عن مسلسل”البطل”: حكاية سورية تروي مأساتنا/ سميرة المسالمة

16 مارس 2025
وجبة من ألم الواقع تحفر عميقًا في ذكريات زمنٍ حاضر، وكأنه الماضي البعيد، وكأنه المستقبل الذي يرزح أمامنا، فاتحًا ثغره مندهشًا من قدرته على التنكيل بنا ونكش عوالمنا المخفية.
هكذا اختطفني مشهد الفنان بسام كوسا في إحدى حلقات مسلسل “البطل” حين يستيقظ منتصف الليل على وجعه، ويصرخ كأنه في بيتي، لقد صارت شاشة التلفاز داخل عالمي، في غرفة مجاورة، حيث أسمع أنين زوجي المريض، فلا أميز بين الحقيقة والحكاية، فأسحب من درجِه أدوية المسكنات وأهرع إليه، ثم أسقط باكيةً بين يدي ابني، فيقول لي: “هذا مسلسل يا أمي، والدي مات، خفف الله عنه تلك السنوات الصعبة، لقد نكأ جراحنا”، فأسأله: كيف يستطيع الفن أن يكون “نحن”؟ أن نشاهد من خلاله ما تخفيه عنا مرايا مصقولة، أن يرتب يومياتنا كأنه ذلك القلم الذي يخطها، يصور فقرنا وكرمنا، عزة أنفسنا وضعفنا، حنيننا إلى الحب والحياة وسط ركام الموت المتربص بنا.
كنت أظن أن زمن الدراما الأصيلة بنصوصها ومشكلاتها ولغتها وبيئتها المحلية قد ولّى دون رجعة، في ظل هيمنة شاملة للدراما المعربة، وديكوراتها الفخمة، وقصورها المسقوفة تحت قبة سماوية لا هوية لها، وقضاياها التي تعلو فوق واقع الناس. لكن الكتّاب الليث حجو ورامي كوسا ولواء يازجي، الذين عملوا على تطوير فكرة مسرحية الكاتب الراحل ممدوح عدوان “زيارة الملكة”، بددوا بذلك العمل النواح على زمن الفن الجميل، وأمسكونا من أيدينا، ووضعونا في مواجهة شاشة تنزّ بمعاناتنا، عبر أداء جيد من كل المشاركين فيه.
لقد كتبنا مسلسل “البطل” كما لو أننا سطور في دفتره، صاغ كل حرف على مقاس تجاربنا المريرة، تحت وابل القصف، على مقاعد الدراسة، بين الدروب المهدمة، في الباصات المتهالكة، وفي زوايا بيوتنا التي ترتجف خوفًا من السقوط، والبرد، وغياب المحب. كتب عن عمر نسرقه فيسرقنا، عن خوف المواجهة مع أعمارنا، وعن أحلى لحظات الصدق في عشقنا. كتب عن مهندس الكلمات في وعينا، عن المعلم، تلك المهنة التي لم تأخذ في عصر السرعة اهتمام الموازنات الحكومية، فتم تناسي رفع عوائدها، ليضيع أربابها بين بيوت الطلاب بحثًا عن ستر أحوالهم المعيشية.
حافظ كُتّاب المسلسل على القيمة المجتمعية والهالة التقديرية للمعلم بين أبناء قريته، في وقتٍ عمل فيه النظام الأسدي على تضييع معايير الاحترام والتقدير بين الناس، لا سيما تجاه طبقة الموظفين، من خلال رفع شأن الفاسدين في المجتمع، والحطّ من قدر المتعلمين وأصحاب المهن التربوية والخدمية. صار معيار المكانة المرموقة مرتبطًا بقيمة الحسابات المصرفية، بغض النظر عن مصدرها. ورغم ذلك، يقدم لنا المسلسل حتى منتصفه نموذجًا لمجتمع بسيط لا تزال معاييره مرتبطة بأخلاقيات وقيم نحتاجها لإعادة بناء أنفسنا قبل مجتمعاتنا.
من جهته، قدم لنا المخرج حقيقة الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والإعلامي باحترافية بدون بهرجة، بتفاصيله وألوانه الطبيعية، بسوادها وبياضها ورماديتها. حتى في أكاذيبنا عن السلطة السياسية وقدراتها وفسادها، تحرر في كثير من المشاهد من “غمغمة” الأحداث، ومنح جميع الفنانين المشاركين دور البطولة، كلٌّ في حكايته: من المهجرين إلى الخلاء، إلى الحالمين، إلى الباحثين عن فرص النجاة من الفقر والموت والانتقام. ضيعة صغيرة تحوي كل سورية.
والأهم أن حكايتها تجرنا إلى مأساة نعيشها جميعًا، كل يوم، عندما تملّنا وظائفنا، وتطردنا منها قوانين التقاعد التي تحصي سنواتنا الماضية وتغلق أبواب الحاضر، كأنها تقول لنا: “انتهت صلاحيتكم لهذه الحياة”، متجاهلةً أن تلك السنوات لا تُمثّل مجرد أرقام، بل هي التجربة والخبرة وتطوراتها. ولهذا، أوجدت بعض دول العالم مجالات عمل تستوعب هذه الخبرات وتستفيد منها، بدلًا من أن ترميها إلى مجهول العوز المادي، وأحيانًا الاجتماعي.
حتى منتصف المسلسل، وعلى غير العادة، البطل شخصية إيجابية: مدير مدرسة، يمارس حياته داخل البيت وخارجه وفقًا لقيم وأخلاقيات نبيلة، يعيش أزماته ويواجه المصاعب من دون أن يوسوس له شيطان “المصلحة” أو “الانتفاع”. ورغم أن المجتمع الذي يحيطه بالاحترام لم يعد متوفرًا في كثير من المدن والقرى، إلا أن ذلك لم يبعده عن الواقعية، بل واجه الواقع بما ينبغي أن يكون عليه المعلم في مجتمعه: نموذجًا تعليميًا، وتنويريًا، وثقافيًا، وتسامحيًا. كما طرح، بدون تخصيص مباشر، مشكلات الوظيفة العامة في بلد لا توفر للعاملين فيها تأمينًا صحيًا، أو تعويضًا ماليًا يكفل لهم حياةً كريمةً بعد التقاعد.
كما قدم المسلسل شخصيات متنوعة (نور علي، خالد شباط، جيانا عيد، نانسي خوري، وسام رضا، هيما إسماعيل وجميع الفنانين) حيث تتقاطع همومهم مع ما يعانيه كل السوريين، الذين يعيشون في ظل الفساد، وغياب الأمن، والتضييق على الحريات الإعلامية، وتضليل الرأي العام، وفقدان الاحتياجات الأساسية، مما يدفع بعضهم إلى الانخراط في أعمال غير قانونية أو إجرامية، وهي كلها تستدعي ثورة شعبية ضد المسبب الرئيسي لها.
ولا يمكن النظر إلى الفنان محمود نصر في دور فرج على أنه النسخة الشريرة المقابلة لدور المعلم يوسف، لأن التعاطف المتصاعد معه جاء نتيجة طبيعية للحصار المالي والمجتمعي الذي يعانيه معظم شباب سورية، حيث الفساد والمحسوبية هي السمة الغالبة، في ظل الهيمنة الأمنية والاقتصادية من عائلة الأسد، التي تدير أعمال العصابات وتهريب المخدرات. ما يجعل هذا العمل، رغم طابعه الاجتماعي، سرديةً توثيقيةً لمسارات بشرية لم تكن تريد المعارضة أو الموت، لكنها وجدت نفسها داخل مطحنة المأساة السورية.
من الممتع أن تعلن الدراما السورية عودتها بحكاياتها المحلية المتحررة من تبعيات الرقابة البعثية، وتطرح الأحداث بدون اصطفافات سياسية مسبقة، لتترك للمشاهد مهمة الحكم. ففي هذا العمل، المشاهد هو الجهة الأمنية الوحيدة التي تقبض على القصة وتحاكمها وفقًا لمعاييره الأخلاقية والتسامحية، وهو الذي يمنح الأعذار المستحقة لشعبٍ أراد فقط تجنب المهالك والنجاة من تحت “مكبس” سجون الأسد (الأب والابن)، فليس كل الشعب مواليًا، وليس كل موظفٍ مدانًا.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة
عن مسلسل”البطل”: حكاية سورية تروي مأساتنا/ سميرة المسالمة
16 مارس 2025
وجبة من ألم الواقع تحفر عميقًا في ذكريات زمنٍ حاضر، وكأنه الماضي البعيد، وكأنه المستقبل الذي يرزح أمامنا، فاتحًا ثغره مندهشًا من قدرته على التنكيل بنا ونكش عوالمنا المخفية.
هكذا اختطفني مشهد الفنان بسام كوسا في إحدى حلقات مسلسل “البطل” حين يستيقظ منتصف الليل على وجعه، ويصرخ كأنه في بيتي، لقد صارت شاشة التلفاز داخل عالمي، في غرفة مجاورة، حيث أسمع أنين زوجي المريض، فلا أميز بين الحقيقة والحكاية، فأسحب من درجِه أدوية المسكنات وأهرع إليه، ثم أسقط باكيةً بين يدي ابني، فيقول لي: “هذا مسلسل يا أمي، والدي مات، خفف الله عنه تلك السنوات الصعبة، لقد نكأ جراحنا”، فأسأله: كيف يستطيع الفن أن يكون “نحن”؟ أن نشاهد من خلاله ما تخفيه عنا مرايا مصقولة، أن يرتب يومياتنا كأنه ذلك القلم الذي يخطها، يصور فقرنا وكرمنا، عزة أنفسنا وضعفنا، حنيننا إلى الحب والحياة وسط ركام الموت المتربص بنا.
كنت أظن أن زمن الدراما الأصيلة بنصوصها ومشكلاتها ولغتها وبيئتها المحلية قد ولّى دون رجعة، في ظل هيمنة شاملة للدراما المعربة، وديكوراتها الفخمة، وقصورها المسقوفة تحت قبة سماوية لا هوية لها، وقضاياها التي تعلو فوق واقع الناس. لكن الكتّاب الليث حجو ورامي كوسا ولواء يازجي، الذين عملوا على تطوير فكرة مسرحية الكاتب الراحل ممدوح عدوان “زيارة الملكة”، بددوا بذلك العمل النواح على زمن الفن الجميل، وأمسكونا من أيدينا، ووضعونا في مواجهة شاشة تنزّ بمعاناتنا، عبر أداء جيد من كل المشاركين فيه.
لقد كتبنا مسلسل “البطل” كما لو أننا سطور في دفتره، صاغ كل حرف على مقاس تجاربنا المريرة، تحت وابل القصف، على مقاعد الدراسة، بين الدروب المهدمة، في الباصات المتهالكة، وفي زوايا بيوتنا التي ترتجف خوفًا من السقوط، والبرد، وغياب المحب. كتب عن عمر نسرقه فيسرقنا، عن خوف المواجهة مع أعمارنا، وعن أحلى لحظات الصدق في عشقنا. كتب عن مهندس الكلمات في وعينا، عن المعلم، تلك المهنة التي لم تأخذ في عصر السرعة اهتمام الموازنات الحكومية، فتم تناسي رفع عوائدها، ليضيع أربابها بين بيوت الطلاب بحثًا عن ستر أحوالهم المعيشية.
حافظ كُتّاب المسلسل على القيمة المجتمعية والهالة التقديرية للمعلم بين أبناء قريته، في وقتٍ عمل فيه النظام الأسدي على تضييع معايير الاحترام والتقدير بين الناس، لا سيما تجاه طبقة الموظفين، من خلال رفع شأن الفاسدين في المجتمع، والحطّ من قدر المتعلمين وأصحاب المهن التربوية والخدمية. صار معيار المكانة المرموقة مرتبطًا بقيمة الحسابات المصرفية، بغض النظر عن مصدرها. ورغم ذلك، يقدم لنا المسلسل حتى منتصفه نموذجًا لمجتمع بسيط لا تزال معاييره مرتبطة بأخلاقيات وقيم نحتاجها لإعادة بناء أنفسنا قبل مجتمعاتنا.
من جهته، قدم لنا المخرج حقيقة الواقع السياسي والأمني والاقتصادي والإعلامي باحترافية بدون بهرجة، بتفاصيله وألوانه الطبيعية، بسوادها وبياضها ورماديتها. حتى في أكاذيبنا عن السلطة السياسية وقدراتها وفسادها، تحرر في كثير من المشاهد من “غمغمة” الأحداث، ومنح جميع الفنانين المشاركين دور البطولة، كلٌّ في حكايته: من المهجرين إلى الخلاء، إلى الحالمين، إلى الباحثين عن فرص النجاة من الفقر والموت والانتقام. ضيعة صغيرة تحوي كل سورية.
والأهم أن حكايتها تجرنا إلى مأساة نعيشها جميعًا، كل يوم، عندما تملّنا وظائفنا، وتطردنا منها قوانين التقاعد التي تحصي سنواتنا الماضية وتغلق أبواب الحاضر، كأنها تقول لنا: “انتهت صلاحيتكم لهذه الحياة”، متجاهلةً أن تلك السنوات لا تُمثّل مجرد أرقام، بل هي التجربة والخبرة وتطوراتها. ولهذا، أوجدت بعض دول العالم مجالات عمل تستوعب هذه الخبرات وتستفيد منها، بدلًا من أن ترميها إلى مجهول العوز المادي، وأحيانًا الاجتماعي.
حتى منتصف المسلسل، وعلى غير العادة، البطل شخصية إيجابية: مدير مدرسة، يمارس حياته داخل البيت وخارجه وفقًا لقيم وأخلاقيات نبيلة، يعيش أزماته ويواجه المصاعب من دون أن يوسوس له شيطان “المصلحة” أو “الانتفاع”. ورغم أن المجتمع الذي يحيطه بالاحترام لم يعد متوفرًا في كثير من المدن والقرى، إلا أن ذلك لم يبعده عن الواقعية، بل واجه الواقع بما ينبغي أن يكون عليه المعلم في مجتمعه: نموذجًا تعليميًا، وتنويريًا، وثقافيًا، وتسامحيًا. كما طرح، بدون تخصيص مباشر، مشكلات الوظيفة العامة في بلد لا توفر للعاملين فيها تأمينًا صحيًا، أو تعويضًا ماليًا يكفل لهم حياةً كريمةً بعد التقاعد.
كما قدم المسلسل شخصيات متنوعة (نور علي، خالد شباط، جيانا عيد، نانسي خوري، وسام رضا، هيما إسماعيل وجميع الفنانين) حيث تتقاطع همومهم مع ما يعانيه كل السوريين، الذين يعيشون في ظل الفساد، وغياب الأمن، والتضييق على الحريات الإعلامية، وتضليل الرأي العام، وفقدان الاحتياجات الأساسية، مما يدفع بعضهم إلى الانخراط في أعمال غير قانونية أو إجرامية، وهي كلها تستدعي ثورة شعبية ضد المسبب الرئيسي لها.
ولا يمكن النظر إلى الفنان محمود نصر في دور فرج على أنه النسخة الشريرة المقابلة لدور المعلم يوسف، لأن التعاطف المتصاعد معه جاء نتيجة طبيعية للحصار المالي والمجتمعي الذي يعانيه معظم شباب سورية، حيث الفساد والمحسوبية هي السمة الغالبة، في ظل الهيمنة الأمنية والاقتصادية من عائلة الأسد، التي تدير أعمال العصابات وتهريب المخدرات. ما يجعل هذا العمل، رغم طابعه الاجتماعي، سرديةً توثيقيةً لمسارات بشرية لم تكن تريد المعارضة أو الموت، لكنها وجدت نفسها داخل مطحنة المأساة السورية.
من الممتع أن تعلن الدراما السورية عودتها بحكاياتها المحلية المتحررة من تبعيات الرقابة البعثية، وتطرح الأحداث بدون اصطفافات سياسية مسبقة، لتترك للمشاهد مهمة الحكم. ففي هذا العمل، المشاهد هو الجهة الأمنية الوحيدة التي تقبض على القصة وتحاكمها وفقًا لمعاييره الأخلاقية والتسامحية، وهو الذي يمنح الأعذار المستحقة لشعبٍ أراد فقط تجنب المهالك والنجاة من تحت “مكبس” سجون الأسد (الأب والابن)، فليس كل الشعب مواليًا، وليس كل موظفٍ مدانًا.
*كاتبة سورية.
ضفة ثالثة