عن الكتب الممنوعة والقراءة في “مكتبة” فرع أمن الدولة في دمشق/ عمّار المأمون

15.03.2025
يحوي الطابق الرابع من بناء أمن الدولة في دمشق مكتبة. هكذا جملة تُثير القشعريرة، فمن يقرأ في واحد من أسوأ الفروع الأمنية في سوريا، المعتقلون أم الجلادون؟ وسبب السؤال أن الكتب مصنّفة ومرتّبة بالأرقام، أي هناك أرشيف وتنظيم وربما إعارة!
سبق سقوط النظام في سوريا إغلاق عدد من المكتبات بسبب غلاء أسعار الكتب وشحّ المبيعات، مأساة غطّتها وسائل الإعلام، ونعى قرّاء من مختلف الطبقات مكتباتهم المفضلة، واشتدّت المأساة حين قامت جرّافة بإزالة أشهر “بسطة” كتب تحت جسر الرئيس/ جسر المخلوع، كانت علامة على مقتل المدينة، وربما علامة على النهاية، لم نعلم حينها أية نهاية!
عادت الكتب إلى البسطات مع سقوط النظام، حركة رمزية ربما، وعلامة على عودة أشكال الحياة “الطبيعية” في العاصمة السورية، كما طُرح سؤال هل عادت الكتب الممنوعة؟ سارعت التقارير الإعلامية للإجابة عن السؤال، وانتشرت تقارير صحافية عن العناوين التي لم تكن تُعرض علناً في الواجهات في عهد الأسدين، أو كانت ممنوعة حتى سراً.
تُقسم الكتب العائدة من المنع إلى فئتين رئيسيتين، الأولى الكتب السياسية، وتلك الخاصة بالمعتقلين السياسيين، كرواية “القوقعة” لمصطفى خليفة (دار الآداب-2008) وربما كتب برهان غليون، الفئة الثانية هي الكتب الدينية بطيفها الواسع، الذي يتحرّك من كتب أيمن العتوم وأدهم الشرقاوي، انتهاء بكتب ابن القيم الجوزية وابن تيمية، وحسب صاحب إحدى المكتبات، من كان يبيع هذه الكتب فـ”مصيره 100% إلى زوال”.
حديث سريع مع صديق يعمل منذ سنوات في إحدى مكتبات دمشق الكبرى، صاحب إحدى المكتبات الكبرى لخّص لي “المبيعات” الجديدة بالشكل التالي: “كلّ الكتب أصبح على الطاولة والواجهات، كسيد قطب مثلاً، والقوقعة الأعلى مبيعاً، وحقيقةً، كتب سلمان رشدي ليست ممنوعة، لكن كل ما يخطر لك مسموح، عدا الكتب التي تمجّد النظام البائد، هذه قام الباعة بأنفسهم بإخفائها”.
مفارقات المنع والمصادرة
الحديث عن الكتب في سوريا ممتلئ بالمفارقات، خصوصاً أنها محطّ جهد نظام الأسد في ضبط ” المطبوعات”، نقرأ مثلاً في وثيقة تعود إلى العام 2009 في المخابرات الجوية، عن لائحة بأسماء الكتب التي تمّت مصادرتها من منازل موقوفين متّهمين بالانضمام إلى تنظيم “الهجرة والتكفير”.
بعض هذه الكتب تعود لابن حنبل وابن عثيمين والألباني، والأخير صاحب كتاب “أصل صفة صلاة النبي”، الذي نكتشف قرّاءه والشكوك حولهم من أسلوب وضع أيديهم أثناء الصلاة “اليمنى على ظهر كفّه اليسرى والرسغ والساعد”، لكن مثلاً كتاب “الإنسان ذلك المجهول” لـأليكس كاريل، ما الشُبهة التي يمكن أن يُثيرها لتتمّ مصادرته؟ أو رياض الصالحين للإمام النووي؟
الكثير من العناوين محسوب على التيّار المتشدّد والسلفي، علماً أن بعضها كان متداولاً سراً، كـ”معالم في الطريق” لسيد قطب، بصورة ما، المنع لم يهدّد انتشار الكتب وتبادلها سرّاً، خصوصاً بعد الاتفاق مع أصحاب بعض المكتبات على عناوين لا تُلفظ اسماؤها عالياً، بل همس، وتُسلّم باليد للمشتري الموثوق.
قائمة الكتب المصادرة من تلك المداهمة، غالبيتها غير مطبوعة في سوريا، لكن يبدو أن المصادرة كانت للكمية بكاملها، لا كتب محدّدة، لكن نقرأ في قائمة ثانية صادرة عن الفرع ذاته، عن اعتقال مجموعة مصريين في عام 2009 منتمين إلى التنظيم ذاته، وتمّت مصادرة مجموعة كتب ممنوعة قُسِمَت إلى “وثائق تتعلّق بأعلى درجات التكفير، وكان أمراء الخلايا السوريين قد قاموا بدفنها في مزرعة أحد عناصر التنظيم في منطقة الريحان، بأمر من إمام التنظيم الفار”، وأغلبها كتب شكري أحمد مصطفى/ أبو سعيد الأسيوطي (1942-1978) الذي حُكم بالإعدام شنقاً في مصر.
والقسم الثاني هو “الكتب الأقل تكفيراً، وهي كتب السلفية الوهابية… وتمّ ضبطها ومصادرتها من منزل في منطقة الريحان استأجره أحد أفراد التنظيم، لإخفاء كميات ضخمة من الكتب فيه، وقسم آخر كان مطموراً بين الحطام في مستودع لأحد أفراد التنظيم في دوما، وتضمّن كميات ضخمة من الكتب والمراجع”.
أي نحن أمام مخازن سرية للكتب، والواضح أن أخطرها تلك التي تعود إلى الأسيوطي، إذ إن هناك تحليلاً لبعض فقرات كتاب “المنهج” في الفقرة والصفحة، للتدليل على خطورتها، كتحريمه العمل في وظائف الدولة، والتعلّم في المدارس، وتكفير الحاكم.
هذه “الطاقة السحرية” التي تمتلكها الكتب، وقدرتها على لحس دماغ القارئ مثيرة للاهتمام، إذ تتعامل السلطة معها كمادّة مشعّة لا بد من إخفائها، الأمر ذاته ينطبق على أصحابها، ربما كنوع من أنواع النضال السري وتهريب الكتب الممنوعة، فهذه العناوين كانت مدفونة، وبعضها مخبأ في منزل مستأجر خصوصاً لهذا الأمر، وكأن فيها لوثة تمسّ القارئ المستعدّ لـ”تصديقها”، بخاصة أنها كتب دينية بحتة، بعضها كتب منهج حياة وعقيدة وفقه، لا كتب تكشف مستوراً، أو تفضح سراً، أو تفرط في إباحيتها مثلاً.
الواضح أن معيار “خطورة” هذه الكتب، يرتبط بدايةً، بطبيعة المعتقلين وانتماءاتهم، وكأن أسماء المؤلفين أنفسهم وموقفهم السياسي أقلّ أهمية، مثلاً هل ديوان “الشاطئ المجهول” لسيد قطب ممنوع؟ أم أن كل ما ألّفه قطب ممنوع؟ وإن كان الهدف من المصادرة يجاوز اعتقال المتّهمين نحو حماية “الشعب”، وإبعاد النعرات الطائفية، لِمَ كان كتاب “ليالي بيشاور” مسموحاً ومتداولاً في سوريا؟
الاستخفاف بقدرة الكتب على ترسيخ الأيديولوجيا في عقل القارئ وتحويلها إلى ممارسة، فرضية يختلف حولها الكثيرون، التخفّف منها يفعل الفضول بوصفه أساس القراءة لا الرغبة في الانصياع للتعليمات، لكن هل يمكن القول بصورة حاسمة، إن هذه الكتب بالذات (مهما كانت) هي سبب تشدّد أحدهم، من وجهة نظر السلطة، أي سلطة؟ الإجابة نعم، وهذا يكفي للمصادرة والاتّهام!
في مكتبة “أمن الدولة”!
يحوي الطابق الرابع من بناء أمن الدولة في دمشق مكتبة. هكذا جملة تُثير القشعريرة، نحن أمام فرع أمن يُعتبَر الأسوأ سمعةً في سوريا، ويحوي مجموعة كتب مصنّفة ومرتّبة بالأرقام، أي هناك أرشيف وتنظيم، والأهم إعارة، بدليل أن هناك كتباً ناقصة!
صور المكتبة التي التقطها الزميل فراس دالاتي تكشف أنها على مستويين، كتب في الواجهة الأولى وكتب في الخلفية، صورة المكتبة والعناوين وقدرتها على تفعيل المخيّلة، تتركنا أمام عدة أسئلة أولها: من يقرأ في فرع أمن الدولة، المعتقلون أم السجّانون؟
قبل الإجابة عن السؤال، نتأمل في العناوين الموجودة، هي صادرة عن وزارة الثقافة في دمشق، منها مثلاً: “البعث والثورة المتجدّدة” لعبد الله الأحمر، ومجموعة مسرحيات لنيكولاي غوغول، ومسرحية “حكاية تلّ الحنطة” لنجم الدين سمان، و”بيدرو بارامو” لخوان رولفو.
نجد أيضاً مجموعة قصصية لغي دو موباسان، وكتاب “الأنثروبولوجيا البنيوية” لليفي ستروس، والأكثر مفارقة كتاب “إعداد الممثّل” لقسطنطين ستانيسلافسكي، وكتاب “تمارين في القراءة الدراماتورجية والارتجال” لكل من حنان قصاب حسن وماري الياس، بل وكتاب “الأواني المستطرقة” لأندرية بروتون أحد أبرز مؤسسي السوريالية.
مصدر هذه الكتب واحد، وزارة الثقافة، ويمكن إفراد نصّ طويل لكلّ واحد منها، ومناقشة حضوره، في واحد من أسوأ فروع الأمن في سوريا، نحن أمام مكتبة تصلح ليفعّل مخيّلته أمامها وقدرته على القراءة أشخاص مثل ألبرتو مانغويل، أو بورخيس، بل أي مهتمّ بالقراءة سورياً كان أو غيره، سيطرح تساؤلات عن وجود المكتبة وعلاقات الكتب مع بعضها بعضاً وترتيبها، وأسئلة من نوع هل يقرأ الجلاد “الأسلوبية منهجاً ونقداً”، قبل أن يقتل معتقلاً؟ أم العكس، هل يتصفّح المعتقلون معالم الواقعية السحرية ونشأتها في رواية خوان رولفو؟
عدد لا متناهي من الأسئلة التي يمكن طرحها عن العلاقة بين التعذيب والقراءة ومفهوم الكتاب نفسه، لكن يبقى وجود هكذا مكتبة؛ ولو كانت الكلمة قاسيةً، ساحراً، أي تخيّل أن الكتاب ذاته، كذاك الخاص بستانيسلافسكي مثلاً، يقرأه ممثّل وجلّاد وربما معتقل؟
لا يمكن الكتابة عن هذه المكتبة في مقال واحد، ولا التعامل مع كلّ كتاب على حدة، كوننا أمام عدد لا متناهٍ من الاحتمالات والفرضيات المحيطة بها، حتى التعامل معها ككتلة، يُحيلنا حكماً إلى البعد السياسي والثقافي الذي تُشرف عليه وزارة الثقافة السورية، التي طبعتها ووزعتها!
كلّ واحد من هذه العناوين سيمسّ كلّ قارئ بصورة مختلفة، ليتأمّل رحلة كلّ كتاب منها، مثلاً كيف انتهى كتاب “إعداد الممثّل”، الذي وُصف بـ”الطلاسم” حين صدر لأول مرة، في أمن الدولة في دمشق، بعد أن ترجمه شريف شاكر منقوصاً ليتحوّل إلى منهج للتمثيل في سوريا؟
الكتاب هذا بالذات مثير للاهتمام لي شخصياً، لا بسبب اطّلاعي المعمّق عليه، بل أيضاً بسبب موقف مؤلفه نفسه؛ ستانيسلافسكي، شديد الحياد سياسياً، على رغم كل ما شهدته روسيا في حياته بين 1863 حتى 1939، الأمر ذاته مع كتب الدراماتورجيا والأسلوبية، مفارقة وجود هكذا كتب في فرع أمن، تُضيف طبقة جديدة إلى خبرتي معها، وخبرة كل قارئ مع كلّ كتاب استطاع تمييزه بين العناوين المصفوفة في المكتبة، تلك التي يحمل حتى تصنيفها العشوائي، معنى لدى كلّ قارئ.
حياة المكتبة… دفنها!
علاقة سوريا مع الكتب والمكاتب اكتسبت مكانة عالمية، فكتاب “مهربو الكتب في داريا – مكتبة سرية في سوريا-2018 ” لدلفين مينوي، الذي صدر بالفرنسية والعربية، وحاز ضجّة عالمية لإبراز دور المكتبة، في الوقت ذاته، وُجهت له انتقادات عدة كونه يحوي نزعة استشراقية، ناهيك بطغيان الكتب الدينية على المكتبة مما يشكّك بقيمتها المعرفية، لكن بقي مفهوم “مكتبة سرية” في سوريا محاطاً بالهالة.
هالة “المكتبة” تبنّاها النظام أيضاً، إذ عُرف أن مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق، بأنه يملك واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في العالم، هذا التناقض المحيط بـ”المكتبة” يجعلها ليس فقط علامة على الحياة، بل أيضاً على الاستقرار والسطوة على الأرض، وعلى السلطة أحياناً، كلما كبرت المكتبة، ازدادت السطوة على المكان، في الوقت ذاته قلّت حركة صاحبها وازداد خوفه من الانتقال أو فقدان المكتبة، وهذا ما يشير إليه ألبرتو مانغويل في “ذاكرة القراءة: مرثاة وعشرة استطرادات”، متحدثاً عن نقل مكتبته من فرنسا إلى الولايات المتحدة.
لا تنتهي الحكايات عن الكتب في سوريا، سواء كنا نتحدّث عمن هجروا مكتباتهم وفرّوا خارج سوريا دونها، أو من عادوا ووجدوها قد احترقت، لكن المفارقة أن بعضها بقي “حياً”؛ أي المكتبات، إذ نُشرت تسجيلات لكتب كانت مخبّأة في منزل في حماة منذ العام 1982، وطبعاً هي كتب “إسلامية” حسب صاحب المنزل، عادت هذه الكتب للظهور الآن، بعد عودة أصحاب المنزل إليه ونبشها من مدافنها، وكأن دفن المكتبة، وبعكس دفن البشر، حفاظ على حياتها واستمرار لها ضدّ تدفّق الزمن وتعاقب السلطات.
في سؤال الممنوع
انتشرت فيديوهات لتوزيع مجموع فتاوى ابن تيمية في سوريا، من قِبل جمعية “الوابل الصيب” التي تنشط في الشمال السوري، الكتب لا نعرف إلى من هي موجّهة، لكن يتمّ الترويج لها على أنها كنز يعود إلى دمشق، حيث دُفن ابن تيمية.
هنا عاد سؤال الممنوع للظهور بصورة أخرى، فكلّ الكتب مباحة، وتوزّع بمبادرات “فردية” و”مدنية”، ولا عداوات مع أي كتاب مهما كان، فلا سحر بين الصفحات، بل العتب على مهارة القارئ وحنكته.
لكن هل فعلاً سيُفتح الباب أمام الكتب المثيرة للجدل حقيقةً، مثلاً، هل سيستمر تداول كتاب “يوم انحدر الجمل من السقيفة” لنبيل فياض إلى جانب كتاب “حروب دولة الرسول” لسيد القمني؟
لا أحاديث إلى الآن عن منع كتاب ما في سوريا، لكننا أمام مظاهر أيديولوجية متعدّدة و”أخطاء فردية”، تنفي السلطات القائمة علاقتها بها، أي ربما ما زلنا ضمن فرضية الإباحة التامّة، فهل سنرى كتاب “الشخصية المحمدية” لمعروف الرصافي في واجهات المكتبات؟ لنكن أكثر دفاعاً عن القراءة ونسأل، ماذا عن صاحب “الغرانيق العلا” و”الآيات الشيطانية” سلمان رشدي؟ وهل سيُتداول كتاب “رب القبائل” لجاكلين الشابّي؟ وهل مثلاً روايات أيمن الدبوس البورنوغرافية قد تُثير حفيظة أحدهم، ما قد ينتهي بـ”خطأ فردي”!
لا يمكن حصر الكتب الإشكالية التي أثارت ضجّة لدى الرأي العالم العربي والعالمي، لكن في زمن الأسد، كانت هناك مفارقات بخصوص الكتب، تُثير القشعريرة وأيضاً أخرى تُثير الضحك، ولا نعلم إن كانت ستتكرّر الآن، فلكلّ واحد من القرّاء مغامراته ومفارقاته، مثلاً في عام 2015 وفي مكتبة مجمّع أحمد كفتارو في دمشق، وجدت صندوقاً مخفياً بين الكتب يريد صاحبه التخلّص منه بعد أن احتفظ به لسنوات، من بين الكتب كتابين لراجي بطحيش “غرفة في تل أبيب” و”بر- حيرة- بحر”، ذا علامة التجنيس الغريبة “بورتريه منثور”، يتحدّث فيه عن جنسانيته وأفلامه البورنوغرافية المفضلة!
درج