الإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 18 أذار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الإعلان الدستوري لسوريا 2025

———————————————-

الإعلان الدستوري ليس قضيةً قانونية/ سمير الزبن

18 مارس 2025

أثار الإعلان الدستوري، الذي وقّعه الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع، جدلاً كثيراً، وتركّز في مواد الإعلان بمعناها القانوني، مثل صلاحيات الرئيس الواسعة ذات الطابع السلطاني، والحرّيات، والفقه الإسلامي “المصدر الرئيس للتشريع”، وفصل السلطات، والمرجعيات، وتراتبية السلطات وفصلها… إلخ، وغيرها من مواد قانونية نصّ عليها الإعلان. وكان لهذا النقاش أن يكون أكثر فائدةً لو أن مسوّدة الإعلان الدستوري طُرحت للنقاش العام، وكُرّست خلاصة هذا النقاش في مواد قانونية ملائمة، لكنّ هذه الفرصة فاتت.

لا يمكن التعامل مع الإعلان الدستوري على أساس أنه مسألة قانونية عادية وشكلية، تتعلّق بتشكيل “لجنة فنية” من قانونيين تعمل في تدبيج موادّ الإعلان، يوقّعها الرئيس فتصبح ساريةَ المفعول خمس سنوات. هذه صيغة مبتسرة، لا تصلح لإقرار إعلان دستوري يتحدّث عن حقوق أساسية في فترة انتقالية بالغة الخطورة لبلدٍ يعاني من الدمار. القضية الدستورية، سواء كانت إعلاناً دستورياً مؤقّتاً، أو دستوراً ثابتاً، قضية تتجاوز الصياغات القانونية الشكلية، فهي يجب أن تعبّر عن توافقاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وشعبيةٍ واسعة بين جميع أطراف المجتمع، الذي ستحكمه هذه الوثيقة. ويحتاج هذا الإعلان الدستوري، على عكس الوثائق القانونية الأخرى كلّها، موافقة شعبية لا يحتاجها قانون جزئي، مثل قانون العقوبات، أو القانون المدني. إنه يمسّ حياة الجميع، ولأنه كذلك كان يجب أن تأتي بعد نقاش حقيقي وعميق يشمل المجتمع وقواه السياسية والاجتماعية. ولأن الإعلان الدستوري وثيقة أُعدَّت بين سلطة الأمر الواقع ولجنة الصياغة في الغرف المُغلقة، كان من الطبيعي أن تخرج بهذه الصيغة المتناقضة والمثيرة للجدل، وهذا يجب ألا يحدُث لوثيقةٍ أساسية ستحكم البلد خمس سنوات مقبلة، تؤسّس لما بعدها.

سلطة الأمر الواقع هي التي صاغت الإعلان الدستوري، ولجنة الصياغة أداة بيدها، وكان لإخراج مشهد إعلان الوثيقة تلفزيونياً دلالة سلبية، جعلت الإعلان يبدو وثيقة انتصار لفئةٍ من الطائفة السُنّية. اقتصر حضور حفل التوقيع على اللجنة المكلّفة من الرئيس بصياغة الإعلان. والأكثر أهميةً أنه جلس في مقابل اللجنة مجموعةٌ من الرجال من لون ديني فئوي واحد، رجال دين سُنّة، جلّهم شغلوا مواقع مقرّرين شرعيين لمجموعات جهادية، واختار الرئيس أن يكون هؤلاء (لماذا لم يكن هناك نساء أو رجال من طوائف أخرى، أو حتى أشخاص من السُنّة غير متديّنين؟) حضور حفل التوقيع فقط، وهذا رسالة واضحة إلى المجموعات التي سيطرت على السلطة، وتأتمر بأمر الشرعيين، وتشكل الجيش الجديد (نحن السلطة).

شكّل الإعلان الدستوري نوعاً من انقلاب ممّن تولّوا السلطة، لكنّه ليس انقلاباً على النظام القديم، بل هو انقلاب على الثورة وعلى الشعارات والقيم التي انطلقت من أجلها قبل 14 عاماً، ودُفِعت تضحياتٌ كثيرة خلال مسيرتها الطويلة. مَنحُ الرئيسِ صلاحيات مطلقة، هو جوهر الإعلان الدستوري، وما عدا ذلك كلّه تفاصيل يمكن تجاوزها، ويمكن تجاوز التناقضات الكبرى في الإعلان الدستوري، حتى إذا نوقِشت نصوص قانونية محضة. لم يكن الإعلان يحتاج اللغة الانتصارية الرثّة في مقدّمة الإعلان، فهذه المقدّمة تصلح مقالاً رديئاً يُطبّل للسلطة الجديدة، وهناك موادّ مضحكة حتى بالمعنى القانوني، مثل “تضمن الدولة مكافحة الفساد”، وكأن هناك إعلانات دستورية تحمي الفساد. ومن جهة أخرى، لا يمكن الجمع بين الفقه الإسلامي مصدراً رئيساً للتشريع واعتبار المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان جزءاً من الإعلان الدستوري، لأن عديداً من الحرّيات التي ينصّ عليها إعلان حقوق الإنسان تتناقض مع الفقه الإسلامي، وفي مقدّمتها المادّة التي تنصّ على حقّ كل شخص “في تغيير دينه أو معتقده”، وهي ممارسةٌ أصبحت عاديةً في أغلب الدول، لكنّها لا تزال تعتبر “رِدّةً” معروفة عقوبتها في الفقه الإسلامي. وإذا كانت هذه الملاحظة جزئية، وهناك من سيقول إن الوضع السوري أعقد من الاهتمام بهذه الجزئيات، فلنذهب إلى الأكثر أهمية، وهو ما ينصّ عليه الإعلان في المادّة 23، التي تنصّ: “تصون الدولة الحقوق والحرّيات الواردة في هذا الباب، وتمارس وفقاً للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكّل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامّة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحّة أو الآداب العامة”. تشكّل هذه المادة إعلاناً مسبقاً للطوارئ على الحرّيات التي ينصّ عليها الإعلان ذاته، فمن يحدّد هذه الضوابط التي ستخضع لها الحرّيات، ومن سيمارسها، فهي حرّياتٌ تولد محاصرةً ومخنوقةً؟ ماذا تعني ضوابط لمنع الجريمة سوى تقييداً مطلقاً للحرّيات، يعود لمزاج السلطة التنفيذية (أو يعود إلى الشرعيين الذين باركوا الإعلان بحضورهم التوقيع)؟… هذا الكمّ الكبير من الحصار للحرّيات من ضوابط للأمن الوطني والسلامة العامّة والنظام العام… إلخ، يجعلها بلا معنى، فالحرّيات التي تولد محاصرةً من الجهات كلّها، مع غياب مفهوم الديمقراطية أساساً مكوّناً لأي سلطةٍ تأتي بعد استبداد طويل، يجعل هذه الحرّيات ديكوراً في الإعلان، وهي للدعاية، وليست حرّيات للممارسة.

الإعلان الدستوري لا يحمي حقوق المواطنين، إذا لم يكن هناك من يحميه، والسلطة ذاتها لا تحمي الدستور، على العكس، يجب حماية الدستور منها، لأنها يفترض أن تخضع له. ولكنّ السلطة التي تصوغ وحدها الإعلان الدستوري، تتجاوزه طالما هو إعلانها الخاص، وطالما ليس هناك من يحمي الدستور من عسفها. فالشعب هو الذي يحمي الدستور، عبر تمثيلاته السياسية والاجتماعية، فالقوى السياسية والقوى الاجتماعية الحيّة، التي تشغل الفضاء العام، هي التي تحمي الدستور من عسف السلطة. لكنّ هذه القوى طُرِدت من التمثيل في كل الإجراءات السياسية التي شرعنت بها السلطة الجديدة ذاتها، فهي بالتالي، ترغب في استمرار فراغ الساحة السياسية من القوى السياسية التي أعدمها النظام السابق، ومنع أيَّ قوىً جديدة من العمل، على قاعدة الذريعة القديمة، أن المخاطر كثيرة لا تحتمل مثل هذا الترف.

إعلان دستوري من دون قوى سياسية ومجتمعية تحميه هو إعلانٌ لا معنى له، سوى تكريس السلطة الجديدة القادمة من مواقع جهادية، لطالما كانت معاديةً للثورة والديمقراطية، ولا تملك حساسيةً لدماء الضحايا. والأغرب أن يكون سلوك السلطة الجديدة الاستئثاري، سلوكاً أقلّوياً للسيطرة على السلطة، مع أنها تدعي تمثيل كل الشعب السوري أو غالبيته.

يشكل هذا الإعلان الدستوري انقلاباً على الثورة السورية، ومحاولةً للاستيلاء على سرديتها، للاستفراد بالسلطة خلال الخمس سنوات الانتقالية، التي ستحدّد مستقبل البلد على شاكلتها سنوات طويلة.

العربي الجديد

———————————

بنظرة قانونية… هل يلبي الإعلان الدستوري تطلعات السوريين؟/ مصطفى رستم

يرى بعضهم أن 5 أعوام فترة طويلة لكنها بالنسبة إلى آخرين معقولة وتتيح المجال لبناء أسس الاستقرار وليست مجرد محاولة لكسب الوقت

الاثنين 17 مارس 2025 ضهم أن خمسة أعوام مدة مناسبة بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه البلاد التي خرجت من حرب استمرت 14 عاماً.

في الـ 13 من مارس (آذار) الجاري أقرّ الرئيس السوري أحمد الشرع “الإعلان الدستوري” الذي يحوي 53 مادة، بعد درس من لجنة صياغة متخصصة في هذا الشأن، وخلّف الإعلان جدلاً واسعاًُ بين مؤيد ومعارض، فرأى فريق وجود إشكال في طبيعة الإعلان نفسه، فقد بدا وكأنه مزيج بين إعلان دستوري موقت ودستور دائم، ومن الملاحظ أن مواده جاءت موسعة أكثر مما هو معتاد في الإعلانات الدستورية التي تُصدر خلال المراحل الانتقالية، والتي تكون عادة أكثر اختصاراً وتركيزاً على الأسس العامة من دون التوسع في التفاصيل.

خطوة نحو الاستقرار

ورحب مدير المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية أنور البني في حديث إلى “اندبندنت عربية” بالإعلان الدستوري الموقت، كما يجب تسميته، لتستقر وتنجح المرحلة الانتقالية، بسبب أنه نص على إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، واعتبر الاتفاقات الدولية جزءاً من الإعلان، كما حدد مدة الفترة الانتقالية واعترف بضرورة وجود الأحزاب والجمعيات، وكلها بنود مبشرة، على حد قوله.

وفي المقابل يسجل البني مجموعة تحفظات ومنها تجاوز الإعلان الدستوري ليكون بمثابة دستور مصغر، إذ حدد مسبقاً اسم الجمهورية ومصادر التشريع وسلطات الرئيس، “وبذلك صادر إرادة السوريين والسوريات علاوة على عدم النص على إشراك المجتمع المدني بتسمية أعضاء مجلس الشعب”، وانتقد “عدم وجود نصوص تتعلق بتشكيل السلطة القضائية لتكون مستقلة تماماً، وتسمية الرئيس لأعضاء المحكمة الدستورية العليا، وعدم وجود وضوح في كيفية وضع الدستور الجديد”.

وكذلك اعتبر زعيم “تيار الإرادة الشعبية” قدري جميل أن “المشروع لا يرتقي لمتطلبات وخطورة المرحلة التي تعيشها البلاد، وجاء مخيباً للآمال وأقل من أن يكون أساساً صالحاً لانتقال سلس يحمي وحدة البلاد وأهلها، ويغلق الباب على التدخلات الخارجية بمختلف أشكالها”، معتبراً أن “تحديد الفترة الانتقالية بخمسة أعوام وترك البلاد كل هذه الفترة دون دستور دائم ينتج من مؤتمر وطني حقيقي وواسع التمثيل، يفاقم الأخطار التي تعيشها الوحدة الوطنية للبلاد، ويصعب ويعرقل رفع العقوبات”.

الفراغ الدستوري

ويرى متخصصون في القانون أن إصدار الإعلان الدستوري الموقت خطوة حاسمة لسد الفراغ التشريعي الذي استمر خلال الأشهر الثلاثة الماضية بعد سقوط نظام الأسد، فقد عاشت سوريا خلال هذه الفترة مرحلة من الفراغ الدستوري، مما جعل هذا الإعلان ضرورياً لإعادة الحياة الدستورية وتفعيل القوانين وضمان سيادة القانون مجدداً.

ومن العاصمة الفرنسية باريس تحدث الباحث القانوني فراس حاج يحيى إلى “اندبندنت عربية” حول المدة التي حددها الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية وهي خمسة أعوام، ويرى أنها مدة مناسبة بالنظر إلى حجم التحديات التي تواجه البلاد، فعلى الصعيد الداخلي تخرج البلاد من حرب استمرت 14 عاماً مخلفة دماراً واسعاً في المدن والبنية التحتية، إضافة إلى وجود نصف الشعب السوري خارج البلاد بين مخيمات اللجوء ودول الشتات، وكل هذه العوامل تجعل من الضروري تخصيص فترة انتقالية كافية لضمان استقرار البلاد وتهيئتها لمرحلة جديدة.

وأضاف، “قد يرى بعضهم أن خمسة أعوام فترة طويلة، لكن برأيي هي مدة معقولة تتيح المجال لبناء أسس الاستقرار، ولا يمكن اعتبارها مجرد محاولة لكسب الوقت بل هي ضرورة موضوعية للوصول إلى انتقال سياسي شامل يضم جميع السوريين، كما أنها تسهم في الحفاظ على وحدة البلاد في ظل التحديات الإقليمية، سواء في الجنوب مع التدخلات الإسرائيلية أو في مناطق أخرى قد تشهد محاولات انفصالية”.

ووفق يحيى فقد “كان الإعلان الدستوري بحاجة إلى وقت أطول لصياغته بدقة قانونية أكبر، إذ يبدو أنه أُنجز بسرعة مما أثر في مستوى دقة تحديد مواده وضبطها بشكل تقني يمنع تعدد التفسيرات أو التأويلات المختلفة”، مشيراً إلى أن النصوص الدستورية، سواء كانت دائمة أو موقتة، يجب أن تكون واضحة ومجردة ودقيقة لتفادي الالتباس.

آلية التعديل

وبالنسبة إلى وجود اعتراضات من بعض الأطراف، وأبرزها من المكون الكردي، حول اسم الدولة واشتراط دين رئيس الدولة، يرى بعضهم أن هذه الاعتراضات بحد ذاتها مؤشر إيجابي، إذ تعكس تطوراً في النقاش العام، فقد أصبح السوريون قادرين على مناقشة دستورهم وانتقاده بحرية.

ويعتقد الباحث فراس حاج يحيى أن الإعلان الدستوري نفسه يتضمن مادة حول آلية التعديل مما يتيح المجال أمام القوى السياسية والمكونات المختلفة لإجراء التشاور والتنسيق حول التعديلات المطلوبة، وذلك بالتعاون مع رئيس الجمهورية الذي يمتلك صلاحية طلب التعديل بعد تشكيل مجلس الشعب، مضيفاً أن “من وجهة نظري الشخصية فالمادة المتعلقة بتشكيل مجلس الشعب كانت الأكثر ضبابية، إذ نص الإعلان على أن رئيس الجمهورية يعين ثلثي أعضاء المجلس ثم تشكل لجنة عليا للانتخابات تختار هيئة ناخبة لاختيار بقية الأعضاء، وهذه الآلية تحتاج إلى مزيد من التوضيح والتفصيل لضمان الشفافية والوضوح في عملية تشكيل المجلس”.

كما تطرق إلى مسألة تركّز كثير من صلاحيات التعيين في يد رئيس الجمهورية مما قد يحد من التوازن بين السلطات، ولم ينص الإعلان بوضوح على آليات مساءلة رئيس الجمهورية أو الحكومة أو مجلس الشعب، وهي نقطة مهمة لضمان وجود رقابة ومحاسبة ضمن الإطار الدستوري، مردفاً أن “الإعلان جاء شاملاً حين تضمن معظم المواد المتعارف عليها في الإعلانات الدستورية الموقتة التي تصدر خلال المراحل الانتقالية في تاريخ الدول، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن هذا الإعلان تأخر في صدوره على رغم أن رئيس الجمهورية كان يملك صلاحية إصداره منذ اليوم الثالث لسقوط نظام الأسد أو بعد مؤتمر النصر”.

التشاركية والتفرد

في غضون ذلك يجزم رئيس منظمة “العدالة والسلام” فراس المصري بأن المرحلة الانتقالية هي مرحلة من دون انتخابات، وهذه النقطة أساس في وضع القواعد الدستورية لإدارة هذه المرحلة، إذ عملت اللجنة على صياغة الإعلان في هذا السياق فبدا لبعضهم أنه نوع من التفرد بالسلطة، “وأرى أنه حد أدنى من التشاركية وليس تفرداً كاملاً، ومن الصعب أن تكون مشاركة كاملة من دون انتخابات، وعلينا التمسك بتنفيذ بنود الإعلان ولا سيما إنجاز ‘قانون للأحزاب’ وعدم تدخل السلطة التنفيذية في القضاء”.

ومن أبرز النقاط التي جاءت في الإعلان أنه يضمن لرئيس الجمهورية السلطة المطلقة التي لا تخضع لأية مساءلة أو محاسبة، ويضع مجلس الشعب في خانة التعيين بعيداً من الديمقراطية والانتخابات النزيهة.

وبحسب “المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا” فإن تحديد خمسة أعوام للفترة الانتقالية يضمن بقاء سلطة الأمر الواقع في دمشق بعيداً من أي انتخابات أو مشاركة للشعب السوري في اختيار ممثليهم، سواء في البرلمان أو الرئاسة، مضيفاً بيان له أن “هذا يعتبر انتهاكاً لحقوق المواطنة وحرية التعبير واختيار الأشخاص بتجربة ديمقراطية، ويجدد منظومة النظام البائد في التعيين وفرض ما تراه سلطات دمشق أمراً واقعاً، إضافة إلى أن عدم طرح مشروع الإعلان الدستوري للاستفتاء لأخذ رأي الشعب يعتبر تغييباً كاملاً لحقوق المواطنة”.

وفي المقابل رأى أعضاء لجنة صياغة “الإعلان الدستوري” أن الإعلان نص على حرية الرأي والتعبير والصحافة والنشر، والحرص على وجود باب خاص بالحقوق والحريات لخلق توازن بين الأمن المجتمعي والحرية، وكذلك رحب المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون بالإعلان، مؤكداً أنه يسد فراغاً قانونياً مهماً في سوريا ويشكل ما وصفه بـ “إطار عمل قانوني متين للانتقال السلمي”، إضافة إلى الجهود المستمرة لضمان حوكمة انتقالية منظمة.

من جانبه أصدر “المجلس الإسلامي العلوي الأعلى” بياناً انتقد فيه “الإعلان الدستوري”، معتبراً أنه “يكرس الرؤية الشمولية للحكم السابق ويعيد إنتاج ديكتاتورية إقصائية بصيغة جديدة، كما لا يضمن التمثيل العادل لقيام الدولة التي تنشدها أطياف ومكونات الشعب السوري كافة، وهي الدولة المدنية الديمقراطية التعددية الوطنية الشاملة التي تحقق العدالة الاجتماعية، ويضمن دستورها فصل السلطات وحق المواطنة”.

وفتح “الإعلان الدستوري” الباب أمام طيف واسع من السوريين للتعبير إما عن انتقادهم للإعلان أو الترحيب بوجود مواد دستورية جديدة، إذ كتب الفنان السوري فارس الحلو “كانت آمالي كبيرة بتجريم الطائفية والعنصرية بنص واضح وصريح أسوة بنص إنكار جرائم الإبادة الأسدية، التي هي أصلاً من مخلفات الطائفية والعنصرية البغيضتين والمستمرتين منذ 54 عاماً حتى الآن، وتجريم الآفتين المذكورتين يضمن للجميع مستقبلاً آمناً”.

——————————————

المفهوم والما صدق في اسم الجمهورية/ عبد الباسط سيدا

18 مارس 2025

في واحد من اجتماعات المعارضة السورية في لندن في 2004 (كانت المعارضة مُكلفة، ويتعرّض صاحبها لجملة من المخاطر الحقيقية)، تناولنا جملة من القضايا ذات العلاقة بالشأن السوري، في ضوء ما كان يحصل في العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين (2003)، وتبعات الانتفاضة الكردية في القامشلي (2004)، وتطوّرات الأمور في لبنان وبلوغها مرحلة اللاعودة بين رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري وبشّار الأسد. وإذا ما كانت ذاكرتي دقيقة، عُقد الاجتماع بدعوة من المراقب العام للإخوان المسلمين في حينه صدر الدين البيانوني، ومشاركة أحزاب وشخصيات وطنية سورية من مختلف الاتجاهات القومية والفكرية.

اتفقنا على إصدار بيان يلخّص التوافقات بين المجتمعين. وبمجرّد الانتهاء من صياغته، وضعه البيانوني أمامي لأوقّعه، لكنّني ما إن قرأت المقدّمة حتى سلّمته البيان من دون توقيع، وقلت له: “هذا البيان لا يقصدني، فهو موجّه إلى الشعب العربي السوري، وأنا كرديّ كما تعلم. لو عدَّلت اسم الجهة المعنية بالمخاطبة، ليصبح على سبيل المثال: يا أبناء الشعب السوري المسلم، سأوقّع عليه، لأنه سيشملني عندها، ولكنّك ستواجه مشكلةً مع المسيحيين. لذلك اقتراحي أن تعدّل العبارة لتصبح يا أبناء الشعب السوري، فحينئذٍ سيشعر الجميع بأنهم معنيون بالبيان، وسيوقّعونه من دون أيّ تردّد”. فعدّل الرجل العبارة على الفور من دون نقاش، وأعتقدُ أن ذلك كان بناءً على قناعته بصواب ما أشرتُ إليه. وما أكدّ استنتاجي هذا لاحقاً ما ذكره لي البيانوني (أمدّ الله في عمره ومنحه الصحّة والعافية)، في مناسبةٍ أخرى حول الموضوع نفسه، قائلاً: “أحياناً لا يفكّر المرء في أبعاد المصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها، وإنما يتصرّف كما جرت العادة. فحينما أشرتَ إلى ضرورة استخدام مصطلح الشعب السوري الأدقّ لمخاطبة السوريين جميعاً، أدركت على الفور صحّة الملاحظة، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أستخدم عبارة الشعب السوري من دون أيّ إضافة أخرى، وعن قناعة”.

وفي سياق ما يتناوله هذا المقال، أشير إلى ما يعنيه المناطقة بمصطلحي المفهوم والما صدق، عند حديثهم عن دلالة، أو دلالات المعنى اللفظي، الذي يتناول الموجودات، فكلّ مفهوم يتضمّن خاصّيةً أو خاصّيات عديدة تصدُق على الفئة التي تمتلك تلك الخاصّية أو الخاصيات، فمفهوم “القلم” على سبيل المثال يشير إلى خاصّية الكتابة، ودائرة ما صدقه تشمل جميع الأقلام التي كانت (والكائنة، وستكون) في العالم. هذا في حين أن دائرة ما صدق المفهوم المركّب “الأقلام السوداء” تقتصر فقط على الأقلام السوداء من دون الأقلام الأخرى، مثل الحمراء والبيضاء والخضراء وغيرها. والعلاقة بين المفهوم والما صدق عكسية، بمعنى كلّما وسّعنا دائرة المفهوم من جهة ما يتضمّنه من خصائص أو سمات، تقلّصت دائرة الما صدق، وكلّما وسّعنا دائرة الما صدق، قلّصنا دائرة المفهوم. وهذه العلاقة تنطبق على أسماء الدول أيضاً، والصفات، والهُويَّات التي تُعرَّف بها.

والدولة الحديثة المدنية غير الخاضعة لتأثير الأيديولوجيات المتشدّدة من قومية أو دينية، تكون على مسافة واحدة من سائر مكوّناتها المجتمعية، فهي حياديّة بالمعنى الإيجابي، تحترم سائر مكوّناتها، وتحرص على ضمان حقوقهم المشروعة التي لا تتعارض مع وحدة الأرض والشعب. ووظيفة الدولة، وفق هذا التحديد، مستمدّة من أنها جهاز إداري يسهر على توفير الأمن والاستقرار المجتمَعيَّين، وضمان مقوّمات العيش الكريم لسائر رعاياها من دون أيّ تمييز أو استثناء بسبب انتماءاتهم المجتمعية الفرعية، الدينية أو المذهبية أو القومية أو الفكرية، ومن دون أيّ تمييز بين الرجل والمرأة. وإذا اعتمدنا الطابع الإداري البحت لوظيفة الدولة، لن نجد أنفسنا ملزمين بتحديد هُويَّتها، لأن الهّويَّة تخصّ المجتمع، تخصّ المجموعات السكّانية ضمن هذا المجتمع وقناعاتها أو توجّهاتها الدينية أو القومية أو حتى الأيديولوجية.

مناسبة ما تقدّم هو ما ورد في الإعلان الدستوري الذي تبنّته الإدارة السورية الجديدة، ممثّلة برئيس الجمهورية الانتقالي أحمد الشرع، بخصوص اسم الجمهورية. وبالمناسبة، هناك نقاط كثيرة وردت في الإعلان تحتاج إلى مزيد من المناقشة والحوار حتى يُتوافق عليها من السوريين، وما يضفي أهميةً خاصّة على هذا التوافق أن العمل بهذا الإعلان سيستمرّ نحو خمسة أعوام، وهي المدّة الزمنية التي حدّدها الإعلان المشار إليه للمرحلة الانتقالية، وهي مدّة طويلة كما هو واضح.

وفي سياق تسويغهم للإبقاء على الاسم “الجمهورية العربية السورية”، بيّن أعضاء لجنة إعداد البيان أنهم ساروا على العرف المعتمد، هذا في حين أنهم أحدثوا تغييراً نوعياً بنيوياً في شكل النظام السياسي في سورية، وذلك عبر اعتماد النظام الرئاسي وإلغاء منصب رئيس مجلس الوزراء من دون أيّ مراعاة للعرف الدستوري في سورية، وسائر الدول العربية. كما أنهم تحاشوا ذكر مصطلح الديمقراطية في إعلانهم، وهو المصطلح الذي أكّدت سائر الدساتير السورية ضرورة الأخذ به.

ونحن إذا عدنا إلى الوثائق المتوافرة، الخاصّة باسم الجمهورية، منذ تشكّل الكيان السياسي المعروف حالياً في سورية بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في عام 1920، سنكتشف أن اسم الجمهورية العربية السورية هو حصيلة جملة من الظروف والمتغيّرات على امتداد مراحل عديدة. فبعد دخول قوات الأمير فيصل إلى دمشق قادماً من الحجاز برفقة توماس لورنس (لورانس العرب)، أُعلنت المملكة السورية العربية، والأمير فيصل ملكاً عليها (في الثامن من مارس/ آذار 1920)، وكان من المفترض أن تضمّ هذه المملكة سورية الطبيعية (سورية ولبنان وفلسطين والأردن). ومع ذلك، كان الانتماء السوري بموجب الاسم متقدّماً على الانتماء العربي، رغم أن أغلبية السكّان الذين كان من المفترض أن يكونوا في عداد تلك المملكة من العرب. لم تدم هذه المملكة في الأرض السورية سوى أشهر، لأن الفرنسيين عارضوا تلك الخطوة بشدّة بموجب الاتفاقات التي كانت بينهم وبين بريطانيا، ودخل الجنرال غورو إلى دمشق (25 يوليو/ تمّوز 1920)، وقسّمت سورية بين دويلات عدّة، دويلات حلب ودمشق والعلويين والدروز ولبنان، ولكنّ السوريين بكل انتماءاتهم وتوجّهاتهم رفضوا هذه الخطوة، وكان إعلان دولة سورية التي ضمّت كلّ المناطق ما عدا لبنان.

ومع خروج القوات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية من سورية، اعتمد رواد الاستقلال اسم “الجمهورية السورية”، الذي استمرّ معتمداً إلى حين إعلان الوحدة بين سورية ومصر (1958)، في أجواء هيمنة الأيديولوجيا القومية، فأصبح اسمها “الجمهورية العربية المتحدة”، ثمّ بات “الجمهورية العربية السورية” في عهدَي الانفصال القصير وحكم “البعث” (استمرّ أكثر من ستّة عقود)، في محاولة من الانفصاليين لشرعنة أنفسهم قومياً، ومزاودة من البعثيين على عبد الناصر في ميدان الأيديولوجية القومية.

وبناء على ما تقدّم، نرى أهمية اعتماد الخطاب الوطني الجامع الذي يطمئن سائر السوريين، فسورية لا تتحمّل التعصّب الديني أو الطائفي أو القومي أو الأيديولوجي، ووحده المشروع الوطني العام ما ينقذ سورية والسوريين من مشاريع التقسيم وعدم الاستقرار. ولا جديد في القول إن هناك أزمة ثقة بين مختلف المكوّنات السورية، لن تحلّ من دون تبديد الهواجس بعقود مكتوبة تطمئن سائر السوريين، ولا تثير هواجسَ جديدة أو تكرّس القديمة. كما أن إجراءات تعزيز الثقة ضرورة إلى أقصى حدّ، لنبرهن بالأفعال، لا بمجرّد المجاملات اللفظية، وجود انسجام بين أقوالنا وممارساتنا. وفي الوقت ذاته لا بدّ من التوافق على آلية حوارية دستورية لحلّ الخلافات التي ستكون بكلّ تأكيد. أمّا التذاكي، ولي عنق الحقيقة، واعتماد عقلية المحامين في تناول القضايا الوطنية… لن تؤدّي هذه المسائل كلّها إلى الطمأنينة، ولن تكرّس المصداقية، بل ستعمّق الهواجس وتوسّع دائرة انتشارها.

وبالعودة إلى اسم الجمهورية، نرى أن توسيع دائرة ما صدقه عبر تقليص دائرة ما يتضمّنه مفهومه من خصائص، سيكون أكثر انسجاماً مع المشروع الوطني السوري، الذي لا يمكنه بأيّ شكل التنكّر لحقيقة أن العرب السُنّة هم الأغلبية في المجتمع السوري، ولكن هذه الهُويَّة القومية الدينية تخصّ المجتمع العربي السُنّي في المقام الأول. أمّا الدولة السورية فتضمّ سائر المكوّنات بهُويَّاتهم الفرعية المتباينة، ولكنّ الهُويَّة الوطنية السورية العامّة تجمعهم، من خلال دولة يؤكّد اسمها أنها على مسافة واحدة (وبصورة إيجابية) من الجميع. ومثل هذا الأمر لن يكون بدعةً مستحدثةً، فأكثر من نصف الدول العربية (العراق وتونس وقطر والأردن والكويت واليمن وليبيا والسودان والأردن ولبنان وعُمان والبحرين وفلسطين) لا تعرّف نفسها بالعربية، ولا يستطع أحد أن يشكّك في انتماء شعبها العربي وحرصه الشديد على ذلك الانتماء.

إذاً، يكون من الأفضل إعادة النظر في الإعلان الدستوري وتعديله ليرتقي إلى مستوى تطلّعات السوريين، ويساهم في ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري وتعزيز تماسكه.

العربي الجديد

—————————-

سقط الأسد، وماذا بعد؟/ حسن النيفي

2025.03.18

الخطاب الذي صدّرته السلطة الحاكمة إلى الرأي العام منذ انطلاقة معركة ردع العدوان (27 نوفمبر) كان خطاباً مطمئناً بما ينطوي عليه من استعداد كبير للتحلّل من قيود الأيديولوجيا وتجاوز جدرانها الصلبة، كما كان يحيل هذا الخطاب إلى استعداد بدرجة مقبولة من هيئة تحرير الشام للتحوّل من طور الفصائلية الجهادية إلى طور الوطنية العامة باعتبارها الحامل الحقيقي لمفهوم الدولة.

وقد جسّدت التصريحات المتعاقبة – آنذاك – لقيادة العمليات العسكرية المتمثلة بالسيد أحمد الشرع، ترجمة تركت أثراً طيباً لدى الرأي العام السوري وخاصة فيما يتعلق بعملية التحرير التي لم يدّع الرئيس الحالي للبلاد احتكارها لجهة محدّدة أو فصيل معيّن، وإنما أسداها لأصحابها الحقيقيين بإشارته إلى دور جميع السوريين ممّن قدموا التضحيات سواء أكانوا من المعتقلين أو النازحين وحتى شهداء البحار الذين قضوا بين أمواجها، وذلك عبر مسعى واضح لتفنيد مقولة ( من يحرر يقرر) التي بدأت تتعالى هنا وهناك، وبهذا استطاعت السلطة الحاكمة تَحاشي وتحييد كثير من الانتقادات والاعتراضات التي وُجِّهت لحكومة تصريف الأعمال من حيث انبثاقها من لون واحد، مُعلِّلةً ذلك بضرورة توفّر عنصر الانسجام في العمل بين الفريق الوزاري، باعتباره الفريق ذاته الذي تشكلت منه (حكومة الإنقاذ) في إدلب.

جاء الاستحقاق الثاني الذي انتظره السوريون، بل ربما عوّل عليه كثيرون بأنه سيكون منطلقاً تأسيسياً جديداً للدولة السورية، وسيكون ترجمة حقيقية لمفهوم المشاركة في رسم ملامح سوريا التي يتطلع إليها السوريون، ولكن انعقاد المؤتمر بطريقة مباغتة يومي (24 – 25 – شباط الماضي)، إضافة إلى طبيعة الدعوات ووقائع الحوار وفحوى مخرجاته، بل الأهم من ذلك اللجنة التحضيرية التي اتسمت باللون الواحد أيضاً ووسمتْ معايير الدعوات وفقاً لمزاجيتها، لعل هذا كله قد فتح الباب من جديد إلى تسلّل الشكوك والريبة إلى نفوس شطر كبير من السوريين وربما بدا يؤسس لقناعة توحي بأن المراد من براغماتية الخطاب لدى السلطة هو مجرّد الاحتواء للرأي المخالف والتفافٌ عليه أكثر ممّا هو نزوع فعلي نحو مفهوم المشاركة، كما بدا يشيع الاعتقاد لدى بعض الأوساط السورية بأن المَعني الحقيقي في خطاب السلطة هو الرأي العام الخارجي الذي تحرص القيادة الجديدة على كَسْبه واستثماره باعتباره الخطوة التي تمهّد السبيل لحيازة الشرعية الدولية ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، ومع الإقرار بمشروعية هذا النهج – وفقاً لكثيرين – إلّا انه بالنتيجة سوف ينتهي إلى تكريس مبدأ الإقصاء والتهميش، بل ربما إلى التفرّد والاستبداد.

ثم جاء الاستحقاق الثالث التي طالما انتظره السوريون بمزيد من الترقّب، وأعني الإعلان الدستوري الذي لم يكن بالمستوى الذي يتطلع إليه الكثير من السوريين، وليس المعني بهذا الاستياء هم المكوّنات العرقية غير العربية أو الطوائف الإثنية فحسب، بل شطر كبير أيضاً ممّن يحرصون على نجاح السلطة في عبورها للمرحلة الراهنة نحو ضفة الأمان.

ثمة تحدّيات هائلة تواجه الحكومة الحالية ولا يمكن إنكارها أو تجاهلها، لعل في طليعتها التحدّيات الأمنية التي تتمظهر بأكثر من حالة، بدءً من مواجهة فلول النظام البائد التي أودت بأرواح مئات الضحايا سواء من قوات الأمن العام أو من المدنيين، ومروراً بالمناطق التي ما تزال القوى العسكرية فيها تتردّد بالاندماج بمؤسسات الدولة، وصولاً إلى التحديات الإقليمية التي لم تتوان عن النفخ في النار السورية بغية ازدياد لهيبها، وفي مقدمة تلك القوى إيران وإسرائيل، فضلاً عن

الشطر الآخر من التحدّيات ذات الصلة بالعقوبات الاقتصادية التي غالباً ما تخرج عن سياقاتها القانونية لتصبح سبيلاً للاستثمار والابتزاز السياسي من جانب الدول ذات المصالح في الشأن السوري.

لا شكّ ان هذا المشهد الساخن يُنذر بالانفجار ويرتفع فيه منسوب الخوف لدى غالب السوريين من أن تتحوّل هذه التحدّيات إلى معضلات حقيقية تفتح الأبواب لانفجارات داخل المجتمع السوري من جهة، وتمنح الذرائع للمزيد من التدخلات الخارجية من جهة أخرى.

وحيال هذا الواقع المخيف والمُقلق يقف الفاعلون السوريون عبر أنساق ثلاثة، يتصدّرهم الجمهور العام للثورة، بمن فيهم القوى المؤطرة سياسياً من أحزاب وتيارات وتجمعات وطنية، سواء من القوى الوطنية التقليدية التي سبق تاطيرها انطلاقة الثورة، أو ممّن تشكلت ما بعد 2011 ، ولعل السمة المشتركة لهذه القوى أنها بمجملها أقوى مدنية بعيدة عن التشكيلات العسكرية، ولكنها ناضلت عبر سنوات وجسّدت جانباً من النضال السلمي للسوريين في سبيل التغيير، وهي وإنْ لم تخفِ اختلافها الفكري والسياسي مع القوى الإسلامية التي وصلت إلى سدّة الحكم، إلّا أنها شديدة في حرصها على المنجز الذي تحقق في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، وهذا ما جعلها تطوي جانباً جميع توجساتها السابقة، وتعمل على دعم التجربة التحررية السورية بعيداً عن أي اعتبارات فكرية أو عقدية، بل يمكن التأكيد على أنها باتت شديدة الاستعداد لتوظيف كل طاقاتها في دعم السلطة الجديدة ورفدها بالخبرات والكفاءات العلمية والمهنية، إلّا أنها – وخلال الأشهر الثلاثة الماضية – كانت تصطدم على الدوام بحائط صدّ من جانب السلطة الجديدة، وهذا الموقف ذاته تكرّر حيال مبادرة العديد من الشرائح المجتمعية الأخرى، كالضباط المنشقين عن النظام والقضاة والفئات المهنية الأخرى.

في حين تقف في الطرف المقابل فئة أخرى ممن لا تجد لها أي مصلحة في عملية التغيير الوطني، فهؤلاء وإن لاذوا بالصمت طوال الأشهر الماضية، إلّا أنهم اليوم وجدوا ما يتيح لأصواتهم أن ترتفع، وقد وجدوا في تعقيدات المشهد السوري فرصة جديدة لممارسة التربّص وتصيّد المواقف بغية الاصطياد بالماء العكر، ولعل الصورة المثلى التي تتجلّى فيها هذه الحالة هي التظاهرة التي خرجت في باريس يوم السادس عشر من آذار الجاري والتي تزعّمها الشاعر (أدونيس) وقد تحلّق حوله رهطٌ من مريديه ومعجبيه، وذلك استنكاراً لما جرى من تجاوزات بحق الطائفة العلوية في الساحل السوري، والمعروف لدى السوريين أن أدونيس ومن في فلكه قد باركوا للنظام الأسدي قتله للسوريين بكل صراحة ووضوح، ولم يكن لبراميل النظام ولا سلاحه الكيمياوي الذي حصد أرواح عشرات الآلاف من السوريين أي مدخل إلى ضمائرهم التي لا يوقظها من سباتها سوى السعار الطائفي.

وحيال هاتين الفئتين المتباينتين تمضي السلطة الحاكمة في تعاطيها الذي حدّدت مساره منذ اليوم الأول للتحرير، فهي ترفض أي تفاعل إيجابي مع الفئة الأولى بذريعة أنها لا تؤثر التعامل مع الأحزاب أو أي أطر سياسية أخرى، وكان العمل الحزبي رجس من عمل الشيطان. وحتى على مستوى الأفراد فهي ما تزال تؤْثر الاستمرار في الاعتماد على موالي النظام البائد ومؤيديه وخاصة في قطّاع السفارات والمفاصل الحسّاسة من مؤسسات الدولة، على العديد من الشخصيات المنتمية إلى جمهور الثورة من أصحاب الكفاءات والخبرات، علماً أن معظم الراغبين في العمل بالشأن العام يُجمعون على أحقية القيادة الجديدة في إدارة البلاد، ولا أحد يسعى للمنافسة على حيازة القيادة، فما الذي يجعل السلطة أكثر ارتياباً من نظرائها في الثورة؟

لا شك أن عملية (ردع العدوان) جسّدت نقطة تحوّل نوعي في مسيرة هيئة تحرير الشام، ولكي يكون هذا التحوّل شاملاً لسوريا جميعها فهو يحتاج إلى جهود كل السوريين.

تلفزيون سوريا

—————————

المعضلة السورية والخروج الآمن/ د. حسن أبو طالب

 18 مارس 2025 م

لا ينكر أي متابع لما يجري في سوريا، أكان عالماً بدهاليز السياسة أو شخصاً عادياً، أن سوريا تعيش الآن مرحلة مخاض مملوء بالاضطرابات والإشارات المتضاربة. فأبعاد المعضلة السورية تتكشف بين لحظة وأخرى، وما يوصف بأنه خطوة إيجابية مبشرة سرعان ما تتكشف تفاصيله، بأنه إما فاقد لآليات التطبيق، كما هي الحال في الاتفاق بين الرئيس أحمد الشرع والأكراد السوريين، ممثلين في زعيم «قسد» مظلوم عبدي، وإما يتجاوز طموحات قطاعات عريضة جداً من السوريين الآملين في العيش تحت سقف قانون عادل ومنصف، يرسخ المساواة بين كل السوريين، ومساحة من الحريات للجميع، أياً كانت طائفتهم أو دينهم أو منطقتهم الجغرافية.

فكثير من قرارات السلطة الجديدة وإن غُلِّفت بنيَّات حسنة، فإن أسلوب تطبيقها لا يوفر أساساً لمصالحة سورية عامة، ولا يعطي مؤشراً قوياً على أن المستقبل القريب يستند إلى آليات حكم غير التي كانت قبل اختفاء بشار الأسد وانهيار نظامه. والأمثلة كثيرة، فالمنهج الذي صيغت به الوثيقة الدستورية الموصوفة بأنها انتقالية، تشتمل على 53 بنداً، تماثل من حيث الشكل العام الدساتير الدائمة التي تصدرها الدول المستقرة، وفق إجراءات شفافة ومشاركة واسعة، وتخضع لحوار مجتمعي حقيقي؛ إذ لم يحدث شيء من هذا. فلجنة الدستور شُكِّلت بقرار رئاسي، ولم تتواصل مع مكونات الشعب السوري، وفي خلال أسبوع واحد وضعت وثيقة دستورية لخمس سنوات انتقالية مرة واحدة، تماثل من حيث الشكل أيضاً مدة رئاسية كاملة في كثير من الدول التي تعتمد أسلوب الانتخاب لاختيار الحاكم.

ولا أدري؛ لماذا لم تُشكل طاولة حوار مجتمعي موسعة تستمر شهراً أو شهرين، تشارك فيها رموز من مختلف المكونات السورية، وتُقر مبادئ لمرحلة انتقالية لفترة زمنية محدودة لا تزيد على عامين، وبعدها انتخابات حرة لبدء حياة سياسية مستقرة تعلن بها عن سوريا جديدة لكل مواطنيها؟

إن التسرع في إصدار وثيقة دستورية مفصَّلة توفر للرئيس سلطات واسعة -وإن قيل إن ظروف سوريا تتطلب يداً حازمة قادرة على التعامل الحازم مع التحديات- اتضح معه أن ردود الفعل من مكونات سورية كثيرة ترى الأمور عكس ما استُهدف، مما يضع أعباء على الرئيس وحكومته، في الداخل كما في الخارج. فهناك من يرى أن سوريا الجديدة لا تحمي كل مواطنيها، وبخاصة أصحاب العقائد ذات الخصوصية، ومن ثَم يبررون لأنفسهم تقديم مظلة حماية لهؤلاء المتضررين، ويستشهدون بما ورد في الوثيقة الدستورية وطريقة إصدارها.

داخلياً، «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية (قسد)، رأت أن الدستور الانتقالي يتناقض مع المبادئ الواردة في الاتفاق الموقع مع الرئيس أحمد الشرع. ومواقف فئات علوية ودرزية -وإن اختلطت فيها التحفظات والرفض والصمت- تعد إشارات ذات دلالة، وفي الخلفية من ينذر باللجوء إلى السلاح؛ سواء مَن يوصَفون بالفلول، أو بالمتشككين في النظام الجديد، ومن ثم فالأمر يتطلب معالجة رشيدة، بدلاً من أن تتفاقم الأمور، على النحو الذي تنذر به زيارات بعض رجال الدين الدروز السوريين إلى داخل الجولان المحتل، مع مراعاة أن من بين الدروز السوريين من انتقد الزيارة؛ رغم محاولات صبغها دينياً، ونفي دلالاتها السياسية.

وثائق الدستور في المراحل الانتقالية ليست وثائق مقدسة، فإن فرضَت التجربة العملية التغيير في بنيتها كلياً أو جزئياً، فمن الحصافة والحكمة لمن يملك القرار أن يتجاوب مع تلك التحفظات، وأن يوسع مساحة المشاركة، وأن يثبت وعوده في احتواء الجميع من دون استثناء.

معضلة الدستور الانتقالي تمتد إلى كثير من القرارات التي لم تضع في اعتبارها أن انهيار النظم لا يعني بالضرورة التخلص من كل مؤسساتها بجرة قلم، وبالأخص: الجيش، والشرطة، والاستخبارات، والخارجية، والتعليم، والاقتصاد. ففي تلك المؤسسات فئتان: الأولى هي العليا التي تماهت مع النظام السابق، ويُفترض التخلص منها ومحاسبة المخطئين بالقانون على تجاوزاتهم في حق الناس، والثانية الغالبية من التقنيين والإداريين، ولا يعدُّون مسؤولين كالفئة الأولى، وتظل لديهم معرفة معقولة بإدارة كثير من الملفات، والتي يحتاج إليها أي نظام جديد، وبقليل من الترشيد يظل هؤلاء عنصراً مهماً في بناء النظام الجديد.

والثابت أن نتيجة التضحية بالفئتين معاً والبدء من الصفر -كما يحلو للبعض وهم في حالة نشوة ثورية زائفة- تكون بلداً بلا جيش ولا أمن، ولا فئة تكنوقراطية، ولا خبراء ولا علماء، وبالتالي يضع النظام الجديد نفسه في دوامة لا نهاية لها، فضلاً عن أطماع خارجية شرسة.

وقد يجد البعض من صانعي النظام الجديد غضاضة في احتواء قطاعات من العاملين في تلك المؤسسات كأساس تقني يُعتمَد عليه، خوفاً من عدم الولاء للنظام الجديد، وهو أمر تغيب عنه التداعيات الخطرة التي يتضمنها لفظ آلاف من الموظفين والعمال، وتركهم وأُسَرهم بلا عمل ولا مورد رزق، ما يدفع كثيرين منهم إلى الانزلاق إلى أعمال عدائية؛ سواء فردية أو جماعية.

وفي التجارب التي شهدت تحولات ثورية عميقة، واعتمدت مبادئ العدالة الانتقالية منهجاً لإعادة البناء، انتقلت البلاد من الفوضى إلى الارتقاء، وشهد لها الجميع بالرشادة السياسية، وهنا يبرز كل من تجربتَي: رواندا في عهد بول كاغامي بعد المذابح الأهلية 1994 بين الهوتو والتوتسو، والتحول إلى بلد مستقر يحقق تنمية مشهودة، بعد اعتماد سياسة المصالحة الوطنية، ونبذ العنف والتعددية السياسية، وتجربة جنوب أفريقيا الشهيرة بعد سقوط النظام العنصري فيها 1990. قد تأخذ بعض تلك الإجراءات وقتاً لتصبح منهجاً مجتمعياً متكاملاً، ولكنها تستحق التطبيق.

الشرق الأوسط

———————————-

الحرية وما بعد الإعلان الدستوري.. “الأصل الإباحة”/ علي عيد

تحديث 18 اذار 2025

تضمّن باب “الحقوق والحريات”، وهو الباب الثاني من الإعلان الدستوري، 12 مادة (من المادة 12 وحتى 23).

في المادة 13 وردت 3 بنود، الأول بينها يقول: “تكفل الدولة حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة”.

حرية الصحافة والحريات العامة، تعكس مدى التزام السلطة وخضوعها للشعب وإرادته، فهو صاحب المصلحة، وكل سلطة تكتسب مشروعيتها من تفويض الشعب.

مسألة حرية الصحافة في الإعلان الدستوري الذي جرى الإعلان عنه وتوقيعه في 13 من آذار الحالي، تختلف مضمونًا عما جاء في دستور 2012، بكلمتين هما “وﻓﻘًﺎ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮﻥ”، إذ نصت المادة 43 منه، “تكفل اﻟﺪوﻟﺔ ﺣﺮﻳﺔ اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ واﻟﻄﺒﺎﻋﺔ واﻟﻨﺸﺮ ووﺳﺎﺋﻞ اﻹﻋﻼﻡ واﺳﺘﻘﻼﻟﻴﺘﻬﺎ وﻓﻘًﺎ ﻟﻠﻘﺎﻧﻮﻥ”.

بالعودة إلى نموذج ثار الجدل طويلًا حول كونه الأنسب، كلما طرحت قضية الدستور، وهو نموذج دستور 1950، أو ما يسمى “دستور الاستقلال”، بعد انقلاب سامي الحناوي.

تقول المادة 15 في “دستور الاستقلال”:

    الصحافة والطباعة حرتان ضمن حدود القانون

    لا يجوز تعطيل الصحف ولا إلغاء امتيازها إلا وفقًا لأحكام القانون.

    يجوز في حالة إعلان الأحكام العرفية أو الطوارئ أن يفرض القانون على الصحف والنشرات والمؤلفات والإذاعة رقابة محدودة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة وأغراض الدفاع الوطني.

    ينظم القانون أسلوب المراقبة على موارد الصحف.

بالنظر إلى ما ورد في الإعلان الدستوري الجديد وما ورد في نموذجي دستوري 2012 و1950، يمكن ملاحظة أن الإعلام في سوريا بمرحلة دستور 2012 شهد أسوأ حقبة في تاريخ البلاد منذ تأسيسها، حتى ما قبل الاستقلال، على الرغم من أن النص الدستوري لم يتضمن أي تقييد على عكس دستور 1950، الذي استمر حتى عام 1958، والمفارقة أن تلك السنوات التي أعقبت إقرار ذلك الدستور هي الأفضل في تاريخ البلاد، لجهة الحريات العامة والحريات الصحفية.

أردت القول هنا إنه أيًا كان شكل الإعلان الدستوري أو الدستور الذي سيأتي لاحقًا بعده، فإن الأكثر أهمية هو التطبيق الفعلي لروحه ومواده.

في النهاية، ستكون هناك قواعد لتنظيم المهنة، ونصوص قانونية بخصوص أي مخالفات نشر، والمهم عدم وجود قوانين تحت القوانين الدستورية تقيّد الصحافة والصحفيين، والمهم أيضًا إلغاء التشريعات التي جرى اعتمادها خلال العقود الخمسة الماضية، والتي تضع الصحافة رهنًا للسلطة، كما تسمح بتوقيف الصحفيين وإيذائهم بسبب نشرهم محتوى لا يتوافق مع سياسات ومصالح السلطة، أو يكشف فسادها.

الأساس هو الفسح وليس المنع، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، هناك عشرة تعديلات على الدستور تسمى “وثيقة الحقوق” يظهر فيها معنى أن “الأصل في الأشياء الإباحة”، تم إقرارها عام 1791، والتعديل الأول الذي أصبح جزءًا أساسيًا وراسخًا حتى اليوم هو المتعلق بحرية العبادة والكلام، والصحافة وحق الاجتماع والمطالبة برفع الأجور، وجاء في النص: “لا يصدر الكونجرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلميًا، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف”.

يعكس احترام الدستور من قبل السلطة، قدر خضوعها لإرادة القانون والشعب، وهو ما يجعل دولة متحضرة وديمقراطية وأخرى متخلفة ودكتاتورية.

لم ألحظ كصحفي تقييدًا لحرية الكلمة، لكن هذا ليس حكمًا قطعيًا، فأي سلطة قد تلجأ لفسح المجال بانتظار إحكام سيطرتها، وهو ما يخشاه معظم العاملين في هذا القطاع.

لحظت ارتباكًا لدى السلطة التنفيذية المؤقتة، ممثلة بوزارة الإعلام، إذ ليس واضحًا كيف سيتم تنظيم عمل الصحافة وضمان حريتها، هل سيكون هناك مجلس إعلام، أم تبقى وزارة الإعلام، أم يتاح المجال أمام التنظيم الذاتي.

ولحظت إرباكًا يشير إلى رغبة سلطوية بالتحكم في القطاع، وذلك عبر قرار رئيس الوزراء المؤقت حلّ المؤتمر والمكتب التنفيذي لاتحاد الصحفيين، وتعيين مكتب مؤقت دون تبيان الأسباب المعلّلة أو الموجبة لاختيار أعضاء المكتب، وينسحب الأمر على الغموض في التأخر بإصدار الرخص الدائمة والتراخيص لوسائل الإعلام، أو إيقاف بعض المؤسسات دون إعلان واضح.

من الآن فصاعدًا، أنصح كل صحفي أن يضع في جيبه نسخة من الإعلان الدستوري، ليعرضها على أي جهة تعرقل عمله، وعندما لا تستجيب تلك الجهة، أنصحه بالاحتجاج بقوله تعالى “فبما نقضهم ميثاقهم”.. وللحديث بقية.

عنب بلدي

———————————

مجادلات دستورية/ غزوان قرنفل

تحديث 18 اذار 2025

لا أنكر أنه كان لدي نصف أمل في أن يكون الإعلان الدستوري مساحة حقيقية للتعبير عن التوافق الوطني المأمول، لنتمكن جميعًا كسوريين من لم شمل وطن مبعثر ومواطنين منقسمين، كل فريق منهم يغلبه شعور بالتفوق والغلبة على أقرانه، بما يدفعه لتجاهل مسألة غاية في الأهمية، وهي أن هذه المساحة الجغرافية التي اسمها سوريا لا تخص فئة بعينها، بل هي لكل السوريين على قدم المساواة، ولا يحق لأي طرف الاستئثار أو حتى محاولة الاستئثار بها، فإما أن نعيش معًا داخل نطاقها بوئام وسلام، وإما أن نحترب وندخل النفق المظلم الذي عندما يخرج الناجون منه لن يجدوا لأنفسهم وطنًا اسمه سوريا.

والحقيقة أن نصف الأمل هذا قد تبدد لدي حقًا، ذلك أني من المؤمنين أن الدساتير، الدائمة منها والمؤقتة، هي كالمرآة، يجب أن يشاهد كل مواطن نفسه وحقوقه فيها، وهذا مع الأسف لم يحصل في الإعلان الدستوري الصادر في 13 من آذار الحالي، وكان من الممكن حتى لو كان مجرد إعلان دستوري لمرحلة مؤقتة وانتقالية أن يتضمن ذلك ويؤسس لما بعده.

وعلى الرغم من تأخر نشر وتداول النص النهائي لهذا الإعلان، فإن ما تسرب منه، وما أدلي بشأنه من تصريحات صحفية عن بعض أعضاء اللجنة وتقديمهم لتفسيرات بعض من مواده، أثار حفيظة الكثير من الحقوقيين ورجال القانون والمهتمين من المشتغلين بالشأن العام ممن خبروا آليات تصنيع الطغاة والنظم السلطوية، وأنا منهم، وأزعم أن تخصصي العلمي وخبرتي العملية التي تتجاوز ثلث قرن يؤهلانني لتكوين رأي بشأن مضامين هذا الإعلان والأثر الاجتماعي والسياسي والوطني الذي سيترتب عنه، وبحكم ذلك ورغم وجود نصوص إيجابية وضرورية فيه، فإن ذلك لا يجعله إعلانًا دستوريًا يؤسس لشراكة وطنية، أو حتى يخلق مساحة لتلاقٍ وطني في ظل ظروف غاية في التعقيد يمر بها بلدنا، بل أراه حقيقة مجرد دسترة للتفرد والاستئثار، ولمقولة “من يحرر يقرر”، وبالتالي هو يرسل رسائل سلبية تجاه بقية السوريين ويحطم المرآة التي يتعين أن يرى كل السوريين أنفسهم فيها.

وإذا ما حاولنا الدخول في صلب الموضوع أكثر فيمكن القول إن هذا الإعلان الدستوري مشوب بالتركز الكبير للسلطة بيد رئيس الدولة، ودون وجود آليات لمحاسبته عن أعماله أو مساءلته فيما إذا غالى في ممارسته لتلك السلطة أو أساء استخدامها، ومن المهم أن ندرك أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” حقًا، خصوصًا إذا ما اقترن امتلاك السلطة مع غياب آليات وأدوات للمراقبة والمحاسبة، فالحاكم أو الرئيس ليس ظل إله تم تفويضه بتلك السلطات من الله، لأن الشعب هو مصدر السلطات، وهو الذي يمنح ويمنع ويفوض ويحجب، وما يدعو للغرابة أن هذا الكلام تحديدًا (الشعب هو مصدر السلطات) لا وجود لنص له في الإعلان الدستوري.

الرئيس هنا يملك السلطة التنفيذية بكل أدواتها وتبدياتها ومفاصلها، دون أن يكون مسؤولًا عن أعمالها حتى أمام برلمان هو يعيّنه، برلمان لا يملك حق استدعاء وزير لمساءلته، بل لسؤاله فحسب!

والرئيس الذي يعيّن أعضاء مجلس الشعب مباشرة أو مناورة، حجب عن هذا المجلس حق التصويت على قبول أو رفض التشكيلة الحكومية أو بعض أعضائها، كما حجب عن المجلس الحق في الاشتراك مع مجلس القضاء الأعلى في اختيار وتسمية أعضاء المحكمة الدستورية واستأثر بها لنفسه، علمًا أن هاتين المسألتين موجودتان في النظام الرئاسي أيضًا، فالنظام الرئاسي وفصل السلطات لا يكونان بالشكل الذي قدم شروحاته ومبرراته بعض أعضاء لجنة الإعلان الدستوري لوسائل الإعلام، وكأنه فصل صارم في الدور والصلاحيات يحجب عن كل سلطة حق الرقابة والمساءلة عن السلطة الأخرى بينما تستأثر السلطة التنفيذية وحدها بكامل السلطات والصلاحيات، وكأننا نصنع فرعون لا رئيس دولة.

وفي سياق نصوص أخرى لا بد أيضًا من القول إن نص الفقرة 1 من المادة 3 التي تنص على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” تثير إشكالية مزدوجة، أولًا لجهة أن دين الرئيس هو الإسلام، وهو ما يناقض مبدأ “المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”، المنصوص عليه في المادة 10 من نفس الإعلان الدستوري، وكذلك يهدر مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في تولي الوظائف العامة (ورئاسة الجمهورية واحدة من الوظائف العامة).

وأما الإشكالية الثانية في هذه الفقرة أيضًا فتتمثل في اتخاذ الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريع، وهذا المسمى فقهًا ليس أكثر من رأي أو اجتهاد بشر، وفي كثير من أحكامه يتعارض ويتناقض بعضه مع بعض، حتى إن هذا التناقض بلغ في بعض الحالات حد العداء والاقتتال بين أنصاره، وهو في جميع الأحوال رأي لبشر عاشوا قبل ألف سنة كتبوا وقرأوا الأحداث والنصوص وفق أدواتهم المعرفية في زمانهم، فيما نحن اليوم، في الألفية الثالثة، نلجأ إليهم ليشرّعوا لنا قوانين وضوابط لحياتنا المعاصرة، وكأننا مجتمعات مؤممة العقل والرشد! وبالتالي لا أعتقد أن هذا الفقه يصلح مرجعًا تشريعيًا، وكان يمكن الاستعاضة عن ذلك بأن تكون القيم العامة لدين الله هي مصدر إلهام تشريعي، وتكون الإرادة الحرة للناس مصدرًا رئيسًا للتشريع بما لا يحل حرامًا ولا يحرّم حلالًا.

وكذلك فإن الإصرار على التمسك بالعروبة اللفظية لاسم الدولة لا موجب له، خصوصًا أن اسم الدولة في دستور عام 1950 كان “الجمهورية السورية”، وهو الدستور الذي برر أعضاء اللجنة اتخاذهم نص المادة المتعلقة بدين الرئيس منه، كحل وسط بين دين الدولة وعدم ذكر ذلك، فلماذا استلهموا نص دين رئيس الدولة من دستور 1950 ولم يستلهموا نص اسم الدولة “الجمهورية السورية” من نفس الدستور!

بطبيعة الحال، هناك الكثير من النصوص التي نراها معيبة، ولكن مساحة الكتابة المتاحة لا تفسح المجال لتفنيد كل شيء، وهناك بالمقابل نصوص جيدة ومهمة ونشكر أعضاء اللجنة على وجودها، لكن في جميع الأحوال أختم بالقول إنه في حال تعذر التعديل على الإعلان، ولا أعتقد أنه متعذر، فإننا نأمل تجاوز كل ذلك عند الشروع بكتابة الدستور الدائم للبلاد، وأن نحرص حينها ألا نكتب دستورًا على مقاس نعل الحاكم، أي حاكم، وإنما على مقاس السوريين بكل تلاوينهم وانتماءاتهم دون جنف أو حيف وعلى قاعدة المساواة التامة في المواطنة والحقوق.

عنب بلدي

————————–

الوطنية السورية والإعلان الدستوري المؤقت

الإعلان الدستوري والدستور هما شكلان من أشكال العقد الاجتماعي، والأخير هو إعادة صياغة لعلاقة أفراد المجتمع ببعضهم من جهة ولعلاقتهم بالسلطة والدولة من جهة أخرى، وبهذا المعنى فهما يرتبطان بالأزمان والأزمات التي تشهد إعادة صياغة ضرورية لتلك العلاقات، وبهذا المعنى أيضاً فإن صياغة مثل تلك الوثائق التاريخية ليست مسألة اكاديمية ينجزها متخصصون في القانون والدستور، بل هي مسألة إعادة صياغة توازن اجتماعي بعد فترة عدم استقرار أو صراع سياسي وربما عسكري وأحياناً طائفي وقومي.

لكل ما سبق من غير المفيد القول إن المواد الأكثر إثارة للاختلاف كانت موجودة في الدساتير السابقة، وكان السوريون يعيشون في ظلها بأمان، مع أن هذا ليس دقيقاً فيما يخص اسم الدولة وبعض التفاصيل الأخرى، ولقد فجرت ثورة 2011 والصراع العسكري الذي تلاها، طوال ثلاثة عشر عاماً، كل ما كان يكمن من إشكاليات في المجتمع السوري، لقد فضحت وَهْمَ وحدتِه الذي كان الجميع ولا يزالون يتحدثون عنه، في حين كانوا ولا يزالون يهمسون، فيما بينهم، بكل ما يزعزع وربما ينسف أسس تلك الوحدة.

بعد عهود من الانكفاء والتقوقع ومحاولات التذرر الفاشلة، والمفتقدة للإجماع، أثناء الفترة الاستعمارية جرب السوريون التوحد بعد الاستقلال فتوصلوا إلى حالة مقبولة من الاندماج الوطني، ويمكن القول الديموقراطي أيضاً، وهي فترة المد القومي والاشتراكي، لكن هذه الفترة القصيرة زمنياً والمرهَقَة بعدم الاستقرار السياسي، انتهت ببدء الاستبداد السياسي عام 1958 والذي انقطع لفترة بسيطة بين 1961-1963، ثم ليعود الاستبداد البعثي ثم الأسدي بأسوأ أشكاله في التاريخ السوري، والذي استمر أربعة وخمسين عاماً.

هكذا فإننا أمام استحقاق جديد هو إعادة بناء مفهوم “الوطنية السورية”، لقد كان شرط إسقاط النظام شرطاً لازماً، ولكن غير كافٍ لإنجاز تلك المهمة، ولم يتحقق التغيير، وفق ما كان يفكر المعارضون السوريون، اعتماداً على قرارات الشرعية الدولية، رغم طول الانتظار، وتحقق على يد قوى وفصائل عسكرية استطاعت الاستفادة من ظروف إقليمية مناسبة، لكن التحدي لا يزال قائماً: إعادة بناء أسس الوطنية السورية.

أمام القوى المنتصرة احتمالان إما أن تعتمد مبدأ “الشرعية الثورية” الممكن ترجمته ب “من يحرر يقرر ” وهو المبدأ الذي عملت بموجبه غالبية القوى المنتصرة عبر التاريخ، وإما أن تدرك الضرورات التاريخية بدءاً من الاستحقاقات الداخلية أو المحلية وانتهاءً بالظروف الإقليمية والدولية مروراً بالتشابك والعلاقة بين الإثنين، ولا تضع نفسها أمام احتمال الفشل سواء كان فشلاً مباشراً وسريعاً أو فشلاً ممتداً مشابهاً لفشل النظام السابق، لكن السوريين ليس لديهم ترف الانتظار فهم لا يستطيعون أن يراقبوا أو يتفرجوا منتظرين مصير السلطة، لأنهم في الحالين سيدفعون الثمن، بهذا المعنى فإن للسوريين مصلحة كبرى في نجاح التجربة لأن الفشل سيجر عليهم جميعاً كوارث كبرى، فهل بدأنا طريق الفشل وفات الأوان؟

منذ الأيام الأولى أعلن الرئيس المؤقت السيد أحمد الشرع عن ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة ورغم التراجع الجزئي على الأقل في تصريحات أخرى منها مثلاً، بما معناه، أنكم مثلما قبلتم طريقتنا في النصر يجب أن تقبلوا طريقتنا في الإجراءات التالية، ومن المفترض، ولمصلحتنا جميعاً، أن تعود السلطات المؤقتة للعمل بعقلية الدولة وتعود لمراجعة ما قامت به من إجراءات وتختار حلولاً جديدة مناسبة، فإن عقلية الدولة مثلاً لا تنسجم مع تسليم المناصب الهامة، وخاصة في المؤسسة العسكرية، لمواطنين من مكون واحد ولا مع عدم صرف رواتب المتقاعدين العسكريين…الخ. لن نطلب تغييراً فيما يخص مؤتمر النصر الذي منح السيد الشرع شرعية الرئاسة المؤقتة لكن الوقت لم يفت بعد لاعتبار مؤتمر الحوار الوطني السابق مجرد مؤتمر تشاوري والتحضير لعقد مؤتمر وطني تأسيسي، شامل للمكونات القومية والدينية والطائفية والمناطقية والسياسية، يتكفل بوضع تصور شامل للمرحلة الانتقالية وتكون مخرجاته ملزمةٌ للجميع، وفي هذه الحالة يكون مطلوباً مراجعة الإعلان الدستوري وكل ما اتخذ من قرارات قبله وبعده، فهي بالنهاية إجراءات مؤقتة قابلة للتعديل خلال المرحلة الانتقالية، التي رغم بعض الاختلاف على امتدادها الزمني، فإن هناك توافقاً على أنها ليست قصيرة.

تعرض الكثيرون لنقاش تفاصيل الإعلان الدستوري المؤقت، الذي توسع فأصبح أقرب للدستور، وهو نقاش لابد أن تستفيد منه السلطة المؤقتة، ويجب أن يكون الإعلان موضع إعادة نقاش من حيث ضرورة اقتصاره على أساسيات ما يكفي لإدارة المرحلة الانتقالية، وخاصة النقاط الإيجابية الهامة التي تؤكد على وحدة سورية وعلى المواطنة وسيادة القانون ووحدة سورية والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي والحكم الرشيد، أما من حيث تعديل البنود التي هي موضع الخلاف الأكبر والتي يكفي التوافق عليها للسير معاً في الفترة الانتقالية فإننا نقترح المقاربة التالية:

هوية الدولة: إن الاتفاق على الهوية الوطنية السورية يعني اعتبارها الهوية الرئيسة للسوريين، سواء كنا عرباً أو كرداً أو سرياناً آشوريين أو كيفما كانت انتماءاتنا القومية، لإن مشروع بناء دولتنا سيكون على أساس أننا سوريين، وهذا لا ينفي أن يتعاطف معنا أو يدعمنا عرب أو كرد من دول أخرى فالانتماءات القومية الأخرى ستبقى قائمةً كانتماءات فرعية لها طرق تحققها الثقافي في المجتمع بعيداً عن إثارة أي كراهية أو عداوة. وإذا اعتبرنا اللغة العربية هي اللغة الرسمية باعتبارها الأكثر انتشاراً، فهذا لا يتعارض مع قبول استخدام رسمي للغات أخرى في أماكن تواجد المتحدثين بهذه اللغات كحق طبيعي.

هوية رئيس الدولة: طالما قبلنا بالمواطنة المتساوية فلا نستطيع القول إن الرئيس يجب أن يكون منتمياً لدين معين حتى ولو كان دين الأغلبية السكانية.

مرجعية الفقه الإسلامي: إذا كان الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع فلا يجب أن يكون المصدر بال التعريف، أو ربما يتم الاكتفاء بصيغة من مثل عدم التناقض مع الفقه الإسلامي، حتى يكون هناك مجال لفقه يخص ديانات أخرى وربما يجب ضمان حق غير المؤمنين في المجتمع، خاصة وأننا نقبل بوجود قوانين خاصة للأحوال الشخصية للطوائف الأخرى.

إذا اقتضت المرحلة الانتقالية صلاحيات كبيرة للرئيس في الفترة الانتقالية وهو أمر مفهوم ومقبول، كما في النظام الرئاسي المقترح، فإن هناك ضرورة للتفكير بتوسيع قاعدة المشاركة، وهذا يقتضي التخفيف من صلاحيات الرئيس لصالح هيئات مؤقتة أخرى مثل الكيان التشريعي، وذلك بالحد من صلاحيات التعيين في المجلس التشريعي وكذلك الحد من صلاحيات التعيين في المحكمة الدستورية العليا لإفساح المجال أمام وضع موقع الرئاسة تحت المحاسبة أو المسائلة.

أخيراً، إن متطلبات العلاقات الإقليمية والدولية هي شيء لا يمكن تجاهله بالنسبة لبلد ينطلق من مستوى قياسي في الخراب والدمار وبحاجة ليس فقط إلى إعادة تأسيس دستوري وسياسي وإنما إلى إعادة بناء اقتصادي وعمراني. وقد تسبب تراكم الممارسات الكارثية للسلطة البائدة في وضع سوريا في موضع الضعف، بل والهشاشة وتحت رحمة العقوبات الدولية التي ستعيق أي عملية جادة وشاملة لإعادة الإعمار والتعافي، وهو ما يجب أن تسعى السلطة الحالية لإيجاد الحلول المناسبة له على المستوى الداخلي بتخفيف، بل بمحاولة إنهاء التوترات والمعارك الطائفية والاجتماعية التي ستقودنا إلى الهلاك في حال استمرارها، مثلما تعمل على المستوى الإقليمي والدولي في إقامة علا قات سلمية متوازنة ومتكافئة.

عاشت وحدة السوريين على أساس المواطنة الكاملة في سورية الديموقراطية.

تيار مواطنة” مكتب الإعلام”

18.03.2025

—————————

هل انتهت الثورة وبدأ دور العمل السياسي في سوريا؟/ رامي العاشق

18 مارس 2025

مرت ثلاثة شهور على هروب الأسد، وانقضت معه عقودٌ من الظلم والأسى والاعتقالات والتعذيب، ومع استيلاء أحمد الشرع على السلطة، ووضعه إعلانًا دستوريًا يمركز السلطة المطلقة في يده، ولكنه في الوقت ذاته لا يجرم العمل السياسي أو حرية التعبير صراحة، يصبح سؤال العمل السياسي سؤالًا أساسيًا في زمن حكمه. سيحكم الشرع سوريا في الفترة الانتقالية ومدتها خمس سنوات، وإلى الآن، ما من شيء يمنعه من الترشح بعدها للانتخابات. ما هو دور ناشطي الثورة السورية في سوريا اليوم؟ هل انتهت الحركة الناشطية بسقوط النظام وستتحول إلى حركات وأحزاب سياسية؟ أم أن حالة النشاط الثوري والسياسي لا يجب أن تختفي بوصفها فعل حشد ورفض ونضال؟

التقينا مجموعة من الناشطين والناشطات، والصحافيين والصحافيات الذين كانوا جزءًا من الثورة السورية، بعضهم اعتقل، وبعضهم هُجر من بيته ومدينته، وبعضهم لم يترك وطنه أو حتى مدينته. حاولنا قدر الإمكان الأخذ بعين الاعتبار تنوع خلفياتهم، والمناطق التي نشطوا فيها على امتداد الخارطة السورية.

هل انتهت الثورة السورية؟

منذ اللحظات الأولى لهروب بشار الأسد، بدأ أحمد الشرع بتكرار عبارة “الثورة السورية انتهت”، وبذكاء بدأ يكرس هذه الفكرة، فأضاف إليها “الانتقال من فكر الثورة إلى الدولة”، ثم بدأ بابتلاع كل ما كان فيها، فحل الفصائل، وحل الهيئات السياسية والثورية، وألغى المعارضة السياسية باعتبار انتهاء سبب وجودها، واشترط أن يكونوا فرادى. استطاع الشرع “إقناع” كثيرين بهذه الفكرة التي بناها تدريجيًا، بعضهم قال إنها انتهت بهروب الأسد والآن وقت البناء، وبعضهم قال لا تنتهي الثورة إلا بتحقيق أهدافها في بناء الدولة المدنية ودولة المواطنة لجميع مواطنيها.

يقول صانع الأفلام عروة الأحمد الذي شارك في الثورة السورية منذ بداياتها في حمص: “الثورة من حيث الفكرة لم تنتهِ بعد بالتأكيد، بل هي مستمرة، إن كنا نتحدث عن الثورة الفكرية والمجتمعية، ولكن أدوات الثورة هي التي يجب أن تتغير، والعمل السياسي اليوم هو أحد أهم هذه الأدوات لتحقيق أهداف الثورة التي خرج السوريون من أجلها”.

من جهته، يقول الصحافي محمد السلوم ابن مدينة كفرنبل الشهيرة باللافتات الاستثنائية خلال سنين الثورة: “انتهى النشاط الثوري الذي كان منصبًا على كشف جرائم النظام ومحاولة ملاحقته دوليًا وتجريمه وإدانته. الحالة الثورية حالة غير منظمة وهي حالة ناشطية أكثر من أن تكون عملًا سياسيًا. التنسيقيات، انتهى دورها بعد السنة الأولى أو الثانية من الثورة، وأصبح وجودها رمزيًا من باب الحنين والذكريات، وأصبح الوجود الفعلي لسلطات الأمر الواقع المسلحة”.

رودي عثمان أحد أوائل الناشطين الذين ثاروا في دمشق يقول: “النشاط السياسي الثوري لم ينتهِ تمامًا، لكنه فقد فاعليته نتيجة عوامل متعددة: إطالة الصراع والخسائر المتكررة واللجوء وصعوبة التأقلم في حياة جديدة والخذلان المتعمد من المجتمع الدولي. هذه العوامل دفعت العديد من الناشطين الثوريين إلى الانسحاب من الفعل السياسي والاكتفاء بالأنشطة الرمزية مثل المظاهرات وإصدار البيانات”.

ليس هذا الحال لدى وضاح عزام، الناشط الذي لم يغادر السويداء طوال 12 عامًا الماضية، فمن وجهة نظره: “في فترة ما، غاب الحراك الثوري تمامًا، ثم أعيد إحياؤه من جديد كموجة ثانية قبل سقوط الأسد، لذلك أستطيع القول إننا عدنا إلى بداية العمل الثوري من جديد”. من جهتها تعتبر الصحفية سوسن أبو رسلان ابنة جرمانا: “أن النشاط السياسي الثوري ضروري لتعديل المسار والتأكيد على مطالب الثورة بالتوازي مع تنظيمات سياسية وتحالفات جامعة تعلو على الانقسامات والشقاقات، وتكون داعمة للحراك الثوري”.

إعلان الدستوري إشكالي

إصدار الإعلان الدستوري خلق بلبلة بين السوريين المهتمين بالسياسة، منهم من رآه خطوة دستورية لا مفر منها، ومنهم من رآه يمنح صلاحياتٍ كبيرةً للرئيس، فاعتبرته الصحفية سوسن أبو رسلان “نكسة لتاريخ سوريا النضالي نحو الديمقراطية والمواطنة”، ورآه وضاح عزام “ذهابًا باتجاه الدكتاتورية” بينما قال عروة الأحمد: “فيه نقاط يبنى عليها وأخرى إشكالية، أبرز الإشكاليات هي تعيين ثلث مجلس الشعب من قبل الرئيس، وتعيين الثلثين من قبل لجنة يختارها الرئيس، وهذه بلا شك نقطة سلبية. كما أتمنى أن أكون في دولة اسمها الجمهورية السورية من دون ربطها بأي مكون عرقي أو طائفي أو مذهبي. الدولة كيان جامع لا يجوز أن يكنى بما هو فئوي”. أما رودي عثمان فلم يجد إيجابية فيه سوى أنه “حدد الفترة الانتقالية بخمس سنوات”.

من جهته، يبدو أوس المبارك، الناشط المهجر من الغوطة الشرقية، أكثر حدة: “هذا الإعلان سيسمح للسلطة بإحكام قبضتها على مفاصل الدولة والتغول في صلاحياتها، ما ينذر بدكتاتورية تبنى أمام أعيننا. سيؤدي هذا إلى تنافر من باقي القوى السياسية في سوريا، وزيادة التمزق والصدام، وإبعاد الحلول التوافقية الممكنة، خصوصًا مع طريقة تشكيل الجيش الذي ليس سوى هيئة تحرير الشام نفسها بعد تسليم كوادره لقيادتها. هذا المسار “الدستوري” يجعل كل الأمور أصعب وينذر بخطر قادم!”.

تشكيل الأحزاب السياسية، حق نظري معلق بانتظار قانون

“تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقًا لقانون جديد” كانت هذه المادة 14-1 من الإعلان الدستوري. “هذه نقطة إيجابية” يقول محمد السلوم: “ولكن هذا غير كافٍ لتشكيل أحزاب قبل إصدار قانون الأحزاب”. ويتفق معه عروة الأحمد: “لا يمكن الحكم على موضوع الأحزاب السياسية إلا بعد صدور قانون الأحزاب وبنوده، وبناءً عليه يمكننا أن نعرف كيف سيكون شكل الحراك والعمل السياسي في المرحلة القادمة. العديد من الأحزاب تنتظر يوم صدور قانون الأحزاب لتبدأ ممارسة العمل السياسي وافتتاح مكاتبها وتنظيم كوادرها. أما أوس المبارك فيقول: “إذن علينا انتظار إصدار القانون الذي لا نعرف متى يمكن أن يصدر، بعد شهور أم سنوات!”.

أولويات الحركة السياسية بين المعارضة والانخراط في العمل السياسي

يرى أوس المبارك أن “أولوية العمل السياسي الآن هي معارضة هذا المسار والدعوة إلى إيجاد مسار تشاركي توافقي لإدارة المرحلة الانتقالية”. ويقول وضاح عزام: “أولوياتنا مواجهة سلطات الأمر الواقع ومطالبتها بإعادة السلطات المدنية للناس. العمل السياسي في مواجهة سلطات أمرٍ واقعٍ مسلحةٍ يعتمد بشكل كبير على القوى التي تقف خلف سلطات الأمر الواقع هذه”.

من جانبه، يقول محمد السلوم: “جاء وقت العمل السياسي المنظم، نعم، لكن فعليًا لا يمكننا القول إنه بدأ، وذلك لأسباب عديدة منها أن الأرضية ليست مؤهلة، والشروط ليست متوفرة لبدء عمل سياسي حقيقي. هناك العديد من المحاولات لإعلان حركات سياسية، ولكنها حتى الآن غير واضحة، وأصحابها لا يمتلكون أجندة نظرية وأرضية سياسية واضحة يتميز فيها هذا الحزب عن ذاك. هناك نوع من الاستعجال لملء مساحة فارغة، وإمكانية ممارسة عمل سياسي. هل هي جادة؟ برأيي حتى الآن لا نستطيع قول ذلك”.

بدوره، يرى عروة الأحمد أن العمل السياسي ممكن ويجب “البدء بتأسيس الأحزاب، افتتاح المكاتب، ودعوة المواطنين للانضمام”، ويضيف: “لا يوجد قانون أحزاب بعد، هذا صحيح، ولكن لا يوجد قانون يمنع تأسيس أحزابٍ جديدة. لا يوجد ما يمنع السوريين من اجتماعهم وتنظيم أنفسهم بانتظار صدور قانون الأحزاب”.

يخالفه أوس المبارك: “لقد قامت السلطة الجديدة بمنع عدة أنشطة سياسية وحقوقية في الأسابيع الماضية، كمنع مؤتمر العدالة الانتقالية الذي كان مقررًا في دمشق بمشاركة عدد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية وجهات أخرى وناشطين. والأهم من ذلك، قرار وزارة الداخلية بوجوب أخذ موافقة قبل عمل أي نشاط عام. أي لا حرية في الاجتماع والعمل العام إلا برضا سلطة دمشق. يبدو أن السلطة الحالية تعمل على منع أي عملٍ سياسيٍ منظم في مناطق سيطرتها”.

هل ثمة آفاق؟

يقول وضاح عزام متشائمًا: “في الثلاثة شهور الأولى، كان ثمة بوادر حياة سياسية جديدة، ولكن الإعلان الدستوري قضى عليها. تحديدًا المادة 23 من الإعلان الدستوري”. تقول المادة المذكورة: “تصون الدولة الحقوق والحريات الواردة في هذا الباب، وتمارَس وفقًا للقانون، ويجوز إخضاع ممارستها للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”.

في المقابل، يبدو عروة الأحمد أكثر تفاؤلًا ويعتبر أن: “الشعب الذي خاض صراعًا مع أصعب دكتاتوريات المنطقة، لا يمكن أن يلجمه أي تسلط سياسي، المناخ اليوم أكثر تشابكًا وأكثر انفتاحًا في الوقت ذاته. لا يمكن لأي سلطة أن تضبط مناخ الحرية والتعبير. نحن أمام مستقبلٍ حافلٍ بالعمل السياسي والاصطفافات السياسية وهذا شيء إيجابي، فقد شبعنا اصطفافات طائفية ومذهبية وعرقية. من الأفضل أن نتجه إلى اصطفاف الأفكار ووجهات النظر والأهداف والرؤى السياسية لمستقبلنا في بلدنا عوضًا عن فرزنا بناء على أشياء لم نخترها ولا يد لنا فيها”.

من جهتها، ترى سوسن أبو رسلان: “توجد آفاق مفتوحة للحياة السياسية الآن بالرغم من تقييد الحريات الواضح في الإعلان الدستوري، لكن شعبنا اكتسب خبرات كثيرة في الأعوام الماضية، إضافة إلى النشاط الواضح في منظمات المجتمع المدني التي لها دور رئيسي في تشكيل الوعي الجمعي والهوية الوطنية. من وجهة نظري، يجب على القوى السياسية الوطنية أن تتحالف لتكوين بوصلة محقة للشعب السوري للحفاظ على توجهنا الوسطي المعتدل”.

أما محمد السلوم فيقول: “لأول مرة منذ نصف قرن، يشعر المواطن السوري أن بإمكانه العمل في السياسة وأن يعطي رأيًا، وأن يكون لرأيه قيمة”. ويضيف: “السلطة نفسها غير منظمة سياسيًا، غير منتمية لحزب أو تيار سياسي واضح. هناك أصوات متفرقة وغير منظمة، وهذا طبيعي. نحن أمام أقل من أربعة شهور بعد سقوط النظام، وهناك حالة استقطاب عالية في الشارع، وثمة دفاع قوي عن السلطة، وأية محاولة تتعرض للتسخيف، لكن إقرار قانون الأحزاب مهم ليؤسس وينظم هذا العمل من جهة، ولكي تعترف السلطة بدور هذه الأحزاب ككيانات سياسية من جهة أخرى. السلطة تتعامل حتى الآن مع أفراد، وهذا لا ينبئ بخير، فإن ذهبت السلطة بعد إقرار قانون الأحزاب للتعامل مع تيارات سياسية عوضًا عن الأفراد، وبدأنا نرى حياة سياسية، سيكون الأمر جيدًا. حتى الآن ثمة نوايا طيبة وطموحة، ولكن لا شيء ملموس يساعد على الانتقال من مرحلة النوايا الطيبة إلى الواقع، وأفترض أن قانون الأحزاب سيزيل هذا الضباب”.

يختتم رودي عثمان: “أتوقع ظهور العديد من الأحزاب، المنتديات، والمبادرات السياسية خلال الفترة القادمة، بشرط انعدام القمع الأمني والاغتيالات والتفجيرات بحق النشطاء السياسيين. ستشهد سوريا نشاطًا مدنيًا وسياسيًا مكثفًا لفترة، لكن هذا سيتبعه تراجع طبيعي قبل أن تستقر المجموعات السياسية على شكلها وطريقة عملها النهائية. أتمنى أن تبقى السلطة الحالية منفتحة على النشاط السياسي السلمي، وألا تجرم العمل السياسي أو تقمعه”.

الترا سوريا

————————

==========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى