فادي جومر: رحل الأسد بلا ريب ولكن هل سقط النظام؟

رامي العاشق
2025.03.17
“العالم أقلّ إنسانية من أن تشعر تجاهه بالإحباط”.
“نجوتُ من برلين وعدتُ إلى ديرعطية”.
“هرِم الجميع عقداً طال كقرنٍ من الزمان في غيابي، إلا الكرم، لقد ازداد شباباً وبهاءً”.
“الجوع اليوم، خير من اللجوء للبنك الدولي وتجويع أحفاد أحفادنا”.
“الشعر بالمحكية في سوريا مهمل، لا حركةً نقديةً تواكبه، ودور النشر والصحافة تهرب منه”.
بعد أقلّ من شهرين على سقوط الأسد، غادر الشاعر السوري فادي جومر من مواليد دمشق 1979، صاحب “الشام إلها نبي” العاصمةَ الألمانية برلين، سلّم بيته، وحزم حقائبه بشكل نهائي، وعاد إلى ديرعطية.
يحمل جومر إجازة في الاقتصاد قسم إدارة الأعمال، وماجستير في الإعلام، وماجستير في العلاقات الدولية.
أنجز في منفاه الكثير، أصدر ديوانه الأول، وكتب أوبرا “كليلة ودمنة”، و”منطق الطير”. ترجمت نصوصه إلى لغات أوروبية، ولكنه لم يكن سعيداً، وتوقف عن الكتابة واعتزل الناس.
عن العودة والكَرْم، عن سوريا والاقتصاد، وعن الشعر كذلك، التقاه موقع تلفزيون سوريا وكان هذا الحوار:
بدايةً، كنت منكفئاً ومتوقّفاً عن الكتابة لفترة طويلة، وكنت متشائماً وفاقداً الأمل في التغيير مثل كثيرين. هل تغيّر شيء في هذا؟
الانكفاء والإحباط مسألة مركّبة من ثلاث مستويات: شخصيّ، ووطنيّ، وإنسانيّ.
على المستوى الشخصي أعيش حالة تيار جيبي صعوداً وهبوطاً، وللأسف تزداد العلاقة مع الجنس البشري ريبةً وشعوراً بالذعر. والأمل بالتغيير يكاد يصل إلى حالة صفريّة، يحلّ محلّها تركيز أعلى في البحث عن دائرة ضيّقة تشكّل بيئة آمنة، تضيق يوماً فيوم، حتى تكاد تقتصر على أشخاص مُتخيَّلين في فترات طويلة.
تقفز ذكريات الخذلان السابق مع كل بشريّ ألتقيه لأول مرة فأجد الأبواب موصدةً دون إرادة، كيف يمكن أن تسير خطوةً إلى الأمام في درب الآلام هذا؟ أو كيف تكتب عنه؟ المسألة صارت مرتبطة بـ لا جدوى الكتابة، أكثر منها بالألم الذاتي.
على المستوى الوطني، بدا أن الوضع السوري وصل طريقاً مسدوداً، وتحوّل الشعب السوري إلى شعب لا حياة له إلا بالهجرة، حتى بدء التحرير الذي قلب كل المعايير، ولا أُنكر أنّ نشوة النصر لعبت برأسي في الأسابيع الأولى، لكنّ ما تلا ذلك لم يحمل بوادر الأمل المرتجى: السلطة لا ترى الشعب إلا كرعايا، نتسول منها تصريحاً أو موقفاً يشرح ما يجري في بلد يواجه كل يوم استحقاقاً مصيريّاً، والشعب “المنتصر” يحمل خطاباً في كلّ مفردة منه تسلّط مرعب. جملٌ تعلن هوياتٍ دينيّةً ما قبل وطنيةٍ أو تاريخيةً بائدةً لا معنى لها، محطاتٌ تلفزيونيةٌ محسوبة على الثورة تعرض أعمالاً من بطولة ممثلين دبكوا ورقصوا في سيرك الأسد طيلة سنوات المجزرة، شاهدت منذ يومين مشهداً من عمل دراميّ قد يختصر كل الموقف: مشهد جمع منى واصف مع دريد لحام. لحسن الحظ كان الصوت مكتوماً ونجوتُ من الضحكات المصطنعة بأداء تمثيليّ طلائعيّ المستوى على وجوه نجميّ الضفتين. ولكن السؤال ظلّ مدويّاً في رأسي: رحل الأسد بلا ريب، ولكن هل سقط النظام؟
على مستوى الإنسانية: شاهدت بعيني رأسي وعبر الشاشات طيلة أربعة عشر عاماً إبادةً همجيّةً للأغلبية السنّية في بلدي، لم أسمع فيها صوتاً عالمياً يعترض على إبادة عرقيّة أو طائفيّة. ما إن سقط النظام، وبدأ مئات آلاف الضحايا من الأغلبية الدينية المسحوقة يبحثون عن عظام أبنائهم في المقابر الجماعية، حتى أطلق العالم “المتمدن”، المتحكم بكل علبة دواء أو تحويل 100 يورو من لاجئ لأهله، نداءاتٍ تطالب السلطة الجديدة بضمان حقوق الأقليات! وتضع هذا شرطاً لفكّ العقوبات.
ماذا سأرجو من هذا الكون؟ منظمةً غير ربحيةٍ تموّل مشروعاً لحماية طائر أبي منجل؟
العالم أقلّ إنسانية من أن تشعر تجاهه بالإحباط. هذا عالم لا يمكن مواجهته إلا بانتظار أن يأكل نفسه كما فعل مراراً.
تركتَ برلين، وعدتَ إلى ديرعطيّة، ما الذي تغيّر عليك؟
أنا لم أكن أعيش في برلين. كنتُ معلّقاً فيها كدودة صيد في طرف صنارة. أُفضّلُ القول: نجوتُ من برلين وعدتُ إلى ديرعطية: رأيتُ الشمس، شاهدت بشراً يحب بعضهم بعضاً، ويمدون قلوبهم شبكة أمان إنساني واسع صادق ودون عقد تفوق أو تصنيفات كتصنيفات الأمراض الفيروسية للسلوك البشري. في ديرعطية شاهدتُ في استقبالي دمعاً في عينيّ جار لم أسكن بجواره إلا عاماً واحداً قبل ستّة عشر عاماً. عاد دفق أبناء العمومة والخؤولة إلى شراييني، استمعتُ إلى بشر لا يتعاملون مع الحب كأنّه جذام، يرون العائلة وطناً وقضية وانتماء. عدتُ إلى ديرعطية، قريتي، زرتُ كرم أبي، ثمة ما هو ساحر في الكروم، يمرّ الزمان قاسياً على كل شيء وكل أحد: إلا الأشجار، فهي تزداد جمالاً وصباً وفتوةً، هرِم الجميع عقداً طال كقرنٍ من الزمان في غيابي، إلا الكرم، لقد ازداد شباباً وبهاءً.
في ديرعطية شربتُ نخباً للحياة والنصر والموسيقى مع أبي، نخباً كنت قد روضّت نفسي أنّ شراكة الأوروبي والأسدي قد حرمتني منه إلى الأبد، كان هذا الكأس ككأس ماء الحياة، لقد أعاد الروح لجثة الحلم الهامدة، تقطّر السائل السحريّ في أرواحنا مع الكثير من ياس خضر للذاكرة ولمسات من حفلة عبد المجيد عبدالله في البحرين للجِدّة. همس العجوز بمزاجه العالي وصوته الصابر واصفاً الجمهور: “متّاخدين مع الموسيقى.. ” وكنتُ أنا مأخوذاً بلمعان عينيه. هذه شمس أخرى أعود إليها.
أختصرُ ما تغيّر علّي: خرجت من صندوق بريد معدني مليء بالفواتير والتعليمات والأسئلة إلى كل هذا الجمال.
وماذا يفعل فادي جومر في سوريا اليوم؟
في سوريا ما زلتُ أتعاطى الدفء والحب، مع شيء من العمل نحو بناء شبكات اجتماعية قادرة على حماية ذاتها وأفرادها دون اعتماد على الدولة وبعيداً كل البعد عن فوقية المنظمات الدوليّة وسمّية المجتمعات البيضاء ووصايتها الهمجية.
لعل هذا العمل يسير رويداً رويداً نحو التكامل والثبات، بأيد، قلوب، وعقول سوريّة، بل أكثر من ذلك، أيدٍ وقلوبٍ وعقولٍ مغرِقةٍ في المحلّية حتى النبض.
قلّما نجد شاعراً مهتمّاً بالاقتصاد، بل إنك توليه أهميةً أكبر من قضايا السياسة والحكم. ما هي رؤيتك لواقع سوريّ اقتصادي متهالك؟
تعلّمت من الحياة في ألمانيا والاحتكاك مع المؤسسات التي تدعي رعاية الأدب القادم إلى بلاد الحرية حبواً كطفل بلا أقدام، تعلمت بقسوة كيف يكون المال لجام العقل والحرية والفكر، بل شاهدت كيف يستطيع عبر حنان “المنح” ولطف “النشر والترجمة” أن يقولب النصوص والأفكار والقلوب.
لا حريّة إلا لمن ينتج قُوُتَ يومه.
أضفْ إلى هذا تخصصي الأكاديمي في إدارة الأعمال والاقتصاد، ما جعل الرؤية أكثر وضوحاً كما أعتقد. لا مكان لشعر أو لمسرح أو رواية في بلاد لا يدفع مواطنوها ثمن كتاب أو بطاقة مسرحية، لا أنفي هنا إمكانية إبداع نتاج عبقري دون تحقق هذا الشرط، ولكن إبداع النتاج لا يضمن إطلاقاً أن يجد مكاناً له. قد ينصفه التاريخ أو بلاد أخرى.
في الواقع الاقتصادي السوري أعتقد أن تركيز الجماعات المحليّة الصغرى، على مستوى قرى أو بلدات، على حلول للنجاة الفردية والسعي لتأمين الخدمات ذاتياً هو الحل الأكثر ضماناً للنجاة. والتركيز على بناء الاقتصاد بعيداً عن عقلية المساعدات والعمل الإنساني، والانتقال إلى العمل الاستثماري، مع تجنّب المشاريع الصغيرة والسعي لتجميع المشاريع في نمو أفقيّ وعموديّ معاً، بذهنية الصناديق الاستثمارية والأسهم التي تجعل من فكرة الملكية العامة فكرة عقلانية، هو طوق النجاة.
ربما، يكون الحل المفتاحي في اعتماد المجتمعات المحلّية على خبراتها المحلّية، داخل الوطن وفي المهجر، في تقديم أفكار لمشاريع تناسب البيئات المحلية، وتستهدف التصدير قبل السوق المحلّي. عودة إلى الزراعة والصناعات المرتبطة بها، إحياء الصناعات العريقة كالغزل والنسيج والصناعات المصرفية وغيرها التي سحقها غول التأميم الناصري وأجهز عليها البعث الإشتراكي. وأخيراً: الجوع اليوم، خير من اللجوء للبنك الدولي وتجويع أحفاد أحفادنا.
وماذا عن الشعر؟
هذه انعطافة كبرى في الحوار، الشعر يبدو غريباً في أرضه اليوم، أنا أكاد لا أراه إلّا كما أرى سائحاً يحب ارتداء العباءة لصورة تذكارية، ويعود ليشاهد فيلماً غربيّاً ينمط العرب في عباءات.
تكتب بالمحكيّة السوريّة، وهذا مجال ذهب إليه قلّة، كيف ترى واقع شعر المحكيّة اليوم؟
قد يكون الشعر بالمحكية أقل اغتراباً، لكنّه في أحسن أحواله ضيفٌ ثقيلٌ على الفضاء الثقافي العام، فهو لا يناسب الصالونات المثقلة بالياقات البيضاء الذاهبة نحو الاندثار، ولا ينسجم مع غرائبية المستورد -نصّاً وفكراً وحتى مظهراً- القادمة كمطر من صباغ يغير كل لون حتى لون البحر.
الشعر بالمحكية في سوريا مهمل، لا حركةً نقديةً تواكبه، ودور النشر والصحافة تهرب منه، ويتعامل معه شعراء المنح البيضاء والطلسميات الحداثوية بفوقية لا تحتمل، فأكثرهم اطلاعاً يتحدث عنه باعتباره زجلاً جميلاً. ولا يتورّع آخرون عن اعتبار أي شعر بالمحكية مزيجاً من مظفر النواب وطلال حيدر -على استحالة هذا المزج بالمطلق- والسلام.
على أية حال… يجد الشعر بالمحكية ملاذه الدافئ في ترداد الناس لنصوص وأغنيات من عيون الشعر، ويأتي مقتله من سطحية تعامل المؤسسات الفنية والثقافية معه كروح للشعب وصوت لحناجره الصامتة.
في سوريا: لدينا عبد الرحمن نجمة، فؤاد أيوب، بشار عبد الله الحسين، وآخرين، ثم تجد شارة مسلسل قد يكون الإنتاج الأضخم لهذا العام: من كلمات وألحان وغناء: الشامي.
ساقنا الحديث إلى نهاية تختصر كل اختصار:لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تلفزيون سوريا