“بلاد لا تشبه الأحلام”.. سيرة روائية قادمة للشاعر السوري بشير البكر

2025.03.15
“بلاد لا تشبه الأحلام”، سيرة روائية للكاتب والشاعر السوري بشير البكر تصدر قريباً عن دار نوفل/ هاشيت أنطوان ببيروت، يسرد فيها الكاتب تفاصيل طفولته في الجزيرة السورية، وترحاله اللاحق بين مدن وبلاد الأرض.
ووفق الناشر، تنطلق سيرة البكر عبر 256 صفحة، من منطقة الجزيرة السوريّة، من طبيعتها الخاصّة وجبالها الجاثمة على الخرافة والسِحر كجبل سنجار، بنفَسٍ روائيٍّ شاعريّ فريد، محاولةً إعادة إحياء تاريخٍ مهمَّشٍ للجزيرة، وراويةً حكاية أهل تلك المنطقة المغيّبة ثقافيًّا، ومضيئةً على شخوصها كالرعاة وشخصيّة اليزيدي الفذّة. وفي تناقضٍ ممتع، تنتقل نحو المدن في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي أوروبا والعالم العربيّ، راصدةً ملامح اجتماعيّةً وثقافيّةً في تلك البلدان.
بالتنقّل بين القطارات والمطارات والمقاهي، ومن خلال اللقاءات بأناسٍ واستحضار بورتريهات شخصيّاتٍ سياسيّةٍ وفنّيةٍ كياسر عرفات ومحمود درويش، يدوّن الكاتب شهادته على أحداث عاشها أو عايشها، مستعيدًا التاريخ السياسيّ للمنطقة، ومعرّجًا على الشيوعيّة والناصريّة والبعث وحرب الـ67 وانهيار الوَحدة بين سوريا ومصر. في رؤية متكاملة لهذا التاريخ في الستينيّات والسبعينيّات.
وباعتماد التخييل الروائيّ، والانطلاق من الخاصّ إلى العامّ، ترتفع الرواية بالسرد إلى التوثيق لتاريخٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيّ. في تجربة الكتابة هذه، التي تربط بين السيرة الذاتيّة والتاريخ الجماعيّ، فصولٌ لحكاية مسافرٍ اكتشف بعد رحلةٍ طويلة أنّ البلاد لا تشبه الأحلام. قد تكون أعلى قامة، أو على العكس، أقرب إلى الكوابيس.
اقتباس من “بلاد لا تشبه الأحلام”
تكبرني قليلًا، لذلك أخذتْ بيدي لأعتلي ظهر الشهري، وعندما ودّعتُها وجدتُ عينَيّ تُغمضان على نحوٍ تلقائيّ، وتدمعان ملوحةً قويّةً، كأنّ بردًا شديدًا صفعني، وأنا أخرج من مكانٍ شديد الدفء. لاحقًا، وبعد زمنٍ طويلٍ خمّنتُ سبب تلك الحالة. يبدو أنّي أغمضتُ عينيّ بقوّةٍ على صورتها، وحين فتحتُهما كانتْ قد غادرتْ على ظهر الرهوان، مسرعةً في اتجاه جبل سنجار.
بقيتُ أتبعها بنظري وهي تتجه شرقًا، حتّى اختفتْ وراء خطّ الأفق، وصارتْ غيمةً بيضاءَ، جالسةً فوق قمّة الجبل في هيئة حمامةٍ، تنظر باتجاهي من بعيدٍ.
لم يكن منامًا، بل حصل أنّي حاولتُ حبس صورتها، كلّما عادتْ في شريط الوقت المفقود، تسقط دمعة مالحة حارّة، كناية عن عزاءٍ لحلمٍ مرَّ كالبرق. ولا أدري لماذا بقيتُ أفكّر في أنّها ربّما رحلتْ خطيفة مع أحدهم، لأنّ أهلها رفضوا زواجها به، أو أنّها غطست في الثلج، وصارتْ عينَ ماءٍ.
أخبرتُ والدتي بالأمر. قالتْ لي بأنّها جنيّة من بنات الشيطان، في وسعها أن تسحركَ، وتُجبركَ على أن تتبعها، تقتفي أثرها. لا يهدأ لكَ بال، ولا يأنس لكَ مكان إذا لم ترها. وذهلتْ حين عرفتْ أنّ اسمها طاووس. قالتْ إنّ والدها أنزل عليها اللعنةَ حين سمّاها بهذا الاسم. من جانبي، خمّنتُ أنّ هناك سرًّا وراء هذا الاسم الرنّان، وتبيّن لي صدق ظنّي حينما شاهدتُ الطاووس للمرّة الأولى في حديقة دار محافظ الحسكة، الواسعة القريبة من نهر الخابور، التي بناها الفرنسيون من عدّة طوابق، وصار اسمها السراي، كما كان شائعًا بالتركية لمقرّ الحاكم.
طيور وحيوانات تسرح في حديقة دار المحافظة، منها الغزال البري، الذي يعيش في مناطق الجزيرة، ويأتي فيلمون وهبي وكميل شمعون ونزيه أبو عفش، ليصطادوه. عصافير بأصواتٍ وألوانٍ كثيرةٍ، دجاج وديكة، الديك الرومي الضخم، أو الحبش ذو الحلق الأحمر المتدلّي حتّى يقترب من الأرض. ووسط هذا الجمع طائران بألوانٍ وأحجامٍ مختلفةٍ. واضحٌ أنّ أحدهما ذكر والآخر أنثى، وللنظر إليهما وقع يختلف عن بقيّة الطيور الأخرى.
غياث ابن المحافظ صديقي في المدرسة، دعاني للفرجة عن كثبٍ. قال لي: «هذا الطائر هو الطاووس». وقد ذهب تفكيري مباشرةً نحو تلك الصبية. ألوانه الزاهية، قامته، عنقه، ذيله الطويل، حركات الريش، النظرات، تحريك العنق. أدركتُ أنّ الوالد أراد للصبية أن تكون هذا الطائر، الذي يجعلنا نحلم حين نقف أمامه.
أمّي تترنّم بأغنيةٍ وهي تعجن، وتضع مقادير الخميرة. أُغافلها وأردّد الكلمات «كلما تنام الضواري، بيغو يصحيها». يصرخ أخي الصغير، كأنّه تعرّض للسعة عقربٍ أسودَ، من ذاك الذي كان منتشرًا بكثرةٍ في تلك الديار العامرة بالحيوانات القاتلة. يبدو أنّ الولد أجفل من صوتي، لا يُريد سوى أغنية الأمّ.
يتردّد كثيرًا أنّ براري الجزيرة السورية بقيتْ مأهولةً بالحيوانات الأليفة والمتوحّشة، وإلى وقتٍ قريبٍ، في الطفولة طاردنا أصنافًا من الغزلان والمها والأرانب والثعالب، ورأينا الذئاب والضباع والقطط البرية. لم نتعرّف إلى الأسود والنمور وغيرها من أصناف الضواري. وحين تجوّلت، وأنا فتى، بصحبة والدي يومين متتاليين في تلك المناطق على ظهور الخيل، صادفنا مجموعاتٍ صغيرةً من الذئاب تظهر وتختفي، ولكنّها لم تُهاجمنا لكثرةِ عدد الكلاب التي رافقتْنا.
حينما بدأتُ قراءة قصص الأطفال صارت الضواري ترتبط بالديناصورات. وهذه يسمّيها الأهل «الهوام». يعنون حيواناتٍ خرافيّةً. يكثُر الحديث عنها في المرويات الشفوية الدارجة. ويظنّ الأب العارف بجغرافيّة البادية وحياتها أنّ الهوام ابتعدتْ تدريجيًّا بالتوازي مع بدء الحديد بالوصول، وقصدتْ مناطق لا يصلها البشر، ثمّ اختفتْ. ولم يبقَ سوى صغار الحيوانات. لكن يصعب الخروج إلى البراري من دون بارودةٍ أو خنجرٍ. الذئاب لا تقترب حينما تُدرك أنّ المرءَ مسلّح بسلاحٍ حديديٍّ أو ناريٍّ. امتحنتُ مدى صدق هذه النظرية أكثر من مرّة، لوّحتُ بالسلاح للذئب الجائع، وهو يتربّص بقطيع الغنم، لكنّه لم يتحرّك من مكانه، لم يهرب، بقي يحدّق بي، ليس عن جوعٍ فقط، بل عن فراسةٍ صحراويّةٍ، وفطنة الحيوان المتمرّس. المسافة بيننا لم تكن بعيدةً، وحينما هممتُ بأن أطلق عليه النار، منعني الراعي حميدي ابن نشمية، العارف بشؤون البادية. لا تُوجّه سلاحكَ للحيوان، إذا لم يهاجمكَ. شرح لي أنّ استفزاز الذئاب في الصحراء أمر خطير، لأنّه يجعلها تعوي، توجّه نداء استغاثة، تدعو الأشقاء للاجتماع.
بشير البكر
كاتب وشاعر سوري مقيم في باريس منذ عام 1985، وهو من مواليد محافظة الحسكة عام 1956.
شغل سابقاً منصب رئيس تحرير صحيفة “العربي الجديد” وكان أحد مؤسّسيها، وهو أحد مؤسسي مجلّة “بيت الشعر” في أبوظبي. تسلّم رئاسة تحرير “تلفزيون سوريا” عام 2019 قبل أن يتفرغ للكتابة. نال جائزة الصحافة العربية (2008).
وللبكر العديد من المجموعات الشعريّة المطبوعة، أبرزها: “معلقة الكاردينال”، “قناديل لرصيف أوروبي”، “أرض الآخرين”، “ليس من أجل الموناليزا”، “عودة البرابرة”، “ما بعد باريس”، “آخر الجنود”، وتُرجمت قصائده إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والتركيّة.
في السياسة نشر البكر كتابين هما “القبيلة تنتصر على الوطن” و”القاعدة في اليمن والسعودية”. وفي نهاية عام 2022 أصدر كتاب “سيرة الآخرين”، الذي ضم سيراً لعدد كبير من الأدباء والكتاب والمفكرين السوريين والعرب الذين سبق للبكر أن تعرف إليهم.
تلفزيون سوريا