الحكّام في الشام/ أسعد قطّان

الأحد 2025/03/16
لو كانت سوريا دولةً طبيعيّة، لاستقال السيّد أحمد الشرع فوراً وأحيل إلى المحاكمة بسبب تورّط بعض الفصائل التابعة له، نظريّاً على الأقلّ، في مذابح الساحل السوريّ، وفشله وفشل حكومته الموصوف في حماية شرائح واسعة من الشعب السوريّ. والمعروف أنّ حماية المواطنين هي أولى مسؤوليّات الدولة وأهمّها. لكنّ سوريا ليست بلداً طبيعيّاً، بل بلد منكوب ومنهك ومهشّم يحاول أن ينهض من رماده ويستعيد طاقة الحياة، ما يتيح للسيّد الشرع أن يبقى في قصر الشعب.
في الدول التي تحترم ذاتها، تعطى الحكومة الجديدة فترة سماح لا تتجاوز الأيّام المئة. في سوريا، انتهت الأيّام المئة بمذبحة تضاف إلى المذابح الأخرى التي شهدها التراب السوريّ منذ استيلاء الضبّاط البعثيّين على السلطة. مخطئ مَن يعتبر أنّ مذبحة الساحل لا علاقة لها بكلّ “الحماقات” التي ارتكبتها زمرة الحكّام الذين في الشام منذ تسلّمهم مقاليد السلطة: انتهاكات شبه يوميّة لأمن المواطنين وثّق المرصد السوريّ لحقوق الإنسان المئات منها، بينما سعت السلطة إلى التقليل من أهمّيّتها بحجّة أنّها أحداث فرديّة؛ تسريح عشرات آلاف الموظّفين من أمكنة عملهم بحجّة التأكّد من عدم تبعيّتهم للنظام الأسديّ البائد؛ فشل ذريع في إطلاق مسيرة العدالة الانتقاليّة بالاستناد إلى معايير واضحة وشفّافة؛ تسويات مشبوهة هنا وثمّة مع بعض مجرمي الأمس بغية اجتذاب الأموال؛ مؤتمر حوار وطنيّ أقلّ ما يقال فيه إنّه أتى مختزَلاً ومحكوماً بمقتضيات الضغط الدوليّ، لا باقتناع داخليّ لدى الساسة بضرورة الحوار، ما أفضى إلى إقصاء كثر من المعارضين ذوي الباع؛ استبعاد عدد لا يستهان به من الضبّاط المنشقّين بما يحملونه من خبرات، مع أنّ سوريا أحوج ما يكون إلى إعادة بناء جيشها الوطنيّ؛ مبايعة فولكلوريّة للسيّد أحمد الشرع أظهرت مقتلة الساحل المقزّزة مدى هشاشتها؛ وعود عرقوبيّة بتأليف حكومة حاضنة لم تبصر النور حتّى اليوم؛ وضع اقتصاديّ مترهّل أودى بملايين السوريّات والسوريّين إلى حافّة الجوع؛ ازدواجيّة صارخة بين خطاب يدّعي صون التعدّد ومحاولات مكشوفة لأسلمة المجتمع. هذه الأخطاء جميعها شكّلت وقود الحوادث الأخيرة سواء بسبب النقمة الجامحة على الطغمة الحاكمة أو من طريق التجييش المذهبيّ الأرعن ضد “النصيريّين” من منابر المساجد ومكبّرات الصوت. من الصعب أن يجد المرء أسباباً تخفيفيّةً لهذا كلّه، وذلك بصرف النظر عن أنّ حكّام الشام ذوو ماضٍ عنفيّ معروف، وبعضهم لا تزال أسماؤه على لوائح الإرهاب.
لكنّ الطامة الكبرى في مكان آخر، وهذا يجب أن يعيه كلّ مَن يتمنّى الخير لسوريا، ويريد استعادتها وعودتها إلى أهلها وجيرانها وإلى العرب أجمعين: الأوطان لا تبنى بالعقليّة الانتصاريّة، بل بذهنيّة الاحتضان والتسالم. يخيّل للحكّام الجدد في دمشق أنّ أمور الحكم يمكنها أن تستتبّ لهم وهم على ما هم عليه من ممارسة شريعة الغلبة بما تنطوي عليه من إقصاء للآخرين. لكنّ الأيّام، على قول طرفة بن العبد، ستبدي لهم كم كانوا جهلةً.
إنّ احتضان الآخرين واستدخالهم له شرط لا يمكن الالتفاف عليه: التخلّي عن الوهم الإسلامويّ الذي يحسب أنّ الغالبيّة يجب أن تحكم لكونها غالبيّة، وأنّ هذا الحكم يمكنه أن يستقيم بالارتكاز على الشريعة الإسلاميّة (الإعلان الدستوريّ، ويا للغرابة، يتحدّث عن “الفقه” الإسلاميّ). منطق الغالبيّة ممجوج لا لأنّه ينسخ المقاربة الاستشراقيّة فحسب، التي تأبى أن تنظر إلى شعوبنا من خارج كونها رهطاً من الأكثريّات والأقلّيّات، بل لأنّه يعدّ البشر جماعةً دينيّةً مرصوصة، لا مواطنات ومواطنين أفراداً يتساوون في الحقوق والواجبات. مَن قال إنّ العرب من أهل السنّة والجماعة في سوريا، لمجرّد أنّهم غالبيّة عدديّة، يقبلون أن يكونوا كتلةً متراصّةً في مواجهة الآخرين؟ لعمري أنّ “غالبيّتهم” أذكى من ذلك بما لا يقاس.
أمّا منطق سياسة الناس بالاستناد إلى الشريعة الإسلاميّة، فإشكاليّ لا لأنّه كثيراً ما يتعارض وحقوق الإنسان فقط، بل لأنّ معظم أحكامه المتعلّقة بنظام الحكم من مخلّفات عصور غابرة تحيل على ذهنيّة المسلم “المنتصر” على الكافر “المهزوم”، وتتوكّأ على منظومة قيميّة تخطّاها الزمن. يضاف إلى ذلك إعلان دستوريّ “انتقاليّ” مدّة انتقاله خمس سنوات، أي إنّه يكاد يشبه مقولة “قائدنا إلى الأبد..”. وهو يحصر كلّ شيء تقريباً في شخص رئيس جمهوريّة غير منتخب، ما ينذر بإمكان تحوّل سوريا إلى دكتاتوريّة مقنّعة إسلامويّة الطابع، وذلك على الرغم من تهافت المشاريع الإسلامويّة في مصر وتونس والمغرب كأوراق الشجر في الخريف.
هذا سيناريو متشائم طبعاً، وتفوح منه رائحة مذبحة الساحل. لكنّه يحمل دمغة الدرس السيكولوجيّ الذي يعلّمنا أنّه ليس من الصعب على الضحيّة أن تتحوّل إلى جلّاد، ولا سيّما إذا كانت ترفع النصّ الدينيّ على رؤوس الرماح؛ هذا إذا سلّمنا جدلاً بأنّ جهاديّي جبهة النصرة ضحايا فعلاً.
المدن