عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 16 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
الأحداث التي جرت في الساحل السوري
———————————
سورية وكمائن الفلول الكاشفة/ مالك ونوس
16 مارس 2025
في ذروة العمليات العسكرية التي قامت بها السلطة الجديدة في مدن الساحل السوري وبلداته وقراه، في 6 مارس/ آذار الجاري، والانتشار الواسع النطاق لأخبار ارتكاب مذابح بحقّ المدنيين في المنطقة على خلفية المعارك التي خاضها أفراد وزارة الدفاع السورية وفصائل موالية لها في مواجهة فلول النظام الساقط الذين قيل إنهم حاولوا الانقلاب على السلطة، في ذروة تلك العمليات، وقع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، اتفاقاً لانضواء هذه القوات في مؤسّسات الدولة العسكرية. وإذ غيّب إعلان هذا الاتفاق والاحتفاء الرسمي والفرح الشعبي اللذيْن رافقاه الخوض في أخبار المذابح داخلياً وخارجياً يوماً واحداً، إلا أن وقعها على أبناء البلاد، خصوصاً أهل الضحايا، وعلى الإعلام العالمي، ظلّ مستمرّاً بثقله، وربما قد تظهر له ذيول وتداعيات، تتمحور حول الخطأ الذي ارتكبته السلطة في طريقة التعاطي مع هذا الحادث، وتأثيره على جهودها في رفع العقوبات وإدارة البلاد كما تشتهي. وبالتالي، على مستقبل هذه البلاد.
لا شك في أن جرحاً قد فُتح في مناطق الساحل السوري، تبين أنه لم يُصب الأقليّة العلوية التي وقعت المذابح بحقّ أبنائها فحسب، بل أصاب أبناء المكوّنات المذهبية الأخرى، وهو ما يلاحظه المراقب من خلال صفحات وسائل التوصل الاجتماعي، ومن التواصل المباشر مع أصدقاء وجيران، أو تقارير وسائل الإعلام وناشطين، فخلال هذه العملية التي صُدم أبناء المنطقة بحجم العنف الذي رافقها، والذي أجبر الجميع على ملازمة منازلهم، أو الهيام على وجوههم في الوديان السحيقة المخيفة وانتظار المجهول الذي كان الموت أبرز وجوهه، خلالها تضرّر كل أبناء المنطقة، وقد سُجل سقوط ضحايا كثيرين من أبناء الطائفة السنية، ممن استُهدفوا مباشرة في منازلهم، أو في أثناء محاولاتهم نجدة جيرانهم العلويين وإيواءهم في منازلهم لتجنيبهم الموت المُحقّق.
لذلك، يُظهر هذا الجرح الذي فُتح، والذي لا يُعرف متى يمكن أن يندمل إذا ما تأخّرت عمليات جبر الضرر، أن السلطة الجديدة بمجملها وقعت في الكمائن الذي نصبها فلول الأسد لأفرادها نتيجة الإدارة الخاطئة لهذا الملف وملفات أخرى تتعلق بواقع البلاد. وقد كان من أهم سمات هذا الكمين أنه جاء كاشفاً للسلطة وسياساتها، ومبيّناً الخلل بين الصورة التي أرادت الظهور فيها والواقع والممارسات على الأرض.
أول هذه الكمائن قضية السلاح المتفلت، إذ تبيّن أن الكلام عن سحب السلاح من كل من هو خارج إطار السلطة غير دقيق، وأظهرت ذلك الفزعة التي جرى التداول بأخبارها قبل حدوث المجازر، فبينما كانت عمليات سحب الأسلحة من أيادي أبناء الساحل دقيقة، والتزم بها جميع من كان لديه سلاح ما عدا الفلول، ظهر السلاح في أيادي أناس مدنيين تجمّعوا في إطار التحشيد للتوجه إلى الساحل للمشاركة بالعمليات العسكرية، وهو ما لفت إليه كثيرون، وتأكد حين لم تتعرّض الفصائل لأي مقاومة بالسلاح من الأهالي، في عديدٍ من القرى التي كان سكانها قد سلّموا أسلحتم، وأجروا تسوياتٍ مع السلطة الجديدة. وهذا سيؤدي إلى حالة من عدم الثقة في المستقبل بين السطلة وسكان هذه المناطق. كذلك سيدفع مناطق أخرى، خصوصاً السويداء، إلى رفض تسليم أسلحتها بعد ما راقبت الانتهاكات في الساحل، وبالتالي، بقاء هذا الملف معلقاً ومعيقاً جهود توحيد البلاد.
إضافة إلى ملف السلاح المتفلت، هنالك الكمين الآخر، وهو ملف حل الفصائل الذي تبيّن أنه لم يتم على الشكل الذي جرى الكلام حوله، فمن خلال إلقاء اللوم على الذين لبّوا نداء الفزعة في ارتكاب المجازر، ألقيَ اللوم أيضاً على فصيلين آخرين، وهو ما يناقض الكلام عن حلّ الفصائل وانضوائها جميعاً في الجيش الجديد. قد يقود هذا الأمر، في مراحل متقدّمة، إلى إبقاء العقوبات على سورية، وإعادة العقوبات التي رُفعت، وربما تشديدها، إذا ما تفاعل ملف المجازر ووجد طريقَه إلى المنظمّات الدولية، وشاركت لجان دولية في التحقيق فيها. وهي ورطةٌ لم تحسِب السلطة حسابها، حين سمحت لمجموعاتٍ من خارج المؤسّسة العسكرية بالمشاركة في المعارك مع الفلول، وبالتالي، استغلال الفرصة لتنفيذ انتقامات، وهذا يصبّ في مصلحة الفلول ويخدم سرديتهم عن دوافعهم لمحاربة السلطة.
وهنالك أمر يتعلق بالدولة السورية، وبهيبتها وبقدرتها على فرض القرارات التي تتخذها، فمما نقل عن الحكومة السورية إصدارها قراراتٍ لا يمكنك التثبت منها، بسبب عدم وجود صحيفة رسمية تُنشر فيها القرارات، أو قناة تلفزيونية تتحدّث عنها. ومنها قرار نية الحكومة محاسبة كل من يستخدم عبارات طائفية أو يحرّض طائفياً، غير أن الواقع كان غير ذلك، إذ ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات وفيديوهات تحرّض لقتل أبناء الطائفة العلوية، أطلقها أناسٌ بأسمائهم الصريحة ويقيمون داخل البلاد، وكان لها دور في التجييش وزيادة الأعمال الانتقامية، وحين أعلنت الحكومة محاسبة بعضهم، واصل كثيرون شن حملات التحريض.
ويبقى الأكثر خطراً، وربما يعد الكمين الأكبر، وهو التعامل مع تمرّد الفلول ومواجهته عن طريق مبدأ الفزعة، وهو أمر يضرب مبدأ الدولة التي يجب أن يكون من مسؤولياتها حماية أبنائها من خطر الفلول وغيرهم. كما أن مراقبة الفلول وتتبّعهم ومنعهم من تنفيذ مخطّطاتهم تندرج ضمن هذه المسؤولية، فكثيرون من هؤلاء أجروا تسويات، لكنهم لم يُقدَّموا للمحاكمة بتهمة الضلوع في ارتكاب انتهاكات خلال حكم الرئيس المخلوع. وربما هذا ما جعل السلطة الجديدة في ورطةٍ، حين فوجئت بالتمرّد، ولذلك جعلها تجرّب كل السبل لمواجهته، ومنها ترك مُواليها يدعون إلى نصرة السلطة بالفزعة. لكن، وعلى خلفية هذه الفزعة، ساهمت الدولة في إحداث شرخ مجتمعي في بلادٍ كانت تسير على طريق التعافي، بعد التخلص من نظام الأسد الذي انتهج تعزيز الطائفية ونشر الكراهية بين مكوّنات المجتمع الدينية والمذهبية والسياسية.
من الضروري للسلطة الجديدة عدم مراكمة الأخطاء، بل اعتماد مبدأ التشاركية للاستفادة من جهد الجميع لإدارة الملفات الصعبة التي تواجه سورية. لكن الإحباط كان هو السائد، بعدما وجد كثيرون أن الثورة التي ضحّوا من أجل انتصارها صمَّت آذانها عن سماع أصواتهم. أصوات كانت قد خرجت مبكّراً تنصح السلطة بفعل ما يمكنها لتغيير الواقع المعيشي، لا أن تساهم في انحداره، وتجعل الذين باتوا على حافّة المجاعة، نتيجة فصلهم من العمل أو تأخير رواتبهم شهوراً وزيادة أسعار الخبز وبقية الأساسيات، لقمةً سائغة لمن يريد العبث بالملفّات التي تتراكم وتزداد صعوبة حلها.
العربي الجديد
————————-
جريمة الساحل ومخاطر تفجير سورية/ صلاح الدين الجورشي
16 مارس 2025
موقف القوميين في تونس من الحدث السوري مفهوم جداً. لم يتوقّعوا أن تسقط سورية في أيدي الإسلاميين بهذه السهولة، فهم خسروا آخر نظام يدّعي أنه مدافعٌ عن شرف الأمة وحياضها. لهذا السبب، بقوا يتابعون الملفّ السوري من زاوية البحث عن أي ثغرة، وأي خطأ ترتكبه السلطة الجديدة للتشنيع بها، واتخاذه منطلقاً للتبشير بعودة حلفاء الأمس إلى مواقع السلطة. لهذا، رأى التيار القومي ما حصل في الساحل السوري دليلاً قاطعاً على ما سمّاها دموية النظام الجديد، ودعا في بياناتٍ له الشعب السوري إلى التمرّد والثورة على حكام دمشق. لكن الموقف الغريب الذي أعلنه بعض الناصريين التونسيين أدهشني إلى حد بعيد، فقد طالب هؤلاء بمحاسبة التونسيين المساندين للرئيس أحمد الشرع، واعتبارهم “خلايا نائمة لداعش ووجوب تتبّعهم” أمنياً وقضائياً. … وأتفهّم حالة الإحباط الشديد الذي عليه هؤلاء، لكن ذلك لا يبرّر هذا التشنّج الشديد الذي يجعل المرء يفقد قدرته على التمييز بين الألوان والأشياء.
ما حدث في الساحل السوري جريمة من الحجم الثقيل، وورطة لا يمكن الفكاك منها إلا بتحقيق جدّي وشامل، يتوّج بمحاسبة المسؤولين عنها بقطع النظر عن مواقعهم، فالقتل على الهوية ذنبٌ لا يُغتفر، خصوصاً أنه استهدف مئاتٍ من المدنيين، بمن فيهم نساء وأطفال. وقد تؤدّي لجنة التحقيق التي أُنشئت مهمّة التقصي والتحرّي، ويتحمّل المكلفون بها مسؤولياتهم كاملة تجاه قتل 813 مدنياً لقوا مصرعهم في هذه المجزرة. ومن المهم جداً السماح لوفد أممي بتقصي الحقائق الذي سيكون له رأي وموقف.
… لم يستسلم من يصفهم خطاب السلطة بفلول النظام البائد كلياً، فبعض المقرّبين من بشّار الأسد يحاولون منع نظام الشرع من التمتع بالهدوء والاستقرار. من بين قادة هؤلاء غياث دلة الذي أنشأ هيكلاً سمّاه “المجلس العسكري لتحرير سوريا”، وأطلق هذا الهيكل الشرارة الأولى لأحداث الساحل، حيث قتلت مجاميعه، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 172 عنصراً على الأقل من القوات الأمنية والعسكرية، إضافةً إلى ما لا يقل عن 211 مدنيّاً. في المقابل، أكدت الشبكة مقتل ما لا يقلّ عن 420 شخصاً من المدنيين والمسلحين منزوعي السلاح، بينهم 39 طفلاً و49 امرأة و27 على يد قوى مسلحة تابعة للنظام، منها تنظيماتٌ إسلامية أجنبية منضوية شكلياً تحت مظلة وزارة الدفاع، وفي ذلك توريط مباشر للسلطة القائمة في دمشق.
بناءً على ما تقدّم، هناك من بدأ المجزرة، وهم ضبّاط “الفرقة الرابعة” في النظام السابق، الذين اتهمهم ابن خالة بشار الأسد في تدوينة له بأنهم “تاجروا بدماء العلويين” وارتكبوا أعمالاً غبية، كادت تقضي على الطائفة العلوية حسب قوله. وبقطع النظر عن الصراعات التي تشقّ أنصار الأسد، المؤكّد أن هؤلاء ضالعون في الجريمة من دون تبرير ما ترتّب عن ذلك. وقد تبنّى هذا الموقف الاتحاد الأوروبي في بيان له.
ما جاء على لسان الرئيس التركي أردوغان صحيح، عندما أشار إلى وجود أطراف داخل سورية وخارجها تعمل على تأجيج الحرب الطائفية، منها إسرائيل، من خلال المحاولة المكشوفة لدفع السوريين الدروز نحو الحكم الذاتي. لهذا السبب، كان الاتفاق التاريخي الذي وقّعه الشرع مع الأكراد من جهة، ومع دروز في السويداء من جهة ثانية، سياسة حكيمة وخطوة استراتيجية على غاية كبرى من الأهمية. وهو ما يدلّ على أن محاولات تأليب السوريين على النظام الحالي غير منتجة، وتدل على قصر واضح في النظر.
مصلحة تونس في طيّ صفحة الماضي، ودفع السلطة نحو بناء علاقات واضحة وجدّية مع النظام القائم في دمشق. وفي المقابل، المطلوب من القوى السياسية في تونس تجنّب تحويل المسألة السورية إلى معركة داخلية متواصلة تزيد من إرهاق الطبقة السياسية، وتعمّق الانقسام الوطني، وتحرّض السلطة على المخالفين في الرأي.
العربي الجديد،
——————————–
انفجار الساحل السوري بين المسببات والمعالجة/ د. عبد المنعم حلبي
2025.03.16
في الوقت الذي لا يمكن فيه لأحدٍ أن يُنكرَ حجم وعمق التعقيدات والملفات والمطالب التي تواجهها الإدارة السورية الجديدة، يبقى سلوكها خاضعاً إلى مراقبة خارجية دقيقة، ولاسيما من قبل الأمم المتحدة والثالوث الأوروبي: فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومن ورائهم الولايات المتحدة الأميركية. ومع دخول شهر آذار الذي كان يُشار إليه بأنه شهر الحكومة الانتقالية ذات الطيف السياسي الواسع المُدعَّمة بالتكنوقراط، انفجرت أحداث متصاعدة في الساحل السوري بشكل هجمات متزامنة ومتناسقة على ما يبدو، قامت بها مجموعات إرهابية تحت مسمى درع الساحل بقيادة الفار المقداد فتيحة، وطالت مراكز الأمن العام والكلية البحرية، ثم سرعان ما انتقلت الاشتباكات إلى ريف طرطوس وبانياس، وصولاً لريف اللاذقية والقرداحة، سقط خلالها أعداد كبيرة من المدنيين، الأمر الذي استدعى إطلاق عملية عسكرية من قبل الإدارة السورية الجديدة، في أجواء غير مسبوقة من التجييش الطائفي المتبادل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي إطار المجتمع الأهلي، الأمر الذي طرح أسئلة عدة عن أسباب هذا الانفجار المفاجئ للأوضاع في المنطقة الأكثر حساسية في سوريا، إضافة إلى بعض الملاحظات حول مجريات ظهرت إلى العلن خلال التطورات المؤلمة، وصولاً لمخاوف لما يمكن أن ينتج عنها من آثار وانعكاسات على الأمن والاستقرار في البلاد، وصورة الدولة الوليدة في الداخل والخارج، وماذا يمكن عمله لتجاوز الأزمة.
آراء الذين تحدثوا عن أسباب تلك المجريات المؤسفة، تمحورت حول تأخر الإدارة السورية الجديدة عن التصدي لقضية العدالة الانتقالية وتطبيق مبدأ المحاسبة بحق مجرمي النظام السابق، وما يسببه هذا التأخير من الاستبقاء على المنطقة الساحلية برمتها تحت سيف التجريم العام عن كل ما يتعلق بالحقبة السابقة. كما وفي الوقت الذي كانت تتعالى فيه صيحات من قبل بعض السكان والمراقبين حول انتهاكات تمارس ضد مواطنين خارج إطار القانون، أُرفِقت بتهديدات خطيرة من قبل الإرهابي فتيحة ومن لفَّ لفه بما سماه الرد على تلك الانتهاكات، لم يتم اتخاذ إجراءات ملموسة تتناسب مع جدية تلك الصيحات والتهديدات. ومن جهة أخرى كان واضحاً وجود إشارات لتدخلات خارجية، وصلت فيه هذه التدخلات -وفق رأي بعضهم -إلى حد تقديم دعم مباشر للقيام بانقلاب عسكري في الساحل، بقيادة ضباط عسكريين معروفين ممن باتوا يُسمون بفلول النظام. كما أكد بعضهم على تأثير ما قامت به حكومة تصريف الأعمال من عمليات فصل واسع النطاق بحق كثير من العاملين في معظم الوزارات والمؤسسات والشركات العامة في تأجيج احتجاجات.
ومع وصول صور وفيديوهات شهداء الأمن العام من عدة مواقع، وبدء الاندفاع باتجاه الساحل، لوحظ انطلاق فصائل مسلحة تحت مسمياتها السابقة، والتي كان يُعتقد أنها تلاشت ضمن مسمى الجيش العربي السوري في اجتماع يوم النصر. كما لوحظ وجود حالة من الفوضى في التحركات العسكرية التي ضمت جحافل من الحافلات والباصات والمركبات التي حملت مدنيين مسلحين، الأمر الذي سهّل إيقاع العديد منها في كمائن إرهابيي درع الساحل من جهة، مما زاد من الخسائر البشرية في صفوف القوات المؤازرة لقوات الجيش وقوات الأمن العام، وولَّد من جهة أخرى حالات احتقانٍ شديدة أدت إلى توليد ردود أفعال عنيفة وغير منضبطة أوقعت كثيراً من الضحايا المدنيين في عمليات قتل وسرقة وحرق منازل، مع التعدي على المتاجر والمؤسسات الخاصة، وسط اتهامات بها طالت تلك المسميات الفصائلية، إضافة إلى اتهامات لفلول النظام بالقيام بعمليات قتل واستهداف للمدنيين من جميع المكونات. وفي تلك الأثناء، ألقى الرئيس أحمد الشرع خطاباً كان ذا وجهين، الأول تهديد فلول النظام بالحسم، والثاني محاسبة كل من يتجاوز على المدنيين.
ردود الفعل الدولية بدأت من الخارجية الفرنسية التي أعربت عن قلقها من استهداف المدنيين، وطالبت بالتحقيق وإدانة مرتكبي الانتهاكات بحقهم، في حين حمَّل الاتحاد الأوروبي فلول النظام مسؤولية الأزمة. ومع تبني ألمانيا وبريطانيا موقفاً وسطياً بين موقفي الاتحاد الأوروبي والموقف الفرنسي، كان وزير الخارجية الأميركي أكثر حدة بالإشارة إلى وجود وضع يقوم فيه من سماهم بمتطرفين بقتل مدنيين أبرياء. ومع تزامن تلك التصريحات مع دعوة كلٍ من روسيا والولايات المتحدة الأميركية لعقد جلسة استماع في مجلس الأمن حول سوريا، عاد الرئيس الشرع ليلقي خطاباً ثانياً، اعترف فيه بوقوع تجاوزات، وقام على الفور بتشكيل لجنتين للتحقيق فيها وإرساء السلم الأهلي في الساحل السوري، في حين قامت قوات الأمن العام بإغلاق الطرق المؤدية إلى الساحل السوري، وتجميع المسروقات من قبل أهالي ومجموعات شاركت في الهجوم على الساحل، وتم إلقاء القبض على عدة أشخاص من مرتكبي الانتهاكات، وسط استمرار عمليات التمشيط، في مواجهة الاستهدافات المستمرة لقوات الأمن العام وقوات الجيش.
على وقع هذه الأحداث الدموية والتطورات المتلاحقة، تم توقيع الاتفاق الذي وصف بأنه تاريخي بين الرئيس الشرع ومظلوم عبدي قائد قسد، بدمج هذه الأخيرة ومؤسسات الإدارة الذاتية في الدولة السورية، الأمر الذي كان له أثر مهم في نقل الأضواء ليومٍ واحدٍ عن تصريحات وتحركات خارجية بدت مقلقة حول أحداث الساحل، خاصة بعد لجوء آلاف من العلويين إلى قاعدة حميميم، وبدء الحديث عن وجود مطالب بحماية روسية، إلى أن ظهرت تسريبات لاحقة حول تصريحات روسية حادة ضد الإدارة السورية الجديدة في مجلس الأمن، وإمكانية صدور بيان شديد اللهجة تجاه السلطات السورية.
وهكذا وفي غضون أيام قليلة، تكون سوريا قد عادت إلى فوهة بركان مقلق، في أيامٍ كان يُنتظر فيها السير قُدماً ومن دون منغصات في تطبيق المراحل التي أعلنها الرئيس الشرع في خطاب النصر. وعلى الرغم من أننا يمكن أن نتفاءل بأن تجاوز مجريات الساحل أمر ممكن مع الوقت، بالتوازي مع الإجراءات التي اتخذتها الإدارة السورية الجديدة، لتعويض ضعف حالة التشبيك واستعادة الثقة مع المجتمع الأهلي في الساحل، إلا أن استمرار حالة المد والجذر في وسائل التواصل الاجتماعي ما تزال مقلقة، في ظل حرب شائعات وتضليل متبادل مترافق مع استمرار غياب الإعلام الرسمي، الأمر الذي يستدعي تحركاً سياسياً وقانونياً يُجرِّم دعوات التحريض وإثارة النعرات تحت أي عنوان.
كما يتوجب العمل بصورة حثيثة على معالجة أجواء ضعف الثقة التي تحيط بالعلاقة بين الإدارة السورية والأطراف الداخلية المختلفة. ومع صدور بيان مجلس الأمن الصارم، أصبح واضحاً أن المشهد السوري الداخلي الساخن سينال أهمية أكبر من قِبل الأطراف الدولية والإقليمية في الأسابيع القادمة، وبما قد ينعكس بصورة مباشرة حول سياسات بدأ رسمها للتعاطي المستقبلي على المدى المنظور قبل البعيد مع الإدارة السورية الجديدة. ومن هنا تأتي أهمية الإفصاح عن الحكومة الانتقالية العتيدة، والتي كان يشار إلى احتوائها على مفاجآت مطمئنة، تلبي الاحتياجات الوطنية في هذه المرحلة المهمة من تاريخ البلاد، وتشكل إطاراً مقبولاً يمكن العمل من خلاله على الملفات الداخلية الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل إعلان دستوري حدد المضامين الأساسية لتطبيق العدالة الانتقالية وإطلاق حالة دستورية تنظيمية مؤقتة بين سلطات الدولة في المرحلة القادمة، التي يجب أن نعود فيها إلى التفاعل الإيجابي مع مطالب تحقيق الأمن والاستقرار الذي يعتبر الركيزة الأساسية لإرساء بيئة قادرة على إعادة بناء الدولة واستمرار جلب وتحقيق المنافع الاقتصادية وإطلاق عملية إعادة إعمار شاملة.
تلفزيون سوريا
—————————–
المجزرة وتبِعاتها/ زياد ماجد
تحديث 16 أذار 2025
شهدت منطقة الساحل السوري بين السادس والعاشر من شهر آذار/مارس الجاري سلسلة أحداث وفظائع قُتِل فيها مئات الأشخاص. وظهّر ما جرى في أربعة أيام مقدار العنف الكامن في بعض البيئات في سوريا، ومقدار الكراهية وما يُبنى عليها من انقسامات أهلية. كما ظهّر استسهال إشهار مظلوميات، واستخدام الواحدة منها طرداً أو نبذاً للأُخرى، تبريراً للدم المُراق، أو تعمية على ازدواجيات معايير لم يستطع كثرٌ الخروج منها. ينطبق الأمر على حدّ سواء على من ارتبكوا في الكلام عن المقتلة الأخيرة وقلّلوا من شأنها، وعلى من تفجّعوا على ضحاياها حصراً بعد أن صمتوا أو تلعثموا لسنوات سابقة رغم عشرات ألوف جثث المدنيّين التي تناثرت في كامل الأراضي السورية.
العنف الثأري والعنف المقدّس
بدأت الأحداث، في مرحلتها الأولى، في السادس من آذار/مارس، إذ اندلعت اشتباكات هاجم خلالها مئات المسلّحين الموالين للنظام المخلوع مواقع ودوريات أمنية، وقتلوا واحتجزوا عشرات العسكريين المنتمين إلى قوات الحكم السوري الجديد، وأعدموا بعضهم لاحقاً، واحتلّوا حواجز ومقار وسيطروا على بلدات وعلى أحياء مدينية ذات أغلبية ديموغرافية علوية. والمتداول حتى الآن أن الهجوم هذا جاء نتيجة اتصالات أجراها ضبّاط من بقايا النظام الأسدي المخلوع (أحدهم من الفرقة الرابعة البائدة)، في أواخر شهر شباط/فبراير الماضي، بهدف تنظيم تمرّد مسلّح ضد السلطات. والأرجح أن للضباط المذكورين علاقات روسية وإيرانية شجّعتهم على التمرّد لإبقاء الأحوال مضطربة، تحضيراً لمرحلة تفاوض مقبلة تريد فيها موسكو الاحتفاظ بقاعدتيها العسكريّتين في حميميم وطرطوس، إلى جانب امتيازات أخرى.
وقد أدّى الأمر إلى إطلاق الحُكم في دمشق حملة عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة على المنطقة الساحلية ومطاردة «المتمردّين». رافق ذلك إعلان فصائل إسلامية، كان يفترض أنها انضوت ضمن الجيش السوري الموحّد بعد الإعلان عنه من قبل الرئيس أحمد الشرع، «النفير العام» وإرسال التعزيزات من أنحاء محافظات الشمال نحو الساحل «لمواجهة الفلول الأسدية». ووّثقت الصور والتقارير أيضاً تحرّك مجموعات جهادية (أغلب عناصرها من الأجانب) سبق أن أعلنت حلّ نفسها أو باتت على هامش المشهد السوري الجديد بعد إقصائها من قبل «هيئة تحرير الشام»، من إدلب باتّجاه الساحل، مُشهرة خطابها التكفيري الداعي إلى قتال «النصيريين» وإنزال العقاب بهم.
هكذا اكتملت في السابع من آذار/مارس ملامح المرحلة الثانية من الأحداث بجانبَيها، أي باستعادة السيطرة على بلدات ومدن المنطقة الساحلية، وبما تخلّل الاستعادة تلك وتلاها من عمليات «ثأر» وهدر دماء وتعميم للعنف والقتل واستباحة الأملاك، والردّ على «التعفيش» بانتزاع «الغنائم».
المظلومية والدعاية والتبرير
تحوّلت المسألة في ساعات معدودة إذاً من تمرّد مسلّح ومواجهةٍ له، عسكرية مشروعة ولازمة، إلى مجزرة في العديد من البلدات والأحياء السكنية، ذهب ضحيّتها في أيام ثلاثة مئات المدنيين العلويّين (أو المولودين كعلويّين). واستُكملت المجزرة بنهبٍ وحرقٍ للأرزاق صوّر بعضه المرتكبون أنفسهم، متفاخرين بجرائهم وبدوسهم على الكرامات الإنسانية. استعادوا في ذلك مشهدية العنف الأسدي إياها، مستبدلين عبارات بسواها، فيما أفرغ بعضهم مخزوناً من الحقد المعطوف على التكفير وعلى دعوات الجهاد.
على أن السجال العام الذي رافق أيام القتل التالية ليوم «التمرّد العسكري»، إن في بعض وسائل الإعلام أو في مساحات التواصل الاجتماعي، أبرز الهوّة التي لا تفصل بين السوريين المصطفّين على جانبَي المواجهة والمقتلة التي اندلعت فحسب، بل تفصل أيضاً وخاصة بين من يرفضون القتل والانتقام الدموي ومحرّكاته المذهبية، وبين من يتّخذون مواقفهم من إسالة الدماء تبعاً لهوّيات المقتولين أو انتماءاتهم الدينية.
كما أظهر هذا السجال أن تحويل المظلومية السابقة (السنية) الناجمة عن أكثر من نصف قرن من الأسدية وممارساتها الطائفية وعنفها الهمجي ضد السوريين (بين العامين 1979 و1983 ثم بين العامين 2011 و2024 تحديداً) إلى منطلقٍ للثأر و«التأديب» لا يخلّف مظلومية جديدة أو متجدّدة (علوية) فحسب، بل ينذر أيضاً بالتمهيد لنشوء العديد من المظلوميات، الطائفية والمناطقية، أو القومية، مع ما تحمله من قدرة دائمة على تبرير ارتكابات الجماعة، أي جماعة، أو من يدّعون تمثيلها والتصرّف باسمها، على أساس ذرائع تاريخية أو مقارنات حول أسبقيات ومسؤوليات غير متساوية. وهذا في ذاته مشروع إباحة للعنف العشوائي المعمّم ضد المنتمين إلى معسكر «الظالمين» لمجرّد انتمائهم إلى طائفة أو منطقة مختلفة، لا نهاية له ولا حدود.
ويضاف إلى المآسي المباشرة التي لحقت بذوي الضحايا المدنيّين والأمنيّين وبمنطقة الساحل بأكملها أن ما جرى ميدانياً وما واكبه تعبئةً وتجييشاً يهدّد مسار الانتقال السياسي القائم في سوريا حالياً، إذ يمنع عنه الاستقرار والتفرّغ لتحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والتحاور حول إعادة البناء السياسي. ويمكن أن تتأخّر بسببه إجراءات رفع جزء من العقوبات الدولية (الأوروبية بخاصة)، بما يؤجّل الاستثمارات وورش إعادة الإعمار الحيوية التي لا استقرار وتحسّناً من دونها.
وهو يُتيح فوق ذلك لروسيا وإيران وإسرائيل، الراغبة في زعزعة أمن سوريا، التدخّل والسعي للمزيد من التوتير والابتزاز. علماً أنه من الواضح أن أوساطاً صحفية مقرّبة من الدول الثلاث تضخّ في بعض وسائل الإعلام الغربية وفي مواقع التواصل منذ ما قبل التطوّرات الأخيرة كمّاً من الإشاعات والأكاذيب يهدف إلى التخويف وإثارة الفتن وإبقاء سوريا في عزلة عن العالم.
ما العمل؟
لا يمكن التصرّف اليوم على أساس أن الدماء التي سالت في الساحل جفّت، وأن توقّف القتل يطوي صفحتها ويُعيد السوريين إلى ما سبق السادس من آذار/مارس 2025. كما لا يمكن اعتبار الاتفاقين المهمّين والاستراتيجيين اللذين وقعهما أحمد الشرع في الأيام الماضية مع قائد القوات الكردية مظلوم عبدي ومع وجهاء جبل العرب الدروز كافيين لمحو آثار المجزرة التي أصابت أهل الساحل العلويّين. فمن دون تحقيقات جدّية للجنة تقصّي الحقائق التي شكّلها الشرع، ومن دون إجراءات وتوقيفات ومحاكمات للمسؤولين عن قتل مئات المدنيّين وتخريب أملاكهم، ومن دون تحويل توحيد القوى العسكرية إلى واقع فعلي تنضبط في إطاره وتحت أمرته جميع الفصائل، ومن دون حلٍّ لمسألة تواجد جهاديّين أجانب ما زالوا طليقين في الشمال الغربي السوري، يصعب تخطّي ما جرى ويصعب عدم توقّع تكرار ما يشبهه مستقبلاً، خاصة في ظل وجود خطاب تحريض وتبرير وكراهية، وفي ظلّ سعي قوى خارجية للاستفادة منه ومفاقمته.
وهذا كلّه ليس في أي حال بالشأن المعزول عن سياق ملحّ الأهمية في سوريا، هو سياق «العدالة الانتقالية»، الذي لم توضع أسسه العلمية والعملية بعد، والذي لا يمكن تجاوزه أو تجاهل ضرورته القانونية والسياسية في بلد أدمت مجتمعه عقودٌ من الجرائم الأسدية والحروب، وما زالت أحواله عرضة للمخاطر والتجاذبات والانتكاسات…
*كاتب وأكاديمي لبناني
القدس العربي
————————–
نجا “الفلول” وقُتل الأبرياء/ حسن مدن
16 مارس 2025
لم يكن مفاجئاً ما جرى في مُدن الساحل السوري وبلداته أخيراً، والذي لا تزال تداعياته مستمرّة، بل ربما كان متوقعاً إثر سقوط نظام بشّار الأسد، بعد أن تصدّع من داخله، وبات متعذّراً على حلفائه حمايته من السقوط المحتوم، الذي بدا خاطفاً، ولم تُرَق لحظة سقوطه دماء كثيرة، ما حمل كثيرين على القول إنّ هذا “السقوط” جاء نتيجة توافقاتٍ إقليميةٍ ودولية، فرضتها المتغيرات. رغم ذلك، ما كان لهذا السقوط أن يمرّ من دون تبعات ومفاعيل، خصوصاً في ظلّ خطابٍ طائفي مشحون تفشّى أخيراً، وشمل، ضمن ما شمل، تقديم سورية دولة أمويّة سنيّة خالصة، في ميلٍ إلى تهميش مكوّناتها الأخرى تاريخياً. وانطوى هذا الخطاب على كراهية مضمرة وغير مضمرة للطائفة العلوية خصوصاً، لكون عائلة الرئيس المخلوع تنتمي إليها، فحُمِّلَت وزراً لا ناقة لها فيه ولا جمل، وهي الطائفة التي برز من بين أبنائها وبناتها مناضلون أشدّاء ضد النظام السابق، دفعوا ضريبة باهظة، قتلاً وسجناً ونفياً، جرّاء هذه المعارضة.
ولم يكن مفاجئاً استهداف عناصر مسلحة محسوبة على النظام السابق لقوى الأمن في بعض مناطق الساحل، الذي كان الشرارة التي أطلقت ما في النفوس من ضغائن، فهناك متضرّرون كُثر من سقوط النظام، بعضهم مرتبط بشبكة مصالح انهارت بهذا السقوط، وبعضهم دفعته مشاعر التهميش إلى الانخراط في مجموعاتٍ وضعت استهداف السلطة الجديدة هدفاً لها، وربما لا يخلو الأمر من أبعاد إقليمية. وقد لا تنتهي التطوّرات بما جرى، فلا ضمان من ألّا يحمل المستقبل تحدّيات مشابهة للسلطة الجديدة، سواء في الساحل أو في مناطق سورية أخرى، خصوصاً مع دخول إسرائيل على الخط، فهل ستتعامل مع تلك التحديات بالطريقة التي تعاملت بها مع ما جرى في الساحل حين دفع بأفراد تنظيمات مسلّحة، بعض مسلحيها ليسوا سوريين وغرباء عن نسيج المجتمع المحلي، للانتقام الجماعي من المدنيين العزل، حدّ اقتحام بيوتهم وقتل أفراد عوائل بكاملها، بمن فيهم النساء والأطفال قُدّرت أعدادهم بالمئات، وتوثيق تلك الفظائع بكاميرات الهواتف النقّالة، ونشرها مشفوعة بمفردات من الشتائم للضحايا تضجّ بالكراهية والطائفية البغيضة؟
الذريعة التي سُوِّقَت، جاءت لتبرير ما وُصف بأنه تصدٍّ لفلول النظام السابق. والفلول مصطلح دخل القاموس السياسي العربي غداة أحداث عام 2011، حين سقطت أنظمة في عدة دول عربية، مصر وتونس وليبيا واليمن، واستخدم في وصف بقايا الأنظمة المنهارة، لكنه مفردة ليست طارئة أو مستحدثة، حيث تفيدنا معاجم اللغة بأنّ كلمة “فلول”، ومفردها “فَلّ” بفتح الفاء وتشديد اللام، تطلق على المهزومين، ويقال (هم قومٌ “فَلٌّ”) أي مهزومون، ويمكن أن يوصف الرجل بأنه “مفلول” أي منكسر ومنهزم، وأنّ المفرد “فل” هو ذاته المصدر، وكذلك الفعل الماضي. ومثالاً قيل: “فلّ عنترة جيش الأعداء فلاً”، أي ألحق بهم هزيمة منكرة، لكن ما قامت به المليشيات الموصوفة بـ”الجهادية” في مدن الساحل السوري وبلداته لم يكن “فلاً” للأعداء، على طريقة عنترة، بل تحوّل حملة تصفية جسدية بشعة لمدنيين، لا لشيء، سوى أنّهم ينتمون إلى طائفةٍ أخرى غير طائفة أولئك المسلحين الذين جاؤوا مدن الساحل لـ “تطهيرها” من الفلول.
على السلطة الجديدة في دمشق، وهي تتصدّى للمخاطر التي تواجهها، خصوصاً حين تأخذ الطابع المسلح، أن تدرك أنّ مجرّد إعلان ضمّ التنظيمات المسلحة في جيش سوري موحد، إن صدقت النيات، وطابق الفعل ما هو معلن من القول، لا يعني، تلقائياً، تخلي قادتها وأفرادها عن الخطاب “الجهادي” المتطرّف الذي نشأت عليه، وعلى أساسه جرى تأسيسها ومدّها بأسباب العون، فيما يفترض أنّ سورية ولجت عهدأً جديداً يقتضي تأسيس خطابٍ وطني جامع، لا خطاب تصفية الثارات، بعيداً عن سلطة قضاء محايد وقانون قاطع.
أكبر المهام الماثلة في سورية اليوم هي التفريق بين المدنيين وأذرع النظام السابق المتورّطة في الفساد وفي قمع الشعب، والمدنيون، في غالبيتهم، غير مسيّسين، وبسبب القمع الشديد لم ينخرطوا في نشاط معارض للنظام السابق، رغم تذمرهم من سياساته، التي عانوا منها، فيجري وضعهم، تعسّفاً وظلماً، في خانة “الفلول”، المفردة الملتبسة حمّالة الأوجه، لنكتشف أنّ الفلول الحقيقيّين فرّوا بجلدهم وأموالهم إلى خارج سورية، فيما أصبح القتل البشع مصير أبرياء، عُزّل.
العربي الجديد
————————–
هل تئد سورية الطائفية أم تفجّرها عربياً؟/ لميس أندوني
16 مارس 2025
لا تعكس مجزرة الساحل السوري ضد السوريين العلويين أزمةً أخلاقيةً سياسيةً في بلدهم فقط، وإنما في كل العالم العربي.. وذلك فيما التعصّب المذهبي والإثني، وحتى الأيديولوجي، دينياً كان أو قومياً أو علمانياً، ليس صفة عربية أو تخصّ كلّ مواطني الدول العربية من خلفياتٍ مختلفة، بل هي ظاهرة عالمية عبر التاريخ، إذ إن سياسة “فرّق تسد” تستعملها السلطات والدكتاتوريات والنخب التي تُريد بسط سلطتها والإثراء، غير عابئة بالسلم الأهلي وتفكيك نسيج المجتمعات.
في الحالة العربية، لعب الاستعمار دوراً رئيساً في ترسيخ الإثنية الطائفية والعرقية ودسترتها، متستِّراً بحجّة حماية الأقليات أو طائفة معينة، وأضاف إلى دوره في استخدام الطائفية، المسيحية كما في لبنان، وفي تشجيع ظهور مجموعات الإسلام السياسي المتطرّفة، بمشاركة دول عربية، وتوظيفها ضد الشيوعية وحركات المد القومي العربية، وتسلّحها باسم الجهاد ضد الاحتلال السوفييتي في أفغانستان بتمويل وتسليح من وكالة الاستخبارات الأميركية، فجاءت النتيجة عكسيةً مع ظهور تنظيم القاعدة ومشتقاته. ولم ينته دور الغرب ودول عربية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانسحاب الروس من أفغانستان، وحتى بعد تفجير مبنى مركز التجارة العالمية في “11 سبتمبر” (2001)، فانطلاق ما سُمّيت الحرب ضد الإرهاب، التي وظّفتها أميركا لتبرير القمع والتعذيب وتدمير أفغانستان وغزو العراق، استمرّت أجهزة مخابراتٍ شتّى في تمويل جهات متطرّفة سلفية جهادية مستغلة الفقر والغضب بين الشباب.
لا يفسّر هذا كل الحكاية، إذ لا تشرح مشتقّات الحركة الجهادية والسلفية المتطرّفة وحدها أسباب انتشار الفكر الطائفي، فالاستبداد سهّل وأسّس لتربة خصبة للتعصب الطائفي والإثني، وعمّق الفروق بين أبناء المجتمع الواحد. وفي حالة سورية، كان لنظام عائلة الأسد الذي حكم 54 عاماً دور رئيس في إذكاء الطائفية، فاعتماد النظام على نخبٍ من الطائفة العلوية في الدولة والجيش والمخابرات زرع بذور الحقد الطائفي عقوداً.
لا نعفي هنا الإخوان المسلمين ودعوتها إلى إنشاء نظام إسلامي تحت شعار “الإسلام هو الحل” من مسؤولية إحداث شروخ فكرية واجتماعية، فالدولة الإسلامية وتأييد فكرتها فرز اجتماعي وسياسي للمجتمع، لكن مجزرة حماة التي ارتكبها نظام الأسد الأب في فبراير/ شباط 1982، بحجّة القضاء على خطر الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى أنها كانت جريمة شنيعة، حفرت غضباً تحوّل بعضُه إلى حقد طائفي، أو على الأقل وسّع هوة الثقة داخل المجتمع السوري، وكانت له ارتدادات وامتدادات خارج سورية واستمرّت.
لا يبرّر ما تقدّم مجزرةَ الساحل، لكنه يشرح، إلى حد ما، بعض جذور الغضب الطائفي وأسبابه عند السوريين السنّة، لكن ما وقع لا يمكن تسميتُه غضباً “سنّياً”. وهنا أستعمل وصف “السنّة” كونهم أغلبية المجتمع السوري الذي عانى من قمع وتعذيب وتنكيل ومذابح تحت نظام الأسد، تكشّف بعضه في مشاهد السجون وقصص العذاب والتعذيب بعد سقوط نظام بشار الأسد.
لقد أحدثت مشكلة التفسير الطائفي لما كان يحدث في سورية من ظلم وعياً مشوّهاً، فكل المذاهب والطوائف كانت هدفاً لتنكيل نظام أمني مخابراتي دموي، متغطّياً بشعارات مواجهة الاستعمار والصهيونية، ومدّعياً الحداثة والعلمانية.
ولا يقتصر الوعي المشوّه على سورية، فردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي كشفت أن بعض الناس، بل كثر، حاولوا تقديم مبرّرات للمجزرة بتوجيه تهم للعلويين، والشيعة، ما كشف عن فهم طائفي، وخاطئ، لسنوات الظلم في سورية، فالنظام لم يوفر سنّياً أو علوياً أو مسيحياً أو درزياً أو كردياً تجرّأ على نقد الظلم، ويجب ألا يُنسى هذا، ما لا دخل له بالمعتقدات العلوية. وكان بعض التعليقات ردّة فعل على حكم أحزاب شيعية طائفية في العراق، فانطلقت كلمات الكراهية ضد الشيعة، فيما دافع شيعة من العراق عن العلويين. ومع الإدانة المحقّة للمجزرة، رأينا اعتداءاتٍ على عمّال سوريين في بلاد الرافدين، ما يدلّ على انتشار الوعي المشوّه والمنطلقات الطائفية.
يضع ما حدث ويحدث القيادة السورية في دمشق أمام مسؤوليات كبيرة، ويُؤمل أن يكون التحقيق نزيهاً، ويفي الرئيس أحمد الشرع بما وعد؛ فهذا كله يؤثر على كل العالم العربي، وليس على سورية وحسب. ومسؤولية الشرع أكبر من عادية؛ ليس لأنه يمثل السلطة الأعلى في هذا البلد، وإنما أيضاً لأنه هو الذي أحضر معه فريقاً من هيئة تحرير الشام، التي كانت في جزء منها جبهة النصرة بعد أن انشقت هي الأخرى عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فبذور الممارسة الطائفية جزء من خلفيتها، فهي جزءٌ من مشتقات الفكر السلفي الجهادي المتطرّف. والشرع مُطالبٌ بإجراءاتٍ تضفي مصداقية عملية على صدق تغيره الفكري، في ظرفٍ صعبٍ جداً. لكن الشعب السوري، كما يبدو، ما يزال يعطيه فرصة، وبخاصة بعد المصالحة المفاجئة مع الأكراد، التي جاءت، كما يبدو، تحت ضغوط غربية، وإنْ كانت ضرورية لوحدة الأراضي السورية وقطع الطريق على فتنة مذهبية أو إثنية تؤدّي إلى تقسيم سورية وتفتيتها.
وقد كان الخوف من عمليات انتقام من العلويين ماثلاً في ظل تشوه الوعي، ولكن ارتكاب قوات تتبع مؤسسة الأمن الحكومية مجزرة وتنفيذها إعدامات ضد العلوييين وفي بيوتهم يثير الذعر حيال مستقبل سورية. ولا يعني هذا أن الشرع أعطى أوامر بتنفيذ عمليات قتل ضد العلويين، وإنما أن أفراداً من قوات الأمن من مجموعات عُرفت بممارساتٍ إجراميةٍ طائفية ارتكبوا هذا، الأمر الذي يتجاوز عمليات انتقامية، فإذا كان هناك من دور لمثل هؤلاء، فلا يجب إرسالُهم في مهمّات أمنية، خاصة ضد أنصار النظام القديم.. فهل تجرى إعادة تشكيل قوات الأمن؟ وهل يستطيع الشرع مواجهة نواته الصلبة؟ هذه أسئلة ليست سورية بحتة، بل تخصّنا جميعاً.
بدأ المقال بالربط بين الاستبداد وظهور التنظيمات التكفيرية، التي يتجاوز تأثيرها حدود أعضائها، وذلك لتأثيرها على تفكير أوسع منها. وأحمد الشرع نفسه تأثر بسياسات الاستبداد وتلقّفته الجماعات المتطرّفة، وعليه أن يثبت أن ما وقع في الساحل السوري ليس مجرّد نتيجة تسلُّم فريق جذوره عنفية متعصبة الحكم، فلا نستطيع تكرار الحديث عن خطايا الأنظمة الاستبدادية ودورها، فالشرع على رأس الحكم لدولة عربية محورية، لم يخترع الطائفية، وإنْ كان قد مارسها، لكن لديه ولدى سورية فرصة تاريخية، بشرط مشاركة الجميع في بناء دولة تعدّدية تساهم في وأد الطائفية المفتعلة أصلاً، والمصنّعة لخدمة الاستبداد والاستعمار.
العربي الجديد
———————————
الحكّام في الشام/ أسعد قطّان
الأحد 2025/03/16
لو كانت سوريا دولةً طبيعيّة، لاستقال السيّد أحمد الشرع فوراً وأحيل إلى المحاكمة بسبب تورّط بعض الفصائل التابعة له، نظريّاً على الأقلّ، في مذابح الساحل السوريّ، وفشله وفشل حكومته الموصوف في حماية شرائح واسعة من الشعب السوريّ. والمعروف أنّ حماية المواطنين هي أولى مسؤوليّات الدولة وأهمّها. لكنّ سوريا ليست بلداً طبيعيّاً، بل بلد منكوب ومنهك ومهشّم يحاول أن ينهض من رماده ويستعيد طاقة الحياة، ما يتيح للسيّد الشرع أن يبقى في قصر الشعب.
في الدول التي تحترم ذاتها، تعطى الحكومة الجديدة فترة سماح لا تتجاوز الأيّام المئة. في سوريا، انتهت الأيّام المئة بمذبحة تضاف إلى المذابح الأخرى التي شهدها التراب السوريّ منذ استيلاء الضبّاط البعثيّين على السلطة. مخطئ مَن يعتبر أنّ مذبحة الساحل لا علاقة لها بكلّ “الحماقات” التي ارتكبتها زمرة الحكّام الذين في الشام منذ تسلّمهم مقاليد السلطة: انتهاكات شبه يوميّة لأمن المواطنين وثّق المرصد السوريّ لحقوق الإنسان المئات منها، بينما سعت السلطة إلى التقليل من أهمّيّتها بحجّة أنّها أحداث فرديّة؛ تسريح عشرات آلاف الموظّفين من أمكنة عملهم بحجّة التأكّد من عدم تبعيّتهم للنظام الأسديّ البائد؛ فشل ذريع في إطلاق مسيرة العدالة الانتقاليّة بالاستناد إلى معايير واضحة وشفّافة؛ تسويات مشبوهة هنا وثمّة مع بعض مجرمي الأمس بغية اجتذاب الأموال؛ مؤتمر حوار وطنيّ أقلّ ما يقال فيه إنّه أتى مختزَلاً ومحكوماً بمقتضيات الضغط الدوليّ، لا باقتناع داخليّ لدى الساسة بضرورة الحوار، ما أفضى إلى إقصاء كثر من المعارضين ذوي الباع؛ استبعاد عدد لا يستهان به من الضبّاط المنشقّين بما يحملونه من خبرات، مع أنّ سوريا أحوج ما يكون إلى إعادة بناء جيشها الوطنيّ؛ مبايعة فولكلوريّة للسيّد أحمد الشرع أظهرت مقتلة الساحل المقزّزة مدى هشاشتها؛ وعود عرقوبيّة بتأليف حكومة حاضنة لم تبصر النور حتّى اليوم؛ وضع اقتصاديّ مترهّل أودى بملايين السوريّات والسوريّين إلى حافّة الجوع؛ ازدواجيّة صارخة بين خطاب يدّعي صون التعدّد ومحاولات مكشوفة لأسلمة المجتمع. هذه الأخطاء جميعها شكّلت وقود الحوادث الأخيرة سواء بسبب النقمة الجامحة على الطغمة الحاكمة أو من طريق التجييش المذهبيّ الأرعن ضد “النصيريّين” من منابر المساجد ومكبّرات الصوت. من الصعب أن يجد المرء أسباباً تخفيفيّةً لهذا كلّه، وذلك بصرف النظر عن أنّ حكّام الشام ذوو ماضٍ عنفيّ معروف، وبعضهم لا تزال أسماؤه على لوائح الإرهاب.
لكنّ الطامة الكبرى في مكان آخر، وهذا يجب أن يعيه كلّ مَن يتمنّى الخير لسوريا، ويريد استعادتها وعودتها إلى أهلها وجيرانها وإلى العرب أجمعين: الأوطان لا تبنى بالعقليّة الانتصاريّة، بل بذهنيّة الاحتضان والتسالم. يخيّل للحكّام الجدد في دمشق أنّ أمور الحكم يمكنها أن تستتبّ لهم وهم على ما هم عليه من ممارسة شريعة الغلبة بما تنطوي عليه من إقصاء للآخرين. لكنّ الأيّام، على قول طرفة بن العبد، ستبدي لهم كم كانوا جهلةً.
إنّ احتضان الآخرين واستدخالهم له شرط لا يمكن الالتفاف عليه: التخلّي عن الوهم الإسلامويّ الذي يحسب أنّ الغالبيّة يجب أن تحكم لكونها غالبيّة، وأنّ هذا الحكم يمكنه أن يستقيم بالارتكاز على الشريعة الإسلاميّة (الإعلان الدستوريّ، ويا للغرابة، يتحدّث عن “الفقه” الإسلاميّ). منطق الغالبيّة ممجوج لا لأنّه ينسخ المقاربة الاستشراقيّة فحسب، التي تأبى أن تنظر إلى شعوبنا من خارج كونها رهطاً من الأكثريّات والأقلّيّات، بل لأنّه يعدّ البشر جماعةً دينيّةً مرصوصة، لا مواطنات ومواطنين أفراداً يتساوون في الحقوق والواجبات. مَن قال إنّ العرب من أهل السنّة والجماعة في سوريا، لمجرّد أنّهم غالبيّة عدديّة، يقبلون أن يكونوا كتلةً متراصّةً في مواجهة الآخرين؟ لعمري أنّ “غالبيّتهم” أذكى من ذلك بما لا يقاس.
أمّا منطق سياسة الناس بالاستناد إلى الشريعة الإسلاميّة، فإشكاليّ لا لأنّه كثيراً ما يتعارض وحقوق الإنسان فقط، بل لأنّ معظم أحكامه المتعلّقة بنظام الحكم من مخلّفات عصور غابرة تحيل على ذهنيّة المسلم “المنتصر” على الكافر “المهزوم”، وتتوكّأ على منظومة قيميّة تخطّاها الزمن. يضاف إلى ذلك إعلان دستوريّ “انتقاليّ” مدّة انتقاله خمس سنوات، أي إنّه يكاد يشبه مقولة “قائدنا إلى الأبد..”. وهو يحصر كلّ شيء تقريباً في شخص رئيس جمهوريّة غير منتخب، ما ينذر بإمكان تحوّل سوريا إلى دكتاتوريّة مقنّعة إسلامويّة الطابع، وذلك على الرغم من تهافت المشاريع الإسلامويّة في مصر وتونس والمغرب كأوراق الشجر في الخريف.
هذا سيناريو متشائم طبعاً، وتفوح منه رائحة مذبحة الساحل. لكنّه يحمل دمغة الدرس السيكولوجيّ الذي يعلّمنا أنّه ليس من الصعب على الضحيّة أن تتحوّل إلى جلّاد، ولا سيّما إذا كانت ترفع النصّ الدينيّ على رؤوس الرماح؛ هذا إذا سلّمنا جدلاً بأنّ جهاديّي جبهة النصرة ضحايا فعلاً.
المدن
——————————–
سوريا والجوار: إعادة تشكيل الخطاب/ أحمد جابر
السبت 2025/03/15
تسارعت الأحداث السورية بعد فرار منظومة السيطرة الأسدية، وتوالت التطورات، فكان لها وقع المفاجأة، مثلما كان لها “صدمة” اللامتوقع، في أوساط سياسية متابعة، وفي أوساط استعملت عدّتها الفكرية القديمة، فما أصابت، ولجأت إلى ما هو موروث من تحديد مُدُني شائع، أو حزبيّ متقادم ومعروف، فخابت وضلّت الطريق إلى التقاط مغزى المشهد الجديد الذي نقل سوريا من ضفّة إلى ضفّة، فانتقل معها المراقبون الذين لم يتوانوا عن تبديل المواقف والضفاف.
“الحبكة” السورية، لم تتضح كل خلفياتها، لكن محاولة الانقلاب الأخيرة على الوضع الجديد، ساهمت في إلقاء الضوء على ألوان من خيطانها. بعض الخيطان كان في مرمى التخمين، وبعضها كان في “مدى” الظن، وبعضها كان في دفاتر التوجّس والاحتمال… حصيلة كل ذلك، اجتمعت في عنوان واحد كانت له الغلبة، هو عنوان تأمين قاعدة ارتكاز داخلية، لتكون لاحقاً نقطة انطلاق صوب المدى السوري، لاستعادته من السلطة الجديدة، فإذا تعذّر الفوز بالكلّ السوري، يُكتفى بالجزء منه، على حساب الجغرافيا السورية، وعلى حساب الشعب السوري، ومن دون التفات إلى مصير الأخير الذي يمكن أن تُلقى فيه سوريا الكيانية.
في العادة، وعند كل حدث مفصلي، يطرح سؤال: من المستفيد؟ هذا السؤال يحضر الآن في الواقع السوري الجديد، والجواب عنه يكون قاصراً إذا قيل: إن المستفيد هو العدو الإسرائيلي. هذا تحصيل حاصل جرى اجتراره طويلاً، وهو مائل للعيان اليوم في الجولان وفي جنوب لبنان، لذلك يصير الاستطراد بالسؤال ضرورياً لكي يبلغ الجواب فسحة النور. إذن، واستطراداً، من المستفيد من اللعب في الميدان السوري اليوم؟ لقد قيل إن فلول النظام السابق هي التي قامت بالانقلاب، وإن تلك الفلول قد تلقّت دعماً خارجياً، وإن قيادتها باتت معلومة، ومعلوم أيضاً من حرّكها، ومن قاد تحركاتها الميدانية.
العلم بأدوات الجريمة، وبهوية المجرمين أمر مهم، ومهم أيضاً العلم بالمحرّض وبالداعم وبالمتدخل، لكن الأهم سيبقى الوقوف أمام نتائج التدخل، وأمام حصيلة الاشتباك الذي ذهب ضحيته المئات من المدنيين، في عملية تصفية وحشية. هذا على صعيد سوري أهلي خاص، والأهم سيبقى موضوع الموقف من الأطراف المتداخلة التي أشير إليها بالبنان وبالبيان.
الرد الرسمي السوري، كان واضحاً في الإدانة، وفي التمسك بمحاسبة القتلة الذين استهدفوا المدنيين، وكان الرّد واضحاً في اختيار إفشال أهداف الانقلاب في بعدها الانشقاقي الاقتتالي الأهلي، وفي بعدها التحالفي الخارجي، الرد السريع منع الاستثمار في الفتنة الطائفية والمذهبية، مثلما منع احتمال التدخل الخارجي، عندما كسر مرتكزاته الداخلية.
خطاب وخطاب
لقد فوجئ “الخطاب” الجاهز بالمرونة الرسمية التي أبداها أولئك القادمون من “الإسلام السياسي” واكتشف كثيرون بأن الحنكة المُدَنية ليست حِكْراً على أبناء الجمعيات، وأن السرعة في التقاط إشارات الحدث، ومن ثم التكيّف معها، ليست اختصاصاً حصريّاً لهذا الكاتب أو لذاك “المفكّر” الاستراتيجي. لعلّه يمكن القول إن مجموع البيانات والشروح التي تناولت الوضع السوري قبل المحاولة الانقلابية، ظهر تَخَلُّفها السياسي عن اللحاق بالآن السوري، بعد فشل تلك المحاولة. لقد طغى على مجموع المقاربات طابع “المطلبية”، وقليلة هي المقاربات التي تخلّت عن لغتها الوعظية الإرشادية، والأقل من هذه وتلك، النصوص التي صدرت من موقع المسؤولية عن سوريا، قبل نظامها، فسارت بمسؤولية أيضاً، على جادّة الموضوعية، وذهبت بناءً على ذلك، إلى معاينة المشهد السوري الجديد، بممكناته، وكما يقدم نفسه في الداخل وحيال الجوار، مع ما يرافق ذلك من مهمّات جِسام، ومع ما يحيق بالمحاولة الجديدة كلها، من مخاطر شديدة، وهي تدق على أبواب الواقع السوري بكل تعقيداته.
مدخل إلى الخطاب
طلب استقرار سوريا هو العنوان الأول البسيط الواضح الذي تحتاجه سوريا اليوم. الاستقرار مدخل إلى الانصراف الهادئ إلى إعادة ما هدمه النظام السابق خلال عقود طويلة.
عناصر الاستقلال، الداخلية والخارجية، هو العنوان الثاني، فالعلاقة بين الداخل والخارج وثيقة، والترابط قائم بين الوطني المحليّ، والسياسة الوطنية الخارجية. تتقدم في الداخل مهمة إعادة صياغة الوحدة الوطنية السورية، صياغة غير قسرية، وغير اختزالية، وفي هذا المجال خطا الحكم الجديد خطوات واقعية ملموسة، وتتقدم في الداخل عملية إعادة بناء “الهيكل” الدولتي العام، وإطلاق العجلة الاقتصادية. فهذه من شروط إعادة إنتاج وتوسيع القاعدة الاجتماعية للحكم الجديد. فحيث يكون يُسْرُ العيش، وحيث تكون الكفاية الاجتماعية، يتراجع الاحتقان الاجتماعي، وتتراجع إمكانات استغلال التوتر وتوظيفه في سياسات زعزعة مجتمعية.
على صعيد خارجي، لا يملك السوريون تَرَف الخصومة مع الجوار القريب، ولا يبدو أنهم يسعون إليه، لكنهم يملكون حق وموقف رفض تدخل الجوار القريب، أو المحيط البعيد، في شؤونهم الداخلية، ويملكون الحق، وعليهم واجب، مطالبة المتدخّل بالكفّ عن سياساته، والمطالبة أيضاً بمساعدتهم على الوقوف في وجه التدخلات الخارجية.
سياسة حسن الجوار، هي ما يرددها الحكم السوري حتى الآن، وسياسة التنبيه هي ما اختارها بديلاً من لغة الاتهام… لذلك من حقّ المسؤول السوري أن يدعو الآخر إلى الالتزام بعلاقة حسن الجوار وأن يعتمد ما يراه ضرورياً من سياسة تعامل مع “الجار” إذا ما أصرّ على إذكاء نار الخصام.
أبعد من سوريا
بات واضحاً حجم الاندفاعة الخارجية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، من ضمن خطة شاملة تصل إلى حدّ إعادة النظر في الكيانات وفي المجتمعات. النموذج الفلسطيني دليل، فما يحتشد في الأفق هجوم اقتلاع للشعب، وهجوم احتلال لما تبقى من أرض فلسطين.
النموذج اللبناني دليل آخر، اتفاق لوقف الأعمال العدائية تخرقه الآلة الحربية الإسرائيلية كل يوم، من دون إدانة، وتعيد القوات المعادية احتلال أجزاء من الأرض، فيطالب السياسي الأميركي بإخلائها، ويقدم طلبات أحادية تستهدف الجانب اللبناني، فتكون عوناً للعدو في عدوانه.
النموذج السوري دليل إضافي، والشواهد تحتشد من الجولان والقنيطرة وحوض اليرموك، إلى تدمير البنية الحربية للجيش السوري، إلى تنصيب العدو نفسه حامياً للأقليات. وهنا أيضاً، لا صوت للسياسة الأميركية إلاّ ذاك المشكّك بقدرة السوريين على إعادة صياغة بنيانهم في إطار وحدة وطنية جديدة، اكتسبت دفعاً لها بعد انضمام العنصر الكردي إليها، وبعد ما تردد عن استعداد العنصر الدرزي للمشاركة في مسيرة البناء الجديدة.
النماذج المستهدفة، تطرح ضرورة الانصراف إلى التفكير بمآل المنطقة العربية كلها، فالخطر يطال مصر مثلما يطاول الخليج مجتمعاً، ومعه سائر البلاد العربية.
التفكير الجماعي العربي، يعيد الاعتبار إلى العامل القومي في حدّه الدفاعي، وفي صيغته التكاملية، بعيداً من أوهام سادت ثم بادت عن كل “الجملة القومية”.
التأسيس على العامل القومي قد يسمح للعرب مجتمعين باحتلال بقعة ولو ضيقة، على خريطة “التواجد” العالمي، كبلدان وكأوطان، هذا لأن طاقة الاندفاعة الأميركية قد تصل إلى حدود تفكيك البنى الموروثة، لإعادة تركيبها بما يلائم ضرورات “الأمركة” المتجددة، التي لم تسلم من ضغط قوتها أوروبا الحليفة، ولا الجيران فوق القارة الأميركية الواحدة. على وجوه شتّى، الشعوب العربية في حال الدفاع عن الوجود، الوجود الفاعل الذي يمنع عنها صفة الشعوب، أو الدول غير النافعة.
في الأثناء، على الخطابة الوطنية، والخطابة العربية، أن تنتبه إلى أن القاموس الحالي، لا يضم بين صفحاته أكداس أماني الخطباء، وعلى هؤلاء أن يدركوا، أنه من غير المعقول الطلب إلى المغنّي الغناء، وعنقه رازحة تحت حدّ السكين.
المدن
—————————-
سوريا الجديدة رهن التفاهمات والاختراقات/ إياد أبو شقرا
16 مارس 2025 م
كانت الصفحة الجديدة التي فُتحت في سوريا، بعد إنهاء 54 سنةً من نظام الأسد، بغنىً عن التطورات المؤلمة خلال الأيام العشرة الأخيرة.
وفي ظنّي أنَّ القيادة الجديدة في دمشق كانت على بيّنة من وجود فلول للنظام السابق، وفئات ارتزقت من تجاوزاته من دون أن تكون بالضرورة جزءاً منه.
في المقابل، أزعم أنَّ ثمة فئات سورية كانت تنظر بعين الشك إلى إمكانية التعايش مع عقيدة القيادة الجديدة، وتفسيرها للإسلام السياسي «عندما يحكم»، وبخاصة، أنَّ السنوات الـ14 الفائتة شهدت أحداثاً دينية ومذهبية وجرائم خطف وإخفاء – من مختلف الأطراف – يرقى بعضها إلى مستوى المجازر. ثم إنَّ القيادة المؤقتة الحالية، على الرغم من الشعبية الواسعة التي استحقتها، أتت في ظروف استثنائية، وتبعاً لميزان قوى ميداني لا ضمانة إطلاقاً أنَّه دائم.
أكثر من هذا، لئن كانت هذه القيادة تتمتَّع راهناً بتأييدين إقليمي ودولي فإنَّ أي مراقب عاقل يدرك جيداً أنَّها لا تحظى بتفويض مطلق، بل ثمة رصدٌ دوليٌّ لأدائها ورقابة لصيقة لتصرفاتها والتزاماتها. ولكن يظلّ لافتاً أنَّ بعض أركان القيادة يبدون مطمئنين إلى المستقبل… ربما أكثر من كثرة كاثرة من المواطنين السوريين.
من جهة ثانية، على الرغم من مؤشرات سابقة لصدام شبهِ حتمي، فإنَّ السرعة التي أُعلن فيها «التفاهم» بين سلطة دمشق الجديدة وأكراد «قسد» المسيطرين على شمال شرقي سوريا، تعطي انطباعاً قوياً بأنَّ واشنطن متعايشة تماماً مع السلطة في دمشق. وكون «قسد» جزءاً لا يتجزأ من ترتيب واشنطن للحالة السورية، فمضمون الرسالة أن وحدة الكيان السوري لن تتهدّد – بخلاف ما كان يُظن – عبر عصيان انفصالي كردي. وهكذا، يبدو أن كل ما أنجزته «قسد» خلال الفترة الماضية كان «تحسيناً لشروط» تفاهمها مع سلطة دمشق، وتشجيعاً للموحّدين الدروز في الجنوب السوري على النسج على منواله.
الموحّدون الدروز، بالذات في الجنوب السوري، يشكّلون قوة مؤثرة في المعادلة، إلا أنَّ الأمور تبدو اليوم أقل وضوحاً وربما أبطأ حسماً. ولكن المراقب الحصيف بات يشعر أنَّ «الهجمة» الإسرائيلية غير المسبوقة لـ«حماية» الدروز و«دعمهم» تربك المشهدَ في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. وهذا، مع أنَّ أي طلب درزي علني من هذا القبيل لم يقدَّم، بل يستبعد كثيرون أن تتبنّاه علانيةً أي قيادة درزية سياسية أساسية.
الدروز أدركوا «زخم» الهجمة الإسرائيلية الضاغطة عليهم عندما تكلَّم بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس عن مبلغ المليار دولار الذي رصدته إسرائيل لهذا الغرض. والمؤكد أنَّ تطوراً كهذا لا يمكن أن يكون «ابن ساعته». بل المرجّح أنَّ بذرته بُذِرت قبل فترة غير قصيرة داخل سوريا، وأيضاً في لبنان وبلدان الاغتراب، وفي مقدّمها الولايات المتحدة… حيث يتمتع «اللوبي الإسرائيلي» بهامش واسع للحركة والإغراء والضغط والاختراق الاستخباراتي.
وبالفعل، بينما عمل مناضلو السويداء – من مختلف التنظيمات والفصائل – للتوصّل إلى تفاهمات مع دمشق صوناً للوحدة الوطنية، وتأكيداً للعلاقات الأخوية بين المكوّنات السورية، كانت ثمة قوة تمارس «الفيتو» وترفع السقف وتشكّك في التفاهمات. وفي اعتقادي أنَّه، حتى إزاء المنطقة الجنوبية، أي محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة، لا توجد خلافات أساسية تذكر بين أولويات واشنطن وحسابات نتنياهو في مقاربة مستقبل المنطقة.
ونصل إلى الساحل الجريح، حيث الكثافة السكانية العلوية في أرياف محافظتي اللاذقية وطرطوس وضواحي مدن الساحل الأربع؛ أي اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس.
إنَّ تحرّك جماعات مسلحة محسوبة على النظام، أو بعض أجنحته، ما كان ليحدث لولا الدعم الإيراني. وفعلاً، لم تُخفِ التصريحات الإيرانية الرسمية، التي سبقت التحركات وتداعياتها الفظيعة، موقفَ إيران بأنَّ سلطات دمشق الجديدة غير مرغوب فيها، وأنَّ بقاءها مؤقت. ولكن قد يتساءل المرء هنا عمّا إذا كانت القيادة في طهران أخطأت قراءة المعطيات، وأساءت فهم علاقة سلطة دمشق الجديدة بالمجتمع الدولي، وبالذات، واشنطن.
المنطق يقول إنَّ الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية ضد عودة النفوذ الإيراني. وهذا ما قد يفسّره وجود «سقف» لفظي لرد فعل التحرك الأميركي – الروسي في مجلس الأمن على المجازر التي ارتكبت في الساحل خلال الأسبوع الماضي، وقدّر عدد ضحاياها بنحو 1225 قتيلاً.
إذ ندّد مجلس الأمن بـ«المجازر» بحق المدنيين، وطالب سلطة دمشق بـ«حماية جميع السوريين من دون تمييز»، وأدان العنف في محافظتي الساحل، وبالأخص بحق المدنيين العلويين. ثم دعا السلطة إلى ملاحقة «كلّ المسؤولين» عن أعمال العنف أمام القضاء، واتّخاذ «تدابير كي لا تتكرّر هذه الأفعال، بما فيها أعمال العنف التي طالت أشخاصاً بسبب انتمائهم الإثني أو ديانتهم أو معتقداتهم».
ختاماً، أعلنت في دمشق «مسودة الإعلان الدستوري»، وجاء عدد من نقاطها مثيراً للجدل بالنسبة للبعض، ولا سيما لجهة الحصر الفعلي للسلطات في يد الرئيس، وجعل الفترة الانتقالية خمس سنوات، وحلّ المحكمة الدستورية، ومنح الرئيس – ولو مؤقتاً – حق تعيين محكمة دستورية جديدة.
بالنسبة للمنتقدين، كان من الأفضل تفادي التذكير بالماضي القريب. وبالتالي، توسيع دائرة التمثيل وطمأنة المكوّنات بدلاً من الإصرار على «تجربة المجرّب» وإعادة استنهاض الهواجس.
إنَّ التنوّع يثري سوريا ويحميها، ناهيك من أنها بحاجة في هذه المرحلة لجهود كل الكفاءات وإسهامات كل المخلصين من دون إقصاء أو تهميش.
الشرق الأوسط»
—————————-
سوريا… انطلاق العجلة/ عالية منصور
15 مارس 2025
تتسارع الأحداث في سوريا بسرعة كبيرة، وفي كل يوم ثمة شيء جديد. فتنة في الساحل ظنها البعض بداية مشروع تقسيم سوريا وتفتيتها، وبينما الجميع يراقب ويترقب ما يحصل في جبال الساحل السوري ومدنه، فإذا بالرئيس السوري أحمد الشرع يستقبل في قصر الشعب، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي ويوقعان اتفاقا وصف بالتاريخي.
اتفاق أنهى مشروع فتنة عربية-كردية، تم دون قتال، ووحد سوريا عمليا، وقضى على مشروع راهن عليه الكثيرون في الخارج والداخل لتقسيم سوريا وتفتيتها.
أهم ما في الاتفاق، والذي يحتاج تنفيذ بنوده إلى آخر العام الحالي، هو وحدة الدولة السورية وعاصمتها دمشق، وللدولة جيش واحد لا جيشان، واعتراف رئيس الجمهورية السورية بالمجتمع الكردي كجزء أصيل من سوريا.
إذن لا تقسيم ولا إقصاء، ولكن لم تنته القصة هنا. فبينما كان السوريون يحتفلون بتوقيع الاتفاق كانت الأنباء تتوالى عن قرب التوصل إلى تفاهم، مع محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية.
وصحيح أن تفاهمات مبدئية تمت مع عدة فصائل وجهات سياسية في المحافظة، إلا أن الوضع في السويداء ليس كالوضع في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”. ففي السويداء هناك عدة جهات، وليست هناك “قيادة” موحدة، فإن تم التفاهم مع جهة اعترضت جهة أخرى، وبعض هذه الاعتراضات يرتبط بمن يرى نفسه “الأحق” بتمثيل المحافظة وتمثيل الموحدين الدروز في سوريا، فهناك طموح “الزعامة” ولا يستخف أحد بما قد يفعله مثل هذا الطموح في عقول البعض.
ذهب شيخ العقل حكمت الهجري بتهديداته للدولة السورية، لم يبد أي اكتراث حقيقي بـ”الدولة الوطنية” التي استخدمها ذريعة منذ اليوم الأول، لسقوط نظام بشار الأسد، واستلام أحمد الشرع زمام الأمور، فتحول خطابه إلى خطاب طائفي تقسيمي بامتياز، ولم تغب إسرائيل عن المشهد، فكانت زيارة بعض مشايخ العقل في القرى الحدودية إلى إسرائيل. ولكن من أجل كل ذلك، على الشرع والقيادة في دمشق الاستمرار في التواصل مع عقلاء الطائفة والوطنيين، ولا تسمح لفئة أن تهمش فئات في السويداء وغيرها.
بين هذا وذاك صدر الإعلان الدستوري، وهو إعلان تسبب في حالة اعتراض عند الكثيرين، فرأوا فيه مشروع قيام ديكتاتورية جديدة في سوريا، تنحصر معظم الصلاحيات فيها بيد رئيس الجمهورية. فيما رأى آخرون أن المرحلة الاستثنائية التي تمر بها سوريا، تحتاج إلى نظام رئاسي تتركز فيه الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية، فلا تدخل البلاد في رحلة التعطيل خلال المرحلة الانتقالية، كما حصل في بعض الدول بعد تجارب الربيع العربي.
لقد عانى السوريون كثيرا طيلة سنوات حكم “البعث” والأسدين، ودفعوا أثمانا باهظة جدا ليتحرروا من الديكتاتورية، ومن الطبيعي أن يكون اليوم “عامل الثقة” هو الأضعف، وخصوصا إذا ما راقبنا اليوم الانقسام الحاصل، حيث لم يعد الانقسام بين ثورة ونظام، بل بين من يريد العدالة ومن يطالب بالتسامح، من يريد دولة المواطنة والمساواة ومن يريد دولة تحكمها الشريعة والأكثرية التي همشت طيلة 54 عاما، بين من يريد سوريا موحدة، ومن يلوح بالانفصال والتقسيم، لابتزاز السلطة في دمشق عند كل مفترق، بين من يريدها علمانية خالصة ومن طالب بالفقه مصدرا للتشريع ومن يطالب بالشريعة.
في سوريا الكثير من الألغام، ولكن هناك اليوم أيضا الكثير من الفرص، والفرصة الأهم هي بتحاور السوريين ليصلوا إلى أكبر حيز من المشتركات بين بعضهم البعض، وقد تكون فكرة مؤتمر الحوار الدائم، فكرة تقلص من حجم الانقسامات، بعد إعادة التأكيد على ما اتفق عليه، “سوريا دولة موحدة يتساوى فيها الجميع”.
الألغام ما زالت مزروعة بكثرة في سوريا، وتفكيكها قبل أن تبدأ بالانفجار مجددا يحتاج إلى جهود الجميع، واليوم سوريا بحاجة إلى انطلاق مسار إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، بحاجة إلى رفع العقوبات، وهذا إن حصل سينزع فتيل الكثير من الألغام، وسيسحب من بين أيادي المخربين الخارجين ورقة يستخدمونها في الداخل.
ولنتذكر أنه وقبل أشهر من اليوم، كانت طائرات جيش نظام بشار الأسد، تلقي البراميل المتفجرة فوق رؤوس السوريين، وها هي مروحيات الجيش اليوم تلقي الورود على المحتفلين بعيد الثورة، وهذا ليس تفصيلا، هذا الإنجاز الذي تحقق بدماء وتضحيات الملايين، يجب أن نتمسك به جميعا للعبور إلى سوريا التي نريد.
المجلة
————————————
لجنة التحقيق بأحداث الساحل تواجه تحديات الوقت وحماية الأدلة/ علي درويش
خبراء: محاكمة المتورطين تعزز الثقة
تحديث 16 أذار 2025
هجمات كر وفر لفلول النظام السابق، آلاف المقاتلين توجهوا إلى مناطق الساحل السوري لصد هذه الهجمات، الخاسر الأبرز في هذه الأحداث كان القوات الأمنية الحكومية إلى جانب المدنيين.
الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، سارع إلى الظهور للتعليق على الأحداث التي بلغت أوجها بين 6 و8 من آذار الحالي، وشكل لجنتين، إحداهما للسلم الأهلي، والأخرى للتحقيق والتقصي.
قرار تشكيل اللجنة العليا للحفاظ على السلم الأهلي، صدر في 9 من آذار، وضمّت ثلاثة أعضاء، هم حسن صوفان، والدكتور أنس عيروط، والدكتور خالد الأحمد، وكُلفت بالتواصل المباشر مع الأهالي في الساحل السوري للاستماع إليهم، وتقديم الدعم اللازم لهم بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم.
كما ستعمل اللجنة على تعزيز الوحدة الوطنية في هذه المرحلة الحساسة، بحسب نص القرار.
أما لجنة التحقيق وتقصي الحقائق، فمهامها الكشف عن الفاعلين في عمليات قتل المدنيين خلال العمليات العسكرية، إلى جانب مهام أخرى، لكن هذه اللجنة من المتوقع أن تواجه عوائق في عملها.
خطوة أولى.. أهمية لازمة
الباحث في الشأن السوري عبد الرحمن الحاج، أوضح أن اللجنة هي الخطوة الأولى التي تسبق المحاكمات، فمهمتها الرئيسة التحقيق للكشف عن حقيقة ما حدث في الساحل، وتحديد الفاعلين والمتسببين بتلك الأحداث الدموية، والمشتبه بهم، والضحايا، وجمع الأدلة والشهود وحمايتهم وتقديم الجناة للعدالة.
وأضاف الحاج لعنب بلدي أن الشرع أصدر القرار بسبب الطبيعة السياسية والأمنية للأحداث، وبصفته رئيس السلطة التنفيذية، وكان يمكن إصدار مثل هذا القرار من وزير العدل، لكن أهمية اللجنة وحساسيتها دفعت على ما يبدو الشرع إلى تشكيلها، و”صدورها عن الشرع يكسبها الأهمية اللازمة”.
مدى حيادية اللجنة يرجع إلى سمعة القضاة وأعضاء اللجنة، وهم يتمتعون بالسمعة الطيبة والنزاهة اللازمة، وكان لهم موقف من “هيئة تحرير الشام” (موقف معارض لها)، ومعظمهم قضاة منشقون، “أي أنهم ليسوا جزءًا من السلطة وليسوا طرفًا، مما يضمن في الحد الأدنى النزاهة اللازمة”، وفق تعبير الحاج.
وتضم اللجنة القضاة هنادي أبو عرب وجمعة الدبيس العنزي وخالد عدوان الحلو وعلي النعسان وعلاء الدين يوسف لطيف، والعميد عوض أحمد العلي، والمحامي ياسر الفرحان.
ما مهام اللجنة؟
بحسب بيان رئاسة الجمهورية حول اللجنة الصادر في 9 من آذار، يناط باللجنة:
الكشف عن الأسباب والظروف والملابسات التي أدت إلى وقوع تلك الأحداث.
التحقيق في الانتهاكات التي تعرض لها المدنيون وتحديد المسؤولين عنها.
التحقيق في الاعتداءات على المؤسسات العامة ورجال الأمن والجيش وتحديد المسؤولين عنها.
من مهامها أيضًا إحالة من يثبت تورطهم بارتكاب الجرائم والانتهاكات إلى القضاء.
ويتعين على جميع الجهات الحكومية المعنية التعاون مع اللجنة بما يلزم لإنجاز مهامها، كما يحق للجنة الاستعانة بمن تراه مناسبًا لأداء مهامها، وترفع تقريرها إلى رئاسة الجمهورية في مدة أقصاها 30 يومًا من تاريخ صدور القرار.
وأوضح المتحدث باسم اللجنة، المحامي ياسر الفرحان، خلال مؤتمر صحفي عقد بدمشق، في 11 من آذار الحالي، أن اللجنة ستضع برنامجًا لمقابلة الشهود وكل من يمكنه المساعدة في التحقيق، وتحديد المواقع التي يجب زيارتها، ووضع آليات للتواصل مع اللجنة، والتي سيتم الإعلان عنها قريبًا.
وقال الفرحان، إن اللجنة ستكون موجودة على الأرض، وستستمع إلى شهود عيان، ولن تكتفي بما ينشر على وسائل التواصل من مقاطع مسجلة.
وستفصح اللجنة عن نتائج تحقيقاتها، وستلتزم بالحفاظ على خصوصية الشهود وستقدم هذه النتائج إلى القضاء والمحاكم المختصة، كما تعمل على تحضير لوائح بالشهود المحتملين مع توفير حماية لأي شاهد يطلب الإدلاء بإفادته تحت برنامج حماية الشهود.
الفرحان اعتبر أنه “لا أحد فوق القانون”، مؤكدًا أن اللجنة ستقدم ما تتوصل إليه من نتائج إلى رئاسة الجمهورية وإلى القضاء، الذي بدوره يجرّم أو يحكم بالبراءة.
لا أحد فوق القانون.. هل يعاقب الشرع قادته
أشار عبد الرحمن الحاج إلى العوائق الرئيسة التي ستواجه عمل اللجنة، وتكمن بالدرجة الأولى في طمس الأدلة والتلاعب بها، ومحاولة الأطراف المختلفة التأثير عليها، وخوف الشهود من الإدلاء بشهادتهم، وحماية الأدلة التي عثروا عليها.
يضاف إلى ذلك أن المدة الزمنية المحددة لعمل اللجنة قد لا تكفي للوصول إلى نتائج حاسمة، لذلك فهي تبذل جهودًا هائلة للتوصل إلى نتائج تحقيق حاسمة ويمكن الوثوق بها، وفق تعبير الحاج.
وإذا ثبت تورط قادة مقربين من الرئيس الشرع، فلن يكون بإمكان الرئيس سوى إخضاعهم للمحاكمة، والتزامه هذا يعزز ثقة الناس بالدولة ويرسخ حكم القانون، ومن مصلحته ومصلحة البلاد الالتزام بنتائج التحقيق ومحاسبة الجناة، وفق الحاج.
بكلمته في 9 من آذار الحالي، تعهد الشرع بمحاسبة أي شخص قتل مدنيين، بقوله، “لن يكون هناك أي شخص فوق القانون، وكل من تلوثت يداه بدماء السوريين سيواجه العدالة عاجلًا غير آجل”.
وقال إن الدولة السورية تجرّم أي دعوة أو نداء يسعى للتدخل في شؤون سوريا أو يدعو لبث الفتنة أو تقسيم سوريا، “فلا مكان بيننا لمثل تلك الدعوات، سوريا بكل مكوناتها ستظل موحدة بعزيمة شعبها وقوة جيشها، ولن نسمح لأي جهة كانت أن تعبث بوحدتها الوطنية، أو تفسد السلم الأهلي”.
وشدد الشرع على أن سوريا لن تجر إلى حرب أهلية، “سوريا ستظل صامدة ولن نسمح لأي قوى خارجية أو أطراف محلية أن تجرها إلى الفوضى أو الحرب الأهلية، ونحن على العهد ماضون مصممون على المضي قدمًا نحو المستقبل الذي يليق بشعبنا العظيم”.
هجوم الفلول
في 6 من آذار، هاجمت مجموعات من فلول النظام السابق نقاطًا وحواجز لـ”إدارة الأمن العام” وقطعًا عسكرية تتبع لوزارة الدفاع، ولم تسلم المستشفيات وحتى سيارات المدنيين من هذا الهجوم.
حوصر خلال الهجمات عناصر من وزارة الدفاع و”إدارة الأمن العام” وسقط العشرات منهم إلى جانب مقتل مدنيين، وقوبل ذلك بإرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة لإيقاف الهجوم وفك الحصار، ورافق التعزيزات توجه مجموعات عسكرية إلى المنطقة دون تنسيق واضح مع وزارة الدفاع أو الأمن العام.
الاشتباكات احتدت بين الطرفين، واستطاعت أخيرًا القوات الحكومية السيطرة على الموقف، لكن أدت العمليات العسكرية إلى مقتل مدنيين.
الرئيس الشرع حمّل فلول النظام السابق من “الفرقة الرابعة” التي كان يقودها ماهر الأسد، ودولة أجنبية متحالفة معهم (لم يسمِّها)، مسؤولية سفك الدماء في الساحل السوري، لإثارة الاضطرابات وخلق فتنة طائفية، مع الإقرار بحدوث عمليات انتقام تلت ذلك.
“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثقت مقتل 803 أشخاص في الفترة ما بين 6 و10 من آذار، في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة.
وسجلت الشبكة مقتل 172 عنصرًا على الأقل من القوات الأمنية والشرطية والعسكرية (قوات الأمن الداخلي ووزارة الدفاع)، و211 مدنيًا بينهم أحد العاملين في المجال الإنساني على يد المجموعات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد، والتي هاجمت أيضًا ستة مستشفيات في طرطوس واللاذقية.
كما وثقت الشبكة مقتل ما لا يقل عن 420 شخصًا من المدنيين والمسلحين منزوعي السلاح “على يد القوى المسلحة المشاركة في العمليات العسكرية (الفصائل والتنظيمات غير المنضبطة التي تتبع شكليًا لوزارة الدفاع).
عنب بلدي
———————-
============================