دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 17 أذار 2025

تحديث 17 أذار 2025
————————-
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
———————————-
المساعدة الأميركية الأمثل لسوريا هي الانسحاب منها/ روبرت س. فورد
على واشنطن سحب جنودها والتعاون مع الحكومة والنأي عن “قوات سوريا الديمقراطية”
الجمعة 14 مارس 2025
أن إجراء انتخابات واعتماد حصص للأقليات ضمن الحكومة لا يمثلان بحد ذاتهما ضمانة ضد الاستبداد. فتجربتا أفغانستان والعراق في القرن الـ21 تبينان مدى صعوبة حل مشكلات الثقافة السياسية الأعمق.
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالة بقلم السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد قبل إبرام الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات “قسد”، وأبرز ما جاء به هو الدعوة إلى سحب القوات الأميركية من سوريا. وتنشر اندبندنت عربية المقال هذا نظراً لأهميته. فهل يعبد هذا الاتفاق الطريق أمام الانسحاب الأميركي من سوريا؟ وفيما يلي نص المقال:
انتهت الحرب الأهلية السورية التي دامت 13 عاماً بصورة مفاجئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما اجتاحت قوات تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة “هيئة تحرير الشام” مناطق الجنوب انطلاقاً من معاقلها شمال غربي البلاد، مما أدى إلى سقوط حكومة الرئيس بشار الأسد. وخلال أسابيع قليلة، انتهى نظام استمر ستة عقود. واليوم تتولى “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع البراغماتي إدارة الحكومة السورية الموقتة، وهي في طريقها لرئاسة حكومة انتقالية سيُعلن عنها خلال الربيع. ولا يزال من غير المؤكد كيف سيتمكن الشرع من توحيد بلد متنوع ومنقسم، وما إذا كان سيكبح العناصر المتشددة داخل “هيئة تحرير الشام”، وما إذا كان سينجح في كسب دعم المجتمعات السورية الأخرى في حال تبنى نهجاً أكثر اعتدالاً وشمولية.
ومن بين الشكوك التي تواجه سوريا مستقبل الدور الأميركي داخل البلاد. فمنذ عام 2014 دعمت واشنطن حكومة ذاتية الحكم، بحكم الأمر الواقع، في شمال شرقي سوريا، تشكلت بصورة رئيسة – ولكن ليس حصرياً – من فصائل كردية. واستفادت هذه القوات التي تعمل تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” من الفوضى التي أطلقتها الحرب الأهلية السورية، لتشكيل كيان شبه مستقل على الحدود مع تركيا. وخاضت “قوات سوريا الديمقراطية” معارك ضد قوات الأسد والجيش التركي والميليشيات المدعومة من أنقرة، فضلاً عن جماعات مرتبطة بالقاعدة، وبخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وعملت القوات الأميركية من كثب مع “قوات سوريا الديمقراطية” لطرد “داعش” من آخر معاقله داخل سوريا. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 2000 جندي إضافة إلى متعاقدين، في نحو 12 موقعاً وقاعدة صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود “قوات سوريا الديمقراطية” في القضاء على “داعش” وردع الهجمات التركية.
وعلى رغم هذا الدعم، لا يزال “داعش” نشطاً في سوريا. ومع انهيار نظام الأسد يمكن للولايات المتحدة أن تختار العمل مع شريك جديد من المرجح أن يكون أكثر نفوذاً وفعالية في مكافحة فلول “داعش”، الحكومة السورية الجديدة في دمشق. فمن شأن تعاون أكبر سواء كان مباشراً أو غير مباشر مع هذه الحكومة الناشئة أن يعزز الأمن الإقليمي، ويساعد في إنهاء القتال المستمر في شرق سوريا، ويسمح للولايات المتحدة بتقليل مواردها المخصصة لهذا الملف. وكثيراً ما أعرب الرئيس دونالد ترمب عن استيائه من تورط أميركا في النزاعات الخارجية، لا سيما داخل الشرق الأوسط. لذا، فإن الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق ستتيح للولايات المتحدة الخروج من سوريا وفق شروطها الخاصة.
الأداة الخاطئة
يرى عدد من المسؤولين والمحللين الأميركيين أن الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا تمثل شريكاً موثوقاً لضمان ما تأمل واشنطن أن يكون “الهزيمة النهائية” لتنظيم “داعش” داخل البلاد. إلا أن قوات سوريا الديمقراطية الجناح العسكري لهذه الإدارة، فشلت في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي الإسلاموي. فبعد ستة أعوام من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على آخر معقل لتنظيم “داعش” في سوريا، لا يزال مقاتلو التنظيم الإرهابي المذكور ينشطون في وسط سوريا وشرقها. وفي السياق عينه أثارت تصرفات قوات سوريا الديمقراطية استياء المجتمعات العربية المحلية، إذ تخضع هذه القوات لسيطرة مشددة من الميليشيات الكردية المعروفة باسم “وحدات حماية الشعب” YPG، والتي ارتكبت عمليات قتل خارج نطاق القضاء والقانون ونفذت عمليات اعتقال غير مشروعة بحق مدنيين عرب، وابتزت عرباً كانوا يحاولون الوصول إلى معلومات عن أقارب معتقلين أو يسعون إلى لإفراج عنهم، وأجبرت الشباب العرب على الانضمام إلى صفوفها، وحرفت النظام التعليمي ليتماشى مع الأجندة السياسية لـ”وحدات حماية الشعب”، وجندت مقاتلين أكراداً غير سوريين. ودفعت هذه الممارسات بعض السكان المحليين إلى أحضان “داعش”. وبالطبع، فإن هذه التجاوزات تبدو ضئيلة مقارنة بجرائم نظام الأسد، لكنها تسببت باحتكاك كبير مع السكان العرب خصوصاً في المناطق التي تعمل فيها قوات سوريا الديمقراطية تحت قيادة “وحدات حماية الشعب”.
وتواجه “قوات سوريا الديمقراطية” تحدياً آخر يتمثل في العداء المستمر بين تركيا و”وحدات حماية الشعب”، حيث تشن “وحدات حماية الشعب” هجمات بين الحين والآخر على مواقع تركية في سوريا وداخل تركيا نفسها، مما يعزز الرؤية التركية القديمة التي تعد هذه الوحدات جماعة إرهابية. وفي المقابل، تستهدف القوات العسكرية التركية والميليشيات السورية المدعومة من أنقرة “وحدات حماية الشعب” بصورة متكررة شمال سوريا. وهذا النزاع يصرف انتباه وموارد “قوات سوريا الديمقراطية” عن محاربة “داعش” في الجنوب.
في أواخر فبراير (شباط) الماضي قام زعيم كردي بارز بالدعوة إلى وقف إطلاق نار مع تركيا. هذا الزعيم هو عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعروف بـ”بي كي كي” – الميليشيات الكردية المسلحة المرتبطة بـ”وحدات حماية الشعب”، والتي تقاتل الحكومة التركية منذ فترة طويلة. أوجلان دعا المقاتلين الموالين له إلى إلقاء أسلحتهم ووقف شن الهجمات ضد تركيا. إلا أن قادة “وحدات حماية الشعب” رفضوا دعوة أوجلان، مصرين على أنها لا تشمل قواتهم. من جهتها، لا تزال تركيا غير مستعدة لتغيير سياستها أو قبول قيام منطقة كردية ذاتية الحكم في سوريا تلعب فيها “وحدات حماية الشعب” دوراً محورياً. ومنذ إدارة الرئيس باراك أوباما، حاولت الإدارات الأميركية الموازنة بين دعم الميليشيات الكردية السورية في قتال “داعش”، وبين استيعاب مخاوف أنقرة ورغبتها في استهداف قادة “وحدات حماية الشعب” ومقاتليها والمجتمعات الكردية السورية التي تحتضنهم.
هذه المظلة العسكرية الأميركية التي تحمي “وحدات حماية الشعب” من الهجمات التركية شرق سوريا جعلت الوحدات والإدارة الذاتية التي أنشأتها ترفض أية تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق. ونتيجة لهذا الوضع، بات لتنظيم “داعش” مساحة أكبر للعمل مما يكرس حال حرب لا نهاية لها.
وللحفاظ على الشراكة مع “قوات سوريا الديمقراطية” ستحتاج إدارة ترمب إلى دعم الجماعات الكردية بمعاركها المستقبلية ضد تركيا. بين عامي 2023 و2024، قامت إدارة بايدن بهدوء بمضاعفة عدد القوات الأميركية في شرق سوريا ليصل إلى نحو 2000 جندي، وذلك جزئياً لتمكين القوات الأميركية من توسيع دورياتها غرباً على طول الحدود التركية لتشمل بلدات مهمة مثل كوباني، التي لا تشهد نشاطاً لـ”داعش” لكنها تواجه ضغوطاً تركية. وخلال ديسمبر (كانون الأول) وبينما كان المتمردون السوريون يطيحون نظام الأسد، هاجمت ميليشيات متحالفة مع تركيا وطائرات مسيرة تركية مواقع كردية قرب كوباني. ومع وجود 2000 جندي أميركي منتشرين بالفعل، لن يكون ترمب في حاجة إلى إرسال مزيد من القوات الأميركية كحاجز أمام غزو بري تركي، لكنه سيحتاج إلى دعم الأكراد بمزيد من التمويل. وتعتمد “قوات سوريا الديمقراطية” على واشنطن لدفع الرواتب وتأمين المعدات والتدريب، وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً الآن، إذ باتت تركيا أكثر حرية في التركيز على الإدارة الكردية الذاتية التي تقودها “وحدات حماية الشعب”. ومع سقوط الأسد خصم أنقرة في دمشق، ستوجه أنقرة انتباهها أكثر نحو هذه الإدارة الكردية على حدودها الجنوبية.
وفي خضم هذا المستنقع من العداوات الكردية – التركية، من السهل نسيان السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى التدخل في هذه المنطقة من سوريا في المقام الأول، وهو القضاء على داعش. ولم يكن الهدف الأميركي أبداً نشر قوات في شرق سوريا للدفاع عن كيان كردي ناشئ تقوده ميليشيات كردية كانت مغمورة سابقاً. تبني هذا الهدف الآن سيمثل انحرافاً كبيراً عن المهمة الأصلية. كما أن “قوات سوريا الديمقراطية”، بسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت غضب المجتمعات المحلية (العربية تحديداً) والحكومة التركية على حد سواء. لقد سبق لهذه القوات خلال الحرب التقليدية ضد “داعش” أن شكلت أداة مفيدة للمساعدة في استعادة المناطق التي وقعت تحت سيطرة ما سمي بقوات “الخلافة”. لكن في الحرب لكسب قلوب وعقول المناطق العربية في شرق سوريا – التي ما زال “داعش” يجند في أوساطها – فإن قوات سوريا الديمقراطية بالتأكيد ليست أداة مناسبة.
الطريق عبر دمشق
يمكن للولايات المتحدة بدل الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، أن تلجأ للحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة والتعاون في القضاء على “داعش”. وهذا ظاهرياً وللوهلة الأولى قد يبدو اقتراحاً غريباً. فالولايات المتحدة تعد “هيئة تحرير الشام”، الميليشيات التي أطاحت الأسد وتقود الحكومة السورية راهناً، جماعة إرهابية، بيد أن هذا التصنيف إياه لم يمنع واشنطن من التعاون والعمل من كثب مع “وحدات حماية الشعب” المقربة من حزب العمال الكردستاني، الذي هو أيضاً جماعة إرهابية وفق تصنيف الولايات المتحدة. ومن المؤكد هنا أنه لا ينبغي التقليل من أهمية تشدد “هيئة تحرير الشام” وأيديولوجيتها العنفية. فأنا شخصياً حين كنت سفيراً للولايات المتحدة في سوريا قدت جهوداً أميركية في خريف عام 2012 لتصنيف جبهة النصرة، الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي انبثقت منها أخيراً “هيئة تحرير الشام” كمنظمة أجنبية إرهابية. وكان علينا خلال فبراير (شباط) 2012 إغلاق السفارة في دمشق بفعل تهديد حقيقي من هذه الجماعة. وخلال وقت لاحق قامت جبهة النصرة بسحق واستيعاب الجيش السوري الحر، التحالف الذي ضم متمردين مناهضين للأسد شمال سوريا دعمتهم وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية. وقامت جبهة النصرة بمضايقة الأقليات المسيحية والعلوية خلال الأعوام الأولى من الحرب الأهلية. وقاد (أحمد) الشرع هذه الجماعة عبر تغييرات مختلفة بالأسماء والمظاهر، إلى أن رست على مسمى “هيئة تحرير الشام” خلال عام 2017. على أن كثراً داخل واشنطن يشككون في أن تكون الصيغة الجديدة لهذه الجماعة ابتعدت حقاً من الإرهاب، أو تخلت عن نظرتها الأيديولوجية المتشددة وغير المتسامحة تجاه العالم.
بيد أن الشرع يصر على خلاف ذلك. لقد أمضت جبهة النصرة التي أصبحت في ما بعد “هيئة تحرير الشام” أعواماً عديدة في محاولة إبعاد نفسها من الجماعات الإرهابية الإسلامية. والشرع نفسه انفصل عن “داعش” عام 2014، ثم خاض مقاتلوه معارك دامية ضد ذاك التنظيم (داعش)، متمكنين في نهاية المطاف من طرده من شمال غربي سوريا. وانفصل الشرع علناً عن تنظيم”القاعدة” عام 2016، وقاتلت قواته ضد جماعة مرتبطة بالقاعدة تعرف باسم “حراس الدين” شمال غربي سوريا. ولم تشن جبهة النصرة ولا “هيئة تحرير الشام” أية هجمات إرهابية بعد انشقاقهما عن تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، كما أنهما قضيا على كل محاولة من قبل هذين التنظيمين لإعادة تأسيس وجودهما شمال غربي سوريا. ويمكن القول إن أفعال “هيئة تحرير الشام” على مدى الأعوام الثمانية الماضية تصعب تبرير إبقائها على القائمة الرسمية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. كذلك حاولت “هيئة تحرير الشام” أيضاً تلميع صورتها أمام الرأي العام. فابتداءً من عام 2022 ودون التخلي عن هدفها المتمثل بتشكيل حكومة إسلامية في سوريا، بدأت بترميم بيوت المسيحيين وإعادة أراضيهم الزراعية المصادرة من قبل الميليشيات الإسلامية خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية شمال غربي سوريا. وقال لي قادة مسيحيون في إدلب خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2023 إن معظم الأملاك تقريباً أعيدت لهم.
ويشير سجل الأفعال الحافل هذا إلى أن “هيئة تحرير الشام” وليس قوات سوريا الديمقراطية، هي من سيقوم على الأرجح بتقويض جاذبية “داعش” بأوساط مجتمعات معينة، لتتمكن في النهاية من استيعابه. لقد ألحق الشرع الهزيمة بـ”القاعدة” و”داعش” في شمال سوريا. والمناطق التي سيطر عليها خلال العقد الماضي كانت خالية من أنشطة “داعش”. وفي حين تعاني قوات سوريا الديمقراطية حصاراً تركياً، تتمتع الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” بدعم إقليمي متزايد، لا سيما من قبل تركيا. ولعل الأهم في هذا السياق أن بوسع الشرع وبسهولة أن يحوز دعم الجماعات والمناطق العربية شرق وشمال شرقي سوريا، التي يستمد تنظيم “داعش” مجنديه منها.
إلى هذا ستحتاج الحكومة الانتقالية السورية إلى تبني المجموعات العربية المقاتلة العاملة الآن بإمرة مباشرة من “وحدات حماية الشعب”، ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الناشئة في دمشق. وبالتوازي سيتعين على حكومة دمشق أن تتوصل إلى صيغة تتولى بموجبها مسؤوليات الحكم في المناطق العربية بشرق سوريا، معفية قوات سوريا الديمقراطية من مسؤولياتها هناك. هذه الإجراءات ستثير استياء قوات سوريا الديمقراطية من دون شك، لكنها ستساعد سوريا وشركاءها الإقليميين في نهاية المطاف على إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
وإدارة ترمب من جهتها تحتاج إلى فتح قناة تواصل مع الحكومة التي تقودها “هيئة تحرير الشام” لمناقشة الجهود المستقبلية لمواجهة “داعش”. وينبغي أن يتضمن الحديث بين الطرفين موضوعات مثل كيفية انضمام الميليشيات العربية المحلية العاملة الآن تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية إلى حملة حكومة دمشق ضد “داعش”، ومسألة نشر قوات تابعة لحكومة دمشق في مناطق ما زال ينشط فيها التنظيم، والجدول الزمني لتلك الإجراءات. ويمكن للطرفين أن يناقشا أيضاً كيفية تبادل المعلومات الاستخباراتية بين سوريا والولايات المتحدة، إذ إن الاستخبارات الأميركية بالفعل ساعدت الشرع في إحباط هجوم لـ”داعش” في دمشق خلال يناير (كانون الثاني) الماضي. كذلك على النقاش بين الطرفين أن يتناول القضية الأصعب وهي مستقبل مخيمي الهول والروج حيث لا يزال هناك قرابة 40 ألف شخص مرتبطين بـ”داعش” معتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية. فالشرع لم يتسامح مع أي تحد سياسي من العناصر الإسلامية الأكثر تشدداً، وأدارت حكومته في شمال غربي سوريا برنامجاً محدوداً لمكافحة التطرف هناك، إلا أن حجم التحدي في الهول يتجاوز بدرجات كبيرة كل ما تعامل معه الشرع سابقاً.
لمساعدة حكومة دمشق على تحقيق الاستقرار في سوريا ومحاربة تنظيم “داعش”، سيتعين على واشنطن تخفيف العقوبات على سوريا. فإعادة بناء سوريا بعد التدمير الهائل الذي لحق بها جراء الحرب الأهلية المديدة قد يتطلب أكثر من 200 مليار دولار، وفق تقديرات البنك الدولي عام 2021. وسيحتاج السوريون إلى المساعدة الدولية والاستثمار الخاص، فيما العقوبات الأميركية بحق الأجانب الذين يمارسون الأعمال التجارية في سوريا ستؤدي إلى إعاقة تدفقات رأس المال والبضائع التي تحتاج البلاد إليها. ورجال الأعمال الذين التقيتهم في دمشق خلال يناير الماضي شددوا على القول إن الإعفاءات الموقتة التي اعتمدتها إدارة بايدن في ذلك الشهر بمجالات الطاقة والمساعدات الإنسانية لا تكفي بأية صورة من الصور، وذلك نظراً إلى حجم عمليات إعادة البناء المطلوبة. وإن كانت إدارة ترمب مترددة في إلغاء جميع العقوبات على سوريا، فيمكنها في الأقل البدء باعتماد إعفاء لمدة عام واحد قابل للتجديد على العقوبات التي تؤثر في قطاعات المال والبناء والهندسة والصحة، والتعليم، والنقل، والزراعة. وهذه الإجراءات لن تحمل وزارة الخزانة الأميركية أية تكاليف، فدول المنطقة وغيرها من أطراف مانحة ستقدم المساعدات المطلوبة إلى سوريا. لكن على العقوبات الثانوية الأميركية أن لا تمنع أولئك المانحين ومستثمري القطاع الخاص من المضي قدماً. من دون هذه الاستثمارات، ستبقى سوريا في حال شلل، غير قادرة على هزيمة “داعش”، تماماً كما كانت حكومة الأسد الضعيفة بين عامي 2017 و2024.
اتركوا مقود القيادة
إن الابتعاد من قوات سوريا الديمقراطية لمصلحة التقرب من الحكومة الجديدة في دمشق لا يحكم على الأكراد السوريين بمستقبل مظلم، إذ إن أمن المجتمعات الكردية وازدهارها لا يعتمد على قوى أجنبية، بل على احترام الحكومة السورية لحقوقهم وحقوق جميع المواطنين السوريين. ولا يزال من غير الواضح مدى استعداد “هيئة تحرير الشام” لإقامة ديمقراطية شاملة في سوريا. لكن من الواضح أن السوريين الذين يعيشون اليوم في ظل الحكومة الجديدة يتمتعون عموماً بحقوق سياسية وشخصية تفوق ما تمتعوا به منذ تولي حزب البعث السلطة عام 1963. وكنت خلال النصف الثاني من يناير الماضي قضيت 10 أيام في سوريا، من ضمنها أسبوع في دمشق. ومظاهر حرية التعبير بدت واضحة في كل مكان. في المقاهي، سوريون لا أعرفهم شعروا بالحرية في المشاركة بأحاديث ونقاشات سياسية وفي انتقاد الحكومة التي تديرها “هيئة تحرير الشام”. كما أن الشرطة تركت التظاهرات الصغيرة التي قامت في دمشق دون مضايقات. وأقيمت زينة عيد الميلاد في الأحياء المسيحية بالمدينة القديمة، وقرعت أجراس الكنائس على نطاق واسع يوم الأحد. يشعر المسيحيون في دمشق بالتوتر، لكنهم أقروا بأن مخاوفهم لا تتعلق بسلوك “هيئة تحرير الشام”، بل نابعة من قلق تجاه خلفيتها الأيديولوجية.
لدى ترمب وجهة نظر محقة تتمثل بالابتعاد من الصيغ التوجيهية (التقريرية) تجاه التطور السياسي في سوريا. وغرد ترمب خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، مباشرة بعد فرار الأسد من سوريا إلى روسيا، قائلاً إن مستقبل سوريا ليس مسألة تمليها الولايات المتحدة وتقررها. فالسوريون يحتاجون إلى دستور جديد، دستور ربما ينتهي الأمر به إلى استيعاب نمط من أنماط اللا مركزية والفيدرالية – وهذه سمات الدولة المستقبلية التي يحرص قادة قوات سوريا الديمقراطية وغيرهم من قادة الأقليات الأخرى في سوريا، على تأمينها وضمان تحققها. وصياغة هذا الدستور ستستغرق بالضرورة وقتاً طويلاً وستتطلب كثيراً من الصبر، إلا أن السوريين لن يتمكنوا من إجراء الانتخابات إلا عبر دستور قوي.
ومن المهم أن نتذكر بالطبع . الانتخابات في سوريا سيكون لها فرصة أفضل لتعزيز الاستقرار الحقيقي والحكم الرشيد إن عملت الحكومة الانتقالية بالفعل على تطبيق سيادة القانون وحماية الحريات السياسية والفردية، بما في ذلك حرية الرأي والخطاب، وحرية الدين وحرية التجمع، وابتعدت من ممارسات الاعتقال التعسفي. وعلى الدول الغربية أن تركز على تشجيع دمشق على معاملة السوريين كمواطنين في دولة واحدة يتمتعون جميعاً بالحقوق الأساس، وعلى القوى الخارجية أن لا تنحو أو تسعى إلى تأليب الأكراد والمسيحيين والدروز والعلويين والمسلمين السنة على بعضهم بعضاً.
وعلى الولايات المتحدة من جهتها أن تكون مستعدة للتخلي عن قوات سوريا الديمقراطية، وتشجيعها على الاندماج في هيكليات وبنى سوريا الجديدة. كذلك ينبغي من واشنطن الإصرار على أن القوات الأميركية لن تبقى في سوريا لأكثر من عامين إضافيين تزامناً مع تقدم الانتقال (في السلطة) شمال شرقي سوريا. فجميع المجموعات الكردية والعربية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية قادرة على الاندماج في الجيش السوري الجديد، ضمن هذا الإطار الزمني. وعلى واشنطن أن تضغط على دمشق وقوات سوريا الديمقراطية وعلى الإدارة المستقلة للتفاوض على ترتيب انتقالي يغطي المسائل الأمنية، والمستقبل القريب للهياكل الإدارية القائمة في منطقة الإدارة الذاتية، وعلى إعادة إدخال خدمات الحكومة المركزية، بما في ذلك مراقبة الحدود وإعادة فتح المكاتب الإدارية الحكومية المركزية التي تصدر جوازات السفر وتسجل معاملات الأملاك. لكن على واشنطن أن لا تغرق في التفاصيل، وهي لا تحتاج إلى ذلك. بل عليها أن توضح لدمشق مسألة بسيطة، إن حاولت الحكومة السورية الجديدة تهميش الإدارة المستقلة وفرضت انتقالاً من دون تعاون كردي، فهذا سيشعل نزاعاً جديداً ويعوق محاربة “داعش”، ويؤجل تفكير الولايات المتحدة بتخفيف مزيد من العقوبات. ورسالة واشنطن إلى قوات سوريا الديمقراطية يجب أن تكون بسيطة أيضاً، سقوط نظام الأسد يعني أن الوقت حان لتقديم تنازلات صعبة في جوانب الأمن والإدارة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية – والأمر يتضمن حل هذه القوات تدريجاً.
لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تضغط بغية الحصول على حصة أو منصب حكومي محدد للأكراد السوريين أو لأية فئة أخرى. فـ”هيئة تحرير الشام” رفضت فكرة توزيع الحصص على أسس عرقية أو طائفية، إذ عدت نظام التحاصص الإثني والديني الذي دعمته الولايات المتحدة في العراق الجار منذ 20 عاماً، نظاماً خاطئاً. إن الانخراط العام المعزز بسيادة القانون وحماية الحريات السياسية والشخصية يمثل السبيل الوحيد لبناء ديمقراطية حقيقية في سوريا. وستكون العملية بطيئة وفوضوية، وسيكون على السوريين قبل غيرهم حل هذه الأمور. لكن ينبغي أن لا يكون هناك حاجة ليد أميركية مباشرة على مقود القيادة، أو جزمات أميركية على الأرض السورية.
مترجم عن “فورين أفيرز” 8 مارس (آذار) 2025
روبرت س. فورد باحث رفيع في “معهد الشرق الأوسط”. شغل منصب السفير الأميركي لدى سوريا بين 2011 و2014.
المجلة
——————————
تحول رئيسي: نحو دمج قوات سوريا الديمقراطية في المؤسسات السورية
16 مارس 2025
يعد قبول قوات سوريا الديمقراطية الاندماج في مؤسسات الدولة السورية إنجازًا كبيرًا في مسعى القيادة السورية الجديدة نحو توحيد البلاد، وقد يسَّرَ هذا الاتفاقَ تغيرٌ في السياقين، الداخلي والخارجي، لكن لا تزال تعترضه عدة تحديات سواء في التوافق على مضامينه التفصيلية أو في التدخلات الخارجية التي تعد سوريا الموحدة عائقًا لنفوذها.
أُعلن في دمشق، مساء 10 مارس/آذار 2025، عن توقيع الرئيس السوري، أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي، على اتفاق من ثمانية بنود، يقضي باندماج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد ومؤسسات الدولة الأخرى، يؤكد على أن المجتمع الكردي مكوِّن أصيل من مكونات الشعب والدولة، ويتعهد بضمان حقوق كافة السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية، والعمل على بناء أجهزة الدولة السورية على أساس الكفاءة. كما أكد الاتفاق على وحدة أراضي البلاد، ورفض التقسيم، دون الإشارة إلى مسألتي اللامركزية أو الفيدرالية.
إلى جانب إقرار وقف إطلاق النار في كافة الأراضي السورية، نصَّ الاتفاق على انضواء كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سوريا، المنطقة الواقعة تحت سيطرة قسد، ضمن أجنحة الإدارة السورية الجديدة، بما في ذلك المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط. كما نص الاتفاق على ضمان عودة كافة المهجَّرين السوريين إلى بلداتهم وقراهم في شمال شرقي سوريا، وعلى دعم قسد جهود الدولة في مكافحة فلول النظام السابق، ومصادر تهديد أمن سوريا ووحدتها. وفي النهاية، أكد الطرفان على أن تطبيق بنود الاتفاق سيوكل إلى لجان تنفيذية، على أن يكتمل العمل التنفيذي قبل نهاية العام الحالي.
هذا، بالتأكيد، اتفاق تاريخي، ليس لسوريا الجديدة وحسب، بل ولكافة المشرق وشعوبه، التي عانت طويلًا من المظلومية التي استهدفت الأكراد، ومن الأعباء الاجتماعية والإنسانية الثقيلة للعنف الأهوج والكراهية والانقسام، التي خلَّفتها الحركات الكردية المسلحة. ولكن المؤكد أيضًا أن الاتفاق كُتب بلغة عامة، وتجاهل الكثير من التفاصيل التي قد تتحول إلى عناصر تفجير عند البدء في تطبيق ما اتُّفق عليه. فما العوامل والقوى التي دفعت نحو التوصل إلى هذا الاتفاق؟ وما الذي يعنيه الاتفاق لمسيرة ومستقبل الدولة السورية الجديدة، ولدول الجوار السوري؟ ولماذا يجب أن يُنظر إلى مستقبل الاتفاق بقدر كبير من الحذر والأمل على السواء؟
الطريق إلى الاتفاق
لم تتوقف اللقاءات بين قادة الدولة السورية الجديدة في دمشق وقادة قوات سوريا الديمقراطية طوال الشهور الثلاثة الماضية. كما أن اللقاء الذي نجم عنه توقيع الاتفاق، مساء 10 مارس/آذار، لم يكن الأول بين الشرع ومظلوم عبدي. ولكن الطرفين لم يستطيعا خلال جلسات المباحثات السابقة حل المعضلات التي تقف أمام وحدة البلاد وبسط سيادة الدولة السورية على منطقة شمال شرق الفرات، التي تخضع لسيطرة قسد. فقد حافظت قسد في جلسات المباحثات السابقة على المطالبة بإقامة الدولة السورية الجديدة على أساس فيدرالي، أو لا مركزي، كما طالبت بحصة محددة من إنتاج النفط والغاز في مناطق سيطرتها، وبانضمام قواتها إلى الجيش السوري الجديد ككتلة واحدة، وبأن يُضمن لها تمثيل ملموس في قيادة أركان الجيش وفي مؤسسات الدولة الأخرى. ولم يكن خافيًا أن هذه المطالب استبطنت المطالبة بحكم ذاتي كردي في منطقة سورية لا توجد فيها أصلًا أغلبية كردية، وفي دولة لم تعرف الانقسام الإثني أو الديني منذ استقلالها. وكان طبيعيًّا أن ترفض دمشق مثل هذه المطالب.
وعلى الرغم من أن قسد لم تزل منخرطة في المباحثات خلال الأسابيع القليلة الماضية، فثمة أدلة متضافرة على أنها قدمت مساعدات لمجموعات فلول النظام السابق التي قامت بحركة العصيان الدموية في 6-9 مارس/آذار. تقدر دمشق أن عدة آلاف من ضباط وجنود النظام السابق، سيما أولئك الذي عملوا تحت قيادة ماهر الأسد، قد فرُّوا إلى العراق وإلى مناطق سيطرة قسد بعد سقوط النظام، في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي. عدد من هذه العناصر عاد إلى الساحل السوري بمساعدة من قسد، وأسهم في تنظيم حركة العصيان التي استهدفت مدنَ وبلدات الساحل التي توجد فيها مجتمعات علوية. وهناك من يعتقد في دمشق بأنه لو كان العصيان قد نجح في السيطرة على الساحل، لكانت تحركات مناصرة للعصاة ستنطلق في السويداء ودرعا وشمال شرقي سوريا. بمعنى أن قسد كانت تعمل منذ سقوط نظام الأسد على طريقين: طريق تفاوض بطيء ومتقطع مع الحكم الجديد في دمشق، وطريق محاولة إضعاف هذا النظام ومحاصرته وإجباره على الخضوع لمطالب الجماعات الانقسامية بين الأقليات السورية. فلماذا إذن تبدو قسد وكأنها رمت أخيرًا بكل ثقلها في طريق التفاوض، وفاجأت الجميع بتوقيع اتفاق وحدوي التوجه مع دمشق؟
يعود السبب الأول إلى المناخ الذي ولَّده نداء عبد الله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني، في 27 فبراير/شباط، داعيًا المسلحين الأكراد في كافة فروع الحزب إلى إلقاء السلاح وحل الحزب والانخراط في الساحة السياسية الديمقراطية في تركيا. وعلى الرغم من تلكؤ قيادات حزب العمال وغموض استجابتها الأولية لنداء أوجلان، إلا أنها أعلنت في النهاية عن وقف إطلاق النار. كما نشرت مصادر إعلام تركية، في أوائل مارس/آذار، تقارير تفيد بأن حزب العمال يخطط بالفعل لتنظيم مؤتمر عام خلال شهر، ربما في أربيل أو السليمانية، للإعلان عن حل نفسه.
ليس مؤكدًا بعدُ ما إن كان قطار السلم وحل المسألة الكردية في تركيا سيمضي قدمًا دون عقبات ملموسة، بل ولا توجد ضمانات لعدم حدوث ردة أخرى عن مسار السلم والحل. ولكن مبادرة أوجلان واستجابة قيادات حزب العمال أطلقت مناخًا من التفاؤل الحذر بأن المسألة الكردية في الشرق الأوسط ككل تتجه نحو منعطف تاريخي. ولأن القيادة الكردية لقوات سوريا الديمقراطية في سوريا وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستاني، كان لابد لقسد أن تأخذ في الاعتبار المتغيرات المتسارعة في مسار المسألة الكردية في تركيا.
ويتعلق السبب الثاني بموقف إدارة ترامب من الوجود العسكري الأميركي في شرق سوريا، ومن التزام واشنطن برعاية قسد ماليًّا وعسكريًّا، المستمر منذ إدارة أوباما الثانية. وكان الوجود والرعاية الأميركية قد وفَّرا لقسد الموارد التي ساعدتها على تجنيد عشرات الآلاف من أبناء العشائر العربية في شرق الفرات، والحماية من مخططات اجتياح تركي متكررة. حاول ترامب، الذي لم يولِ سوريا مطلقًا أية أهمية في تصوره للإستراتيجية الأميركية العالمية، في إدارته الأولى سحب القوات الأميركية من شرق الفرات ووضع نهاية للعلاقة مع قسد، ولكن قيادات عسكرية أميركية في واشنطن والشرق الأوسط أقنعت الرئيس بضرورة المحافظة على الوضع الذي ورثه من الإدارة السابقة.
مؤخرًا، وعلى الرغم من عدم توافر إعلان صريح من واشنطن، ثمة تقارير تفيد بأن ضباطًا أميركيين كبارًا قاموا بزيارة منطقة شرق الفرات والتقوا قيادات قسد (وقيادات عشائرية عربية متحالفة معها)، وأخبروا كافة المعنيين بأن الانسحاب الأميركي من سوريا بات وشيكًا وأن عليهم العمل بجدية للتوصل إلى اتفاق مع دمشق. بل إن صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية نشرت في ساعة متأخرة من مساء 10 مارس/آذار تقريرًا يقول بأن ضباطًا أميركيين ساعدوا بالفعل على التوصل إلى الاتفاق.
أما السبب الثالث فيعود إلى الهزيمة التي ألحقتها الإدارة السورية الجديدة، وعموم الشعب السوري، بحركة العصيان المسلح في الساحل. فخلال ساعات من اندلاع العصيان، بعد ظهر 6 مارس/آذار، تحرك عشرات الآلاف من قوات الأمن الداخلي والقوات التابعة لوزارة الدفاع ومن أهالي محافظات سورية قريبة لتعزيز وجود الدولة في الساحل وإخماد العصيان. صحيح أن عمليات ملاحقة فلول النظام السابق واحتواء العصيان شهدت تجاوزات مؤلمة بحق مئات المدنيين العلويين، ولكن الصحيح أيضًا أنه مع حلول صباح يوم العاشر من مارس/آذار كان العصيان قد أُخمد وفلول النظام قد هُزمت، وعادت الحياة إلى طبيعتها في كافة مدن الساحل. وكان هذا الحسم السريع للعصيان هو ما دفع وزارة الدفاع إلى الإعلان عن انسحاب قوات الجيش، وعودة مسؤوليات حفظ النظام في الساحل إلى جهاز الأمن العام.
وجَّه إفشال العصيان في الساحل، ومظاهر التفاف عموم السوريين حول دولتهم الفتية، رسالة قاطعة لكافة الأطراف المتربصة بدمشق بأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن الأغلبية السورية تبدو أكثر استعدادًا من أي وقت مضى للدفاع عن الدولة ووحدة البلاد. ويبدو أن هذه الرسالة كانت كافية لأن تعيد القوى الانقسامية في شرق سوريا وجنوبها حساباتها من جديد.
الاتفاق في المنظور الخارجي
أغلب الدول العربية التي أسست لعلاقات جيدة مع نظام الحكم الجديد في دمشق سارعت خلال ساعات إلى الترحيب بالاتفاق، وفي مقدمتها السعودية وقطر والكويت. ولكن تركيا، وثيقة الصلة بدمشق، والمعنية بالمسألة الكردية أكثر من أية دولة أخرى في الإقليم، لم تصدر مباشرة بيانًا رسميًّا يحدد الموقف من الاتفاق.
ليس مستبعدًا أن الحكومة التركية كانت على دراية بمجريات التفاوض مع قسد لأنه يدخل في صميم أمنها القومي، ولأنها تحظى بعلاقات متينة ومميزة مع القيادة السورية. وفي اليوم التالي للإعلان، نقلت رويترز عن مسؤول تركي لم تسمه ترحيب أنقرة الحذر بالاتفاق، والإشارة إلى أن تركيا بانتظار تطبيق ما اتُّفق عليه. وبعد مرور ساعات قليلة على نشر تقرير رويترز، نُقل عن الرئيس التركي، أردوغان، قوله: إن السوريين هم الفائزون من الاتفاق وإن التنفيذ الكامل لبنوده هو فقط ما سيأتي بالسلام. في كل هذا، كان من الواضح أن الموقف التركي من الاتفاق تم التعبير عنه في لغة من الترحيب والتحفظ. وليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب من لغة التحفظ التركية. فطالما أن المسألة الكردية في شمال شرقي سوريا وثيقة الصلة بالمسألة الكردية في تركيا، وأن الدولة التركية ترى قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها ذراعًا لحزب العمال الكردستاني، فإن أنقرة ستمتنع عن الإيحاء بالاطمئنان لنوايا حزب العمال، وستظل بانتظار استجابة الحزب العملية لنداء أوجلان بالحل السياسي وإلقاء السلاح.
من جهة أخرى، يبدو أن الاتفاق، على الأقل في ظل الوعود التي حملها، قد أوقع خيبة أمل عميقة في إسرائيل وإيران. فقد أسست إسرائيل مقاربتها لنظام الحكم الجديد في دمشق على رؤية تقول بأن هذا النظام يشكل تهديدًا لأمن الدولة العبرية، وأن من الضروري المحافظة على سوريا ضعيفة ومجزأة. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، سعت إسرائيل بصورة حثيثة، إلى إقناع إدارة ترامب بعدم سحب القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات. وأعرب كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووزيري الدفاع والخارجية، عن استعداد إسرائيل لتوفير حماية للدروز في السويداء، والرغبة في إقامة علاقات تعاون مع الأكراد في شمال شرقي البلاد. ولذا، فإن إمكانية النجاح في تطبيق الاتفاق دون عقبات كبيرة، سيؤدي إلى انسحاب الأميركيين من شرق الفرات، ويسهم بالتالي في تعزيز سيادة دمشق على كافة أنحاء البلاد، ويجعل القيادة السورية الجديدة توجه ضربة مؤلمة لمخططات إسرائيل في سوريا.
في إيران، يبدو أن ثمة دوائر في نظام حكم الجمهورية الإسلامية لا تزال تأمل بإفشال النظام الجديد في دمشق، أو حتى إطاحته. وقد تكون هذه الدوائر علقت آمالًا كبيرة على قسد، سواء لتوفير الحماية والدعم لمعارضي دمشق في سوريا، أو المواجهة مع النظام السوري الجديد وأجهزته الدفاعية والأمنية. وبإغلاق أفق هذا التعاون، إن نجح الاتفاق بالفعل في إحداث هذا الإغلاق، ستكون إيران قد خسرت حليفًا كبيرًا في محاولة استعادة النفوذ في سوريا.
الشكوك المحيطة بالاتفاق
يوحي نص الاتفاق بالتزام إدارة الرئيس الشرع الثوابت التي أعلنتها منذ الأيام الأولى لتوليها أمر سوريا: الحفاظ على وحدة البلاد، والمواطنة المتساوية لكافة السوريين، والعمل على تمثيل عادل لكافة مكونات الشعب السوري في الحكم. كما أن النص يخلو كلية من أي توجه لقبول مبدأ المحاصصة، أو الحكم الذاتي، أو الإشارة لأي نظام يوحي بالتقسيم الإداري أو السيادي. ولكن بنود الاتفاق وُضعت أيضًا في صيغة عامة، ولم تتطرق لأية تفاصيل ضرورية لعملية اندماج قوات سوريا الديمقراطية وأجهزتها وقواتها. كما أن الاتفاق منح الطرفين (أو بالأحرى قسد) فترة طويلة، تصل إلى نهاية هذا العام، لتنفيذ بنوده.
يقول المتحفظون على الاتفاق: إن حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره تركيا (الحزب الأم لقسد)، سبق أن توصل إلى اتفاقين مع الحكومة التركية في الفترة بين 2013 و2015 لوقف إطلاق النار والتخلي عن العمل المسلح، ثم عاد ونكص على عقبيه. وبالنظر إلى الصيغة العامة لبنود الاتفاق، ليس ثمة ما يمنع قسد عند التطبيق من القول بأن نظام الحكم غير المركزي لا يتناقض بالضرورة مع النص على الحفاظ على وحدة سوريا، أو حتى بالعودة إلى المطالبة بأن يُنجز اندماج قوات قسد في عديد الجيش السوري بالمحافظة على التشكيلات الحالية للقوات كما هي. كما أن قسد قد تجد طريقة أو أخرى لتفسير النص القاضي باستعادة الدولة حقول النفط والغاز بما يضمن حصول إدارتها في محافظتي الحسكة والرقة على نسبة ما من عائدات النفط والغاز، طالما أن الاتفاق لم يقل بصورة واضحة وقاطعة بحل إدارة قسد، ولا كيفية استعادة الدولة المركزية لحقول النفط والغاز.
المشكلة الأكبر خلف هذه التخوفات أن قرار قسد ليس بالضرورة في يد قادتها المعروفين، مثل مظلوم عبدي، بل هو في النهاية قرار قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل. ولأن تجربة قسد هي الأولى والوحيدة، التي استطاع فيها قادة سابقون في حزب العمال الكردستاني إقامة إدارة شبه حكومية، وشبه مستقلة، في منطقة تواجد كردي، فهناك قدر من الشك في إمكانية تخلي قيادات قنديل عن التجربة السورية. الأكثر مدعاة للشك أن قسد استطاعت منذ 2015 بناء علاقات دولية، سواء مع الولايات المتحدة، أو مع الأوروبيين، أو مع روسيا، وسيكون من الصعب عليها التخلي عن علاقاتها الدولية والانضواء في الساحة الوطنية السورية.
دلالات الاتفاق وأبعاده
ولكن، على الرغم من هذه المخاوف، لابد من الإقرار بأن الاتفاق يمثل إنجازًا كبيرًا لإدارة الرئيس الشرع. فمجرد التوقيع على الاتفاق في هذه اللحظة المبكرة والحرجة من عمر سوريا الجديدة هو في حدِّ ذاته رافعة هائلة لجهود النهوض بسوريا والحفاظ على وحدتها في الوقت نفسه. وإن جرى تنفيذ الاتفاق في إطار من رؤية الإدارة السورية الإيجابية لبنوده، فيمكن أن يترك أثرًا بعيد المدى على مجمل المسألة الكردية في المشرق.
جاء الإعلان عن الاتفاق بعد أيام أربعة فقط من اندلاع العصيان الدموي في الساحل السوري، وما أثاره من شعور بالقلق الجمعي والتشاؤم في صفوف الشعب السوري تجاه مستقبل بلادهم والآمال المعلقة على انتصار ثورتهم. وكان طبيعيًّا أن يولِّد توقيع الاتفاق مناخًا عاصفًا من التفاؤل والفرح، ليس في دمشق ودرعا وحمص وإدلب وحماة وحسب، بل وفي مدن الشرق والشمال الشرقي، كما في اللاذقية وطرطوس، التي شهدت جميعها تجمعات احتفالية حاشدة، جددت الثقة في الدولة الجديدة ومسارها. وحتى إن كانت قيادة قسد قد وقَّعت الاتفاق بحسابات تكتيكية وانتظارًا لفرصة أخرى مواتية لتحقيق أهدافها الانقسامية السابقة، فلابد أن الاتفاق يمنح دمشق وقتًا ثمينًا للعمل على بناء مؤسسات الدولة الجديدة الأمنية والدفاعية القادرة على صيانة وحدة البلاد وسيادة الدولة.
على المستوى السوري، أُعلن في اليوم التالي على توقيع الاتفاق عن التوصل إلى تفاهمات بين وزارة الداخلية السورية ووجهاء وممثلي أهالي السويداء حول الدمج الكامل لمحافظة السويداء في مؤسسات الحكم الجديدة. وقد سارع نشطاء وحدويون في السويداء بمجرد الإعلان عن التفاهمات إلى إعادة رفع العلم السوري الجديد على مبنى المحافظة في المدينة. تعزز هذه الخطوة من جهود توحيد البلاد، وربما ستعمل على إجهاض مساعي الإعلان عن الحكم الذاتي في السويداء، التي كان يخطط لها دعاة التقسيم وإضعاف الحكم المركزي. كما أُعلن في اليوم نفسه عن اكتمال أعمال لجنة صياغة الإعلان الدستوري المؤقت، الذي قُدمت مسودته لرئيس الجمهورية، وصدَّق عليها، 13 مارس/آذار، ما سيفتح الطريق أمام تشكيل مجلس النواب الانتقالي، وتشكيل حكومة انتقالية من الكفاءات واسعة التمثيل، تمتلك السلطة الدستورية التي تؤهلها لاتخاذ قرارات كبيرة.
لم تكن هذه التطورات ممكنة، أو على الأقل لم تكن ميسرة، دون هزيمة العصيان في الساحل وتوقيع اتفاق الاندماج مع قسد. وبعد أن تمكنت القيادة السورية الجديدة من احتواء تجاوزات المواجهة مع فلول النظام في الساحل التي كانت تنذر بموقف دولي متشدد من دمشق، فالأرجح أن مجمل هذه التطورات سيعزز من شرعية النظام الجديد ومن أسهمه في الساحة العربية والدولية، ويدفع نحو المزيد من خطوات رفع العقوبات الدولية وإجراءات الحصار ثقيلة الوطأة التي كانت قد فُرضت على النظام السابق.
خلف ذلك كله، يمكن لتجربة التفاوض بين دمشق وقسد أن تدفع عملية التحول السلمي-الديمقراطي في المسألة الكردية في تركيا إلى الأمام، وأن تساعد على تخفيف مستوى التوتر في العلاقة بين إقليم الحكم الذاتي في كردستان العراق وبغداد، وأن تعمل على إحداث انقلاب تاريخي في مسار الحركة القومية الكردية في المشرق، وفي علاقة الأكراد بمحيطهم العربي والتركي، وبالدول التي يعيشون في ظلها والتي ناضلوا طويلًا ضدها. فقد كان نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في المشرق كارثة كبيرة على الأكراد والعرب والأتراك، على السواء. وربما جاء الوقت الذي يدرك فيه القوميون الأكراد، كما القوميون العرب والأتراك، أن الخلاص يكمن في العمل المشترك على تجاوز نظام ما بعد الحرب الأولى، وليس في المزيد من التجزئة والانقسام، أو المزيد من التطرف القومي وسياسات القهر والإخضاع.
مركز الجزيرة للدراسات
—————————————–
حدود ثابتة وجدران داخل الدول/ طوني فرنسيس
المشرق العربي يواجه تمزقاته الداخلية على يد مشاريع متناقضة لكن تقسيمات “سايكس بيكو” تبقى صامدة
الاثنين 17 مارس 2025
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
لم يتراجع الحديث عن تفتيت دول المشرق العربي إلى دويلات مذهبية وإثنية وعن تغيير للحدود الدولية القائمة طوال العقود الماضية، لكن تلك الحدود استمرت بصيغتها التاريخية فيما قامت الحواجز داخل كل بلد بين طوائف ومذاهب ومجموعات على حساب الدولة الوطنية.
كان حديث نسف الحدود وتعديلها يستند إلى وقائع تغذيها نظرية المؤامرة المتجذرة في عقول نخب كثيرة وجوهرها أن الغرب وإسرائيل يعملان على تنفيذ مخطط تقسيمي استعماري يلغي الدول الوطنية الناشئة بعد انهيار السلطنة العثمانية و”اتفاق سايكس بيكو” البريطاني- الفرنسي الذي بلور في “مؤتمر سان ريمو” عام 1920 الحدود الراهنة لدول المنطقة، ويقيم بدلاً منها مجموعة من الكيانات الضعيفة على أسس دينية خصوصاً، توفر في ضعفها وتفككها حماية طويلة الأمد للمشروع الإسرائيلي في امتداداته الاستعمارية.
مع الاعتراف بوجاهة هذه النظرية إلا أنها لا تغطي صورة المشهد بأكمله، فليست إسرائيل وحدها من تطمح إلى تغيير أوضاع قائمة، وتحت عنوان مواجهة ورفض تقسيمات “سايكس بيكو” نشطت قوى أخرى، قومية و”إسلامية” سعت وجهدت إلى إلغاء الحدود في المشرق العربي ودمج تلك الدول في مشاريع أوسع نطاقاً باسم القومية العربية والسورية تارة وباسم الإسلام طوراً، وعلى رغم الإمكانات الضخمة التي توافرت لكل تلك القوى، لم يتمكن أي طرف منها من تحقيق مشروعه كما يرغب وصمدت تقسيمات سان ريمو في شقها العراقي والسوري واللبناني متجاوزة ما يمكن تسميته بأقسى امتحانات قرن بكامله.
كان الامتحان الأحدث ولا يزال في سوريا، فما جرى ويجري في هذا البلد العربي قبل فرار الرئيس بشار الأسد وبعد لجوئه إلى روسيا، إذ بدت في ختام معركة الـ14 عاماً بين النظام ومعارضيه أقرب إلى دولة جاهزة للانقسام والتفكك، وترسخت عوامل الانقسام في ظل نظام الأسد وتفاقمت بعد رحيله واندلاع صدامات الساحل والجنوب والانفصال الواقعي للأكراد في الشرق، لكن في المحصلة الأولية تبين أن لا أحد يريد الانفصال وتشكيل دولته الخاصة، على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستغاثة بالتدخلات الخارجية وسعي بعض الخارج، خصوصاً إسرائيل إلى استغلال الأوضاع.
لقد ظهر إلى جانب تمسك النخب السورية بوحدة بلادها، من الجزيرة إلى السويداء والساحل في ظل نظام يكفل المساواة والعدالة، أن القرار الدولي الذي يمسك بمصير الخرائط لا يزال أيضاً مؤمناً بخيارات رسمها مارك سايكس وجورج بيكو قبل 106 أعوام.
كانت تلك الخيارات وخرائطها تعرضت لامتحانات قاسية قبل الامتحانات السورية الأخيرة، فعام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وتحت وطأة المفاجأة اعتبر كثيرون أن مرحلة جديدة خطرة بدأت. وقال كثيرون ومن بينهم الزعيم الكردي العراقي مسعود برزاني، “في الحقيقة أن سايكس- بيكو فشل وانتهى”، ولاقاه السياسي اللبناني وليد جنبلاط في الاستنتاج أن “سايكس بيكو انتهى، ذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن تتضح النتائج” (من تصريحات إلى “بي بي سي” مايو (أيار) 2014)، ومع ذلك لم تتغير الحدود وهزم مشروع “الدولة الإسلامية” المزعوم.
كان البرزاني يعرف أكثر من غيره أن حدود الإقليم الكردستاني التي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 1991 كمنطقة محمية للأكراد العراقيين لم تتحول إلى كيان مستقل بحدود خاصة على رغم الغزو الأميركي وإسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت الحدود العراقية الدولية معترفاً بها كما كانت منذ العهد الملكي.
وربما تكون تجربة لبنان في الحرب الأهلية فاتحة أحاديث الانقسام وتشكيل الدويلات في المشرق، وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي توالت التحذيرات من “البلقنة”، نسبة إلى انقسامات البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشط الحديث عن “قبرصة” نسبة إلى تقسيم قبرص إثر الانقلاب على الرئيس مكاريوس والغزو التركي واحتلاله شمال الجزيرة (1974). وحروب لبنان التي استمرت لمدة نحو 15 عاماً رسخت المخاوف من مصائر مماثلة، وقد جرى خلالها التصريح مراراً عن رغبات تقسيمية على أساس ديني، لكن كل ذلك صار أوهاماً وانتهى مع إقرار “اتفاق الطائف” في السعودية وبرعايتها، وعاد اللبنانيون جميعاً، بمقتضى الاتفاق، للبنانهم “كوطن نهائي لجميع أبنائه” بحدوده المرسومة قبل أكثر من قرن على يد الفرنسيين والإنجليز.
وكانت النظريات القومية العربية سباقة إلى الرغبة في نسف الحدود “المصطنعة”، فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي بشر بإلغائها وتوحيد “الأمة العربية”، ثم نادى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بأهداف مماثلة وانتهت تجربة الطرفين إلى فشل ذريع. وحكم “البعث” العراق وسوريا فأقفلت الحدود بين البلدين وترسخت منافذها، وأقام عبدالناصر محاولة وحدوية مع سوريا سرعان ما انتهت إلى انفصال وصدام.
صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.
فقد جعلت إيران مجتمعات عدد من الدول العربية أجساداً مريضة عبر التركيز على ربط الشيعة العرب بالمرشد الإيراني وحساباته “القومية الإيرانية”، وأدى التحريض الإيراني المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، مترافقاً مع عمليات تنظيم وتمويل واسعة، إلى خلق دويلات ضمن الدولة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي المقابل كانت إسرائيل ومنذ زمن بعيد تسعى إلى تجذير انقسامات مذهبية ودينية مماثلة ضمن استراتيجية صريحة لإضعاف وتمزيق الدول المحيطة. لقد كانت مقالة الباحث الإسرائيلي عوديد ينون المنشورة في فبراير (شباط) عام 1982 بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” ولا تزال مرجعاً تجري العودة له كلما تصاعد الحديث عن تفتيت دول المشرق. واليوم ومع التطورات الأخيرة في سوريا يصار إلى التذكير بهذه “الاستراتيجية” التي نادت في حينه بتقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى دويلات مذهبية وإثنية، وهي خطط لا تزال تطل برأسها عبر السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والعراق وأماكن أخرى.
ويوفر مستوى التمزقات المجتمعية الداخلية في المشرق على يد الإسلام السياسي بفروعه الإيرانية والإخوانية وضعف الدولة الوطنية المركزية فرصاً ثمينة لمزيد من التدخلات الخارجية الإسرائيلية خصوصاً، ومزيداً من أوهام الخلاص خارج دولها لدى الأقليات الخائفة والمضطهدة.
ومع ذلك تقول التجربة حتى الآن إن الحدود المرسومة قبل قرن ستبقى قائمة، لكن مزيداً من جدران الانقسام الداخلي سترتفع بين الناس أطيافاً وشرائح إذا لم تُعتمد صيغ جديدة للحكم تأخذ الحساسيات المختلفة في الاعتبار. ولن تتغير الحدود لأن صانعيها الدوليين لا يريدون تغييرها وليس لأن رافضيها المحليين أقوياء بما فيه الكفاية.
ورداً على سؤال طرحه الباحث في “معهد بروكينغز” غريغوري غوس قبل 10 أعوام على نفسه في مناخ صعود “دولة داعش”، “هل سنشهد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط؟”، أجاب “باختصار، كلا! الحدود لن تتغير. وفي الحقيقة ستؤول هذه الحدود إلى ما يشير إليه خبير العلوم السياسية روبرت جاكسون بـ’شبه الدول‘، المشار إليها دولياً كصاحبة سيادة، على رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية التي تطلبها السيادة قبل السيطرة على الحدود والأراضي”. والأرجح أن السلطة الحقيقية في المشرق ستصبح متاحة للجميع إذا ترسخت المسارات الراهنة ولم تتغير، إلا أن حدود الشريكين سايكس وبيكو ستكون آخر المتغيرات.
——————————-
صحيفة تركية تكشف تفاصيل لقاء فيدان وغولر وكالن بالرئيس السوري أحمد الشرع
2025.03.17
كشفت صحيفة “حريت” التركية تفاصيل زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان ووزير الدفاع يشار غولر ومدير الاستخبارات إبراهيم كالين إلى دمشق، الأسبوع الفائت، ولقائهم بالرئيس السوري أحمد الشرع.
وبحسب الصحيفة
، فإن توقيت هذه الزيارة كان مهماً لأربعة أسباب:
1- الاتفاق بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي.
2- الإعلان عن اجتماع مجلس الوزراء في سوريا هذا الأسبوع.
3- محاولة التمرد الفاشلة التي شنتها فلول جيش الأسد المدعوم من إيران في اللاذقية وطرطوس.
4- تصرفات (الجماعة) الدرزية المدعومة من إسرائيل.
وتتابع الصحيفة:
في الثامن من كانون الأول اندلعت الثورة في سوريا. لكن القوى الخارجية، وخاصة إيران وإسرائيل، تبذل جهوداً مكثفة لزعزعة استقرار سوريا، التي تعيش في حرباً دموية منذ 13 عاما ويحكمها نظام البعث منذ 61 عاماً. وقال وزير الخارجية هاكان فيدان: “لقد حذرنا في السابق من الاستفزازات بشأن هذه القضية. لن تكون هذه المرة الأولى والأخيرة. وأضاف أن “الإجراءات الإدارية والسياسية مهمة ضد مثل هذه الاستفزازات”. إن مهمة سوريا صعبة جداً، لكن تركيا هي الضامن للاستقرار في سوريا. ولهذا السبب لم تنجح تلك القوى.
تقييم هاكان فيدان
وبخصوص الملفات والقضايا التي ناقشها الوفد التركي مع الرئاسة السورية؛ في البداية تمت مناقشة الاتفاق الذي تم مع مظلوم عبدي. حيث جرى تقييم 8 نقاط، وخلصت المناقشة إلى أنه لم يكن هناك أي نقطة من شأنها أن تزعزع استقرار تركيا.
سُئل وزير الخارجية فيدان عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، فأجاب: “تتبع هذه المنظمة (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) استراتيجية زرع الألغام في الخلف أثناء التحرك للأمام. لهذا السبب أنا حذر، وأركز على النتيجة. وسوف أنظر أيضاً إلى نتائج هذا الاتفاق.. سأتابعه حتى النهاية”.
فيدان ليس مجرد وزير خارجية عادي، فهو قادم من وكالة الاستخبارات الوطنية التركية، وهو أحد أبرز الخبراء العالميين في مجال السياسات الأمنية.
سيكون التطبيق أساسياً
“نقلنا وجهة نظر أنقرة في خضم اللحظة. وترى تركيا أن الاتفاق إيجابي وتركّز على تنفيذه”. وفق قول وزير الدفاع يشار غولر، ويضيف: “يجب اتخاذ قرار إنهاء وجود (حزب العمال الكردستاني) العسكري في أقرب وقت ممكن ويجب عليهم تسليم أسلحتهم على الفور، ودون قيد أو شرط”.
ومن المتوقع أن يعقد قنديل مؤتمره، ربما في السليمانية، في منتصف نيسان المقبل، ويتخذ قرار الحل. ومع ذلك، فإننا سوف نتابع عملية نزع سلاح “حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب” ودمجها في الجيش السوري، من أجل منع تفجير الوضع في المستقبل، كما أشار حقان فيدان .
تعيين مستشار عسكري تركي
من المقرر أن يزور وفد عسكري تركي دمشق للمرة الثانية خلال الأيام المقبلة. وفي الواقع، خلال زيارة الوزراء إلى دمشق، كان المدير العام للدفاع والأمن اللواء “إلكاي ألتينداغ” ضمن الوفد أيضاً.
وفي إطار التعاون العسكري مع سوريا، ستساهم أنقرة في إعادة هيكلة الجيش السوري وتزويده بمنتجات صناعتها الدفاعية المتطورة لتعزيز قدرات الجيش السوري. كما سيتم تعيين أحد الضباط الأتراك مستشاراً عسكرياً للجيش السوري. وقد بدأ الملحق العسكري في السفارة التركية بأداء مهامه.
بوابات الحدود أولاً
ستتولى الدولة السورية مؤسسات الدولة في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية/حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب”، وخاصة المعابر الحدودية. وسيتم العمل على نزع السلاح، وضمان خروج الإرهابيين غير السوريين من البلاد، ودمج عناصر “قسد” البالغ عددهم 20 ألف عنصر في الجيش السوري.
وكان للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الدولة السورية و”قسد” أثر إيجابي على إلقاء “حزب العمال الكردستاني” سلاحه وحل نفسه. إن قرار “العمال الكردستاني” بعقد مؤتمره القادم وحل نفسه سيعطي زخماً إيجابياً للاندماج في سوريا.
لماذا أبرمت الصفقة؟
وترى الصحيفة أن الأسباب التي دفعت مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاقية تتمثل في:
1- القضاء على محاولة الانقلاب في اللاذقية وطرطوس.
2- فشل الاستفزاز الإسرائيلي ضد الدروز.
3- بحسب مسؤول أميركي تحدث لصحيفة وول ستريت جورنال، فإن احتمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا كان عامل ضغط دفع مظلوم عبدي نحو الاتفاق؛ لم يأتِ نقله إلى دمشق بواسطة مروحية أميركية من فراغ.
4- تصميم تركيا. وكان من المقرر توقيع هذه الاتفاقية في 20 شباط الفائت، وتمكن عبدي من تجنب الضغوط من إيران وإسرائيل، ولكنه رأى أن البلدين لن يكونا قادرين على حماية أنفسهما ضد عملية عسكرية كبيرة تشنها تركيا. لو نجحت محاولة الانقلاب في اللاذقية وطرطوس، لما جلس مظلوم عبدي على الطاولة.
إعلان عن مجلس الوزراء
سيتم اتخاذ خطوة مهمة أخرى في سوريا هذا الأسبوع، وتتمثل في الإعلان عن مجلس الوزراء. سوريا ستكون دولة موحدة يحكمها نظام رئاسي، وسيتولى أحمد الشرع أيضاً حكم البلاد كرئيس يتمتع بصلاحيات تنفيذية.
سيتم إلغاء منصب رئاسة الوزراء، مثل النموذج التركي. سوريا لديها نفط ولكن ليس لديها وزارة للطاقة. وسيكون هناك وزيراً للطاقة في الحكومة الجديدة. ومن المهم أن يتم نقل حقول النفط والغاز الطبيعي في مناطق “قسد” إلى الإدارة المركزية في أقرب وقت ممكن.
وحول شكل الحكومة السورية الجديدة، سيكون هناك حكومة تحتضن جميع السوريين. وسيكون لهذا أهمية كبيرة في الحفاظ على وحدة سوريا؛ حيث ستضم الحكومة ممثلين عن الأكراد والعرب والعلويين والمسيحيين والتركمان، بما يتناسب مع حجمهم في البلاد، وفق ما أوردت الصحيفة.
————————–
كيف تبدو تركيبة الجيش السوري الجديد بعد دمج الفصائل؟/ عبد الحليم سليمان
المشهد العسكري في جنوب البلاد معقد حيث لا تتبع القوى المسيطرة على هذه المنطقة وزارة الدفاع المشكلة حديثاً
الاثنين 17 مارس 2025
ملخص
محاولات دمج الفصائل مستمرة من قبل الإدارة الانتقالية في دمشق، فالمشهد يبدو معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم للانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش سوريا الجديد.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على سقوط حكم بشار الأسد وانهيار جيشه، يمثل تشكيل جيش جديد تحت قيادة وإدارة وزارة الدفاع الجديدة أحد أكبر التحديدات التي تواجهها القيادة الحالية، فحال الفصائل لا تزال تهيمن على المشهد العسكري على رغم اجتماع عدد غير قليل من قادتها في ما عرف بـ “مؤتمر النصر” الذي منح الشرعية العسكرية والثورية للرئيس أحمد الشرع لتولي قيادة المرحلة الانتقالية، عبر إطلاق حوار وطني وإعلان دستوري وحكومة انتقالية تقود المرحلة.
ويبدو المشهد معقداً على رغم إبداء معظم قادة هذه الفصائل استعدادهم الانضمام إلى وزارة الدفاع ليصبحوا جزءاً من جيش البلاد، لكن معظم هذه الفصائل لا تزال تحتفظ بأسمائها وتبعيتها التنظيمية السابقة وكذلك سلاحها، سواء تلك المنضوية تحت الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا أو الفصائل في الجنوب السوري أو في التنف، في حين أن “هيئة تحرير الشام” والفصائل التي تحالفت معها في إدارة العمليات المشتركة، ولا سيما تلك التي أسقطت نظام بشار الأسد أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تدير المشهد العسكري الرسمي من خلال وزارة الدفاع التي تسلم مسؤوليتها القيادي العسكري في “هيئة تحرير الشام” مرهف أبو قصرة، وفي أواخر ديسمبر الماضي جرى ترقية نحو 49 من قادات وعناصر الفصائل المسلحة وتسميتهم ضباطاً رفيعين، ومنحهم رتب اللواء والعميد والعقيد في الجيش السوري المزمع تشكيله، وشملت الترقيات عناصر من “تحرير الشام” والفصال المتحالف معها وكذلك من الجيش الوطني الموالي لتركيا، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن من بين الأسماء الـ 49 الواردة في المرسوم “ستة متطرفين أجانب”، بينهم ألباني وأردني وطاجيكي وآخر من الإيغور ينتمي إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وتركي كان “قائد لواء” في الهيئة.
المنطقة الجنوبية الرخوة
وفي الجنوب السوري يبدو الوضع العسكري الداخلي مقلقاً جداً لدمشق، ولا سيما بعد دخول غرفة عمليات الجنوب وفصيله الأبرز “اللواء الثامن” بقيادة أحمد العودة دمشق والسيطرة على العاصمة ومؤسساتها في الثامن من ديسمبر الماضي، على رغم وجود الشرع وعناصره في حمص وقتها.
وعلى رغم حضور نائب العودة “مؤتمر النصر” وعقد اجتماعات عدة بين الطرفين، أبرزها لقاء الشرع والعودة، لكن الفصيل لم يسلم سلاحه خصوصاً وأنه يملك ترسانة كبيرة من السلاح الثقيل، لأنه بحسب معلومات متداولة يطالب بضمانات تمنح فصيله امتيازات خاصة واستقلالية عسكرية ضمن وزارة الدفاع.
وكان الفصيل تشكل جراء مفاوضات المسلحين مع روسيا ونظام الأسد كجزء من “الفيلق الخامس” المدعوم روسياً، إذ لا يزال العودة يحظى بهذا الدعم إضافة إلى علاقات مع الأردن ودول إقليمية، وفق مصادر سورية.
وعلى حدود مناطق سيطرة فصيل العودة يوجد الدروز في محافظة السويداء جنوباً وتسيطر على مناطقهم فصائل مسلحة محلية عدة أبرزها “المجلس العسكري للسويداء” و”لواء الجبل” وغيرها من فصائل تشكلت خلال أعوام الحرب، ومع سقوط النظام وتشكيل وزارة الدفاع الجديدة لم تنضم هذه الفصائل إلى الجيش السوري على رغم لقاءات عدة عقدت بين الطرفين، ومحاولة دخول وزارة الداخلية وقوى الأمن العام للمحافظة، لكنها غير مقبولة من قبل الدروز ولا سيما أن تحفظات وخلافات سياسية تعلن تجاه دمشق بين فترة وأخرى من قبل زعامات دينية، وهي صاحبة القول الفصل في شؤون الطائفة وبخاصة الشيخ حكمت الهجري الذي رفض أخيراً “الإعلان الدستوري” مطالباً بدولة مدنية تحفظ حقوقهم، وكذلك سجلت مآخذ وانتقادات من قبلهم تجاه الحكم الجديد بخصوص مؤتمر الحوار، مما يزيد تعقيد انضمام الفصائل الدرزية إلى الجيش السوري.
ويتزامن ذلك مع حوادث متفرقة عدة، فقد نشبت اشتباكات بين القوات التابعة لدمشق ومسلحين دروز في ضاحية جرمانية الدرزية المتاخمة لدمشق وأدت إلى إصابات بين الطرفين، لكن الحادثة طوقت سريعاً مع تدخل مسلحين دروز مقربين من دمشق على خط الوساطة لتنتهي بتسلم قوى الأمن العام، في حين أن سلاح الفصيل المسلح لا يزال في يد عناصره، ويعتبر إحدى أسباب المناكفة بين الدروز وحكومة الشرع، إضافة إلى تصريحات إسرائيلية بضرورة حماية الدروز في سوريا والتحذير من الاعتداء عليهم.
“قسد” الملف الأثقل
ملف الفصائل العسكرية في سوريا من أكثر الملفات الشائكة حالياً وبخاصة ملف اندماج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الذي يعتبر من أعقد وأثقل القضايا، لما تحمله من خلافات بينها وبين قوات دمشق إضافة إلى صراعها المستمر مع الفصائل الموالية لتركيا، والتي انضمت جميعها إلى وزارة الدفاع في حكومة الشرع، في حين أنها لا تزال جزءاً من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا وتتلقى منها الدعم والرواتب، كما أن هذه الفصائل تقاتل منذ أواخر ديسمبر “قسد” في منطقة سد تشرين وجسر قره قوزاق في ريف كوباني الجنوبي، إضافة إلى مناوشات مستمرة بين الطرفين في مناطق نبع السلام أيضاً.
وبخلاف غيرها من الكيانات العسكرية في سوريا فإن مهمة “قسد” تتركز على مكافحة الإرهاب وحماية السجون التي تؤوي عناصر تنظيم “داعش” والبالغ عددهم نحو 10 آلاف، بينهم 2000 مقاتل أجنبي موزعين داخل 26 مركزاً للاحتجاز، وإضافة إلى مخيمي الهول وروج فإن التحدي الأكبر يكمن في الهجمات الجوية التي تتلقاها من تركيا، ومواجهة الفصائل التي تتزعم غالبيتها عناصر قيادات تركمانية، وأصبحت جزءاً من وزارة الدفاع التابعة لدمشق، وهي تقاتل “قسد” الذي يضع بند التزام الشرع بوقف إطلاق النار على المحك.
وعقب توقيع الاتفاق بين الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي الذي أنعش آمال الأكراد ومكونات أخرى ولاقى ترحيباً سورياً وعربياً ودولياً، إلا أن “الإعلان الدستوري” الذي صادق عليه الشرع بعد ثلاثة أيام من اتفاقه مع عبدي تجاهل إدراج حقوق الأكراد أو شكل الدولة اللامركزية كما يطمحون، إضافة إلى بنود أخرى أثارت حفيظة الأكراد الذين خرجوا بمواقف رافضة لـ “الإعلان الدستوري”، إضافة إلى السُريان الذين رفضوا الخطوة الحكومية للأسباب ذاتها، مما قد يلقي بظلاله على الاتفاق الذي ينص على دمج القوات العسكرية ويسهل الطريق أمام بقية المؤسسات.
ويقول الباحث من “مركز الفرات للدراسات” في القامشلي وليد جولي إن الكرد وباقي المكونات المنتشرة شمال شرقي سوريا سيكون لهم موقف حازم ضد هذه الفصائل التي ارتكبت انتهاكات ومجازر ضد السكان المدنيين في الساحل، يقضي بالإصرار على تسليمهم دمشق وإلقاء السلاح أو الدمج على شكل أفراد، “فما حصل في الساحل السوري كشف الأقنعة بصورة واضحة وأفقد الثقة في الإدارة الجديدة، ومن حق أي مكون سوري أو جماعة سياسية أن ترفض تسليم أمرها لهؤلاء”، على حد قول جولي.
أما بالنسبة إلى جيش “سوريا الحرة” المعدّ والمدرب أميركياً والذي يسيطر على قاعدة التنف وصولاً إلى تدمر، فقد شارك قائد الفصيل في “مؤتمر النصر” وأصبح جزءاً من وزارة الدفاع، لكن جميع تحركاته على الأرض تجري بالتنسيق مع التحالف الدولي والقوات الأميركية، إذ يعتبر الفصيل الوحيد في وزارة الدفاع والعامل مع الجيش الأميركي في إطار مكافحة الإرهاب رسمياً.
آمال بالانضمام للجيش الجديد
في بدايات يناير (كانون الثاني) الماضي قال وزير الدفاع مرهف أحمد أبو قصرة إنه من بين توجهات القيادة العامة إعادة هيكلة القوات المسلحة وتنظيم الجيش العربي السوري، مضيفاً “بدأنا جلسات مع الفصائل العسكرية من أجل وضع خطوات انضمامهم لوزارة الدفاع، إذ تهدف الجلسات إلى وضع خريطة طريق لتحقيق الاستقرار في البنية التنظيمية للقوات المسلحة”، ولا تزال تلك المشاورات والاجتماعات جارية على رغم مرور 100 يوم، لكن هيكلية الجيش السوري الحكومي لا تزال ضبابية جراء معوقات كبيرة تعترض سبيل نجاحها، في وقت لم تكتمل بعد شروط نجاح تشكيل الجيش وتزويده بما يلزم من عتاد وذخيرة ومال، ولا سيما وأن سلاح الجو الإسرائيلي قصف عشرات المطارات والمستودعات العسكرية التابعة للنظام السابق، ودمر نحو 80 في المئة من ترسانة السلاح، إضافة إلى عمليات خاصة ضد مخازن الأسلحة الكيماوية مما أدى إلى تعرية البلاد من السلاح، وغداة سقوط الأسد وعقب تنفيذ إسرائيل عدداً كبيراً من الهجمات على مواقع لتخزين الأسلحة التابعة لجيش الأسد، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إنه “جرى استهداف مواقع أسلحة كيماوية وصواريخ طويلة المدى في سوريا من أجل منع وقوعها في أيدي أطراف عدائية”.
—————————–
الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان
تحديث 17 أذار 2025
اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.
للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.
مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».
في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:
*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.
*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.
*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.
*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.
*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.
*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.
*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.
*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.
*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.
*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.
إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
كاتب لبناني
القدس العربي
——————————
المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء/ سام منسى
تحديث 17 أذار 2025
يبدو أن النزاعات في المشرق لم تقترب من نهايتها كما خُيل للكثيرين بعد حربي غزة ولبنان، وأطاحت آثارهما بحكم آل الأسد بسوريا بلمحة بصر بعد 54 عاماً من الاستبداد.
الأحداث في سوريا، من التمرد العسكري لفلول النظام، مروراً بزرع بذور الفتنة بين دروز سوريا والنظام الجديد إلى مسألة الأكراد، تبقى الأشد خطورة، لا سيما أنها واقعة تحت سطوة لاعبين كثر أبرزهم الإيراني والتركي والإسرائيلي ولو بنسب متفاوتة؛ ما يتيح لهؤلاء لعب أدوار تصب في مصالحهم.
إسرائيل موجودة في المشهد السوري منذ الساعات الأولى لسقوط بشار الأسد بمواقف وممارسات ملتبسة وخبيثة. وبعد تراجعها عن التمسك بالنظام البائد وسيده إثر السطوة الإيرانية عليه، عاد حنينها إليه بعد سقوطه، وتمادت في دورها المزعزع بقصف منشآت الجيش السوري وبناه التحتية وأسلحته، والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض الطائفة الدرزية في الجنوب على السلطة الجديدة بحجة حمايتها وبقية الأقليات، في تكرار لسلوك كثيراً ما لجأت إليه بهدف تخريب الاستقرار وتفكيك الدول من حولها إلى كيانات طائفية.
أما طهران، فتحاول استعادة ما أمكن من نفوذها بسوريا ولو على حساب وحدتها، وقد تسعى لعودة الأسد إلى الساحل إذا نجح التمرد لتعود طريقها إلى لبنان سالكة لتزويد «حزب الله» بالمال والسلاح.
إن أهداف إسرائيل تتقاطع مع إيران في سوريا في محاولتهما تقطيع أوصالها والتخريب على السلطة الجديدة، فيما تحاربها في لبنان، وقد يؤدي هذا التخبط لاحقاً إلى عكس ما سعت وتسعى إليه من تقويض للوجود الإيراني على حدودها.
بدوره، يشهد لبنان خفوتاً لنشوة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، بوصفهما سيفتحان صفحة جديدة تبدأ باستعادة الدولة من الدويلة، ومباشرة الإصلاح والنهوض. صحوة «حزب الله» بعد صدمة الهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة بددت هذه الصورة، بسبب تأكيده المتكرر على النصر واستمرار المقاومة المسلحة والاحتفاظ بالسلاح، متنصلاً من مضمون اتفاق وقف النار الأخير بشأن السلاح شمال الليطاني، ومتذرعاً بتفسير متقدم لما ورد باتفاق الطائف بشأن حل الميليشيات بأنه لا يشمله بوصفه مقاومة وليس ميليشيا. وجاءت حبة الكرز فيما أعلنه أمين عام الحزب نعيم قاسم أن «لا إنقاذ وإصلاح قبل إعادة الإعمار… وأن المقاومة مستمرة في الميدان»، وكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول استمرار المقاومة، والاتفاق لا يشمل السلاح شمال الليطاني في ملاقاة لكلام رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بأن «المقاومة باقية لأن غالبية الشعب اللبناني تؤيدها». يضاف إلى ذلك ما يتردد عن عودة «حزب الله» للتدخل في سوريا بإرسال مقاتلين لدعم التمرد، وعودة احتلال إسرائيل لنقاط عدة في الجنوب، ومواصلة عملياتها العسكرية في لبنان على أنواعها مقدمة نفحة أكسجين للحزب.
لا يحتمل لبنان مثل هذه الصحوة؛ لأنها تعيده للمربع الأول، وتقطع طريق عودته للعرب، وعودتهم إليه بناسهم ومساعداتهم واستثماراتهم، وتؤدي لاستمرار التخبط للخروج من حالة الإحباط المزمنة جراء الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية.
أما غزة فلا تزال ملعباً لمناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية الداخلية والخارجية، فاتحاً مصيرها على احتمالات عدة، أحلاهم مُر: من نجاح مشروع التهجير، إلى إمكانية تجدد الحرب دون أفق سياسي باستثناء دفع السكان للمغادرة أو البقاء تحت شبح المجاعة وويلات تجدُّد القتال. كل ذلك في ظل محادثات أميركية مباشرة مع «حماس» تبعث الريبة، لا بل الغضب عند نتنياهو وزمرته المتشددة.
عرقلة الحلول في سوريا ولبنان وغزة هي نتيجة انعدام السياسة بحكمتها وعقلانيتها وغلبة العسكرة بجموحها وجنونها، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع. أكبر دليل على ذلك هو أن الجبروت العسكري الإسرائيلي لم يؤتِ ثماره: ما زالت النار في غزة تحت الرماد، «حزب الله» في لبنان يعلن النصر واستمرار المقاومة والتمسك بما بقي من سلاحه وبدوره في الحياة السياسية اللبنانية وقدراته على التعطيل، عمى إسرائيل قد يعيد إيران إلى سوريا بعد استماتتها لإخراجها منها. المحصلة، أن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا من دون رؤية سياسية لم ولن يؤدي إلا لاستيلاد حروب جديدة.
علة العلل هي انعدام السياسة وخواؤها في أميركا نفسها التي تسمح لنتنياهو بالاستيلاء على كل فلسطين بالقوة، تحت غطاء تهجير إنمائي سياحي، وتغازل فلاديمير بوتين وتسامحه على ضم القرم وأجزاء من أوكرانيا، وتتبنى سرديته للحرب، كيف لا وهي نفسها حامية العالم الحر والديمقراطية والقيم تريد السطو على غرينلاند، وضم كندا، والسيطرة على بنما، وتعاقب المحكمة الجنائية الدولية، وتناصب العداء لحلفائها الأوروبيين التقليديين. مواقف تقدم رخصاً مجانية للعدوان والاستبداد، وتصمت مجدداً على ممارسات أنظمة على غرار نظام الأسد الذي سحق الأغلبية والأقلية في بلاده وجوارها لأكثر من 50 سنة.
الشرق الأوسط؟
——————————
سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي
تحديث 17 أذار 2025
تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟
أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟
قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.
المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.
تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.
أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.
إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟
السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟
الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.
الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.
ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.
إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.
وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.
في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.
الشرق الأوسط
———————————
لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟/ أحمد عسيلي
تحديث 17 أذار 2025
تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.
فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟
من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:
منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!
هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.
فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟
موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).
من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.
آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.
الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.
فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.
عنب بلدي
——————————
==========================