الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 17 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

———————————

في الردّة الأسدية الإيرانية/ عبد الجبار عكيدي

17 مارس 2025

ربّما لم يكن أكثر السوريين تفاؤلاً يميل إلى الاعتقاد أن السلطة الأسدية ستُطوى صفحتها مع انطواء الأشهر الأولى من تحرير سورية، فالحقبة الأسدية التي امتدّت أكثر من نصف قرن لم تتح لآل الأسد ممارسة الحكم فحسب، بل أتاحت لهم امتلاك البلاد بكلّ ما تعنيه لفظة (المُلك) من معانٍ، لذلك من غير المُستغرب ألّا يُذعِن المالك الأسدي بانتزاع ملكه ممّن كانوا “عبيداً” قبل مارس/ آذار 2011، ثمّ تحوّلوا “إرهابيين”. لعلّ المسألة تبدو أكثر تعقيداً حين لا تكون المعركة مجرّد دفاع عن المُلك فحسب، بل المعركة ليست بعيدةً من صراع إقليمي يعتمد على استثمار ما هو محلّي، وتغدو المشكلة أكثر فداحةً حين يصبح المناخ العام مزوّداً بوسائل الاشتعال كلّها، ومُفخّخاً بشتّى أشكال القنابل الموقوتة، التي تُنذر بالانفجار في كلّ لحظة.

ما شهدته مدن الساحل السوري وبلداتها وقراها، يوم 6 مارس/ آذار الجاري، لم يكن مجرّد مواجهة طارئة أو عابرة نتيجة مصالحَ متضاربةٍ بين طرفَين أو نتيجة تجاوز طرف على آخر تجاوزاً آنياً أو عارضاً، بل كانت معركةً حقيقيةً انبثقت من خطّة سابقة وتحضير سابق، ووُضِعت لها أهدافٌ محدّدة، فكانت الهجمات منسّقة استهدفت مواقع عسكرية وأمنية، ما يؤكّد وجود تخطيط وتنظيم تجاوز العمليات الفردية والعشوائية السابقة. الأسلوب المتّبع في الهجمات التي شنّتها فلول النظام من حيث التنسيق بين مختلف المحاور والانسحاب إلى المناطق الجبلية بعد التنفيذ، يعكس تكتيكات حرب عصابات مدروسة يقودها ضبّاط كبار في جيش النظام السابق وأجهزة استخباراته، يمتلكون خبرةً عسكريةً وأمنية كبيرة، كما أن الكمائن والغارات المتزامنة في أكثر من موقع تشير إلى أنهم يمتلكون معلومات استخبارية مسبقة عن تحرّكات القوّات الأمنية، وهذا ما يؤكّد أيضاً وجود جهات داخلية وخارجية تقدّم لهم الدعم اللوجستي والاستخباري.

لعلّ تصدّر العميد الركن، غياث دلّا، قائد اللواء 40 في الفرقة الرابعة (ضابط معروف بارتكابه جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الشعب السوري)، واجهةَ الأحداث وتبنّيه قيادة فلول نظام الأسد، يؤكّد المقولة الراسخة التي تحيل على أن الذين هربوا من سورية هم رأس النظام وقيادة الصفّ الأول فحسب، أمّا الذين كانوا بمثابة الإطار التنفيذي لآلة الحرب الأسدية من ضبّاط الصفّين، الثاني والثالث، فمجملهم ما زالوا موجودين بكامل سلاحهم وعدّتهم، التي لم تكن محطّ تعقّب وتنظيف من القيادة الجديدة في البلاد. ولعلّ هؤلاء الضبّاط التنفيذيين في دولة الأسد يرون في أنفسهم الخاسر الأكبر من زوال الأسد، ومن ثم هم المعنيون بالتحرّك لاسترداد “المُلك المُنتزَع”، خاصّة أن هذا الشعور بالخسران الذي استبدّ في نفوسهم وجد من يغذّيه، ويحوّله مبادرةً انتقامية، ربّما تتحوّل فرصةً لقلب الطاولة على الحكومة الجديدة، وربّما تفلح في وضع المجتمع الدولي تحت أمر واقع، يُعاد فيه التفكير في مستقبل سورية التي لا يمكن أن تكون “خالية من الأسدية”، وفقاً لهؤلاء.

لعلّ من الصحيح أن قوات الأمن العام ووزارة الدفاع استطاعت احتواء الهجوم الأكبر لفلول النظام، عشية 6 مارس، ولكنّ التداعيات العسكرية والأمنية لهذه المعركة لا يمكن أن تنتهي قريباً، لجملة من الأسباب. أهمها، أولاً، أن المعركة بين فلول النظام والقوات الرسمية للدولة السورية لا تأخذ شكل حرب المواجهة المكشوفة بين جيشَين متخاصمَين، بل هي حرب عصابات تستخدم فيها الكمائن والغارات وعمليات الكرّ والفرّ وقنّاصات ذات أجهزة رؤية ليلية.. هذه هي استراتيجية فلول النظام، الذين تلعب الجغرافيا دوراً أساسياً لمصلحتهم، فالاختباء في الجبال والتزوّد بالسلاح ليلاً، والتجوال في الزيّ المدني في المدن والبلدات نهاراً، بعد أن قاموا بالتسويات، يتيح لهم مساحةً كافيةً من الاستطلاع ومعرفة تموضعات الخصم ونقاط ضعفه وقوته، فكلّ مفترق طرق وجرف صخري في تلك المناطق يصلح لكمين، ولهذا ربّما يكون من الصعب على القوات الرسمية للدولة الإحاطة بكلّ ما يخطّط له العدو، إذ إن عنصر المباغتة في مواجهات كهذه له دور بالغ الأهمية.

ثانياً، يزيد وجود قوّات الفلول بين السكّان المدنيين من صعوبة تعقّبهم، بل يمكن أن يكون عائقاً أساسياً في استهدافهم، كما يتيح لهم في حالةٍ كهذه أن يتّهموا قوّات الأمن العام باستهداف المدنيين لتأليب الرأي العام والمجتمع الدولي. السبب الثالث، ولعلّه الأكثر أهمية، فهو الدور الخارجي المتمثّل بإيران المشهود لها بصناعة المليشيات، وتسعى إلى الحصول على موطئ قدم كانتوني طائفي في الساحل السوري، ولم تخفِ تبنّيها ودعمها الفلول، بل إن الجهة الإعلامية الوحيدة التي تواكب وتروّج الفلول هي وكالة مهر الإيرانية، التي تطلق مصطلح “جبهة المقاومة السورية” على فلول النظام، زاعمةً، في الوقت ذاته، أن إعادة سورية إلى عهدها الأسدي هدف لا بدّ من تحقيقه.

وفي آليات المقاومة والمواجهة، ثمّة مساران متلازمان لا ينبغي الفصل بينهما: عسكري أمني يعمل بمهنية واحتراف، بعيداً من شعور الفزعة والفوضى العارمة، والإسراع بهيكلة وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية ونزع السلاح وإعادة الإدماج، لتحاشي التجاوزات والانتهاكات؛ ومسار سياسي يكون بمثابة ترجمة فعلية لخطاب القيادة الجديدة، ونعني المضي بعد الإعلان الدستوري في تشكيل حكومة شاملة تقوم على معايير الكفاءة والمهنية، بعيداً من أيّ ولاءات أيديولوجية، ومن ثمّ البدء بإنشاء كيان قضائي يتولّى مهمّة العدالة الانتقالية، باعتبارها المدخل الصحيح والوحيد والحصن المنيع لمفهوم السلم الأهلي.

قد تبدو مسألة العوامل الخارجية التي تسهم في تأجيج الصراع في سورية مهمّةً وتسترعي الحذر، ولكن الترجمة الحقيقية لهذا الحذر ينبغي أن تأتي عبر مزيد من التحصين الداخلي للبلاد، فالتصدّي للخطر الخارجي يبدأ بتقوية دعائم الداخل أولاً وليس العكس.

العربي الجديد

—————————-

ولكن من هم الفلول فعلاً؟/ حسام جزماتي

2025.03.17

رفعت المأساة الدامية التي شهدها الساحل السوري، خلال الأسبوع الماضي، بعض المفردات إلى قمة التداول. ومنها مصطلح «الفلول» الذي أُطلق على بقايا قوات نظام الأسد. ولعله من شأن نتائج التحقيقات والتقارير الحقوقية التالية أن تقدم صورة أفضل عن تركيبة هؤلاء وأعدادهم وقدراتهم العملية. لكن ما أمكن جمعه من ملاحظات، حتى الآن، يتيح لنا رسم معالم مبدئية لهذه القوة التي اتسمت بأكثر مما ينبغي من الغموض.

في مركز الفلول، كما يشيع القول وعن حق، مجرمون يعرفون أن مسؤولياتهم السابقة لا تتيح لهم الحصول على بطاقة تسوية، وإن حدث ونالوها، نتيجة صدفة أو غفلة، فلن تحميهم على المدى الطويل بسبب كمية الدم التي على أياديهم. وبالتالي ليس أمامهم سوى السفر إلى الخارج أو العصيان والقتال في الداخل. وقد تكاثرت الأنباء عن أعداد كبار ضباط الجيش والمخابرات الذين غادروا إلى روسيا ولبنان ودول أخرى، مما يحيل إلى عدة استنتاجات؛ أولها أن غالب من بقي من صغار الضباط أو متوسطيهم، ممن لم يستطع الهروب لأسباب مالية أو لوجستية أو لم يرغب في ذلك نتيجة العناد. وثانيها أن المؤهلين لهذا الدور «الفراري في الجبال» ربما كان من قادة المجموعات الرديفة أكثر من كونه ضابطاً عسكرياً نظامياً. ولعله مما يعزز هذا تأمل الأسماء التي اشتهرت لقادة الفلول؛ كمقداد فتيحة، وهو شخص غامض يبث تسجيلات تظهره كزعيم مجموعة متمردين اسمها «لواء درع الساحل»، ومحمد جابر، قائد ميليشيا «صقور الصحراء» في السابق. وحتى غياث دلا، العميد في الفرقة الرابعة أيام ماهر الأسد، والذي ظهر باسمه بيان بإنشاء وانطلاق «المجلس العسكري لتحرير سوريا»، فقد كان قائد مجموعة مقاتلين باسمه «قوات الغيث» من ملاك الفرقة وخارجها، أي إنه كان أشبه بقائد ميليشيا تحوز قدراً من التنظيم.

نرصد هذا لنقول إن إمكانات هؤلاء وأهدافهم، فضلاً عن العدد الذي استطاعوا استقطابه من المقاتلين، والذي تشير التقديرات إلى أنه لم يتجاوز المئات، لا تجعلهم خطراً جدياً على مستوى البلاد، ناهيك عن مجرد التفكير باستعادة نظام بشار الأسد الذي ولى إلى غير رجعة، حتى أنهم لم يرفعوا صوره.

فما الذي يريدونه إذاً؟

دون استبعاد الدوافع الانتحارية، يمكن القول إن الفلول يستثمرون في شعور بالمظلومية اختفى عن المنطقة في الأيام الأولى للتحرير ثم عاد ليتصاعد مع تزايد «السلوكيات غير المنضبطة» التي تبدأ بالإهانات وقد تنتهي بالقتل، خاصة مع غموض مسار العدالة ومعايير استدعاء المطلوبين، والأزمة الاقتصادية التي تشكلت بعد توقف كثير من الرواتب الحكومية التي كانت تدعم العائلات، مما يشجع بعض شبانها على الانخراط في هذه المجموعات المسلحة لأسباب كان المال أحدها كما يبدو. ولذلك بقدر ما تتراكب الدوافع المادية والمعنوية وانسداد الأفق يكسب قادة الفلول مزيداً من المقاتلين.

وكالعادة لا ينفع «الحل الأمني» وحده لمعالجة المسألة، لا سيما حين تصاحبه مجازر كما حدث مؤخراً، فثمن الدم دم. ولا بد من حلول شاملة تأخذ حساسيات المنطقة في الاعتبار، ومنها شعور معظم العلويين بأنهم يتعاملون مع قوات وافدة غريبة، ومطالبتهم بالاعتماد عليهم لحفظ الأمن في مناطقهم، مما يفترض أن يقلل الاحتكاكات إن أمكن بالفعل تحديد عدد تستطيع المنطقة أن تهضمه من المطلوبين وفق مسار عدالة واضح ومطَمْئِن. وتلك مسألة عسيرة أخرى على كل حال.

من شأن النجاح في هذا أن يسحب جزءاً كبيراً من البساط من تحت أقدام الفلول الذين حاولوا بالفعل السيطرة على مناطقهم بالنار حين هاجموا الدوريات والحواجز. فكما يعرف هؤلاء أن استعادة الأسد مستحيلة فإنهم يعون أيضاً أن الانفصال هدف غير ممكن سياسياً وعسكرياً وديموغرافياً وموارد طبيعية، كما أنه ليس التوجه الطاغي لدى أبناء المنطقة الذين يبحثون عن الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف في سوريا الجديدة.

لم تولد الدماء التي سالت في الأيام الماضية من فراغ بالطبع، لكنها لن تذهب إلى فراغ أيضاً. وإن الدعوة إلى إيقاف تبادل المجازر لا تنطلق فقط من «اللحمة الوطنية» حسنة النية كما يظن البعض، بل أساساً من الرغبة في تجميد حفر القبور وزراعة الحقد. وقد ظن نظام الأسد أنه يستطيع أن يستأثر لحاضنته بالحقد ولسواها بالقبور، حتى جاءت أيام انقلبت فيها الآية كما رأينا. وجاء من خصومه من يظن، مثله، أن ما لا يحققه «الدعس» يمكن الوصول إليه بالمزيد منه، وأن الحل مع المخالفين لا يتجاوز «كسر الرأس». رغم أن هذا السبيل أثبت فشله تجاههم مع كل ما ملكه النظام من أفضلية عسكرية؛ كالأسلحة الثقيلة والكيماوي والطيران، فما بالك بحالة القوى الجديدة. ناهيك عما يحمله هذا النمط من التفكير من إجهاض للقيم المركزية للثورة مما أتاح للفلول، الآن، فرصة كانت عسيرة للدفاع عن نهج النظام الذي كان يحث الطائفة العلوية على دعم قواته بتخويفهم من أن الثورة لن تقابلهم إلا بالذبح في حال تمكنت منهم. لأنها مكونة، كما كان يبث في خطابه الشفوي، من أحفاد الأمويين!

تلفزيون سوريا

————————————-

سوريا.. العصيَّة على الاختراق/ د.وائل مرزا

تحديث 17 أذار 2025

لا يعلمُ إلَّا اللهُ، والرَّاسخُون في العلم، حجمَ الإحباط الذي أصاب دولًا وجماعاتٍ وأفرادًا، في العالم، وفي الإقليم، بعد صدور قرار مجلس الأمن المتعلِّق بسوريا، بعد اجتماعه بذلك الخصوص، منذ بضعة أيام.

فورَ صدور خبر طلب انعقاد الجلسة، انتشرت كالنار في الهشيم، في أجواء الإقليم والعالم، كميَّةُ شماتةٍ وتشفٍّ بائسة لم يسبق لها مثيلٌ في المنطقة حجمًا وموضوعًا. عَلَا ضَحكُ هؤلاء وهم يغنُّون طربًا بأنَّ سوريا المحرَّرة انتهت. وبأنَّ مجلس الأمن سيفرض (الفصل السابع) عليها. وأنَّها ستتعرَّض للوصاية الدوليَّة. وأنَّ تلك الوصاية ستُفضي إلى طرد السُّلطة الجديدة، ثمَّ فرض التقسيم على البلاد.

المفارقة أنَّ شرائح ممَّن يُفترض بهم أنْ يكونوا عربًا وسوريِّين شاركوا في تلك الهمروجة المخزية. لكن ما فات هؤلاء أنَّ تفكيرهم يقع في خانة التفكير الرغائبيِّ، وأنَّه أقرب إلى كونه طفولةً سياسيَّةً.

لم يدرك هؤلاء أنَّ سوريا، في وضعها الجديد، محميَّةٌ بتوازن رعب إستراتيجيٍّ لا يسهلُ لأحد اختراقه بشكل ٍ كبيرٍ. لماذا؟ لأنَّه ليس من صناعة، لا أحمد الشرع، ولا السوريِّين الثوَّار، وإنَّما هو واقع جيوبوليتيكيٌّ تكوَّنَ بأثر التغيُّرات الجذريَّة التي حصلت في المنطقة خلال السنوات الماضية، وبلغت ذروتها مع الشهور القليلة السَّابقة.

لم يَبلُغ فَهمَهُم القاصر أنَّ كل الضغوط الممكنة على سوريا مؤقَّتة، وتهدف لشراء الوقت؛ بغرض صياغة الترتيبات الإقليميَّة الكبيرة، وترتيب أدوار وأوزان اللاعبين فيها. مؤقَّتة، ببساطة؛ لأنَّ أيَّ تطويلٍ فيها سيؤدِّي لانفجارات إقليميَّة لا قِبَل لأحد في المنطقة على تحمُّل تَبِعاتها. وهذا أمرٌ محسومٌ في كلِّ مراكز الأبحاث والدراسات العالميَّة الرَّصينة، في واشنطن، وفي عواصم أُخْرى مؤثِّرة.

أوَّلًا: أيُّ (زعزعةٍ) في المنطقة، هي في صالح عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل تحرير سوريا، بتفاصيلها المعروفة. وهذه عمليةٌ تخلط كل الأوراق، التي شاركت قوى عالميَّة وإقليميَّة في ترتيبها بشكلٍ مُنهِك. وهذا خطٌّ استراتيجيٌّ دوليٌّ أحمرُ.

ثانيًا: كما شرحنا في المقال السابق، لم يكن للتَّغيير في سوريا أنْ يحصل في توقيتٍ أفضل بالنسبة للسعوديَّة. وحجم الأعباء الهائلة السياسيَّة والأمنيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة التي رفعها التَّغيير السوريُّ عنها، لا يدرك أبعاده سوى قلائل. خاصَّةً في ظل سعي السعوديَّة لملء دورها الإقليمي الكبير المقبل.

ثالثًا: تُدرك أوروبا، أكثر من غيرها، معنى الانفجار في سوريا، وما حولها (أزمة اللاجئين مثالًا فقط). وفي ظل هموم أوروبا الطارئة الكبيرة، وإعلان المستشار القادم لألمانيا عن البدء بسياسة «الاستغناء عن أمريكا»، يبدو واضحًا أنَّ آخرَ همٍّ تبحث عنه أوروبا حاليًّا هو الغرق في مثل تلك الأزمات.

رابعًا: كل الدول العربيَّة الرئيسة، ومعها تركيا، تدرك مستتبعات تفجير سوريا. وصدور بياناتها لتأييد الوضع الجديد فيها، لا ينبع حصرًا من العلاقات الأخويَّة، ولكن، فوقَها، عن إدراكٍ عميقٍ لحجم التحدِّيات التي سنعانيها جميعًا في حال حصول ذلك.

خامسًا: تدرك إسرائيل كلَّ تلك الصورة بأبعادها المعقَّدة. وتدرك أكثر أنَّ انخراطها العسكريَّ الكبير في سوريا يترتَّب عليه خطرٌ وجوديٌّ، قد يكون أكثر جدِّيةً ممَّا رأته من أهوالٍ في الصِّراع مع حماس المحاصرة.

سادسًا: ثمَّة عرفٌ دبلوماسيٌّ كريهٌ.. وُفق ذلك العُرف، لم تتمكَّن الدولة السوريَّة من إعلان تورُّط بعض الدول والجهات المحدَّدة في محاولة التمرُّد والانقلاب التي حصلت في الساحل السوريِّ. لكن هذا لم يكن يتضارب مع ما جرى من مشاركتها للحقائق المذهلة، عن طريق الدبلوماسيَّة السريَّة، مع أنظمة عربيَّة وغير عربيَّة، وما نتج عن ذلك من تقويةٍ لموقف سوريا عالميًّا بشكلٍ إضافيٍّ.

ثمَّة عناصر أُخْرى في هذه المعادلة المعقَّدة للغاية يطول الحديث فيها.. لكنَّها بمجملها تشكِّل عقدةً سياسيَّةً إستراتيجيَّةً، من الغباء السياسيِّ التَّفكير بِحلِّها من خلال ضغطٍ على سوريا يؤدِّي لانفجارها.

المذهل في الموضوع، أن (بعض) السوريين، الحالمين بعودة الماضي، يتعاملون مع الوضع في بلادهم، غافلين كلياً عن تلك الصورة، وكأنما سوريا جزيرة معزولة في أحد المحيطات البعيدة.. وهم غافلون أكثر، تحت ضغط الأيديولوجيا وخصوماتها الصبيانية، وغرقهم فيما هو آني وعاجل، عن حجم الأوراق المتوفرة لدى القيادة السورية، وفسحة الخيارات والسيناريوهات المتوفرة لديها مع تطورات الأوضاع خلال الأسابيع والشهور المقبلة.

وكما قلنا في مشاركةٍ إعلاميَّة: «السُّنِّيةُ» ليست صَكَّ براءة. و»العلويَّةُ» ليست دليل اتِّهام. التمرُّدُ انتهى. والمحاسبةُ مقبلةٌ. عدوُّنا هو «الطَّائفة الأسديَّة». فلننظر جميعًا إلى الأمام. سوريا لكلِّ السوريِّين.

——————————

حدود ثابتة وجدران داخل الدول/ طوني فرنسيس

المشرق العربي يواجه تمزقاته الداخلية على يد مشاريع متناقضة لكن تقسيمات “سايكس بيكو” تبقى صامدة

الاثنين 17 مارس 2025

صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.

لم يتراجع الحديث عن تفتيت دول المشرق العربي إلى دويلات مذهبية وإثنية وعن تغيير للحدود الدولية القائمة طوال العقود الماضية، لكن تلك الحدود استمرت بصيغتها التاريخية فيما قامت الحواجز داخل كل بلد بين طوائف ومذاهب ومجموعات على حساب الدولة الوطنية.

كان حديث نسف الحدود وتعديلها يستند إلى وقائع تغذيها نظرية المؤامرة المتجذرة في عقول نخب كثيرة وجوهرها أن الغرب وإسرائيل يعملان على تنفيذ مخطط تقسيمي استعماري يلغي الدول الوطنية الناشئة بعد انهيار السلطنة العثمانية و”اتفاق سايكس بيكو” البريطاني- الفرنسي الذي بلور في “مؤتمر سان ريمو” عام 1920 الحدود الراهنة لدول المنطقة، ويقيم بدلاً منها مجموعة من الكيانات الضعيفة على أسس دينية خصوصاً، توفر في ضعفها وتفككها حماية طويلة الأمد للمشروع الإسرائيلي في امتداداته الاستعمارية.

مع الاعتراف بوجاهة هذه النظرية إلا أنها لا تغطي صورة المشهد بأكمله، فليست إسرائيل وحدها من تطمح إلى تغيير أوضاع قائمة، وتحت عنوان مواجهة ورفض تقسيمات “سايكس بيكو” نشطت قوى أخرى، قومية و”إسلامية” سعت وجهدت إلى إلغاء الحدود في المشرق العربي ودمج تلك الدول في مشاريع أوسع نطاقاً باسم القومية العربية والسورية تارة وباسم الإسلام طوراً، وعلى رغم الإمكانات الضخمة التي توافرت لكل تلك القوى، لم يتمكن أي طرف منها من تحقيق مشروعه كما يرغب وصمدت تقسيمات سان ريمو في شقها العراقي والسوري واللبناني متجاوزة ما يمكن تسميته بأقسى امتحانات قرن بكامله.

كان الامتحان الأحدث ولا يزال في سوريا، فما جرى ويجري في هذا البلد العربي قبل فرار الرئيس بشار الأسد وبعد لجوئه إلى روسيا، إذ بدت في ختام معركة الـ14 عاماً بين النظام ومعارضيه أقرب إلى دولة جاهزة للانقسام والتفكك، وترسخت عوامل الانقسام في ظل نظام الأسد وتفاقمت بعد رحيله واندلاع صدامات الساحل والجنوب والانفصال الواقعي للأكراد في الشرق، لكن في المحصلة الأولية تبين أن لا أحد يريد الانفصال وتشكيل دولته الخاصة، على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والاستغاثة بالتدخلات الخارجية وسعي بعض الخارج، خصوصاً إسرائيل إلى استغلال الأوضاع.

لقد ظهر إلى جانب تمسك النخب السورية بوحدة بلادها، من الجزيرة إلى السويداء والساحل في ظل نظام يكفل المساواة والعدالة، أن القرار الدولي الذي يمسك بمصير الخرائط لا يزال أيضاً مؤمناً بخيارات رسمها مارك سايكس وجورج بيكو قبل 106 أعوام.

كانت تلك الخيارات وخرائطها تعرضت لامتحانات قاسية قبل الامتحانات السورية الأخيرة، فعام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على أجزاء واسعة من سوريا والعراق، وتحت وطأة المفاجأة اعتبر كثيرون أن مرحلة جديدة خطرة بدأت. وقال كثيرون ومن بينهم الزعيم الكردي العراقي مسعود برزاني، “في الحقيقة أن سايكس- بيكو فشل وانتهى”، ولاقاه السياسي اللبناني وليد جنبلاط في الاستنتاج أن “سايكس بيكو انتهى، ذلك أمر مؤكد، لكن كل شيء الآن غامض، وسيكون هناك وقت طويل قبل أن تتضح النتائج” (من تصريحات إلى “بي بي سي” مايو (أيار) 2014)، ومع ذلك لم تتغير الحدود وهزم مشروع “الدولة الإسلامية” المزعوم.

كان البرزاني يعرف أكثر من غيره أن حدود الإقليم الكردستاني التي أقرها مجلس الأمن الدولي عام 1991 كمنطقة محمية للأكراد العراقيين لم تتحول إلى كيان مستقل بحدود خاصة على رغم الغزو الأميركي وإسقاطه نظام صدام حسين عام 2003، وبقيت الحدود العراقية الدولية معترفاً بها كما كانت منذ العهد الملكي.

وربما تكون تجربة لبنان في الحرب الأهلية فاتحة أحاديث الانقسام وتشكيل الدويلات في المشرق، وخلال أعوام السبعينيات من القرن الماضي توالت التحذيرات من “البلقنة”، نسبة إلى انقسامات البلقان بعد الحرب العالمية الأولى، ثم نشط الحديث عن “قبرصة” نسبة إلى تقسيم قبرص إثر الانقلاب على الرئيس مكاريوس والغزو التركي واحتلاله شمال الجزيرة (1974). وحروب لبنان التي استمرت لمدة نحو 15 عاماً رسخت المخاوف من مصائر مماثلة، وقد جرى خلالها التصريح مراراً عن رغبات تقسيمية على أساس ديني، لكن كل ذلك صار أوهاماً وانتهى مع إقرار “اتفاق الطائف” في السعودية وبرعايتها، وعاد اللبنانيون جميعاً، بمقتضى الاتفاق، للبنانهم “كوطن نهائي لجميع أبنائه” بحدوده المرسومة قبل أكثر من قرن على يد الفرنسيين والإنجليز.

وكانت النظريات القومية العربية سباقة إلى الرغبة في نسف الحدود “المصطنعة”، فحزب البعث العربي الاشتراكي الذي نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي بشر بإلغائها وتوحيد “الأمة العربية”، ثم نادى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بأهداف مماثلة وانتهت تجربة الطرفين إلى فشل ذريع. وحكم “البعث” العراق وسوريا فأقفلت الحدود بين البلدين وترسخت منافذها، وأقام عبدالناصر محاولة وحدوية مع سوريا سرعان ما انتهت إلى انفصال وصدام.

صمدت الحدود الدولية لكن حدوداً داخلية بين الطوائف والمذاهب و”المكونات”، بحسب التعبير الرائج بعد غزو العراق، بدأت ترتسم تحت ضغط تيارات “الإسلام السياسي” بشقيه الإخواني والإيراني من جهة، والاستغلال الإسرائيلي المباشر من جهة أخرى.

فقد جعلت إيران مجتمعات عدد من الدول العربية أجساداً مريضة عبر التركيز على ربط الشيعة العرب بالمرشد الإيراني وحساباته “القومية الإيرانية”، وأدى التحريض الإيراني المستمر منذ أكثر من 40 عاماً، مترافقاً مع عمليات تنظيم وتمويل واسعة، إلى خلق دويلات ضمن الدولة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي المقابل كانت إسرائيل ومنذ زمن بعيد تسعى إلى تجذير انقسامات مذهبية ودينية مماثلة ضمن استراتيجية صريحة لإضعاف وتمزيق الدول المحيطة. لقد كانت مقالة الباحث الإسرائيلي عوديد ينون المنشورة في فبراير (شباط) عام 1982 بعنوان “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات” ولا تزال مرجعاً تجري العودة له كلما تصاعد الحديث عن تفتيت دول المشرق. واليوم ومع التطورات الأخيرة في سوريا يصار إلى التذكير بهذه “الاستراتيجية” التي نادت في حينه بتقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى دويلات مذهبية وإثنية، وهي خطط لا تزال تطل برأسها عبر السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا والعراق وأماكن أخرى.

 ويوفر مستوى التمزقات المجتمعية الداخلية في المشرق على يد الإسلام السياسي بفروعه الإيرانية والإخوانية وضعف الدولة الوطنية المركزية فرصاً ثمينة لمزيد من التدخلات الخارجية الإسرائيلية خصوصاً، ومزيداً من أوهام الخلاص خارج دولها لدى الأقليات الخائفة والمضطهدة.

ومع ذلك تقول التجربة حتى الآن إن الحدود المرسومة قبل قرن ستبقى قائمة، لكن مزيداً من جدران الانقسام الداخلي سترتفع بين الناس أطيافاً وشرائح إذا لم تُعتمد صيغ جديدة للحكم تأخذ الحساسيات المختلفة في الاعتبار. ولن تتغير الحدود لأن صانعيها الدوليين لا يريدون تغييرها وليس لأن رافضيها المحليين أقوياء بما فيه الكفاية.

ورداً على سؤال طرحه الباحث في “معهد بروكينغز” غريغوري غوس قبل 10 أعوام على نفسه في مناخ صعود “دولة داعش”، “هل سنشهد إعادة رسم لحدود الشرق الأوسط؟”، أجاب “باختصار، كلا! الحدود لن تتغير. وفي الحقيقة ستؤول هذه الحدود إلى ما يشير إليه خبير العلوم السياسية روبرت جاكسون بـ’شبه الدول‘، المشار إليها دولياً كصاحبة سيادة، على رغم أنه لا يمكن تنفيذ الشروط التشغيلية التي تطلبها السيادة قبل السيطرة على الحدود والأراضي”. والأرجح أن السلطة الحقيقية في المشرق ستصبح متاحة للجميع إذا ترسخت المسارات الراهنة ولم تتغير، إلا أن حدود الشريكين سايكس وبيكو ستكون آخر المتغيرات.

——————————-

التجربة السورية المثقلة بخيبات أخواتها/ المهدي مبروك

17 مارس 2025

مع أحداث الساحل السوري، أخيراً، نتأكّد، أكثر من أيّ وقت مضى، أننا في تونس لا نحتاج إلى كثير عناء لنقرأ تفاصيل المشهد السوري، والاطلاع على دقائق وقائعه وأحداثه، وتوقّع بعض المآلات الممكنة. لا يُعدّ هذا ادّعاءً أو امتلاكاً للغيب، ولكن نستحضر في هذا كلّه بعضاً ممّا قاله ابن خلدون، الذي عاش في بلدان المغرب العربي، وتمكّن، في آخر عمره، من زيارة الشام، والتوسّط بين وجهائها والطاغية تيمورلنك، في مساعٍ لا تزال غامضةً. فالتاريخ في باطنه عبرة على نحو أن ما يجري فيه يخضع أحياناً لبعض القوانين، ولنا ما يفيد أن الماضي باعتباره خزّان “التاريخ” يمكن أن يمنحنا بعض مفاتيح قراءة الحاضر. سنكون آنذاك أمام ضرورة المقارنة بين الماضي والحاضر، بين تجارب متقاربة إلى حدّ الشبه الكبير، لنستنتج مفاتيح قراءة التاريخ كلّه.

حين اندلعت الثورة السورية، كانت آخر الثورات التي التحقت بالموجه الأولى من “الربيع العربي”، الذي سرعان ما غدا خريفاً أو شتاءً بلا غيث. انتكست كلّ التجارب من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر… إلخ، وكانت المآلات أحياناً كريهةً ومرعبةً: حرب أهلية واقتتال وصعود لموجات الإرهاب وسلسلة من الانقلابات التي صعد معها العسكر إلى الحكم. لم تبقَ شمعة عربية واحدة ملهمة، انطفأت بفعل رياح سموم عديدة هبّت عاتيةً. ثمّة ما يشبه المنوال، أو “باراديم”، بلغة توماس كوهين، مؤرّخ العلم الأميركي المرموق، صحاب كتاب “بنية الثورات العلمية”. لا يمنعنا هذا الباراديم من مجرّد قراءة التجارب العربية بنظّارات التجارب العربية السابقة، بل يمنحنا بعضاً من القدرة على التوقّع، تماماً كما يحدث في العلوم الصحيحة، فليس المستقبل سحراً أو غيباً، بل هو ظاهرة يمكن توقّعها، فضلاً عن مئات الظواهر الأخرى التي لا يكون وقوعها خارج ما نتوقّع، بشرط أن تكون لها المعارف والمناهج والأدوات الجديرة والكفوءة.

تخضع الثورة السورية حتى الآن لمسار رسمت خطواته الثورات العربية الأخرى: سقوط النظام وانتصار الثوار. تليها مرحلة انتقالية قد تقصر أو تدوم، تتخلّلها أنواع مختلفة من النزاعات والخلافات الداخلية التي تُلقي من فوّهة براكينها حمماً من الكراهية والأحقاد والرغبة الدفينة في هدم المعبد، حتى ولو أباد من فيه جميعاً، ثمّ اقتحام عتبة الخيبة الكبرى. ثمّة مسارات يُعاد إنتاجها في كلّ التجارب العربية، قبل أن تصل إلى النهاية المحتومة، أوهام الانتصار النهائي وحالة النشوة القصوى التي تحلّق بالثائرين في ملكوت السماء. قال أحد شعراء تونس (وقد تحوّل فيما بعد شاعراً خصماً لمن حكموا): “لقد وهبتنا الثورة سماءً من الحرية”. تمتزج الثورة بسقف عالٍ، حدّ الجنون والتخمّر، من الطموحات والأوهام والحرّية والفوضى، وتتهتك جميع الحدود حدّ العقلانية والعبث. في تلك الجنّة يتسلّل الخصوم والأعداء لصناعة الحنين إلى العهد الذي ثار عليه الناس، ويتم اصطياد الخيبات والعثرات لصناعة “عهد ذهبي نتحسّر عليه ونبكي انقضاءه”. حين أطالع ما يكتب حالياً حول الأحداث التي شهدها الساحل السوري، تقفز إلى ذهني كثير من العبارات التي حفظْتها عن ظهر قلب، وهي التي قالها التونسيون أيضاً حين مرّت ثوراتهم ببعض عثرات، لا تختلف كثيراً عمّا تشهد سورية حالياً، الفاعلون والأسباب فقط يختلفون نسبياً، خصوصاً أن تونس لم تشهد عنفاً طائفياً، لكن شهدت ما يضاهيه عنفاً سياسياً وأيديولوجياً أهوجَ وقاتلاً.

هذا المنوال لا يشتغل في حفر خنادق في مسار الثورة، وقد تحوّلت دولةً، بل يشتغل أيضاً، وبكثير من المردودية، في أثناء بناء الدولة ذاتها في ما توافر من وقت يطول أو يقصر، بحسب خصوصية التجربة وطبيعة فاعليها، تبدو القوى المنتصرة عادةً، ووفق ذلك المنوال، مصرّة على مسك الأجهزة المتهالكة من حطام الدولة، مؤسّسات صلبة وإدارة وأجهزة، لا تعرف تماماً كيف “تصفّي” تلك التركة الثقيلة، ولكنّها مضطرة بين الحين والأخر إلى التنازل وغضّ الطرف بحثاً عن “المؤلّفة قلوبهم” من أجل الحصول على الحدّ الأدنى من “أداء الدولة”، حتى ولو على حساب الثورة ومهجتها لإشباع الحاجات الملحّة للناس، فليس لها بدائل كبرى لصياغة أجهزة جديدة وخلق شعب جديد، منه تنتقي المنتسبين إلى تلك الجيوش، بما فيها الجيش المدني لمئات آلاف منتسبي الإدارة العمومية. يتسلّل في ذلك كلّه خصوم الثورة وانتهازييها، و'”ثوار الربع الأخير من الساعة”، وحتى الذين كانوا من رموز النظام السابق، ويتم ذلك تحت مبررات عديدة: الحاجة الملحّة للمرافقة، والخبرة والتجربة… إلخ، فتتحوّل أجهزة الدولة غنيمةً أو “جيشّ ردّةٍ يحمل في الداخل ضدّه”، كما يقول الشاعر مظفّر النُوّاب.

خارج أجهزة الدولة، التي تحمل عادةً عناصرَ خرابها في ذاتها، يبدأ الثوار في بناء سلطات مؤقّتة طمعاً في بناء بعض المشروعية: دستور مؤقّت سمّي في تونس “الدستور الصغير” أي “تنظم مؤقّت للسلطة”، وها إن أشقاءنا في سورية سمّوه الإعلان الدستوري، ولا يختلف الأمر في مصر وليبيا بقطع النظر عن مآلات الدستور القديم، ويبدأ تشكل هيئة تشريعية تسمّيها بعض التجارب مجالس تأسيسية أو مجاس نيابية مؤقتة. لا شكّ أن هذه البناءات كلها تظلّ هشّة قابلة للتفكّك السريع، يبدأ آنذاك الخصوم (وما أكثرهم) في سحب الشرعية من هذه البناءات الهشّة والوليدة كلّها، من أجل العودة إلى “العهد الذهبي”، أو الارتماء في مسار آخر هو مزيج من الفوضى والحرب الأهلية، خصوصاً في ظلّ اختبارات عسيرة: العدالة الانتقالية، وبركان الذاكرة وآلامها.

تمرّ التجارب الانتقالية كلّها باختبارات عسيرة، وكلّما طال أمدها، كانت عرضة للانتكاس، خصوصاً في ظلّ تحرّش إقليمي ودولي بكلّ ما له صلة بالثورات العربية ورغبات التحرّر. كلما لانت الثورات واقتربت من المؤلّفة قلوبهم، ابتعدت من مهجتها وأصابها المسخ، وكلّما مالت إلى مهجتها وروحها، تكالب عليها الجميع، وتلك هي المعضلة التي لا نرى لها حلّاً سهلاً. ولا يحتاج السوريون إلى الاطلاع على دروسنا الخائبة والاتعاظ من تجاربنا الفاشلة، فلهم من الإرادة والذكاء والنخب ما بها يختارون أقوم المسالك، ولكن قد يحتاجون إلى النظر في مرآة قطار ثورتهم العاكسة، حتى يتجنّبوا المحطّات الفاشلة، وإنهم على ذلك لقادرون.

العربي الجديد

—————————

اتهامات للسفارات السورية بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة وحملة للتغيير/ عمر زقزوق

17/3/2025

أطلق رواد منصات التواصل الاجتماعي في سوريا حملة تطالب الحكومة السورية، وخصوصا وزارة الخارجية والوزير أسعد الشيباني، بالإسراع في تغيير السفراء والبعثات الدبلوماسية السورية في أوروبا وبعض الدول الأخرى.

وأشار الناشطون إلى أن هؤلاء السفراء تم تعيينهم إبان حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد، وأنهم مرتبطون بالمظاهرات المعادية للدولة السورية الجديدة التي تنظم في أوروبا.

    السيد وزير الخارجية، لماذا تبقون على طواقم السفارات السورية؟ وجود هذه الخلايا السرطانية ضرر كبير في حق السياسة الخارجية التي تسعون جاهدين بها@asaad

    — thats_raw (@mohd1272006284) March 16, 2025

وصرح مغردون بأن السفارات السورية، خاصة في روسيا وبعض الدول الأوروبية الغربية، أصبحت أشبه بـ”حصان طروادة” يُستخدم لضرب وحدة السوريين، مشيرين إلى أن بعض الشخصيات البارزة في “التشبيح الدبلوماسي” ما زالوا يتقلدون المناصب الدبلوماسية ويعملون على تنسيق المظاهرات المناوئة للدولة.

    السفارات السورية في روسيا وبعض دول اوربا الغربية صارت حصان طروادة لضرب وحدة السوريين ، فالفلول في قلبها ، ويتربعون على مكاتبها ، ويتصرفون بكل ما بقي في حوزتها ، وابرز مشاهير التشبيح الدبلوماسي كالجعفري ، وشركاه هم الآن من ينسقون المظاهرات المعادية ، أما لماذا لم يتم تغييرهم منذ…

    — muhydinlazikani (@muhydinlazikani) March 17, 2025

وتساءلوا عن الأسباب التي حالت دون تغييرهم حتى الآن، خاصة بعد تحرير البلاد، معبرين عن استغرابهم إزاء هذا “اللغز المحير”.

وذهب ناشطون إلى أن ما يجري في شوارع أوروبا لا يمكن أن يكون محض صدفة، بل هو “جزء من مخطط أمني خطير” يُدار من داخل السفارات السورية الموجودة هناك، عبر عناصر موالية للنظام السابق.

وأشاروا إلى استغلال أعضاء هذه السفارات للجاليات السورية بهدف تعزيز الانقسامات وإثارة الفتن، مؤكدين ضرورة تطهير هذه البعثات فورا واستبدال أطقمها ليحل محلهم أشخاص مؤهلون ومخلصون للوطن.

    احذروا من مجموعات الضغط السورية الموجودة في الخارج والتي تدس السم علينا بالخفاء لتعطل المرحلة الانتقالية سواء لأغراض شخصية، أو أحقاد نفسية مقيتة. هؤلاء أخطر علينا اليوم من أشرس عدو وعلى الدولة رصد تحركاتهم وفتح قنوات تواصل لاستيعابهم والتقليل من أضرارهم.

    — Mahmoud Toron محمود الطرن (@MT77W) March 15, 2025

وكشفت تقارير لصحف محلية سورية عن دور موظفي السفارات السورية في كل من فرنسا، وهولندا، وألمانيا في تنظيم مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة.

وأكدت هذه المصادر أن ما يرفع من شعارات وما ينظم من فعاليات معادية تدار بالأساليب الأمنية نفسها التي كان يستخدمها النظام السابق قبل سقوطه، مما يستدعي، برأي الصحفيين والمواطنين على حد سواء، إجراء تغيير جذري في البعثات الدبلوماسية.

    على الحكومة التحرك فوراً وتغيير موظفيين السفارات السورية في اوروبا، التقارير تتحدث عن دور موظفي السفارات السورية في فرنسا، هولندا، وألمانيا بتحريك مظاهرات مشبوهة ضد الدولة السورية الجديدة

    — عمر مدنيه (@Omar_Madaniah) March 16, 2025

وأكد عدد من السوريين أن ملف السفارات يعد من الملفات المهمة التي لم تشهد تعديلات تُذكر منذ انتصار الثورة السورية، مشيرين إلى أن العناصر الأمنية والدبلوماسية التابعة للنظام السابق ما زالت تعمل داخل هذه السفارات ضد الدولة الجديدة عبر 3 آليات رئيسة، تشمل تحريض السوريين في الخارج ضد الدولة الوليدة من خلال فرض عراقيل عليهم في أثناء معاملاتهم، وسوء معاملتهم، وابتزازهم عبر الرشاوى، ليُشعروا بأن “لا شيء تغير”.

ومن هذه الآليات أيضا تنظيم أنشطة معادية للدولة السورية عبر خلايا أمنية وطائفية ما زالت تدين بالولاء للنظام السابق وتنفذ أجنداته.

    لم يغيّر السفراء السابقين للحفاظ على الاعتراف الدولي، وضمان استقرار العلاقات الخارجية، وتجنب الأزمات الدبلوماسية. أو بسبب خطة تدريجية لإعادة الهيكلة، مع التركيز حاليًا على الأولويات الداخلية مثل الأمن وإعادة الإعمار.

    — Khidr Harfoosh (@Khidr_Harfoosh) March 16, 2025

جدل حول أدونيس ومشاركته في وقفة تضامنية

على صعيد متصل، تداول ناشطون عبر منصات التواصل صورا لوقفة تضامنية قيل إنها تدعم ضحايا الساحل السوري، الذين فقدوا حياتهم في أثناء ملاحقة الجيش السوري لجماعات فلول الأسد. وقد أثارت مشاركة الشاعر السوري علي أحمد سعيد إسبر، المعروف بـ”أدونيس”، في هذه الوقفة جدلًا واسعًا.

وتساءل رواد مواقع التواصل: “أين كان أدونيس طوال 14 عامًا، حين كان بشار الأسد يقتل السوريين؟!”.

    أدونيس هو الشاعر الذي لم يخرج يوما في اعتصام للتضامن مع ضحايا مجازر بشار طوال 14 عاما … https://t.co/mU9QBuBIpi

    — سَجَد الجبوري (@sjd_aljubori) March 16, 2025

كما استنكر آخرون غيابه عن المشهد عندما تعرض الشعب السوري للقصف بالأسلحة الكيميائية وغيرها من وسائل القمع الوحشية، مؤكدين التناقض بين مشروعه الفكري الذي يدعي الانحياز للحرية والعقلانية ومواقفه الصامتة إزاء مأساة وطنه.

    لماذا لم نرَ أدونيس، المثقف الثائر على أنظمة الجهل والتخلف كما يزعم، عندما كان الشعب السوري يُسحق تحت القصف وبالكيماوي؟ لماذا غاب صوته عن مأساة وطنه، رغم أن مشروعه الفكري يدّعي الانحياز للحرية والعقلانية؟ هل الإنسانية تتجزأ، أم أن أدونيس لا يرى التخلف إلا في فئة معينة pic.twitter.com/s4TUkSlnZB

    — Sultan alkanj سلطان الكنج (@AlkanjSultan) March 16, 2025

وفي ردود بعض المدونين على هذه التساؤلات، أكدوا أن أدونيس، رغم كونه شاعرا كبيرا، فإنه لم يشارك يوما في أي تحرك تضامني مع ضحايا النظام البائد، مما اعتبر “وصمة عار” تلحق بصورته بوصفه مثقفا يدعو إلى الثورة على أنظمة التخلف والجهل.

    علي أحمد إسبر (#أدونيس)، الحالم الأبدي بجائزة نوبل، والمعارض الشرس لكل “ثورة تخرج من عتبات الجوامع”، والداعي لـ “تغيير المجتمع” لأن “تغيير النظام حدثاً ثانوياً”، والمتربص بأي شعار ديني في أي مظاهرة، فقط ليقول بأنها ليست ثورة… طق عرق الإنسانية والحرية لديه، وقرر التظاهر لأول مرة… pic.twitter.com/S8i4MQvwgH

    — Yaman يمان (@YamanAmouri) March 16, 2025

المصدر : الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي

——————————-

ادعُ لنا. لقد وصلوا”..كيف انزلقت سوريا إلى حمام دم من الانتقام

تحديث 17 أذار 2025

دمشق: بلغت صرخات الانتقام ذروتها في السادس من مارس/آذار.

دعت عشرات الرسائل التي نشرتها فصائل مسلحة مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتداولها مئات الآلاف من السوريين، إلى “النفير” للمساعدة في سحق تمرد ناشئ من أنصار الرئيس المخلوع والمكروه على نطاق واسع بشار الأسد.

تدفقت مئات الشاحنات الصغيرة المحملة بمسلحين، بالإضافة إلى دبابات وأسلحة ثقيلة، على الطرق السريعة الرئيسية باتجاه منطقة الساحل السوري التي تقطنها الأقلية العلوية التي ينتمي إليها الأسد.

كانوا يسعون للانتقام من الموالين للرئيس المخلوع، ومعظمهم من ضباطه العلويين السابقين. ويُقال إن بعضهم نفذ سلسلة من هجمات الكر والفر على الجيش الجديد في محاولة للانقلاب على الحكومة التي يقودها الإسلاميون السنة.

في الساعات الأولى من صباح السابع من مارس/آذار، هاجمت قوات موالية للحكومة حي القصور في مدينة بانياس، أحد أول مخارج الطرق السريعة الرئيسية، وأطلقت النار على المباني السكنية، ما أسفر عن مقتل عائلات داخل منازلها. ووقعت هجمات مماثلة في سلسلة من البلدات والقرى الواقعة شمالاً على طول الساحل، بما في ذلك المختارية، والشير، والشلفاطية، وبرابشبو، حيث تتركز الطائفة العلوية.

قال حسن حرفوش، وهو علوي من القصور يقيم الآن في العراق، واصفاً مكالمة هاتفية مع عائلته قبل مقتل والديه وشقيقه وشقيقته وطفليها بالرصاص في البلدة، بعد ظهر السابع من مارس/آذار: “سمعت صراخ أطفال، وإطلاق نار، ووالدي يحاول تهدئة الأطفال”.

“كان والدي يقول لي: ادعُ لنا. لقد وصلوا”.

قال حرفوش إنه غادر سوريا قبل أشهر، عقب الإطاحة بالأسد بناءً على طلب والده الذي خشي موجة ثأر من العلويين: “قال لي أن يبقى واحد منا على الأقل على قيد الحياة”.

في غضون ستة أيام تقريباً، سقط مئات المدنيين العلويين قتلى، وفقاً لتقارير رويترز وعدة مجموعات رصد. بعد ثلاثة أشهر فقط من الإطاحة بالأسد، في ديسمبر/كانون الأول، وإنهاء حكمه الوحشي، ونحو 14 عاماً من الحرب الأهلية، انزلقت أجزاء من غرب سوريا إلى حمام دم من الانتقام.

جمعت رويترز تفاصيل الأحداث التي بلغت ذروتها في هذه المذبحة الدموية من خلال مقابلات مع أكثر من 25 ناجياً وأقارب ضحايا، بالإضافة إلى لقطات من طائرات مسيرة وعشرات المقاطع المصورة والرسائل المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولم تتمكن رويترز من تحديد ما إذا كانت هناك أي خطة منسقة من قبل قوات الأمن لمهاجمة المناطق العلوية أو استهداف المدنيين.

ولم ترد الحكومة السورية، التي يديرها الآن أعضاء سابقون في “هيئة تحرير الشام”، على طلب للتعليق على هذا المقال.

وندد الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع بعمليات القتل الجماعي لأفراد من الطائفة العلوية، وقال إنها تشكل تهديداً لجهوده للمّ شمل البلاد التي عصفت بها الحرب، وتعهد بمعاقبة المسؤولين عنها حتى لو كانوا “أقرب الناس” إليه.

وقال لرويترز، في مقابلة قبل أيام: “نحن بالأساس خرجنا في وجه هذا النظام وما وصلنا إلى دمشق إلا نصرة للناس المظلومين… لا نقبل أن يكون هنا قطرة دم تسفك بغير وجه حق، أو أن يذهب هذا الدم سدى دون محاسبة أو عقاب. مهما كان، حتى لو كان أقرب الناس إلينا وأبعد الناس إلينا. لا فرق في هذا الأمر. الاعتداء على حرمة الناس، الاعتداء على دمائهم أو أموالهم، هذا خط أحمر في سوريا”.

واتهم الشرع وحدة عسكرية سابقة موالية لشقيق الأسد وقوى أجنبية بالمسؤولية عن اندلاع العنف بمنطقة الساحل، لكنه أقرّ بأن “أطرافاً عديدة دخلت الساحل السوري وحدثت انتهاكات عديدة”.

وقال إن ذلك “أصبح فرصة للانتقام” من مظالم مكبوتة منذ سنوات.

وتواصلت رويترز مع عدد من الموالين للأسد الذين نشروا رسائل على الإنترنت تحث على العنف، لكنهم لم يستجيبوا.

وقالت جماعات رصد، من بينها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة مستقلة مقرها المملكة المتحدة، إن أكثر من ألف شخص لقوا حتفهم في أعمال العنف، أكثر من نصفهم قُتلوا على يد قوات متحالفة مع السلطات الجديدة، بينما قُتل آخرون على يد موالين للأسد.

وأضافت الشبكة أن من بين القتلى 595 مدنياً ومقاتلاً أعزل، غالبيتهم العظمى من العلويين. وأحصت رويترز أكثر من 120 جثة في ستة مواقع على الأقل في محافظتي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، من خلال تحديد المواقع الجغرافية لمقاطع مصورة نشرها سكان وأقارب والقتلة أنفسهم على وسائل التواصل الاجتماعي.

وشهدت الإطاحة بالأسد صعود حكومة جديدة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وهي جماعة إسلامية سنية انبثقت من تنظيم كان تابعاً لتنظيم “القاعدة”.

وشعر العديد من السنة في سوريا، الذين يشكلون أكثر من 70 بالمئة من السكان، بالتهميش السياسي والاقتصادي على يد بشار الأسد ووالده حافظ الأسد، اللذين قمعا بشدة الاحتجاجات التي هيمن عليها السنة ضد حكمهما.

وتسعى الحكومة الجديدة جاهدة لدمج عشرات الفصائل، التي انبثقت من رحم الحرب الأهلية الطويلة، في قواتها الأمنية. وتعتمد الحكومة على مقاتليها، بالإضافة إلى مقاتلين جُنّدوا حديثاً في كيان يعرف باسم إدارة الأمن العام. وقد برزت الحاجة إلى فصائل أخرى – بما يشمل بعض المقاتلين الأجانب – لملء الفراغ الأمني الذي خلفه تفكيك منظومة الدفاع في عهد الأسد.

ووفقاً لعدد من الشهود، نُفذت عمليات القتل الجماعي في الغالب على يد مسلحين من مختلف الفصائل المتحالفة مع الحكومة الجديدة، بما في ذلك إدارة الأمن العام. وأظهر مقطع مصور نُشر على فيسبوك، وتحققت منه رويترز، بعض الرجال يرتدون زياً عسكرياً وعلامات على أذرعهم تُشبه تلك التي ترتديها إدارة الأمن العام، وهم يشاركون في أعمال العنف في مدينة جبلة الساحلية.

ولم تستجب إدارة الأمن العام لطلب التعليق.

قال أحد أفراد الأمن العام إنه وعشرات من أفراد الوحدة الآخرين نُشروا إلى الساحل في السادس من مارس/آذار بهدف استئصال المقاتلين الموالين للأسد، وعادوا إلى قاعدتهم في حلب هذا الأسبوع.

وأضاف أن مقاتلي إدارة الأمن العام لم يستهدفوا المدنيين على حد علمه، مضيفاً أن دعوات “النفير” على مواقع التواصل الاجتماعي استقطبت مقاتلين آخرين غير منضبطين، فقتلوا مدنيين بشكل جماعي.

وأضاف: “انضم إليهم كل من كان بحوزته سلاح”.

“ضربة بيد من حديد”

خلفت سنوات حكم الأسد الأربعة والعشرون إرثاً كارثياً بعد هروبه إلى موسكو في ديسمبر/كانون الأول. فالكثير من السنة في سوريا، الذين يشكلون غالبية السكان، يضمرون استياءً عميقاً تجاه الموالين للرئيس السابق الذين شنوا تمرداً محدوداً هذا الشهر.

ازدادت حدة التوتر في السادس من مارس/آذار، عندما أعلنت الحكومة أن مقاتلين يقودهم ضباط علويون سابقون في جيش الأسد شنوا موجة من أعنف هجماتهم حتى الآن، ما أودى بحياة 13 فرداً من قوات الأمن الحكومية في محافظة اللاذقية، وهي معقل للعلويين. ولم تُعلن أي جهة مسؤوليتها عن عمليات القتل.

وتمكّنت رويترز من مراجعة رسائل عدة تدعو السوريين إلى التوجه إلى الساحل للمشاركة في “النفير”.

فعلى سبيل المثال، نشرت صفحة على فيسبوك لها أكثر من 400 ألف متابع، وتقول إنها تابعة لإدارة الأمن العام، دعوات للعشائر العربية في سوريا للتعبئة لدعم مقاتلي الحكومة في مواجهة المتمردين العلويين. كما نشرت مقاطع مصورة لجماعات مسلحة ترسل مقاتلين ومركبات إلى الساحل للانضمام إلى القتال. ولم تتمكن رويترز بعد من تحديد هوية أدمن الصفحة.

كما ظهرت دعوات إلى حمل السلاح في ما لا يقل عن ثلاث مجموعات على تطبيق واتساب، تضم كل منها مئات الأشخاص في ثلاث مناطق مختلفة من شمال سوريا. كانت الرسائل محلية، مع تحديد نقاط تجمع محددة في كل منطقة تنطلق منها القوافل نحو الساحل.

وفي اليوم نفسه، قال سكان في مدينتي دمشق وحلب الرئيسيتين لرويترز إنهم سمعوا بعض المساجد السنية تبث دعوات الجهاد عبر مكبرات الصوت. وندد أحد أئمة مسجد في دمشق بهجوم العلويين المزعوم على قوات الأمن، ودعا السنّة إلى حمل السلاح ضد خصومهم الطائفيين في خطبة بُثت على فيسبوك واطلعت عليها رويترز.

ولم يرد إمام دمشق، محسن غصن، على طلب التعليق عبر صفحته على فيسبوك. كما لم ترد وزارة الشؤون الدينية السورية المسؤولة عن المساجد.

ولم تتمكن رويترز من تحديد عدد المقاتلين الذين حُشدوا لهذه القضية. وتُظهر لقطات من طائرات مسيرة للطريق السريع شرق مدينة اللاذقية الساحلية، بالقرب من قرية المختارية، مئات المركبات- منها شاحنات تحمل مقاتلين في الخلف ومركبات عسكرية ودبابتان على الأقل- وهي تدخل المنطقة صباح السابع من مارس/آذار.

وأبلغ مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة رويترز بأن تحقيقاته أشارت إلى أن حشد المقاتلين لدعم قوات الأمن شمل جماعات مسلحة ومدنيين، وأنه حدث بسرعة كبيرة.

وقال متحدث باسم المكتب: “لم يتسن التعرف على هوية العديد من المهاجمين لأنهم كانوا ملثمين، ولذلك من الصعب للغاية معرفة من فعل ماذا. كانت الفوضى عارمة”. وأضاف: “ليس لدينا صورة واضحة عن هيكل التسلسل القيادي داخل قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة”.

المقاتلون يتنقلون من منزل لمنزل

أفاد ستة شهود وأقارب قتلى بأن حي القصور، حيث تعرضت عائلة حرفوش لمأساة، شهد بعضاً من أسوأ المجازر.

وقال أحد السكان لرويترز إن المقاتلين أطلقوا، في بادئ الأمر، ذخيرة ثقيلة وقذائف مدفعية ومدافع مضادة للطائرات على المباني السكنية. وأضاف أن المسلحين بدأوا بعد ذلك بقليل التنقل من منزل إلى آخر، ما تسبب في مقتل مدنيين.

وأضاف أن نحو 15 مسلحاً اقتحموا منزله في ثلاث مجموعات مختلفة، منها بعض أفراد جهاز الأمن العام الذين تعرف عليهم من زيهم العسكري، بالإضافة إلى مقاتلين أفغانيين يعرف لغتهما.

وقال إن هويته المسيحية فقط هي التي أنقذته وعائلته. وأضاف أن أحد ضباط جهاز الأمن العام كف المسلحين الآخرين عن قتلهم.

وكان جيرانه أقل حظاً.

فقد قال اثنان آخران من سكان القصور إن العديد من أفراد أسرهم قُتلوا. وأفادت امرأة أخرى بمعرفتها مقتل نحو 50 شخصاً، بينهم والداها وجيرانهم وطفل من الجيران عمره ثلاث سنوات. وقال ساكن رابع إن المسلحين أجبروا الناس على الخروج من منازلهم وقتلوهم، بمن فيهم ابن أخيه البالغ من العمر 28 عاماً.

وقال ناجون إن مقاتلين سرقوا سيارات وهواتف وأموالاً من السكان وأجبروا نساء على تسليم مجوهراتهن تحت تهديد السلاح وأحرقوا منازل ومتاجر ومطاعم.

ولم تتمكن رويترز من التحقق من هذه الروايات بشكل مستقل.

وفي اليوم نفسه، السابع من مارس/آذار، وفي الأيام التي تلته، هاجم مسلحون أيضاً سلسلة من البلدات والقرى الواقعة شمالاً على امتداد الساحل وفي التلال المحيطة بمدينة اللاذقية.

وتمكنت رويترز من التحقق من لقطات لعشرات الجثث ملقاة في تلك القرى، والتي نُشرت على الإنترنت في الأيام التي تلت عمليات القتل.

وأظهر مقطع مصور نُشر على الإنترنت في السابع من مارس/آذار جثث ما لا يقل عن 27 رجلاً، كثير منهم من كبار السن، ملقاة على جانب طريق في المختارية. وفي اليوم نفسه، في الشلفاطية على بُعد 20 دقيقة بالسيارة، أظهر مقطع مصور نُشر على فيسبوك وتحققت منه رويترز جثث ما لا يقل عن 10 أشخاص بملابس مدنية ملقاة على الأرض أمام صيدلية وعلى امتداد الطريق. وكان الكثيرون لا يزالون ينزفون.

(رويترز)

——————————

الصراع على سوريا الانتقالية: إلى أين؟/ عصام نعمان

تحديث 17 أذار 2025

اسمها الرسمي الجمهورية العربية السورية، لكن اسمها الواقعي أصبح جمهورية سوريا «الانتقالية». إلى أين ستنتقل سوريا، أو بالأحرى إلى أين تنوي أمريكا و»إسرائيل» وتركيا الانتقال بها؟ لا جواب جاهزاً في الوقت الحاضر، لأن أحداً لا يعرف إلى متى ستبقى مرحلة الانتقال، وكيف ستكون سوريا شكلاً ومضموناً في المستقبل المنظور أو البعيد. مع ذلك، بإمكان المراقب أن يلاحظ واقع سوريا في حاضرها المضطرب، ولعل أفضل مقاربة لفهم ما جرى ويجري فيها محاولةُ معرفة ما تعدّه لها كلٌ من واشنطن وتل أبيب وأنقرة.

للولايات المتحدة ثلاث قواعد عسكرية في سوريا منذ سنوات عدّة، بدعوى محاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، الذي كان قد نجح لفترة في إقامة «دولة إسلامية» في الموصل في شمال العراق، ومحافظة الرقة في شمال شرق سوريا. القاعدة الأكبر في التنف على مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وهي تتحكّم بالطريق الرئيسية بين بلدة البوكمال السورية وبلدة القائم العراقية. القاعدة الثانية في محافظة دير الزور حيث آبار النفط السورية. الثالثة في محافظة الحسكة في شمال شرق سوريا، حيث آبار النفط أيضاً والسكان الكرد السوريون.

مع تفاقم الاضطرابات السياسية والإثنية في عهد بشار الأسد، ساندت أمريكا المتمردين الكرد، الذين حملوا اسم «قسد» (قوات سوريا الديمقراطية) ومدّتهم بالسلاح والمال، الناتج من عائدات آبار النفط أيضاً. هذا في الماضي، أما في الحاضر فإن واشنطن تبحث عن صيغة تسمح للكرد السوريين بالمحافظة على «الحكم الذاتي» الذي يمارسونه بيسرٍ في شمال شرق سوريا، شريطة ألاّ يشكّل استفزازاً لتركيا، التي تعتبر «قسد» منظمة إرهابية متعاونة مع حزب العمال الكردستاني التركي المحظور. «إسرائيل» تحتل نحو 400 كيلومتر مربع من محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، وتسيطر على حوض نهر اليرموك، وعلى قمة جبل الشيخ المشرف على دمشق شرقاً، وعلى سهل البقاع اللبناني غرباً كما على بضع قرى غالبية سكانها من الموحدين الدروز السوريين، في سفوح الجبل وهضبة الجولان. اللافت والخطير أن «إسرائيل» بدأت بتنفيذ عمليتين متوازيتين: إقامة مواقع عسكرية في نقاط استراتيجية داخل المنطقة السورية المحتلة، وإقامة صلات وعلاقات مع سكان القرى الدرزية في الجنوب السوري، والإعلان بأنها حريصة على حمايتهم من جهة، والإيحاء من جهة أخرى بأنها تعمل لإقامة دولة درزية في جبل العرب (محافظة السويداء) مع إمكانية امتدادها لضم دروز لبنان أيضاً. تركيا يهمها بالدرجة الأولى منع الكرد من إقامة كيان انفصالي في جنوبيّ شرق أراضيها وشمال شرق سوريا. ويبدو أنها، من خلال حمايتها وربما وصايتها على نظام الحكم الانتقالي في دمشق، عازمة أيضاً على إقامة قواعد عسكرية لها في شمال البلاد. وسط تدخلات هذه الدول الثلاث القوية النافذة، يحاول الحكم الانتقالي في دمشق بقيادة أحمد الشرع، تثبيت قواعد سيطرته على مناطق البلاد المتشرذمة. وقد أربكته كثيراً حوادث المجازر الرهيبة التي استهدفت العلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وعمليات الحرق المتمادية للمزارع والأحراج في أريافها. وفي حمأة هذه الاضطرابات الدموية العنيفة توصّل الحكم الانتقالي في دمشق إلى توقيع اتفاق تهدئة وتعاون مع كلٍّ من تنظيم «قسد» الكردي، ومع مجموعة من وجهاء محافظة السويداء، ثم ما لبث أن أصدر بلسان أحمد الشرع « الإعلان الدستوري» للمرحلة الانتقالية الذي يؤسس لحكم مطلق يتحكّم بجميع السلطات، مع استمراره لمدة خمسة أعوام على الأقل. «الإعلان الدستوري» قوبل بردود فعل غاضبة ورافضة، أولها من «مجلس سوريا الديمقراطية»، الذراع السياسية لـِ»قسد»، الذي وصف أحمد الشرع بأنه «يكرر ما كان يفعله بشار الأسد»، مضيفاً أن الدستور السوري للمرحلة الانتقالية «غير شرعي ولا يتوافق مع الاتفاقية الموقعة بين أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي»، وأن «إبراز الشريعة الإسلامية في إدارة الدولة يأخذ البلاد نحو الفوضى».

في الجنوب السوري، رفض أحد مشايخ العقل الثلاثة للموحدين الدروز الشيخ حكمت الهجري، التعاون مع الإدارة السورية الجديدة ووصف حكومتها بأنها «متطرفة ومطلوبة دولياً»، وقال: «نأسف على أبناء السويداء الذين يبيعون دماء وكرامة أهلنا في الساحل»، في إشارةٍ إلى الاتفاق الذي جرى بين وجهاء من السويداء والإدارة السورية الجديدة، بعد أيام من توقيعها اتفاقية مع «قسد» لدمجها بقوات الجيش الذي يعتزم الحكم الانتقالي في دمشق بناءه خلال الأشهر التسعة المقبلة. من مجمل هذه الواقعات والمعطيات والتطورات يمكن استخلاص النقاط السياسية الآتية:

*ما زال الاضطراب السياسي والطائفي هو السمة الغالبة في حاضر سوريا الانتقالية.

*عملية توحيد جغرافية سوريا، سياسياً وإدارياً، التي يقوم بها الحكم الانتقالي في دمشق ما زالت محدودة جداً.

*تبدو الولايات المتحدة الراعية الأولى للحكم الانتقالي في دمشق، والعاملة بجهد للتوفيق بينه وبين تركيا وأغراضها السياسية والعسكرية في سوريا.

*لم يستطع الحكم الانتقالي في دمشق حتى الآن من احتواء الكرد السوريين في شمال شرق البلاد ودمج تنظيماتهم في مؤسسات النظام في دمشق.

*ترتاب أنقرة بما تحاول واشنطن إرساءه سياسياً وعسكرياً في شمال شرق سوريا حيث الكرد و»قسد»، ولذلك تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في شمال البلاد.

*تبدو «إسرائيل» ناشطة في احتلال المزيد من الأراضي السورية من جهة، ومن جهة اخرى حريصة على تعزيز التباعد بين مختلف طوائف البلاد، وتنفيرها جميعاً من الحكم الانتقالي في دمشق.

*لا معارضة موحّدة أو ناشطة في سوريا بالوقت الحاضر، وإن ما يواجه الحكم الانتقالي من عمليات ميدانية في بعض المحافظات وأريافها هو مجرد ردود فعل محلية لا رابط سياسياً بينها.

*يبدو مستبعداً استعادة صيغة الحكم المركزي إلى سوريا في قابل الأيام، في حين تبدو اللامركزية الإدارية الموسّعة هي الصيغة الملائمة لإبعاد الصيغة الفدرالية عن البلاد.

*لا تدخلات مؤثّرة من جانب أيّ دولة عربية أو أوروبية في سوريا، بالوقت الحاضر، بل ثمة تسليم بالدور الأمريكي الناشط بلا ادنى منافسة.

*لعل أدق توصيف لحال سوريا في الوقت الحاضر هو، أنها كيان مضطرب سياسياً وأمنياً تحكمه ذاتياً قوى داخل ثلاث طوائف متنفذة في محافظات دمشق والسويداء والحسكة.

إلى أن تستيقظ وتتوحد القوى الوطنية النهضوية العابرة للطوائف والإثنيات والقبائل، يبقى المستقبل في سوريا مفتوحاً على شتى الاحتمالات.

كاتب لبناني

القدس العربي

———————————

حتى لا يستمر الكذب ولكي يبدأ الحوار/ سلام الكواكبي

الإثنين 2025/03/17

ما جرى من مذابح وجرائم حرب منذ أكثر من عشرة أيام، في عدة مدن وبلدات وقرى ساحلية في سوريا، وما أعقبها ودار حولها من نقاشات عدمية وحوارات نارية، رفع اللثام عن جزءٍ من وجه الحقيقة القبيح أو المشوّه، والذي سعى السوريون عقودًا لإخفائه عن الذات وعن الآخر. ولقد أظهرت بشاعة ما قامت به بعض “العناصر غير المنضبطة” ـ كما قيل ـ بحق المدنيين من أهالي “الفلول” أو من جاورهم، بأن هناك كارثة أخلاقية بنيوية في تركيبة الإنسان السوري المعاصر. وبالطبع، من السهل للغاية، إلقاء اللوم والإدانة بوجه النظام السابق القبيح تكوينًا وفلسفةً وممارسة. لكن هذا التحميل المريح للمسؤولية يمنعنا من مواجهة أنفسنا أمام مرآة التاريخ والوقائع. فهو يحرمنا من تبوء دور، أيما دور، في مواجهة هذا الانحراف ومقارعة نتائجه الوخيمة على مستقبل البلاد.

لقد كان النظام “الأسدي” السابق، وإلى جانب مجموعة كبيرة من الصفات السلبية والممارسات الوحشية التي تدين مجرّد وجوده، يكذب بشكل مفضوح ومن دون وجل، يساعده في ذلك جوقة “حسب الله” من رجاله للدين، وليس رجال الدين، مشدّدًا على وجود حقيقي للتآخي ورسوخ الانسجام الكامل في عمق المجتمع السوري بين الأديان والمذاهب والاثنيات. كان يكذب ويعرف بأنه يكذب. ويدعو أتباعه، كما جرت عليه العادة، إلى امتهان الكذب والمجاهرة به، في كل حدب وصوب. ولقد وصل البلل إلى وجنات بعض النخب المعارضة، والتي تبنّت هذه الكذبة السلطوية وادّعت بأن “لا حدٌّ يُباعدنا ولا دين يفرّقنا”. وخاضت في لغة الشعارات والعناوين الشعبوية. بل وصلت بهم حالة تقمّص خطاب السلطة وإعادة إنتاجه، على الرغم من استمرارهم بشتمها في الآن نفسه، إلى أن يعتبروا بأن النعرات الطائفية والحدود الاثنية هما من صنع آلة الاستبداد المقيت ليس إلا. وبذلك، فهم يبرؤون المجتمع، وهم في محوره أو هكذا يُفترض، من أي انحراف موصوف باتجاه التعصّب والعصبية.

إن الهروب المتعمّد الذي قامت به بعض النخب المثقفة والواعية من أمام واقع مجتمعاتها، أودى بها، إضافة إلى عوامل أخرى، إلى الجهل بحقيقة وتعقيدات المشهد المجتمعي المحلي، ولو بشكل غير متعمّد. وساهم هذا الجهل في مسار عجزها عن اجتراع الحلول المناسبة لإخراج هذا المجتمع من عنق الزجاجة الذي حصر به. فقد ظهر واضحًا بأن لكل طرف أسبابه لتغطية الحقيقة المرة وتجاهل وجودها وأثر هذا الوجود. فالحاكم المستبد، يستغل الانقسامات البينية داخل البلاد، بل هو يُشجّع على توسيعها وترسيخها، وذلك على الرغم من استمراره بالكذب نافيًا وجودها أصلاً. وبالحقيقة، ونتيجة التجربة التي خاضها وخبرها، فهذه الانقسامات تساعده على حسن إدارة الاستبداد، وجعله أكثر مردودًا له ولزبانيته. أما المعارض، ففي نفيه، أو في تجاهله للواقع الذي تؤكّد عليه مجمل الدراسات العلمية الجدية، محاولة منه فاشلة للهروب الى الأمام. فهو يتهرّب عمومًا من القيام بما تُجمع عليه الدراسات التاريخية من أنه واجب المواجهة والانخراط في عملية نشر الوعي، وأخذ الموقف النقدي الحاد ومعاندة التيار المهيمن.

نعود إلى أحداث الأسبوع الماضي في الساحل السوري، فلقد أوضحت، بما لا لبس فيه، بأن التخندق والتمترس الطائفي والمذهبي سريعا النشوء والتطور. ويبدو أن هذا التخندق، إضافة إلى وجوده المادي عبر شخوص تقتل وتُقتل على أرض البلاد، فإن له وجودًا افتراضيًا ليس بأقل دموية ووحشية من وجوده المادي الحقيقي. وحفلت مواقع التواصل الاجتماعي بمجموعة متكاملة من الحشرات الالكترونية التي التهمت ما كان يسمى بالذباب الالكتروني وتجاوزت أداءه لتصبح “مبدعة” في إنتاج الخطاب الطائفي والتحريضي. خطاب التشفي والتغني. خطاب تشويه الآخر عن بعد، لمجرد اختلاف معالجة هذا الآخر لحدث وطني له وقع هائل وسيكون له، إن أهمل علاجه الجذري والمدروس، أن يؤسس لمجتمع حرب أهلية مستدامة. واستطاب بعض المقاتلين الافتراضيين، وهم الأكثر والأوسع انتشارًا، في تعنيف الطرف الآخر بالشتائم المسنودة فقهيًا، متهمين بالكفر أو بالخيانة كل من لم تسوّل له نفسه الأمارة بالحرية أن لا يخضع لمشيئتهم الدموية. ولو أتيح لهم لصاروا قاطعي أعناق لكل من اختلف عنهم في الرأي. ولقد خُيّل للبعض منهم أن نفي الوقائع والحقائق الموثّقة، يزيدهم قربًا من أصحاب القرار الجدد. فسياسة التمجّد المؤسس لها منذ القدم، والتي يحافظ العامة على تراثها بكل حرص وغيرة، تصبح هي النبراس في اتخاذ المواقف.  

بداية الحل الوطني، الذي لم ير النور بعد، هو أن نعترف جميعًا، نخبًا وعامة، حكامًا ومسؤولين، بأننا لا نعيش، ولم نكن أبداً نعيش في مجتمع متجانس متحاب ومنفتح على كل مكوناته، بالشكل الكاذب الذي حاولنا تصديقه طوال عقود. وهذا لا يعود لفترة الأسدين الماضيين الى مزابل التاريخ فحسب، بل يرجع الى أزمانٍ بعيدة لعبت عديد من العوامل الذاتية والموضوعية في تفاقمها. وعلى الرغم من الأدوار السلبية للغاية التي لعبها المستعمر والمستبد في ترسيخ هذه الانقسامات، إلا أننا جميعا لنا دورٌ مهم في تفاقمها وفي ترسيخها. وأهم أدواتنا في مفاقمتها وتعظيم أثرها، هو رفضنا الاعتراف بأننا بحاجة لحوار وطني حقيقي وشامل وموسّع على مختلف المستويات، يعتمد مبدأ الشجرة الباسقة وفروعها المنحنية أو الآيلة للسقوط من دون استثناء أحد، ومن دون اللعب على الكلمات، ومن دون تقبيل اللحى، ومن دون حرق المراحل. حوارٌ لأسابيع وأشهر، لا لساعات. حوار ينطلق من الخلية الصغرى في المجتمع المحلي الضيق، ليصل إلى مؤتمر وطني جامع. فهل من مستجيب؟

المدن

——————————

الرهان الغربي على الشرع لا يزال قائماً/ إياد الجعفري

الإثنين 2025/03/17

أخيراً، حُسم أمر مشاركة سوريا رسمياً، للمرة الأولى، في مؤتمر المانحين المعني بها. وتوجّه وزير الخارجية، أسعد الشيباني، إلى العاصمة البلجيكية، بروكسل، ليحصد شرعية دولية إضافية لنظام الحكم الجديد القائم في دمشق.

قبل ذلك بيوم فقط، كانت الشكوك قد بلغت أقصاها، حيال حصول تبدلٍ نوعي في العلاقة الحذرة، لكن الإيجابية، التي بدأت تتوطّد بين الإدارة الجديدة في دمشق، وبين دول أوروبية بارزة، في مقدمتها فرنسا وألمانيا. فبعد أن طُويت فرصة حضور الرئيس أحمد الشرع شخصياً لمؤتمر بروكسل، أوحت تصريحات نقلتها قناة “الجزيرة” عن مصادر بالخارجية السورية، بوجود انتكاسة خطرة في مسار التفاهمات الممكنة مع الأوروبيين.

لا نعرف طبيعة التسوية التي قادت الشيباني إلى بروكسل، بعد أن كانت وزارته قد أصدرت تصريحاتها النارية، التي حذّرت فيها من الاعتكاف عن حضور المؤتمر، إن كان “يروّج لأجندات خارجية تتعارض مع سيادة سوريا ومصالحها الوطنية”، أو إن كان “مسيّساً لخدمة روايات محددة”. ومن الصعب أن نعرف الآن، إن كانت القيادة في دمشق هي من تراجعت، أم أن مرونة أوروبية شجعت الدبلوماسية السورية على حسم أمرها بالمشاركة. أو إن كان طرف ثالث، إقليمي مثلاً، قد تدخّل لتقريب وجهات النظر. لكن ما يمكن الجزم به، أن هناك رغبة جادة من الطرفين المعنيين، في إنجاح الهدف من هذا المؤتمر، وهو مساعدة الدولة السورية اقتصادياً، كي تقف على قدميها. لأن البديل، لن يكون في صالح أحد.

ومن المعلوم، أن التوتر الذي طرأ على العلاقة بين دمشق والأوروبيين، جاء على خلفية أحداث الساحل الدامية. لكن اللافت، أن التصريحات عالية النبرة في إدانة هذه الأحداث، غربياً، لم تؤدِ إلى تغيّر نوعي في الموقف الفعلي من السلطة بدمشق. حتى أن المفاوضات مع “قسد” لم تتعكّر، وهي المفاوضات التي كانت تجري برعاية أميركية حثيثة. وتم توقيع الاتفاق بين الطرفين (قسد، والحكومة في دمشق)، بعد يومٍ فقط من توقف الانتهاكات والاشتباكات بالساحل.

وفيما تقول لنا المصادر، إن دول الاتحاد الأوروبي تريد اعتبار ما جرى في الساحل حادثاً معزولاً، تطالعنا صحيفة “واشنطن بوست” بدعوة للإدارة الأميركية، برفع العقوبات عن سوريا، مؤقتاً. لأن البديل سيكون تحوّلها إلى دولة فاشلة. قبل ذلك بأيام، أخبرتنا صحيفة “ميدل إيست آي”، أن واشنطن عملت على مدار أشهر لإقناع قوات سورية الديمقراطية “قسد”، بالبحث عن سبل للتعاون مع الحكومة السورية الجديدة. وبأن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مهتم بعقد صفقات تجارية مع الحكومة السورية، تشمل الوصول إلى الموارد النفطية بشمال شرقي سوريا. كما أنه مهتم بتطوير علاقات إيجابية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي بدوره، هاتفه الأحد، ليحثّه على رفع العقوبات عن سوريا، من أجل استعادة الاستقرار فيها. في هذه الأثناء، تشير وسائل إعلام ألمانية إلى وجود محادثات بين برلين ودمشق، بغية توفير ظروف ملائمة لإعادة لاجئين سوريين من ألمانيا إلى وطنهم الأم. توفير هكذا ظروف يعني انخراط ألمانيا في دعم مشاريع التعافي المبكّر وإعادة الإعمار بسوريا. إذ لا سبيل لعودة مئات آلاف اللاجئين، إلا بهذه الطريقة.

هكذا تبدو أحداث الساحل، سحابة صيف عبرت سريعاً أجواء الترحيب الإقليمي والدولي بالسلطة الجديدة في دمشق. ورغم الحذر الأوروبي، والغموض الذي يكتنف الموقف النهائي لإدارة ترامب، فإن المؤشرات ترجّح أن معظم الفاعلين يريدون لسوريا الاستقرار. وحجر الأساس لذلك، هو رفع العقوبات، وبدء عملية إعادة الإعمار، بأسرع وقت ممكن. وإلا، فإن “برميل بارود” سينفجر في سوريا، وسيتناثر شتاته على مختلف دول الإقليم، وسيطال القارة الأوروبية بأثره الكارثي.

ورغم مساعي إدارة الرئيس أحمد الشرع، الجليّة، للاستئثار بالسلطة، إلا أنها تتفاعل بمرونة وإيجابية مع مختلف الأطراف الخارجية ذات المصلحة في سوريا. وتتحمّل مسؤولياتها بصورة مقبولة، حيال السلم الأهلي والتفاعل مع اللاعبين المحليين، هذا إن استثنينا “كبوة” الساحل الأخيرة، والتي عملت السلطة على تداركها سريعاً. ومع غياب بديل قادر على لمّ شتات هذا الكيان السوري، ولجم انفلاته بدفعات جديدة ضخمة من اللاجئين، لا يزال الرهان الغربي على إدارة الشرع قائماً. وهو ما يشي بانفراجات نوعية مرتقبة على صعيد التمويل الدولي للتعافي الاقتصادي في سوريا. وقد نراهن قريباً على تعليق للعقوبات الأميركية. وحتى مع المشاغبات الإسرائيلية التي تحاول التشويش على الحوار بين اللاعبين المحليين في سوريا، يصعب استيعاب مصلحة تل أبيب في انفلات أمني واسع النطاق في سوريا، تكون إيران الرابح الرئيس منه. مما يجعل تحرشاتها الراهنة بالدولة السورية الوليدة، أشبه بابتزاز تفاوضي.

ذهاب المقدمات آنفة التفصيل، إلى خواتيمها المأمولة يبقى مرهوناً بنجاح السلطة في دمشق بالحفاظ على السلم الأهلي، وعدم تكرر أحداث الساحل. في الوقت نفسه، فإن نجاح السلطة في تحقيق ذلك، على مدى زمني أبعد، مرهونٌ بتحسّن فرص العيش والعمل لعموم السوريين. وهو ما سيؤدي إلى إخماد نيران التشنج بين أطيافهم، لتتوجه طاقاتهم نحو الارتقاء بظروف حياتهم. لأن انعدام فرص العيش، سيبقى وقوداً للتوتر، وبالتالي، عدم الاستقرار. وهي التوليفة التي يخشى الغرب ومعظم الإقليم، انفجارها. لذا لا بديل عن إنعاش سوريا، اقتصادياً.

المدن

—————————————-

مجزرة الساحل والنقاش “الثأري” السوري/ مناهل السهوي

17.03.2025

الثأر، وعمليات الانتقام واسعة النطاق التي لا تميز بين طفل، أو مدني، أو عسكري، لا تؤدّي إلى إعادة بناء البلاد، بل على العكس، تعزز الشروخ في المجتمع وتُفاقم الانقسامات، ولا توفّر أي نوع من الطمأنينة، بل تغذّي فقط فكرة الثأر الذي لا ينتهي.

يبدو الشرخ النفسي والسياسي والأخلاقي بين السوريين اليوم أعمق من أي وقت مضى، ليس فقط بسبب اختلاف موازين القوى العسكرية، أو لأن بعض ضحايا الأمس أصبحوا شامتي اليوم، بل لأن الثورة ضد حكم الاستبداد، في جوهرها، كان يُفترض أن تمثّل انتصاراً للعدالة، لا مجرد تبادل للأدوار. كان الأمل أن يكون سقوط النظام انتصاراً لجميع الضحايا، بغض النظر عن هويّتهم، لا أن يتحوّل إلى لحظة انتقام تُعيد إنتاج الظلم بشكل جديد.

ما زالت الفيديوهات المسرّبة عن مجازر الساحل تتوالى واحداً تلو الآخر، لتكشف عن فظائع ارتُكبت على مدار الأيام الماضية. مع كل قصة وفيديو يُكشف عنهما، يزداد النقاش الثأري بين شرائح واسعة من السوريين حدّة. لم يعد خافياً الحقد الذي نما على مدار خمسين عاماً بين الطائفتين السنية والعلوية بشكل أساسي، والاعتراف بهذا الواقع هو الخطوة الأولى نحو تفكيك أزمة قد تُفضي إلى حرب أهلية في البلاد.

ومع كل فيديو ومجزرة جديدة يتداخل الألم الشخصي والجمعي، والعدالة المفقودة، والرغبة في الانتقام، والتشوهات العاطفية التي راكمها العنف والاضطهاد، ويصبح التعاطف ونبذ العنف رفاهية غير متاحة.

ربما، يمكن تفهُّم غضب العامة، بخاصة السوريين في المخيمات، ومن فقدوا عائلاتهم، لكن ما يُثير الصدمة هو تهليل النُخب والمثقفين. ما يحدث اليوم يتطلّب توازناً إنسانياً وأخلاقياً وفكرياً عميقاً، وهو أمر قد يكون صعباً على من عانوا ويلات النظام، إذ يحتاجون إلى مسار عدالة طويل لإنصافهم. لكن ماذا عن المثقفين؟ أولئك الذين يمتلكون المساحة والقدرة على التفكير بعيداً عن الغضب الفوري، مستفيدين من التجارب السياسية والإنسانية القاسية التي مرّت بها البلاد. ألم يكن الأجدر بهم أن يقودوا نقاشاً أكثر وعياً حول العدالة، بدلاً من الانجراف مع موجات التشفّي أو اتّخاذ الصمت إجابةً؟

لقد أصبحت الطائفة العلوية في نظر البعض مجرد امتداد للنظام، امتداد لسنوات من الموت، حيث يُعتقد أن العدالة لا تتحقق إلا بقتل أبنائها، بدءاً من أكبر عجوز وحتى أصغر رضيع. العدالة التي طالما انتظرها السوريون، والتي لم تتحقق، حوّلت بعضهم إلى نسخة من أتباع الأسد، لكن بوجه جديد يتلاءم مع المرحلة. في مشهد مروّع حيث تُمحى الحدود بين الضحايا والجلادين، ويغيب أي شعور بالعدالة أو الرحمة.

انتظر السوريون العدالة طويلاً، آباء وأمهات وأبناء شهدوا مقتل عائلاتهم على يد عناصر نظام الأسد بلا رحمة، شاهدوا البراميل تُرمى عليهم من السماء، ومدافع النظام تُلاحقهم إلى المخيمات. طال انتظارهم لدى الضباط للحصول على أخبار عن المخفيّين قسرياً، وكانت هذه الذكريات محفورة في وجدان ملايين السوريين. وفي غياب العدالة، يصبح أي شكل من أشكال الانتقام بمثابة عدالة، ولكن هذا غير صحيح.

غالباً المجتمعات التي تعرضت لقمع وحشي أو إبادة أو أشكال أخرى من اللانسانية ينظر أفرادها  إلى معاناتهم على أنها فريدة ولا يمكن أن تحصل مرتين، وفي الحالة السورية عندما يرى الضحايا القدماء مجموعة (ترتبط مناطقياً وطائفياً) بالجلاد قد يشعرون ببعض الراحة.

لذا من المهم فهم صراع الضحية والجلاد في سوريا لأنه قد يساعد بشكل أساسي على فهم أولوية العدالة الانتقالية كيلا ننتقل إلى صراع طائفي.

بسبب الظلم الشديد الذي مارسه الأسد على السوريين، يجد الضحايا أنفسهم يتساءلون عن دوافع الجلاد وراء ارتكاب كل هذه الانتهاكات. يحتاج المظلومون إلى تفسير يبرر لهم حجم هذا الظلم، ليتمكنوا من استيعابه والتعامل معه. وفي الحالة السورية، يلجأ بعض الضحايا إلى تفسير قائم على الانتماء الطائفي، معتبرين أنه السبب وراء ما فعله النظام بهم. غير أن جوهر ما حدث يرتبط بعائلة الأسد وسعيها إلى السلطة والمال والقوة، فلو كان الأمر طائفياً بحتاً، لما تُرك معظم العلويين في فقر مدقع، ولما زُجَّ بهم في حروب أدت إلى هلاكهم.

فرغم أن الصراع في سوريا ليس طائفياً في جوهره، لكن الأسد نفسه أسّس لعقود نظاماً يحكم عبر تقسيم الناس طائفياً، مما جعل البعض يربط بين جرائم النظام والطائفة العلوية ككل، رغم أن هناك علويين معارضين وقام النظام بقمعهم أيضاً.

الثأر، وعمليات الانتقام واسعة النطاق التي لا تميز بين طفل، أو مدني، أو عسكري، لا تؤدّي إلى إعادة بناء البلاد، بل على العكس، تعزز الشروخ في المجتمع وتُفاقم الانقسامات، ولا توفّر أي نوع من الطمأنينة، بل تغذّي فقط فكرة الثأر الذي لا ينتهي.

وبدلاً من أن يحتاج السوريون إلى تضميد جرح نظام الأسد، نجد أنفسنا أمام جرح جديد ومجزرة جديدة، يظن ضحايا الأسد أن معاناتهم هي الأشد في سوريا، لكن الحقيقة أن الجرح واحدٌ، ويبدو أنه يكبُر ليبتلع الجميع، وأن الانتقام ليس حلاً للماضي، بل هو ترسيخ لأحقاد المستقبل وزيادة في الخوف من الآخر.

قد تبدو فكرة السلم الأهلي اليوم بعيدة، لكن لنأخذ على سبيل المثال النزاع في رواندا والذي هو صراع دموي بين أكثرية وأقلية. لتجنب حرب أهلية جديدة، أعادت السلطات هيكلة الجيش على أساس الولاء للدولة بدل العرق، وأطلقت محاكم محلية (جاكاكا) لمعالجة جرائم الإبادة. كما عززت المبادرات المجتمعية الوحدة الوطنية، وكان تمكين المرأة جزءاً أساسياً من استقرار رواندا اليوم.

بعد 25 سنة من الإبادة الجماعية في رواندا، ازدهر الاقتصاد، كما تراجعت الانقسامات العرقية، وحضرت مكانها الهويّة الوطنية للبلاد.

لا شك في أن سوريا ما زالت في بداية طريق التعافي، لكن دور الدولة اليوم يصبح محورياً وأساسياً، بل قد يكون الوحيد، في تعزيز السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي. هذا يتطلب تبنّي سياسات العدالة الانتقالية، التي تضمن الحقوق وتعمل على معالجة موروثات الحرب. من الضروري أيضاً أن يبدأ بناء هويّة وطنية جديدة لسوريا، هويّة تشمل مكوناتها الاجتماعية والطائفية كافة، بعيداً عن هيمنة الدين السياسي على الهويّة الوطنية. فقد كانت سوريا في الماضي تُعرف بهويّة علوية بفضل حكم النظام، واليوم نجدها تُجدد محاولات لتأسيس هويّة سنية، وهو ما يعكس التحدّيات الكبيرة التي تواجهها البلاد في رحلتها نحو الاستقرار الشامل والمصالحة الوطنية.

– كاتبة وصحفية سورية

درج

————————–

المشرق: تجاهل السياسة ونشوة الاستقواء/ سام منسى

تحديث 17 أذار 2025

يبدو أن النزاعات في المشرق لم تقترب من نهايتها كما خُيل للكثيرين بعد حربي غزة ولبنان، وأطاحت آثارهما بحكم آل الأسد بسوريا بلمحة بصر بعد 54 عاماً من الاستبداد.

الأحداث في سوريا، من التمرد العسكري لفلول النظام، مروراً بزرع بذور الفتنة بين دروز سوريا والنظام الجديد إلى مسألة الأكراد، تبقى الأشد خطورة، لا سيما أنها واقعة تحت سطوة لاعبين كثر أبرزهم الإيراني والتركي والإسرائيلي ولو بنسب متفاوتة؛ ما يتيح لهؤلاء لعب أدوار تصب في مصالحهم.

إسرائيل موجودة في المشهد السوري منذ الساعات الأولى لسقوط بشار الأسد بمواقف وممارسات ملتبسة وخبيثة. وبعد تراجعها عن التمسك بالنظام البائد وسيده إثر السطوة الإيرانية عليه، عاد حنينها إليه بعد سقوطه، وتمادت في دورها المزعزع بقصف منشآت الجيش السوري وبناه التحتية وأسلحته، والتوغل في الأراضي السورية، وتحريض الطائفة الدرزية في الجنوب على السلطة الجديدة بحجة حمايتها وبقية الأقليات، في تكرار لسلوك كثيراً ما لجأت إليه بهدف تخريب الاستقرار وتفكيك الدول من حولها إلى كيانات طائفية.

أما طهران، فتحاول استعادة ما أمكن من نفوذها بسوريا ولو على حساب وحدتها، وقد تسعى لعودة الأسد إلى الساحل إذا نجح التمرد لتعود طريقها إلى لبنان سالكة لتزويد «حزب الله» بالمال والسلاح.

إن أهداف إسرائيل تتقاطع مع إيران في سوريا في محاولتهما تقطيع أوصالها والتخريب على السلطة الجديدة، فيما تحاربها في لبنان، وقد يؤدي هذا التخبط لاحقاً إلى عكس ما سعت وتسعى إليه من تقويض للوجود الإيراني على حدودها.

بدوره، يشهد لبنان خفوتاً لنشوة انتخاب رئيس الجمهورية جوزيف عون وتشكيل حكومة نواف سلام، بوصفهما سيفتحان صفحة جديدة تبدأ باستعادة الدولة من الدويلة، ومباشرة الإصلاح والنهوض. صحوة «حزب الله» بعد صدمة الهزيمة العسكرية في الحرب الأخيرة بددت هذه الصورة، بسبب تأكيده المتكرر على النصر واستمرار المقاومة المسلحة والاحتفاظ بالسلاح، متنصلاً من مضمون اتفاق وقف النار الأخير بشأن السلاح شمال الليطاني، ومتذرعاً بتفسير متقدم لما ورد باتفاق الطائف بشأن حل الميليشيات بأنه لا يشمله بوصفه مقاومة وليس ميليشيا. وجاءت حبة الكرز فيما أعلنه أمين عام الحزب نعيم قاسم أن «لا إنقاذ وإصلاح قبل إعادة الإعمار… وأن المقاومة مستمرة في الميدان»، وكلام لرئيس مجلس النواب نبيه بري حول استمرار المقاومة، والاتفاق لا يشمل السلاح شمال الليطاني في ملاقاة لكلام رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني بأن «المقاومة باقية لأن غالبية الشعب اللبناني تؤيدها». يضاف إلى ذلك ما يتردد عن عودة «حزب الله» للتدخل في سوريا بإرسال مقاتلين لدعم التمرد، وعودة احتلال إسرائيل لنقاط عدة في الجنوب، ومواصلة عملياتها العسكرية في لبنان على أنواعها مقدمة نفحة أكسجين للحزب.

لا يحتمل لبنان مثل هذه الصحوة؛ لأنها تعيده للمربع الأول، وتقطع طريق عودته للعرب، وعودتهم إليه بناسهم ومساعداتهم واستثماراتهم، وتؤدي لاستمرار التخبط للخروج من حالة الإحباط المزمنة جراء الأزمات المالية والاقتصادية والأمنية.

أما غزة فلا تزال ملعباً لمناورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السياسية الداخلية والخارجية، فاتحاً مصيرها على احتمالات عدة، أحلاهم مُر: من نجاح مشروع التهجير، إلى إمكانية تجدد الحرب دون أفق سياسي باستثناء دفع السكان للمغادرة أو البقاء تحت شبح المجاعة وويلات تجدُّد القتال. كل ذلك في ظل محادثات أميركية مباشرة مع «حماس» تبعث الريبة، لا بل الغضب عند نتنياهو وزمرته المتشددة.

عرقلة الحلول في سوريا ولبنان وغزة هي نتيجة انعدام السياسة بحكمتها وعقلانيتها وغلبة العسكرة بجموحها وجنونها، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع. أكبر دليل على ذلك هو أن الجبروت العسكري الإسرائيلي لم يؤتِ ثماره: ما زالت النار في غزة تحت الرماد، «حزب الله» في لبنان يعلن النصر واستمرار المقاومة والتمسك بما بقي من سلاحه وبدوره في الحياة السياسية اللبنانية وقدراته على التعطيل، عمى إسرائيل قد يعيد إيران إلى سوريا بعد استماتتها لإخراجها منها. المحصلة، أن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا من دون رؤية سياسية لم ولن يؤدي إلا لاستيلاد حروب جديدة.

علة العلل هي انعدام السياسة وخواؤها في أميركا نفسها التي تسمح لنتنياهو بالاستيلاء على كل فلسطين بالقوة، تحت غطاء تهجير إنمائي سياحي، وتغازل فلاديمير بوتين وتسامحه على ضم القرم وأجزاء من أوكرانيا، وتتبنى سرديته للحرب، كيف لا وهي نفسها حامية العالم الحر والديمقراطية والقيم تريد السطو على غرينلاند، وضم كندا، والسيطرة على بنما، وتعاقب المحكمة الجنائية الدولية، وتناصب العداء لحلفائها الأوروبيين التقليديين. مواقف تقدم رخصاً مجانية للعدوان والاستبداد، وتصمت مجدداً على ممارسات أنظمة على غرار نظام الأسد الذي سحق الأغلبية والأقلية في بلاده وجوارها لأكثر من 50 سنة.

الشرق الأوسط؟

——————————

 سوريا والرؤية الثالثة/ مأمون فندي

تحديث 17 أذار 2025

تتقاسم سوريا الجديدة، الآن، رؤيتان خارجيتان؛ الأولى رؤية تركية تسعى إلى سوريا موحدة ومتماسكة كدولة جارة (مع بعض التحفظات)، والثانية رؤية إسرائيلية تريد سوريا مجزَّأة طائفياً، وربما مناطقياً، فهل هناك إمكانية لظهور رؤية ثالثة؛ إما وطنية سورية خالصة، أو عربية، أو خليط من رؤية عربية ومحلية سورية؟

أيُّ نظام جديد بعد ثورة أو بعد انهيار نظام، مهما كان تماسك المجتمع، يمر بمرحلة انتقالية بين نظامين. ويحدد مدى نجاح أو فشل هذه المرحلة أمران: سرعة التحول، وحجم أو عدد من ينخرطون فيه. فإلى أي رؤية يقترب مصير التحول السوري، اليوم؟ هل نحو الرؤية الإسرائيلية التي تسعى إلى سوريا مجزَّأة في حالة تناحر طائفي، كما كان لبنان في السبعينات وحتى نهاية الحرب الأهلية، أم نحو الرؤية التركية التي تسعى إلى نظام مركزي قوي لدولة متماسكة؟

قد يكون من التبسيط تحديد رؤية كل من تركيا وإسرائيل لسوريا بهذا الوضوح، بين رؤية التجزئة ورؤية التماسك، دون الالتفات إلى المساحة الرمادية بينهما. والمثال الأوضح على ذلك هو قضية المقاتلين الأجانب ضمن قوات النظام السوري الجديد، وكذلك مكافحة الإرهاب.

المقاتلون الأجانب بالنسبة للأتراك هم جماعات الأكراد المرتبطين بحزب العمال الكردستاني، الذين تَعدُّهم أنقرة إرهابيين. أما بالنسبة لإسرائيل، فالمتطرفون هم المتحالفون مع النظام الجديد، والذين جاؤوا مع الرئيس أحمد الشرع من إدلب إلى دمشق. وهنا تكمن المنطقة الرمادية التي تتعامل معها تركيا وإسرائيل بطرق مختلفة.

تركيا باركت اتفاق قوات سوريا الديمقراطية «قسد» مع حكومة الشرع؛ بهدف دمج هذه القوات داخل المؤسسة الدفاعية السورية، والهدف من ذلك فصلها عن حزب العمال الكردستاني، وكذلك منح الحكومة الجديدة السيطرة على حقول النفط الواقعة في مناطق نفوذ «قسد»، والتي كانت تحت الحماية الأميركية. بالطبع، في هذا التبسيط لم نتطرق بعدُ للأدوار الأخرى التي تلعبها أميركا وروسيا وإيران، وقد تعمدت ذلك نظراً لانشغال هذه القوى بقضايا تراها أهم من استقرار سوريا حالياً.

أما إسرائيل فهي تسعى إلى إضعاف النظام الجديد، الذي تَعدُّه متطرفاً، وربما في حالة كمون إلى أن يتمكن ثم يواجه إسرائيل لاحقاً، ليس عبر مواجهة جيوش نظامية، بل بنموذج استنزاف شبيه بـ«حزب الله» في لبنان. ولهذا، تحاول إسرائيل منع النظام الجديد من امتلاك أدوات القوة، عبر ضرب مقدَّرات الجيش السوري القديم، وتدمير بنيته التحتية العسكرية، مما يستلزم عشرات السنين لإعادة بنائها، وبذلك تكسب إسرائيل وقتاً إضافياً لترويض النظام الجديد.

إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى التواصل مع الطوائف المختلفة، وأبرزها الدروز في السويداء، حيث كان مشهد العشرات من شيوخهم الكبار لافتاً في زيارتهم للجولان، الأسبوع الماضي، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي التي أكد فيها التزام إسرائيل بحماية دروز سوريا. فإذا التزمت إسرائيل بطائفة، فلمن تلجأ الطوائف الأخرى للحماية؟

السؤال الأكبر: أيُّ الرؤيتين سترسم ملامح النظام السوري الجديد؟ هل هي الرؤية التركية أم الرؤية الإسرائيلية؟ التجزئة والتناحر الطائفي، أم الاستقرار؟ وإلى أي رؤية يجب أن تنحاز الدول العربية، خصوصاً دول الجوار، فيما يخص مستقبل سوريا؟ أو بصيغة أخرى، أيُّ الرؤيتين يمكن أن تنتصر في المستقبل القريب؟

الموقف من أحداث الساحل السوري، والاتهامات المتبادلة بين مطاردة فلول نظام الأسد المتمردة على النظام الجديد من وجهة نظر النظام وأتباعه، أو الشروع في القتل على الهوية للعلويين حسب رؤية أصوات من الطائفة العلوية، كلها تصب في سيناريو التمزق المجتمعي، وتجعل سوريا مسرحاً لعدم استقرار قد يستمر لعشر سنوات مقبلة على أقل تقدير.

الرؤية التركية، رغم بعض التحفظات، قد تؤدي إلى حالة من الاستقرار في سوريا، وربما تنتج نظاماً شبيهاً بتركيا، كدولة جارة فاعلة، بالطريقة نفسها التي أنتجت بها إيران النظام الجديد في العراق بعد حرب 2003.

ومن هنا، قد تخرج الرؤية الثالثة من خلال حوار عربي-تركي يدفع نحو إنتاج نظام شبه ديمقراطي، كما هي الحال في تركيا. وهذا يتطلب إحياء الجهود السابقة من محادثات جنيف وآستانة بين نظام الأسد والمعارضة. يمكن أن تكون هذه الأوراق نقطة انطلاق جيدة لحوار جاد حول بناء سوريا الجديدة، إذا أضيفت إليها جهود حوار وطني داخلي.

إذا لم يستطع العرب التنسيق مع الأتراك بشكل عاجل وجاد، فسينسق غيرهم، وسيكون ذلك على حساب وحدة الأراضي السورية وسلامتها. دون عمل عربي-تركي مشترك وعاجل، قد تنتصر الرؤية الإسرائيلية، على الأقل خلال السنوات المقبلة، وسنشهد سوريا كما شهدنا لبنان من بداية الحرب الأهلية حتى اتفاق الطائف.

وبين هذه التطورات، قد تظهر جماعات مختلفة في سوريا، يكون نموذجها الأمثل شيئاً شبيهاً بظهور «حزب الله» في لبنان وتطوره إلى القوة الأولى في الدولة، أو ظهور «الحشد الشعبي» وعشرات الجماعات المتطرفة في العراق.

في سوريا، الرؤية الثالثة هي الحل.

الشرق الأوسط

———————————

الأحداث الدامية في الساحل/ لمى قنوت

تحديث 17 أذار 2025

على وقع جرائم القتل الطائفية الجماعية وهدر الكرامة الإنسانية وحرق الأرزاق في الساحل السوري، بعد كمائن واستهدافات غادرة شنتها مجموعات من “فلول” النظام البائد على قوى الأمن الداخلي أودت بحياة الكثير منهم، وهجمات على البنية التحتية المدنية كالمستشفيات في 6 من آذار الحالي، فقد فشلت الإدارة الانتقالية في حماية المدنيين ومنع إذلالهم، نساء ورجالًا، وهدمت جهودها الدبلوماسية أمام “المجتمع الدولي” حول قدرتها على إدارة بلد متنوع، بعد أن حاولت تصدير قدرتها “البراغماتية” على تغيير صورتها الأيديولوجية وماضي انتهاكاتها، ولا شك أن نهجها العسكري في الساحل الذي أفلت سعارًا طائفيًا من قبل فصائل محسوبة عليها، سيزيد من تفكك البلاد ويقوض السلم الأهلي وسيزيد من التدخل الخارجي، وسيبقي سيف العقوبات الاقتصادية مسلطًا على العنق السوري.

لقد كان إعلان النفير العام من منابر الجوامع وعبر قنوات “تلجرام”، وطلب المؤازرة من فصائل تضم جهاديين أجانب وفصائل ذات تاريخ معروف بالجرائم والانتهاكات ودخولهم إلى مدن الساحل خطأ جسيمًا أدى إلى قتل عائلات بأكملها، واقتحام المنازل بطريقة مرعبة مصحوبة بخطابات وممارسات طائفية شنيعة، أشاعت الذعر بين المدنيين وأطفالهم، وأبقت جثثًا لأيام على الطرقات، ودفعت الأهالي للهروب إلى الجبال والأحراش أو اللجوء إلى مطار “حميميم” أو الأراضي اللبنانية، وقطعت عدة مناطق من المواد الأولية، وهي ممارسات لم تُمحَ من ذاكرتنا أيام جرائم النظام البائد، وكان يفترض بالإدارة أن تتصرف بحكمة وضبط للنفس، وتخطط لتأمين ممرات آمنة لخروج المدنيين قبل أن تُدخل عناصر منضبطين مدربين كالذين شهدناهم في محافظة حلب مثلًا، خلال عملية “ردع العدوان”.

كما كان يفترض بالرئيس الشرع ألا يعترف بحصول “تجاوزات” فقط خلال كلمته التي ألقاها في 7 من آذار، بل إن المعالجات العادلة تبدأ بتسمية الأمور بمسمياتها والاعتراف بها كجرائم وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهو مطالب باعتذار علني من جميع الضحايا وأسرهم، بوصفه رئيسًا انتقاليًا للبلاد ومسؤولًا عن حماية الشعب، كل الشعب، وبوصف بعض مرتكبي الجرائم صوروا وبثوا فيديوهات جرائمهم عبر الإنترنت، ووثقتها منظمات سورية، فالاعتذار العلني هو شكل من أشكال جبر الضرر الرمزي، وقد فعلها رؤساء سابقون مثل رئيس سيراليون، حين قدّم في عام 2010 اعتذارًا رسميًا للنساء ضحايا النزاع المسلح، وطلب منهن الصفح باسم القوات المسلحة وتعهّد بحماية حقوقهن.

أما عن تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي في 10 من آذار، ضمت كلًا من حسن صوفان وأنس عيروط وخالد الأحمد، فالأحمد كان مستشارًا لبشار الأسد من عام 2012 إلى 2018 في ملفات سياسية ودبلوماسية وأمنية، ومن الخطأ أن يحظى بعضوية لجنة مكلفة بالتواصل مع الأهالي في الساحل السوري وتقديم الدعم بما يضمن حماية أمنهم واستقرارهم، وتعزيز الوحدة الوطنية، وهي مهام تحتاج إلى شخصيات محترمة ذات تاريخ نزيه، وكان مفترضًا أن تضم اللجنة أعضاء وعضوات من أسر الضحايا، وكان ضروريًا أيضًا أن يكون نصف أعضاء اللجنة من النساء، لقدرتهن على التواصل والاستماع إلى ناجيات ضمن مساحات مغلقة.

لقد أظهر هجوم “الفلول” على قوى الأمن العام فشلًا استخباراتيًا لدى الإدارة الانتقالية، حاولت ترميمه عبر تشكيل مجلس أمن قومي في 12 من آذار، ضم أربعة أعضاء يشغلون مناصب عليا في الإدارة الانتقالية، هم وزير الخارجية والدفاع والداخلية، بالإضافة إلى مدير الاستخبارات العامة، وكالعادة، فقد تم اختيارهم من الدائرة الضيقة لأحمد الشرع، أما المقاعد الثلاثة المتبقية فاثنان منها لاستشاريين يعينان وفقًا للكفاءة والخبرة، وهو عدد غير كافٍ للأفراد المتفرغين للعمل في المجلس قياسًا بالتحديات الأمنية، والمقعد السابع لتقني متخصص ذي صلة بمحضر الجلسة.

إن نهج العفو العشوائي غير الشفاف الذي انتهجته الإدارة الانتقالية في التعاطي مع مجرمي الحرب أو المشتبه بهم بعيدًا عن التحقيقات وإجراءات العدالة الانتقالية كان نهجًا خاطئًا، لأنه عزز غضب ناجين وناجيات من جرائم النظام البائد في وقت لا توجد فيه تحضيرات حقيقية وشفافة لمسار عدالة انتقالية تحولية شامل.

بيّنت سلوكيات الفصائل التي دخلت إلى الساحل عدم انضباطها وسوء خطابها التحريضي والطائفي وعدم أهليتها لدخول الجيش من جهة، وبيّنت عدم قدرة الشرع على ضبطها أو محدودية قدرته في أحسن الأحوال من جهة أخرى. أما بالنسبة للجهاديين الأجانب فقد كان خطأ إدخالهم إلى منطقة متنوعة مثل الساحل السوري لا يدركون الحساسيات الموجودة فيها، ويجب إخراجهم من الساحل وكافة المناطق الحساسة أولًا ومن سوريا ثانيًا، بعد محاسبة المتورطين منهم في جرائم القتل، بدل ضمهم للجيش.

وقد كان واضحًا أيضًا أن الفصائل لم يتم حلها ودمجها بشكل حقيقي، كما تحدث الشرع في “مؤتمر النصر”، وأن تحديات بناء جيش وطني حيادي، ضمن النهج الإقصائي للإدارة الانتقالية وعدم الاستفادة من خبرات الضباط المنشقين من الجيش، أو ممن لم يعلن انشقاقه وسُرّح قبل 2011 ولم يتورط في الدم السوري، لن يفضي إلى توطيد حكم الفرد والسيطرة على القطاع الأمني، بل سيؤدي إلى تفكك سوريا عبر بوابة تجدد النزاع واقتتال الفصائل.

عنب بلدي

————————–

لمَ كل هذا الاستقطاب في الشارع السوري؟/ أحمد عسيلي

تحديث 17 أذار 2025

تابع السوريون جميعًا، بقلق وخوف، أحداث الأسبوع الماضي، خاصة ما جرى في الساحل، وجع الوطن وأكثر نقاطه ضعفًا منذ لحظة هروب بشار، وأصعب اختبار للنظام الحالي في قدرته على حل الأزمات الداخلية.

فما الموقف الشخصي؟ وكيف تقرأ هذه الأحداث؟ هل ما حدث يتحمل أسبابه ونتائجه النظام بشكل كامل، وما طبيعة هذه المسؤولية؟ تقصير أم مشاركة بالجريمة؟ وما سبب الجرائم التي ارتكبتها بعض قوى الأمن ضد العلويين؟ هل هي نتيجة البلبلة والهرج الذي حصل بين يومي 6 و10 من آذار؟ هل هي نتيجة مشاعر الظلم التي يكبتها هؤلاء الناس منذ مجازر البيضا والحولة والكيماوي؟ أم ناتجة عن العقلية الإجرامية لدى الجهاديين التي تود قتل وإذلال الأقليات؟ أم هي مزيج من هذين العاملين وربما عوامل أخرى؟

من البداية أخبركم أنني لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، فليس لدينا جواب صحيح علميًا هنا، لكني سأتناول الموضوع من زاوية مختلفة، وأطرح سؤالًا آخر: فمهما كان الجواب، حسب تصور كل شخص للموضوع، ما نسبة الاعتماد على الوقائع في هذا الجواب وما نسبة العاطفة؟ وهل اتخذ هذا الموقف بناء على تحليل سليم للحقائق؟ دعونا نبدأ رحلتنا للإجابة عن هذا السؤال:

منذ سنوات عديدة، انشغل علماء النفس بآلية التفكير في أوقات الأزمات، وكأطباء نتعامل بشكل يومي مع حالات الإنسان في تلك المواقف، راكمنا خبرة متعددة في رد فعل الإنسان، وطريقه تفكيره وتصرفه في لحظات الشدة، فإعلان التشخيص الطبي مثلًا في السرطان أو بعض الأمراض المتقدمة الأخرى، ستقابل بداية بالرفض، بل والاحتجاج على الطبيب، وأحيانًا التشكيك بمهاراته وقدراته العلمية، هذا يتعلق بكل الحقائق التي يصعب على الدماغ معالجتها، لدرجة الوصول لمرحلة الاضطراب النفسي أو العقلي أحيانًا، أتذكر هنا حالة مريضة حُولت إلى عيادتي، نتيجة رفضها الدائم أن ابنها المحكوم بعملية اعتداء مجرم، كانت تصر على أن هناك مؤامرة من الدولة الفرنسية تجاه ولدها، وقد أصيبت بحالة اكتئاب شديد يكاد يقترب من الاكتئاب الذهاني، لأنها متمسكة بموقفها أن ابنها مظلوم، رغم أن جريمة ابنها قد التقطت بعدة كاميرات وبناء عليه اعترف أمام القاضي وبحضور الأم، رغم ذلك بقيت رافضة وشككت بكل تلك الإجراءات، ربما كانت ستتقبل تلك الحقائق وبشكل سهل جدًا لو كانت لشاب آخر غير ابنها (وهذا ما فعلته أنا كطبيب)، لكن تفكيرها وعاطفتها كأم يرفضان كل هذا، فالأمر صعب جدًا، هل تتخيلون كم الجهد العقلي والنفسي كي يستوعب عقل الأم أن ابنها مجرم!

هذه الصعوبة في تقبل بعض الحقائق، لا تتعلق بالأفراد المقربين فقط، بل وبالسياسيين أيضًا، فمن أشهر تجارب علم النفس، التي دُعمت بالحقائق العلمية، تجربة أجريت عام 2004 في أمريكا، أعطيت فيها تصريحات متناقضة عن عمد لمؤيدي بعض السياسيين، وطلب من هؤلاء المؤيدين إبداء رأيهم بتلك التصريحات، فقال معظم المشاركين إنه لا تناقض فيها وحاولوا إعطاء تفسيرات منطقية لكل ذلك. نعلم منذ سنوات عديدة أن هذا الأسلوب في التفكير أمر مكرر، وهو ما أطلق عليه في علم النفس بالتنافر المعرفي، لكن الجديد في تلك التجربة أنها أجريت على أشخاص في أثناء تصوير الدماغ بالرنين المغناطيسي، فلوحظ نشاط كبير لمناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة في أثناء تبرير التناقضات تلك، وهي مناطق لم تكن بتلك المستوى من النشاط في أثناء الكلام عن تصريحات لسياسيين لا يؤيدهم هؤلاء الأشخاص. إذًا أصبحنا نعرف وبالدليل العلمي المجرد أن للعاطفة دورًا كبيرًا في تفسير كل الأحداث السياسية، بما فيها المتناقضة.

فما موقفك من الهجري؟ الشرع؟ الطائفة الدرزية أو العلوية أو السنية؟

موقفك لا يتعلق بالانتماء فقط، فيمكن أن ترى بعض الأشخاص الذين يحملون مشاعر سلبية تجاه السنة مثلًا، حتى من أبناء الطائفة (دواعش، كلهم إرهابيون) ومن يحمل تلك المشاعر تجاه جميع العلويين (شبيحة، قتلة)، لكن بشكل عام معظم الأشخاص يفضلون الانغلاق على مجتمعاتهم في فترة الأزمات، فالخائف يأخذ الوضعية الجنينية كي يشعر بالأمان، فرحم الأم هو المكان المثالي للضعيف، هذا الرحم سيتحول إلى المجتمع بصيغته الأولى (طائفة، عشيرة، عائلة).

من يعتقد أن القيادة الحالية هم مجموعة إرهابيين، لن يقبل حتى بتحميلهم المسؤولية القانونية والأخلاقية كدولة، بل سيعتبرهم سبب كل مصائب البلد، ومن يحمل تصورًا إيجابيًا عنهم، سيتفاوت موقفه بين التحميل المباشر إلى التبرير المباشر، لكنه بالتأكيد لن يعتبرهم مشاركين بما حصل.

آلية اتخاذ الموقف هنا ستعتمد على الوقائع بنسبة ما تختلف من شخص لآخر، لكن الحقيقة ستشكل دومًا جزءًا من الموقف، ولن نجد أبدًا موقفًا ناتجًا عن الوقائع فقط، فمن يعتقد أن العلويين مسؤولون مباشرة وجميعًا عن جرائم الأسد، دماغه لن يعالج المعلومات التي تصله كمن يعتقد أن السنة كلهم “دواعش”، لن يكون الكردي (أو غير الكردي) الذي ينتظر إضعاف هذه القيادة كي تحتفظ “روجافا” بنوع من الاستقلال، كمواطن من اللاذقية، يخاف أي إضعاف لها، لأنه يعتقد أن مجازر مثل الحولة ستتكرر بحقه حالما تنسحب تلك القوات، غير ذاك العلوي المقتنع أن القوة كانت بيد الطائفة، وأن تلك القوات سلبت الحكم منهم، بغض النظر عن صحة تلك القراءات أو خطئها، أو وجود قراءات أخرى، فأنا هنا لست لتأييدها أو دحضها، وإنما لتحليل الموقف الذي سينتج عنها.

الانتماء ليس العامل الوحيد المتحكم بالرأي طبعًا، لكنها عملية معقدة من مشاعر وآراء مسبقة وتحليل وقراءات وتوجه، لذلك الحوار سيكون صعبًا جدًا بين المختلفين، لأنه دومًا يركز على واقعة واحدة، متناسيًا الظروف النفسية والأبعاد الاجتماعية التي قادت إلى ذاك الموقف، ومن هنا تأتي أهمية الحوار المجتمعي الحقيقي، ليناقش جميع المخاوف والتصورات بكل صراحة وشفافية، عندها فقط يمكن أن نفهم سر التمترسات تلك، ويحاول كل طرف أن يتفهم الطرف الآخر.

فهل السلطة الحالية قادرة على إجراء كل ذلك؟ مهما كان جوابي فلن يقنع الجميع، بسبب كل ما ناقشناه هنا.

عنب بلدي

——————————

محسن المصطفى يكشف في مقابلة معه، تفاصيل الأحداث الدامية التي شهدتها المناطق الساحلية

ماذا وراء أعمال العنف في سورية

مايكل يونغ

17 أذار 2025

مايكل يونغ: برأيِك، ما أهمية الأحداث التي شهدتها مناطق الساحل السوري الأسبوع الماضي، والتقارير التي أشارت إلى تورّط القوات المتحالفة مع حكومة أحمد الشرع في قتل مئات العلويين وغيرهم من الأقلّيات؟

محسن المصطفى: شكّلت هذه الاشتباكات نقطة تحوّل حاسمة في سورية ما بعد الأسد. فهي لم تكن حدثًا معزولًا، بل أول تمرّد منظّم وواسع النطاق يشنّه فلول النظام السابق. إلى جانب التداعيات الأمنية المباشرة، كشفت أعمال العنف هذه عن انقسامات طائفية راسخة لم تتمّ معالجتها بعد سقوط بشار الأسد. كان المتمرّدون يسعون، من خلال محاولة استنساخ النماذج القائمة في السويداء أو شمال شرق سورية حيث نشأت مناطق تتمتّع بالحكم الذاتي، إلى فرض واقعٍ جديدٍ، أو على الأقل إثارة مواجهةٍ طائفيةٍ يمكن أن تؤمّن لهم الغطاء السياسي اللازم للإفلات من العدالة.

أظهرت هذه الهجمات، التي أسفرت عن مقتل حوالى 300 من عناصر الأمن العام ومئات المدنيين، مدى هشاشة العملية الانتقالية في سورية. وما يزيد من تعقيد المشهد هو نمط استهداف المدنيين، الذي لجأت إليه على السواء الفصائل المتمرّدة من فلول نظام الأسد والمجموعات غير المنضبطة الموالية للحكومة. فبات العلويون والسنّة، إضافةً إلى أعداد أقلّ من المسيحيين، عالقين في دوّامة خطيرة من الأعمال الانتقامية. ويُشار إلى أن تورّط جهات مارقة في الهجمات الانتقامية ضدّ مدنيين من الطائفة العلوية لا يهدّد فحسب بتقويض الشرعية الأخلاقية للحكومة الجديدة، بل أيضًا بمنح خصوم الحكومة سرديةً متينةً يستخدمونها ضدّها، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي.

وقد تحرّكت السلطات سريعًا لاحتواء تداعيات هذه الأحداث، فشكّلت لجنتَين متوازيتَين – أُوكلت إلى الأولى مهمّة التحقيق وتقصّي الحقائق، وإلى الثانية مهمّة الحفاظ على السلم الأهلي، وضمّت بشكل لافت ممثلّين عن الطائفة العلوية. تشكّل هذه التطوّرات تذكيرًا بأن العدالة الانتقالية والمساءلة المؤسساتية لم تعودا خيارًا محتملًا، بل هما ركيزتان أساسيتان للحؤول دون انزلاق البلاد من جديد في دوّامة الحرب الأهلية.

يونغ: نقلت إحدى الصحف اللبنانية عنك قولك إن أحد المسؤولين عن تنظيم الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية ضابطٌ سابق في الفرقة المدرّعة الرابعة التي كانت تحت قيادة ماهر الأسد، هو غيّاث دلّا، الذي تم ترفيعه إلى رتبة عميد في العام 2020. ماذا يمكنك إخبارنا عنه، وما دوره في أحداث الأسبوع الماضي؟

المصطفى: لطالما ارتبط اسم العميد غيّاث دلّا بالنواة الداخلية للمؤسسة العسكرية في عهد الأسد. لقد تدرّج سابقًا في صفوف “اللواء 42 مدرّعات”، وهو مكوّن أساسي من الفرقة المدرّعة الرابعة، إلى أن تولّى في النهاية قيادته بنفسه. وفي أواخر حزيران/يونيو 2024، عُيّن دلّا رئيسًا لأركان الفرقة الرابعة التي يقودها اللواء ماهر الأسد. ويُعرَف عن دلّا تحالفه مع الفصائل المدعومة من إيران في ساحة المعركة، بما في ذلك حزب الله ولواء الإمام الحسين. وكانت تكتيكاته ذائعة الصيت في مختلف أنحاء ريف دمشق وجنوب سورية، وشملت حصار المدن والقصف العشوائي والتهجير القسري. يُضاف إلى ذلك ما جرى توثيقه عن تورّطه في جرائم جماعية ارتُكبت في مناطق مثل داريا والمليحة وريف دمشق ودرعا وإدلب.

بعد سقوط نظام الأسد، اختار دلّا عدم الانسحاب من الحياة العامة، بل على العكس أدّى دورًا أساسيًا في هندسة التمرّد في مرحلة ما بعد الأسد. وعمل بالتنسيق مع ضباط وعناصر سابقين، بمن فيهم مقداد فتيحة من الحرس الجمهوري، على تأسيس ما سُمّيَ المجلس العسكري لتحرير سورية. وضمّ هذا الكيان ميليشيات عدّة موالية للأسد، شارك أبرزها – مثل “لواء الجبل” و”درع الأسد” و”درع الساحل” الذي تأسس حديثًا – بشكلٍ مباشر في هجمات الأسبوع الماضي المنسّقة. لا شكّ في أن دلّا لم يكن مجرّد مسؤول رمزي، بل كان قائدًا ميدانيًا ومخطِّطًا استراتيجيًا. وتمثّل هدفه على ما يبدو في إعادة فرض النفوذ العسكري للنظام القديم، وزعزعة استقرار النظام الناشئ قبل أن يتسنّى له توطيد أركانه.

يونغ: هل تعتقد أن جهات أجنبية قد انخرطت في الهجمات ضدّ قوات الأمن العام السورية، ومن كانت؟

المصطفى: ثمّة سببٌ وجيه يدفعنا إلى الاعتقاد بأن جهاتٍ خارجية قد اضطلعت بدور مساندٍ في أحداث الأسبوع الفائت، وإن بشكل غير مباشر ومُبهم في معظم الأحيان. غالب الظن أن إيران هي الطرف الخارجي الأبرز، نظرًا إلى علاقتها المتينة مع غيّاث دلّا وشبكة الميليشيات التي نسّق معها خلال الحرب. صحيحٌ أن ما من اعتراف علني بانخراط طهران في هذه العملية تحديدًا، إلّا أن التنسيق التكتيكي والتطوّر اللوجستي وحشد الشبكات الموالية عوامل تشير إلى حدٍّ أدنى من الدعم الضمني الإيراني، سواء على شكل تبادل للمعلومات الاستخباراتية أو إنشاء الاتصالات الآمنة أو توفير الدعم المالي.

ولا تقلّ أهمية عن ذلك التسجيلات المسرّبة التي كشفت عن أن القوات الروسية في قاعدة حميميم الجوية كانت على علمٍ مسبق بتحركات المتمرّدين. علاوةً على ذلك، تثير التقارير عن غرفة عمليات مشتركة والأدلّة عن نقل جرحى من مقاتلي فلول النظام إلى القاعدة، تساؤلاتٍ حول موقف موسكو. وعلى الرغم من أن روسيا لم تضطلع ربما بدورٍ عملياتي نَشط، فإن تساهلها الواضح مع التمرّد – إن لم يكن تواطؤًا صريحًا – يعبّر عن التباسٍ أكبر في موقفها الحالي من السلطات السورية الجديدة.

يونغ: يبدو أن المشاكل بين الشرع والأقلّيات السورية تتنامى، ما يسلّط الضوء على أهمية الاتفاق الذي أبرمه هذا الأسبوع مع قوات سورية الديمقراطية التي يطغى عليها الأكراد. كيف ترى مستقبل العلاقات بين دمشق والأقلّيات السورية، بمن فيها الأكراد، وما المخاطر المحتملة؟

المصطفى: لا أعتقد أن علاقة الشرع بالأقلّيات تثير إشكاليةً بطبيعتها. فهو رفض استخدام مصطلح “أقلّيات” واستعاض عنه بالحديث عن “مكوّنات” الشعب السوري. والمخاوف التي عبّر عنها اليوم الأكراد والدروز والعلويون والإسماعيليون والمسيحيون، مشتركةٌ بين جميع شرائح المجتمع وتعكس الصدمة الأوسع التي أحدثتها الحرب. يواجه الشرع راهنًا مهمّة حساسة تتمثّل في استعادة ثقة هذه المجتمعات المحلية، ولا سيما بعد أعمال العنف التي شهدها الساحل السوري. ويُعدّ الاتفاق الذي أبرمه مع قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد، ضروريًا وآنيًّا، ويبدو أن جهودًا مشابهة تُبذل على الخط نفسه مع الدروز في السويداء، الذين يعرب بعضهم عن قلقه من الحكومة.

في المرحلة المقبلة، ستحدّد أولويّتان شكل العلاقة بين الدولة والأقلّيات/المكوّنات، وهما: الحوكمة الشاملة للجميع التي تستند إلى الكفاءة لا إلى الطائفية، والالتزام الجدّي بالمصالحة الوطنية. يرى الأكراد أن الاتفاق يدلّ على تعاون براغماتي على الرغم من أن اندماجهم في المجتمع السوري لا يزال مسألةً شائكة. وستحكم المجموعات الأخرى على الحكومة من خلال قدرتها على ضمان الحماية والعدالة للجميع على قدم المساواة. في نهاية المطاف، يجب أن تستند عملية بناء الدولة إلى المواطنة، إضافةً إلى الاعتراف بتعدّدية سورية. فهذان العاملان كفيلان، إذا ما اقترنا أيضًا بالتعافي الاقتصادي وإدارة التهديدات الإقليمية، ومن ضمنها تلك المتأتية من إيران وإسرائيل، بتشكيل ملامح الاستقرار في سورية مستقبَلًا.

مايكل يونغ

محرّر مدوّنة ‘ديوان’, مدير تحرير في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

محسن المصطفى باحث مساعد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، عمل سابقًا باحثًا مساعدًا في مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، وزميلًا غير مقيم في معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط من أيار/مايو 2022 ولغاية أيار/مايو 2023، حيث ركّزت أبحاثه على الشؤون الأمنية والعسكرية والحوكمة في سورية. وضع الكثير من الدراسات والمقالات حول هيكل المؤسسة العسكرية السورية وتطوّرها، يمكن الاطّلاع عليها على موقعه الإلكتروني www.muhsenalmustafa.com. أجرت “ديوان” مقابلة معه في بداية هذا الأسبوع للاطّلاع على وجهة نظره حيال الاشتباكات التي وقعت مؤخرًا في مناطق الساحل السوري وتداعياتها على مستقبل البلاد.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.

مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط

——————————-

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى