية قولهم: «إن المفوضية الأوروبية وجهت دعوة للرئيس السوري أحمد الشرع للمشاركة في المؤتمر»، قبل أن يخرج متحدثٌ باسم الاتحاد الأوروبي ليقول إنه «لم تُوجه أيُّ دعوةٍ إلى الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع لحضور قمةٍ دولية لمانحي سوريا في بروكسل يوم 17 آذار (مارس)»، مبرراً ذلك بأن «الاجتماع سيُعقد على المستوى الوزاري».

        لكنّ مصادر دبلوماسية أوروبية ذكرت للجمهورية.نت أن «الفظائع التي ارتُكبت بحق العلويين في الساحل السوري» دفعت الاتحاد الأوروبي إلى تغيير رأيه بشأن دعوة الشرع لحضور المؤتمر، معتبرةً أن الأحداث الأخيرة في الساحل «تُشكّلُ جرس إنذارٍ وتُعقّد مسار المرحلة الانتقالية وجهود المجتمع الدولي في دعمها، وستضع السلطات السورية الجديدة في عزلةٍ دولية».

        المصادر أكدت أن العملية التي أطلقتها الحكومة السورية المؤقتة في مدن وقرى الساحل السوري «كانت موجهةً ضد فلول النظام» بحسب توضيحاتٍ قدّمتها السلطات السورية للجانب الأوروبي، لكنّ «التقديرات الأمنية تشير إلى أن مجموعاتٍ داخل قوات الأمن السورية والجيش حادت عن الهدف المُعلن للعملية، وارتكبت جرائم بحق مدنيين على أساسٍ طائفي». وفي هذا السياق، قالت مصادر دبلوماسية الجمهورية: «يبدو أن أحمد الشرع لا يُسيطر على أجهزة الأمن السورية ووحداتٍ في الجيش الذي أعلن عن حصر السلاح بيده، وهذا يُرسل إشاراتٍ سيئة للمجتمع الدولي ويهدم الخطوات الإيجابية التي قامت بها السلطات الانتقالية في دمشق خلال الفترة السابقة، والتي قدّمت خطواتِ حسن نية، خصوصاً ما يتعلق باستقبال وفد من منظمة حظر السلاح الكيميائي قبل انطلاق مؤتمر باريس، حيث تعهّدت دمشق أمام رئيس المنظمة بأن تبدأ الفرق التابعة لها بالعمل على تفكيك الترسانة السورية من هذه الأسلحة أو ما تبقى منها».

        وعلّقت المصادر الدبلوماسية في حديثها مع الجمهورية.نت على الاتفاق الذي وقعه، قبل يومين، الرئيس السوري خلال المرحلة الانتقالية وقائد قوات سوريا الديموقراطية بأنه «كان جيداً، لكنه مجرد البداية»، وأشارت المصادر إلى أن السلطات المؤقتة «أقدمت عليه من دون تغيير في المطالب الكردية، وأن ذلك يمكن فهمه في سياق تنازلٍ أراد الشرع تقديمه لتطويق ما حدث في الساحل». وترى المصادر الدبلوماسية وجوب حدوث اتفاقٍ مشابه مع الدروز في جنوب سوريا. ويجد بالذكر أن ضغوطاً أميركية وأوروبية على الطرفين كانت مستمرةً قبل توقيع الاتفاق من أجل التوصّل إلى إلى اتفاقٍ يسمح بدمج المقاتلين الأكراد في الدولة الجديدة.

        وتعتبر المصادر أن مؤتمر المانحين الذي سينعقد في بروكسل تحت صيغة بروكسل 9 سيكون حاسماً في هذه المرحلة من أجل «التعافي الاقتصادي في سوريا»، لكنّ ذلك سيكون مشروطاً «بإحراز تقدّمٍ في قضايا العدالة الانتقالية ومكافحة الإرهاب وإشراك جميع مكونات المجتمع السوري، باختلاف طوائفهم وقومياتهم، في بناء مستقبل البلاد. هذه المسألة تعهّدَ بها وزير الخارجية أسعد الشيباني خلال مؤتمر باريس، لكن لم نرَ أيَّ خطواتٍ حقيقية تجاه هذه المسألة».

        تغيّرُ نبرة الأوروبيين في الحديث عن سوريا بدا واضحاً بعد ما حدث في الساحل، حيث أثيرت مسألة رفع العقوبات عن سوريا خلال اجتماعٍ للمجلس الوزاري الفرنسي عُقِدَ في قصر الإليزيه يوم أمس الأربعاء، وكذلك تمّ وضع سوريا في قائمة الجهات التي تشكل تهديداً إرهابياً في المنطقة «يمسُّ المصالح الفرنسية» بحسب مذكرةٍ للحكومة الفرنسية اطلعت عليها الجمهورية،نت. وجاء في المذكرة: «في الآونة الأخيرة، وبعد عدم تسجيل أيّ هجومٍ إرهابي خلال فترة 18 شهراً، ارتفع مستوى التهديد فجأةً منذ أكتوبر 2023 مع استئناف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ثم السقوط الأخير للنظام السوري، والذي عزّزَ حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي الإقليمي». وأضافت المذكرة، وهي إحاطةٌ قدّمها وزير الداخلية الفرنسي بناءً على ما ترصده أجهزة الاستخبارات الفرنسية، إنّ حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط «ترفع من مستوى التهديد الداخلي في فرنسا. هناك أفرادٌ متعاطفون مع القضية الجهادية، وغالباً ما يكونون من الشبّان صغار السن. هؤلاء رغم أنهم بعيدون عن الحركة المتطرفة التقليدية (..) إلا أنه يتم تجنيدهم عبر الإنترنت».

        أما في ما يخص دعوة الشرع إلى زيارة فرنسا، تقول المصادر الدبلوماسية الجمهورية.نت: «إن الإليزيه لم يقترح تاريخاً مُحدّداً للزيارة بعد على الجانب السوري، لكنّ أحداث الساحل ستدفع باتجاه تأجيل هذه المسألة حتى تظهر نتائج التحقيقات التي تجريها اللجنة التي شكّلتها السلطات المؤقتة في دمشق». وفي هذا السياق، قال الوزير المنتدب للشؤون الفرانكوفونية خلال جلسةٍ في مجلس الشيوخ الفرنسي، أمس الأربعاء: «لقد صدمتنا الصور التي لا تُطاق في سوريا (..) ما حدث هو جرائم غير مقبولة نُدينها بكل حزم. كلُّ المتورطين يجب أن يُحاكموا. كل المتورطين يجب أن يُعاقبوا». وأضاف: «إذا ظلت الفظائع التي قتلت أكثر من ألف مدني في غرب ووسط البلاد في الأيام الأخيرة من دون عقاب، فلا شك أننا لن نكون قادرين على قبول رفع العقوبات مرة أخرى». حديث الوزير الفرنسي كان مناسبةً لفتح نقاشٍ داخل مجلس الشيوخ شارك به آخرون، حيث قالت ممثلة الحزب الجمهوري ڤاليري بويه: «لا تزال الأقليات في خطرٍ مميت. دعونا لا نكون شهوداً صامتين على  عمليات الإبادة الجماعية مرة أخرى».

موقع الجمهورية

————————-

الرئيس الشرع في مواجهة الامتحان الأصعب/ عبد القادر المنلا

2025.03.14

لا يزال اللصوص والقتلة من بقايا فلول الأسد يحلمون باستعادة السلطة المافيوية التي أسست لها عصابة آل الأسد، وأتاحت لهم الفرصة ليعيشوا شهر عسل استمر لأكثر من خمسين عاماً، استطاعوا خلالها نهب سوريا والسوريين، وإفقارهم، وإذلالهم، والتكسب على حساب حقوقهم في العيش بكرامة، أو حتى بالحدود الدنيا من الكرامة.

لم يستوعب اللصوص أنهم لم يعودوا قادرين على النهب والقتل والتسلط، ولم يستوعبوا أن يتحولوا إلى مواطنين عاديين بعد أن عاشوا لعقود يعتقدون بأنهم سادة على غيرهم، وأن السوريين مجرد عبيد لهم وخدم عندهم.

وبعد سقوط النظام، هرب الكثير منهم إلى خارج القطر، وتوارى بعضهم في الداخل السوري متخفين بجناحي حمامة سلام ووداعة. وبعد أن ضمنوا سلامتهم، استفاقت شهوة السلطة لديهم من جديد، وبدؤوا بالاتفاق مع الهاربين خارج القطر، يخططون للعودة من بوابة بعض التجاوزات والأخطاء، التي لم تكن في البداية سوى بعض الإهانات اللفظية والملاسنات الكلامية التي وجهها أفراد غير منضبطين للمواطنين، وتحديداً من الطائفة العلوية، مما أثار تذمراً لدى هؤلاء المواطنين.

ولكن فلول العصابة استخدموا تلك الأخطاء ذريعة للتحريض ضد الإدارة الجديدة، ومن ثم إشعال ثورة مضادة بقيادة اللصوص والقتلة أنفسهم، إلى أن تطورت الأحداث على النحو الذي آلت إليه في الأيام السابقة.

زجّت الفلولُ سوريا في مأزق أدى إلى منعطف حاد وخطير للغاية، من شأنه أن يدمر أحلام السوريين بمستقبلهم، الذي كان وجود الأسد عائقاً أمام تحقيقه.

وبعد رحيل الأسد، تبين أن عملية إسقاط النظام لم تكن متكاملة وكافية لإزاحة ذلك العائق، وكان لا بد من اقتلاع النظام من جذوره قبل الإعلان عن ولادة الدولة الجديدة.

وقد بات واضحاً بعد سلسلة الأحداث الأخيرة في الساحل السوري والمشهد الميداني المعقد، أن الرئيس أحمد الشرع يقف في مواجهة أصعب امتحان قبل أن يكمل ثلاثة أشهر من توليه منصب رئيس الجمهورية. فإلى جانب ملف “قسد” وتهديدات إسرائيل ومحاولاتها زرع الفتنة بين السوريين، والوضع الاقتصادي الصعب، والعقوبات التي لا تزال مفروضة على سوريا رغم سقوط المجرم الذي تسبب بفرضها، تأتي قضية الفلول لتزيد المشهد تعقيداً، وتجرّ القيادة الجديدة إلى استخدام السلاح من جديد ضد تلك الفلول. ولكن استخدام السلاح سيضع الدولة باستمرار في موقع الدفاع عن قرارها، ولا سيما في ضوء التشكيك والإشاعات والاتهامات التي تنتشر كالنار في الهشيم، ويستغلها الفلول لبناء مظلومية عليها.

غير أن الامتحان الأصعب يأتي من بعض الفصائل أو بعض الأفراد المحسوبين عليها، والمنتمين إلى الإدارة الجديدة، الذين يرتكبون انتهاكات تم الاعتراف بها رسمياً من قبل الحكومة. والمشكلة الأخطر ليست في نشر فيديوهات عن تلك الانتهاكات فحسب، بل في تبنّيها والافتخار بها من قبل مرتكبيها، وتصديرها على أنها أعمال بطولية. صحيح أن ثمة الكثير من التلفيق والمبالغة والفبركة، ولكن لا يمكن نفي الأصل الذي تستند إليه الفلول في تضخيمه، مما يضع القيادة في حرج شديد، ويمتحن قدرتها على معالجة هذه القضية، بحيث تصل إلى تحقيق العدالة التي وُعد الشعب السوري بها بجميع أطيافه. وتلك مهمة شديدة الدقة والتعقيد، في ظل الاضطرابات السائدة وضياع جزء كبير من الحقيقة وسط أصوات الرصاص وصوت الشائعات التي لا تتوقف.

وإذا أردنا أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فلا بد من التأكيد على أن ما فعلته فلول النظام والمحرضون التابعون لهم، كان السبب الأساسي لتداعيات الأحداث التي وصلت إلى حالة التصعيد الأخيرة والنتائج الكارثية التي ترتبت عليها. فقد فسّرت تلك الفلول حالة التسامح التي أبدتها الحكومة الجديدة بالضعف، ووجدت فيها فرصة استثنائية لمحاولة استعادة السلطة التي فقدتها.

كانت المحاولة تهدف إلى الإطاحة بالدولة الجديدة في حال نجاحها، وفي حال فشلها، فهي ستنجح في إثارة الفوضى بالحد الأدنى، نكايةً بالسوريين وثورتهم ونصرهم. فالفلول هم ذاتهم أصحاب مقولة “الأسد أو نحرق البلد”، هؤلاء هم مشعلو الحرائق الذين لم يرتووا من حرائق الأعوام الأربعة عشر السابقة، ولا يزالون مصرين على حرق ما تبقى، وحرق مكتسبات الشعب، وحرق مستقبله.

في هذا السياق، لا بد من التذكير بأن تلك الانتهاكات لبعض الفصائل أو الأفراد المحسوبين على الدولة، ستقدم خدمة كبيرة لفلول النظام وروايتهم وأجندتهم، وستشارك في إرباك المشهد وتعقيد مهمة الدولة فيما يتعلق بقضية السلم الأهلي.

لقد بات الاستقطاب والتحريض عنوانين أساسيين للمرحلة الحالية، وبدأت الفجوة تتسع بين الدولة السورية والكثير من أبناء الطائفة العلوية. وقد ظهر الرئيس الشرع في خطابين، يعيد من خلالهما التأكيد على السلم الأهلي، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، وتشكيل لجان عليا للمتابعة، وهذا هو بالضبط ما ينتظره السوريون. ولكن ترجمة تلك الأقوال إلى واقع وبأسرع وقت ممكن، هو ما سيقطع الطريق على الفلول ومناصريهم وداعميهم. وهنا، تبدو محاسبة مرتكبي الانتهاكات لا تقل أهمية عن ملاحقة الفلول، وأي تأخر في وقف الانتهاكات التي تتم ضد المدنيين الأبرياء من الطائفة العلوية وغيرها من المكونات السورية، سيلعب دوراً كبيراً في صب المزيد من النار على الزيت، وسيعرض مصداقية الرئيس للتشكيك، رغم كل ما أبداه من توازن وعدل وخطاب وطني واعٍ وحريص.

حين بدأ التحرك نحو حلب في العملية التي أطلق عليها “ردع العدوان”، لم يكن الكثيرون يعلمون من هم إدارة العمليات العسكرية. وسرعان ما تم الكشف عن أفراد تلك الإدارة وقيادتها، ليتضح أنها هيئة تحرير الشام ذاتها، التي لم يكن السوريون حينها يثقون بوطنيتها، ويعدونها مشروعاً إسلامياً بحتاً. الأمر الذي لم يجعلهم متحمسين لتلك العملية، بسبب خوفهم من فتح جبهة طاحنة مع قوات النظام وحلفائها من الإيرانيين والروس، وعودة الحرب التي لا يعرف أحد كم ستستغرق، ولا إلى متى قد تدوم، بكل ما تحمله من نتائج كارثية.

ومع نجاح إدارة العمليات بتحرير حلب دون دماء، ومن ثم تقدمها إلى حماة فحمص، إلى أن وصلت إلى دمشق، باتت الهيئة تحتل موقعاً مختلفاً تماماً في وجدان السوريين. ومع دخولها إلى الساحل السوري دون انتقام أو ثأر، ازدادت ثقة السوريين بالإدارة، وباتت ليست المخلص فحسب، بل أيضاً الجهة الضامنة للعدالة واللحمة الوطنية. وبدأ النظر إلى الشرع على أنه البطل المحرر، والقادر على منع أنهار الدم والمذابح بحق العلويين، التي كانت متوقعة في حال سقوط النظام. وقد اعتبر السوريون دخول الساحل بلا دماء معجزة لا تقل شأناً عن معجزة التحرير.

لم يتأخر الرئيس بالخروج بعد سلسلة الأحداث الدامية، وقام بخطوات هامة تمثل المنهج النظري للحل، ولكن الاختبار الهام يكمن في آلية تطبيق هذا المنهج. فالمطلوب اليوم هو سرعة محاسبة مرتكبي الانتهاكات، والتي يجب أن تكون متوازية مع محاربة الفلول، وربما يجب إعطاؤها الأولوية، لأن ما يفعله مرتكبو الانتهاكات يمثل الأرضية الخصبة للفلول في استقطاب وتعبئة الشارع العلوي، وتجييشه، وتحريضه ضد إدارة الشرع.

لقد خرج الأسد بعد اندلاع الثورة يبحث عن مبررات لقتل المتظاهرين والثوار، وتظاهر بأنه يفعل ما يمليه عليه واجبه الوطني. وربما كان طرحه النظري حينها مقبولاً دولياً ومحلياً، ولكن أفعاله كانت تناقض خطابه. لا يمكن للإدارة الجديدة بحال من الأحوال أن تتشابه من قريب أو بعيد مع الأسد في الطريقة والنتائج. واليوم، تتجه أنظار السوريين للرئيس الشرع، منتظرةً خطوات وإجراءات عاجلة وعادلة وصارمة بحق المخربين جميعاً، وعلى رأسهم مرتكبو الانتهاكات.

تلفزيون سوريا

——————————-

أسبوع على الخميس الأسود.. دمار المنازل وانهيار مقومات الحياة في ريف الساحل/ وائل قيس

14 مارس 2025

مضى أسبوع كامل على ارتكاب مجازر قتل جماعية على أساس طائفي في الساحل السوري. أسبوع قاس على حملة تجييش طائفي متبادلة بين مجموعة مسلحة يقودها ضباط موالون لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد من طرف، ومؤيدي السلطات السورية من طرف آخر، مما أدى إلى انفجار أكبر موجة عنف في البلاد منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، تحمّل وزرها المدنيون من أبناء الطائفة العلوية، وصار يُعرف بـ”الخميس الأسود” بين السوريين.

ورغم تأكيد الأمن العام، بالإضافة إلى وزارة الدفاع ومسؤولي الحكومة الانتقالية، على عودة الأمان إلى مدن اللاذقية وطرطوس وجبلة، وبالمثل، رغم تأكيد الرئيس السوري، أحمد الشرع، أنه ستتم جميع المتورطين بانتهاكات ضد المدنيين العزل في مدن وقرى الساحل السوري؛ إلا أن مقاطع الفيديو المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى شهادات السكان المحليين ونشطاء مدنيين تحدثوا لموقع “الترا سوريا”، تؤكد أن عمليات القتل ذات البعد الطائفي متواصلة، لكن بشكل أقل انخفاضًا في قرى ريف الساحل، فيما تغيب أدنى مقومات الحياة، وسط مخاوف من تكرار ما حصل في “الخميس الأسود”

تعفيش للمحال وسرقة للسيارات

تؤكد كاتبة من مدينة بانياس تحدثت لـ”الترا سوريا”، شريطة عدم الكشف عن هويتها خوفًا من الانتقام، أنه تم إحراق النسبة الأكبر من المحال التجارية، بعد تعفيش ما يمكن نهبه، وأضافت أنه عُثر على أربع جثث متفحمة بجوار سيارة أجرة أُضرمت فيها النيران.

وأضافت الكاتبة أن عمليات النهب كانت ممنهجة، حيث استُهدفت جميع المحال التجارية، خاصة تلك التي تبيع بالجملة. وتم سرقة جميع السيارات في المدينة، إذ كان يُجبر أصحابها على تسليم المفاتيح قبل أن تُؤخذ بالقوة، مشيرة إلى أن قوى الأمن العام لم تؤمن وسائل نقل لإجلاء المدنيين إلا بعد 36 ساعة، حيث نُقل بعضهم إلى المساكن المؤقتة وسط انقطاع الكهرباء والمياه في معظم المناطق.

ولفتت الكاتبة إلى عودة بعض الخدمات الأساسية في بعض الأحياء، لكن المساعدات الإنسانية التي وُزعت في المساكن لم تغطِ ربع المحتاجين، بينما اعتمد سكان القرى على مبادرات فردية من الأهالي لتأمين المساعدات الأساسية.

الحرائق تجتاح جبال الساحل

من جانبه، اعتبر الناشط السياسي، حسان غ. أحمد، في حديثه لـ”الترا سوريا” أن “السلطة في دمشق تواصل نهجها الانتقامي، بعيدًا عن أي توجه للعدالة الانتقالية”، لافتًا إلى أنه “على الرغم من إعلان وزارة الدفاع السورية في الثامن من آذار/مارس عن وقف العملية العسكرية في الساحل السوري، بالإضافة إلى إعلان انتهاء العمليات العسكرية في العاشر من الشهر ذاته، إلا أن العنف لم يتوقف، حيث استمرت حالات القتل والتصعيد حتى الـ11 من آذار/مارس، مع بقاء أعداد كبيرة من القوات العسكرية في المنطقة”.

وأوضح أحمد: “رغم أن الأمور أصبحت تميل نحو الاستقرار أكثر في المناطق الريفية السورية من ناحية تسجيل الوفيات، إلا أن العمليات الانتقامية تطورت من التصفية المباشرة إلى إشعال النيران في الجبال والأراضي الزراعية، التي تعد مصدر رزق أساسي لسكان الريف العلوي”، موضحًا أن “حالات القتل لم توقف تمامًا، لكن الكثافة قد انخفضت بشكل واضح، مع انخفاض إضافي في الفيديوهات التي توثق هذه العمليات الانتقامية”.

وبحسب أحمد، تم تسجيل انتشار واسع للحرائق في جبال القرداحة، وقرفيص، والحفة، وجبل المولى حسن في طرطوس، إضافة إلى حرائق جديدة في صلنفة وصافيتا منذ يوم 13 آذار/مارس الجاري. وأشار إلى “شهادات السكان تربط بشكل مباشر بين إطلاق نيران من مدافع 23 ملم واندلاع الحرائق، حيث تبدأ النيران بالاشتعال بعد سماع أصوات إطلاق النار بدقائق معدودة، مما يعزز فرضية تعمد إشعالها لإبادة الأراضي الزراعية”.

ووصف أحمد الوضع الإنساني بأنه “شديد السوء على طول الخط الساحلي في طرطوس واللاذقية، بالإضافة إلى حماة”، حيث “تعاني عشرات العائلات المهجّرة بعد تدمير منازلها حرقًا أو تفجيرًا. كما يفتقر المتضررون إلى المياه، الغذاء، والدواء، وسط غياب أي استجابة رسمية، مما دفع الأهالي إلى تنظيم قوافل مساعدات أهلية”.

وأوضح أن “المستشفيات في بانياس، والقدموس، وجبلة، والقرداحة تعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية، نتيجة قرارات تسريح تعسفية، والتي لا تزال تصدر حتى الآن في مختلف المؤسسات الحكومية”.

ووفقًا لأحمد، فإن “التغطية الإعلامية قد تم التلاعب بها، حيث عمل بعض وسائل الإعلام على تحريف الحقائق ووصف الضحايا بأنهم: فلول النظام”، فضلًا عن منع الصحافة الدولية من دخول المنطقة، وأضاف أنه “لا يزال العديد من العائلات مختبئة في الجبال دون كهرباء أو تغطية شبكة الاتصالات، مما يعوق إمكانية توثيق الانتهاكات بشكل مباشر”، لافتًا إلى الجهد الذي يبذله النشطاء لكشف الانتهاكات من خلال التواصل مع الشبكات الإعلامية.

تصعيد مستمر وتعتيم إعلامي متعمد

وفي المقابل، أكد مصدر أهلي لـ”الترا سوريا” أن “حالات القتل الفردية لا تزال مستمرة في مناطق مختلفة من الريف السوري، حيث تم اغتيال مختار قرية الميدان في ريف القدموس، إلى جانب حالات اختفاء شبان على الحواجز”. كما أشار إلى أن “استمرار الاعتداءات اللفظية والجسدية، خاصة ضد الأشخاص الذين أجروا تسويات أمنية ويحملون بطاقات تسوية بدلًا من بطاقات مدنية”.

وأوضح المصدر الأهلي أن “الأوضاع الخدمية متردية للغاية، حيث لا تزال الجهود الإغاثية مقتصرة على مبادرات تطوعية من الأهالي، وسط غياب تام لأي دعم حكومي أو مساعدات رسمية”. كما لفت إلى أن السكان في المناطق المنكوبة ينقسمون إلى ثلاث فئات:

    فقدت منازلها بالكامل بعد نهبها وإحراقها، وهي الآن دون مأوى، إذ لم يتم إنشاء أي مراكز إيواء رسمية.

    تضررت مصادر رزقها بعد تدمير المحلات التجارية وحرق الأراضي الزراعية، مما جعلهم دون أي مصدر دخل.

    تعاني من انقطاع الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء، خاصة في قرى بارمايا والمزيرعة، مع صعوبة الوصول إلى الغذاء والدواء رغم الجهود المحلية.

ولفت المصدر الأهلي المصدر إلى أن “الحرائق التي اجتاحت المنطقة تمت السيطرة عليها بمساعدة عناصر الأمن العام، لكن شهادات السكان تؤكد أن معظمها مفتعل، حيث اندلع أحد الحرائق في القدموس بعد إطلاق نار من حاجز قرية السعداني”.

وانتقد التعاطي الإعلامي مع الانتهاكات التي يشهدها ريف الساحل السوري، معتبرًا أن “التغطية الإعلامية لا تزال تركز على المدن الكبرى، بينما يعاني الريف من تعتيم شبه كامل، باستثناء بعض الحالات التي برزت على وسائل التواصل الاجتماعي”، وأكد على أن “هناك محاولات لترويج صورة زائفة عن عودة الحياة إلى طبيعتها، حيث تم إجبار الموظفين على الدوام رغم قلة المواصلات”، مشددًا على أن “السماح بوصول صحافة مستقلة هو الحل الأمثل لنقل الصورة الحقيقية”.

“هل نحن أمام كتالوغ يُعاد استنساخه؟”

وقال ناشط مدني تحدث لـ”الترا سوريا”، شريطة عدم الكشف عن هويته، إن “الخدمات سيئة جدًا في مدن وأرياف الساحل، حيثُ تحاول منظمات الإغاثة إيصال المساعدات إلى العائلات التي حُرقت منازلها، بينما لم يستطع سكان اللاذقية الوصول إلى القرى نفسها لمساعدة العائلات المتضررة”، لافتًا إلى أن “آلاف الأشخاص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة، لعدم امتلاكهم المال اللازم لسد هذه الاحتياجات بعد أن فقدوا مصدر رزقهم الوحيد”.  

وأوضح الناشط المدني أن أبرز التطورات في الوقت الراهن هو “انسحاب الفصائل والمجموعات المدنية من الساحل السوري بعد ارتكاب مجازر بحق مئات العائلات لا دخل لهم بالأحداث التي جرت في السادس من آذار/مارس الجاري، وما بعده”، لافتًا إلى أن “حالة من الخوف تسود بين الأهالي من أن تتم إعادة هذه الأحداث بحجج أخرى”، متسائلًا: “إن كان ما حصل مرتبط بتحميل الطائفة العلوية الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد”.

وأشار إلى أن “الأهالي عادة إلى بيوتها، وذلك بعد اندلاع حرائق غرائبية في الأحراش”، وأكد أن الحرائق تراجعت حدتها في القرداحة بعد تدخل فرق الدفاع المدني. وأوضح أن “شهادات السكان المحليين، تؤكد أن المتهم الأول بارتكاب المجازر والانتهاكات، باستثناء قوى الأمن العام، هو الفصائل التي قدمت إلى الساحل السوري”، وحدد بالاسم فصيلي “الحمزات والعمشات”.

وختم الناشط المدني حديثه بالإشارة إلى أن لجنة تقصي الحقائق التي شُكلت للتحقيق بما حصل في السادس من الشهر الجاري “لم تضم في عضويتها أي أطراف محايدة”، متسائلًا: “هل نحن أمام كتالوغ يُعاد استنساخه؟”، منهيًا حديثه بالقول: “كأن هذه الثورة التي دفع ثمنها الشعب السوري 14 عامًا ذهبت هباءً”.

الترا سوريا

——————————

محنة الساحل السوري… كيف سقط الإعلام التقليدي في فخّ المزايدة والتحريض؟/ جعفر مشهدية

الجمعة 14 مارس 2025

شكّلت أحداث ما يُعرف إعلامياً بـ”فتنة الساحل”، أحداث العنف التي راح ضحيتها مئات المدنيين وغالبيتهم من أبناء الطائفة العلوية في مدن الساحل السوري وقراه، عقب هجمات متزامنة ومدبّرة من ضباط في جيش النظام السوري الساقط على نقاط ومراكز أمنية عدة هناك، ومقتل وإصابة عدد من منتسبي الأمن العام، اختباراً حقيقياً لـ”سوريا الجديدة” على أكثر من صعيد، بما فيها الإعلام الرسمي -الموالي للسلطة الحالية- والإعلام المستقلّ.

على ما يبدو، خذل الإعلام الرسمي السوريين من جديد، فيما لم ينجح الإعلام “المعارض” أو “المستقلّ” في نقل الأحداث بموضوعية ودقة إذ تأثّر بانحيازات القائمين عليه، وأحياناً بالمخاوف من التعرّض للهجوم من الموالين للسلطة الحالية والداعمين لسياساتها.

في هذا التقرير، نرصد كيف تعامل الإعلام السوري، والعربي، مع أحداث الساحل الأخيرة، وما هي دلالات ذلك على واقع الإعلام السوري ومستقبله؟ ومتى يمكن أن يصبح لدى السوريين إعلام رسمي يعبّر عنهم لا عمّا تريده السلطة فحسب؟

“خطاب كراهية في كل مكان”

كان لافتاً خلال تغطية أحداث الساحل الأخيرة، وقوع الإعلام الرسمي للإدارة الجديدة، أو ذاك الموالي لها من بين وسائل الإعلام الخاصة أو المستقلّة، في مأزق وجهة النظر الواحدة التي لطالما عكسها “الإعلام الأسدي”، وقد وقع عن قصد أو غير قصد في فخّ التحريض والتعتيم والانحياز للسلطة دون أي تناول لمخاوف الناس في مناطق الساحل بشكل حقيقي ومتوازن.

فعلى سبيل المثال، ركّزت تغطية وكالة الإعلام العربية السورية للأنباء “سانا”، للأحداث، في تقاريرها المرئية والمكتوبة، على ترسيخ مصطلح “فلول النظام”، في محاولة لتثبيت أنّ ما يجري في الساحل هو صراع محصور بين المؤسسة العسكرية الحالية للدولة في مواجهة عسكر تابعين للنظام السابق، مع تسليط الضوء على “استشهاد عناصر الأمن العام”، وإظهار أنّ القتلى الآخرين من “الفلول” حصراً، مُهملةً بذلك الجانب المتعلق بالانتهاكات الكبيرة التي نفّذتها فصائل موالية للسلطة بحقّ مدنيين عُزّل.

أما الإعلام السوري الخاص، الذي ارتبط بمعارضة النظام السابق وكان صوت السوريين/ ات في فترات سابقة، مثل “تلفزيون سوريا” الذي استمرّ في تبنّي السردية نفسها، مع التعمّق في إظهار أنّ هناك حرباً إعلاميةً رقميةً تديرها جهات خارجية تستهدف تضخيم أرقام الانتهاكات بحق المدنيين لإضعاف موقف السلطة الساعية إلى بسط الأمن ومحاربة “الفلول”.

موقف القنوات العربية الداعمة للإدارة الجديدة، وفي مقدمتها قناة “الجزيرة” القطرية، لم يختلف عن الإعلام المحلي الموالي لجهة السردية المتعلّقة بالحرب بين الجيش السوري و”الفلول”. لكنه كان أكثر ذكاءً في طرحه لجهة تخصيص المنصّات الموجهة إلى الداخل السوري بخطاب مختلف عن تلك المخصّصة للجمهور خارج سوريا.

من ذلك أن نشرت صفحة “الجزيرة سوريا”، لقطات جويةً من قاعدة “حميميم الروسية”، وعنونتها بأنها تُظهر تجمّعات لمؤيدي النظام المخلوع ضمن القاعدة، بينما نشرت الصفحة الرسمية للقناة اللقطات عينها مع توضيح مختلف يُظهر أنّ الموجودين في القاعدة هم سوريون فارّون من الاشتباكات في الساحل.

الفرق في منشورات الجزيرة عن سوريا

وعلى تنوّع وسائل الإعلام الداعمة لسردية الإدارة الجديدة، محلياً وإقليمياً، وقعت جميعها في إشكالية عدم نقل الصورة كاملةً للجمهور، وتعويم سرديات منقوصة، وبثّ خطاب كراهية بحق الآخر، الأمر الذي ضاعف -برفقة جنون السوشال ميديا- تجييش الرأي العام وتسعير التجاذب الطائفي، ما أدّى إلى زيادة حجم الدم السائل على الأرض.

إلى ذلك، حاول السوريون، في الداخل والخارج، إيجاد مصدر موثوق للمعلومة عمّا يجري في الساحل السوري في ظلّ حملات التجييش والتحريض الطائفي التي سيطرت على مواقع التواصل الاجتماعي من جهة، وغياب الاستقلالية عن وسائل الإعلام التي استندت في تقديمها المعلومات إلى انتماءاتها السياسية من جهة أُخرى، وسط غياب مؤسسات الإعلام الرسمي المرئية عن البثّ بعد إيقافها كاملةً عقب إسقاط النظام.

ووجد السوريون ضالّتهم في متابعة إنتاج “شهود العيان”، وما يُسمّى بـ”صحافة المواطن” التي شكّلت المصدر الأسرع والأكثر قُرباً من الحدث، برغم ما يشوبها من مشكلات، لكنها كانت أكثر فعاليةً من انتظار أخبار وسائل الإعلام التقليدية.

في هذا السياق، تقول الصحافية والناشطة المدنية زينة شهلا، إنه “منذ بداية الاحتجاجات في سوريا، وبسبب التضييق على وسائل الإعلام، سادت صحافة المواطن وشهود العيان، وما جرى خلال أحداث الساحل السوري الأخيرة رسّخ الفكرة ذاتها. فالمواطن لم يجد في بحثه عن الحقيقة وسيلةً إعلاميةً موثوقةً ومتوازنةً تزوّده بالمعلومة بعيداً عن خطاب الكراهية المنتشر بكثرة، وسط حضور أكبر لشهود العيان في أماكن الصراع، لذا لجأ الناس إلى سؤال أقاربهم ومعارفهم لفهم ما يجري”.

تتابع شهلا: “أنا شخصياً لم أجد وسيلة إعلام تقليديةً تجعلني أعتمد عليها في متابعة قضية الساحل، الأمر الذي وضعنا أمام العديد من المصادر لتقصّي المعلومة، وهو أمر مجهِد لنا نحن الاختصاصيين. فكيف يكون بالنسبة للبسطاء؟ وهذا ما يكشف أهمية وجود إعلام رسمي موثوق ومتوازن يرافق الحملات الأمنية لحماية الناس من الشائعات”.

وعن دور السوشال ميديا في التعامل مع أحداث الساحل، تبيّن شهلا، أنه “سيئ جداً، لما احتواه من تضخيم وأخبار مُزيّفة أوقعت الجميع في مكائدها، حتى أنّ البعض يتمنى متهكّماً، منع فيسبوك في سوريا برغم ما فيه من قمع للحريات، بسبب نشر الفبركات والتضخيم والزيف والتجييش وخطاب الكراهية الذي يؤثر سلباً على الأحداث”.

وحول إمكانية إيجاد إعلام موثوق يساعد المتلقّي في بحثه عن المعلومة، تشرح شهلا، أنّ “فكرة الإعلام الحيادي الرسمي أو الخاص، وهمٌ كبير، فالطيف الأوسع واضح في تحزّبه وتجييشه، وقسم صغير يحاول العمل بتوازن، مع العلم أنّ وسائل الإعلام المستقلّة أو البديلة تسعى إلى العمل بشكل توثيقي أكثر من غيرها، ربما لكونها غير مموّلة من حكومات أو أحزاب، ولكن حتى هذه الوسائل ترتكب الأخطاء، وبرغم هذه الصعوبات كلها يمكن إيجاد إعلام له أجندة ولا ينقل المعلومة بتجييش وخطاب كراهية”.

“الإعلام الرسمي فقد مصداقيته خلال سنوات الصراع في سوريا بين معظم الناس بمختلف توجهاتهم، بسبب التوجيهات والتضييق وضعف الإمكانيات، ما جعله محطّ سُخرية الآخرين، واكتسابه ثقة الجمهور اليوم بحاجة إلى جهد كبير، فالجميع متخوّف من استمرار عقلية الإقصاء في بناء الإعلام الرسمي الجديد”، تختم شهلا.

“الإعلام السلطوي”

يتفق مع شهلا، رئيس تحرير موقع “سيريا نيوز”، الصحافي نضال معلوف، الذي يوضح لرصيف22، أنّ “الوضع السوري عموماً غيّب وجود صحافة مستقلّة لصالح صحافة حزبية (منحازة لتيارات سياسية)، وبعد إسقاط النظام وانتصار الطرف الآخر سقطت هذه الوسائل عند الطرفين، فالوسائل التي كانت قائمةً على انتقاد النظام أصبحت منحازةً للسلطة الجديدة، ولعبت دوراً منحازاً لها لا دوراً عامّاً يراعي مصالح الجمهور، عدا عن كونها مموّلةً من جهات محسوبة على السلطة الحالية. في المحصّلة، لا يوجد ثقة بالإعلام الرسمي قبل إسقاط الأسد وبعده، فقد استُخدم في كلتا الحالتين لتدعيم مواقع السلطة الجديدة، وفق معلوف.

واعتاد السوريون زمن “نظام البعث” الذي امتدّ لخمسة عقود، على إعلام موجَّه تعبوي، وفق أدبيات السلطة و”الحزب القائد”، فكان يخال المتابع للإعلام حينها أنّ البلاد واقعة تحت سيل من المؤامرات الهادفة إلى ضرب بنيان النظام والحزب، واستمرّ ذلك عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث وجّه النظام إمكانياته كافة نحو “شيطنة الثورة”، وإلصاق تهم الإرهاب بكل من ينتمي إليها من جهة، وتزييف الحقائق والتعتيم على الحراك الشعبي من جهة أُخرى. وتكاد تكون حالة “مذيعة قناة الإخبارية في نقل مظاهرات حي الميدان الدمشقي وربطها بسقوط المطر”، الحادثة الأكثر قدرةً على توصيف أسلوب النظام في نقل الواقع، أضف إلى ذلك استخدام خطاب كراهية عبر ريبورتاجات تُبيح دماء المدنيين الثائرين على النظام، بحسب ما يقول معلوف.

ولم يقتصر ذلك على الإعلام الرسمي البعثي، بل كان راسخاً في الإعلام الخاص الذي انحاز تماماً إلى سردية النظام، على غرار قناتَي “الدنيا” و”سما” اللتين سعتا إلى تضليل الجمهور واختلاق أكاذيب وإلصاقها بالحراك الثائر، أو من خلال صفحات السوشال ميديا التي كان لها دور أساسي في تعبئة جمهور النظام وتعتيم الحقائق له بقصد التجييش ضد أيّ معارض للسلطة.

يضيف معلوف، أنه “في علم الصحافة، شهود العيان ليسوا مصادر موثوقةً لكونهم يرتكبون أخطاء ويضخّمون الأمور أحياناً، لكن مع تحزّب وسائل الإعلام العاملة في الشأن السوري، أصبح المتلقّي يميل إلى السوشال ميديا، في ظلّ عامل وسائل الإعلام التقليدية القاصرة والمعيبة، بل هي في بعض التفاصيل مساهمة في الجرائم”.

ومن زاوية أُخرى، يرى معلوف، أنّ “الإعلام غير المتحزّب بحاجة إلى ترتيبات يصعب إيجادها اليوم؛ أهمّها: تمويل الجماهير، أو دولة حقيقية تعمل لخدمة الناس، فيكون إعلامها نوعاً ما في خدمة الناس. أما في الحالة السورية، فهناك صعوبة في إيجاد إعلام غير متحزّب، إلا إذا وُجد وعي مجتمعي بتمويل جهات قادرة على بناء إعلام مستقلّ”.

“الغلبة للمشاهدات”

بدوره، يرى الإعلامي غيلان غبرة، في حديثه إلى رصيف22، أنّ “في سوريا، ومع غياب الإعلام الرسمي بشكل شبه كامل، واقتصار إعلام الدولة على قنوات تلغرام التي لا تُلبّي الحاجة، من الطبيعي ظهور الشائعات والمعلومات المضللة، خاصةً في ظلّ حالة الانفلات الحاصلة اليوم، الجميع يحمل هواتف محمولةً ذات كاميرات، الجميع يصوّر، الجميع ينشر، لا إعلام إلا إعلام مقاطع الفيديو من هنا وهناك. فهذا ينشر مقاطع عن ‘مجازر بحق المدنيين’، وذاك ينشر عن ‘مجازر قام بها مدنيون’، والغلبة لصالح الفيديوهات الأكثر عدداً وانتشاراً”.

يضيف غبرة، أنّ “الدولة مطالبة بتفعيل إعلامها وإعلامييها من أصحاب الخبرة والكفاءة، وإعادة الكفاءات الحقيقة من الذين أبعدتهم تحت مُسمّى إجازات مدفوعة الأجر أو غيرها، فها هي الحكومة اختزلت إعلامها في أفراد معيّنين تحت ذريعة الولاء لها، والنتيجة هي ما رأيناه ونراه، إذ لم يُلبِِ هذا الإعلام حاجة الدولة ولا أرضى المواطن”.

ويستدرك غبرة، قائلاً إنّ حديثه لا يشكّل دعوةً إلى إعادة الإعلاميين الذين كانوا مقرّبين من نظام الأسد ويساهمون في “تلميعه”، مردفاً: “المقربون أيضاً من نظام المجرم بشار كانوا سابقاً يعطون دروساً في الإعلام والوطنية، وها نحن نرى النتيجة. الإعلام على مستوى كل الدول ليس بحاجة إلى يد الحكومة ولو كانت نظيفةً، بل بحاجة فقط إلى أن ترفع الحكومة -أي حكومة كانت- يدها عنه”.

عودٌ على بدء

بُعيد إسقاط نظام بشار الأسد، كان الجميع يترقّب شكل علاقة الحُكم الجديد والموالين له مع أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي “آل الأسد” مذهبياً إليها، وعُدّ على نطاق واسع أنّ ميزان “نجاة” البلد يكمن في إنشاء علاقة جيدة بين الطرفين تضمن متانة السلم الأهلي وتحفظ دماء السوريين، خاصةً مع وجود جهات خارجية راغبة في عدم استقرار سوريا، وذلك بالتعاون مع بعض الخارجين عن القانون من ضباط النظام السابق الذين يحاولون التلاعب بالواقع لإيقاع فتنة بين السوريين.

على ما يبدو، وجدت هذه الجهات موطئ قدم لها في الساحل السوري، معتمدةً على بعض التصرّفات التي انتهجها العهد الجديد، والتي أغضبت أعداداً كبيرةً من المواطنين، على غرار: تسريح الموظفين وكثر منهم من العلويين، وغضّ الطرف عن انتهاكات بحق المدنيين، وتفشّي الفقر وعدم الأمان الاجتماعي والاقتصادي، وسط إجماع علوي على ضرورة تدخّل “الدولة” لحماية أبناء الطائفة، وإيجاد حلّ جذري لمشكلاتهم، مستندين إلى منطلق سوري لا طائفي، ومؤكدين أنّ نظام بشار الأسد ارتكب جرائم طالتهم كما طالت غيرهم، وأنّه لا يمثّل كل العلويين.

في النهاية، لم تعد كيفية تحصيل المعلومة تعني المواطن السوري الناجي مصادفةً من السعار الدائر في البلد المكلوم، فالموت يرافق يوميات الجميع من كل الأطراف، إلا أنّ ما يشغل باله حقيقةً هو كيف ستروى مشهدية مقتله. هل يُعدّ القتيل -من أي طرف كان- ضحيةً، أم يُصنَّف مجرماً يدفع جزاء جرائمه؟

رصيف 22

——————————

كيف تمضي سوريا في طريق الأمل الصعب؟/ يامن المغربي

الأربعاء 12 مارس 2025

“نجحت ثورتنا… نجحت ثورتنا”!

بهذه العبارة صدح صوت امرأة سورية بسيطة ظهرت في لقطة سريعة عبر إحدى الفضائيات، لتعبّر عن فرحها برحيل نظام استمرّ 54 عاماً. إذاً، “إنها سوريا بلا بشار الأسد”، والتاريخ هو الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.

جملة انتظرها مئات الآلاف من السوريين، ومثلهم حول العالم ممن عرفوا وسمعوا وتفاعلوا مع سوريا وقصصها وآلامها لسنوات طويلة؛ آلاف الشهداء والمعتقلين والمغيبين قسراً، بجانب من غرقوا في البحر وتعرّضوا لمئات المواقف الصعبة في بلاد اللجوء.

هل نجحت ثورتنا حقاً؟ سؤال يُطرَح في ظلّ ظروف صعبة للغاية تعيشها سوريا، اقتصادياً وسياسياً، وسط تهديدات إسرائيلية رافقتها تحركات فعلية على الأرض، وحديث متزايد عن التقسيم، ثم تُوّجت بالمعارك الأخيرة في الساحل السوري، التي قُتل فيها مدنيون وُزّعت اتهامات قتلهم على فصائل عسكرية وفلول النظام السوري، ضمن ما قيل إنه مخطط انقلابي بدعم إيراني ومن “حزب الله”، بالإضافة إلى من سقط من قوات الأمن العام، بما في ذلك الإعلان عن مقبرة جماعية ضمت رفاتهم في مدينة القرداحة، في قرى الساحل، وفق الوكالة السورية الرسمية للأنباء “سانا”.

يبدو الحديث عن الأمل بعد الأحداث الأخيرة، ضرباً من الخيال. المصاب كبير للغاية وتداعياته خطيرة جداً ليس على سوريا فحسب، بل ربما على المنطقة برمّتها، التي تعيش بدورها تهديدات تطال الفلسطينيين على أرضهم، والأردن ومصر كذلك.

سأعود إلى السؤال: “هل نجحت ثورتنا”؟

من المبكر جداً الحديث عن نجاحها من عدمه. من البديهي أنّ الأمر لا يرتبط فقط برحيل الأسد عن كرسي الحكم، ولا تفكيك نظامه فقط. يمكن اعتبار ما حصل خطوةً أولى نحو التغيير بعد أن انتظر السوريون 54 عاماً لإتمامها، منها 14 عاماً من الجحيم، ليصلوا إلى مرحلة يملكون فيها أوكسجين الإنسان الثاني، الأمل، لبناء دولة قوية وجميلة لكل أبنائها، وتجاوز مطبات الفساد والمحسوبية والرشوة والطائفية والإمعان في القهر والذلّ.

سقوط الأسد أخيراً، بعد 14 عاماً من حرب ضروس شنّها النظام السابق ضد السوريين، وتحوّل البلاد إلى ساحة صراع إقليمية ودولية، يعني الخطوة الأهم في اتجاه تحتاجه سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وفتح باب للأمل لأن تكون سوريا مختلفةً وأكثر تنميةً وحريةً وقوةً مما كانت عليه لعقود.

لا يمكن الحصول على الأمل من خلال الخطابات الرنانة، ولا الاحتفالات أو الشعارات أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. هذا ليس كافياً، لا أقلّل منه ولا من تأثيره، لكنه ليس كافياً.

يأتي الأمل من خلال خطوات جدّية في طريق صعب وطويل، لتحويل سوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذا الأمر لن يأتي بالتفرد في القرار والعمل وفق شعارات من قبيل “من يحرّر يقرّر”، بل من خلال مشاركة جميع السوريين في بناء سوريا وضمان العدالة الانتقالية وحوار وطني حقيقي بين الجميع، ودستور يكفل حرّية سوريا نفسها ومواطنيها والاعتراف بتنوعهم وضمان حقوقهم السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ومنع قيام أي نظام ديكتاتوري جديد. وقد يؤدي عدم السير في هذا الطريق، إلى حوادث ربما أكثر قسوةً وعنفاً مما شهدناه مؤخراً، ما يُدخل البلاد في دوامة عنف لا يُعرف متى تنتهي.

يحتاج الوصول إلى هذا المكان إلى خطوات عملية على الأرض، تبدأ من نية خالصة لدى كل الفاعلين السوريين، على رأسهم السلطة الحالية، ومن يؤمن بها ومن يعارضها، ومن هو على الحياد، بأنّ هذه خطوة في طريق طويل وصعب لبناء سوريا.

في كتابه “من الديكتاتورية إلى الديمقراطية… إطار تصوّري للتحرر” (صدر في عام 1993)، يقول أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في الكفاح السلمي، جين شارب (1918-2018)، إنّ إسقاط الأنظمة الديكتاتورية بفاعلية يحتاج إلى أربع مهام، هي تعزيز الشعوب المضطهدة في تصميمها وعزيمتها وثقتها بنفسها ومهارات المقاومة، وتعزيز جماعات ومؤسسات الشعوب المضطهدة الاجتماعية المستقلة، وخلق قوة مقاومة داخلية قوية، ووضع خطة تحرر إستراتيجية حكيمة وكبيرة وتنفيذها بمهارة.

ويضيف شارب: “تتمثل إحدى خصائص المجتمع الديمقراطي في وجود عدة مجموعات ومؤسسات حكومية مستقلة عن الدولة تشمل العائلات والمنظمات الدينية والمؤسسات الثقافية والأندية الرياضية والمؤسسات الاقتصادية والنقابات واتحادات الطلبة والأحزاب السياسية ومؤسسات حقوق الإنسان”، وهذه المؤسسات تُعدّ أجساماً توفر الأسس الجماعية والمؤسساتية، يمكن للناس من خلالها التأثير على توجه المجتمع ومقاومة الجماعات الأخرى أو الحكومة عندما تتعدى على مصالحها”.

في فصل آخر، يقول شارب، إنّ نمو هذه المؤسسات يزيد في فضاء الديمقراطية، ويتقلص في ظلّ سيطرة الأنظمة الديكتاتورية، كما أنّ على مخططي الإستراتيجية الرئيسية الإعداد مقدماً لطرائق اختتام النضال الناجح لضمان إنشاء تدريجي لنظام ديمقراطي قوي.

إلى هذا الكتاب، هناك عشرات الدراسات والأبحاث والأمثلة التاريخية من بلاد عانت من الديكتاتورية ودخلت في دوامات عنف وخرجت إلى النور في النهاية، لكن الوصول لم يكن سهلاً، واتخذت بالفعل خطوات جديةً لتعزيز السلم الأهلي والالتفات إلى التنمية وبناء البلاد بدلاً من إنتاج مشكلات جديدة. وكانت ظروف هذه الدول مشابهةً بدرجة كبيرة لسوريا، من ناحية الأزمات الاقتصادية وحكم الرجل الواحد الذي أدى بدوره إلى ديكتاتورية مجتمعية لا تقلّ قسوةً عن السياسية.

هذه الخطوات تحتاج كذلك إلى الاعتراف بالأخطاء والمجازر التي حصلت، وتقديم مرتكبيها إلى القضاء، ضمن مسار واضح وشفاف للعدالة الانتقالية، وأن يكون خيار السلطة الحالية قبل الناس، بناء سوريا فعلاً لا أن يكون الخطاب مجرّد تكرار لكلام اعتاد السوريون سماعه طوال 54 عاماً، وأن يترافق مع خطوات جدية على الأرض في هذا الاتجاه، وضمان حصر السلاح بيد الدولة لا بيد فصيل معيّن، وغيرها من التفاصيل الأخرى، وكذلك تنفيذ الوعود التي أطلقها الرئيس المؤقت، أحمد الشرع، بمحاسبة المتورطين في سفك الدم السوري.

جاءت أحداث العنف الأخيرة كرسالة واضحة بأننا على مفترق طرق، وخيارنا سيحدد مستقبلنا لعشرات السنين؛ فإما السير في طريق بناء الدولة وإما خسارة سوريا وربما إلى الأبد. ويقدّم لنا التاريخ أمثلةً واضحةً لكلا الطريقين، سواء رواندا أو لبنان والعراق، وربما خياراً ثالثاً لا يقلّ ألماً عن الأول، بتكرار نموذج إيران والانتقال من حكم ديكتاتوري إلى آخر لا يقلّ عنه توحشاً.

الظروف في سوريا اليوم، أكبر من أي سلطة مهما بلغت قوتها وإمكانياتها. البلاد مدمّرة ومتعبة وحزينة، والاقتصاد منهار والخدمات الأساسية غائبة، والبلاد بحاجة المجتمع الدولي الذي لن يقدّم خدماته مجاناً ولعيون السوريين الذي خذلهم طويلاً، والسلطة المؤقتة الحالية ستحتاج إلى السوريين كثيراً في هذا المجال.

بالعودة ثانيةً إلى السؤال الذي بدأت به المقال، حول نجاح الثورة، فالإجابة هي لا، ثورتنا لم تنجح بعد، وأعرف أنّ مئات السوريين على الأرض وفي المهجر، يؤمنون مثلي بأنّ البناء والأمل يمشيان بجانب بعضهما، خطوةً بخطوة، وأنّ الطريق طويل ويجب أن يكون صبرنا أطول منه.

والأمل لن يأتي من الشعارات، بل من العمل على الأرض، ومن الجميع ولأجل الجميع، لأجل من قُتل وشُرّد وعُذّب وهاجر وخاض البحار ليصل إلى برّ الأمان، عبر مسار واضح للعدالة الانتقالية والتشاركية وتعزيز السلم الأهلي وحوار وطني حقيقي يؤسس لعقد اجتماعي جديد بين السوريين على أساس المواطنة والمساواة والحقوق والواجبات، لا على أساس الإثنيات والطوائف، وإلا فإنّ ما شهدناه في مدن الساحل سيتكرر في كل مكان في سوريا وربما بأسرع مما هو متوقع.

رصيف

———————–

في إنكار البعد المذهبي وتحولاته في الصراع السوري/ عماد مفرح مصطفى

أعادت “معركة الساحل” في سورية، قبل أسابيع، الجدل بشأن البعد المذهبي في الصراع الذي لا يمكن قراءته، بحكم استمراريته واستقطابه الحاد وتدخلاته الاقليمية، إلا بعدة أوجه وجوانب متباينة، اقتصادية واجتماعية وسياسية ودينية، حيث ينطوي الجانب الأخير على تركيبة معقدة، تتضافر فيها تاريخية الصراع السياسي على الحكم مع هواجس الوعي الطائفي و”الأقلوي”، وعلاقتها بمنظومة الفساد والاستبداد التي حكمت سورية في نصف قرن.

وإذ يتقاطع موقف التنظيمات السورية المعارضة مع النظام، في الإنكار والترفع عن الاعتراف الواضح بهذا البعد في الصراع وتحولاته، واعتباره غريباً عن الثقافة والواقع السوريين، تزداد ضراوة العنف والعنف المضاد بتأثيراته المرعبة على الكيان والمستقبل السوري، على اعتبار أن البعد المذهبي يعدّ من أهم عوامل استمرارية الصراع وعبثيته، ويشكل أحد دعائم الحكم في تطرفه وأصوليته، النابعة من طبيعته المتناقضة في الاختزال والجمع بين جوهره الصلب المستغل للوعي الطائفي (لدى العلويين)، وظاهره المغلّف بمنظومات “عروبية” وقومية (تستوعب السنّة)، كأدوات وظيفية، داعمة للاستبداد وتسلّطه.

لذا، يمكن القول إن القتال الوحشي بين الأجساد الأيديولوجية الناتجة عن تأثيرات العنف الممهنج ضد المجتمع السوري، لم تكن وليدة اللحظة الثورية الراهنة، وما تبعها من استحضار النظام الأصوليين من كل حدب وصوب، بل تعود بتاريخيتها إلى مراحل متقدمة، أعقبت ولادة الدولة السورية وصراعها السياسي الداخلي، والذي شكل الجانب المذهبي و”الأقلوي” أحد ملامحه المميّزة، وإنْ بصيغ مواربة. حيث دفع البعد الطائفي والمذهبي في ذلك الصراع، باتجاه نشوء ذهنيةٍ سياسيةٍ مركّبة ومقلقة، تنساق وفق فرضية حكم الأقلية المذهبية العلوية على الأغلبية السنية في سورية، تلك الفرضية التي ادعى النظام محاربتها، على مستوى خطاب مؤسسات الدولة وتنظيماتها “العروبية”، بينما تم دعمها وتكريسها على مستوى الأجهزة الامنية الحاكمة، محتفظة بذلك على أعلى معدلات التوتر والتوجس وعدم الثقة بين المكونات الأهلية السورية، ومانعة تحول المجتمع السوري إلى مجتمع سياسي.

“القتال الوحشي بين الأجساد الأيديولوجية الناتجة عن تأثيرات العنف الممهنج ضد المجتمع السوري، لم تكن وليدة اللحظة الثورية الراهنة، وما تبعها من استحضار النظام الأصوليين من كل حدب وصوب، بل تعود بتاريخيتها إلى مراحل متقدمة، أعقبت ولادة الدولة السورية وصراعها السياسي الداخلي، والذي شكل الجانب المذهبي و”الأقلوي” أحد ملامحه المميّزة، وإنْ بصيغ مواربة”

تاريخياً، تفجّر الوعي السياسي الطائفي بشكله المسلح في أثناء أحداث الثمانينيات، عندما استطاع النظام إعادة تطويع الصراع المذهبي لصالحه مع إعادة توطين إدارة سلطة الخوف في النفوس، وتحويل الاسلام السياسي في سورية إلى إسلام اجتماعي (القبيسيات، جماعة كفتارو، جماعة البوطي)، أي الإسلام الخالي من المخالب الأيديولوجية، والمطالبات السياسية المتعلقة بالحكم وإداراته. ترافق ذلك مع تقديم الخطاب الممانع نفسه العناصر والفئات التي تضمر وعياً ذاتياً “بسنيتها”، على أنه الدرب الأمثل في توفير حالة الذوبان والتوهان في الأطر السياسية والأيديولوجية للسلطة، من “أحزاب الجبهة الوطنية” والنقابات والدوائر الحكومية، أملاً في حصول الاندماج بين “الشعب” و”الدولة” والنظام! لكن هذا الاندماج لم يحصل، فالتناقض الجوهري كان في بنية النظام نفسه بين المذهبي والقومي، وتكفلت قوة الاستبداد وعنفه بجمع هذا التناقض في بنية الدولة والمجتمع أيضاً، لينعكس على العوالم الداخلية والذهنية لدى السوريين جميعاً، عبر إدخالهم في لعبة الانفصام السياسي بين ما يضمرون وما يصرحون به. ولأن المشاعر الدينية وإخضاعها سياسياً والتلاعب بها، كانت حكراً على النظام وأجهزته القمعية، احتكم البعد المذهبي لعوامل الشد والجذب، سواء لدى العلويين، بتأسيس عصبوية طائفية ذات وعي سلطوي، تربط مصيرها بالسلطة، وتذوب فيها وفي أجهزتها القمعية، بعد فقدهم أي شكل كياني أهلي أو مدني، حتى أصبح بعض المتنفذين منهم لا يقيمون أي اعتبار للدولة وسلطتها، لأنه يعتبر نفسه هو الدولة، أو لدى الطرف “السني”، بنشوء عصبوية طائفية، تتداخل فيها الحالة الاقتصادية والاجتماعية، لتحديد شكلها ومضمونها. ففي حين تميّزت في المدن باعتدالها واكتسابها سمات العقلية التجارية والبورجوازية (الإخوان المسلمين)، كانت الأرياف تستمد قوة عصبويتها وتطرفها من العوز والفقر (السلفية الجهادية). لذا، لم يكن مستغرباً ظهور التسليح في الثورة السورية من مناطق الأرياف أولاً. مع انطلاقة الثورة السلمية، تأجج النزوع الطائفي لدى غالبية “العلويين”، انطلاقاً من تصور أن أي حراك سياسي، أو ثوري، يفضي إلى نظام ديموقراطي، سيكون مصدر خطر فعلي على مصالحهم ووظائفهم في الدولة، ما لبث أن تحول هذا التصور إلى خطر “وجودي” مع ظهور العسكرة والتسلح في الثورة ذات الغالبية “السنية” التي بدأ نزوعها الطائفي يزداد مع ازدياد مستوى العنف بحق المتظاهرين. لكن حلقة النزوع الطائفي لم تقتصر على إثارة الحساسيات والمشاعر، بل تجاوزتها إلى أفعال وممارسات، تدخل فيها النظام بشكل فعلي ومباشر، فهو كان على دراية، وبحسه الاستخباراتي، أن الرد الفعلي على عنفه العاري والممنهج سيكون عنفاً إسلامياً، تصدره الحاضنة الريفية والزراعية، ذات الأغلبية السنية، ما سيمكنه حينها من استدراج منطق الثورة إلى خانة العسكرة، ويتبعها بالقضاء عليها عسكرياً. هكذا، وخلال مرحلة التسليح وما تبعها، استطاع الخطاب الطائفي المتواري أن يستحوذ بكل انفعالاته على الشعور الديني والمكنون الإيماني لدى السوريين، وأن يأخذ الحيّز الأكبر في ذهنيتهم ووعيهم. فالثقافة الدينية وتناقضاتها المذهبية، كانت الأكثر تجذراً في نفوس الفقراء من العلويين والسنّة، وهي الثقافة الأكثر وضوحاً في إعطاء التقديس والمعاني السامية لفعل التضيحة والموت، في ظل عبثية العنف وزخمه في الحالة السورية.

” نظرة الإنكار لدى المعارضة حول البعد المذهبي في الصراع، تلتقي مع نظرة متعالية زرعها حزب البعث في نفوس السوريين، عن ثقافاتهم المتعددة وانتماءاتهم، وباعدت بين السوريين وجعلتهم يحتقرون أنفسهم ويخفون انتماءاتهم المتنوعة لصالح أبدية “البعث” البائسة التي حولت، بعنفها العبثي، البعد المذهبي في الصراع إلى سرطان أيديولوجي”

دعم إقليمي ودولي

يمكن القول إن البعد الطائفي الذي دعمته قوى إقليمية ودولية، وتحت ضغط آلة القتل والتعنيف، شكل الأرضية والبيئة المناسبة لانتشار ثقافة الميليشيات التي أخذت على عاتقها استنزاف ممكنات الحل السياسي ومحدداته، ورسم الحدود الدموية القاتلة بين المكونات الأهلية والاجتماعية.

دعمت الدول الإقليمية، وعلى رأسها إيران، البعد الطائفي في الصراع السوري، وجعلته أساس الصراع السياسي، لأنها رأت فيه العامل المشترك، والرابطة التي يمكن من خلالها بناء تحالفات مع الداخل السوري. في المقابل، كان الهدف من دعم الكتائب المعارضة الإسلامية المسلحة إحداث توازن عسكري مع قوة النظام على الأرض، وتقويض أهداف الثورة السورية في الحرية والكرامة وبناء نظام ديموقراطي، ودفعه باتجاه مشروع دولة “الخلافة” الذي لا يمكن إنجازه بأي حال من الأحوال. الواضح أن سياسة الاستثمار في الوعي الطائفي باتت جزءاً من استراتيجية الأطراف السورية المتصارعة، أملاً في تأمين كل طرف الدعم البشري والمادي لصالح مشروعه السياسي، المستند في أساسه إلى موروثٍ صراعي قديم، واجتهاداتٍ فقهيةٍ سبقت بناء الدولة السورية بقرون. لذا، لا يمكن تفسير كل العنف المذهبي وعبثيته، إلا من خلال الفهم البنيوي والذهني المتداخل في تكوين تلك العصبويات الدينية، فالتيارات “السنية” التي تتداخل فيها العوامل المتعلقة بتاريخية الدولة وتراثها البيروقراطي، لا تستطيع الفكاك من فرضية حقها التاريخي بالحكم والسلطة، بينما تتجه الأصولية العلوية إلى الاستثمار في “عقدة الضحية” و”المظلومية التاريخية”، وهي تجد في كل عنفها الطائفي مقاومة ودفاعاً عن النفس، حيث لا تستطيع التحرر من كينونتها المسكونة بهاجس الموت والزوال. تلك الكينونة التي يستغلها النظام، ولا يؤمن بها، إذ لا يمكن وصف عقيدة النظام السوري بأنها تعتمد على عقيدة طائفة بعينها، فحقيقة الأمر أن النظام لا يمتلك أي عقيدة، وهو يدين بالولاء فقط “لطائفة السلطة” “طائفة المال والنفوذ”، والتي تجمع في تكوينها عناصر ورجالاتٍ من كل الطوائف والمذاهب، فالنظام، يفضّل أساساً الاهتمام ببنيته، أكثر من اهتمامه بالعقائد والأفكار، ذلك أن البنى المتداخلة والمتشابكة توفر له الآلية المناسبة للمراقبة وتجسس الكل على الكل. صحيح أن تلك البنية تفضّل العناصر العلوية، لكن، ليس حباً بها، بل انطلاقاً من الوعي الريفي للسلطة، وتفضيله أبناء منطقته الريفية، بكونهم أكثر الناس يمكن الوثوق بهم، والاستفادة من شعورهم الطائفي الضامن للولاء. من الأهمية الاعتراف بالبعد المذهبي في الصراع، وإظهاره على حجمه وحقيقته، حتى تتمكن القوى الفاعلة والمؤمنة بالديموقراطية، من إيجاد استراتيجية مناسبة تبقي على ما تبقى من سورية، وتحييد البعد الطائفي، بالتفريق بين الطائفية كوعي، والطائفة كحالة ثقافية واجتماعية، تستوجب الدعم والإغناء. وقد بات الصراع يجذب المقاتلين من السنة والشيعة بكثافة، من كل أطراف العالم، على هدي نبوءات قديمة عن “ملاحم كبرى” وظهور “المهدي”، وعلائم أخر الزمان.

ملاحظة أخيرة، هي أن نظرة الإنكار لدى المعارضة حول البعد المذهبي في الصراع، تلتقي مع نظرة متعالية زرعها حزب البعث في نفوس السوريين، عن ثقافاتهم المتعددة وانتماءاتهم، وباعدت بين السوريين وجعلتهم يحتقرون أنفسهم ويخفون انتماءاتهم المتنوعة لصالح أبدية “البعث” البائسة التي حولت، بعنفها العبثي، البعد المذهبي في الصراع إلى سرطان أيديولوجي، لا يمكن التخلص منه بسهولة، وقد باتت لغة التشفي والانتقام جزءاً ممّا يضمره السوريون تجاه بعضهم. 

 العربي الجديد

 ——————————

دعوة للنخب العلوية لإيقاف التحريض الطائفي/ خلف علي الخلف

المثقف العلوي الطائفي؛ يسمي الثورة السورية أحداث؛ بمجازرها التي فاقت الآلاف،

بنصف مليون قتيل،

ومئة وثلاثين ألف قتيل تحت التعذيب،

بمقابرها الجماعية

بقراها ومدنها المدمرة كليا يسميها أحداث..

13 مليون مشرد ولاجىء ويسميها أحداث..

إبادة جماعية ممنهجة علنية مصرح بها لما أسماه “حواضن الإرهابيين” يسميها أحداث..

اغتصبت آلاف النساء أو عشرات الآلاف ويسميها أحداث..

 جرائم الحرب الموصوفة من منظمات دولية يسميها أحداث… الجرائم ضد الإنسانية يسميها أحداس..

مجزرة حماة في الثمانينات يسميها أحداس السمانينات

هذا المثقف العلوي الطائفي؛

 يشتم كل من يسمي ما حدث في الساحل انتهاكات أو جرائم.

 نعم إنها انتهاكات وجرائم قتل خارجة عن القانون وليست مجازر ممنهجة من طائفة أخرى كما تزعمون بين السطور وليست مجازر تقوم بها الدولة وجيشها وأمنها بل هي جرائم وانتهاكات قام بها مسلحون خارجون عن القانون وسيحاسبون.  وسنبقى نطالب بمحاسبتهم نحن الذين لا نفرق بين ضحية وأخرى.

لا أعرف ماذا تستفيدون من إشعال الكراهية الطائفية وأحياء جروح الناس التي ما زالت تنزف بعد أن رضخ أصحاب الحقوق لفكرة القانون والمحاسبة والعدالة..

تسامح كثير من الناس مع كل تلك الجرائم والإبادة والاغتصاب والتدمير التي قام بها رجال علويون وقالوا حسنا سننتظر العدالة لتفريق المجرم عن غير المجرم.

هؤلاء الذين قاموا بكل تلك المجازر والإبادة والاغتصاب معظمهم من ابنائكم وهؤلاء هم من بدأ هذه الجرائم غدرا وخسة وفتحوا مواجهة مسلحة يعرف حجمها مخابرات كل دول العالم إلا المثقف الطائفي العلوي…

ولك أخي أختي حلو عن طيزنا وطياز العلويين قرفتونا بتباكيكم الكاذب…

أخي أختي المثقف العلوي الطائفي ونصف الطائفي وربع الطائفي خذ مني هذه النصيحة:

سابقا كان عندك دولة مخابرات خاصة بك تجعلك تفرض ما تقول وما ترى على الجميع وإلا مصيرنا صيدنايا

 الآن دولتك بح طارت

قعود عاقل واعرف انك رجعت إنسان متساويا مع بقية خلق الله

الفيس بوك

————————

عن الطائفية/ حازم السيد

تبدو الطائفية اليوم وكأنها قدر سوريا، فبعد سقوط النظام الذي نجح لحد كبير خلال 50 عامًا في قولبة مجتمعات العلويين وتنوعها في جماعة متراصة وترويضها وتسييسها وتوظيفها بما يتناسب مع مصالحه، يبدو أننا أمام نظام جديد لن يتوانى عن محاولة قولبة المجتمعات السنية وترويضها بغية تحويل شرائح واسعة منها إلى جماعة طيّعة وأداة يمكن استخدامها عند الحاجة لإكمال مشروع التسلط على حيوات السوريين ومستقبل هذه البلاد.

لفهم الطائفية أميل إلى مقاربتها بوصفها «منظومة» و«ذهنية»، فهي منظومة عضوية معقدة ساهم في صناعتها الكثير من اللاعبين والظروف، وتحولت، كفرانكشتاين، إلى كائن مستقل افترق عن صناعه، ليمتلك حياته الداخلية وبعض شروط إعادة إنتاجه لوجوده، وإلى واحدة من الديناميات الأساسية للاجتماع السوري، التي لا أعتقد بإمكانية الخلاص منها بشكلٍ نهائي وإن كان من الممكن ترويضها وتحجيمها.

في أسس المنظومة ما هو بنيوي، وهو ما يفسر استحالة الخلاص منها، فتكوين سوريا وجماعاتها الدينية وأحجامهم الديموجرافية وتبعثرهم الجغرافي، يقودنا إلى مشهد وتوازن يسمح بهيمنة الجماعة السنية دون أن يعني ذلك انكسار شوكة باقي الجماعات، وهو ما يخلق توازنًا هشًا، يسمح للناطقين باسم جماعة السنية بتحويل أنفسهم إلى محتكري الحقيقة فيما يتعلق بالشؤون الدينية، ويجبر أبناء باقي الجماعات على عيش انتمائاتهم الدينية بخجل وانزواء وكأنهم يرتكبون المعاصي. من جهة أخرى، مجموع هذه الجماعات الصغرى الوازن نسبيًا وتاريخ الكيان السوري شديد التنوع، والتنوع الداخلي للجماعة السنية، يمنع أصوات الجماعة السنية من الإجماع على مشروع تصفية وجود الأقليات، ولو رمزيًا كما في مصر، ويجبرهم على الاعتراف بهم بمنطق قائم على مقولات التسامح والتعايش المحدودة، فيما يتعلق بالمسيحيين والأكراد، وعلى غض البصر والإنكار فيما يتعلق بالأقليات الشيعية والغنوصية.

على خلاف لبنان، تجعل جغرافيا سوريا وحجم الطائفة السنية الكبير هذا التوازن أقل قلقًا وتوتراً وسببًا من أسباب محدودية حروبنا الأهلية وهزالة مشاريع التقسيم والمشاريع الانعزالية، ولكن هذا التوازن يمنعنا أيضًا من المجاهرة بهذه المشكلة والاعتراف بها أو تحويل مقولاتها إلى مفردات في حياتنا اليومية على ما هي الحال عليه في لبنان.

بالإضافة إلى هذا السبب البنيوي، ساهمت عوامل تاريخية كثيرة في تغذية هذه الدينامية، من منظومة الملل العثمانية إلى محاولات الانتداب الفرنسي لتقسيم سوريا إلى دويلات طائفية أو تأسيسه للجيش الوطني السوري بالاعتماد على الأقليات الدينية، ولكن يبقى نظام الأسد العامل الأكبر في توطيد هذه المنظومة وتغذيتها والبقاء في السلطة بالاعتماد عليها وعلى تنميتها لتصبح فخ الاجتماع السوري الأول.

هذه الرعاية الأسدية الطويلة لهذه المنظومة، بالإضافة إلى تمدد أسسها في الجغرفيا والديموجرافيا والتاريخ، هو ما حولها  إلى “ذهنية” قابعة ومهيمنة في عقول أغلب السوريين،  ففي سوريا الأسد، مملكة الصمت، والتي يسودها ناموس حتمي لا يتغير، يختزل السوري نفسه في كثير من المواقف في بعده الديني والطائفي أو الأهلي، وهو ما يبدو شديد الفاعلية، وما يزيد من فاعليته غياب أي فضاء عام يسمح له بالتعبير أو استكشاف أبعاد شخصيته الأخرى. بالإضافة، وتحوّل الاشتباك بالفضاء العام إلى أسباب للسجن والتعذيب والغياب وغيرها من المتاعب الأمنية أو النفاق والتدجين، جعلنا ميالين إلى العيش بعيدًا عن الدولة وعن الفضاء العام وإلى الاكتفاء بانتماءاتنا الأهلية الضيقة وإلى الالتزام الشديد بقواعد النجاة في سوريا الأسد، أي الالتزام بما تمليه علينا ذهنيتنا الطائفية، سواء كنا طائفيين أم لا أو متدينين أم لا. فأبناء الأقليات يتصرفون بتحفظ في حضور السني عندما يتعلق الموضوع بالدين والإسلام، على اعتبار أن ناموس الحياة الذي لا يتغير في سوريا الأسد يقتضي بأن يكون السنة أصحاب الحقيقة في هكذا المواضيع، وأغلب السوريين يتعاملون مع العلوي بحذر كبير ولا يأمنون جانبه إلا بعد اختبار سلطويته من عدمها في عشرات التجارب الصغيرة، على اعتبار أن تركيبة سوريا الأسد، لا تسمح للعلوي إلا بأن يكون من رجالات السلطة وعناوينها في المجتمع، في الوقت الذي يسترخي فيه أغلبية السوريين، من سنة وأقليات، مع المسيحي بوصفه بعضاً من رائحة «سوريا العميقة».

لا يكفي سقوط النظام كي تختفي هذه الذهنية أو تتفكك ولن تفقد سطوتها إلا بعد عقود من العمل الطويل، ولا أعتقد بأنها ستختفي ولكنني شديد الثقة بإمكانية تحولها إلى دينامية هامشية في اجتماعنا.  قد يساعدنا نقد الدين ومنطوقه القاضي باحتكار الحقيقة على تفكيكها، قد يساعدنا كذلك قيام المتدينين من أبناء الأقليات بعيش انتماءاتهم الدينية وطقوسهم وشعائرهم بكل ما يحق لهم من جهر وعزة، وقد يساعدنا قيام حوارات الطوائف لاستكشاف تنوع عالم الإسلام وتسامي الحقيقة، كما قد تساعدنا عودة النخب السورية إلى التصالح مع التاريخ الإسلامي والتعرف عليه، وبلورة علمانية سورية، أو المساهمة في إطلاق رؤية علمانية تتناسب مع المجتمعات الإسلامية بدلاً من التبني الجاهل لعلمانيات غربية لا تشبه في تجربتها التاريخية أي شيء من تجربتنا، ولكن الأكيد أن كل هذه الجهود لتفكيك الذهنية لا يمكن أن تؤتي بأي ثمار ما لم نشهد عودة الدولة الوطنية التي لا تتصرف مع أبنائها إلا بمنطق المواطنة، دون تمييز ودون اختزال تعريف السوريين بجماعاتهم، وخاصة في اللحظات الصعبة، أي على عكس ما حدث في مجازر الساحل.

ما يزيد من مأساوية هذه المجازر هو أننا تأكدنا بأن السلطة الحالية غير قادرة وغير راغبة بالبدء بتفكيك هذه المنظومة، وأن الكثير من النخب المحسوبة على الثورة والكرامة والحرية لا تمتلك من التأهيل الأخلاقي والمعرفي ما يسمح لها بمقاومة رغبة السلطة في تحويلها إلى مجرد مسننات معدنية تافهة في ماكينة «السنية السياسية».

رغم كل ذلك، لا أعتقد بأننا يجب أن نستسلم لليأس، فسقوط نظام الأسد خطوة هائلة ولا يمكن أن تحدث دون الكثير من الارتدادات المؤلمة، ومنها سيطرة هذه السلطة بشكلها الحالي. لا يمكن للأبد أن يعيد إنتاج نفسه في سوريا وبخاصة في ظل هكذا سلطة هشة وضعيفة، وسقوط الأسد يجب أن يشحننا بطاقة الانتماء لعقود، وليس علينا إلا التفكير بكيفية تحويل هذا الانتماء إلى عمل وسياسة.

الفيس بوك

——————————–

===================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى