مراجعات الكتب

الصدع الطائفي في سورية/ نبيل سليمان

15 مارس 2025

إذا صحّ وسْم المجتمع السوري بالتقليدي منذ إعلان الكيان السوري بعد الحرب العالمية الأولى، إلى أن بدأ التحديث يغلب عليه، فقد كانت الطائفية الاجتماعية متحدة بالطائفية السياسية في الزمن الأول التقليدي، بينما بدأت الطائفيتان تتمايزان مع التحديث منذ خمسينيات القرن العشرين، وإن ظلتا تشتبكان من حين إلى حين، ومن موقع إلى موقع. وعلى أية حال فقد كانت الطائفية في سورية حتى العقد السابع من القرن العشرين، وبتشبيه عزمي بشارة في كتابه “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” ذلك الفيل الأبيض المنتصب في غرفة المجال العمومي الذي يتظاهر الجميع بأنه لا يراه. وبالتالي: كانت الطائفية سردية المجالس الخاصة، حيث يصخب ادعاء التعايش بأثر تراجعي في التاريخ، فيذهب القول إلى أن الشعب مسالم وبريء من أية طائفية، ويُمارَس التطهر من أية لوثة فردية أو جماعية طائفية.

أسرعَ الهمسُ بالطائفيةِ إلى الفضاء السوري منذ بداية زلزلته سنة 2011. وسرعانَ ما اصطخب بها هذا الفضاء، سياسيًا أولًا وثانيًا، وثقافيًا ثالثًا أو رابعًا. وكما في العراق من قبل، أخذت الأسئلةُ المتعلقةُ بذلك تتفجر: هل بدأ تشكيلُ هويةٍ سوريةٍ أو عراقيةٍ جديدة، يعود فيها المكبوتُ الطائفيُّ بطريقةٍ محرَّفة؟ هل نحن بإزاء تشكيلِ ما يصح وصفُهُ بالهوية الكبسوليةِ المنغلقةِ على ذاتها؟

ينبغي ألا نغفلَ عن أن الطائفيةَ، كهويةٍ فرعية، كانت حاضرةً في المرحلة العثمانية من تاريخنا. كما حاولتْ المرحلةُ الفرنسيةُ تسييسَ وتكريسَ هذه الهوية، بل وشرذمتَها من جهة، وقَوْمَنَتَها من جِهة أخرى. ولئن كانت السرديةُ الطائفيةُ قد تراجعت بعد الاستقلال، مقابلَ هيمنةِ وأولويةِ السرديةِ القوميةِ العربية، وثانويةِ السرديات الأخرى الشيوعيةِ والإسلاميةِ والقوميةِ السورية، فقد أخذت السرديةُ المهيمنةُ تتشقق، مقابلَ بروزِ السرديةِ الطائفية، منذ انفجارِ الصراعِ المسلحِ المرموزِ له بأحداثِ حماة 1982. لكنّ كلَّ ذلك لا يقاس بما جاء به زلزال 2011، حيث بدأت صدوعُ الهويةِ تطلعُ. وسرعانِ ما بدا أن العماءَ الطائفيَّ قد أصاب شطرًا من السياسة والإعلام، كما أصابَ الشطرَ الثقافيَّ التابعَ للسياسي، حيث أخذت تتطايرُ المِزَقُ والرُّقعُ الثقافيةُ السياسيةُ، بالاضطراد مع تواترِ وتصاعدِ الخطفِ والاغتيال والتهجير والكراهية وسائر أشكال العنف الطائفي.

ليست الطائفية إلا ظاهرة اجتماعية سياسية وإشكالية، لا علاقة لها بالضرورة بتعدد الديانات والمذاهب، وإن تكن قابلة للتفعيل في البيئات المتعددة دينيًا ومذهبيًا. لكن النسب الطائفي كالنسب الديني، يتحدد بما هو الأب عليه. بعبارة أخرى: أنت سنّي أو علوي أو درزي أو مسيحي أو إيزيدي إذا كنت من (ظهر – صُلْب) سنّي أو علوي أو درزي أو مسيحي أو إيزيدي، وما همّ أن تكون ملحدًا أو علمانيًا أو أن تسلخ جلدك الطائفي أو الديني، فالعلاقة الجنسية بين أبيك وأمك تحدد طائفتك.

وبالنظر إلى الطائفية كتحديد من الفرد لهويته، وذلك على أساس من التعصب الديني أو المذهبي، يمضي القول مع عزمي بشارة إلى أن الطائفية تعني تحويل الطائفة إلى متخيل يفكك العلاقات في الدولة الحديثة. وتتميز الطائفية في العصر الحيث ببروزها في صراع مع الهويات الأخرى للفرد ذي الانتماءات المتعددة (العشائرية – الجهوية – السياسية…) فيغلب الانتماء الطائفي على الهويات الأخرى للفرد، وهو ما يبرز في الوعي الاجتماعي القابل لرفع هوية واحدة فوق الهويات الأخرى.

أما الأهم في هذا السياق وفي هذا النظر، سواء بالنسبة للصدع الطائفي في سورية أم في سواها، فهو تحوّل الطائفية المتخيلة إلى بنية اجتماعية فكرية، حيث يجري تطييف الناس، وإن لم يكونوا جميعًا طائفيين، كما في لبنان منذ إعلان الكيان اللبناني عام 1920، وكما في العراق بعد زلزال 2003، حيث تحدد البنية الطائفية نواحي الحياة كلها، ويعلو الهتاف بالعيش المشترك والوحدة الوطنية والديمقراطية التوافقية!

للحديث عن الطائفية كمتخيل اجتماعي، يحسن الابتداء بما للمتخيل من دور في بناء الحقائق الاجتماعية والذوات التي تعيش تلك الحقائق. فالمتخيل الاجتماعي هو الطريقة التي يتخيل بها الناس محيطهم الاجتماعي، محمولًا في الصور والقصص والأساطير. ويتابع عزمي بشارة فيما يقول في المتخيل الاجتماعي، محللًا ومطورًا ما جاء به تشارلز تايلر في كتابه “المتخيلات الاجتماعية الحديثة”.

ففي الإجابة على السؤال “ما هو المتخيل الاجتماعي؟” يكون المتخيل هو الفهم المشترك الذي يجعل الممارسات الاجتماعية ممكنة، إضافة إلى الإحساس العام المشترك بالمشروعية. والمتخيل الاجتماعي بالتالي أمر معقد، يشتمل على حس بالتوقعات العادية التي تكون لدى كل منا تجاه الآخر، وعلى نوع من الفهم المشترك الذي يمكننا من القيام بالممارسات الجمعية التي تصنع حياتنا الاجتماعية. وهنا تتشكل الأسئلة اللاهبة: كيف يقف كل منا تجاه الآخر؟ كيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ كيف نرتبط بالجماعات الأخرى؟

وفي تقديم عزمي بشارة لترجمة كتاب بندكت أندرسن “الجماعات المتخيلة” نقرأ: “ليست الجماعة المتخيلة جماعة خيالية، بل حقيقية وواقعية، لا لأن فعلها وتأثيرها حقيقي وواقعي فحسب، بل لأن تخيلها يجري بأدوات واقعية، قائمة. والناس في هذه الحالة لا يتخيلون شيئًا من العدم وبواسطته. بل يحتاج تخيل هذه الجماعة إلى أدوات ناشئة تاريخيًا “. ويستتبع ذلك القول بأنه إذا ما عبرت الطائفة الدينية حدود القرية أو البلدة، وكان تصور الانتماء إليها ممكنًا كما لو أنه انتماء إلى جماعة، فهي جماعة متخيلة.

على هدي من كل ذلك يأتي الحديث عن الصدع الطائفي في سورية. وربما كان أوجع وأكبر ما في هذا الصدع هو ما يتعلق بالطائفة العلوية، كما سيتبين.

عندما أقامت فرنسا الاتحاد الفيدرالي بين دولة حلب ودولة دمشق، رفض ممثلو جبل الدروز الانضمام إلى الاتحاد، فأعلن المندوب السامي الفرنسي استقلال دولة جبل الدروز. وفي 7/5/1923 تلقت المفوضية الفرنسية السامية برقية من (الزعماء) العلويين والمسيحيين والتركمانيين والاسماعيليين والسنيين، وذكروا أنهم يمثلون خمسة أسداس سكان دولة العلويين التي كانت تشمل من سورية اليوم محافظتي اللاذقية وطرطوس وأجزاء من محافظتي حمص وحماة، وهي ما عرف بـ (الإقليم العلوي). وأكد أولاء الزعماء أنهم يرفضون الانضمام إلى دولة الاتحاد. ويلاحظ هنا التنوع الطائفي والإثني للزعماء. وسوف يتكرر الأمر عام 1936، عندما تدافرت برقيات الاستقلاليين (الانفصاليين) من شتى الطوائف، وبرقيات الوحدويين من الطوائف نفسها، إلى وزير الخارجية الفرنسي، في سياق المفاوضات السورية الفرنسية في باريس. ومما تعلّل به الانفصاليون العلويون أنه ليس ثمة ما يجمعهم بدولة الاتحاد والحكومة المركزية في دمشق. وها هو محمد هواش في كتابه “عن العلويين ودولتهم المستقلة” ينقل مما برّر به الانفصاليون دعواهم: “فطرق التربية في المنزل والمدرسة والعادات القومية والأهداف مختلفة بيننا وبين السنّة كل الاختلاف. ورغم أنه تجمعنا معًا حضارة القرن العشرين، إلا أن تناقضنا الديني والعقائدي متغلغل في كل مجالات الحياة الاجتماعية”.

ومن برقية الانفصاليين ينقل هواش أيضًا: “فما هو المنطق الذي يعطي السوريين الحق في حكمنا ويحرمنا من حق الحكم الذاتي؟” فالانفصاليون ينكرون الهوية السورية البتّة. وقد كان من الموقعين الشاعر الشهير بدوي الجبل الذي سيتراجع ويعتذر معترفًا بالخطأ. أما المفارقة فهي أن آخر الكلاسيكيين العرب هذا كتب منذ يفاعته إلى مماته غرر قصائده، وربما غرر الشعر الكلاسيكي، في التولّه بالشام وبالوحدة.

بالمقابل أبرق العلويون الوحدويون إلى وزير الخارجية الفرنسي – كما ينقل هواش – معلنين أنهم “مسملون كما أن الإغريق أرثوذكس والبروتستانت مسيحيون”، وبالتالي، فرغبات الأكثرية الساحقة من سكان بلاد العلويين، كما يكتبون، هي بالوحدة السورية. وبين الموقعين من العلويين طبيبان وأربعة محامين وسبعة وعشرون شيخًا، وهي أرقام هامة في ذلك الزمن. وكانت الجمعية (العلوية المسلمة) الممثلة للعلويين من المهاجرين إلى الأرجنتين، قد رفعت الصوت عاليًا منادية بالوحدة.

قبل ذلك بسنتين كان وفدٌ من الوحدويين العلويين قد زار دمشق مؤكدًا على الوحدة ورافضًا الانفصال. وقد استمرت الدولة العلوية المستقلة تحت الراية الفرنسية حتى كانون الثاني/ يناير 1942، حيث ضُمّت هي ودولة الدروز إلى (الأم) في دمشق. وكان الانفصاليون في جبل الدروز كما ينقل محمد هواش قد أبرقوا إلى وزير الخارجية الفرنسي، بالتوازي مع برقية الانفصاليين العلويين: “يطلب الشعب الدرزي بإصرار الاحتفاظ باستقلاله الذي تمتع به منذ فجر التاريخ”. وجاء في البرقية أيضًا: “يأبى كل أفراد الشعب الدرزي الانضمام إلى سورية، ويرفضون فكرة إلحاق جبل الدروز بالدولة السورية”. ومثل الانفصالية الطائفية العلوية والدرزية كانت الانفصالية المسيحية كما عبرت عن نفسها في الفترة نفسها في الحسكة، عاصمة الجزيرة السورية.

إنها المعمعة السياسية في اللبوس الطائفي. وللإسلامي منه – يقول محمد المختار الشنقيطي بحق: “فأغلب الهويات الطائفية في الثقافة الإسلامية، مثلًا، ترجع في جذورها إلى خلافات سياسية، تطورت مع الزمن إلى انشقاق عقائدي، وفكري”. وفي صلب هذه المعمعة كان التدخل الخارجي متمثلًا في سورية بالانتداب (الاستعمار) الفرنسي.

مع الاستقلال وجلاء الاستعمار الفرنسي تبدد الصوت الانفصالي، وخفت الصوت الطائفي، وبخاصة في سياق المدّ القومي العربي والوحدوي واليساري في الخمسينيات من القرن العشرين، بما في ذلك الحضور الشيوعي. وعلى الرغم من حضور الإخوان المسلمين في تلك الفترة أيضًا، إلا أن الصوت الطائفي ظل خافتًا. أما بعد مفصل 1963 واستيلاء البعث على السلطة والدولة، فقد أخذ الصوت الطائفي يعود، بينما أخذ الصوت القومي العربي واليساري يتراجع، وكل ذلك يستدعي الحديث عن تصديع الديكتاتورية للمجتمع. وفي هذا الحديث يتواصل التجاذب في سورية بين الهوية الوطنية وبين ما بعد الهوية، بين الدولة وما بعد الدولة، بين التباب والبدد، وبين النهوض كدولة ديمقراطية تتعدد فيها الانتماءات الهوياتية وإمكانيات الاختيار، مما سيخفف طغيان الهوية الواحدة. فالرهان هو على أن يتواصل وينضج هذا الذي يجري من إعادة بناء الهوية الوطنية على أساس عقد اجتماعي جديد.

لقد أخذ صوت الأسلمة والطائفية يعلو مبكرًا، بعيد الثورة/ الحراك/ الانتفاضة/ الزلزال عام 2011، مشتبكًا مع صوت المظاهرات السلمية ومع العسكرة بوجهيها الحاكم والمعارض. وفي هذا السياق زايدت أصوات بعض المثقفين ذوي المنبت العلوي على نظرائهم من ذوي المنبت السني، في تخوين الطائفة العلوية. ومن هذا الرعيل من لم يشفع عنده لآلاف الشباب والشابات من ذوي المنبت العلوي، أنهم ذاقوا ويلات سجون النظام ومعتقلاته طوال عقود، وكذلك بعد عام 2011. بل بلغ الأمر ببعضهم حد العنصرية، مثلهم مثل ما سيلي من عنصرية داعش، ليس بصدد العلويين فقط، بل بصدد المسيحيين أيضًا، بل وبصدد (كل من هو ليس منا) من بقية الفسيفساء السورية. وقد سميتُ هؤلاء ونظراءهم الإقصائيين الموالين (كتّاب وفناني التدخل السريع) تيمّنًا بقوات التدخل السريع السيئة الذكر. غير أن ذلك ليس (القصة كاملة)، إذ ثمة أصوات ثقافية أخرى، أرسلت خطابًا ثقافيًا مختلفًا، بل ونقيضًا لما تقدم، وأشبه ببالع السكين ذات الحدين، إذ يناله ما يناله من أذى الفريقين اللذين جرى الحديث عنهما أعلاه.

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى