هكذا فارقنا مكتبتنا الثمانينية في اللاذقية/ الوليد كردية

18 مارس 2025
ثمانون عاماً في العمل المكتباتي لم تشفع لنا أن نستمر. فكان الفراق الذي أدماني ذلك اليوم في سورية المحطّمة والمسلوبة. لم أتخيّل يوماً أنني سأكون في هذا المكان عارياً من اسمي ومن هويتي، واقفاً أنظر إلى ذلك “الغلق” المظلم الذي تقبع وراءه حكايات وحكايات، وقد أصبحت ذكرياتٍ فقط. رفوف باهتة يعلوها غبار بلد يغصّ بالأنقاض، وأيضا كثير من حكايات الموت والاعتقالات، ربما كنتُ قد نجوتُ في تلك اللحظة في الهروب من المعتقل الكبير المدعو “سورية الأسد”، ولكن ثمن النجاة كان باهظاً جداً. لقد أغلقت مكتبة كردية أبوابها، وربما إلى الأبد.
بدأ جدّي، الحلاق والشيوعي الأول والأخير في العائلة يوسف كردية، هذا العمل عندما حوّل محلّ الحلاقة إلى مكتبة لبيع الصحف والمجلات في جبلة في حي الجبيبات. أعوام مرّت، وتحديداً في نهاية الستينيات، اضطرّ فيها للانتقال إلى اللاذقية تحت ضغط سياسي وعائلي، سياسياً لكونه شيوعياً بين ناصريين وبعثيين حيث هوجم مرّات، وكسرت المكتبة والمنزل أيضاً في إحداها.
وعائلياً بسبب كبر العائلة وعدم كفاية العمل في جبلة، المدينة الصغيرة التي لم تكن وادعة لعائلتنا. هناك في اللاذقية، افتتح المكتبة الأولى في حي العنابة، ولتبدأ رحلتنا في هذه المدينة البسيطة، ليستمرّ أعمامي رفقة والدي أنيس كردية، بإرث والدهم. تخلّى أعمامي لاحقاً عن هذا الحمل ليستمر به والدي وحيداً، ومن ثم وصولاً إليّ بعد عودتي من سنوات السفر في السعودية.
لم تكن علاقتي مع الكتاب عادية، بل كانت دوماً عاصفة فكرياً ووجدانياً. كان الكتاب دوماً المحرّك الأساسي في عمليات التحديث الفكرية العقلية التي مررتُ بها على مدار سنوات نُضجي. بدأت القراءة منذ كنتُ في المدرسة الإعدادية، أكثر ما كان يلفتني في مكتبتنا المنزلية الكتب الدينية ذات الأغلفة الجلدية الجميلة المزخرفة.
أول كتابٍ التهمته حرفياً كان كتاب الجنرال الباكستاني أ. أكرم “خالد بن الوليد: سيف الله المسلول”. كانت قراءاتي حينها قليلة، ولم تكن بالكثافة التي أقرأ بها في الأعوام الأخيرة. جاءت نقطة التحوّل الكبيرة في رحلتي مع القراءة والمعرفة كما في حياة الملايين من شباب الوطن العربي، مع اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، ومنها ثورتنا السورية العظيمة.
في ذلك الوقت، عملتُ نادلاً في أحد المطاعم الأرمنية الفاخرة في جدة في السعودية. عندما قرّرتُ أني أريد أن أقرأ “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف. سحرني اسم الرواية في وقت كانت القلوب تتلهّف على ما يحدُث في ثورتنا في أشهرها الأولى، وكنت أعلم أن الرواية أدب سجون، فقرّرت البدء بقراءتها. كنتُ أسرق لحظات هدوء الزبائن لأتلصّص على هاتفي المحمول، وأقرأ صفحتين أو ثلاثاً منها. أجلس في وقت الاستراحة، وأقرأ ربع ساعة إلى نصف ساعة، ثم أعود إلى المنزل، وأكمل القراءة. أيام وأيام مضت، وسنوات انقضت، كتابٌ إثر كتاب، وصفحاتٌ إثر صفحات، يحلّق خيالي وعقلي في كل كتاب، أغوص في رائحته وملمسه، ولم يشبع نهمي يوماً.
نقلتني المعرفة من حالٍ إلى حال، وغيّرت شخصيّتي من شخصٍ إلى آخر، وجعلتني أشعرُ بما لا يشعُر به الآخرون، وأفكّر في ما لا يفكّرون فيه، وأحلّل وأزن كل شيءٍ في ميزان المعارف التي اكتسبتُها، تعلّمت الكثير عن التاريخ والسياسة والبلدان والحضارات والثقافات، وكلّما قرأتُ موضوعاً ما، اكتشفتُ أني لا أفقه فيه شيئاً فأغوص أكثر وأكتشف أكثر. إنها رحلة معرفية مذهلة ما زالت تأسرني مع كل مقدّمة كتابٍ أفتحه. مثالاً، آخر اكتشافاتي كانت في تاريخ سورية، ما أن أنهي كتاباً حتى أجدني قد انتقلتُ إلى كتابٍ آخر كمصدر لذلك الكتاب. وهذا هو جوهر القراءة، أن تبقى تلاحق المعلومات وتلاحق المعرفة غير المنتهية. كلما قرأتُ أكثر عرفتُ أكثر، وكلما زادت حقيقة معرفتك أكثر، ازداد الشعور بعدم المعرفة، معادلة لا توجد إلا في هذا العالم الساحر، عالم الكتب.
بعد عودتي إلى سورية إثر وفاة والدي رحمه الله، استلمتُ إدارة المكتبة، وبدأتُ بناء كل شيء من الصفر. كان كل شيء صعباً ومُحبطاً، ولا أدري من أين أبدأ. كان تصميمي وطموحي أكبر من كل شيء واجهته. ربما كان نجاحي الأكبر ليس في أنني أعدتُ إطلاق المكتبة بشكلٍ ناجح على مستوى البلد، وجعلها الأكثر متابعةً على صفحات السوشيال ميديا، وإنما في قدرتي على إقناع الشباب بالكتب التي أريد ترويجها. فبينما كان التيار الجارف يسير في اتجاه الكتب الصفراء للتنمية البشرية والروايات الفقيرة المحتوى. كانت رؤيتي إلى المكتبة تتجه نحو الكتب العلمية والفكرية، في علم النفس والفلسفة، والروايات السورية والعربية والكلاسيكية والحديثة.
لك أن تتخيل أنه خلال أسبوع من توزيع كتاب يوفال هراري “الإنسان الإله”، بعت مئة نسخة في اللاذقية وحدها، وخلال شهر مئتين، وفي غضون ثلاثة أشهر وصلت إلى 300 نسخة. وهذا يستدعيني لذكر استدعائي لفرع أمن الدولة في اللاذقية على خلفية تقرير كيدي لأنني أبيع هذا الكتاب والمرخّص أصولاً في الجمهورية العربية السورية من وزارة الإعلام، أذكر سؤال المحقّق، عن عدد النسخ التي بعتُها من الكتاب، فأجبته بأنها لا تتجاوز مئة، فكانت ردة فعله: أوف وكيف سنعيد تلك الكتب؟ فأجبته: سيدي، لا أعلم، لا أملك قاعد بيانات للزبائن، ولكنني يمكنني أن أعطيك نسختي الموجودة في المنزل.
يحيلني هذا التحقيق، الذي جرى في رمضان 2021 في فرع أمن الدولة في اللاذقية، لأذكر بعض أسباب إغلاق مكتبة كردية. جاء رمضان حينها قبل شهر من يونيو/ حزيران 2021 الموعد الكارثي لتطبيق عقوبات قانون قيصر على سورية، وقبله بأشهر، مصادرة أموال رامي مخلوف، ابن خالة الهارب بشّار الأسد.
بين مصادرة أموال مخلوف وتطبيق عقوبات قانون قيصر، انهارت الليرة إلى ما يقارب 1500 مقابل الدولار، إلى أن وصلت مع بداية عام 2022 إلى ما يقارب الثلاثة آلاف. كان هذا العام بمثابة جرس الإنذار للهزيمة في البلد، للهزيمة أمام المقاومة، وأمام الصبر. انهارت الليرة السورية، وتضاءل رأس المال، وارتفعت أسعار الكتب بشكل جنوني، انهارت الكهرباء، وفرضت العقوبات علينا. وبالتالي، لم يعد باستطاعتي بيع الكتاب داخل سورية، ومنعنا من شحن الكتب إلى خارج سورية. وطبعا كان الخوف من الاعتقال هاجسي الأكبر بعد ذلك التحقيق المشؤوم.
وبعد دراسة متأنية جداً، اتخذت قرار إغلاق المكتبة، والسفر إلى الإمارات. وكان ذلك قبل نهاية عام 2022 بأشهر. وعندما أعلنت قبل أيام من نهاية العام عن إغلاق المكتبة، أخذ يومها الخبر بعداً ضخماً لم أتوقّعه، وتناقلته وسائل إعلام محلية وعربية معارضة للنظام السوري البائد، بعنوان “المكتبات في مناطق النظام تغلق أبوابها” وللأسف، كانت الحقيقة أقوى من الدعاية، فلم تكن مجسّمات وأوهاماً. هاجت وماجت عناصر الأمن السياسي في المكتبة، مع سؤال: لماذا ستُغلق وكيف تغلق؟ والأسئلة التي لا تنتهي، وكأنهم يخافون على مصلحتي. ثم استدعاني تلفزيون أوغاريت لإجراء مقابلةٍ أوضّح فيها أسباب الإغلاق، وكان المطلوب مني أن أصرّح بأن الإغلاق جاء بسبب المؤامرة الكونية على سورية، فيجب أن أقطع الطريق على وسائل إعلام الفتنة والمؤامرة على بلد الأسد.
وكان الذي كان.. وكيف لنا أن نتوقّع ما سيحدث؟ وكيف لنا أن نتوقّع أن ما حدث في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي كان سيحدث بهذه السرعة الجنونية؟ ولكن هناك وقائع وحقائق وأحداثاً أدّت إلى ذلك كلّه بشكلٍ لا يتوقعه أحد. وأنا أيضاً لم أتوقع أنني قد أعود يوماً لأفتح المكتبة. وأعدكم أن العودة قريبة، وستعود “كردية” لتفتح أبوابها. ولكن هذه المرّة في بلد حر. في بلدٍ بلا الأسد وأبدِه.
العربي الجديد