تاركوفسكي لم “يؤفلم” دوستويفسكي لأنه موجود/ إبراهيم العريس

صاحب فيلم “سولاريس” عد مؤلف “الجريمة والعقاب” كاتبه المفضل فتهيَّب نقل رواياته إلى الشاشة
الأحد 16 مارس 2025
يبدو أن ما يعنيه تاركوفسكي هو أن اقتباس السينما لحكاية الجريمة والتركيز عليها، مع تنحية حكاية العقاب أي الجزء الثاني بأكمله من الرواية إنما معناه العجز عن فهم الرواية وما تريد قوله.
حتى وإن كان المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي (1932- 1986) قد لجأ في بعض أفلامه، قليلة العدد على أي حال وشديدة الذاتية في معظمها، إلى الأدب ينهل منه موضوعات وأساليب، فإنه حرص دائماً على ألا يدنو من أدب فيودور دوستويفسكي الذي كان لا يتوقف عن التصريح بأنه كاتبه المفضل بل أعظم الروائيين في تاريخ البشرية.
ونعرف أن ذلك الاستنكاف قد بلغ لدى صاحب أفلام بالغة الأهمية والشاعرية، مثل “أندريه روبليف” و”سولاريس” و”القربان”، حد أنه لم يعلن أبداً في أي حديث له عن مشاريعه المقبلة، مشروعاً دوستويفسكياً، لكنه حدث له مرات عديدة أن لمح بأنه قد يقدم ذات مرة على تحقيق فيلم عن حياة دوستويفسكي وهو ما لم يفعله أبداً على أي حال.
والحقيقة أن عالم السينما قد خسر كثيراً في الحالين، حال الاستنكاف المطلق بالنسبة إلى أدب الكاتب الرسي الكبير، وحال التناسي المتعلق بوعد يطاول فيلماً عن حياته. ومهما يكن من أمر، فيمكن القول إن ثمة في بعض الأحاديث الصحافية التي أدلى بها السينمائي خلال المراحل الأخيرة من حياته، ما يفسر تلك الهوة التي فصلت دائماً بين سينما تاركوفسكي وأدب دوستويفسكي، إنما من دون أن تتناسى احتفاء الأول الدائم والحافل بالتبجيل بأدب سلفه الكاتب العظيم.
بين مبدعين روسيين
لعل النص الذي ظهر عام 1972 في مجلة “كراسات السينما” الفرنسية، التي كانت وبقيت أكثر المطبوعات السينمائية العالمية احتضانا لتاركوفسكي، مترجماً عن الروسية، أبلغ تعبير توصل إليه سينمائي في مجال حديثه عن صاحب “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كارامازوف” وعن مدى اقترابه منه مؤكداً أن ما يجعل دوستويفسكي شديد القرب منه إنما هو حرفية هذا الأخير في ممارسه الكتابة وموضحاً “أن المرء إذ يغوص حقاً في النصوص التي تعالج نظريات السينما والمسرح، سيدرك سريعاً أن الغاية الحقيقية للميزانسين (الإخراج) إنما هي توضيح الفكرة الكامنة في خلفية هذه الفكرة أو تلك من أفكار النص، أي توضيح المعنى العميق للعقدة الدرامية”.
والميزانسين لدى دوستويفسكي ليس في حقيقته سوى مقولة سيكولوجية. “وأنا أعتقد أن الأمر هو ذاته بالنسبة إلى السينما، مما يعني أن على الميزانسين أن يعبر، ليس تعبيراً عن الفكرة التي تكمن في خلفية مشهد محدد بل عن الحال النفسية للشخصيات خلال ذلك المشهد ومن ثم عن حالها الذهنية والعلاقات في ما بينها. وهنا عند مثل هذه النقطة لا ريب أن الواقعية في السينما تلوح لي قادرة على تقديم عون كاف بالنظر إلى أن الواقعية هي في حقيقتها أكثر غرابة بكثير في أي تخييل شاعري. بيد أنني حين أتحدث عن واقعية السينما فأنا أعني في الحقيقة ما يلي، أعني أن على السينما حين تصور الواقع، أن تبرز ما هو غرائبي في الموضوع وما هو عميق في مجال تحليلها للشخصيات والطبائع الموصوفة، كما عليها في الوقت نفسه أن تركز التصور الفرداني الحقيقي لعملية الإبداع… وهو ما يميز أدب دوستويفسكي الروائي”.
دوستويفسكي والفردية المطلقة
إذ يوضح هذا الأمر ينتقل تاركوفسكي إلى ما يمهد لتفسير استنكافه عن الدنو سينمائياً من كاتبه المفضل، ليقول كيف أنه يرى من الأفضل عدم اقتباس دوستويفسكي سينمائياً موضحاً أنه إن وجد نفسه يوماً، و”هو أمر لن يحدث على أية حال”، مضطراً إلى اقتباس رواية للكاتب في فيلم سينمائي فإن الرواية الوحيدة التي ستخطر في باله هي “الجريمة والعقاب” إذ يراها الأكثر اكتمالاً وتوازناً، ومن ثم، وفي الوقت نفسه الأكثر حداثة بين رواياته “ففي هذه الرواية، يبدو لي أن ما يضاهي حكاية الجريمة المرتكبة أهمية إنما هو العقاب نفسه، ومن ثَم حكاية الندم أي ما هو النقيض التام نظرياً لحكاية الجريمة، وهو نقيض نظري لا يمكن للرواية أن توجد من دونه بالنسبة إلى غائيتها الأخلاقية”.
ويعني ذلك أن دوستويفسكي إنما كتب الرواية من أجل ذلك النقيض بقدر ما كتبها للحكي عن الجريمة. والحال أن ما يعنيه تاركوفسكي هنا هو أن اقتباس السينما لحكاية الجريمة والتركيز عليها، مع تنحية حكاية العقاب أي الجزء الثاني بأكمله من الرواية، مشاهد سبيريا والمعتقل وتوجه راسكولنيكوف إليه مصطحباً صونياً والعقاب في مجمله، إنما معناه العجز عن فهم الرواية وما تريد قوله.
وبكلمات أخرى، إذا عجز الفيلم عن تصوير بطله راسكولنيكوف على الشاشة من دون التعبير عن تأملاته وأفكاره حول ما هو مسموح وما هو غير مسموح، حول الإرادة البشرية وحرية الاختيار إلى آخر ما هنالك، لن تكون السينما قد قدمت من الرواية سوى موضوعها المجرد، حكايتها الحدثية، لأن عمق الشخصيات وأطباعها مرتبط بالتفاصيل المخبوءة في عمق أعماق تلك الشخصيات. فـ”التأملات حول الجريمة والإرادة كما حول دور الفرد في المجتمع، لها كلها معان هائلة في “الجريمة والعقاب”… وليس من الوارد السكوت عنها بتغييبها في أي اقتباس سينمائي للرواية”… فما الحل بالنسبة إلى تاركوفسكي؟
كتابة الرواية سينمائياً
بالنسبة إلى السينمائي الكبير ثمة حل لا ثاني له وهو يكمن طبعاً في تفكيك الرواية وإعادة كتابتها من جديد. أي تحويلها إلى مادة خام قيد “الكتابة” مرة أخرى. “وإذ اقترح هذا أجدني أسارع إلى القول إن إعادة خلق الرواية تبدو لي عملية عقيمة تماماً. فالرواية موجودة. لماذا يتعين عليّ أن أخلقها من جديد، لماذا يجب عليّ تكرارها، ولماذا ينبغي تصويرها؟ يخيل إلى أن المهم بالنسبة إلى المتفرج السينمائي، هو أن يحكي كل واحد منا، تصوره الخاص للرواية، قراءته الشخصية لها”.
في مثل هذه الحال يصبح من الأمور المفيدة والخلاقة، اقتباس روايات دوستويفسكي للسينما ولغير السينما، شرط أن يتبدى العمل، بالنسبة إلى المتلقي مهماً بقدر أهمية الرواية نفسها. أما إذا لم يسفر الأمر عن أكثر من متابعة حدثية لما ترويه الرواية فلن يكون ثمة أية جدوى للعملية بأسرها. وسيكون من الأفضل الاستنكاف عن ذلك”.
وفي ختام هذا القسم من حديثه يقول دوستويفسكي، إنه يرى أن اقتباس أي عمل روائي للسينما، وليس فقط روايات دوستويفسكي، فن قائم في ذاته، لا يكون للأصل الأدبي فيه أي دور عدا كونه نوعاً من التحفيز لخوض المقتبس فناً لا يقل عظمة ومتعة عن فن الروائي”. وهنا يتوقف تاركوفسكي بعض الشيء ليتحدث عن كاتبه المفضل مؤكداً أن “دوستويفسكي شخصية مدهشة وظاهرة نادرة في أدب القرن الـ19 الروسي. وهو يبدو لي قريباً جداً وسهل الفهم. بل يبدو لي أنه من أسهل الأمور عليّ تفهم جذور تكوينه الشخصي ومصادر مزاجيته وماهية موهبته الفذة”.
لماذا دوستويفسكي؟
يستطرد السينمائي قائلاً، “يخيل إليّ أن الزمن الذي نعيشه، مع أنه يبعد قرناً من زمن دوستويفسكي، يعرف اليوم حالاً مدهشة من استعادة الاهتمام به وأن الناس اليوم يقرأونه أكثر مما قرأوه في أي وقت مضى. ومن المؤكد أن هذا عائد إلى أن شخصية دوستويفسكي، وطبيعة موهبته فهما يستجيبان تماماً لتصورنا المعاصر للإبداع الفني بمقدار ما يتسم به هذا الإبداع من إيهام وغموض ومحاولة دائبة للإفلات من بين أيدينا. فالفن اليوم يجسد تطلع الإنسان لمعانقة اللانهائي والدنو من الحقيقة، ومن التقاط هذه على حساب إدراكه لفنائه المحتم أي على حساب الواقع الذي يقول لنا إن الإنسان خلال مساره في هذا الوجود يعجز في نهاية المطاف عن التقاط المطلق، بحيث إن الوصول إلى إدراك الحقيقة النهائية لا يكتمل إلا جيلاً بعد جيل.
ويبدو لي أن دوستويفسكي عرف كيف يلتقط هذه الفكرة بأكثر مما فعل أي مبدع آخر. ليس فقط لأنه هو نفسه كان يسعى إلى الوصول إلى المطلق وإلى المثل الأعلى وإلى الله، بل كذلك لأنه عرف كيف يبني رواياته تبعاً لمبدأ توازن غير مستقر هو المبدأ الذي يسم القوة الخلاقة، أي الرحم الذي يولد منه أدبه. هو الذي لم يبن تصوره أبداً انطلاقاً من التعارض بين الخير والشر، بل انطلاقاً من الفكرة القائلة إن الشيطان ضروري للوجود الكوني ضرورة وجود الألوهية”.