في مفهوم السعادة: إشكالي ومعقد ويكاد يكون بلا تعريف/ سوسن جميل حسن

16 مارس 2025
فجأة طرحت على نفسي مفهوم السعادة، ليس من منطلق ذاتي أبحث من خلاله على جواب عما إذا كنت سعيدة أم لا، فهذا أمر أزعم انني لم أطرحه صراحة على نفسي في يوم ما، وربما يشترك معي كثيرون غيري، فسؤال السعادة مضمر في زاوية عميقة من النفس، يظهر إلى الضوء بشكل موارب ومضلل، خاصة عند التعثر في الحياة، أو استحالة تحقيق كثير من الرغبات. فالسعادة، التي يريد الكثير من الناس تحقيقها، ليست بديهية. لأنه من الصعب أن نرغب في أن نكون سعداء، كما هي الحال في عدم الرغبة في أن نكون. وهو ما لا يمنع السعادة من أن تكون أكثر الأشياء المرغوبة في العالم في عصر ما بعد الحداثة. عندما نقيس آثار مثل هذه الرغبة علينا، نشعر بالضيق، فنحن في حالة من “الاغتراب” عن أنفسنا، تزداد باضطراد. وكأن السعادة التي ترغب فيها غالبية العالم مسطحة جدًا، فارغة، كئيبة ورمادية، بحيث يصعب تسميتها سعادة.
فما هي السعادة؟
هل هي حالة من الرضى التام تتميز بثباتها ومتانتها؟ لا يكفي أن تشعر بالرضى لفترة وجيزة لتكون سعيدًا. الفرح الشديد ليس سعادة. كما أنها ليست متعة سريعة الزوال. السعادة هي حالة عامة. فالإنسان السعِد لديه شكل من أشكال الوفرة. وضعه مستقر: لديه توازن ولا يمكن إلا لعنصر خارجي تغييره. هكذا يتوهم. وتحت ضغط البحث عن السعادة عالميًا، التي يتم تقديمها على أنها الهدف الأسمى للوجود، الحالة التي يسعى كل إنسان إلى الوصول إليها، بوعي أم باللا شعور، تمرّ الأعمار.
أن تكون سعيدًا هي تجربة فردية وإنسانية. إن الإنسان هو الذي يعرف التعاسة أكثر من السعادة، هي حالة مستقرة وطويلة الأمد يعيش فيها المرء في حالة عدم رضى تام، التعاسة هي عكس السعادة. إنها تمثل الوضع الذي يفر منه الجميع، والذي لا يسعى إليه أحد طواعية، إنما، وعلى الرغم من ذلك فهي الأكثر حضورًا في مشاعرنا وعواطفنا، ربما هي غريزة قديمة لها علاقة بسؤال الحياة والموت، سؤال الوجود والكينونة، منذ أن استقام الإنسان على قائمتين وبدأ يكتشف تمايزه عن باقي المخلوقات في الطبيعة، وبدأت أسئلة الوعي تتحرش به.
ليس كل إنسان/ة فيلسوفًا/ة، لكنه يضمر في نفسه بذرة الفلسفة ما دام أنه يمعن النظر في ذاته والعالم، ويواجه أسئلة من قبيل: ما هي السعادة؟ وهل أنا سعيد أم لا؟ وربما يتوه أكثر في الإجابات التي تلوح له على أنها الاحتمال الأكثر صدقًا أو واقعية.
يرى بعضهم أن فكرة السعادة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالرغبة. أن تكون سعيدًا يعني تحقيق جميع رغباتك، أو على الأقل تحقيق جميع رغباتك “المهمة”. الإنسان السعيد يحقق الأهداف التي حددها لنفسه، تلك التي لها قيمة بالنسبة إليه. لذلك ترتكز السعادة، من هذا المنطلق، على الفرد وفي مشاريعه وتمثيلاته.
لكن، ألا يختلف هذا المفهوم للسعادة بين شعب وآخر؟ بين مجتمع وصل إلى درجة عالية من تقدير الفردية، وآخر يعيش ضمن أنظمة شمولية؟ ليست أنظمة سياسية في الدرجة الأولى، إنما شمولية الثقافة السائدة والموروث والقيم والعادات، ومفهوم الأخلاق أيضًا التي ترسم معالم الفضيلة بالنسبة إليه، ولقد جعل العديد من الفلاسفة الأخلاق شرطا للسعادة. أن يكون المرء سعيدا يتحقق، وحسب، لأولئك الذين هم أولا وقبل كل شيء أخلاقيون. من الصعب تخيل أولئك الذين يكتسبون رفاهية غير أخلاقية “سعداء”. فالثقافة التي تجعل من تحقيق القيم العامة أمرًا أوليًا، سوف تجعل الفضيلة مرتبطة بها، وبالتالي تصنع أشكالًا من الرغبة تتمحور حول أداء هذه القيم حقها، كالتفاني في خدمة الأسرة والأخوة في الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، والتضحية بالنفس فداء للأهداف النبيلة التي زرعت في النفوس وارتبطت بعقائد أو أفكار عامة، والتعالي في الوقت نفسه على رغبات النفس، بل ومسخها. ومع هذا فإن الرغبات الذاتية لا تموت مهما تسامت القيم الأخرى عليها، لكنها تُنحّى باعتبارها حالة من الأنانية والرضوخ لنفس أمّارة بالسوء على أقل تقدير. والحجة حاضرة دائمًا، وهي في الواقع حجة لا يمكن غض النظر عنها أو عدّها واهية، فالرغبة في الثروة والجمال والقوة والحيازة وغيرها من مغريات الحياة موجودة لدى كل شعب، وفي كل مراحل التاريخ، لكن هل تحققت السعادة دائمًا بالحصول عليها؟ من المتفق عليه لدى العامة أنها لا تحقق السعادة، حتى القيم الرمزية التي يسعى آخرون للاستعاضة بها عن تلك الحيازات، كالحب والصداقة والمتعة أيضًا، وغيرها من العلاقات والعواطف الإنسانية، لا تحقق السعادة كما يطمح الإنسان أيضًا. معرفة أن الصداقة مهمة لا يمنحنا أصدقاء جيدين وحقيقيين، وتحقيق المتعة يحيلها إلى النسيان وتنتهي لحظة الفرح بها ويتبدّد الشعور الإيجابي الذي تمنحه، فأين هي المشكلة؟
المشكلة هي في أن السعادة مفهوم غامض المحتوى، نحن نشعر بالحزن، وبالتعاسة أكثر مما نشعر بالسعادة أو نفهمها، فالفرح لا يعني السعادة، والرضى، حتى لدى المؤمنين والقدريين لا يُجلي مفهوم السعادة، غالبا ما لا نعرف ما الذي يمكن أن يقودنا إلى سعادتنا. ما الذي سيسمح لي شخصيًا بأن أكون سعيدًا ليس واضحًا بالنسبة إلي. أستطيع أن أعتقد أن بعض الأشياء ستجعلني سعيدًا (سلعة مادية، وتنفيذ مشروع، أو تحقيق طموح وما إلى ذلك)، بالتأكيد. لكن لا يمكنني أبدًا أن أعرف على وجه اليقين أن هذه العناصر ستجعلني سعيدًا حقًا حاضرًا أو مستقبلًا.
غالبًا ما يتم افتراض أنّ السعادة، بشكل عام، هي غاية عليا للوجود البشري. ستكون السعادة هي الغاية في حد ذاتها وجميع أهدافنا الأخرى ثانوية، وسنسعى بكل أفعالنا لخدمة هدف أن نكون سعداء، بطريقة مباشرة إلى حد ما، لذلك يبدو البحث عن السعادة حتميًا في حياتنا، من دون أن نعي هذه الحقيقة أو نعلنها أمام أنفسنا بشكل صريح. ومن دون أن نحصل عليها ونلمسها لمس اليقين، ما دام أنها وما ينتجها غير محددين.
لذلك اهتم الفلاسفة بالسعادة منذ أرسطو حتى يومنا هذا، مرورًا بفلاسفة كثيرين، خاصة في أوروبا القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ولكل فيلسوف رؤيته عن السعادة، ففي القرن الرابع قبل الميلاد قال أرسطو: “الخير البشري يكمن في نشاط الروح بما يتفق مع الفضيلة”. تقوم السعادة، وفق رؤيته، على الامتثال للعقل والفضيلة. لكن الفضيلة لا تكفي للسعادة. تتطلب السعادة جسمًا صحيًا، وممتلكات، وما إلى ذلك.
وإذا كانت السعادة في البحث عن المتعة وتحقيقها فإن أبيقور لا يدافع عن البحث غير المعتدل عن المتعة، بل يميز بين الملذات التي تجلب الألم وتلك التي تجلب السلام للروح. هذه هي الملذات التي يجب البحث عنها.
بينما كونفوشيوس الذي يرى “كل الناس يعتقدون أن السعادة موجودة في قمة الجبل، لكنها تكمن في طريق تسلقه”، فإنه يدفع نحو التأمل والتفكير الإيجابي. وفي التاويّة، فإن العيش في الوقت الحاضر هو إحدى النصائح التي يتم تقديمها بانتظام لمواجهة المصاعب والاستمتاع بأفراح الحياة بسلام. كما يستخلص من تعاليم مؤسسها لاو تزو، الذي يقول: “إذا كنت مكتئبًا، فأنت تعيش في الماضي. إذا كنت قلقا، فأنت تعيش في المستقبل. إذا كنت في سلام مع نفسك، فأنت تعيش في الوقت الحاضر”.
بينما في القرن الثامن عشر هناك فيلسوفان، يمكن أن نقف عند رؤيتهما للسعادة، إيمانويل كانط: “السعادة هي المثل الأعلى للخيال وليس العقل”، هو لا يجعل من السعادة الخير المطلق الذي يمكن للإنسان أن يسعى إليه، السعادة بالنسبة له هي الإشباع الكامل للاحتياجات والرغبات. لكن لا أحد يعرف حقًا ما هو محتوى السعادة. لذلك فهي ليست أولوية المرء. بالنسبة له، تحتل السعادة المرتبة الثانية على الواجب. وآرثر شوبنهاور: “السعادة الإيجابية والمثالية مستحيلة. لا يمكن للمرء إلا أن يتوقع حالة أقل إيلامًا نسبيًا”، يرى أن إشباع الرغبات سيؤدي إلى الملل، أي إلى الحنين إلى الرغبة وبالتالي إلى المعاناة. ينتقل الإنسان باستمرار من الرغبة إلى الملل. بالنسبة لآرثر شوبنهاور، من المستحيل العثور على السعادة.
أما فريدريك نيتشه، صاحب الكتاب الأشهر عالميًا “هكذا تكلم زرادشت”، فيقول: “ما هي السعادة؟ الشعور بأن القوة تنمو، وأن المقاومة يتم التغلب عليها”.، بالنسبة إليه لا تميل الحياة إلى السعادة. لأن الحياة هي طاقة تدفع كل كائن حي لتوسيع قوته. إنها قوة إبداعية ودمار. لا يمكن أن يكون أفق هذه الإرادة للقوة هو السعادة. لذلك، في الإنسان، هناك شيء يقاوم السعادة. هذه الأخيرة ممكنة، ولكن باعتبارها “صخبًا جانبيًا”.
وهكذا، يبقى سؤال السعادة صعبًا أمام الإنسان، خاصة في هذا العصر المتّسم بالسرعة الخارقة، وبتمادي أجهزة الذكاء الاصطناعي على حياة البشرية، وانزلاق الفرد، حتى في العالم الليبرالي، وفي المجتمعات التي أعلت من القيمة الفردية للإنسان، نحو استلاب جديد، ونظام عالمي شمولي، لم يستطع الإنسان مواكبة تغيراته بالسرعة الملائمة.
وعلى الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة رصدت يوم العشرين من مارس/ آذار للاحتفال بيوم السعادة العالمي، بذريعة أنها هدف إنساني وحثت الدول والحكومات والمنظمات الدولية على دعم السعادة، بدعم حقوق الإنسان ودفع السياسات الدولية إلى الإعلاء من شان الرفاه في برامجها وأهدافها، إلا ان مفهوم السعادة إشكالي ومعقد، ويكاد يكون بلا تعريف، إنما تكمن أهميته وفحواه بالسعي الدائم نحوه، على الصعيد الفردي والعام.
ضفة ثالثة