أبحاثدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

الوساطة العسكرية الأميركية بسوريا.. بين التنافس الإقليمي والتدخل الدولي/ مهيب الرفاعي

الأربعاء 2025/03/19

بعد سقوط نظام بشار الأسد، تقف سوريا عند مفترق طرق حاسم على مستوى العلاقات الدولية، والذي نتحدث فيه عن علاقة الإدارة الجديدة بالقوى الفاعلة في سوريا سواء على الصعيد العسكري او السياسي بين طرفين: الأول كان داعماً لنظام الأسد كإيران وروسيا، والثاني الذي كان يعمل على تقويضه كبعض دول الخليج العربي وتركيا وأميركا؛ ومستوى العلاقات الداخلية الذي تتداخل فيه الروابط بين إدارات النظام السابق واستشراف مستقبلها عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، والتركيز على حوكمتها وإعادة بنائها، وبين الفصائل العسكرية المحلية العاملة على الأرض بمختلف مشاربها و مصادر تمويلها وتنوع رعاتها.

وإذ تسعى إدارة الرئيس الشرع إلى تعويض الفاقد الأمني والعسكري، على أقل تقدير، في ظل التوترات الأخيرة في البلاد، لا سميا في الساحل وفي الجنوب السوري؛ وجدت إدارة ترامب مدخلاً إلى سوريا الجديدة مستغلة سطوتها في المنطقة عموماً بدءاً من حالة الحرب على غزة عقب طوفان الأقصى ومحاولات فرض وصاية على قطاع غزة، وصولاً إلى لبنان وتمرير رسائل عبر مبعوثيها إلى بيروت، و ليس انتهاءً بدمشق ومساعيها لخلق تفاهمات ومصالحات  جديدة ، ومباركتها الاتفاق  بين الحكومة الجديدة وإدارة قوات سوريا الديمقراطية، لتشارك واشنطن بقوة في صياغة واقع سوريا بعد انهيار مجموعة أنظمة تقليدية وحركات عسكرية كانت إلى مدة قريبة عثرة أمام جهود واشنطن لتوضيب المنطقة من جديد.

الوجود الأميركي في سوريا

كانت القوات الامريكية سباقة إلى سوريا عام 2014، من بوابة قتال تنظيم “داعش”، في عمليات أطلق عليها اسم “العزم الصلب – Inherent Resolve” ليصل تعداد الجنود الأميركيين في القواعد الأميركية المنتشرة شرق سوريا إلى حوالي ألفي جندي، لكن دون خط زمني ومهماتي واضح لهذه القوات لا سيما بعد سقوط نظام الأسد ووضع أسس جديدة وجدّية للتحول السياسي في البلاد. حجة واشنطن الأساسية في سوريا وسبب وجودها –بحسب روايتها – هو القضاء على “داعش”، حيث أعلن ترامب في ولايته الأولى إنجاز المهمة وأنه يخطط لتقليص قوته في سوريا بالنتيجة؛ ولكن يبدو أن “داعش” أعاد تنظيمه مجدداً وضربت القيادة المركزية الأميركية حوالي 75 نقطة/هدفاً للتنظيم الذي استغل الاضطرابات الأمنية لإعادة الانتشار والتموضع في المنطقة الشرقية والبادية السورية. هذا التوسع يعيد القلق من التنظيم (إن لم نسلم أنه صناعة أميركية) وأن واشنطن مُربكة حول وجود قواتها في ظل دعوات داخلية أميركية لتقليص عدد الجنود والاكتفاء بحوالي 500 جندي في نقاط مراقبة فقط، وعدم زج القوات الأميركية في سوريا ومعاركها من جديد.

يفرض التدخل العسكري الأميركي في سوريا حالة من التوازن في ظل وجود القوات الروسية والتركية والإيرانية، وتداخل المصالح وحسابات الربح والخسارة على الصعيدين العسكري والسياسي. لكن الملفت للانتباه هو تحول الخطاب من عسكري إلى سياسي-دبلوماسي يراعي تغيير النظام الحاكم في سوريا، ويراعي توجهات الإدارة الجديدة في الحفاظ على سوريا بدون تقسيم وفيدراليات، مع الحرص على ضمان سير عملية الانتقال السياسي والناتج يكون دولة مستقرة تتماهى مع ملامح المنطقة الجديدة، دون محاباة لأي من القوى الفاعلة في سوريا ولا سيما تركيا وروسيا، الذين يشكلان قلقاً لواشنطن، إلى حد ما. هذا الانتقال مهدت له حوارات وزير الخارجية الأسبق أنتوني بلينكن الذي قال إن الدبلوماسية والقيادة الأميركية جادّة في توجيه مسار سوريا الجديدة نحو أهداف تخدم الصالح العام السوري.

طبيعة هذا الحوار مطمئنة بالنسبة للإدارة السورية الجديدة التي تسعى جاهدة لتوحيد  الفصائل المتناحرة والمتشعبة في أهدافها وإرساء استقرار دائم في البلاد، لا سيما بعد النجاح النوعي والمباركة الأميركية لضم المقاتلين الأكراد إلى صفوف القوات السورية الجديدة؛ والرغبة الملحة لمعالجة ملف الجنوب السوري؛ حيث  لعبت القوات العسكرية الأميركية دوراً مؤثراً ولكنه غير معلن في هذه العملية، حيث تقوم القيادة المركزية الأميركية بتسهيل الاتفاقات بين مختلف الجماعات العسكرية السورية لتجنب عودة الصراعات المسلحة وفقدان السيطرة.

دور الجيش الأميركي في الوساطة

تجاوز تدخل الجيش الأميركي في سوريا نطاق العمليات العسكرية التقليدية، ليشمل جهوداً دبلوماسية تهدف إلى المصالحة بين الفصائل والكتل العسكرية المتنازعة في سوريا. هذا الملف مهم جداً بالنسبة لحكومة دمشق الجديدة التي تسعى إلى تقليص الفراغ الأمني، في الوقت الذي لا تزال فصائل مسلحة تعمل وفق مصالح متضاربة ووفق أجندات تعيق أي تقدّم حقيقي في جهود التعافي السياسي والاقتصادي والأمني؛ على الرغم من انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى، وبالتالي فإن وجود جيش موحد هو عنصر أساسي لاستعادة السيادة وضمان الأمن على المدى الطويل. في البداية، اعتمدت الإدارة الجديدة والتي كانت متمثلة بـ”إدارة العمليات العسكرية” على ذاتها في عملية بسط الأمن في البلاد، ووجهت دعوات لفصائل المعارضة السورية المسلحة لحل نفسها والاندماج في جسم عسكري واحد ومحترفو تجاوز جميع الانقسامات؛ لكن هذه الدعوات لم تلقَ تجاوباً كبيراً من الفصائل، لا سيما فصائل الجنوب السوري وقوات سوريا الديمقراطية، والتي تشكل بحد ذاتها جيشاً كان إلى مدة قريبة يسعى للانفصال عن سوريا ويعد لمعركة مع الجيش السوري الجديد.

مع هذه التطورات، ومع تعدد الضامنين في سوريا، تدخلت أميركا التي غازلت الإدارة السورية الجديدة ورفعت وصمة “الإرهاب” عن “هيئة تحرير الشام” التي شكلت نواة العمل السياسي والعسكري الحالي، ومدّت يدها لتبارك وترعى الجهود الرامية للمصالحات في البلاد عموماً؛ وهو نسق سياسي-عسكري توافقي كانت قد عملت عليه روسيا أيام نظام الأسد وعارضته أميركا حينها. فمن خلال وجودها الاستراتيجي في سوريا، قامت أميركا برعاية اتفاقات حاسمة بين الحكومة السورية الجديدة والمقاتلين الأكراد المدعومين من أميركا ذاتها، بحيث تهدف هذه الاتفاقات إلى توحيد الفصائل والمساهمة في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد وفق مبادئ تشاركية تحصل بالنهاية دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز والهيئات المحلية.

بالإضافة إلى ذلك، عملت أميركا على تسهيل الحوار بين فصائل جيش سوريا الحرة، الذي ينشط بالقرب من قاعدة التنف العسكرية الأميركية ويحظى برعاية من واشنطن، وبين الجماعات الإسلامية العسكرية التي انضمت إلى الحكومة الجديدة في مناطق تدمر والبادية السورية لمنع الانزلاق مجدداً في حرب الصحراء التي قد تعقد جهود مكافحة الإرهاب ضد فلول داعش والجماعات المتطرفة الأخرى؛ وهذا ما أكدته صحيفة “The Wall Street Journal” في تقريرها حول الفصائل العسكرية في سوريا ووساطة أميركية في البلاد.

في هذه المرحلة يعمل الضباط الأميركيين الموجودون في قاعدة التنف على ترتيبات دمج جيش سوريا الحرة مع الجيش السوري، بما يضمن استمرار وجوده كونه جماعة معتدلة ليست متطرفة أو إيديولوجية، ويسهل مواجهة فلول “داعش”، وكونه فصيل عسكري تلقى تدريبًا أميركياً شاملاً في قواعد غرفة “موك” في الأردن وقدمت له أسلحة نوعية تشمل مسيرات ومضادات طيران ومضادات دروع وعربات صحراوية. يقنع جنرالات قاعدة التنف، وأبرزهم جوزيف فوتيل، المسؤول العسكريين في جيش سوريا الحرة ببناء علاقات جيدة مع حكومة دمشق الجديدة، ليتمكنوا بذلك من الدخول إلى العمل العسكري في سوريا بصفة رسمية. ما يهم أميركا من هذا العمل هو ضمان التحكم بالمنطقة الوسطى والبادية عن طريق جنود سوريين رسميين ونظاميين لكن لهم ولاء لها بما يضمن أمرين رئيسين: البقاء بالقرب من مصادر النفط والفوسفات في سوريا، والبقاء أمام المد الإيراني وقطع طريق تسليح أي من الخلايا النائمة لميليشياتها في المنطقة والتي تبخرت بأسلحتها ليلة 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. عمل هذا الجيش على ملء الفراغ الأمني في المنطقة الوسطى عقب سقوط نظام الأسد وفرار جنوده من ثكناتهم المحيطة بتدمر وريف حمص الشرقي وصولاً إلى الحدود مع الأردن.

ردود الفعل الإقليمية والمخاوف

وعلى الرغم من المواقف الدولية المتباينة حول هذه الاتفاقيات والمساعي التصالحية، تمثل هذه الوساطات عموماً والاتفاق بين الأكراد والحكومة السورية خصوصاً، خطوة كبيرة نحو تعزيز الوحدة والسيطرة السياسية، وهو خطوة ضرورية لحل المشكلات الإدارية والسياسية العالقة، كما أنه يعكس التزاماً بإنشاء دولة سورية موحدة تتماشى مع الخطاب العام الذي تروج له إدارة الرئيس الشرع. بالنسبة لتركيا، وموقفها مهم للغاية، فإنها لم تكن راضية كل الرضى عن هذا الاتفاق، كون قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني عدوان للدولة التركية، وتتعارض مع رؤيتها الاستراتيجية للجنوب التركي ومسائل الأمن القومي وحماية الحدود من أي محاولات انفصالية، وإن أبدت موافقتها، إلا أن أنقرة حذرة للغاية من هذا الاتفاق وبنوده التنفيذية لا سما البنود المتعلقة بالسلاح وطريقة الاندماج (ككتلة ام كأفراد) وغيرها.

أما إيران، فإنها بالرغم من ضعفها في سوريا، فإنها تسعى بكل جهدها لمعارضة أي محاولات إدماج لفصائل عسكرية وحلها، لإبقاء حالة التقسيم هي الطاغية في سوريا وحالة الميليشيات وحروب الوكالة هي السائدة، كون الاستقرار يضر بمصالحها ونفوذها في المنطقة. ذات الأمر بالنسبة لإسرائيل، التي تعارض فكرة إنشاء جيش سوري موحد ينتج عن توافق في القرارات العسكرية، يجعل من سوريا دولة قوية من جديد وتهدد مشاريع تل أبيب التوسعية ولهذا فإنها تضع ثقلها في الجنوب السوري لدعم رفض الانضمام للحكومة الحالية.

في المقابل، تسعى الدول العربية، مثل السعودية، إلى توسيع نفوذها داخل الحكومة السورية الجديدة، وذلك لموازنة النفوذ التركي وضمان تمثيل مصالحها في عمليات إعادة الإعمار والحوكمة. موقف السعودية متوافق مع موقف أميركا التصالحي في سوريا، وكان لها وجهة نظر في تخفيف تمويل الجماعات الإسلامية السنية في الجنوب السوري ووقف تمويل كتل عسكرية مثل جيش الإسلام وأولية الفرقان وغيرها. بالنسبة لروسيا فإنها حذرة أيضاً من هذه الاتفاقيات كونها تفقدها المبادرة للانخراط ومع الإدارة السورية الجديدة وكسب ثقتها لإبقاء قواعدها على المتوسط، على اعتباره حلم الإمبراطورية الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة والوجود في خط متقدم أمام سواحل أوروبا، وبالنتيجة لن تعارض موسكو حكومة دمشق في قرارها بمد اليد تجاه أي من الجماعات العسكرية سواء في الشرق أو الجنوب؛ مع تحفظ على احتمالية تدخل أميركي في قرارات غرفة عمليات يقودها أحمد العودة في مناطق درعا وريف القنيطرة كونها مدعومة منها بعد اتفاق المصالحة الوطنية 2018 وانضمام هذه الفرقة إلى اللواء الثامن والفيلق الخامس الذي أشرفت على تدريبه وتسليحه موسكو عبر قاعدة حميميم.

آفاق الاستقرار في البلاد

على الرغم من التقدم الدبلوماسي، تواجه حكومة دمشق عقبات واضحة في طريقها نحو المواءمة مع الجهود السياسية الدولية الرامية إلى الاستقرار. إذ لا تزال الحكومة الجديدة تواجه تهديدات أمنية داخلية، لا سيما من فلول نظام الأسد الذين يشنون هجمات مسلحة على الأمن العام في محاولة لزعزعة مساعي الحلول السياسية في البلاد، ومحاولة لوضع الإدارة الجديدة على المحك مقابل التزاماتها أمام المجتمع الدولي. علاوة على ذلك، فإن إدماج الفصائل المسلحة المختلفة في جيش سوري وطني موحد يطرح تحديات لوجستية وأيديولوجية معقدة. بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وتوحيد العقيدة القتالية، وضمان التمثيل العادل داخل المؤسسة العسكرية، كلها عوامل حاسمة لمنع حدوث انشقاقات داخلية تهدد وحدة البلاد، لا سيما وأن المشهد العسكري السوري منقسم  بين فلول النظام السابق وفصائل المعارضة المسلحة السابقة التي رفض عدد منها حل نفسها  والأكراد والهجمات الإسرائيلية على جنوب البلاد؛ الأمر الذي يفرض على حكومة دمشق التعامل بمزيد من الحزم و اللين لكسب جميع الأطراف؛ مع السماح للوساطة الخارجية بأخذ مساحتها الحقيقية نظراً لحساسية ملفات التمويل والأدوار في سوريا والتجاذبات الإقليمية.

المدنية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى