مقالات سينمائية

“ما زلت هنا” لوالتر سالس… طبقات الأذية/ سامر أبوهواش

قصة من الماضي عن الاختفاء القسري تلقي بظلالها على الحاضر

15 مارس 2025

تصعب مشاهدة فيلم والتر سالس الأخير “ما زلت هنا” I’m Still Here الفائز بأوسكار أفضل فيلم دولي، بوصفه وثيقة تاريخية فحسب، وإن كان مضى على الأحداث التي يصوّرها نصف قرن ونيف. عالم الليبيرالية المتوحشة في 2025 يبدو من نواح عدة مختلفا جذريا عن عالم الحرب الباردة في سبعينات القرن الماضي. إلا أننا ونحن نشاهد أحد أقوى النتاجات الفنية في السنوات الأخيرة التي تتناول حقبة حكم عسكري/ ديكتاتوري، وما رافقها من ممارسات الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري والقتل، ضد المعارضين أو المخالفين السياسيين وعائلاتهم، ولا سيما التي شهدتها أميركا اللاتينية بإشراف الاستخبارات الأميركية بذريعة محاربة الشيوعية، فإننا لا نفعل ذلك بحسّ استعادي بارد، فاليمين الشعبوي المتطرف، وصفة الديكتاتورية المثالية، يطل برأسه من جديد في العالم بأسره، مع ما يثيره ذلك من مخاوف جدية على الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان.

الماضي حاضرا

في المنطقة العربية، غير البعيدة عن التحولات العالمية الأخيرة، تبرز أمثلة عدة: الأول في مرحلة سوريا ما بعد الأسد، وانفتاح السؤال الكبير حول مصير آلاف المعتقلين والمختفين قسرا، خلال حكم الأسد الأب ثم الابن، دون إغفال ما تشهده الحقبة الراهنة من انتهاكات لا يُعرف بعد مداها الكامل، والثاني في غزة والضفة الغربية، حيث هناك منذ بدء الحرب على غزة، آلاف المعتقلين الفلسطينيين الذين لا يعرف مصيرهم، ومنهم من قتل خلال الاعتقال، والثالث في السودان الذي لا يزال يعاني من إرث العقود الماضي.

في لبنان انتشرت أخيرا، شائعة سرعان ما كذبتها السلطات، عن العثور على مقبرة جماعية في منطقة الكرنتينا في بيروت، حيث يُعتقد أنه دفن ما لا يقل عن ألف شخص قتلوا عام 1976، في ذروة الحرب الأهلية. الأمل بنهاية لهذا الفصل المؤلم في حياة عشرات العائلات اللبنانية والفلسطينية ممن لديهم أقارب اختفوا خلال تلك الفترة، يشبه أمل السوريين باكتشاف مصير الآلاف من المختفين بعد سقوط نظام بشار الأسد وتحرير المعتقلين من سجن صيدنايا السيئ الصيت وغيره. وفي الحالين لا يزال الجرح مفتوحا، إلا أن مثل هذه الأحداث هي بمثابة تذكار بقضية تميل الدول والمجتمعات أحيانا إلى إغفالها، إما عجزا عن حلها، وإما رغبة في عدم فتح الملفات القديمة، مع ما قد يعنيه ذلك من ارتدادات على المشهد السياسي والاجتماعي الراهن. فجأة (تلك الكلمة المخاتلة)، يتنبه الناس إلى أن هناك شركاء لهم في الوطن، يقبعون منذ سنوات أو حتى عقود، في منطقة الانتظار المضنية تلك. المختفي قسرا، بالتعريف القانوني، ليس حيا ولا ميتا، قبل العثور على دليل يؤكد أيا من الاحتمالين.

على صفحة “ويكيبيديا” الإنكليزية، قوائم مفصلة بالدول التي شهدت الإخفاء القسري، وأعداد المختفين المحتملة، وليس من بينها فلسطين أو إسرائيل. قبل حرب غزة الأخيرة، هناك قلة، باستثناء أصحاب العلاقة والمنظمات القليلة التي ما زالت تتابع هذه المسألة، تعرف مثلا، بوجود ما يسمى بـ”مقبرة الأرقام”، تلك التي دفن فيها الاحتلال الآلاف من الفلسطينيين والعرب الذين قتلوا على يده على فترات زمنية مختلفة. أولئك أيضا لهم أهل ينتظرون دفن أحبتهم بصورة لائقة والتحرر من ذلك القيد المضني الذي يزداد وزنه، ولا ينقص، بمرور السنوات.

في فيلم والتر سالس، يبدو صادما المشهد الذي تتبادل فيه يوريسه مع أفراد عائلتها، ومع الموظفين الحكوميين، التهاني، بعد نجاحها أخيرا، عام 1996، في استصدار شهادة وفاة لزوجها المختفي (والمقتول) منذ 1971. ما يستحق الاحتفال هنا، هو تحقيق نوع من العدالة للمختفي قسرا، وأيضا عتق أحبائه من أسر الانتظار والتمكن من مواصلة حياتهم دون حمل تلك الصخرة على ظهورهم. وحين تسأل صحافية يوريس عن سبب مواصلة الاهتمام بهذه القضية بدلا من الاهتمام بالحياة الراهنة ومشكلاتها، تجيب بأنه بغير هذه الطريقة لا يمكن أن تتعافى المجتمعات وتتحقق العدالة، وبالتالي فإن ما حصل يظل قابلا للتكرار. دروس كثيرة يمكن الاستفادة منها عربيا، حيث فرص فائتة لم تغتنمها بلدان عربية، لغلق الملف بطريقة صحيحة، ومنها لبنان وسوريا والعراق.

صورة الحياة/ الحياة صورة

في مشهد مؤثر آخر في “ما زلت هنا”، تتمكن يوريس بعد استصدار شهادة وفاة زوجها عضو الكونغرس ورجل الأعمال روبنز بايفا، من تذكر مناسبة إحدى الصور الفوتوغرافية التي ربما كانت الأخيرة للأب المختفي قسرا مع جميع أفراد عائلته. تلك الصورة التقطت على شاطئ البحر خلال حفل وداع الابنة الكبرى الذاهبة للدراسة في لندن، لكن يبدو أن النسيان كان يلف المناسبة، حتى تتمكن الزوجة وقد امتد بها العمر وهي تناضل لكشف حقيقة ما جرى لزوجها، من أن تقلب الصورة وتكتب وصفا صائبا لتلك المناسبة. هذا الفعل الرمزي يعني عمليا أن تلك الصورة، وغيرها الكثير، بات من الممكن نقلها إلى مكانها الحقيقي: الذاكرة. لأن الذاكرة لا يمكن أن تصبح طيّ زمن سابق، إن كان فيها بقعة داكنة ما زالت تربط أصحابها بالحاضر. لا تصبح الصورة الفوتوغرافية سببا لتذكر زمن مضى بنوع من الحنين، بل تذكارا مضنيا باستحالة الحاضر، بما أن الماضي لم يصبح ماضيا بعد، بل ما زال امتدادا للحاضر، وجرحا لا يني يؤلم أهل هذا الحاضر.

في السيناريو الذي كتبه موريو هاوزر وهيتور لوريغا، بناء على مذكرات مارسيلو روبنز بايفا، الابن الوحيد للعائلة، والتي تحمل العنوان نفسه، يعود صاحب “المحطة المركزية” و”يوميات دراجة نارية”، إلى ريو دي جانيرو خلال فترة يألفها شخصيا، إذ كان في ذلك الحين (بعمر 13 عاما) صديقا لأولاد آل بافيا الخمسة، وكان يتردد على منزلهم الواقع على بعد أمتار قليلة من الشاطئ، والذي بأجوائه الأليفة والثرية بالنقاشات الثقافية والفنية والسياسية، يبدو جزيرة معزولة وسط محيط يتجه بسرعة نحو الحكم العسكري. لعل هذا القرب هو ما يمنح الفيلم، خلال ثلثه الأول تقريبا، تلك الحميمية والدفء اللذين ينضحان من كل مشهد فيه. لكن الهدف الحقيقي لهذه الأجواء التي ساهمت كاميرا أدريان تيخيدو والشريط الصوتي لوارين إليس، في خلقها بمثل هذه الحيوية الشديدة، ليس إعادة تركيب الماضي فحسب، بقدر ما نقل المشاهد أقرب ما يمكن إلى العالم الداخلي الملون لعائلة بايفا، بالتضاد مع العالم السوداوي الفوضوي والحزين الذي ستغرق فيه العائلة منذ لحظة اعتقال الأب على خلفية مساعدة عائلات نشطاء سياسيين منفيين.

الفرد والجماعة

في خضم النقاشات السياسية، غالبا ما ينسى الناس، بمن فيهم المتعاطفون، أن الضحايا هم أناس يشبهونهم. يصبح أولئك الضحايا رموزا أو أيقونات، صورا مجردة، ملامحها الوحيدة هي ملامح الأذية والانتهاك. رأينا ذلك في حرب غزة، ورأينا تنبّه نشطاء وفنانين كثر لهذه المسألة، ومحاولتهم الدؤوبة التذكير بأن الضحايا هم بشر في نهاية المطاف، وليسوا أرقاما، بل ليسوا صورا وملصقات ورموزا تعبيرية عن الظلم ومقاومته. من خلال حفر سالس في طبقات الأذية التي تتعرض لها عائلة واحدة، ينجح في تجسيد حجم المأساة التي حلت وتحل بمجموعات بشرية كاملة، وكأنه يقول إن تصوير حجم المأساة التي تحل بفرد واحد، بفعل الاضطهاد، لا يقل أهمية عن تصوير مجموعة، بل إن تصوير دمار بيت واحد لا يقل دلالة عن تصوير دمار مدينة.

الجهد المحوري هنا يقع على كاهل فرناندا توريس التي أدت ببراعة قل نظيرها دور الزوجة التي تنقلب حياتها انقلابا كاملة، وفي حين تناضل لمعرفة مصير زوجها، فإن عليها حماية أسرتها من التفكك وعدم السماح للمأساة التي حلت بزوجها، بالقضاء على مستقبل أولادها. أداء توريس الذي استحق جائزة أفضل ممثلة في “غولدن غلوب” وحرم ظلما من الجائزة نفسها في الأوسكار، بني على هذا الفهم العميق للشخصية التي تؤديها، فهي ليست مناضلة على الطريقة الهوليوودية، والقصة ليست قصة “انتصار” كما نرى في الكثير من الأفلام الأميركية، بل هي قصة السير المستمر على حافة الكارثة. منذ المشهد الافتتاحي الذي نرى فيه يونيسه بايفا وهي تسبح في البحر وتلوح في السماء فوقها مروحية عسكرية، نشعر بالحدود الدقيقة التي بنيت عليها هذه المأساة. وحين يدخل رجال الأمن إلى منزل آل بايفا، ويعتقلون الأب، ثم يبقون بقية أفراد الأسرة معتقلين ساعات طويلة داخل المنزل بينما يجري التحقيق مع الأب في ثكنة عسكرية، ندرك أن تلك المروحية العسكرية، بما تمثله، أصبحت هنا في الداخل، وأن الفردوس الذي عاشت فيه العائلة قبل ذلك، انتهى إلى غير رجعة، وأنه بات على يونيسه بايفا الغوص في المياه الحقيقية للديكتاتورية، ومحاولة النجاة من الغرق وعائلتها فيها.

كل من تعرض لتجربة اعتقال سياسي، ولو لساعات أو أيام قليلة، يدرك مدى براعة سالس مخرجا وتوريس ممثلة، في جعلنا نعيش هذه التجربة. مشاهدها معزولة لأيام داخل زنزانة ليس فيها إلا نافذة وحيدة، وجلبها بصورة روتينية أمام المحقق ليطرح عليها الأسئلة نفسها، متوقعا أجوبة (اعترافا) مغايرة، لا تتجلى فداحتها الحقيقية في  أمور مثل الصراخ أو التعذيب أو الأجواء الكابوسية، بل في العادية المسرفة. نتذكر أن كل هذه القسوة تمارس في مبنى عادي (ثكنة) فقط لأن أحدهم قرر أنه يستطيع الاستيلاء على حياة الناس وحرمانهم من حريتهم. أول ما تفعله يونيسه بايفا لدى عودتها إلى بيتها، وبعد الاطمئنان إلى أن أطفالهم نائمون، هو أنها تستحم، محاولة أن تزيل ما علق بجسدها من قذارة الحبس، وكأنها وهي تفرك جسدها العاري بقوة لتزيل الأوساخ، تحاول أن تمسح معها الأذية النفسية الهائلة التي تعرضت لها.

مقاومة الخوف

مثل هذه الانتهاكات لروح الفرد وجسده، تهدف في حال إبقائه على قيد الحياة، إلى زرع الخوف فيه بصورة دائمة. يغادر المعتقل الزنزانة ليحملها بعد ذلك ندبة داخلية لا تزول. بعد خروج يونيسه من الاعتقال، تظل قيد مراقبة عناصر الأمن، والهدف الوحيد لذلك هو تمديد الحبس ونقله من الفضاء الضيق إلى الحيز العام، حيث تصبح المدينة برمتها محل اعتقال. هناك سرديات كثيرة عن أفراد تحولت حياتهم إلى جحيم بفعل هذه المراقبة، سواء العلانية أو المستترة إنما المحسوسة، نذكر منها على سبيل المثل لا الحصر الصحافي اللبناني الراحل سمير قصير وزوجته الإعلامية الراحلة جيزيل خوري، اللذين تعرضا طويلا لمراقبة النظام الأمني اللبناني السوري. تقرر يونيسه ألا تخضع لمنظومة الخوف هذه، وفي أحد المشاهد تواجه عناصر الأمن المرابضين أمام منزلها، بصورة مباشرة، في فعل لا يراد منه أن يبدو بطوليا، بقدر ما ينم عن الحد الأقصى من الاحتمال الذي يمكن الفرد بلوغه.

حين تقرر يونيسه مغادرة ريو دي جانيرو أخيرا، وتبيع الأرض التي كان زوجها يعتزم بناء منزل العائلة عليها، نشعر أن فصلا قد طوي، وأنها ربما تخلت عن زوجها بعد فقدان الأمل بعودته، إلا أن قصة يونيسه بعد ذلك معروفة، فقد أصبحت من أبرز النشطاء في قضايا حقوق الإنسان، وخصوصا سكان البرازيل الأصليين، وظلت تناضل لمعرفة مصير زوجها وسائر المختفين قسرا خلال فترة الحكم العسكري. إلا أن خطواتها هذه تمثل انحيازا واضحا إلى الحياة، إلى مستقبل أولادها أكثر مما هي استسلام لأعباء الماضي والحاضر. حين ننتقل بالزمن إلى 1996، تسأل الابنة شقيقها “متى دفنت أبانا؟”، تقصد متى اقتنعت بأنه لن يعود، يجيبها بأن ذلك كان في اليوم الذي قررت فيه أمهما ترك منزل العائلة والمدينة والانتقال إلى مكان آخر، فتعلق: “كان ذلك باكرا جدا”.

إن كان هناك ما يمكن تعلمه من سيرة يونيسه بايفا، كما تتبدى في كتاب ابنها، ثم في هذا الفيلم، هو أن المسألة تعود في النهاية إلى كل فرد من الأفراد، والخيارات التي يتخذها للتعامل مع المأساة. يونيسه بايفا لا تبكي في خضم المأساة التي تعصف بها، وكانت تصر على الظهور وأفراد عائلتها مبتسمين في الصور الفوتوغرافية، وعن ذلك تقول فرناندا توريس: “خلال المأساة أنت لا تبكي، إذ يجب عليك المواجهة، عليك امتصاص ما يحدث ثم تتصرف”. في المشهد الأخير من الفيلم نرى يونيسه بايفا في مراحل حياتها الأخيرة (تؤدي الدور والدة فرناندا توريس، فرناندا مونتنيغرو)، وقد مضى سنوات على مرضها بالزهايمر، جالسة على كرسي متحرك في منزل ابنها، تشاهد على التلفزيون تقريرا يظهر فيه زوجها الراحل، فيومض شيء في وجهها، وفي الحديقة في الخارج تجتمع العائلة مع الأولاد الجدد في لقاء حميم. الماضي لا يمكنه قتل الحاضر، وإن كان الحاضر يمكنه النجاة من لعنات الماضي. وهذا هو الانتصار الحقيقي على الظلم بأشكاله كافة.

المجلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى