سوريا حرة إلى الأبد: مقالات وتحليلات 19 أذار 2025

حرية إلى الأبد: كل المقالات والتحليلات والحوارات التي تناولت انتصار الثورة السورية اعتبارا من 08 كانون الأول 2024، ملاحقة يومية دون توقف تجدها في الرابط التالي:
سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع
—————————–
لن تحكموا سورية هكذا/ مروان قبلان
19 مارس 2025
من البدهيّات التي يعرفها دارسو السياسية وممارسوها، أن أي سلطة، بغضّ النظر عن ماهيتها (جماعة دينية، حزب سياسي، عسكر، عائلة مالكة)، وبغضّ النظر عن طريقة ولوجها إلى الحكم (بوسائل ديمقراطية، انقلاب عسكري، ثورة شعبية… إلخ)، ومهما يكن النظام السياسي الذي تمثله وتعمل به (فردي، شمولي، ديمقراطي، ملكي… إلخ) لا يمكنها أن تحكم وحدها مهما بلغت الموارد والإمكانات التي تملكها. ومن البدهيّات أيضاً في دراسات النّظم السياسية المعاصرة أنه كلما اتّسعت قاعدة الحكم كان النظام أكثر استقراراً هناك في القمة. في دول الخليج العربية، مثلاً، تحكم عوائل مالكة تستند إلى شرعيات تقليدية، لكن هذه الشرعية لا تكفي وحدها للحكم، بل تحتاج إلى تحالفاتٍ اجتماعية، تضمّ عادة شيوخ القبائل، والتّجار، والأعيان، ومشايخ الدين، ويضطلعون بدور مهم في استقرار نظام الحكم من خلال أدوارهم التمثيلية ونفوذهم في مجتمعاتهم. فوق ذلك، تعيد الدولة توزيع ريوع تصدير الطاقة على شكل منافع وخدمات لعموم المجتمع (توفير فرص العمل، والصحّة، والتعليم… إلخ). هذه المعادلة (رابح- رابح) مستمرّة، والأرجح أن تستمرّ، ما دامت هذه التحالفات قائمة ويوجد ما يكفي من ثرواتٍ لتمويلها. في النظم الديمقراطية العريقة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، لا يمكن لأي حزبٍ أن يفوز في الانتخابات ويحكم من دون تحالفات سياسية تعينه على ذلك، خذ مثلاً إدارة الرئيس ترامب، التي ما كان لها أن تعود إلى الحكم لولا التحالف الثلاثي الذي بنته، ويقوم على المحافظين، من القوميين والإنجيليين، إلى جانب قطاع المال والأعمال، وعلى رأسه عمالقة التكنولوجيا، فضلاً عن الطبقة العاملة الأميركية البيضاء الغاضبة من تدهور أوضاعها الاقتصادية، وعدم قدرتها على مواكبة التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية. في إيران، حيث يحكم نظام ثيوقراطي، تعتمد السلطة في استمرارها على تحالف البازار والعسكر ورجال الدين، تسنُدهم شبكة منافع اجتماعية هائلة، تربط ملايين الإيرانيين بالنظام، وتحفظ بقاءه رغم الضغوط الخارجية.
إذا جئنا إلى سورية، وهي موضوع حديثنا واهتمامنا الدائم، نجد أن نظام البعث اعتمد في انتزاعه السلطة، واستقراره فيها أكثر من 50 عاماً، على تحالف يضم العمّال والفلاحين وصغار الكسبة، إلى جانب الضباط الريفيين ومثقفي الطبقة الوسطى، جرى تطعيمُه لاحقاً بعناصر من البرجوازية المدينية (في حلب ودمشق خصوصاً) إلى جانب جزءٍ معتبر من المؤسّسة الدينية. بدأ هذا النظام يتداعى فقط عندما شرع بشّار في تفكيك تحالفات نظام البعث الواسعة، واستبدالها بتحالفاتٍ أضيق، عمادها ضباط الأمن والجيش وطبقة رجال الأعمال الجدد، والذي كان في جوهره تحالف فساد بين السلطة والثروة (للتفصيل في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى دراسة للكاتب “لماذا انهارت دولة البعث في سورية؟”، موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).
لن تستطيع السلطة الجديدة في دمشق أن تحكم من دون تحالفاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ معتبرة، وهي تخطئ إذا ظلت جماعة منغلقةً على ذاتها، وظنّت أن بمقدورها أن تحكم وحدها، سواء بوصفها فصيلاً (هيئة تحرير الشام) أو حتى ائتلافَ فصائل (غرفة عمليات ردع العدوان)، وسوف تؤدّي سياسات تفكيك مؤسّسات الدولة، والاستئثار، والتسريح القائمة، عاجلاً أم آجلاً، إلى اضطراباتٍ اجتماعية في المناطق المحسوبة على السلطة الجديدة، وسوف تعزّز نزعات الانفصال في تلك التي لا تملك سيطرة فعلية عليها، خاصة أن هناك قوى إقليمية تدفع بهذا الاتجاه، وفي مقدّمتها إسرائيل وإيران.
لا تملك السلطة الجديدة حالياً تحالفات اجتماعية متينة، والإجماع النسبي المتكوّن حولها يعود إلى عاملين رئيسين: الأول، إحساس عامة السوريين بأهمية الإنجاز المتمثل بنجاحهم في إسقاط أحد أسوأ الأنظمة في التاريخ المعاصر، ورغبتهم في إنقاذ بلدهم، والنهوض بها، ومنعها من التفكّك، لذلك تجدهم، بدافع وطني خالص، يغضّون النظر عن سياسات لا تعجبهم في سبيل حماية الإنجاز. والثاني، إحساس السوريين “السنّة” بأنهم استعادوا الحكم الذي يعتبرونه حقّاً لهم بحكم غالبيتهم العددية، والذي تغذّيه السلطة الجديدة. لكن المشاعر والأحاسيس وسياسات الهوية لا تستمر طويلاً إذا لم تسندها بعض المنافع، بدليل ثورة الشيعة في العراق على حكّامهم عام 2019. لكن هذا قد يأتي عندنا أسرع، لأن سورية، بعكس العراق، لا تملك موارد أو ريوعاً كبرى لامتصاص غضب الناس أو كسب رضاهم. وهي، فوق ذلك، أسيرة عقوباتٍ دوليةٍ تشترط المشاركة السياسية لرفعها.
… خلاصة القول، لن تستطيعوا حكم سورية، ولا الحفاظ على وحدتها، من دون أن يشعر كل سوري أن له سهماً في بلده.
العربي الجديد
—————————
الذائقة والطائفة والحُكم.. مع شيءٍ من “فضفضة”/ مضر رياض الدبس
2025.03.19
خاضت أغلبية السوريين في الفترة الأخيرة نقاشاتٍ غريبة تفتقد المنطق، وفيها توترٌ مدهش في الردود على الطروحات، كأن يقول أحدهم مُحقًا مثلًا: لا يجوز قتل الأبرياء من العلويين في الساحل، ولا يجوز شنُّ حملةٍ ضد الدروز ثم لومهم كلهم، وكأنهم كتلة سياسية واحدة، والأفضل أن تنفتح السلطة على الجميع”، فيكون الرد “تريدون إسرائيل يعني”! أو يرد آخر: “ما مشكلتكم مع الإسلام؟! وأيضًا، نوعٌ آخر، كأن يقول أحدهم لبعض أهالي السويداء: خطيرٌ جدًا أن تكون في السويداء “درزية سياسية”، ولا يجوز أن يكون خطابها طائفيًا غير وطني؛ فيكون الرد: “برافو أنت صرت تشبح للشرع”!
مع كثرة هذا النوع من الردود، وَصَل التوتر إلى سد باب الحوار في أحيانٍ كثيرة، وتولَّد ضجيجٌ مدهشٌ، صار المرء معه بحاجةٍ إلى مساحةٍ هادئةٍ ملائمةٍ للتفكير، والاستنتاج، والفهم؛ ثم الكتابة، والنشر. ولأن الظاهرة فيها كثيرٌ من الذاتية، صار هذا النشر (الذي أنت على وشك قراءته عزيزي القارئ) نوعًا من “الفضفضة” الممزوجة بالموضوعية.
نفضفض في هذه الظاهرة الفظيعة التي بدأت تفصل ولا توصل، ونناقشها في العناوين الثلاثة الآتية:
1) حديثٌ عن الذائقة السياسية.
2) الطائفة والذائقة والعمل السياسي.
3) كيف نكون حُكَّامًا ومحكومين، أو “منطقة السياسية”.
أولًا: حديثٌ عن “الذائقة السياسية”:
التوجه السياسي للفرد فيه شيءٌ من ذائقة، يستسيغ المرءُ فيه ما يتذوَّق، وليست الذائقة السياسية انعكاسٌ لوعي الفرد، وثقافته، فحسب، مع أهمية ذلك، إنما هي انعكاسٌ لطيبته أيضًا: أخلاقه، وأدبه، وتواضعه، وشعورة بالمسؤولية، ومحبته للآخرين، واستشعار الخطر المُحدق بهم، والعمل على تفاديه، أو مساعدتهم في ذلك. وأول ما تظهر الحرية في نوعية هذه الذائقة لأنها شيءٌ يتجاوز الموضوعية.
أن يكون الإنسانُ طيبًا نعمةٌ كبيرة. والطيبةُ، إذا استخدمناها سياسيًا، مفهومٌ يتضمن القوَّةَ بالضرورة، لأنه يتضمن العفو؛ فالقوي الطيب فحسب هو القادر على العفو، وهو القادر على السعي إلى السلام الدائم. هذا يعني أن الأذكياء هم الطيبون، والعمق السياسي الوطني يكون للطيبين، الذوَّاقين.
الذائقة السياسية هي طريقة تفادي القتل الوحيدة التي نمتلكها اليوم، وطريقة بناء المجتمع السياسي، وطريقةُ النقد أيضًا؛ فالنقد الذي يتسم بـ “قلة الذوق” لا يصير نقدًا، بل استعراضًا يُعبِّر عن بقايا الشر الكامن، المُخزَّن في نفوسنا نتيجة الظلم والحيف الذي مرَّ على رؤوسنا خلال الفترة الماضية، وقد يكون نتيجةَ شيءٍ آخر غير ذلك أيضًا: مثل التربية، والخلل النفسي، وداء الـ “أنا”، وغياب التفكير، والسقوط الكارثي للضمير.
ثانيًا: الطائفة والذائقة والعمل السياسي
وأيضًا، الطائفةُ ظاهرة لا تدع مجالًا للذائقة لتنمو، ليس لأنها تمنع المرء من أن يكون طيبًا، أو واعيًا، أو مثقفًا، أو ما إلى ذلك، لا أبدًا؛ بل لأنها تمنعه من أن يكون فردًا: تحارب اكتمال فرديته وتُرجِّح عنده كفة التابعية على كفة الاستقلال والحرية؛ ومن ثم كفة الطاعة والتسليم على كفة العمل والتفكير. وبالطريقة نفسها تعمل القبلية، والعشائرية، والعائلية؛ وأيضًا الأحزاب العقائدية، والجماعات الأيديولوجية التي يكاد يكون أفرادها نسخًا من بعضهم.
الحقيقةُ بنت الخطأ، وبنت التفكير، بينما الطائفة (أي طائفة)، بنت المُسلمات النهائية، والإذعان من دون تفكير.
الذائقة السياسية تقودنا إلى الحرية، وممارسة الحرية هي التي تُولِّد السلطةَ السليمة بمرور الزمن. وتبدأ الذائقة من كلمة مُهمة هي “العَمل”؛ فالعمل السياسي مثل الولادة، يحتاج إلى اختلافٍ ليُنتِجَ الجديد؛ وكما تكون الولادة نتيجة اكتمال الذكورة بالأنوثة والعكس، أيضًا يأتي الجديد في السياسة من اكتمال العمل بالاختلاف والعكس. والطائفة عدو الاختلاف، ولذلك هي عقيمة لا تلد جديدًا، بل تصنع من قديمها حقائق ثابتة، ولا تعير وزنًا للزمان، ولا قيمةً للعمل والتفكير الذي يأتي بالجديد. والولادة (بما تتضمن من الجديد والجميل)، مرتبطة بالعمل جدًا: مثلًا، تُستعمل في اللغة الإنجليزية كلمة واحدة هي (Labor) للدلالة على المعنيين معًا.
يبدأ العمل السياسي من رحلة تطوير الذات، وتوسيع الأفق، والتمرين المستمر على الاختلاف، ثم تطوير الوطن بهذه الذات التي تتطوَّر، ويتسع أفقها الذهني. والطائفة مضادة لتطوير الذات، لأنها أفقٌ ضيقٌ لا يعترف بتمرين الاختلاف.
الخطأ مع أبناء الوطن يعني “العمل” الدائم على تصحيحه، والحقيقة مع الطائفة تعني غياب العمل، ومن ثم غياب ولادة أي شيءٍ جديد غير الذي نعرف؛ فيصير الماضي ملجأً للكرامة ننبش فيه بعضًا ممَّا يرضي حاجتنا إليها عندما لا نلد شيئًا، فنقدِّس الماضي، ونعلي من شأن العقم الحاضر، وهذا طبيعي لأن كلَّ ولادةٍ
جديدة تهديدٌ للعقل القديم، وتعني في العمق ولادةَ عقلٍ جديد، وعالمٍ جديد. وبالعمل الولّاد فحسب يستحق العقلُ اسمَه بوصفه يُفكِّر، أو لا يظل عقلًا، بل دماغًا بيولوجيًا فحسب.
الطائفة ومنتفعاتها، بما فيها القبيلة والأحزاب الأيديولوجية التي تنتج بشرًا متشابهين، ليست وسائلَ لمحاربة التطرف الإسلامي الذي يخاف كثيرُ السوريين من إمكانية انتشاره مع وصول أحمد الشرع إلى السلطة، وأيضًا، إذا ناهض أحدنا الطائفية، وتسييس الطوائف، لا يعني أبدًا أنه ينحاز بإذعانٍ للسلطة الحالية أو للسنة؛ فهذا، واللهِ، موضوعٌ منفصل، واستنتاجٌ ركيك.
أفضفض بذلك لأنه صار مدهشًا؛ فلقد اختبرت شخصيًا في المرحلة الماضية هذا النوع من الردود مثلًا: إذا قلنا رأيًا يقول: كارثي أن نكون طائفيين، بل لنكن وطنيين؛ فالطائفية تجلب الاحتلال، وتعزل الناس، وترفع احتمال القتل والمجازر، إضافةً إلى أنها نمط سياسي عاطفي لا عقل فيه؛ فنلقى أجوبةً من قبيل و”أنت معاجبك الشرع والدستور تبعه”؛ “أنت صرت مؤيد للجولاني”، “يا حيف تتخلى عن أهلك وتطبل للإسلاميين”، إلى ما هنالك من هذا النوع من النقاش (نضعه باللهجة العامية ليكون النقل دقيقًا). وأفضفض أيضًا بمسألةٍ معاكسة، إذا قلنا رأيًا يقول: ثمة ضرورة لكي تساعد الدولةُ (ممثلةً بالسلطة الانتقالية الحالية) السوريين كلَّهم على مقاربة أنفسهم بوصفهم مشروع مواطنين، من دون أي تأثيرٍ لحمولاتهم الدينية والطائفية والقبلية، وإن واحدًا من أكثر المسائل أهميةً ونضجًا في سوريا أن “السنة” لم يتحولوا إلى طائفة، ولا يزالون قادرين على أن يكونوا حاضنة مشروعٍ وطني كما كانوا عبر تاريخ سوريا، مثل تجربة عبد الرحمن الأطرش وسلطان الأطرش؛ وينبغي على الدولة أن تكون مسؤولة عن حماية السوريين كلهم، وعدم تحويل السنة إلى طائفة؛ فيجيب أحدهم: “غريب أن تكون ضد من حررنا من الأسد فقط لأنه إسلامي”، “إنشالله مصدق كذبة الأقليات تبع الدول”، ومرةً ذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك فقال لي: “يعني أنت برأيك هلق إسرائيل أحسن من الشرع”!. معقول؟!
ثالثًا: كيف نكون حُكامًا ومحكومين، أو منطقة السياسة.
هذا الانفصال عن موضوع النقاش الذي لمسناه في نوع الردود الغريبة السابقة، وربط ما لا يُربط، هو نقصٌ حاد في الذائقة السياسية، والذائقة الوطنية، ومن ثم بالضرورة مُنغِّص من منغصات التمتع بالحرية، والانعتاق من واحدٍ من أكثر الأنظمة دمويةً في التاريخ الحديث. هذا لأن الذائقة تعمل في منطقة السياسة، وهي المنطقة التي توجد بين الإذعان والعصيان، فلا يكون المرء في هذه المنطقة مواليًا بالمُطلق مثل “الشبيحة”،
ويسوِّغ ما لا يمكن تسويغه من أخطاء، ولا يكون أيضًا متمردًا بالمطلق مثل الثائر، لأننا لسنا في صدد ثورة، بل في صدد بناء. والبناء يحتاج إلى تثقيفٍ في أمرين، ضروريين لبناء الذائقة السياسية (وهي ذاتها الذائقة الوطنية الآن) هما: كيف نَحكُم، وكيف نكون محكومين. نحن السوريين، نتكلم كثيرًا في الجزء الأول، وكلُّ واحدٍ منَّا لديه ميلٌ إلى نظريةٍ معينة في طريقة الحكم، ولكن في حدود معرفتي لم نبدأ أي نقاشٍ في الجزء الثاني: أي في أن نتعلم كيف نكون محكومين، وظل نصف السياسة هذا ضمن غير المُفكَّر فيه.
نحن نعرف من أن “نكون محكومين” أمرين: أن نُذعن (نرضخ كما كنا قبل ٢٠١١) أو أن نتمرد (نثور كما فعلنا بعد ٢٠١١)، لكن لم نناقش أو نتعلم ما بين الأمرين وهو كيف نُحكَم (بضم النون وفتح الكاف): يعني بتكثيفٍ أن نعمل في منطقةٍ بين الاذعان والعصيان، حيث توجد الحياة السياسية، وحيث تنمو الذائقة السياسية وتتطور.
لا يتعلم المرء أن يكون محكومًا إلا إذا تعلم كيف يخلط الإذعان والعصيان، ويمزجهما في مفهومٍ جديدٍ واحد. وفعل الخلط والمزج هذا هو التفكير السياسي. غير ذلك استقالة من السياسة، وإخلاءُ سوريا للسلاح، والأيديولوجيا، والانتقام، والتمترس على الجماعة الطائفية والقبلية، وما إلى ذلك من وصفاتٍ جاهزةٍ للقتل مُجرّبة.
ثمة موهبتان تعملان ضد الذائقة السياسية، نحن تعلمنا هاتين الموهبتين وطوَّرنا فيهما في المرحلة السابقة، هما موهبة تمجيد السلطة، وموهبة تحطيمها، وكان بعضٌ ممن كنَّا نسميهم الموالاة يطورون موهبة التمجيد بكل الوسائل التي بين أيديهم، ووصلوا فيها إلى أقصى الحدود المُمكنة. والبعض الآخر (وصاحب هذه السطور منهم) كان يطوِّر ليل نهار موهبة تحطيم السلطة بكل ما تسعفه مهاراته في التعلم. ويبدو أن بعضَ السوريين يعجبهم اليوم أن يتحولوا إلى موالين ويسرقون موهبة التمجيد، وآخرون يعجبهم أن يسرقوا موهبة التحطيم، وهكذا تعجبهم فكرة تبادل الأدوار ويرتاحون لها، الأمر الذي يضعف قدرتهم في أن يكونوا محكومين؛ فموهبة التمجيد، وموهبة التحطيم، تؤديان بالضرورة إلى ضعفٍ في القدرة على أن نكون محكومين، وتضعنا خارج السياسة.
أن نكون محكومين يعني أن نعمل في المنطقة التي يكون فيها السؤال الآتي مُمكنًا: كيف نتعلم أن نُخدَم (بضم النون وفتح الدال)، فالحاكم خادمٌ للمحكوم، الأول يتعلم كيف يَخدُم، والثاني يتعلم كيف يكون مَخدُومًا، وهذا الأخير تتفرع منه مجموعة من التمارين منها: أن نَشكُر عندما تكون الخدمة جيدة، ونُشجِّع ذلك ونُثمِّنه.
أن ننقد الخدمة عندما يكون فيها أخطاء مُحدَّدة، وأن نُعلِّم الخادم (أي الحاكم) كيف يصحح الخطأ، وكيف نريد الخدمةَ بالضبط. أن نحذِّر عندما تسوء الخدمة، ثم نُؤنِّب إن ساءت الخدمة أكثر. وأخيرًا أن نعزله بسلاسةٍ إن لم يأتِ التأنيب والإنذار بنتيجة.
تلفزيون سوريا
————————
مقوّمات السلم الأهلي والعيش المشترك بين المكوّنات السورية/ عبدالله تركماني
2025.03.19
تتعرض المجتمعات، في أثناء وبعد الثورات والصراعات الداخلية، لأزمات تكون أكثر وضوحاً في الدول التي تمتاز بتنوّع المكوّنات الاجتماعية فيها. وقد يكون من الصعب في سورية التي تتميز بتعدد مكوّناتها الدينية والقومية والمذهبية، التي أبقاها نظام آل الأسد متنابذة لما يخدم استمرار سلطته، تحويل الأمر من مشكلة إلى غنى بعد التغيير السياسي في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، إذ يمكن لقيادته أن تحتضنه في سورية الجديدة، وتعمل من أجل إيجاد طريقة سريعة لترسيخ مفاهيم السلم الأهلي والعيش المشترك وتقبّل الآخر واحترام حقوق الإنسان والتربية على قيم المواطنة المتساوية، مما يدفع السوريين إلى العمل بجدية وبشكل واسع وشامل على هذه القضايا. وهنا تكمن أدوار قيادة المرحلة الانتقالية، ومعها النخب السياسية والثقافية والاجتماعية، للعمل على أفضل الطرق لحل النزاعات بين المكوّنات السورية، من خلال فعاليات تشرف عليها كوادر كفؤة لتنفيذها.
ومن المؤكد أنّ إنكار انقسام السوريين وتشظي مجتمعهم، بعد أربعة عشر عاماً من الثورة، لا يساعد على التعاطي المجدي مع المشكلة، إذ إننا لم نتعرف بعد على الهوية الوطنية السورية الجامعة، وإنما إلى هوياتنا الفرعية ما دون الوطنية، أو ما فوق الوطنية.
وإذا كان بعضها يُعتبر من الظواهر الاجتماعية الطبيعية، فإنّ الطائفية يمكن أن تؤدي إلى تشظي المجتمع السوري إلى جماعات متعادية، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار. خاصة إذا تمَّ التمييز بين المواطنين على أساس طائفي، مما ينطوي على تصاعد مشاعر الكراهية بين أفراد المجتمع، وقد تؤدي إلى الصراع بين الطوائف المختلفة، ولذلك آثار سلبية على كل البنى التحتية للدولة.
وفي هذا السياق من المفيد معرفة أنّ هيئة الأمم المتحدة اعتبرت عام 1995 سنة للتسامح، وأصدرت إعلان مبادئ كونياً، أكد على الالتزام بمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقيات المتصلة به. ودعا الدول إلى ” تأصيل سياسة التسامح في قوانين وثقافة المجتمع لمكافحة مظاهر التعصب الديني والقومي والعرقي، والإقصاء والإبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والدينية، وأفعال العنف ضد حرية الأفراد في إبداء الرأي والتعبير الحر وكل ما يهدد الديموقراطية والسلام “.
وكي نحدَّ من المخاطر ونعظّم فرص العيش المشترك ونبذ الكراهية في سورية يجدر بنا: المساهمة في العمل الجدّي لبناء مجتمع مدني ديمقراطي، من خلال تأسيس دولة حرة مستقلة قائمة على العدالة والمساواة وسيادة القانون على جميع المواطنين من دون تمييز على أية أسس دينية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية. والمساهمة في بناء ثقافة سورية جامعة تقوم على نبذ الكراهية وكل أشكال الإرهاب وتيارات العزل والإقصاء والتطرف. ورفض وإدانة أي لجوء إلى العنف لحل الاختلافات السياسية والفكرية والاجتماعية. وتعزيز قيم الحوار المجتمعي، من خلال إدراك أنّ موضوعه ليس هويتي وهويتك، ولكن مشكلات مشتركة اقتصادية وسياسية وثقافية، لاتُحَلُّ إلا بصورة مشتركة، من أجل إيجاد قاسم مشترك أعظم من القِيَمِ التي تؤسّس لإجماع وطني، يضمن الالتزام بتحقيق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
على أنّ التقارب بين المكوّنات الوطنية السورية لن يتحقّق من خلال التقريب بين مذاهبها أو منظومات قِيَمِها أو مرجعياتها الثقافية الخاصة، ولا يتحقّق- بالتالي- من خلال إضعاف ما تشعر أنه يمثّل خصوصيتها، وإنما يتمُّ من خلال توسيع دائرة مشاركتها في مرجعيات المكوّنات الأخرى، وتحريرها من حتمية الاعتماد المطلق والأحادي على مرجعياتها الثقافية التاريخية الموروثة. وهذا يعني إيجاد فرص أكبر لتنويع هذه المرجعيات، بحيث يبدو الانفتاح على المكوّن الوطني الآخر إثراء للنفس لا إفقاراً لها. والإقلاع عن التعصب الأعمى، الذي عبّر عن نفسه في أحيان كثيرة في شكل عنف دموي، كانت السنوات الأربعة عشرة للثورة كاشفة عن مظاهره في مناطق سورية عديدة، حيث شهدنا الاعتداءات وأعمال القتل والتخريب وقطع الرؤوس من منطلق الاختلاف. مما يتطلب تحقيق احترام متبادل من خلال: ضرورة تعرّف كل مكوّن على المكوّن الآخر، على آرائه وأفكاره ومعتقداته وأسلوب تعامله، وبصفة عامة على ثقافته.
وهكذا، فإن التعرّف الحقيقي إلى كل المكوّنات الوطنية وعلى ثقافاتها، من شأنه أن يؤدي إلى تأكيد قيمة التسامح الإيجابي إزاء الجميع، وليس مجرد التسامح الحيادي. وهذا يعني الإقرار بالتعددية الثقافية، ومن شأنه كذلك أن يقضي على كثير من الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة عن المكوّن الآخر. وحتى تتم عملية الاندماج الوطني فلا بدَّ من توفر الطوعية لأنّ الهوية القسرية غير قابلة للديمومة، إذ إنّ الوطنية السورية الجامعة تستند إلى المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وكذلك المصالح الاقتصادية المشتركة التي تجعل المكوّنات المختلفة حريصة على أن تقيم علاقات فيما بينها، كما أنّ الانخراط في الشأن العام، خاصة الحياة السياسية والاجتماعية ومؤسسات الدولة والمعاهد التعليمية، يمكن أن تعزز الاندماج الوطني.
وكان الأمل كبيراً بأن يؤكد الإعلان الدستوري على حقوق كل مكوّنات الشعب، من خلال دولة الحق والقانون، التي يتساوى فيها الجميع أمام القضاء المستقل، ويكون للجميع الحق ذاته في تشكيل المنظمات والأحزاب والجمعيات، والمشاركة في صنع القرار. آخذين بعين الاعتبار أننا في مرحلة تأسيس الجمهورية السورية الثالثة، مما يستوجب التوافقات بين كل المكوّنات تحت سقف المواطنة الواحدة، بوصفها مكانة الفرد في الدولة، التي هي للكل الاجتماعي بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها المواطنون من خلال المؤسسات تبعاً للحوكمة الرشيدة، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه.
ولعلنا نستفيد من تجربة ماليزيا، حيث قال رئيس وزرائها السابق مهاتير محمد ” التنمية في المجتمعات لا تتم إلا إذا حل الأمن والسلام، فكان لزاماً علينا الدخول في حوار مفتوح مع كل المكوّنات الوطنية، دون استثناء لأحد، والاتفاق على تقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع لكي نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد”.
وفي هذا السياق من غير الممكن تصوّر النجاح في عملية الانتقال السياسي بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع السوري حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة.
تلفزيون سوريا
——————————-
النفوذ الاقتصادي في سوريا الجديدة.. تفكيك شبكات الأسد أم استيعابها؟/ تمارا عبود
2025.03.19
كتب جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984: “من يسيطر على الماضي، يسيطر على المستقبل. ومن يسيطر على الحاضر، يسيطر على الماضي”. وفي لحظة تحول كبرى من تاريخ سوريا الحديث، انتهى خلالها هدف الشعب بإسقاط النظام، بتحقق السقوط، ليتجه نحو الماضي من أجل إعادة روايته، في سبيل تحقيق العدالة الانتقالية ثم تحديد معالم المستقبل.
في سوريا اليوم، وبينما يحاول العهد الجديد رسم ملامح مرحلة مختلفة تماماً عن مرحلة مظلمة طويلة سبقتها، تعود إلى الواجهة أسماء رجال أعمال كانوا جزءاً من الشبكات الاقتصادية لنظام الأسد، ليس كمتَّهمين أمام العدالة، بل كشركاء محتَملين في إعادة الإعمار.
وكالة رويترز أشارت في فبراير/شباط الماضي إلى عودة كل من محمد حمشو وسامر فوز إلى سوريا، أي عقب سقوط نظام الأسد بشهرين، وكذلك تحدّث خلدون الزعبي إلى الوكالة نفسها من بهو فندق الفورسيزن في دمشق. كما أكّدت مصادر خاصة لتلفزيون سوريا إقامة الثلاثي في الفندق نفسه. وأخيراً، ظهور كل من حمشو وفوز خلال صلاة التراويح في جامع سعد بن معاذ في منطقة المالكي في دمشق.
الأسماء الثلاثة الأخيرة، هي لرجال أعمال سوريين، كانوا واجهة اقتصادية لنظام الأسد في السنوات الأخيرة، ولعبوا دوراً بارزاً في دعمه اقتصادياً. كما استفادوا بالطبع من الامتيازات الممنوحة لهم خلال الحرب، حيث توسّع نفوذهم في قطاعات مختلفة، من العقارات إلى التجارة والصناعة. ووفقاً لوكالة رويترز، فإنّ نحو عشرة أشخاص يشكلون الحلقة الاقتصادية القريبة من نظام الأسد.
عودة هؤلاء وغيرهم سواء عبر المصالحة أو التسويات، تثير تساؤلات جوهرية حول أبعاد عودتهم ووجودهم في دمشق، كما تعيدنا إلى التفكير في علاقة رأس المال بالسلطة الفاسدة وأثر ذلك على علاقته بالسلطة الجديدة.
رأسمالية المحسوبية… بين السلطة الفاسدة وسلطة ما بعد الثورات
يعبر مصطلح رأسمالية المحسوبية عن الوجه المشوَّه لاقتصاد السوق، حيث لا تحكمه المنافسة أو الكفاءة، بل الشبكة غير المرئية من العلاقات والولاءات. هنا لا تقاس قيمة رجل الأعمال بما يستطيع أن يقدمه للتنمية الاقتصادية من خبرة وعمل، بل بقربه من دائرة النفوذ. فيصبح نجاح رأس المال امتيازاً مرهوناً بقرار من السلطة ويُسحب كذلك بقرار آخر منها. ومع مرور الوقت، تتحول هذه العلاقة إلى شبكة معقدة من المصالح المتبادلة، تجعل من رجال الأعمال جزءاً من النظام الذي يدير الدولة، وليس مجرد فاعلين اقتصاديين مستقلين.
هذا الترابط العميق بين رأس المال والسلطة الفاسدة، يؤثر بشكل كبير على مرحلة ما بعد نجاح الثورات. وكما أظهرت تجارب دول مثل مصر وتونس، فإن بعض رجال الأعمال المرتبطين بالأنظمة السابقة أعيد دمجهم في المشهد الاقتصادي الجديد وسط مبررات غير رسمية وغير معلنة تتعلق بالحاجة إلى الخبرة ورأس المال وتزامن ذلك أحيانًا مع سياسة إقصاء الكفاءات.
تسوية أم محاسبة؟ مستقبل رأس المال القديم في سوريا الجديدة
صرّح وزير التجارة ماهر خليل الحسن، لوكالة رويترز في أوائل يناير/كانون الثاني، أنّ سياسة الحكومة في دمشق تجاه رجال الأعمال المرتبطين بالأسد، هي السماح لموظفيهم بمواصلة العمل وتوريد السلع إلى السوق مع تجميد تحركاتهم المالية الآن. وأضاف “إنه ملف ضخم. فحلفاء الأسد الاقتصاديين يسيطرون على اقتصاد الدولة، لا يمكنك ببساطة أن تطلب منهم الرحيل.” موضحاً بذلك أن الحكومة الجديدة لا يمكنها تجنب التعامل مع كبار رجال الأعمال.
من جهته، قال خلدون الزعبي، الشريك القديم لسامر فوز، إن شريكه أبلغ الحكومة أنه مستعد للتعاون في تنفيذ أي شيء يطلب منه ومستعد كذلك لتقديم كل الدعم اللازم للشعب والدولة.
كما قال أحد الموظفين في مجموعة حمشو الدولية لوكالة رويترز، بأن التعليمات صدرت للموظفين بالتعامل الكامل مع الإدارة السورية الجديدة، حيث يقوم أعضاء منها بزيارة الشركة بانتظام للحصول على المعلومات.
هذا التوجه يثير تساؤلات حول ما إذا كان التعامل مع رجال الأعمال هؤلاء سيتم عبر المحاسبة أم عبر تسوية تتيح لهم البقاء ضمن المنظومة الاقتصادية الجديدة.
في هذا السياق، يقول الباحث أيمن الدسوقي، الذي يتركز مجال بحثه في الاقتصاد السياسي، لموقع تلفزيون سوريا، بأنه إذا صح وجود رجال الأعمال هؤلاء في سوريا، فذلك مرتبط بإمكانية تسوية وضعهم مع الدولة، ومواصلة أعمالهم على مبدأ رابح_ رابح، فالدولة تستفيد من قدراتهم المالية ومن تفكيك شبكاتهم الاقتصادية التي كان نظام الأسد يعتمد عليها، في حين يضمن رجال الأعمال بهذه التسوية استمراريتهم في السوق السورية، والاندماج في الشبكات الاقتصادية للعهد الجديد.
وعند سؤاله عمّا إذا كان المسار النهائي سيتجه نحو المحاسبة أم التسوية، يضيف الدسوقي: “أرجح التسوية وإن كانت تتطلب وقتاً للاتفاق على بنودها، وعند الفشل فإن الباب يكون مفتوحاً أمام إعلان محاسبتهم.”
لكن هل يمتلك رجال الأعمال هؤلاء النفوذ الكافي للتأثير فعلياً في الاقتصاد السوري الجديد؟ هناك من يقلل من دورهم، مشيراً إلى أنهم لم يستطيعوا حماية النظام السابق من الانهيار الاقتصادي وانخفاض قيمة الليرة السورية، في حين يرى آخرون أن مفاصل الاقتصاد مازالت في أيديهم.
حول هذا الجدل، يوضح الدسوقي: “لا يمكن التقليل من شأن رجال الأعمال هؤلاء ولا كذلك المبالغة بدورهم وقدرتهم على إنعاش الاقتصاد السوري. لذلك أعتقد أن المطلوب منهم التعاون بما يمتلكونه من موارد وشبكة علاقات، والأهم هو تفكيك شبكات نظام الأسد الاقتصادية. اليوم، العهد الجديد بحاجة إلى فهم تفاصيل هذه الشبكات، وما تملكه من أموال واستثمارات داخل سوريا وخارجها، لكي يتمكن من المطالبة بتلك الأموال وإجراء ملاحقات قانونية بشأنها. من جهة أخرى، هو بحاجة أيضاً لتفكيك هذه الشبكات التي قد تشكل تهديداً أو تكون منخرطة في أنشطة غير مشروعة مثل تجارة الكبتاغون والمخدرات، وهو أمر له أهمية خاصة في إطار العلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي. “
أما فيما يتعلق بتأثير هذه الشخصيات على ملف العقوبات، باعتبارها مدرجة على القوائم الأميركية، فيوضّح الدسوقي أن رفع العقوبات عن سوريا يرتبط باشتراطات تتجاوز رجال أعمال نظام الأسد، ومع ذلك، يرى أن تسوية أوضاعهم مع العهد الجديد، وإبداء التعاون بخصوص تفكيك شبكات نظام الأسد السابقة لا سيما في مجال الأنشطة غير المشروعة، قد يساعد في رفع العقوبات الفردية عنهم بما يساعدهم على العمل بأريحية داخل وخارج سوريا.
إعادة تدوير النفوذ وتأثيره على صورة العدالة الانتقالية
في وطن يحتاج لتجريف كثير من الركام؛ الحجري، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. و لا يزال رغم ذلك، يقف عاجزاً أو محتاراً أمام الخراب الهائل الذي خلّفه نظام الأسد. وسط هذا المشهد، تظهر العدالة الانتقالية كتحدٍ جوهري يلوح في الأفق، وينتظر الشعب تحقيقه.
في هذا السياق، قد تؤثر عملية إعادة تدوير نفوذ رجال الأعمال المرتبطين بنظام الأسد على ثقة الشعب في مسار العدالة الانتقالية والحكومة، كما قد تلقي بظلالها على آمال تأسيس دولة خالية من شبكات الفساد التي كانت ركيزة نظام بائد.
يقول الباحث في علم الاجتماع د.طلال المصطفى، في حديثه لتلفزيون سوريا، إنّ هناك معلومات غير مؤكدة عن عودة رجال الأعمال المرتبطين بالنظام إلى الساحة، تحت مبررات غير مقنعة للكثير من السوريين، خصوصاً المتضررين من سياساتهم الاقتصادية. ويرى أن هذه العودة قد تضعف ثقة السوريين في العدالة الانتقالية، إذ قد يُنظر إليها على أنها مجرد إعادة توزيع للنفوذ بدلاً من مساءلة حقيقية. لكن إذا رافقت هذه الخطوة إجراءات شفافة، مثل إلزامهم بإعادة بعض الاستثمارات والأموال إلى خزينة الدولة أو تقديم تعويضات فقد يُنظر إليها كبراغماتية مفروضة لا تعطّل العدالة بشكل كامل.
أما عن تأثير النبذ المجتمعي على أصحاب هذه الإمبراطوريات الاقتصادية، فيوضح المصطفى أن الأمر مرتبط بعدة عوامل: أولاً، حجم نفوذهم الاقتصادي، أي إذا كانت شبكاتهم المالية ممتدة دولياً، فقد يقل تأثير النبذ المحلي عليهم. ثانياً، مدى اعتمادهم على السوق المحلية السورية، فإذا كانت استثماراتهم تعتمد بشكل رئيسي على السوق السورية المحلية، فقد يشكل رفض المجتمع لهم تحدياً اقتصادياًحقيقياً. والعامل الثالث مرتبط في موقف السلطات السياسية الجديدة منهم، فإذا تلقوا الدعم منها، فقد يكون دور النبذ المجتمعي ضعيفاً، لكنه قد يدفعهم لتقديم بعض التنازلات.
ويضيف: “باختصار، النبذ الاجتماعي يمكن أن يكون عاملاً ضاغطاً، لكنه ليس كافياً وحده دون وجود بدائل اقتصادية تطرحها السلطات الجديدة، أو إرادة سياسية لتغيير ميزان القوى الاقتصادي وبالتالي السياسي.”
في نهاية المطاف، ومع إعادة تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي في سوريا، يصبح التعامل مع إرث الماضي عاملاً حاسماً في رسم ملامح المستقبل. فبين الحاجة إلى رأس المال، وبين متطلبات العدالة والمحاسبة، تجد سوريا الجديدة نفسها أمام اختبار معقد، حيث ستحدد الخيارات الحالية ليس فقط شكل الاقتصاد، بل أيضاً طبيعة السلطة والعلاقات التي ستُبنى في المرحلة المقبلة.
تلفزيون سوريا
——————————
فرص وتحديات.. كيف يمكن للسوريين في الخارج المساهمة بإعادة بناء وطنهم؟/ عبد العظيم المغربل
2025.03.19
على مدى سنوات الحرب، عاش السوريون واحدة من أشد الفترات قسوة في تاريخهم الحديث، مما دفع الملايين إلى الهجرة واللجوء إلى مختلف أنحاء العالم. ورَغم صعوبة الغربة، لم تنقطع صلتهم بوطنهم، بل حملوا معهم مسؤولية أرضهم ومستقبلها، باحثين عن سبل لمساندته في مختلف المجالات. ومع انتصار الثورة السورية وإقبال البلاد على مرحلة جديدة، بات دور السوريين في الخارج أكثر أهمية من أي وقت مضى، إذ يُشكّلون شريان حياة يرفد الاقتصاد، ويدعم العمل الإنساني، ويعزز الهُوية الثقافية والسياسية، فضلاً عن مشاركتهم في إعادة الإعمار.
واليوم، ومع تصاعد الحاجة إلى توحيد الجهود، يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن للسوريين في الخارج أن يكونوا فاعلين في بناء مستقبل سوريا بشكل مستدام؟ من هنا، تنشأ المبادرات الإغاثية، الاقتصادية، والتعليمية وغيرها، لتؤكد أن الطريق إلى النهوض لا يمكن أن يكتمل إلا بتضافر جهود الداخل والخارج، وَفق رؤية تعيد بناء الوطن على أسس من الوحدة والتضامن.
تعزيز الاقتصاد الوطني عبر التحويلات والاستثمار ونقل الخبرات
تشكل تحويلات السوريين في الخارج أحد أهم روافد الاقتصاد السوري في السنوات الأخيرة. يعتمد ملايين السوريين داخل البلاد على الأموال التي يرسلها ذووهم المغتربون. ومع انهيار قيمة الليرة السورية وارتفاع تكاليف المعيشة، أصبحت هذه التحويلات طوق نجاة للعائلات، حيث تغطي احتياجاتهم الأساسية من غذاء، ودواء، وتعليم. واليوم، يتجاوز دور التحويلات مجرد الدعم الاستهلاكي قصير الأجل، إذ يمكن أن تكون أداة لتنشيط الاقتصاد عبر استثمار هذه الأموال في مشاريع إنتاجية توفر فرص عمل محلية، وتحد من البطالة والفقر، بما يتناسب مع اقتصاد السوق الحر.
إلى جانب ذلك، يمكن للسوريين في الخارج الاستثمار في مشاريع مدروسة تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني وتوفر دخلاً مستداماً لهم ولذويهم. الاستثمار في قطاعات مثل الصناعات الغذائية، والزراعة، والمشاريع الخدمية، وحتى في التعليم والصحة، يمكن أن يحقق أثراً مضاعفاً من خلال توفير فرص عمل، ودعم الإنتاج المحلي، وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي، في مقابلة خاصة مع تلفزيون سوريا، بشأن الدور الذي يمكن أن تلعبه تحويلات المغتربين في دعم الاقتصاد السوري، وكيف يمكن تعظيم هذا الدور: “يمكن أن تدخل عشرات الملايين من الدولارات إلى سوريا، حيث يتم تحويل المزيد من الأموال خلال هذا الشهر نتيجة الضغوط المالية التي تواجهها الأسر داخل البلاد، خصوصاً أن نسبة الفقر وصلت إلى 90% وَفق الإحصائيات الصادرة عام 2024. هذه الأموال قد تساهم في تعزيز حجم العملات الأجنبية في سوريا، ولكن يجب أن تتم عبر القنوات الرسمية مثل البنوك والمؤسسات المالية التابعة للحكومة الجديدة. إلا أن هذا الأمر لا يزال ضعيفاً نتيجة العقوبات السابقة. رغم أن العقوبات قد تم رفعها، إلا أننا حتى الآن لم نشهد تحويلات شخصية عبر القنوات الرسمية. هذه الخطوة يمكن أن تعزز حجم النقد الأجنبي في البنوك، لكنها لم تُفعل بشكل كبير حتى الآن”.
العديد من الدول التي مرت بأزمات اقتصادية استطاعت التعافي عبر استثمارات المغتربين، ويمكن للسوريين اتباع النهج ذاته من خلال إنشاء شراكات مع رواد الأعمال داخل البلاد، أو دعم مشاريع صغيرة ومتوسطة توفر فرص عمل مباشرة، مما يسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية المحلية.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث قضيماتي بشأن المجالات الأكثر احتياجاً التي يمكن للمقيمين خارج البلاد تقديم دورات وخبرات مهنية بشأنها للسوريين داخل البلاد: “إن سوريا تحتاج إلى جميع المجالات بشكل عام، ولكن هناك احتياجاً خاصاً في مجال الصناعة. فقد وصلت عجلة الإنتاج في سوريا إلى مستوى يقارب الصفر، ولذلك فإن إعادة تشغيلها تعتمد على توفر بنية تحتية مناسبة، وهو ما يمكن أن تقدمه الحكومة خلال الأشهر الستة القادمة”.
يمتلك السوريون المغتربون خبرات غنية في مجالات متعددة، بدءاً من الإدارة وريادة الأعمال، ومروراً بالتكنولوجيا والهندسة، وانتهاءً بالخدمات الطبية والتعليمية. ويسهم نقل هذه الخبرات إلى الداخل، عبر برامج تدريبية أو استشارات للشركات المحلية، أو حتى من خلال العمل عن بعد مع المؤسسات السورية، في تحديث بيئة الأعمال، ورفع كفاءة العمل المؤسسي، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتجات السورية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تنظيم مؤتمرات علمية وافتراضية تربط بين السوريين داخل البلاد وخارجها، بالإضافة إلى دعم مشاريع الابتكار والبحث العلمي، مما يساعد في تطوير تقنيات جديدة وتحسين جودة الإنتاج المحلي.
وفي هذا السياق، يوضح الباحث قضيماتي كيف يمكن للسوريين في الخارج المساهمة في نقل خبراتهم ومعارفهم الفنية والإدارية لدعم القطاعات الحيوية في الداخل السوري، قائلاً: “إن مساهمة السوريين في الخارج في بناء القطاعات الحيوية داخل سوريا تعتمد على شقين. الشق الأول يتعلق بالدولة والحكومة الجديدة ومدى حاجتها واستعدادها لاستقطاب هذه الخبرات للعمل داخل البلد. قد تكون بعض هذه الخبرات قد دخلت بالفعل إلى سوريا، لكننا لا نزال في مرحلة التهيئة، ولذلك قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يتم الاستفادة منها بشكل كامل”.
أما الشق الثاني، وفقاً لقضيماتي، “فيتعلق بالخبرات المرتبطة بالاستثمارات والمشاريع الصغيرة، وهو يعتمد على عدة عوامل. أولها توفر بنية تحتية ملائمة تشجع المستثمرين المغتربين على نقل خبراتهم وشركاتهم إلى سوريا. ثانياً، يجب أن تكون هناك قوانين تحمي أموال هؤلاء المستثمرين. لذلك، نحتاج إلى بعض الوقت حتى نرى هذا الأمر يتحقق على أرض الواقع ونتمكن من الاستفادة منه”.
ثانياً: المشاركة في العمل الإنساني والإغاثي وإعادة الإعمار
لعبت الجمعيات والمنظمات الإنسانية داخل سوريا دوراً محورياً في تقديم الخدمات الأساسية للمجتمعات المتضررة، لكنها عانت في كثير من الأحيان من شح التمويل. وهنا يمكن للسوريين في الخارج أن يشكّلوا شبكة دعم مالي مستدام لهذه المنظمات، عبر تحويلات منتظمة أو تبرعات شهرية. من المهم أن يكون هذا الدعم منظماً وممنهجاً لضمان وصوله إلى مستحقيه، مع وجود رقابة تمنع إساءة استخدام الأموال.
يمكن للجاليات السورية أيضاً تنظيم حملات إغاثية جماعية بالتنسيق مع المنظمات المحلية، وتوجيه الدعم وَفق أولويات مدروسة تشمل الغذاء، الصحة، والتعليم. ومن الضروري أن تتحول هذه الحملات من مجرد مساعدات إغاثية طارئة إلى مشاريع إعادة إعمار مستدامة، مثل إعادة تأهيل المدارس، والمراكز الصحية، والبنية التحتية، إذ يتطلب المستقبل التركيز على التنمية بدلاً من الإغاثة فقط. كذلك، يمكنهم تمويل مشاريع تنموية مستدامة، مثل إنشاء مشاغل صغيرة، ودعم المشاريع الزراعية، وتمكين المرأة، وتوفير التدريب المهني للشباب. وتساهم هذه المشاريع في خلق فرص عمل محلية، وتقليل الاعتماد على المعونات الخارجية.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث في الشؤون السياسية والاجتماعية بسام السليمان، عن كيفية توجيه الدعم الإنساني ليصبح أكثر استدامة ويساهم في تحسين الواقع المعيشي للسوريين على المدى الطويل: “إن توجيه الدعم ليكون أكثر استدامة هو أمر بسيط يمكن تحقيقه من خلال إجراء دراسات بالتعاون مع الحكومة. هذه الدراسات ستؤدي إلى وضع خطط لمشاريع مستدامة. نعم، الشعب السوري يحتاج إلى خطط إغاثة عاجلة، لكنه بحاجة أيضاً إلى خطط استجابة مستدامة”.
وفي السياق ذاته، يتحدث الباحث أدهم قضيماتي عن دور المبادرات الفردية للمغتربين في تطوير المهارات المهنية للشباب السوري، وكيفية توسيع نطاق هذه المبادرات، قائلاً: “يمكن للمبادرات الفردية أن تساهم في بناء جوانب معينة، لكنها لا تكفي لبناء دولة أو تطوير القطاعات الحيوية بشكل شامل. الاعتماد الأكبر يجب أن يكون على الحكومة والخطط التي تضعها للتنفيذ”.
ويضيف قضيماتي: “نحن نتحدث عن تخطيط حكومي متكامل يجب أن يكون موجوداً أولاً، وبعد ذلك تأتي المبادرات الفردية لتكمل هذه الخطط أو تساهم في تنفيذها. المبادرات الفردية يمكن أن تكون فعالة في الأمور البسيطة والمشاريع الصغيرة، لكنها ليست كافية لتطوير قطاعات الدولة بشكل كامل. التخطيط الأولي من الدولة ضروري، ثم تأتي هذه المبادرات كداعم للتنفيذ”.
ثالثاً: الدور السياسي والثقافي للجالية في دعم قضايا سوريا
يمتلك السوريون المنتشرون في أوروبا، وأميركا، وكندا فرصاً مهمة للتأثير على الرأي العام وصنّاع القرار في الدول المضيفة، من خلال الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وكذلك عبر المشاركة في ندوات ومؤتمرات لإيصال صوت الشعب السوري، وطرح القضايا المرتبطة بسوريا، وإبراز الصورة الحقيقية للوضع في سوريا بعد سقوط النظام، مع تسليط الضوء على الحاجة إلى دعم الحلول التي تخدم الشعب السوري، وليس فقط المصالح السياسية للدول الكبرى.
يمكن للجاليات السورية الاستفادة من اللوبيات الخاصة بها في الضغط على السياسات في الدول الغربية، بهدف التأثير على الحكومات والبرلمانات لدعم مواقف تخدم مصالح الشعب السوري، سواء على صعيد تخفيف العقوبات الاقتصادية ذات الأثر السلبي على المدنيين، أو زيادة الدعم الإنساني والإغاثي.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث في الشؤون السياسية والاجتماعية بسام سليمان في مقابلة خاصة مع تلفزيون سوريا: “بالنسبة للجاليات، يمكن أن تشكل جماعات ضغط فعّالة، خاصة أن بعض أفرادها حصلوا على جنسيات في دول إقامتهم، ما يمنحهم القدرة على التأثير في الانتخابات والشأن السياسي”.
بالإضافة إلى ذلك، هناك جزء من هذه الجاليات أصبح من أصحاب رؤوس الأموال والنشاطات الاقتصادية، وقد رأينا كيف كان للجالية السورية في الولايات المتحدة تأثير ملموس، وأعتقد أن هذه الجاليات يمكن أن تساهم بشكل كبير في تحسين الواقع في سوريا”.
رابعاً: دعم التعليم وبناء القدرات المهنية والتقنية
يعدّ التعليم الاستثمار الأهم في مستقبل سوريا، ويمكن للسوريين في الخارج، خصوصاً رجال الأعمال والأكاديميين، المساهمة من خلال تأسيس صناديق منح دراسية لدعم الطلاب السوريين. هذه المنح يمكن أن تشمل التعليم الجامعي والدراسات العليا، والتدريب المهني، مما يفتح آفاق المستقبل أمام الشباب السوري.
كما يستطيع السوريون المتخصصون في الخارج تنظيم برامج تدريبية للشباب السوري في الداخل عبر المنصات الرقمية. يمكن أن تشمل هذه البرامج مجالات مثل البرمجة، ريادة الأعمال، الإدارة، الصناعة، وغيرها، مما يساهم في رفع كفاءة الشباب وتأهيلهم لسوق العمل المحلي والدولي. بالتنسيق مع الخبراء التربويين السوريين في الخارج، يمكن العمل على تطوير المناهج التعليمية السورية بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل المستقبلية، مع التركيز على المهارات الحياتية والتقنية، مما يعزز فرص الشباب في بناء مستقبلهم.
وفي هذا الإطار، يقول الباحث أدهم قضيماتي: “فيما يتعلق بالمناهج والبرامج التعليمية، يجب أن تواكب احتياجات السوريين المستقبلية، وندعو إلى توطين التكنولوجيا في سوريا. كما يجب أن تعتمد البرامج التعليمية على التكنولوجيا بشكل كامل، وتطوير مناهج تركز على المجالات التي كانت غير موجودة في سوريا، مثل قطاع النفط والتكنولوجيا. هذا التطوير ضروري لأنه يمثل الأساس لبناء مستقبل سوريا”.
ويضيف قضيماتي: “أما بالنسبة لدور السوريين المغتربين، فسيكون دورهم فعالاً عندما توضع خطط واستراتيجيات واضحة. عند وجود مثل هذه الخطط، سيكون هناك الكثير من الأشخاص المستعدين للمساهمة في تطوير قطاع التعليم. الخبرات متوفرة سواء داخل أو خارج سوريا، وهي جاهزة لدعم كل ما تحتاجه سوريا في هذا المجال”.
بشكل عام، إن دعم السوريين في الخارج لوطنهم ليس مجرد واجب أخلاقي أو تعبير عن الحنين فحسب، بل هو مسؤولية وطنية تتطلب بناءً على أسس منهجية متكاملة. التحويلات المالية، الاستثمار، ونقل الخبرات، جنباً إلى جنب مع المشاركة الإنسانية والسياسية والتعليمية، تشكل خارطة طريق متكاملة لدعم سوريا المستقبل. فالسوري في الخارج ليس مجرد مغترب، بل هو سفير لوطنه، وسند لشعبه، وجزء من الحل لبناء مستقبل أفضل.
———————————
الحدود اللبنانية السورية.. تاريخ من التهريب والنزاعات والتحديات محدث 18 مارس 2025/ جيسي خليل
18 مارس 2025
تعتبر الحدود اللبنانية السورية واحدة من أكثر النقاط حساسية في المنطقة، إذ تشكّل نقطة تداخل معقدة بين المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية لكل من لبنان وسوريا، ما يجعلها ساحة دائمة للتوترات والتجاذبات الإقليمية.
فعلى مدى السنوات الماضية، شهدت هذه الحدود العديد من المشاكل، على المستويين الأمني والسياسي، ما جعل من قضية الحدود اللبنانية السورية ملفًا شائكًا، مرتبطًا بالتحولات السياسية والأمنية في المنطقة.
وتطرح الاشتباكات المتكرّرة على هذه الحدود، خصوصًا بعد سقوط نظام بشار الأسد، تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين البلدين وإمكانية إيجاد حلول دائمة لضبط الحدود وضمان استقرارها.
خريطة الحدود اللبنانية
قبل الشروع في الحديث عن أبرز المشاكل على الحدود، لا بد من فهم الجغرافيا لتتضح الصورة حول أسباب كثرة الأحداث المترابطة بين البلدين.
تمتدّ الحدود اللبنانية البرية على طول 454 كلم، حيث تحدّها سوريا من الشمال إلى الشرق على طول 375 كلم. أما الحدود الجنوبية فتمتد على طول 79 كلم كما أن للبنان حدودًا بحرية تمتد على طول 225 كلم على البحر المتوسط.
يعاني لبنان على حدوده الشمالية الشرقية مع سوريا من عمليات التهريب والتنقل غير الشرعي لما تتميز به هذه الحدود من تضاريس جبلية وأودية، ما يجعل ضبطها بالكامل أمرًا صعبًا.
وفي الجنوب تعتبر الحدود الأكثر توترًا في المنطقة لما شهدته من نزاعات عسكرية متكررة منذ عام 1948 عند تأسيس إسرائيل، التي لم يقف طمعها عند الحدود البرية بل انسحب إلى الحدود البحرية بسبب وجود حقول النفط والغاز.
النقاط الساخنة على الحدود اللبنانية السورية
تنقسم النقاط الساخنة على الحدود اللبنانية مع سوريا إلى معابر رسمية، وأخرى غير شرعية معروفة لقاطني البلدين، ومن أبرز المعابر الرسمية:
المصنع في البقاع، وهو الطريق الرئيسي الذي يسلكه العابرون من بيروت إلى دمشق.
العبودية في الشمال اللبناني، وهو يربط لبنان بمحافظة طرطوس السورية.
القاع – جوسيه، ويقع هذا المعبر في البقاع الشمالي، وهو قريب من القصير السورية، ويُستخدَم لنقل البضائع والناس.
أما المعابر غير الشرعية التي تعدّ مركزًا للأنشطة غير القانونية مثل التهريب والتنقل غير القانوني، الأمر الذي يشكّل تحديًا أمنيًا واقتصاديًا، فهناك العشرات منها:
معابر في منطقة البقاع (في القاع وعرسال والهرمل) وتستخدم لتهريب المحروقات والمواد الغذائية وحتى السلاح.
معابر في الشمال (في وادي خالد وعكار) وتستخدم لنقل الأشخاص والبضائع بسبب قربها من القرى الحدودية.
معابر في الجنوب والوسط وهي أقلّ انتشارًا، ولكنها موجودة في المناطق النائية.
ويسهل وجود هذه المعابر بسبب العلاقات العائلية والقبلية، لأنّ العديد من القرى الحدودية تنتمي لعائلات واحدة مقسمة بين سوريا ولبنان، مما يسهّل التنقل عبر الحدود دون اعتبارها خرقًا قانونيًا، فبعض الأفراد يعبرون الحدود بسهولة من دون المرور بالإجراءات الرسمية، وبما أن العديد من هذه العائلات تعمل بالزراعة والتجارة، يتم استغلال العلاقات لتهريب المنتجات.
وعند اندلاع النزاعات، تلجأ العائلات السورية إلى أقاربها في لبنان، ما يزيد الضغط على المناطق الحدودية ويكثر من أعداد اللاجئين. وتمتد هذه العائلات عبر الحدود بسبب التقسيم السياسي الحديث، لكنها تاريخيًا كانت تعيش في مناطق واحدة.
فقبل اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، لم تكن هناك حدود واضحة بين لبنان وسوريا، إذ كانا جزءًا من ولاية دمشق وولاية بيروت العثمانية.
وبعد الاتفاقية، خضع البلدان للنفوذ الفرنسي وتم فصلهما إداريًا وجغرافيًا، وأُعلن قيام دولة لبنان الكبير ما أدى إلى تغيير في التوزيع الديمغرافي والسياسي وفصلت مناطق ذات روابط اجتماعية واقتصادية متداخلة، خاصة بين البقاع اللبناني وريف دمشق، وبين عكار وطرطوس.
ترسيم الحدود والمناطق المتنازع عليها
الحدود اللبنانية السورية كما نعرفها اليوم وليدة تعديلات شهدتها في حقبة الانتداب الفرنسي. ففي العام 1920 قررت فرنسا فصل “لبنان الكبير” عن سوريا وتم اعتماد الترسيم بين عامي 1920 و1923حيث أضيفت مناطق مثل البقاع وعكار وراشيا وحاصبيا إلى لبنان، رغم أنها كانت متصلة إداريًا واقتصاديًا بسوريا في العهد العثماني. وفي عام 1934، جرى تعديل بسيط للحدود لكنها بقيت غير مرسّمة بشكل دقيق في بعض المناطق.
ورغم الاعتراف بالحدود اللبنانية-السورية وفق اتفاقيات دولية، إلا أن بعض النقاط لا تزال غير مرسّمة بالكامل، خصوصًا في مناطق مثل مزارع شبعا، والقلمون، وجرود عرسال، ما يؤدي إلى استمرار العلاقات المتداخلة أو النزاعات بين البلدين ويسهّل العمليات غير الشرعية التي نشهدها اليوم، إذ إن العائلات ما زالت تتبادل السلع والمنتجات الزراعية وغيرها عبر الحدود، وما زال من الشائع أن يتزوج أفراد من لبنان وسوريا ضمن العائلة الواحدة، ما يعزز التواصل المستمر، بالإضافة إلى الثقافة والعادات المشتركة التي يتم التمسك بها، وهي متطابقة بين بعض المناطق اللبنانية والسورية.
وتتواجد هذه العائلات اليوم في المناطق الحدودية مثل البقاع، عكار، الهرمل، وادي خالد، والقنيطرة، وريف دمشق، لكنّ شهرتها تمتد أبعد بكثير من حدود البلدين:
آل جعفر – يتواجدون في الهرمل بلبنان، ويمتدون إلى ريف حمص في سوريا.
آل شمص – موجودون في البقاع الشمالي ويمتدون إلى سوريا.
آل دندش – يتوزعون بين الهرمل وريف حمص.
آل زعيتر – من أكبر العائلات في بعلبك ولهم امتداد في سوريا.
آل المقداد – يتواجدون في البقاع ودمشق.
آل نصر الدين – موجودون في البقاع وريف دمشق.
آل أمهز – من العائلات الكبيرة في البقاع، خصوصًا في بعلبك، ولهم امتداد في سوريا.
آل شريف – موجودون في وادي خالد بلبنان وحمص بسوريا.
آل حسين – ينتشرون في عكار وريف حمص.
آل العلي – يتواجدون في وادي خالد بلبنان وريف حمص وحماه.
وعلى الرغم من ترسيم الحدود خلال الانتداب الفرنسي، إلا أن هناك مناطق لا تزال محل خلاف، مثل مزارع شبعا المحتلة، التي يطالب بها لبنان، فيما تعتبرها سوريا أرضًا سورية، وكذلك مناطق في البقاع الشمالي وجرود عرسال، حيث لا تزال الحدود غير واضحة تمامًا.
وعلى الرغم من أنّ الحكومة اللبنانية طالبت مرارًا بترسيم الحدود مع سوريا، إلا أنّ دمشق لم تُبدِ حماسة لذلك، ربما بسبب تعقيدات سياسية وعسكرية. ولذلك، فإنّ الموضوع لا يزال محل نقاش بين الأطراف السياسية، وقد يستمر طالما بقيت العوامل الاقتصادية والسياسية على حالها.
النشاطات غير الشرعية والتحديات الأمنية
بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وفارق الأسعار بين لبنان وسوريا، نشط تهريب السلع الأساسية على الحدود في الاتجاهين، مثل المحروقات والطحين. وخلال الأزمة السورية، زادت عمليات التهريب والتنقل غير القانوني، سواء بسبب اللاجئين أو المجموعات المسلحة.
وإلى جانب التهريب، تكثر الأحداث الأمنية على الحدود اللبنانية السورية، وآخرها الاشتباكات التي اندلعت في 15 مارس/ آذار، حيث اتهمت وزارة الدفاع السورية حزب الله بنصْب كمين وخطف ثلاثة عناصر أمنية عند الحدود، قبل اقتيادهم إلى داخل الأراضي اللبنانية وتصفيتهم، فيما نفى الحزب “بشكل قاطع” أيّ علاقة له بالأحداث.
وفي فبراير/ شباط الماضي أيضًا، وقعت اشتباكات عنيفة بين القوات السورية ومجموعات مسلحة من العشائر اللبنانية، حيث أعلنت القوات السورية عن إطلاق حملة أمنية في ريف حمص الغربي بهدف إغلاق منافذ تهريب الأسلحة والممنوعات وذلك بعد سقوط نظام الأسد واستلام احمد الشرع زمام السلطة.
خلال هذه العملية، دخلت القوات السورية بلدة حاويك الحدودية، ما أدى إلى اشتباكات مع مسلحين من عشائر لبنانية، وأسفرت المواجهات عن سقوط قتلى وجرحى من الجانبين واستمرت الاشتباكات في المناطق الحدودية، خاصة في بلدات قنافذ وجرماش، قبل أن تعلن السلطات السورية السيطرة على الحدود في نهاية المطاف.
رغم المحاولات الأمنية، فإن العلاقات العائلية والقبلية تجعل من المستحيل ضبط الحدود اللبنانية السورية بالكامل، خصوصًا أن بعض القرى في لبنان وسوريا متداخلة جغرافيًا، ويُعتبر التنقل عبرها جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية
القصف الاسرائيلي هو الآخر لم يرحم هذا الجزء من الحدود، ففي فبراير/ شباط 2025 شنت القوات الجوية الإسرائيلية غارات استهدفت مواقع تابعة لحزب الله على الحدود السورية-اللبنانية، بهدف منع تهريب الأسلحة إلى داخل لبنان بحسب قولها.
وإذا كانت الاشتباكات الحدودية ازدادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، إلا أنّها كانت موجودة أيضًا في زمن النظام السابق. ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2024 اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات النظام ومجموعات مسلحة في المناطق الحدودية، خاصة في ريف حمص الغربي.
أما في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 فشهدت المنطقة تصعيدًا ملحوظًا بعد هجوم شنته فصائل مسلحة على مواقع لجيش النظام قرب الحدود اللبنانية، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى.
وفي سبتمبر/ أيلول 2022 قامت القوات الإسرائيلية بقصف مواقع داخل الأراضي السورية قرب الحدود اللبنانية، مستهدفة مستودعات أسلحة تابعة لجماعات مسلحة مدعومة من إيران.
في يونيو/ حزيران 2021 شهدت المنطقة الحدودية اشتباكات متقطعة بين الجيش اللبناني ومهربين، في محاولة للحد من عمليات التهريب المستمرة عبر الحدود.
دور المنظمات المتطرفة وعمليات التفجير
لم تقتصر المشاكل على الحدود على البعد الاقتصادي والصراع مع إسرائيل، فقد تفاقم الوضع الأمني عند ظهور بعض التنظيمات المسلحة المتطرفة، ولا سيما تنظيم الدولة، على الحدود اللبنانية – السورية بين عامي 2013 و2017، حيث استغلّت هذه التنظيمات الطبيعة الجغرافية الوعرة للمنطقة لإنشاء معاقل لها، خاصة في جرود عرسال، ورأس بعلبك، والقلمون الغربي.
وعلى سبيل المثال، شنّت جبهة النصرة، بالتعاون مع تنظيم الدولة، في 2 أغسطس/ آب 2014، هجومًا كبيرًا على بلدة عرسال اللبنانية، حيث اختطفوا 30 عسكريًا لبنانيًا (جنود من الجيش اللبناني وعناصر من قوى الأمن الداخلي)، وذلك بعد هجومهم على مراكز الجيش اللبناني في البلدة.
بعد ذلك، أقدم تنظيم الدولة على إعدام 4 جنود لبنانيين هم علي السيد وعباس مدلج (أعدما ذبحًا في أغسطس/ آب 2014، وسبتمبر/ أيلول 2014)، ومحمد حمية (رميًا بالرصاص في 2015)، إضافة إلى بيار بشعلاني وإبراهيم زهرمان (قتلا أثناء المعركة). أما جبهة النصرة، فقد استخدمت الجنود كورقة ضغط لمقايضتهم بمعتقلين في السجون اللبنانية، حيث أطلقت سراح 16 جنديًا لبنانيًا في 1 ديسمبر/ كانون الاول 2015، مقابل إطلاق السلطات اللبنانية سراح 13 سجينًا من الموقوفين في سجن رومية، بينهم سجى الدليمي (طليقة زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي) وجمانة حميد (متهمة بتهريب سيارات مفخخة).
وفي ظل القتال المستمر ووجود مسلحين يعبرون الحدود بطريقة غير شرعية شهد لبنان عمليات تفجير قام بها انتحاريون في بعض المناطق، وفي عمق الضاحية الجنوبية لبيروت عبر متسللين من سوريا.
البداية كانت في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 عندما حصل تفجير مزدوج استهدف السفارة الإيرانية في بيروت، أدى إلى مقتل 23 شخصًا وإصابة العشرات. وفي 2 يناير/ كانون الثاني 2014 فجر انتحاري تسلل عبر الحدود نفسه في الضاحية، ما أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين.
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 حصل تفجيران في برج البراجنة راح ضحيتهما 43 قتيلًا وعشرات الجرحى. وفي 23 يونيو/ حزيران 2014، فجّر انتحاري دخل من القلمون السورية نفسه قرب نقطة تفتيش للجيش اللبناني وأظهرت التحقيقات أن الانتحاري جاء من سوريا عبر معبر غير شرعي.
وفي يونيو/ حزيران 2016، نفذ 8 انتحاريين سلسلة تفجيرات في بلدة القاع الحدودية، حيث قُتل 5 مدنيين وأُصيب أكثر من 30 شخصًا.
ومع أن بعض العمليات نجح الانتحاريون بتنفيذها إلا أنّ الأجهزة الأمنية اللبنانية أحبطت عدة عمليات انتحارية كان مخططًا لها من قبل متسللين من سوريا، مثل محاولة تفجير في الحمرا (بيروت) عام 2017. كما أعلنت الأجهزة الأمنية اعتقال بعض العناصر قبل تنفيذ هجمات في طرابلس والبقاع.
هل يمكن ضبط كل هذه الظواهر؟
رغم المحاولات الأمنية، فإن العلاقات العائلية والقبلية تجعل من المستحيل ضبط الحدود بالكامل، خصوصًا أن بعض القرى في لبنان وسوريا متداخلة جغرافيًا، ويُعتبر التنقل عبرها جزءًا طبيعيًا من الحياة اليومية.
أما ضعف المراقبة الأمنية بالرغم من وجود الجيش اللبناني وقوى الأمن فيعود سببه إلى التضاريس الوعرة وعدد المعابر الكبير الذي يعقّد السيطرة عليها.
ولكن الجهود لم تتوقف في محاولة الحد من الأفعال غير القانونية حيث نفّذ الجيش اللبناني عمليات أمنية متكررة لإغلاق بعض هذه المعابر، لكن سرعان ما تم فتح بدائل جديدة، وتم نصب أبراج مراقبة وكاميرات حرارية بتمويل دولي، لكنها لم تنهِ المشكلة تمامًا. وهناك محاولات لتعزيز التعاون مع الجانب السوري، لكن التعقيدات السياسية تحدّ من فعاليتها.
وفي النتيجة، تبقى الحدود اللبنانية-السورية نقطة ضعف استراتيجية للبنان، حيث تؤثر على الأمن، والاقتصاد، والسياسة الداخلية، ويتطلب حل هذه الأزمات إرادة سياسية قوية، ودعمًا أمنيًا، وتعاونًا إقليميًا لضبط الحدود وإيجاد حلول مستدامة للمشاكل المتفاقمة، فبدون معالجة القضايا العالقة، ستبقى الحدود مصدرًا للأزمات والتوترات في كل من لبنان وسوريا.
—————————–
كارثة أن تصبح النخب جماهير/ أرنست خوري
19 مارس 2025
نضال النخب من أجل حقّ الجماهير بالعيش مواطنين أحراراً محترمين شيء، واقتباس هذه النخب خطاب الجماهير، أي ارتداؤها ثوب الشعبوية شيء آخر تماماً. في الحالة الثانية، تكون النخب المثقفة والبرجوازية قد تخلّت عن دورها التقدّمي التغييري والديمقراطي لتسابق الجماهير على التصفيق للزعيم والمزايدة على خطابه الرسمي. عندها، نكون أمام كارثة وطنية في ظروفٍ تاريخيةٍ كالتي تمرّ فيها سورية هذه الأيام، محاولةً شقّ طريقها لبناء دولة من تحت الصفر وإعلاء المواطنية على الطوائف والإثنيات وإرساء علاقات سليمة وسلمية في الداخل والتصالح مع العالم. وإن كان أحد أسباب فشل الثورة السورية 13 عاماً ترييف المدينة طوال عقود حكم البعث، وضعف البرجوازية السورية نتيجة حربٍ شعواء شنّها نظام الأسد منذ ولادته عليها وعلى المدينة منذ تأسّس “البعث” السوري على يد ضباط ريفيين، فإنّ احتمالات فشل بناء سورية جديدة تكبر كلما تخلت النخبة المثقفة عن دورها النقدي لتصبح نسخة مزورة من الجماهير، وكلما استقالت البرجوازية من موقعها التغييري لتلتحق بالبروليتاريا. ومصطلحا البرجوازية والبروليتاريا يحضران هنا لا حنيناً لأدبيّاتٍ ماركسية، إنما لأن الذكاء الاصطناعي وجميع القفزات التكنولوجية والمعرفية والعلوم الاجتماعية لم تقدّم مصطلحين بديلين يحملان ما تحمله البرجوازية من طاقةٍ تغييرية، هرباً من القاع وسعياً إلى الأعلى، والتغيير يحصل في هذه المسافة الفاصلة بين المنزلتين، وطاقة سلبية عنفية أو استسلامية لدى البروليتاريا التي عندما لا يكون لديها وعي ثوري تغييري على قولة كارل ماركس، تكون “رثّة” و”حطب صوبيا”، والوصفان لصاحب اللحية الكثّة إياه.
وانزلاق نخبٍ إلى خطاب الجماهير يُرصد في كل حدث سوري هذه الأيام. يحضُر في تبرير نخبٍ كثيرة مجازر الساحل الطائفية أو صمتها عنها أو سلوكها مسلك “اعمل نفسك ميّت” أمام فيديوهات المذبحة وقصصها. يُعثَر عليه في التخلي عن العقل والحكمة والخطاب الهادئ، والانزلاق إلى وطنياتٍ شوفينيةٍ رخيصة، تلاقي وطنياتٍ أرخص في لبنان، على هامش ما استفقنا عليه من حربٍ على الحدود المعروف منذ عقود أنها مرتع لتهريب السلاح والسلع والأموال والممنوعات والبشر، وأنها مكان إقامة للعشائر ولتداخل السكان، وساحة للنزاعات العقارية وأخيراً ملعب لعبث حزب الله. في ظرفٍ كالذي تعيشه سورية، بلداً يحاول الخروج من الجحيم ويتعثّر، كل ما فيه منهار ومفلس، إسرائيل تفعل ما تشاء في أرضه وسمائه وتخترق مجتمعه، الكراهية بين طوائفه وقوميّاته تعيش ربيعها، لا دولة فيه ولا مؤسّسات… وفي لبنان الذي لا يفهم كثر كيف أن ناسه لا يزالون يتدبّرون أمورهم أكلاً وشرباً وأمناً، بلد منكوب من حزب الله ومن إسرائيل ومن زعماء طوائف وضيعين ومسؤولين فاسدين وسارقين محترفين… في ظروف سورية ولبنانية كهذه، تركّب نخبٌ رؤوساً حامية فوق أكتافها، فتسمعها تحرّض سلطاتها الجديدة على اجتياح لبنان وربما الزحف نحو العاصمة وضاحيتها لتقضي على حزب الله، وتتقمّص دعوة هيثم المالح إلى استعادة سورية ساحلها وجبلها (أي لبنان). في ظروفٍ كهذه، بدل أن تتفق النخبتان السورية واللبنانية، بعدما زال حاجز النظام الأسدي وانكسرت شوكة حزب الله نسبياً، على أن مصلحة البلدين مشتركة بأن تكون فيهما دولة حقيقية تضبط الحدود وتمنع وجود المليشيات، وبدل أن تهدّئ هذه النخب من جنون جماهير متعطّشة للدماء وللعنصرية، تراها وتقرأها وتسمعها تبتذل شعبوية وتحريضاً وكلاماً فارغاً عن الحسم العسكري والضرب بيد من حديد ووضع حدّ لـ”حزب الشيطان”، ليبدو خطاب السلطة العسكرية أكثر هدوءاً من تدوينات وتصريحات وفيديوهات مثقفين وصحافيين وشخصيات عامة كان يُنظر إليها قبل سقوط نظام الأسد مرشحةً لقيادة سورية الجديدة، بمجتمعها إن لم يكن بدولتها.
ذات يوم، خاف أحمد فؤاد نجم مما اعتقده نصراً في 1973، على قاعدة “خدنا سينا خَدو مصر”. اليوم، خوفنا كبير على نصر السوريين، أن يكونوا أسقطوا الأسد ولكنهم خسروا نخبتهم.
العربي الجديد
————————-
جوبر: مدينة الصمود والركام/ سمر شمة
19 مارس 2025
عندما تدخل إلى مدينة جوبر السورية في الغوطة الشرقية تطاردك مشاهد الدمار الكامل في كل ركن من أركانها، وبقايا ركام المنازل ودور العبادة والمواقع الأثرية التاريخية والمقامات والمدارس والمشافي، وحتى المقابر التي لم تسلم أيضًا من وحشية النظام الأسدي وقصفه المتواصل على مدى سنوات. لا لون في المدينة سوى السواد وأطلال منازل كانت دافئة ذات يوم تضجّ بضحكات الأطفال وحكايا الأمهات وأحلام الشباب والشابات.
تعرّض هذا الحي الدمشقي بعد انطلاق الثورة السورية لقصف همجي متواصل بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، ولحصار خانق وتجويع ممنهج. صمد أهله ومقاتلوه صمودًا أسطوريًا، وكان من الأحياء الأولى التي احتضنت تظاهرات الريف الدمشقي السلمية نهاية آب/ أغسطس 2011 والتي نادت بإسقاط النظام الديكتاتوري القمعي وبوحدة الشعب السوري، لكن قوات الأسد أطلقت النار على المتظاهرين منذ البدايات وقتلت وجرحت العشرات من المدنيين.
من ساحة للتظاهرات الكبرى ونشاط لتنسيقيات جوبر تحولت المدينة إلى جبهة قتال ضارية مشتعلة، وذلك بعد أن صعّد جيش النظام وحليفاه الروسي والإيراني قصفهم المدفعي والجوي يوميًا مستخدمين “الفيل” و”الزلزال” و”القنابل الفراغية والعنقودية” وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليًا وذلك لمنع تقدم قوات المعارضة المسلحة التي تشكلت في الغوطة الشرقية وجوبر ولحماية العاصمة السورية التي تبعد بضعة أمتار عنها، ولفرض طوق محكم وخانق بعد أن أصبحت المدينة عصيّة على النظام وعصاباته وشكلّت خطرًا كبيرًا عليه.
سُميت جوبر نسبة لغار كان يختبئ فيه نبي الله الياس، وفيها بئر ماء فسمي المكان “جب بر” ثم تطورت التسمية إلى ما هي عليه الآن، وكان البئر يقع ضمن الكنيس اليهودي الموجود هناك والذي يرتاده بعض اليهود السوريين والزوار. كانت المدينة تتبع لمحافظة ريف دمشق، ثم تمّ ضمها للعاصمة السورية عام 1968 وجرى فيها توسع عمراني كبير منظم وعشوائي.
تقع في شمال شرق دمشق بين باب توما والقصاع والتجارة غربًا والقابون شمالًا وعين ترما وزملكا شرقًا، وعين ترما والدويلعة جنوبًا، ويمر فيها نهر بردى من طرفها الجنوبي. ويذكر المؤرخون أنها كانت المكان الثاني لليهود في دمشق قديمًا حيث يوجد وسطها أقدم كنيس يهودي في العالم يحتوي على أقدم نسخة توراة معروفة، إضافة إلى وجود “إلياهو هنافي”، وهو كنيس مقدس ليس عند اليهود فحسب، بل عند بعض المسلمين لاعتقادهم بوجود مقام “النبي الخضر” فيه، وعند المسيحيين لوجود قبر “النبي الياس” فيه حسب اعتقادهم. يوجد في جوبر أيضًا “الحمام القديم” الذي يعود تاريخ بنائه إلى العهد التركي قبل 650 عامًا، وشارع “الخرار” نسبة إلى نهر بالاسم نفسه وتنتشر المحلات التجارية في أرجائه، وشارع وسوق “الأصمعي” وهو الشارع الأكثر شهرة وينتهي بجامع “جوبر الكبير” أو “مسجد الأصمعي” نسبة لعالم اللغة الشهير عبد الله الأصمعي، وهو مسجد أثري ومن أقدم مساجد الحي وبجانبه مقام بالاسم نفسه، إضافة إلى مسجد الصحابي الجليل حرملة بن الوليد، ابن خالة النبي محمد (ص). وقبره داخل المسجد. وهو شقيق الصحابي الجليل خالد بن الوليد. وكذلك جامع الصحابي محمد الأوس وجامع العمادي الذي يعد من أقدم مساجدها، وفيها أيضًا العديد من الأسواق الضخمة. وتبعد عن القصر الجمهوري 7 كيلومترات وعن ساحة العباسيين بقلب دمشق أمتارًا قليلة. ويبلغ عدد سكانها حسب إحصائيات 2008 حوالي 300.000 نسمة.
تُعتبر جوبر بوابة الغوطة الشرقية إلى مدينة دمشق، وشريانًا اقتصاديًا هامًا لما فيها من تعدد مجالات العمل من مهن شعبية وتجارية وطبية وصناعات صغيرة وحرفية.
كانت خلال سنوات الثورة ساحة قتال ضارية ومشتعلة، وفي أوج احتدام المعارك عام 2012 ظهرت الحاجة لبناء أنفاق فيها لمواجهة قوات النظام وروسيا التي تعتمد على القصف بالطيران والمدفعية الثقيلة لتدمير المدينة وقتل سكانها، وهنا بدأ الحفر باستخدام أدوات تقليدية لبناء شبكة من الأنفاق وصل طولها إلى 27 كيلومترًا وبأعماق وصلت لعشرين مترًا. وتمّ تقسيمها إلى ثلاثة أنفاق رئيسة كبيرة تربط بين منطقتي الغوطة وجوبر وتُستخدم لمرور سيارات الإسعاف والإمداد التي تنقل العتاد العسكري والمقاتلين وتحمل أيضًا الغذاء والدواء للسكان. وكانت تضم فتحات للتهوية وبطاريات للإنارة وغرفًا لتجمع المقاتلين، ونقاطًا لمراقبة الصور القادمة إلى الشاشات عبر كاميرات تم زرعها في عدة مناطق لمراقبة تحركات النظام، وقد استُخدمت هذه الأنفاق أيضًا ككمائن لتدمير دبابات جيش النظام حيث كانت تتم مراقبة الدبابة التي تتمركز في منطقة معينة ثم يتم الحفر إلى منطقة تمركزها ومن ثم تفجيرها، وهذا ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة منها وأوقف توغلها في المدينة.
كانت جوبر كما أطلقوا عليها مقبرة للدبابات وكان لأنفاقها أبعاد مدنية وإنسانية وطبية وعسكرية وصارت ملاذًا آمنًا وسكنًا للهاربين من قصف النظام وإجرامه وطريقًا لنقل الشهداء ودفنهم، وقد لجأ إليها عام 2018 وبعد تدمير المدينة بالكامل أكثر من عشرة آلاف مدني بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس جراء تصعيد النظام لقصفه وغاراته المكثفة على مناطق وبلدات الغوطة الشرقية.
الجدير ذكره أن المعارضة المسلحة سيطرت على جوبر عام 2013، واستمرت فيها، على مدى سنوات، معارك طاحنة، منها معركة رص الصفوف عام 2015 عندما أعلنت سبع فصائل عسكرية إصرارها على استعادة نقاط يتمركز فيها النظام، والفصائل هي: جند العاصمة – فيلق الرحمن- جيش الإسلام- أجناد الشام وغيرها. وفي عام 2017 سيطرت فصائل الغوطة الشرقية على منطقة كراجات العباسيين ومحيطها في دمشق، وشنّت هجومًا على قوات النظام واستعادت بعض المناطق التي خسرتها سابقًا. وفي العام نفسه في حزيران/ يونيو شنّ النظام وحلفاؤه على جوبر وعين ترما والضواحي الشرقية للعاصمة هجومًا عنيفًا وتصدت له المعارضة وتكبد الطرفان خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات. وبعده قامت قوات الأسد وروسيا بعملية عسكرية كبيرة على معقل المعارضة في هذه المدينة وأحرزت تقدمًا كبيرًا فيها وفي عين ترما المجاورة، وقد أكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن هجومًا كيماويًا حدث في 22 حزيران/ يونيو على شمال جوبر. واستمرت المعارك بين الجانبين وسط تعرض المدينة والغوطة لهجوم متكرر بغاز الكلور إلى أن تم التوصل لوقفٍ لإطلاق النار تم استبعاد فيلق الرحمن وتحرير الشام منه.
وفيما بعد خرج المقاتلون من جوبر مع عدد كبير من المدنيين باتفاق روسي عام 2018 وتمت السيطرة الكاملة عليها وعلى بلدات الغوطة الشرقية المحاذية بعد هجوم عنيف واستشهاد مئات المدنيين واعتقال المئات أيضًا، ودمار أكثر من 90% من الأبنية التي انهارت بالكامل وتحوُّل المدينة إلى أنقاض بلا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات ولا حياة.
وكعادته حاول النظام طمس الجرائم التي ارتكبها في جوبر وتزوير التاريخ وتشويهه، ودفن ما حدث من ترويع وخراب، وقرر محو الشاهد على اختيار أهاليها للحياة بدلًا من الموت، فحوّل الأنفاق إلى ورشة فنية نحت فيها الفنانون التشكيليون وجوه القتلة بدلًا من الضحايا الذين استُشهدوا في مواجهات أسطورية معه.
حاول بعض سكان جوبر العودة إليها بعد خروج المقاتلين منها رغم افتقارها لمقومات الحياة، ولكن النظام منعهم من ذلك نهائيًا بحجة أن الوضع الإنشائي غير آمن وأن هناك مخططًا تنظيميًا للمنطقة، وقامت شركات تابعة له بعملية هدم واسعة لما تبقى من الأبنية واستخرجت منها الحديد ومواد البناء لإعادة تدويرها وبيعها في حين أكدت مصادر مطلعة محلية أن النظام باع المنطقة بأسرها لإيران وأن مشاريع استثمارية إيرانية ستقام هناك.
يقول أحد الأهالي بهذا الشأن: “لقد سرقوا كل شيء، ما تبقى من المنازل والمساجد والمقامات”.
بعد سقوط النظام المجرم عاد بعض سكان جوبر إليها يبحثون عن منازلهم التي سوّيت بالأرض ومنهم من بنى غرفة واحدة تضمّ عشرات الأشخاص، وآخر شيّد خيمة مكان منزله وسكن فيها في محاولة لإعادة الحياة إلى المدينة، وبعضهم وجد ذكريات من بيته وآخر لم يجد سوى الركام: “هون كان بيتي. هون كنا نعيش أنا وأسرتي. لم يبق لنا شيء. ما في كلام يعبر”. وهناك من لم يستطع معرفة مكان بيته وسط هذا الخراب وراح يصرخ: “أين بيتي. لم يبق إلا التراب”!
مراجع:
– بوابة سورية؛
– بوابة الإسلام.
ضفة ثالثة
—————————-
في ذكرى باسل شحادة:تمزيق صُوره في القصّاع…فهل مِن محاسبة؟
الأربعاء 2025/03/19
أثار مقطع فيديو نشره الشاب السوري أحمد ديار بكرلي، موجة استياء واسعة في مواقع التواصل تحدث فيه عن تعرضه وصديقته المسيحية لإهانات وكلمات طائفية أثناء تحضيرهما لتصوير فيديو تكريمي للمخرج باسل شحادة في منطقة القصاع ذات الغالبية المسيحية بالعاصمة دمشق، بمناسبة اقتراب ذكرى مقتله على يد النظام السوري في 28 أيار/مايو 2012.
وقال بكرلي أن الواقعة حدثت عندما كان وصديقته يحملان صوراً لشحادة، فتوقفت بجوارهما سيارتان تقلان مجموعة مجهولة من الملثمين، وسألهما أحد الأفراد عن سبب وجودهما في المكان، وعندما لاحظوا الصور، قال قائد المجموعة: “باسل شحادة ليس شهيداً، بل مجرد قتيل، فهو غير مسلم”، مضيفاً: “هؤلاء كفار”.
وأضاف بكرلي أن أفراد المجموعة كسروا الصور وألقوها على الأرض وداسوا عليها، عندها قالت صديقته للعنصر بأن ما يقوم به يعتبر طائفياً وبأنها ستتقدم بشكوى ضده للأمن، ليتوجه أحدهم إليها، قائلاً لها بسخرية: “خلي الصليب ينفعك”، ثم التفت العنصر إلى بكرلي وقال: “أنتم ناصرتم النظام، ولولا الأمن العام، لرأيتم شلالات من الدم في هذه المنطقة”. وقال بركلي أن عنصر الأمن وضع حذاءه على كتفه واعتدى عليه، وأهانه، وطالب الرئيس الحالي أحمد الشرع بوضع حد لهذه الانتهاكات.
وتابع بكرلي أن أحد العناصر لاحظ زجاجة ماء في حقيبة صديقته، فوجه لها تهديداً: “لو رأيتك تشربين (في رمضان)، لكنت سكبتها على رأسك يا كافرة”، قبل أن يفرغ الماء على الأرض.
أوضح بكرلي أن صديقته تعرضت لانهيار عصبي بعد الحادثة وأضاف: “في زمن نظام الأسد، كنت أرفع صور الشهيد باسل شحادة ولم يكن هناك رد فعل بهذه الطريقة”. وأكد أن هذه التصرفات تنم عن تعصب خطير، وطالب السلطات بالتدخل لوضع حد لهذه المظاهر المتطرفة.
وفي وقت لاحق، قام بكرلي بحذف الفيديو، ثم ظهر في مقطع جديد أوضح فيه أنه لا يتهم الأمن العام بالحادثة، مشيراً إلى أن قراره بحذف الفيديو جاء بعدما “استغلته جهات موالية للنظام السابق”، بالإضافة إلى صفحات ذات طابع طائفي، بهدف إثارة الفتنة والانقسامات داخل المجتمع السوري وتحقيق مصالح شخصية، وأكد أن الهدف من نشر الفيديو كان لفت انتباه السلطات إلى هذه الانتهاكات، وليس إثارة التوترات.
وأثار الفيديو، الذي انتشر على نطاق واسع، موجة غضب وانتقادات حادة، ليس فقط بسبب التعليقات الطائفية التي صدرت عن المجموعة المجهولة، بل أيضاً بسبب ما اعتبر إساءة لرمزية شحادة، الذي فقد حياته دفاعاً عن حرية الكلمة وتوثيق الانتهاكات في سوريا، واستذكر ناشطون ما قدمه شحادة للثورة السورية، فشاركوا مقاطع فيديو وصوراً توثق مسيرته، كما أعادوا نشر مقطع يظهر عبد الباسط الساروت وهو يشارك في تأبينه.
وعلق الصحافي نضال معلوف على الحادثة، معتبراً أن الأخطاء قد تحدث، وللسلطات كامل الحق في التحقيق في الواقعة، لكنه أشار إلى احتمال وجود عناصر غير منضبطة تابعة لبعض الفصائل، ربما تتصرف بطرق غير محسوبة تؤدي إلى عواقب سلبية. وشدد معلوف على ضرورة ضمان سلامة الشخص الذي نشر الفيديو، داعياً السلطات إلى التعامل مع الأمر وفق الأصول القانونية، في حال ثبتت أي مخالفة من أي طرف كان.
وولد شحادة العام 1984 في مدينة حمص لعائلة مسيحية، ودرس هندسة المعلوماتية في “جامعة دمشق”، لكنه كان شغوفاً بالسينما، ما دفعه لمتابعة دراسته في الإخراج السينمائي بعدما حصل على منحة دراسية لمتابعة تعليمه في “جامعة سيراكيوز” في الولايات المتحدة، حيث طور مهاراته السينمائية وأنتج أفلاماً قصيرة ناقشت قضايا اجتماعية وسياسية.
ومع اندلاع الثورة السورية العام 2011، قرر شحادة ترك دراسته في الولايات المتحدة والعودة إلى سوريا للانخراط في الحراك السلمي وعمل على توثيق الاحتجاجات في حمص، التي شهدت أحد أكثر الفصول دموية في الثورة، حيث سجل بعدسته قمع النظام السوري للمتظاهرين، وحاول نقل الصورة الحقيقية لما كان يحدث، كما نظم ورشات عمل لتعليم التصوير السينمائي للناشطين وساهم في إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية التي وثقت الانتهاكات.
وفي 28 أيار/مايو 2012، قُتل باسل شحادة في حي الصفصافة بمدينة حمص، إثر قصف قوات النظام السوري للحي أثناء محاولته توثيق الدمار الذي خلفه القصف، واستهدفت المنطقة التي كان يعمل فيها، ما أدى إلى مقتله مع مجموعة من الناشطين، من بينهم المصور أحمد الأصفر، وشكلت وفاته صدمة كبيرة للمجتمع السوري والحراك الثوري، حيث فقدت الثورة أحد أبرز الأصوات السينمائية التي عملت على توثيق الحقيقة في مواجهة الدعاية الرسمية للنظام.
وبعد مقتله على يد النظام السوري أصبح شحادة رمزاً للثورة السورية، واستمر الناشطون في تخليد ذكراه من خلال نشر أعماله وإعادة مشاركة مقاطع الفيديو التي صورها، وبقيت أفلامه القصيرة ومقاطع الفيديو التي سجلها شاهداً على اللحظات الأولى من الحراك الشعبي ضد النظام السوري، فيما تحول اسمه إلى رمز للحرية والفن المقاوم.
المدن
——————————-
هل يمكن لوزارة الثقافة السورية أن تغير شيئاً؟/ علي سفر
الأربعاء 2025/03/19
وسط غياب الأخبار عن موعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة، التي قال رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع إنها ستكون حكومة انتقالية شاملة تمثل جميع السوريين، تختفي من من منصات الأخبار السورية التخمينات حول من سيشغل منصب وزير الثقافة فيها. وهذا الأمر لا يقتصر على هذه الوزارة فقط، بل يشمل كل المقاعد الوزارية.
منذ سقوط النظام في 08/12/2024 وحتى اليوم، لم يُعلن عن رعاية وزارة الثقافة لأي فعالية. صحيح أن الحراك الثقافي ما زال خجولًا، إلا أنه قائم، ونقرأ بين الحين والآخر أنباء عن فعاليات هنا وهناك. لكن أخبار ديالا بركات، وزيرة الثقافة التي تولت منصبها في عهد النظام البائد في شهر أيلول الفائت، اختفت بعدما سرت شائعة —تم نفيها لاحقًا— تقول إن القيادة الجديدة أوكلت إليها تسيير شؤون الوزارة، بالنظر إلى كونها جديدة في المنصب ولم يُعرف عنها “التشبيح” للأسديين، أي أنها ستدير العمل بشكل إجرائي، من دون تحميل موقعها أي دلالات تتجاوز الأداء التقني.
وفي ظل هذا الواقع، تم صرف النظر عن الأخبار السارة المتعلقة باستعادة العضوية في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة “الإيسيسكو”، بعد إعلان منظمة المؤتمر الإسلامي عودة سوريا إلى المنظمة عقب إيقاف استمر 13 سنة، تسبب في فقدان المؤسسات المحلية لآليات عمل تحتاجها بشدة كي يستقيم أداؤها. وهذا ما يؤكده الإعلان عن اجتماع عاجل عبر الإنترنت، عُقد بين المدير العام للآثار والمتاحف، الدكتور أنس حج زيدان، ومدير مركز “الإيسيسكو” للتراث في العالم الإسلامي، الزيمبابويّ ويبير ندورو، بحضور عدد من الخبراء والمسؤولين، حيث جرت مناقشة سبل التعاون المستقبلي بين المنظمة والمديرية. وقد تقرر بعده إيفاد بعثة تقنية إلى سوريا لتقييم الاحتياجات الفنية واللوجستية للمديرية العامة للآثار والمتاحف، بهدف تعزيز قدراتها في مجالات الحفاظ على التراث الثقافي السوري.
السوريون في الظرف الحالي ليسوا منشغلين بالثقافة وفعالياتها، ولا حتى بالقضايا التقنية في عملها، فهم غارقون في البحث عن لقمة العيش وسط ظروفهم العصيبة الراهنة. كما أنهم يتساءلون بشدة عن غياب الإعلام الرسمي، ولا سيما القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، في ظل ضعف وكالة “سانا” الرسمية، التي تعد المزود الحصري بالأخبار للمؤسسات الإعلامية الرسمية.
أما الأدوار التي يُفترض بالمثقفين الفاعلين في مجالاتهم أن يؤدوها وسط حالة الانقسام المجتمعي، فتبدو مهتزة وغير مقنعة، خاصة في ظل تشكيك المثقفين أنفسهم في المواقف الأخلاقية لزملائهم. وقد ظهر هذا بشكل واضح إثر الجرائم التي ارتكبتها بعض الجهات في الساحل السوري، بعد إفشال ما سُمّي بمحاولة الانقلاب التي قادها فلول النظام!
ورغم وجود اتفاق عام بين المشتغلين بالشأن الثقافي على إدانة ما جرى، إلا أن هناك حديثًا متكررًا عن وجود التباس لدى آخرين لم يعلنوا موقفًا حاسمًا مما حدث. لا بل إن بعضهم ظهر—بحسب المنتقدين—وكأنه يدافع عن القتلة بحجة أسبقية جرائم الأسديين! ربما كان من الأفضل في مثل هذه الحالات ألا تُساق الانتقادات من نوافذ العمومية، بل أن يُنتقد أشخاص بعينهم، كما حدث في بداية الثورة السورية العام 2011، حينما تم رصد مؤيدي القمع من المثقفين وإدراجهم في قوائم عُرفت بــ”لوائح العار”.
الجدل بين المثقفين المنتشر في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي كان مرئيًا لجمهور المتابعين، وكان ينعكس بشدة في صورة هذه الفئة المجتمعية. وبدلًا من أن يسهم المعنيون في تحسين صورة الثقافة السورية، بدا وكأن التردي السابق كاد أن يطاول الجميع، إذ صار الكل قاب قوسين أو أدنى من التخندق الطائفي!
وهنا، يُطرح السؤال: ما القيمة المهمة التي يصنعها المثقفون المنخرطون في الشأن السياسي السوري؟ فهم لا يباشرون نشاطًا توعويًا مؤثرًا، ولا يجتمعون لتشكيل حالة ضغط على القوى الفاعلة للحد من أضرار الكارثة الطائفية. حتى تلك البيانات التي تم نشرها والدعوة إلى التوقيع عليها، ظهرت بلا قيمة، إذ لم تحظَ بدعم الإعلام، الذي باتت الثقافة وأحوال المثقفين بعيدة تمامًا عن اهتماماته!
فهل يمكن لعودة وزارة الثقافة إلى المشهد أن تؤثر في المرحلة المقبلة؟ وعلى وجه الدقة في شد المشهد الثقافي وشخصياته نحو اجتماع وطني على مبادئ المواطنة والفعالية المؤسسة للوعي السياسي الديموقراطي؟
من خلال نظرة مسبقة، لا يمكن التعويل على الوزارة كمؤسسة وأجهزة، بل يمكن ترقّب السمات القيادية التي سيتحلى بها الوزير أو الوزيرة القادمة. فقد تعود الوزارة إلى العمل دون أن يكون لها دور مؤثر، كما كان الحال طوال السنوات الماضية. لكن المشهد قد ينقلب رأسًا على عقب فيما لو كانت الشخصية المرتقبة تريد لحضورها أن يكون فاعلًا ومؤثرًا، وألا يشكل الانشقاق الحاصل بين المثقفين عقبة كأداء أمام الهدف الأساسي، وهو استعادة سوريا ثقافيًا من عتمة البؤس الأسدي وما تسبب به لعموم السوريين.
المدن
————————
الحدود اللبنانية-السورية: صراعات مهربين أم ترسيم حدود قسري؟/ ندى أندراوس
الأربعاء 2025/03/19
حوش السيد علي هي بلدة لبنانية، اهلها لبنانيون، تقع على الحدود السورية. وهي من البلدات المتداخلة جغرافيا بين البلدين. يقع الجزء الاكبر منها في الأراضي اللبنانية وتحديداً في قضاء الهرمل في البقاع. والجزء الاصغر، صحيح أنه يأتي بشكل متداخل ضمن الحدود مع سوريا، “لكن هذا الجزء هو أرض لبنانية مئة في المئة، والخرائط والوثائق وصكوك ملكية الاهالي والمساحة تؤكد هويتها اللبنانية تاريخياً”، تؤكد مصادر خبيرة في ملف الحدود مع سوريا لـ”المدن”؛ لكن ذلك يحتاج إلى معالجة من خلال انجاز عملية ترسيم الحدود بين البلدين.
قنبلة موقوتة
إشكالية الحدود بين لبنان وسوريا قديمة. ولبنان يطالب منذ زمن بترسيم الحدود البرية والبحرية، لحسم خلافات تمتد على مساحة 370 كلم، محفوفة بالتعقيدات والتعرجات والتعديات وخطوط التهريب على أنواعه.
كان النظام السوري السابق يغض النظر عن المطلب اللبناني المزمن. أتى النظام الجديد. أعلن في بداية حكمه عن حسن نواياه تجاه لبنان وأن لا أطماع لديه فيه، وهو لن يعتدي عليه ولن يتدخل في شؤونه كما فعل نظام الاسد طوال خمسة عقود من الزمن، ما دام لبنان لن يتدخل في الشؤون السورية ولن يشكل خطرا عليها.
لكن منذ سقوط النظام السابق والتوترات الأمنية تتكرر على الحدود بين البلدين، بين مسلحي هيئة تحرير الشام وأبناء العشائر والعائلات اللبنانية، ذات الغالبية الشيعية، التي تعيش في الاراضي السورية. أعنف هذه المواجهات وقعت ليل الاحد وإستمرت حتى الاثنين، وهي بدأت في نقطة حدودية مقابل بلدة القصر في البقاع الشمالي، عندما توجه ثلاثة عناصر مسلحين من عصابات التهريب السورية قادمين باتجاه الحدود اللبنانية قبالة القصر. فوقع الاشتباك مع مجموعة تهريب لبنانية. في الاشتباك قُتل المسلحون السوريون الثلاثة داخل الحدود اللبنانية.
خلال يومين بلغت الاشتباكات ذروتها، وبنتيجتها تدخل الجيش اللبناني وأرسل تعزيزات من فوج المجوقل واللواءين التاسع والسادس وسلاح المدفعية وفوج الهندسة. انتشر على الحدود، وفرض طوقا حول المنطقة قبالة حوش السيد علي. أبقى على جهوزية قتالية عالية، ما دام مسلحو هيئة تحرير الشام يحتلون أرضا لبنانية ويرفضون الانسحاب منها.
الهيئة على أرض لبنانية
تعلن هيئة تحرير الشام أن مسلحيها يلاحقون عناصر حزب الله في المناطق الحدودية وأن عملياتهم ضد عناصر الحزب، على الرغم من نفي هذا الأخير لأي وجود أو نشاط أو عملية له في المنطقة منذ الاحد، وعلى الرغم من تقارير أمنية مؤكدة لدى الجانبين اللبناني والسوري أن الحادثة التي وقعت قبالة بلدة القصر اللبنانية كانت بين رجال عصابات تهريب من البلدين. وأن من قُتلوا هم من عناصر الهيئة، لكنهم في الوقت ذاته من الناشطين في عمليات التهريب. كما علم أن في الجانب اللبناني أفراد من السوريين ينشطون مع عصابات التهريب اللبنانية.
وكشفت مصادر أمنية لـ”المدن” أنه “على الرغم من أن خلفية الحادثة معروفة، إلّا أن هيئة تحرير الشام أصرت على حشد مسلحيها والتقدم باتجاه حوش السيد علي والتجييش إعلامياً عبر بعض المواقع والقنوات لاخذ الامور باتجاه آخر والتصويب على أمن الحدود ووجود حزب الله العسكري هناك. مع العلم أن الجيش اللبناني كان قد عزز انتشاره في تلك المنطقة تحديداً، وأقفل العديد من المعابر غير الشرعية وأقام نقاطاً ثابتة منذ سقوط نظام الأسد نظراً لتكرار الحوادث الأمنية بين عصابات التهريب من الطرفين أحيانا واعتداءات مسلحين من هيئة تحرير الشام على القرى والبلدات الحدودية والمتداخلة والتي يقطن غالبيتها لبنانيون شيعة، وهم أصحاب الارض فيها من جهة أخرى.”
المصادر لفتت أيضا إلى أن التواصل الأمني بين الجانبين كان قد نجح في إعادة التوازن في حدود معينة الى المنطقة الحدودية الى أن وقعت أحداث الاحد. وتساءلت عما اذا كان هناك خلفيات أبعد من الرد على مقتل ثلاثة مسلحين وتنظيف المنطقة من المهربين والمسلحين أو حزب الله، إلى فتح ملف الحدود البرية ومحاولة فرض ترسيم بري على لبنان بشروط الادارة السورية الجديدة.
حتمية المواجهة
حتى ساعات متقدمة من ليل الثلثاء، استمرت الاتصالات لتهدئة الميدان وللتوصل الى اتفاق على انسحاب مسلحي الهيئة من حوش السيد علي. في معلومات “المدن”، أن اتفاقا تم عصر الثلاثاء، كان يفترض أن يترجم بانسحاب المسلحين ودخول الجيش اللبناني الى الحوش وتسلم المنطقة كاملة. استعد الجيش لكن الهيئة نكثت الاتفاق. استمرت الاتصالات الى أن أفضت الى اتفاق يفترض أن يترجم اليوم الاربعاء بانسحاب المسلحين من الارض اللبنانية.
وكشفت مصادر أمنية أن الجانب السوري أبلغ الجانب اللبناني بأن هناك ترتيبات يقوم بها المسلحون “في الجزء السوري من الحوش”، من القضاء على معامل المخدرات وتدمير ومصادرة مخازن الاسلحة. لكن في الواقع أن المسلحين لم يكتفوا بالسيطرة على الجزء المتداخل مع سوريا. بل سيطروا على البلدة بكاملها. وما قالوا إنها ترتيبات تبين أنها أعمال حرق للمنازل والمؤسسات، حتى أنهم احرقوا مدرسة الحوش.
وقالت مصادر معنية بالاتصالات السياسية “إن الاتصالات التي تكثفت بين وزيري دفاع البلدين من جهة وبين وزيري خارجية البلدين من جهة اخرى، نجحت فقط في تهدئة الجبهة لكنها لم تؤدِ الى انسحاب المقاتلين من الارض اللبنانية، ولا وقف اعتداءاتهم ونهبهم وأعمالهم الانتقامية في البلدة، ولم توقف اطلاق النار على الجانب اللبناني”.
اطلاق نار وقصف رد عليه الجيش اللبناني مستهدفاً مصادره، تنفيذا لأوامر رئاسية بالرد على كل مصادر النيران. لكن الجيش الذي لا يزال يطوق المنطقة ويستنفر كل وحداته ويرى سحب الدخان المتصاعد من الحوش، ينتظر الضوء الاخضر السياسي للتحرك. وفي المعلومات، فقد أبلغ “من يعنيهم الأمر من الجانب السوري” أن الجيش اللبناني سيدخل حوش السيد علي ولن يقبل بأن تبقى ارضاً لبنانية محتلة، وهو سيدخل البلدة الاربعاء، بعدما سلم الجانب السوري جثتي الشقيقين اللبنانيين محمد وأحمد مدلج إلى الصليب الأحمر اللبناني، عند معبر جوسيه الحدودي.
منذ سقوط نظام الاسد وهزيمة حزب الله في الجنوب واستهدافه من قبل إسرائيل في البقاع وفي مناطق نفوذه على الحدود اللبنانية السورية وأيضا في الداخل السوري، ومنذ تهجير اللبنانيين الشيعة الذين يقطنون قرى وبلدات في الداخل السوري، ومع تكرار الاحداث الأمنية والاعتداءات على مناطق لبنانية ذات غالبية شيعية، يُخشى أن يجرّ الجيش اللبناني الى مواجهة هو والدولة بغنى عنها، في ظل الأمن الهش في الجنوب، وخطورة انتقال تجدد الحرب على غزة إليه مجدداً مع استمرار الاحتلال الاسرائيلي هناك والاعتداءات والخروقات لاتفاق وقف إطلاق نار.
المدن
—————————–
الحدود اللبنانية – السورية: معركة بين التهريب والسيادة/ محمد فواز
2025.03.19
لطالما كانت الحدود اللبنانية السورية مسرحًا لتجاذبات إقليمية ودولية، إلى جانب تفاعلاتها المحلية. فمنذ تأسيس الدولتين، لم تكن هذه الحدود مقنعة لأهالي البقاع والشمال اللبناني، الذين رأوا فيها خطًا مصطنعًا يفصل بينهم وبين امتدادهم الاجتماعي والتاريخي داخل سوريا. كذلك، لم تكن هذه الحدود مرضية للسلطة السورية لعقود، ولا لأصحاب القرار في لبنان. فقد اعتبر نظام الأسد أن عنجر اللبنانية، على سبيل المثال، ليست سوى إحدى عواصمه الرئيسة، وتحولت في بعض الفترات إلى المركز الفعلي لاتخاذ القرارات السياسية والأمنية في لبنان، بينما بقيت بيروت مجرد واجهة لبلد كان يُحكم فعليًا من دمشق، سواء عبر الإدارة المباشرة للنظام السوري أو من خلال أذرعه المتغلغلة في الجسم اللبناني.
مع انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، لم يتم الاعتراف الفعلي بهذه الحدود، بل انعكس النفوذ السوري في الاتجاه المعاكس، حيث بات لبنان المحكوم من حزب الله، يرفض عمليا الاعتراف بحدود بين البلدين، لا سياسيًا ولا عسكريًا ولا حتى اقتصاديًا، بل أصبحت هذه الحدود رمزًا لاتصال محور إيران في المنطقة، وشريانًا رئيسيًا لنقل المقاتلين والعتاد، فضلًا عن كونها معبرًا أساسيًا لعمليات التهريب بمختلف أنواعها، ما جعلها في صلب التوازنات الإقليمية.
اليوم، وبعد سقوط النظام السوري، وتدهور وضع حزب الله في لبنان عسكريا وسياسيًا واقتصاديًا، تبرز هذه الحدود مجددًا إلى الواجهة، محاولةً إعادة تعريف نفسها وسط تعقيدات دولية وإقليمية ومحلية متشابكة، إلى جانب مقاومة شديدة من المحور المهزوم. في هذا السياق، تسعى القيادة السورية الجديدة إلى إعادة ضبط هذه الحدود، وتطهيرها من النفوذ غير الرسمي الذي فرضه حزب الله، إلى جانب منع عمليات التهريب التي تهدد استقرارها الداخلي وتضعف علاقاتها الخارجية.
بالمقابل، يرفض حزب الله، كما بيئته التي عزز فيها هذا النمط الاجتماعي والاقتصادي القائم على فائض القوة والتهريب، الاعتراف بالواقع الجديد. لذلك، كان من المتوقع أن يتحرك حزب الله على هذه الحدود بأشكال وأهداف متعددة. فالحزب اليوم يسعى إلى رفض العزلة الجغرافية التي يواجهها للمرة الأولى في تاريخه، كما يسعى إلى التماهي مع هذه البيئة المتململة من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري الجديد، فيصعّد بالاشتراك معها من باب التنفيس عنها ومحاولة الحفاظ على زمامها. كما يسعى حزب الله إلى التشويش على القيادة السورية الجديدة وعرقلة مسار تحسين العلاقة بين سوريا ولبنان وبينها وبين الإقليم وصورتها فيه. ويحاول حزب الله أيضًا استرجاع سردية محاربة الإرهاب، التي استخدمها منذ عقد من الزمن لرصّ صفه الداخلي، ولإبقاء شرعية سلاحه، وجعلها نقطة تلاقٍ مع الجيش والمجتمع اللبناني.
المراقب بهدوء يدرك أن هذه السردية والمحاولات من الصعب اليوم أن تفلح خارج بيئة حزب الله، بسبب الدروس المستفادة من السنوات الماضية والواقع الجديد.
الرئيس عون، الموجود اليوم في قصر بعبدا، يختلف عن سابقه، فهو يأتي بغطاء توليفة دولية عربية تريد رأس حزب الله. التوليفة نفسها ليست ببعيدة عن القيادة الجديدة في سوريا، وهو ما يظهر عند المنعطفات.
فصحيح أن سوريا اليوم لم يُترجم الدعم لها عمليًا بشكل كبير، إلا أن المؤشرات الأخيرة توحي بالإيجابية، وعلى رأسها الاتفاق مع قسد، الذي لم يكن ليتم لولا الدفع الأميركي، وهو الذي جاء بعد معارك الساحل التي لم تكن إيران بعيدة عنها. إضافة إلى ذلك، فإن المؤشرات الأوروبية لا تخفي اهتمامها بوحدة سوريا لمصالحها التجارية، وقطعًا للطريق أمام “الساحل الروسي” المقابل لها، وهو ما يعني عمليًا دعمًا أوروبيًا للقيادة السورية الجديدة. وهو توجه يظهر اختلاف الأجندات العملية بين الأوروبيين والأميركيين والإسرائيليين. فالأوروبيون، الذين يظهرون تأييدا للوحدة السورية، يحاولون الحصول على نفوذ في منطقة حيوية في وقت يستمر فيه تراجعهم عالميًا، بينما تضغط إسرائيل باتجاه التقسيم الطائفي وقطع خط الوصل بين الخليج العربي وتركيا وأوروبا واحتكار المتوسط بموانئها. فيما تقف الولايات المتحدة في منزلة بين المنزلتين؛ ففي الخريطة الكبرى، فإن صراع الولايات المتحدة مع الصين هو الأساس، مما يجعلها أكثر انفتاحًا للتقارب مع روسيا، عكس الأوروبيين الذين يرون في الروس العدو الأول. كما أن مركزية المصلحة الإسرائيلية لدى الولايات المتحدة لا غبار عليها، ولكن أميركا نفسها لا تعتبر أن تفتيت المنطقة يخدم مصالحها أو مصالح إسرائيل، كون ذلك يحافظ على الاضطراب في المنطقة ويترك ثغرات يمكن أن تُستغل للعمل ضد مصالحها، في حين تفضل الولايات المتحدة هدوءًا مضبوطًا من قبلها. لكن ما تجمع عليه كل هذه القوى هو منع إيران من عودة مشروعها الإقليمي، وعلى رأسها منعها من العودة إلى سوريا أو استعادة خط الترابط بين ما كان يُطلق عليه “ساحاتها”، وهو ما تدركه إيران وتحاول استكشاف وسائل الالتفاف عليه.
هذا الصراع الدولي والإقليمي نرى أحد فصوله على الحدود الدولية، مع تأكيدنا على بُعده الداخلي الذي ذكرناه. فالصورة الكلية وتوقيت محاولة الانقلاب في الساحل، مع تجدد الاشتباكات على الحدود اللبنانية السورية وارتفاع حدتها عما سبق، يؤكدان أنها ليست اشتباكات مفاجئة، بل هي محاولات بمستويات مختلفة، بدءًا من المستوى الإيراني وصولًا إلى حزب الله والمجتمع، لاستعادة شيء من مشهد غابر، من المصلحة الفردية إلى المصلحة الدولية، أي محاولة لمحاربة عقارب الساعة. صحيح أن هذه المحاولات ضعيفة في احتمالية استعادة مشهد سابق، نظرًا للتغيرات الجذرية في المشهد الإقليمي كما في لبنان وسوريا الرسميين، إلا أن خطورتها تكمن في التأثير السلبي على الاستقرار اللبناني السوري المأمول، واستنزاف الطرفين في معارك جانبية مقارنة بالمشهد الأكبر.
عمليًا، من غير المتوقع أن تتوقف هذه الاشتباكات، بل من المتوقع أن نشهد ارتفاعًا وانخفاضًا في وتيرتها بحسب الظروف الإقليمية والدولية والمحلية. لذلك، سيكون صمام أمان تفادي الاستنزاف في هذه المعركة هو تعزيز التواصل الرسمي اللبناني السوري والتعاون لما فيه خير البلدين الشقيقين في انطلاقتهما الجديدة.
تلفزيون سوريا
————————–
واشنطن ونظرتها للمنطقة.. احتواء وسدود وتفاهمات/ صهيب جوهر
2025.03.19
ثمة من يعتقد أن الهجوم الأميركي على الحوثيين في اليمن لم يكن مفاجأة عسكرية، رغم أنه كان مباغتاً، فمنذ أيام معدودة أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن المرحلة النهائية لمعالجة الملف النووي الإيراني بدأت، وما من شك أن الهجوم الجوي الأميركي على الحوثيين يأتي في سياق توجيه رسائل بالنار والدم لإيران، ومفادها أن الخيار العسكري لايزال وارداً أيضاً.
والإستراتيجية التي رسمتها الإدارة الأميركية الجمهورية باتت تركز على محورية البدء باحتواء التوسع الصيني في النظام الاقتصادي العالمي. ووَفق هذا المعطى برر ترمب انفتاحه على روسيا، ولو على حساب العلاقة التاريخية مع دول أوروبا، باعتبار أن هذا الانفتاح على بوتين يدخل في إطار جذب القوة الروسية وتقنياتها العسكرية لإبعادها عن الصين ومنعها من محاولات تطوير قوتها وقدراتها العسكرية والدفاعية.
وعلى الرغم من أن هذه العلاقة الغريبة بين واشنطن وموسكو لم يتقبلها إلى هذه اللحظة الرأي العام الأميركي، لكن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تضع هذا التحول في سياستها التاريخية الخارجية في إطار الإمساك بقوة الصين تمهيداً لاستفرادها ووقف نموها، قبل أن تنجح في تعزيز قدراتها العسكرية وتطويرها لتصبح قوة دفع عسكري يكسر الأحادية الأميركية في المنظومة الأمنية والعسكرية.
لذلك بدأت الإدارة الأميركية في تضييق الخناق على إمكانية وصول الصين إلى منافسة للتكنولوجيا الأميركية المتطورة، وما يعزز هذه النظرية هي الإحالة الرئاسية الأميركية لعدد من المؤسسات والسلطات الاقتصادية في الولايات المتحدة والتي تنص على ضرورة إعادة صياغة مفهوم العلاقة مع بكين، من خلال العمل على مجموعة من القيود الاستثمارية، بما في ذلك حظر استخدام رؤوس أموال أميركية لتحديث الجيش الصيني والتكنولوجيا والتصنيع الدفاعي القائم على الذكاء الاصطناعي.
والإدارة الأميركية تراهن على أن خفض الصادرات الصينية سيساهم في إبطاء النمو الاقتصادي الصيني، وبالتالي سيخفف من تطورها العسكري السريع، على أن يحصل ذلك من دون التورط في صدام مباشر معها، في هذه المرحلة على الأقل، وبتعبير آخر، استبدال سياسة العقوبات القاسية والمدمرة والتي ستفرض حروب إقليمية، بسياسة القيود الاقتصادية.
وهذه التصورات الأميركية في الاقتصاد والسياسة الخارجية عمدت الإدارة الجديدة لفرض الرسوم الجمركية مع كندا والمكسيك، وثمة همس أميركي بأنها تأتي في إطار قطع طريق الالتفاف الصيني على الإجراءات الأميركية المباشرة على الصادرات الصينية. والمقصود هنا استخدام الصين لطرق تصدير غير مباشرة عبر شركات في كندا.
لذا فإن سعي واشنطن لاستمالة بوتين ولو على حساب العلاقة مع ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مع تضييق الخناق الاقتصادي الصيني ولو على حساب العلاقة مع الكوريتين الشمالية والجنوبية، لا بد من استكماله من خلال إغلاق كل المساحة في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي كانت نجحت الصين في التسلل إليها تمهيداً للتغلغل فيها واستخدامها لاحقاً كجسر في اتجاه أوروبا والقارة الأميركية.
وكانت الصين قد طورت علاقاتها الإقليمية في الشرق الاوسط عبر تفاهمات اقتصادية مع المملكة العربية السعودية والامارات، بسبب واستفادت بكين من التباين الأميركي – السعودي خلال عهد بايدن بملفات عديدة أهمها الأمن الإقليمي وملف اليمن، كما أن الحضور الصيني قابل لأن يتطور عسكرياً من خلال طهران، حيث عقدت الصين شراكة استراتيجية مع إيران، وعملت في الوقت عينه على شراء النفط الإيراني الخاضع للعقوبات الأميركية متجاوزة التهديدات الأميركية والانزعاج الإسرائيلي.
وعليه فإن الملف العاجل للإدارة الأميركية هو في حل كل الصراعات الدائرة في المنطقة وتحديداً في غزة ولبنان وسوريا، والتي تشكل إيران الطرف المهم فيها، والهدف الفعلي منع الصين الدخول الى المياه الدافئة في البحر المتوسط عبر الحضور الإيراني والذي كان له ولغاية “طوفان الأقصى” حضور أكبر وأهم من حضور الأطراف الإقليمية الأخرى.
لذا يمكن من هذا السياق ترجمة كلام ترمب أن المرحلة النهائية بدأت لإقفال النزاع والملف النووي مع إيران، إما عبر المفاوضات والوساطات، أو بالقوة العسكرية كما جرى في اليمن منذ أيام قليلة وما نتج عنها من خسائر فادحة للحوثيين، وهذه الضربات الشاملة سبقها تهديدات حوثية بحصار بحري جديد، فهم منه أنه محاولة إيرانية لرفع سقف التفاوض مع واشنطن مع تزايد الدعوات لبدء المفاوضات.
ولا يمكن فصل كل هذه الاحداث الحاصلة عن زيارات قادة المنطقة الى واشنطن، وآخرها زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان لواشنطن، حيث اجتمع بنظيره الأميركي ومسؤولي المخابرات والأمن القومي، وما تسرب عن لقاءات الرجل نشر في صحف أميركية مهمة، وأهمها ما نشرته وول ستريت جورنال حينها عن شعور سعودي بخذلان من حليفتها الأميركية أمام التهديدات للأمن القومي السعودي عبر الخاصرة اليمنية، والعمل على ضرب المشاريع السعودية القائمة على الاقتصاد والتنمية والتكنولوجيا والسياحة الداخلية، وهذا الكلام ترجمه ترمب بالهجمات المباغتة، والتي أعلن البيت الأبيض أنها ستكون ضمن ضربات مستمرة.
أما في الشرق الأوسط ذهبت الإدارة الاميركية إلى فتح خطوط التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، عبر لقاءات لمسؤولين أميركيين زاروا دمشق، أو عبر اندفاعة أنقرة المستمرة لتأمين مظلة واسعة لحماية سوريا من الاخطار المحدقة بها من كل الأركان، وهذه المظلة تضم السعودية وقطر والكويت، إضافة للأردن، باستثناء الإمارات المصرة على رفض نتائج الاحداث السورية التي أنتجت هروباً لحليفها الأسد الى موسكو.
والانفتاح الأميركي من أبواب مواربة، جرت ترجمته أيضاً بالمصالحة مع قوات سوريا الديموقراطية، ولم تخف الإدارة الأميركية ميلها المستمر للدورين القطري والأردني، لذا فالتركيز الأميركي على الوضع السوري لا ينحصر فقط في إطار إغلاق الثغرات التي يمكن أن تدخل عبرها ايران وأذرعها إلى سوريا، بل أيضاً بسبب وجودها في جوار العراق، وحيث لا تزال تحتفظ إيران بقوتها عبر عدد من الفصائل الشيعية، وحيث من المحتمل أن تعيد تحريكها ضد القواعد الأميركية في إطار أي رد انتقامي محتمل.
والإدارة الجمهورية ومن خلفها حكومة نتنياهو المتطرفة، يدركان أن طهران وحزب الله يسعيان لابتكار أساليب جديدة لتهريب السلاح إلى لبنان وسوريا، وفي الوقت نفسه ترفض إسرائيل إنجاز انسحابها الكامل من جنوبي لبنان وسوريا تحت هذا العذر، وتطالب بمنطقة عازلة تمتد من الليطاني إلى الحدود مع استمرارها لاحتلال مرتفعات جبل الشيخ لما يمثله من إشراف عسكري استثنائي.
من هنا يمكن فهم التحرش العسكري من جانب حزب الله عبر عشائر لبنانية تقتات على التهريب، لإشغال الجميع بضرورة حماية مستقبل الأقليات في المنطقة لتبرير استمرار وجود السلاح، والأهم ما يقوله مسؤولو حزب الله لدبلوماسيين غربيين في بيروت، أن الغرب قابل للتعايش مع “إسلاميته السياسية الشيعية” أكثر من الإسلام السياسي السني والذي بات يحكم دمشق وقد يمتد ليشمل دولا أخرى.
تلفزيون سوريا
——————————
العشائر هو الاسم “اللطيف” لـ”الحزب” على الحدود!/ جورج حايك
2025/03/19
نشطت عمليات التهريب بين لبنان وسوريا طوال حقبة حكم عائلة الأسد لسوريا، وقد استفاد “حزب الله” وبعض العصابات اللبنانية والسورية من الفوضى بين البلدين وتقاعس الدولتين في ترسيم الحدود، لتهريب السلاح والمخدرات وبعض الحاجات الأساسية كالبنزين والمازوت والطحين وغيرها.
لا شك في أن هناك قرى متداخلة بين البلدين، ويبدو أن “الحزب” الذي يقتات من اقتصاد التهريب، شعر بالضيقة عندما سقط نظام بشار الأسد، وتسلمت “هيئة تحرير الشام” الحكم في سوريا وقطعت طريق الامدادات بين “الحزب” وإيران، وبدأت الادارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع بتنظيم نفسها وتكوين جيش سوري جديد من الفصائل التي حررت سوريا من الأسد. وليس سراً أن هذه الفصائل خاضت معارك سابقة ضد الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد والميليشيات الايرانية وخصوصاً “الحزب”، وبالتالي لا أحد يستطيع إنكار البُعد المذهبي للصراع بين الجيش السوري الحديث الذي يتشكّل من غالبية سنيّة من جهة و”حزب الله” الشيعيّ التابع لإيران من جهة أخرى.
النقطة الساخنة اليوم بين الطرفين هي القصير انطلاقاً من غرب مدينة حمص وصولاً إلى حوش السيد علي، وتعتبر هذه المناطق الحدودية معقلاً لعشائر لبنانية مثل آل زعيتر وآل جعفر الذين يمتلكون أراضٍ زراعية في الداخل السوري ويعرف عن بعض أفرادهم تورطه في أنشطة التهريب ولا يُخفى على أحد أن بعض أبناء هذه العشائر ينتمي إلى الهيكلية العسكرية لـ”الحزب”.
هنا وجد “الحزب” ضالته إذ يستخدم هذه المناطق كطرق لوجيستية لنقل الأسلحة عبر بعض العشائر المحلية الذي يسهّل هذه العمليات مستفيداً من التضاريس الوعرة وصعوبة مراقبة الحدود. وتندلع الاشتباكات كلّما حاول عناصر الادارة السورية الجديدة منع عمليات التهريب وملاحقة عصابات الاتجار بالمخدرات والأسلحة عبر الحدود.
لا يزال “الحزب” حاضراً على الحدود اللبنانية السورية، محافظاً على هيمنته العملياتية من خلال علاقاته الوثيقة مع العشائر المحلية، ولا يكفي إصدار بيانات نفي ليغسل يديه من التوتر القائم بين لبنان وسوريا.
واللافت أنه بعد الاشتباك الأول الذي حصل بين المقاتلين السوريين والعشائر المدعومة من “الحزب”، عزّز الجيش اللبناني حضوره هناك، لكن الأمر بدا غريباً عندما تكررت الاشتباكات منذ يومين، وكان من المفترض أن يتدخل الجيش بسرعة، إلا أنه لم يتدخل إلا بناءً على توجيهات رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، فأصدرت قيادة الجيش أوامرها إلى الوحدات العسكرية المنتشرة على طول الحدود الشمالية والشرقية بالرد على مصادر النيران الصادرة من الأراضي السورية والمستهدفة الأراضي اللبنانية. وفهم المراقبون أن الجيش بادر إلى الرد ليثبت حضور الدولة وعدم إتاحة الفرصة لـ”الحزب” والجانب السوري للتمادي أكثر، فالأمور تحلّ بين الجيشين والدولتين.
قد يكون من الصعب على الجيش اللبناني المنهمك في الانتشار بالجنوب ومهماته في الداخل اللبناني أن يضبط كل المساحة الحدودية نظراً إلى صعوبة ذلك بسبب الشبكات العشائرية المتشابكة، وكثرة المعابر غير الشرعية، ووعورة التضاريس التي تعوق جهود المراقبة، لذلك من المتوقع أن يبقى الكرّ والفرّ بين العشائر التي تغطي “الحزب” وجيش الادارة السورية، وربما يكون الحل سياسياً بين الدولتين، وهذا الدور أوكله الرئيس عون الى وزير الخارجية جوزاف رجّي.
ولا بد من الاعتراف بأن ايران التي تحاول المحافظة على الورقة اللبنانية في يدها، تجد في الصراع الحدودي منفذاً لها، لذلك لا يزال هناك تحديان أمنيان رئيسيان: أولاً، لا تزال الدولة السورية في مرحلة إعادة بناء هشة، وفي المقابل، يعاني “الحزب” من استنزافٍ كبير نتيجة الضربات الاسرائيلية. ثانياً، قد تزيد الحيثيات السياسية اللبنانية من تعقيد الوضع، كأن تقوم الحكومة اللبنانية بحماية “الحزب”، والسؤال هل ستواصل التسامح مع وجوده على الحدود، ما قد يُوتر العلاقات مع الادارة السورية الجديدة؟
ويكشف خبير عسكري أن الحكومة اللبنانية لم تبادر، بعد سقوط الأسد، إلى أي عملية تقدير موقف على الحدود، بل تعاني من حالة إرباك سياسي في كيفية التعاطي مع الادارة السياسية الجديدة في سوريا، وتواجه الأمور بتردد، لافتاً إلى أن السلطة اللبنانية تأخذ في الاعتبار الحساسية بين الحكومة السورية الجديدة من جهة و”حزب الله” وإيران من جهة أخرى، لكن هذا الأمر يدفعها إلى التخلي عن مسؤوليتها، علماً أن مسألة الحدود لا يُمكن التغاضي عنها نظراً إلى ارتباطها الأمني والاقتصادي بالمصالح اللبنانية والسورية، وتبادل النيران مع الطرف السوري هو نتيجة التقصير في مقاربة هذه المسألة.
ويتوقّع الخبير العسكري المزيد من العنف على الحدود مع سوريا وخصوصاً إذا استمر تجاهل الدولة اللبنانية للواقع السياسي والأمني الجديد بين لبنان وسوريا.
في الختام، ما يحصل على الحدود اللبنانية السورية مريب جداً، وما يطرح علامات استفهام هو لماذا تحصل الاشكالات الحدودية دائماً على الجانب الذي يسيطر عليه “الحزب”؟ وهناك إحساس لدى الكثير من اللبنانيين بأن ظاهرة العشائر في الجبهة الشرقية تبدو مماثلة لظاهرة “الأهالي” في الجبهة الجنوبية، والمُخرج واحد ألا وهو “حزب الله”. أما الحل الجذري لهذه المسألة فهو في تطبيق الدولة اللبنانية القرار 1680 الذي يقضي بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، فما الذي يمنع ذلك؟
موقع لبنان الكبير
——————–
المساعدات الإنسانية لسوريا بين التجميد الأميركي والتعهدات الأوروبية المشروطة/ محمد كساح
19 مارس 2025
في الوقت الذي تستمر فيه حالة تجميد تمويل المنظمات السورية الإنسانية من قبل الإدارة الأميركية، تزداد الكارثة يومًا بعد آخر لا سيما في مخيمات الشمال السوري، وخاصةً بعد إعلان عدد من المنظمات الإنسانية توقف مشاريعها بشكل كامل أو جزئي.
وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد أعلنت عن إيقاف جميع المساعدات الخارجية التي تمولها مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، مشيرةً إلى بدء فترة مراجعة مدتها 90 يومًا، لتقييم مدى امتثال هذه البرامج للسياسة الخارجية الأميركية.
وأفاد مصدر عامل في مجال المساعدات الإنسانية لـ”الترا سوريا” أن تجميد التمويل تسبب بتوقف جزئي لعدد كبير من المنظمات العاملة في الشمال السوري مثل “أكتد”، و”غول”، و”كير”، و”هيومن أبل”، و”بيبول”، و”شفق” وسواها، علمًا أن هذه المنظمات تقدم خدمات كبيرة للمنطقة تشمل قطاعات الصحة والنظافة والسلل الإغاثية والخدمات المتعلقة بالمخيمات من تنظيف ورعاية صحية وتقديم مياه الشرب والاستعمال.
وقد أعلن مشروع “الأيادي الخضراء”، المسؤول الخدمي والإنساني عن أضخم مخيمات الشمال السوري، وهي مخيمات منطقة أطمة، عن إيقاف مشروعه في المنطقة فورًا بعد تلقيه إخطارًا رسميا من الجهة المانحة بإنهاء المشروع.
عوائق بالجملة
ويلاحظ الناشط السياسي، مأمون سيد عيسى أن ملف المنظمات الإنسانية الدولية يواجه عائقين كبيرين: الأول هو التقنين الذي يطول ترخيص منظمات جديدة تحت ذرائع روتينية غير منطقية، بينما يتمثل العائق الثاني بتجميد التمويل الأميركي للمنظمات السورية تحت ذريعة إعادة التقييم.
ويتابع خلال حديث لـ”ألترا سوريا” أن هذا التجميد أدى “إلى تداعيات سلبية جدًا لا سيما في المخيمات حيث أوقفت منظمة كير، على سبيل المثال، تزويد مخيمات الشمال السوري بالمياه، بينما لا يحصل على السلة الإغاثية سوى ما نسبته 7% من المستحقين، حيث تقلص حجم السلل الإغاثية من 450 ألف سلة إلى 30 ألف سلة فقط”.
ويشير سيد عيسى إلى أن توقيف الدعم عن مشفى باب الهوى يعد أمرًا كارثيًا، لأنه المستشفى الأساسي الذي يخدم معظم الشمال السوري صحيًا.
كما أن توقيف الدعم يضع العوائق أمام المساعدات وتمويل المنظمات ضمن “سياق الضغط على الحكومة السورية، علمًا أنه من المفروض أن تكون المساعدات الدولية منفصلة تمامًا عن الملفات السياسية، خاصةً في ظل حالة الفقر الشديد التي يعانيها السوريون”.
ويلفت سيد عيسى إلى أن سكان المخيمات هم الشريحة الأكثر تضررًا من تجميد المساعدات، لأن نسبة الدمار التي أصابت منازلهم في مدنهم الأصلية هائلة جدًا، بحيث يستحيل أن يعود معظمهم إليها، في ظل غياب مشاريع إعادة الإعمار الجزئي أو الكلي، ما يجعل مأساتهم مزدوجة، فقد انقطعت المساعدات وخدمات المياه والإصحاح عن مخيماتهم ولم يتم البدء بأي خطوة فعلية لإعادة إعمار مناطقهم المنكوبة.
وإضافةً لعوائق ترخيص المنظمات ولتجميد التمويل، يشير سيد عيسى إلى وجود عائق إضافي يتعلق بطريقة وآلية تحويل أي معونة نحو سوريا، حيث يشترط مرورها نحو الولايات المتحدة أولًا لمراقبتها حتى ولو كانت قادمة من أوروبا، علمًا أن هذا الخط متوقف حاليًا ما يزيد الواقع الكارثي لملف المساعدات الإنسانية.
المساعدات الأوربية مشروطة
من جانبه، يقول الباحث ومدير منصة “اقتصادي”، يونس الكريم، إن المنظمات الدولية المدعومة من الولايات المتحدة تعمل ضمن نطاق توثيق الانتهاكات والديمقراطية وحقوق الإنسان وإعادة هيكلة السياسات المجتمعية، إضافة إلى دعم اللاجئين، وبالتالي فإن تجميد التمويل الأميركي “لن يتسبب بانعكاسات مباشرة، إلا بما يتعلق بالمساعدات الإغاثية والتعليمية”.
ويوضح في حديث لـ “الترا سوريا” أن مشكلة توقف المساعدات الأميركية تأتي من كونها “ترسل رسائل إلى دول العالم بأن العقوبات سوف تستمر وستكون شديدة، ما يخيف المنظمات الدولية الصغيرة التي لا تمتلك علاقات قوية مع دولها أو مكتب محاماة يقدم الاستشارات لها، ويبعدها عن التورط في العمل في السوق السورية، ما يقود فعليًا إلى فقدان هذا السوق زخمه الإنساني”.
وحول إذا ما كانت التعهدات الأوروبية في مؤتمر بروكسل للمانحين ستساعد في تدارك الكارثة التي تسبب بها تجميد التمويل الأميركي، يلاحظ الكريم أن المساعدات الممنوحة في بروكسل جاءت أقل بنسبة 25% من العام الماضي، وهذه الأموال، خلافًا للسابق، كانت مشروطة بتحقيق العدالة الانتقالية بمراقبة أممية ومن الاتحاد الأوروبي نفسه عبر شركائه من منظمات، ما يعرقل استفادة الحكومة من هذه الأموال لتحسين البيئة المدنية والاقتصادية في سوريا.
ويتابع بأن “وزير الخارجية أسعد الشيباني يتحمل جانبًا من المسؤولية كونه لم يحمل معه خطة اقتصادية متكاملة للمساعدات، لأن الخطة كانت ستظهر آليات الإنفاق وأن مبلغ التمويل أقل من المطلوب ما سيمنح الحكومة هامشًا أفضل للتحرك”.
لكنه يستدرك بأن “المساعدات الأوروبية ستكون مفيدة لأنها تمنع انهيار المجتمع السوري تحت وقع الفقر المدقع، والانجرار نحو اضطرابات أمنية جديدة تهدد دول الجوار لا سيما أن جزءًا من هذه المساعدات سيقدم لدول الجوار التي تحوي عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين”.
الترا سوريا
————————
الاشتباكات على الحدود اللبنانية السورية… عشائر وفصائل وأراضٍ وتهريب وثأر قديم/ حسن سنديان
الثلاثاء 18 مارس 2025
قُتِل ما لا يقلّ عن أحد عشر عنصراً من القوات السورية و6 من أبناء العشائر اللبنانية، مع عودة الاشتباكات على الحدود اللبنانية السورية، بين الجيش السوري وعشائر لبنانية مسلّحة، بحسب المرصد السوري. وسرعان ما تطورت الأحداث إلى قصف واسع من الجانب السوري، ما انعكس على ردود أفعال البلدين، وأنتج توتّرات على مستوى طائفي ومناطقي.
وتشهد المواجهات هدوءاً حذراً الآن، بعدما توصلت السلطات اللبنانية ونظيرتها السورية، الإثنين 17 آذار/ مارس الجاري، إلى اتفاق ينصّ على “وقف إطلاق النار على الحدود وتعزيز التعاون” بين الجانبين، إلا أنّ القوات السورية لا تزال عند نقطة حاجز الجيش اللبناني في بلدة حوش السيد علي الحدودية، وفق ما يقول مختار البلدة، محمد نمر، لرصيف22.
ويشير نمر، إلى أنّ الوضع “سيزداد توتراً في حال لم يتدخّل الجيش اللبناني على الفور، فالعشائر ‘مستعدّة لتحرير أراضيها’، وهذه الأراضي داخل سوريا لكنّ مالكيها لبنانيون، ولديهم صكوك ملكية منذ الانتداب الفرنسي”.
وبينما يُرجع نمر، سبب الاشتباكات إلى خلافات على الأراضي وملكيتها، يحيلها آخرون إلى أسباب شتّى، من بينها استدعاء تدخّل حزب الله اللبناني في سوريا سابقاً دعماً لنظام الأسد السابق، وخطاب الكراهية والتحريض المذهبي والطائفي، واستمرار عمليات التهريب على الحدود.
روايات متضاربة
بدأت القصة بمقتل ثلاثة عناصر من الإدارة السورية الجديدة على أيدي مسلحين من العشائر اللبنانية عند محاولتهم دخول الأراضي اللبنانية، وفقاً لما قاله مصدر أمني لبناني لرويترز. اتهمت وزارة الدفاع السورية، حزب الله، بخطف ثلاثة جنود سوريين إلى الأراضي اللبنانية وقتلهم، فيما نفى الأخير في بيان له، أيّ علاقة له بالأمر برمّته.
وبعد تسليم الصليب الأحمر اللبناني، أمس، جثامين الضحايا الثلاثة، للجانب السوري، ردّ الأخير بقصف عشوائي على بلدة القصر، أدى إلى مقتل طفلَين لبنانيَين، وتسبّب في موجة نزوح كبيرة، فيما استقدم الجيش اللبناني تعزيزات عسكريةً، وردّ بالمثل.
ومنذ انطلاقة شرارة الاشتباكات، اختلفت الروايات بين الطرفين. فقالت وزارة الدفاع السورية، إنّ مسلّحين من حزب الله اللبناني عبروا الحدود في ريف حمص، وقتلوا 3 من أفراد الجيش السوري تارةً، وتارةً أخرى قالت إنّ حزب الله استدرجهم إلى الداخل اللبناني. في المقابل، خرجت رواية مغايرة من الجانب اللبناني، تفيد بأنّ العناصر السوريين تسلّلوا إلى الجانب اللبناني بغية سرقة أغنام، فتصدّت لهم العشائر اللبنانية المسلّحة.
تروي عبير (28 عاماً)، شاهدة عيان من بلدة القصر في الهرمل، وفضّلت ذكر اسمها الأول فحسب، لرصيف22، ما حدث خلال الليلتين السابقتين: “لم نعرف كيف قُتِل العناصر، ولا سبب دخولهم، لكنّ الصليب الأحمر انتشلهم من الأراضي اللبنانية. أما قصة استدراجهم إلى الداخل اللبناني من قبل حزب الله، فأمر غير صحيح لأنّ الحدود معروفة للجميع، ومعابر التهريب طويلة، وتحتاج إلى وقت لعبورها ولا يوجد فيها حرس أو أي عناصر أمنية، بل بمجرد أن تعبر السواتر ومجرى النهر تصل إلى الجانب اللبناني”.
وتضيف: “لا أعتقد أنهم أخطأوا الطريق، بل يقال إنّ الجيش السوري أرسلهم للضغط أكثر على منطقتنا، والأمر ليس متعلقاً بالعشائر السنّية. فالقول بأنّ الأخيرة هي من استدعتهم لمساندتها، غير صحيح. العشائر السنّية القاطنة في ريف القصير تأتي إلى الهرمل يومياً، حيث يعمل أبناؤها في مجالات عدة. دخول العناصر لا نعلم أسبابه المباشرة. هناك أسباب كثيرة لا يمكن تاكيدها، منها أنها لشدّ العصب لا أكثر”.
استمرّت الاشتباكات، واستقدمت وزارة الدفاع السورية تعزيزات عسكريةً لضبط الحدود بعد مقتل 3 من عناصرها، ومنع عمليات التهريب. لكن عبير، التي نزحت برفقة عائلتها إلى بلدة مجاورة، هرباً من القصف السوري، ترى في حديثها إلى رصيف22، أنّ “التجارة مستمرّة بين العشائر اللبنانية والسورية منذ بدء سقوط نظام الأسد، خاصةً تجارة الأسلحة، حيث تبيع العشائر السورية مستودعات الأسلحة التابعة لحزب الله داخل الأراضي السورية في مدينة القصير وجوارها، للعشائر اللبنانية. صحيح أنها توقفت قبل فترة، إلا أنّ التهريب لا يزال مستمرّاً بين العشائر السورية واللبنانية، خاصةً تهريب المحروقات والغذاء والأدوية، وهي تجارات خفيفة وقديمة جداً عمرها عشرات السنين، وهناك تسهيلات بين الطرفين في ما يتعلّق بها”.
احتلال لبنان؟
لم يقتصر الأمر على هاتين الروايتين، بل انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي خطابات كراهية وتحريض طائفي بين الطرفين؛ ففي الجانب السوري فريق دعا إلى احتلال لبنان والوصول إلى ضاحية بيروت ومحاربة ميليشيا حزب الله، ما يعيد إلى الواجهة تجربة آل الأسد ولكن بهوية جديدة تحت راية الشرع، وآخرون هلّلوا للقصف العشوائي على لبنان، برغم مقتل مدنيين بينهم أطفال، قابلتهما دعوات من الجانب اللبناني لاستمرار قتل من وُصفوا بـ”سارقي الأغنام”، بصبغات طائفية متبادلة.
في الأثناء، يرى الكاتب والصحافي السوري فراس علاوي، أن هناك 3 احتمالات رئيسية للاشتباكات بين الطرفين: “الأول هو الدخول المتعمّد لعناصر الجيش السوري، لسبب ما وربما لمؤازرة شخص لبناني سنّي أو سوري داخل الأراضي اللبنانية في أمر مخالف للقانون، حيث وقعوا في كمين. أما الاحتمال الثاني، فتعرّضهم لعملية خطف وقتلهم داخل الأراضي اللبنانية، والاحتمال الأخير ربما يكون دخولهم قد تم عن طريق الخطأ ووقع الاشتباك”.
إلى اليوم لا تزال أسباب بدء الاشتباكات بين الطرفين غير مؤكدة، لكن ما حدث لم يكن إلا مرحلة أولى تخللها هدوء حذر، ليتطور الأمر في جولة ثانية إلى معارك تقدّم خلالها الجيش السوري نحو بلدة حوش السيد علي، من الجانب السوري، مع قصف مكثف باتجاه لبنان، الأمر الذي قوبل بتدخل مباشر من رئيس الجمهورية جوزيف عون، الذي رفض ما يحصل على الحدود الشرقية والشمالية الشرقية، وأمر الجيش اللبناني بالردّ على مصادر النيران.
وينفي علاوي، أن يكون سبب تجدد هذه الاشتباكات تجارياً يتعلق بأمور التهريب، فـ”من يعدّ نفسه منهزماً لا يفتعل المشكلات كبيئة اجتماعية، بل أعتقد أنّ الموضوع له علاقة باستمرارية مشكلات قديمة يمكن أن تتجدد كل فترة، وهي مشكلات غير جديدةً، حتى أنها كانت موجودةً أيام النظام السابق حيث كان الطرفان الأقوى فيها، أما حالياً فاختلاف موازين القوى من الممكن أن يسبب ما رأيناه توسّع الاشتباكات وردود الأفعال”.
ويرى علاوي، أنّ من يحاول أن يستجرّ الأمور إلى هذا الحدّ عند الحدود، هو حزب الله، لأنه خسر معركته الأخيرة مع إسرائيل، بالإضافة إلى القرار 1701 الذي يلزمه بترك سلاحه، لذلك يحاول جرّ الحكومة اللبنانية إلى الصدام مع سوريا، لأنه غير قادر على حماية حاضنته، على الأقل داخلياً، ولديه مشكلات مع السلطة اللبنانية، وقد حاول تحريك الأمور في الساحل السوري عبر أنصار له وعبر إدخال شحنات سلاح بسيطة ولو من خلال عمليات التهريب”.
ويضيف: “أي أنّ حزب الله يريد إما أن يكون شريكاً داخل الحكومة اللبنانية، أو أن يُدخل الأخيرة إلى مناطق معيّنة لحماية حاضنته التي لم يعد قادراً على حمايتها، لذا يحاول جرّها، خاصةً أن هذه المنطقة لا يوجد فيها حرس حدود، أي هو يورّط الجيش اللبناني في مواجهة الجيش السوري، لحماية حاضنته، وإشغال الطرفين السوري واللبناني بالنسبة له أفضل من اتفاقهما، فالاتفاق بينهما ينهيه”.
ويختم كلامه: “أما بخصوص خطاب الكراهية المتبادل بين الطرفين، فيعود إلى البيئة الحاضنة لكلّ منهما، والتي تلعب دوراً مهماً في ذلك، وبما أنّ كل طرف يرى نفسه حامياً لبيئته، فغالباً ما يكون هو المتورط بشكل أو بآخر”. وعن دخول الجيش السوري إلى لبنان، يقول علاوي: “لا أحد يدعو إلى ذلك، وواقعياً الجيش السوري ليست لديه القدرة ولا الرغبة في الدخول إلى لبنان، بل من يردد هذه العبارات هم صحافيون يتقربون من السلطة السورية الجديدة فحسب”.
ليست بسبب الأراضي؟
هذه الاشتباكات ليست الأولى بين العشائر والإدارة السورية الجديدة. فمنذ سقوط نظام الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، وقعت اشتباكات بين الطرفين نتج عنها تهجير الآلاف من أبناء هذه المناطق إلى قرى البقاع الشمالي، وكان هدفها استعادة الجانب السوري الأراضي المتداخلة مع لبنان، والتي يعدّها ضمن ملكيته.
“تاريخياً، تعود ملكية هذه الأراضي المتداخلة منذ الاحتلال العثماني إلى آل حمادة، كما هو متعارف بين أبناء المنطقتين، حيث كان سعدون حمادة، والد جدّي صبري حمادة، مدير ناحية القصير أيام الاحتلال العثماني، ثم كلّفت السلطات العثمانية الحماديين بحماية حمص وحماة من غزوات المراعبة (آل المرعب)، وأصبح هناك تعايش بين سوريا لبنان”، يقول المهندس الزراعي راشد حمادة، لرصيف22.
ويضيف حمادة، أنّ ملكية الأراضي تعود لعائلته، والأمر ليس فقط ملكية أراضٍ بل كان هناك تداخل لبناني في السياسة السورية، ووالدي صبري كانت لديه صداقة مع حسني الأتاسي ومحسن الأتاسي، أي كانت هناك وحدة حال قبل عام 1958 بين لبنان وسوريا، وما زلنا نملك هذه الأراضي بسندات ملكية رسمية، وكان يقال عن سكان تلك الأراضي، خاصةً القصر، وسلطان رحال، عرب صبري حمادة، أي حماديّين، ثم تم تقسيمها في اتفاقية سايس بيكو، وأراضينا في سوريا ولبنان لا تزال ملكيتها باسمنا إلى اليوم، وحتى الإصلاح الزراعي في سوريا لم يسرِ على اللبناني”.
وينفي حمادة، أن تكون استعادة تلك الأراضي سبب الاشتباكات الأخيرة التي يرى أن أهدافها طائفية، كي يستمر الأمر على هذا النحو بين الطرفين. فوفق ما يقول، مفهوم العشائر يختلف عن المفهوم الطائفي، إذ إنّ العشيرة الواحدة يكون فيها مذهبَان سنّي وشيعي، كعشيرة شمر والكثير من العشائر الأخرى، والخلاف المذهبي ضمن العشيرة الواحدة مستحيل الحدوث، لسبب أنهم يتعاملون وفق قاعدة ابن العشيرة وليس على أساس مذهبي، والإنكليز والفرنسيون خلال الحرب العالمية الأولى، عملوا على تفكيك العشائر وأعطوا السلطة لرجل دين هاشمي، وكان يتقاضى مبلغاً قدره 3،000 جنيه إسترليني شهرياً، كما عملوا على ضرب العشائر بالدين، ثم ضربوا العائلات البقاعية بالمشروع اليساري الاشتراكي الشيوعي، ولو حافظ العرب على أخلاقهم العشائرية لما وصلنا إلى ما نحن فيه”.
ويرى أنّ مشكلة خلاف العشائر على مستوى سوريا ولبنان، تعود في البداية إلى ضرب العشائر في سوريا من قبل حافظ الأسد، وهي تمثّل 40 في المئة من الشعب السوري، حيث أقصى الرئيس الأسبق حافظ الأسد، شيوخ القبائل العربية الأصيلة التي تتمسك بقيم وأخلاق مفهوم العشيرة، ونصّب عليها أشخاصاً يبايعونه، أي أنّه نجح في ضرب 40 في المئة من الشعب السوري”.
“أما في لبنان، فتنتشر ثقافة عليّ بن أبي طالب عند العشائر، وهذا أمر مختلف عن الثقافة الحسينية في الجنوب، حتى على مستوى الطقوس الدينية، لذلك كان التأثير الإيراني عن طريق المال في البقاع فحسب ولم يكن عبر النفوذ، لذلك لا يوجد خلاف في البقاع بين السنّي والشيعي والمسيحي، فالسنّي جارنا في سوريا، ابن زيتا والحمام ومطربا والفاروقية، ويتعامل مع العشائر الشيعية اللبنانية كوحدة حال، والراعي السوري يتاجر في لبنان دون أي فرق بين الطرفين، أي أنّ النعرات الطائفية غير موجودة”، يتابع حمادة.
ويضيف: “لكن دخول حزب الله مؤخراً إلى سوريا، أنتج هذا الشحن الطائفي بسبب القتلى بين الطرفين، حيث خاض معركة غزّة الأخيرة لمساندة أهل السنّة لتخفيف هذه النعرة، ومن ذهب من العشائر البقاعية للقتال في سوريا مختلف تماماً عن العشائر المعروفة في الهرمل، فالتربية العشائرية لا تسمح بالاعتداء على ناس لم يعتدوا علينا”.
يعود حمادة، إلى بداية التهريب الذي كان أساسه في الستينيات، مع بداية تجارة نبات دوار الشمس، لأنّ سعره كان مدعوماً من الدولة السورية، وكان رخيصاً في سوريا، لذا كان يباع للدولة اللبنانية في الستينيات ، مقابل ذلك أقرّت الدولة اللبنانية المشروع الأخضر، ورئيسه مالك بصبوص، في العهد الشهابي لتشجيع زراعات في البقاع حتى لا تتم زراعة الحشيشة، فتم دعم زراعة دوار الشمس ثم القمح، وكان يُعطى لهما سعر تشجيعي، بالاضافة إلى أسعار الأغنام الرخيصة في سوريا، والأدوية أيضاً التي فتحت باب التهريب بين البلدين. أمـا تهريب الكبتاغون، الذي نشط في عهد النظام السابق، ففيه ربح هائل وطالما توقفت هذه التجارة في سوريا أصبح التهريب بلا أي أهمية، ولا أعتقد أنّ ما حدث مؤخراً على الحدود سببه التهريب، لكن الناس تُرجع السبب إلى التهريب لأنّ العشائر تخوض الاشتباكات، وهدفها ترويج سمعة سيئة عن العشائر”.
ويرى أنّ دخول المسلحين الخمسة إلى الأراضي اللبنانية، لجسّ النبض ومعرفة مدى قوة الطرف اللبناني، تمهيداً لعمل عسكري، طالما أنّ حزب الله انكفأ عن القتال ولم يعد قادراً عليه، بحجة سرقة الغنم، وتمّ التصدي لهم من قبل العشائر اللبنانية.
ويختم حمادة، بأنّ حلّ المشكلة بين البلدين يكون عبر حصول اللبناني الذي يريد أن يعمل في أرضه داخل الأراضي السورية على إقامة من سوريا، ويعامل السوري داخل لبنان بالمثل”.
اللادولة على الجانبين
بين من يرى أن العشائر اللبنانية خاضت معركتها بدعم من حزب الله، ومن يرى أن ما حصل رد فعل من قبل العشائر دفاعاً عن أرضهم من منطلق عشائري بحت، يقول الكاتب وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، وجيه قانصو، إنّ “ما حدث على الحدود اللبنانية السورية، جزء منه من مخلّفات وضعية سابقة لم يتم حلّها، وهي حدود مفتوحة غير شرعية وغير منضبطة، ولم يبادر الجانبان السوري واللبناني، إلى معالجة هذا الموضوع وفق الأصول القانونية والدولية لضبطها. هذه المخلّفات استمرت، وحصول متغيرات جديدة أدى إلى تناقضات لأنّ الوضعية السابقة كانت مغطاةً من قبل النظام السوري والجانب اللبناني، وما لم تتم معالجتها ستؤدي إلى انفجارات”.
ويضيف في حديثه إلى رصيف22: “الجانب الثاني، هناك نوع من رفض للمتغيرات الجديدة، أي هناك محاولات تحدث لعدم الاستسلام للمتغيّرات، خاصةً حكم الشرع وحكم الجماعات الإسلامية، لكن في الوقت الذي تفاءلنا فيه بسقوط نظام الأسد، وبفتح باب الأمل مجدداً بأنّ الشعب السوري سيتمتع بالحرية، بتنا فجأةً نرى سلوكيات من النظام الجديد، خاصةً فصائله العسكرية، لا تتناسب مع خطاب الشرع واقعياً، أي أن الأداء العسكري والأمني لا يتناسب مع خطابه، بدليل ما حصل على الحدود اللبنانية السورية، أي لم يدخل في طور الدولة وفق معايير دولية وتالياً محاكمة الناس وفق معايير قانونية، وما يحدث يرقى إلى أن يكون إبادةً جماعيةً”.
ويرى قانصوه، أنّ “وضعية الحدود الشمالية اللبنانية كانت غير مضبوطة، وللأسف اللبنانيين كان لهم دور كبير، سواء حزب الله أو العشائر، في هذه الوضعية، ما تسبب لهم بأضرار هائلة حيث كان هناك خطأ جسيم ارتكبه حزب الله بفتح الحدود ومنع الدولة من ممارسة دورها هذا، سابقاً”.
في المقابل، يشير قانصو، إلى أنّ “حزب الله حالياً في وضعية عسكرية متآكلة، بالإضافة إلى وضعه الحرج مع إسرائيل، والقتل المتزايد خلال الحرب وهذا مؤسف، ولا يستطيع أن يبادر إلى أيّ حراك مسلّح، وكانت توقّعاتنا من النظام السوري الجديد أهم من ذلك بكثير، حيث تبيّن أنّ التوقعات لا تتناغم مع الأداء الذي حصل على الحدود اللبنانية السورية، أي لم يتصرف هذا النظام كدولة، إنما كان التصرف تصرّف ميليشيات وفصائل مسلحة، وربما لكل فصيل عقيدته، أي أنّ هذا النظام لم يدخل في طور الدولة وهو عبارة عن تنظيمات مسلّحة تعوّم نفسها بخطاب رسمي، وهناك مسافة بين الخطاب السوري الجديد والأداء العسكري الذي يحصل في سوريا. فمن يقصف مدينةً كـبعلبك الهرمل بهذا الشكل، ليس نظاماً يحترم نفسه”.
“لكن هذا لا يمنع أنّ النظام الجديد السوري لديه مخاوف من تحرّكات قد تتسبب في تقويضه، خاصةً بعد أحداث الساحل السوري، وهي منطقة رخوة بالنسبة له، وهو تالياً يتشتت بشكل غير عادي كي يُحكم قبضته، وليس لدينا مانع في إحكام قبضته، لكن أن يُحكم قبضته كي تصبح عبارةً عن مجازر بداعي التطهير العرقي أو التطهير الديني، فهذه سقطة كبيرة بحقه، وهو في مأزق إن لم يتدارك الأمر، وأمام مشكلة كبيرة على مستوى مصداقيته المحلية والدولية”، يقول قانصو.
ويتابع: “دخول حزب الله في السابق إلى سوريا، كان أكبر خطأ إستراتيجي ارتكبه بدايةً في حق نفسه، ثم في حق لبنان لمساندة نظام كان يبيد شعبه. هذه الأمور أدت إلى توتر تسببت فيه الاحداث السابقة سواء بأداء حزب الله أو بسبب الفصائل الجديدة التي ترتكب الجرائم، لكن المطلوب من الدولة اللبنانية أن تبادر، ومن الجيش أن يفرض نفسه على الحدود، ومن غير المنطقي أن تدافع العشائر عن لبنان، بل يجب أن تكون هناك دولة، فما يجري لا يتم حلّه إلا عبر الدولة، وليس عبر ترك الأمور للواقع الشعبي الذي تتحكم فيه الشائعات والانفعالات.
ويختم: “على ما يبدو، هناك هشاشة في الدولة اللبنانية، وتردّدٌ في أخذ قرارات حاسمة في ملف ترسيم الحدود، وفي المقابل النظام السوري الذي يعاني أيضاً من الهشاشة، غير قادر على أن يسيطر على الفصائل، وعاجز عن أن يدير مسألة الحدود اللبنانية السوري إدارةً قانونيةً عقلانيةً، بل هناك فصائل متفلتة لا يستطيع أن يسيطر عليها النظام السوري نفسه”.
رصيف 22
———————————
====================
====================
عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 19 أذار 2025
تحديث 19 أذار 2025
——————————-
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
الأحداث التي جرت في الساحل السوري
————————–
التضليل الإعلامي يقود سوريا إلى الفتنة الطائفية/ ابتسام تريسي
19/3/2025
لا يخفى على أحد أثر الصورة على الرأي العام في أيّ بقعة من بقاع العالم، فكلّنا يذكر صورة رئيس الشرطة الوطنية وهو يُطلق النار على سجين فيتنامي وسط الشارع، التي اقتنصها مصور الأسوشيتدبرس لتُحوِّل فيما بعد مسار الحرب الوحشية في فيتنام. وكلّنا يذكر صورة الطفل الكردي ديلان، الذي لفظه البحر على أحد الشواطئ التركية لتنفتح بعدها الحدود أمام الهجرة السورية. وليس بعيدًا صورة الطفلة التي ينتظرها النسر لتموت؛ كي يأكلها في السودان أيام المجاعة القاتلة.
لم يكن مصطلح “الترند” موجودًا في تلك الأيام إذ أصبح مشهورًا في زمن السوشال ميديا التي فتحت الباب واسعًا أمام الكذب والافتراء بفضل ما بات يُعرف بالذكاء الاصطناعي. في مطلق الأحوال، نستطيع القول إنّ الإعلام هو البطل الحقيقي (سلبًا وإيجابًا) في الحروب، والنزاعات، والصراعات بين البشر. فهو العصا الحقيقية التي تُحرّك القطعان البشرية على سطح هذا الكوكب.
الإعلام والانقلاب الغبي على الدولة السورية
ما نزال في سوريا نعيش هذا الصراع الدموي منذ عام 1958 وحتى اللحظة، وقد تصاعد بشكل صاروخي منذ 2011 وحتى الآن، وما تزال الصورة أو الترند يتلاعبان بعقول البشر حيث يأخذ الإعلام صورة بشكل انتقائي يتماشى مع أهداف مشغليه ويُخفي ما عداها، وكلّ ذلك من أجل تجييش الجموع باتّجاه محدد، وما يزال أصحاب العقول الرخوة تلتقط ما يُبث، وتبني مواقفها على أساسه.
رأينا ذلك أثناء الحركة الانقلابية الغبية التي قام بها فلول النظام الأسدي مدعومين بمنصات إلكترونية دولية معادية للحكومة الجديدة في دمشق، لقد اختاروا القتال بالزي المدني لتظهر فيديوهاتهم على أنّهم قوى مدنية يتمُّ الاعتداء عليها. فبركوا الكثير من الفيديوهات، ونشروها ليتلقفها أصحاب الأجندات الخارجية، وأصحاب العقول الرخوة من الناس. وأقصد بأصحاب العقول الرخوة أولئك الذين يتكاسلون عن البحث والتدقيق.
تجاوزات فردية صعّدت وتيرة الصراع الطائفي
أثناء قمع الحركة الانقلابية وقعت تجاوزات من أناس موتورين، ومن أصحاب فكر ظلامي لا يفرّقون بين مقاتل وبريء. ومن تلك التجاوزات على سبيل المثال صورة المرأة التي قُتل أبناؤها الثلاثة، فقد أيقن معظم المجتمع السوري أنها من فعل الأمن العام، لتتضح الصورة فيما بعد أنّ من قتلهم شبيحة مقداد فتيحة؛ لأنّهم مع الدولة؛ ولأنّهم معارضين للحركة الانقلابية. ومع تعاطفنا الكامل مع هذه الأم ومع أبنائها، إلا أنّ الصورة استُخدمت من قبل النشطاء الإنسانيين على مواقع التواصل ضدّ الدولة، ، وخرج المثقفون السوريون في باريس إلى الساحات بوقفة تضامنية مع أبناء الساحل من الطائفة العلوية، وكان بينهم الشاعر أدونيس الذي صمت 14 عشر عامًا عن مجازر الأسد بحجة أنّ الثورة خرجت من المساجد.
في الوقت ذاته لم يُشر هؤلاء إلى أكثر من ثلاثمئة أم ينتظرن جثامين أولادهن في بقية المحافظات السورية. فمقتل ابن الأكثرية قد يكون جريمة تحتاج إلى نظر، أمّا مقتل ابن الطائفة فجريمة لا تُغتفر. قِلّة من الناس من كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى استحياء إدانتهم للمجرم أياً يكن، لكن في المقابل دبجوا المقالات الطوال ضدّ أصحاب الفكر الظلامي “يقصدون فقط الحكومة الجديدة”.
ما هكذا تورد الإبل
عندما نطالب بالعدالة الانتقالية، فإنّنا نطالب بها من أجل كلّ الضحايا. قديمًا وحديثًا فتلك الجرائم التي حصلت منذ عام 2011 وحتى الآن لا تموت بالتقادم، ولا تموت بقولنا “عفا الله عمّا مضى”، ولا تموت بعبارة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
وإذا كنّا حريصين على السلم الأهلي فعلينا أن نرى أولاً من غدر بالسلم الأهلي وتسبّب بكلّ هذا الدم؟ إنّه ذاته من أراد الانقلاب على الحكم الجديد، هو ذاته من جعل الخوف يدبّ في قلوب الأكثرية التي عانت القتل والتهجير، والخوف من عودة نظام البراميل. هذه الأكثرية الخائفة شكّلت -خلال ساعات- جيشًا لوأد الفتنة، والقضاء على الانقلاب نتيجة رعبهم من نجاحه. وفي الحروب دائمًا سيسقط الكثير من الأبرياء، خاصة عندما يكون أحد طرفي النزاع هم من تسبب بالتغريبة السورية، وهم من كان الطرف الآخر يحتفل بجوعهم، وموتهم، ويرقص وعلى رأسه الحذاء العسكري. هؤلاء المقاتلون ليسوا ثوارًا، وليسوا ملائكة في الوقت نفسه. ومن أخطأ منهم تجب محاسبته، لكن العبث في عش الدبابير لن يُخرج عسلاً كما توهّم الانقلابيون.
زمن الفبركة الإعلامية ومنصة تأكد
لقد أيقنت الكثير من الصحف الغربية من وجود تلاعب واضح كعين الشمس، ومخابرات العالم أجمع يعرفون أدق التفاصيل التي تجري على الأرض في سوريا، فقد نشرت صحيفة ألمانية الصور الحقيقية لما جرى من تزوير للواقع.
لكنّ الشعب السوري الذي جرفته مشاعر الغضب والتعصب لم يعد يميّز بين ما هو حقيقي وما هو مزور مما جعل بعض النشطاء ينشؤون منصة باسم “تأكد”. تلك المنصة حريصة على ملاحقة المنشورات المزيفة والبحث عن أصل الصورة والخبر. مع هذا لم تستطع منع انجرار الأكثرية لتداول الصور المزيفة، والفيديوهات المزورة لما جرى في الساحل السوري يوم الانقلاب وبعده. فقد حاول الفلول من أيتام الأسد تحويل أنفسهم من قتلة طائفيين مجرمين إلى أشخاص مدنيين تعرضوا للاضطهاد والانتهاكات من قبل الجيش الذي يحاول السيطرة على الانفلات الأمني وإعادة الهدوء والأمان لمدن الساحل السوري. أما إظهاره بشكل متوحش، وعبر حملة منظّمة وممنهجة فحدث للتغطية على إجرامهم بحقّ الأكثرية خلال العقود الماضية وختامها بالحركة الانقلابية التي انتهت بهم في خيام في قاعدة حميميم الروسية حيث عزلهم الروس لانتشار أمراض بينهم. وقد أبلغهم الروس بعد العزل أنّهم سينقلون مع عوائلهم إلى بلد آخر لم يصرحوا لهم عن اسمه، من المرجح أن يكون إسرائيل بعد أن طالبوها بحمايتهم.
كاتبة وأديبة سورية
صدر لها عشر روايات، وأربع مجموعات قصصية.. حائزة على الجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح عن مجموعة “جذور ميتة”.. والجائزة الأولى لموقع لها أون لاين عن مجموعة “نساء بلا هديل”.. والجائزة الأولى لمسابقة المزرعة عن رواية “الخروج إلى التيه”. ودخلت رواية “عين الشمس” القائمة الطويلة لجائزة البوكر
الجزيرة مباشر
—————————–
تحقيق استقصائي يكشف خفايا “لواء درع الساحل” وارتباطاته المشبوهة
2025.03.19
كشف تحقيق استقصائي أجرته منصة “إيكاد” عن خفايا تنظيم “لواء درع الساحل”، الذي برز مؤخرًا كأحد الميليشيات المسلحة المسؤولة عن أحداث تمرد شهدها الساحل السوري.
ويشير التحقيق إلى وجود عمليات تضخيم إعلامي منظم، وارتباطات مشبوهة بالدوائر الإعلامية الإسرائيلية، فضلًا عن شخصيات وكيانات يُرجّح أنها وهمية.
نبذة عن “لواء درع الساحل”
وفقًا لما توصل إليه فريق “إيكاد”، فإن “لواء درع الساحل” تم تأسيسه في فبراير الماضي على يد “مقداد فتيحة”، وهو جندي سابق في قوات نظام الأسد، معروف بسجل حافل بانتهاكات جسيمة، شملت عمليات قتل خارج نطاق القانون والتمثيل بالجثث.
وبحسب مصادر التحقيق، فإن فتيحة كان ينتمي إلى “الفرقة 25” التي يقودها سهيل الحسن، وكان أحد عناصر “الحرس الجمهوري”، وسبق أن ظهر في صور موثقة بجوار جثث قام بإحراقها.
في 6 مارس/آذار الجاري، نشرت صفحة تحمل اسم “مقداد فتيحة – لواء درع الساحل الاحتياطية”، مقطع فيديو لفتيحة يعلن فيه عن التمرد المسلح ضد الحكومة السورية. وبعد لحظات فقط من نشر الفيديو، بدأت صفحات موالية للحكومة بالترويج لمحتوى مشابه، مما يشير إلى احتمال وجود تنسيق إعلامي مدروس.
ووفقًا لتحليل فريق “إيكاد”، فقد تم رصد ذروتين للنشاط الإعلامي حول “لواء درع الساحل”:
في فبراير/شباط مع الإعلان الأولي عن تشكيل التنظيم.
في مارس/آذار بعد إعلان التمرد، حيث شهدت مواقع التواصل موجة واسعة من التفاعل باستخدام وسوم محددة مثل (#المقاومه_لواء_درع_الساحل) و(#المقداد٣١٣).
كما يطرح التحقيق تساؤلات حول طبيعة “لواء درع الساحل”، خاصة مع وجود صفحات إلكترونية يُعتقد أنها وهمية تدعم التنظيم، إضافة إلى ارتباطه بحملات تضليل إعلامي لها امتدادات خارجية. كما يشير إلى احتمال وجود تلاعب في تصوير قوة وانتشار اللواء، ما يعزز فرضية كونه جزءًا من سيناريو أكبر لأغراض سياسية أو عسكرية.
#تحقيقات
🧵 | على مدى أيام بعد التمرد الذي حصل في الساحل السوري، عمل فريق إيكاد على تتبع صفحات “لواء درع الساحل”، أحد الفصائل المسؤولة عن الأحداث، لنكشف عن أسرار جديدة، منها ارتباطها بصفحات إسرائيلية، وعمليات تضخيم إعلامي مدروسة، وشخصيات وألوية منضوية تحتها يرجّح أنها وهمية وتحاول… pic.twitter.com/4Oi4jiIPkf
تلفزيون سوريا
———————————
المعضلة السورية في الدولة والمجتمع/ سوسن جميل حسن
19 مارس 2025
منذ انطلاق الثورة السورية، باكراً في عمرها، بدأ التأسيس لذاكرة الدم، ونحن شعوبٌ في الأساس تعيش في الماضي، ولا تريد أن تنسى، شعوبٌ نحمل الماضي على كاهلنا مثل سلحفاة، مسيرتها نحو المستقبل تحرق قروناً من السنوات من دون أن تتقدّم، حتى تصير المسافة بينها وبين الركب الإنساني لا تقاس.
منذ 14 عاماً والشعب السوري يكرّس تبعيته للماضي في جوانبه المظلمة، دفع أثماناً باهظة في مقارعة الاستبداد، وفي سبيل نيل حريته ودفاعاً عن كرامته، لكنه لم يُنجز ثورته كما كان يرجو، على الرغم من الإنجاز الكبير في سقوط الطاغية. للثورة أهداف ومبادئ وقيم.
في الواقع، ازدادت حياة الناس بؤساً وفاقةً، وزيادة على ذلك عمّت الفوضى، وعُدنا إلى المربع الأول، وكأن نظام الأسد لم يسقط، بل الذي سقط آخر المشاعر والقيم الإنسانية.
سورية اليوم في أكثر مراحلها ضعفاً، وتحدّيات داخلية وخارجية كثيرة تقف في وجه بناء الدولة السورية، ولن يسلّم داعمو النظام الساقط الإقليميون بالهزيمة، على الرغم من الضربة التي تلقّوها، بل سيحاولون الانقضاض على سورية الوليدة وإثارة الفوضى فيها. لذلك كانت أدواتهم جاهزة للتحرّك في لحظةٍ ما، وهذا ما حدث في الساحل السوري، وجرى قتل كثيرين من عناصر الأمن العام، وهذا مرفوضٌ ومُدان، لأنه جهاز دولة، منوطٌ به حماية الأمن والسلم الأهليين، لكن مواجهة هذه الحالة من التمرّد لا تكون بفسح المجال لفصائل متطرّفة إلى هذا الحدّ، تضم أعداداً من المقاتلين الغرباء عن المجتمع السوري، من جنسياتٍ عديدة، بأن تواجه البيئة كلها، مستبيحةً أمن الساكنين في حياتهم وممتلكاتهم، ولا بإعلان النفير العام والدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، فالظرفُ لا يحتمل مزيداً من المواجهة الطائفية، وكثير من الشعب السوري لم تلتئم جراحُه، ولم تنصفه العدالة الانتقالية بعد.
يعيد المشهد نفسه، وكأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة، وصوّر هذه المشاهد من نفذ القتل، كما كان جيش النظام البائد والفصائل الرديفة يمارسون، كذلك التهجير، فأمام هذا العنف المنفلت هجّ مئات من الساكنين، هام قسم كبير منهم في البراري من دون وجهة، يبحثون عن النجاة فحسب.
أين المشكلة؟ بل أين المعضلة، ما دام أن الحروب الأهلية تتكرّر في سورية؟ ربما يمكن القول إن المشكلة تكمن في شكل الدولة، وفي شكل المجتمع السوريين، سورية البلد متعدّد الطوائف والإثنيات، لا يمكن أن تتعايش هذه التعددية وتعيش في وطن يشعر معه أبناؤه بالانتماء إليه والدفاع عنه والسير به ليواكب ركب الحضارة الإنسانية، من دون أن تكون هناك دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، لها دستور يشارك الجميع في صياغته، دستور يجعل الكرامة الإنسانية أعلى قيمة ومنطلق الحقوق لكل المواطنين، ويرفع من شأن الحرية، حرّية القول، حرّية العقيدة، حرّية التعبير عن الخصوصية الثقافية من دون فرض قيم ومبادئ أي طرف، مهما بلغ تعداده في الخريطة البشرية السورية، على أطراف أخرى.
تحت خيمة الحرية بحماية القانون، ربما يستطيع المجتمع أن يتأمل موروثه الثقافي بطريقة أخرى عوضًا عن التمسّك الأعمى به مهما حمل من سرديات متراكمة عبر تاريخ من الحروب والانكسارات، فيتصالح مع نفسه، ومع فكرة العيش في دولة مواطنة تقوم على القانون والمؤسّسات، فهل يمكن الحديث عن دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسّسات من دون الحديث عن الديمقراطية؟ إذا لم تتوافر الفرص أمام جميع شرائح المجتمع كي تكون فاعلة ومشاركة في صنع القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في الداخل، ورسم السياسات الخارجية، فسوف تبقى سورية تحت تهديد أخطار القلاقل التي تهدّد السلم الأهلي واستقرار المجتمع.
تحتاج سورية إلى مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية، وقائم على الحقوق. لقد أدّى النظام الشمولي الذي سيطرت فيه الدولة بإحكام على المجتمع والأفراد، وسعت إلى إضفاء أيديولوجية على المجتمع بأسره بالقوة، إلى تخريبٍ كاملٍ للهياكل السياسية والمؤسّسية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وروّجت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمرة، بتشجيع الهويات الضيقة والانتماء إلى الجماعة، سواء الطائفية أو القومية، وعزّزت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمّرة، بتشجيع هذه الهويات الضيقة والانتماءات، ما أدّى إلى جعل المجتمع السوري جاهزاً للاشتعال كلما توافرت الظروف الملائمة، زاد في هذه الحرائق المدمّرة ما تعرّض له الشعب السوري من قتل وعنف بمختلف أشكاله في سنوات الثورة، عدا وصف كل من ثار في وجهه بالإرهاب، وتمكُّن بعض الفصائل السلفية الجهادية من بعض المناطق في سورية، وتعزيز فكرها وطرق إدارتها المناطق التي تسيطر عليها.
إذا أضفنا صفة أخرى إلى النظام الشمولي الذي أدار به البلاد حكمُ الأسد، صفة الاستبداد، نفهم لماذا ترفض شرائح من الشعب السوري التسامح مع التعبير العلني عن الخلافات السياسية الكبيرة، فهذه إحدى مخرجات الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
لكن هل يصبح الوضع أسهل بمجرّد سقوط النظام وانتهائه وانتقال سلطة الدولة إلى الحكومة الجديدة؟ بالطبع لا، فهذا مرتبط بمسألة كيفية الحكم في هذه المرحلة. إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعد، وجذوره وقوته المؤسسية لا تختفي لمجرّد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سببٌ وراء الطريقة التي يتم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظامٍ ما، ووراء الطريقة التي يتم بها الحفاظ عليها، على الرغم من التوترات الداخلية والمصالح المتباينة، وما جرى في سورية بعد دخولنا في الشهر الرابع من سقوط النظام، أن الدولة تديرها حكومة انتقالية، يمكن القول إنها من لون واحد، قد يكون له مبرّراته كمرحلة انتقالية، لكن الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة المؤقتة ضرورة ملحّة، فأمام الحكومة مشكلات كبيرة: دفع رواتب الذين يعملون في الحكومة بانتظام، والتعامل مع النزاعات بطريقة مختلفة وأكثر عدلاً، وتعويض ضحايا الجرائم والانتهاكات السابقة، خاصة بعد تفعيل العدالة الانتقالية، وإقامة تحالفات جديدة مع الدول وقطاعات الأعمال الأخرى، والحفاظ على القانون والنظام، لقطع الطرق على الذين يحاولون استغلال الفراغ السياسي، والذين يحاولون القيام بأفعال إجرامية، تنشط بشكل كبير في ظروفٍ مشابهة.
جرى إشهار الإعلان الدستوري أخيراً، فأحدث ضجيجاً وسجالاً حامياً على مستوى القاعدة الشعبية، وهذا صحّي، فلدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة هذا الإعلان قراءة نقدية، وتحليله وبيان ما يقدّم من ضمانات لأهداف الثورة التي قام الشعب بها، أو مدى افتراقه عنها. وبحسب هذه الشريحة من المنتقدين، من حقوقيين وغيرهم، لم يكن هذا الإعلان الدستوري المرجو والمنتظر، بل يؤسس لسورية مغايرة عن التي طمح ببنائها معظم الشعب السوري.
من نافل القول إنه بعد فترة من الصراع الداخلي، كما وقع في سورية، وبعد التدهور الاقتصادي وانعدام الأمن السياسي والضغط الدولي، بدأ السكان، بعد أن عاشوا فرحتهم بسقوط النظام،، يطمحون إلى رئيس دولةٍ قادرٍ على تحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد، لكن هذا الأمر تواجهه تحدّياتٌ كبيرة، ويكمن التحدّي بشكل أساسي في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم، كذلك معاقبة مجرمي النظام السابق، بما تقتضي العدالة، ومواجهة الحركات القتالية التي تهدّد الأمن المجتمعي، كما حصل في الساحل السوري، إنما عن طريق أجهزة الدولة الوطنية، وليس بترك الفصائل تتدخّل فتستبيح أمن السكان وتضرم الكراهية والثأرية.
وما دام أن هذا الأمر وقع ولا مكان لنكرانه، بل أقرّ به الرئيس أحمد الشرع، وقال إن “بعض الانتهاكات وقعت” وشكّل لجنة تحقيق، كان من المفيد أكثر لو ضمّت شخصيات من الخارج، من أجل الموضوعية المطلوبة، وإحالة المرتكبين إلى القضاء، فإن ما تقتضيه المرحلة بعد الإعلان عن هذه اللجنة هو الإنصاف المرجو والموضوعية في تقويم الوضع، وينتظر أيضاً عرض كل المقاتلين الذين أثاروا الفوضى، ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وقتلوا عشرات من رجال الأمن العام، ليعرف الشعب مدى الخطورة التي تتربّص به، ويعرف أن الدولة تحمي الجميع. لكن سؤالاً مقلقاً يطفو اليوم، بعد الإعلان الدستوري الذي يرسم هوية الدولة والمجتمع السوريين خمس سنوات على الأقل في مرحلة انتقالية، عن مدى احتمال استقرار المجتمع في هذه الفترة، في ما لو لم تتم معالجة المشكلة من جذورها، والخروج على الناس بكل شفافيةٍ بعرض الواقع بكل ملابساته، كي لا تتكرّر هذه المأساة الإنسانية، ولا تتوسّع الاضطرابات التي تزيد من تفتيت المجتمع الذي يعاني، أساساً، هشاشة خطرة.
العربي الجديد
———————————-
الطائفيّة التي نتجاهلها!/ حازم صاغية
تحديث 19 أذار 2025
في الآونة الأخيرة، وبالتفاعل مع مأساة الساحل السوريّ، سُمعت أصوات كثيرة يمتزج فيها الندم بالاعتذار: لم نقدّر أنّ الطائفيّة على تلك القوّة التي بدت عليها.
فمن أين يأتي هذا الإغفال المتمرّد على شواهد لا تُحصى؟
أغلب الظنّ أنّ ثمّة ميلاً إنسانيّاً رديئاً يغازله الإغفال، مفاده صمت المرء عن نواقص عالمه وعن قصوره. فمُربكٌ ومنغّص إقرار واحدنا بأنّ عطلاً عميقاً يقيم في بيته وأهله وجماعته. وفي المقابل، تستقرّ النفس على استواء هانئ حين نرسم صورة تطفح بالورد عن «أهلنا» الأحبّاء المظلومين.
لكنّ الطائفيّة هي، بمعنى ما، نحن. فهي ليست الدين، ولا رذيلة متأصّلة فينا منذ أجدادنا الأوّلين. إنّها علاقة سياسيّة، وبالتالي ثقافيّة، حديثة في اسمها وفي اشتغالها، من دون أن ينقطع استلهامها لتركيب مجتمعاتنا العصبيّ القديم. ذاك أنّ الأخير أحياه، بدل أن يتجاوزَه، نوع استقبالنا الحداثةَ، ونوع بنائنا الدولَ والسياسة والاقتصاد…
وتجاوباً مع ميل الإغفال، تحضر الآيديولوجيّات النضاليّة عن العداوة لتعزّز تلك الصورة. فالعدوّ، الاستعماريّ والصهيونيّ والشيطانيّ، ينبغي رسمه كَسَلْب أقصى، كي يطمئنّ يقيننا إلى أنّنا إيجاب أقصى. وفي هذا الإيجاب، الذي يتجسّد فينا، يستحيل أن توجد ظاهرات «معيبة» كالطائفيّة والعشائريّة وسواهما.
وفي مُضيّنا باللعبة إلى أواخرها، يتولّى العدوّ إيّاه «بذر» ما قد يُضبط فينا من سيّئات يصعب إخفاؤها. فهو، لأنّه مطلق العداوة ومطلق السوء، يبذر في تربتنا الفتنة والشقاق، والطائفيّة في عدادهما. هكذا تغدو تلك «الآفة» من نتائج انخراطنا في السوق العالميّة، و«تغلغل» الرأسماليّة فينا، وإصلاحات ابراهيم باشا المتأثّرة بالغرب. وهذا علماً بأنّ صحّة تأويل كهذا تجعل تجميد التاريخ ووقف الحياة شرطاً لوقف التآمر علينا.
ولأنّ تلك الطائفيّة صُوّرت خارجيّةً وطارئة، تسبّبَ بها «العدوّ»، يتكفّل بالشفاء منها وعي آخر قوميّ أو علمانيّ أو ديمقراطيّ، لا نبلغه إلاّ في سياق الصراع مع «العدوّ»، باذرِ الشقاق، ومعه التخلّف والتأخّر. هكذا نهوّن الأمر على أنفسنا بفولكلور متقادم: فالمسيحيّ فارس الخوري سبق أن صلّى في الجامع الأمويّ، وقبله أعلن الدرزيّ سلطان الأطرش الثورة على الفرنسيّين، بينما كان العلويّ صالح العلي يُكمل في الساحل ما بدأه ابراهيم هنانو في حلب.
لكنْ إذا كان الجهد المطلوب إيقاظ تلك اللحظات المضيئة، والقفز قرناً كاملاً إلى الوراء لإعادة إجلاس السادة المذكورين في حضن «الشعب الواحد»، فإنّ «العدوّ» إيّاه، في مطاردته لنا بالشرور، لا يدعنا نفعل ذلك، إذ يواجهنا بآلاته الاستشراقيّة التي تُخبرنا أنّنا على شيء من الطائفيّة!. واستكمالاً لصورة الشرّ المطلق، يعثر مثقّفونا على ما يلهب مخيّلتهم في كلّ صفحة يكتبها غربيّ نقداً للغرب والحداثة والعقل والتنوير، ممّا تفصلنا عشرات السنين عن بلوغ تناقضاتها.
وإذ يُرسَم الرئيس الأميركي دونالد ترمب معادلاً حصريّاً لما آلت إليه تلك المعاني، لا ينجو من اللعنة إلاّ طلاّب جامعات كولومبيا المُصرّون على «نزع الاستعمار».
وإلى أفعال «العدوّ»، وهو ليس بريئاً بأيّة حال، تُضاف أفعال «النظام»، وهو أيضاً غير بريء. لكنّ «النظام»، كـ«العدوّ»، خارجيّ، منشقّ عن الأصالة والطيبة اللتين فينا، وهابط علينا من السماء. وهذا علماً بأنّ أسوأ ما يفعله «النظام» تجديده العلاقات العصبيّة «الأصيلة» عبر جهاز الدولة وتقديماته وفُرصه.
ووراء تأويل الكون بـ«النظام» (وهو غالباً ما يُرسَم عوناً للعدوّ ولو تظاهر بالعكس) تقيم ثنائيّة حصريّة وساذجة أخرى: فهناك هذا النظام، مؤسّس العيوب، وهناك الشعب أو الجماهير ممّن هم ضحاياها. ويستند التصوّر هذا إلى المبالغة في أنّنا شعب واحد وأمّة واحدة، وتحويل مهامّ صعبة مطروحة للمستقبل، وغير مضمونة النتائج، إلى وصف مُريح لواقع ناجز. هكذا لا يعود مطلوباً سوى الانتقال من مسح الدم عن السكاكين إلى اختيار «تغيير ديمقراطيّ» أو «وطنيّ ديمقراطيّ» أو «ديمقراطيّ علمانيّ»…
في هذا كلّه تحتلّ مساحةً تكاد لا تُذكر موضوعاتٌ ذاتيّة الصنع، من صنف «دين الدولة» و«دين رئيس الدولة» و«مصادر التشريع». وبمساحة ضئيلة مماثلة تحظى مكافحة الروابط العابرة للأوطان، والأوطانُ ودولها هي وحدها ما يحمي الجماعات الأضعف ويُخضع الجموح الآيديولوجيّ للقانون بوصفه حصنها الضعفاء وملاذهم. وليست محاربة «العدوّ» حتّى الرمق الأخير سوى مسمار آخر ندقّه في نعشنا. ذاك أنّ تسييد القضيّة الواحدة يحمل على تصغير قضايا الحقوق والحرّيّات، إن لم يكن تصفيرها. والضعفاء، تعريفاً، ينشدّون إلى تعدّديّة القضايا، ولا يطمئنهم إلاّ عالم قليل السلاح وعديم الكلام المسلّح. أوليس لافتاً، من منظور مشرقيّ، ذاك الانتقال بين ليلة وليلة من الاصطهاج بـ«طوفان الأقصى» إلى «التذابح بين الأخوة»؟
وهذه جميعاً، من دين الدولة وتجديد العصبيّات وغلبتها إلى الوعي العابر للحدود إلى القضيّة الواحدة…، تناقض تماماً ما اصطُلح على تسميته بالغرب وتناوئ اقتراحاته، متوهّمةً بهذا إكمال المعركة ضدّه. لكنّنا، أقلّه كي لا نُفاجأ ثانية بالطائفيّة، مدعوّون إلى التنقيب في أحوالنا وأفكارنا، وفي إسهامنا بتعزيز تلك الطائفيّة من حيث أردنا محاصرتها.
الشرق الأوسط
————————–
عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة/ رمزي عز الدين رمزي
التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي
آخر تحديث 18 مارس 2025
كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار “اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”. كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن “يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا”.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.
أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم “ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي” كما ينص القرار 2254.
غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.
لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.
ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك… غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.
جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.
إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.
كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ “رجل واحد– صوت واحد” يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.
ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.
ثالثا، الاتفاق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل “قوات سوريا الديمقراطية” على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.
رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.
أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.
ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.
يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.
لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.
وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.
ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.
المجلة
————————————-
ما بعد الوطنية السورية: الإنكار القسري للمسألة الطائفية إذ ينتهي انفجاراً في الوجوه/ موريس عايق
19-03-2025
يلحظ المرء لدى الحكم الحالي في سوريا جملة من الأمور التي تذكّر بالنظام السابق، سواء في سلوكياته مثلما حصل مع مؤتمر الحوار الوطني الذي يشبه في إخراجه ومخرجاته ودوره الوظيفي مؤتمرات الحوار التي سبق للنظام أن دعا إليها، أو في خطابه الإعلامي للداخل والخارج، وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي الحالي مع المذبحة الحاصلة بحق العلويين. ما يمكن قوله هو أن هذه التشابهات العديدة التي تجمع الحكم الحالي بالنظام السابق تشير إلى جذر مشترك لها يتعلق بطبيعة الكيان والدولة. هناك «ثوابت» يحيل إليها كل من يمسك بزمام الأمور تنشأ من طبيعة السلطة المركزية وحاجات فرضها، وأيضاً من طبيعة ما يفرضه الكيان السوري نفسه والمخيلة التي يستلهمها الجميع في سوريا، بمعزل عن إيديولوجياتهم وانتماءاتهم.
على مستوى الخطاب الإعلامي، تظهر لدى الممسكين بالسلطة في سوريا لغة وطنية مُترفعة ومنكرة للانقسامات الأهلية، الطائفية خاصة ولكن أيضاً القومية/الإثنية، فيتم التأكيد على وحدة الشعب السوري وتجاوزه لهذه الانقسامات وتعاليه عنها، وكأنها أمراض ولحظات عابرة لسوء الفهم. في المقابل، يتم توصيف المعركة بأنها معركة مع فلول النظام السابق، المقابل الحالي للإرهابيين السابقين، الذين يستهدفون الشعب السوري كله. العداء هو مع هؤلاء وليس مع طوائفهم وجماعاتهم، وبالتالي تُنكر الطبيعة الأهلية للانقسامات فيما يصبح التأجيج الطائفي والأهلي مشروع هؤلاء الفلول، كما سبق وكان مشروع الإرهابيين، الذين يسعون إلى صبغ النزاع بالطائفية وتوريط طوائفهم «الكريمة» لتقديم النزاع كنزاع طائفي يكون معبراً لتدخلات خارجية تنال من سوريا. هذا ما كانه خطاب الأسد على مرّ ما يزيد عن العقد خلال الحرب الأهلية السورية، واليوم هو خطاب أهل السلطة، وخاصة في اللحظات الحالية حين المواجهة في الساحل على أشدها، مترافقة مع مواجهات باردة مع الدروز وقسد. بالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة وجود الفلول وعصابات النظام السابق فيما يحدث حقيقة في الساحل، لكن هذا لا يقدم كل الصورة ولا يلغي حقيقة الانقسام الأهلي الكامن خلف هذه الصدامات والنزاعات.
وفي تشابه آخر، يظهر إلى جانب الخطاب الرسمي المترفّع عن الطائفية خطاب شعبي موغل في التحريض الطائفي ومعباً بالرموز الطائفية وأساطيرها ودعوات الثأر لديها. إن متابعة لوسائل التواصل الاجتماعي، وأكثر من ذلك قنوات تيلغرام حيث تغيب المحاذير وتحضر إمكانيات أكبر لأشكال التعبير مثل الفيديوهات، والأشكال الشعبية للاستنفار والنفير والتظاهر، تقدّم للمرء صورة عن قدر التجييش الطائفي وحضوره المفرط لدى القواعد، سواء الحاضنة الشعبية أو القواعد التنظيمية. وهي ازدواجية سبق وشاهدناها لدى نظام الأسد، بين خطاب رسمي وطني وآخر شعبي وقاعدي شديد الطائفية. كما يرافق هذا الخطاب القاعدي الطائفي وقائع التنكيل الأهلي والقتل والإذلال على طول خطوط الانقسام الطائفي.
ليست هذه التشابهات وليدة الصدفة، بل تقول الكثير عن خطوط مستقرة وثابتة لحاجات السلطة بوصفها سلطة، ونتاج الكيان السوري والمخيلة الأهلية. نحن نشهد هذه المتوازيات رغم كل التباين الإيديولوجي، فالبعثي القومي تحدث كما يتحدث السلفي الجهادي اليوم حين تواجدا في الموقع نفسه ووقفا أمام المهمة نفسها وحملا الطموح الخاص بالسلطة نفسه. هذه المتوازيات يجب أن تدفعنا أكثر باتجاه التعامل مع سؤال السلطة مباشرة ومع سؤال الكيان السوري ومعضلاته الأهلية التي تسعى السلطة، أياً كانت هذه السلطة، لإنكارها، بحيث يكون نكرانها جسراً لهندسة اجتماعية تريدها وسلطة تحتكرها. ولهذا فإن التشكيك والريبة من هذه الوطنية هو مدخل إجباري لمساءلة السلطة نفسها والحذر منها، فخطاب الوطنية من طرف السلطة لا يسعى ولا ينجح، ماضياً وحاضراً، في بناء وطنية سورية حقّة؛ بقدر ما كان خطاباً لإسباغ الشرعية على احتكار السلطة وبناء العصبية اللازمة لضمانها والاحتفاظ بها.
بعيداً عن خطاب الوطنية الرسمي ومتفرعاته، لدينا مسألة طائفية (وقومية فيما يخص الأكراد) مطروحة علينا وبقسوة بالغة، مسألة طائفية نصادفها في كل مسألة تخص بناء سوريا. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال جرائم النظام السابق وتحقيق العدالة لضحاياه، كما هي حاضرة في المقلب الآخر لضحايا الثورة أنفسهم. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال شكل الدولة وطبيعة الحكم، في تقسيم السلطة وشكل المؤسسات، في إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، في تقسيم الثروات. في كل أمر نسعى إلى مناقشته نرى المسألة الطائفية في أحد وجوهها حاضرة بشكل مباشر. رغم ذلك، هناك إصرار على نفيها والقفز عنها، بحسب التقليد السوري القائم على إنكار أي بعد طائفي في النقاش والتحايل عليه. نحاول نفي السؤال الطائفي عن كل مسألة رغم أنه يقبع في خلفية تفكير كل من يتناول هذه المسألة، والجميع يعلم. الجميع يعلم أن سؤال العدالة في سوريا هو سؤال طائفي بامتياز، وأن جميع من يتعاطى الملف يتعاطى معه انطلاقاً من هذه الطائفية الكامنة فيه. لكن، وفي لحظة النقاش العام ومحاولة بناء استراتيجيات لتناول سؤال العدالة، يصر الجميع على إقصاء المسالة الطائفية والمخاتلة حولها عبر التأكيد على فردية الجريمة وغياب البعد الطائفي، فيما تذهب الوقائع على الأرض في اتجاه مغاير وشديد الخطر.
منذ سقوط النظام، يسود في سوريا مزاج سنّي ظافر مشفوعاً بإحساس هائل بمظلومية عظيمة ألمّت به، حُمل خلال ما يزيد عن العقد على خطاب قائم على سردية المواجهة مع النظام النصيري. هذا المزاج الحالي شديد الخطر، يرغب بالثأر سواءً لضحاياه في الحرب أو لعقود الذل التي عاشها تحت نظام الأسد. هذا المزاج هو الأساس اليوم لبناء عصبية سنّية تكون قاعدة لعصبية النظام الجديد، ومنطلق التغاضي عن كل مخاطره وتوجهاته. لن يكون الآخرين وحدهم ضحايا هذه العصبية، رغم كونهم ضحايا مباشرين لها عبر تسويغ الحرب ضدهم، لكن سيكون الكثير من السنّة لاحقاً ضحايا هذه العصبية. يتوزّع السنّة على كامل الجغرافيا السورية وعلى الطيف الاجتماعي، من كل الطبقات، ومن كل الخلفيات الاجتماعية، ومن كل الخلفيات الإثنية؛ ولهذا فمن الصعب أن يكون هناك إطار جامع لهذه العصبية. هم كتلة الأمة التي لا يمكن لها أن تكون كلها في الحكم. تعتاش العصبية السنية الحالية على مخيلة الصراع والحرب، على سردية نزاعها مع الآخرين، دون لُحمة ذاتية وداخلية، ويتطلب الحفاظ على هذه العصبية حرباً مستمرة؛ ملاحقة مستمرة للفول. وتتطلّب أيضاً تطهيراً داخلياً مستمراً لإجلاء صورة نمطية، بالحد الأدنى المقبول، للسنّي. سوف يدفع الكثير من السنة ثمناً غالياً لمحاولة إنتاج وتعميم هذه الصورة، خاصة بالنظر إلى الصورة الممكنة لهذا السني الحق التي يحملها القائمون على السلطة اليوم، وقد بدأ هذا الأمر مبكراً مع الأكراد، وصولاً إلى محنة عفرين وما تلاها.
وفي مقابل العصبية السنية الحالية نجد جماعات أخرى ينهشها شعور بالخطر الوجودي على نفسها، أو التدهور والخضوع الذي لن يعوضه شيء. فالعلويون يعيشون فكرة الخطر الوجودي في مواجهة سؤال القصاص من الجرائم التي حصلت في عهد الأسد، وهم الذين شكّلوا عصبية نظامه. الدروز يخشون بدورهم تدهوراً وخضوعاً نهائيين، والشيء نفسه يصدق على المسيحيين والإسماعيليين. هناك معضلة مطروحة على الأقليات، ولا تعرفها الأكثرية، وهي أن كل معركة هي معركة وجودية وكل هزيمة هي إيذان بدمار وجودي. كيف لنا التعامل مع هذه الأمور بحكمة وعقلانية كبيرتين، بحيث لا تنهار إمكانية العيش المشترك تحت وطأة أسئلة العدالة وحكم الشعب والمساواة؟ وفي المقابل، كيف لا تُغفل الحاجة الماسة لتقديم إجابات مقبولة على هذه الأسئلة تحت مسمى تطمين الأقليات، بما ينتج غبناً هنا وشعوراً باللامسؤولية هناك؟ المهمة عسيرة إلى أقصى حد، وإمكانية الفشل فيها أكبر من إمكانية النجاح في أفضل الظروف، وليس في ظل ظروف شديدة التعقيد إقليمياً ودولياً كما هو الحال في سوريا. لكن يبقى أن علينا الخوض في هذه المسائل.
الإنكار القسري للمسألة الطائفية انتهى دوماً إلى انفجارها في وجوهنا، ولم يخدم إلا تكريس سلطة مستبدة وقوية، تؤمّن شرعيتها باسم حمايتنا من هذه الطائفية وببناء عصبية طائفية وأهلية حولها لحماية نفسها. هذا الإنكار القسري لم يمنع الاحتراب الطائفي ولا المجازر وانهيار النسيج الوطني وتفسخه، بل على العكس لعباً دوراً محفزاً في كل هذا عبر منع المحاولات الجدية لمناقشة صريحة للمسالة الطائفية وتحديد أشكال معقولة وممكنة للتعامل معها وتخفيف مخاطرها وحدة نزاعاتها. إن الوطنية السورية، المنكرة والمتعالية عن الانقسامات الأهلية، مؤذية وشديدة الخطر على السوريين. ولا يمكن لها إلا أن تكون إيذاناً لتكريس سلطة استبداد عصبوي جديدة.
موقع الجمهورية
—————————————–
100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات/ ياسين الحاج صالح
في الحاجة لشبكة أمان وطنية
18-03-2025
100 يوم بعد نهاية الحكم الأسدي هي مفصل زمني مناسب للنظر في ما حدث خلالها، وفي بعض الديناميكيات السورية الجارية، ثم في التناقضات الكامنة وغير المعالجة فيها. من المعقول أن نفترض أن الأيام الباكرة من عهد جديد، حيث الأمور غضة وقليلة التشكل، تعطي فكرة معقولة عمّا يُرجّح أن يجري على مدى أطول من عمر العهد.
الحدث واللاحدث
قبل كل شيء سقط النظام. لا يزال هذا خبراً مهماً. انطوت 54 سنة من «الأبد» والسلطة المُشخْصنة، من التطييف وتغذية الانقسامات الأهلية، من الإفقار السياسي والمادي، ومن العنف والجشع والكذب والترثيث. السقوط غير المتوقع إطلاقاً تحقق خلال 12 يوماً من هجوم قوات «هيئة تحرير الشام»، ما يدل على درجة متقدمة من اهتراء الحكم الأسدي من الداخل. النظام فرط، مركّبه الأمني أولاً، وقد تصرف قادة هذا المركب كمطلوبين ولاذوا بالفرار مثل رئيسهم. أما الجيش النظامي فقد سرّح نفسه وترك مواقعه الأمامية على جبهة الجولان. الحكومة حلّها الفريق المنتصر الذي تصرف بروحية بدءٍ مطلق، سرعان ما تخلى عنه لصالح مسالك تجريبية بلا قواعد، فأقرّ بعض الوزراء والمدراء على أعمالهم، لكنه أحل رجاله في جميع مفاصل السلطة، وجرى تسويغ ذلك بالحاجة إلى فريق متجانس. جرى تسريح موظفين من مختلف الإدارات بصورة متعجّلة عشوائية كذلك، ربما تتلاقى وراءها اعتبارات عقلنة الإدارة والحد من الهدر، بتصورٍ نيوليبرالي للدولة والاقتصاد، بنزعة عزل أنصار النظام السابق أو المستفيدين منه.
أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، صار الرئيس الجديد، ومقامه الرئاسي هو قصر الشعب الذي بناه رفيق الحريري لحافظ الأسد، والقصر يشغل موقعاً «بانوبتيكياً» من دمشق، بما يُمكِّن قاطنيه من المراقبة دون أن يُروا. الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، الشرع، شذب لحيته وارتدى ثياباً مدنية، ولم يلبث أن ارتدى طقماً وربطة عنق، وأخذت تظهر له صور مع نساء غير محجبات بعد أن كان طلب من أول امرأة شابة رغبت في أخذ صورة معه أن تغطي رأسها. كما ظهرت صورة لزوجته لأول مرة وعُرف اسمها. وزير خارجيته يتكلم الإنكليزية، ويقول كل «الكلام الصحيح» في المحافل الدولية. القوى الدولية أظهرت، بعد صدمة البداية وتردّد ما بعدها، إيجابية تجاه الوضع الجديد، لكن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد سقوط النظام يبدو إسرائيلياً في هذا الشأن، وإسرائيل أظهرت عداءً شديداً للوضع الجديد، وتستخدم في وصفه كلمتي الجهاديين والإرهابيين.
الشرع تكلم على نصرٍ بلا انتقام. وحكم هذا التصور النظر إلى قضية العدالة الانتقالية، ملاحقة ومحاسبة الجناة التي هي مطلب يجمع قطاعات شعبية بمجموعات حقوقية بنشطاء سياسيين ومثقفين، فضلا عن ارتباطه الوثيق بفكرة الثورة بالذات من حيث هي تطلع لإحقاق الحق، أي هو من أكثر المطالب وطنية وعمومية في سورية. الشرع وفريقه عرضوا تردداً بين منطق: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبين تجاوب تجريبي مع هذا الطلب الجامع، وصولاً إلى تقرير المبدأ في الإعلان الدستوري المؤسف الذي صدر قبل أيام. وبينما يمكن تقدير التردد الأول بأنهم يدركون أن عدالة انتقالية شاملة تعني مساءلة بعضهم عن ارتكابات مسجلة بحقهم، يحتمل أن يكون تفجر عنف طائفي إبادي في الساحل هو ما دفع نحو دسترة المبدأ. ويبدو أن الميل العام في أوساطهم هي قصر مبدأ العدالة الانتقالية على جرائم النظام (وداعش).
وفي اجتماعٍ لعسكر الحكم الجديد في مؤتمر النصر قبل نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي اختير الشرع رئيساً مؤقتاً، وهو أشار غير مرة إلى مرحلة انتقالية قد تدوم ثلاث سنوات أو أربعة أو خمسة، استقرت على خمسة في الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر قبل أيام.
وكان قد سُلِق مؤتمر للحوار الوطني أعدت له لجنة سباعية، خمسة رجال وامرأتان، عيّنهم الشرع. أخذت عملية الحوار، التي نُظّمت وفق محاور مناطقية حصراً، وقتاً قصيراً جداً، أعقبها مؤتمر ليومين، تمخّض عن توصيات عامة غير ملزمة. كان هذا مساراً ركيكاً، لا يعكس احتراماً لكفاح مديد، مرير، باهظ الكلفة. غياب الشفافية سمة مطّردة للوضع الجديد، الذي يبدو أنه يحب الكتمان في قضاء حاجاته، فيما يلزم وفيما لا يلزم.
في المحصلة، كان المؤتمر وما سبقه من تحضير لا-حدثاً، في بلد يحتاج إلى أحداث تُتذكَّر وتُعلِّم وتترك أثراً.
الحدث الثاني في الأهمية بعد سقوط النظام هو مذابح طائفية في الساحل أعقبت تفجّر تمرد مسلح على يد بعض عسكريي النظام السابقين، بتنسيق مع ماهر الأسد فيما يبدو، وربما بتشجيع إيراني. المتمردون قتلوا عشرات من عناصر الأمن العام، وقاد ذلك إلى مواجهة هوجاء، استُنفرت خلال أيامها الأربعة قطاعات سنية مُحتقنة، يغلب الظن أنه حفزها هلع من خسارة السلطة التي جرى الإمساك بها بعد مِحَن ويأس كبيرين، وتميل بفعل ذلك إلى خوض صراعات وجودية، أي إبادية. وبحسب معلومات متواترة جرت الدعوة إلى الجهاد في مساجد من قبل خطباء وأئمة سلفيين عينتهم السلطة الجديدة. كما شارك في المذبحة المهولة جهاديون أجانب منضوون في هيئة تحرير الشام، شاركوا في قتل إبادي لعلويين آمنين مسالمين. أُجهز في المذبحة على عوائل بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، هذا بينما قتل المهاجمون كامل ذكور عوائل أخرى. عدد الضحايا غير معلوم، لكنه ربما يبلغ الألف أو يتجاوزها. واقترنت المجازر بعمليات سلب ونهب لصوصية واسعة النطاق، وبإحراق بيوت وأثاث. ويقدر أن 10 آلاف لجؤوا إلى لبنان، وألوف إلى قاعدة حميميم الروسية.
ومنذ الآن هذه هي أكبر وأسوأ مذبحة ضد العلويين منذ نشوء الكيان السوري الحديث. إنها حدث كبير، أساسي، باقٍ، يتجاوز كونه تروما علوية لا تنسى، إلى جرح عميق في جسد الوطنية السورية بينما هي لا تزال وليدة، بما يهدد فرصها في النجاة.
وما يزيد سوء الجريمة سوءاً مشاركة متحمسة للقَتَلة الذي صوروا بأنفسهم أفاعيلهم، يمارسونها بتشف، وهم من أتاحوها للعموم. وعرضت بيئات سنية موالية ميلاً ثابتاً للجمع بين إنكار الجرائم والتقليل من شأنها، وبين تبريرها بجرائم سابقة للنظام الأسدي أو بتواطؤ راهن للعلويين مع فلوله المسلحين، وبين تسفيه المنتقدين.
الشرع أعلن في اليوم الثالث للمذبحة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم ومحاسبة الفاعلين، مكونة من سبعة أشخاص، بينهم امرأة واحدة؛ ولجنة أخرى، ثلاثية، أحد أعضائها علوي، لحماية السلم الأهلي. ليس ظاهراً إن كانت اللجنتان ستقومان بعمل جدي. فاللجان قد تشكّل لكسب الوقت واحتواء الضغوط، فتكون بذلك مقبرة للمشكلات لا معالجات حية لها.
الحدث المهم الثالث هو إعلان اتفاق بين «الجمهورية العربية السورية» و«قوات سورية الديمقراطية»، وقع عليه «الرئيس» أحمد الشرع و«القائد» مظلوم عبدي، وأُعلن عنه مساء يوم 10 آذار (مارس)، وقت كانت لا تزال تتوالى أخبار المجازر في الساحل. وهو ما حدا بالبعض إلى ربط منفعل بينهما، رافضاً واحدة من أجل الأخرى أو متعجلاً طي صفحة واحدة من أجل الأخرى.
هل سيطلق الاتفاق ديناميات توحد و«اندماج في الدولة السورية» لقوات «قسد»، وضمان هذه الدولة حق «المجتمع الكردي» في «المواطنة» والحقوق الدستورية الأخرى كافة؟ هذا ما يؤمل إن أخلص الطرفان في نياتهما، وإن لم تعبث قوى خارجية نافذة. ويبدو أن الأميركيين إيجابيون حيال الاتفاق الذي يرجّح أنهم دفعوا قسد لتوقيعه، وسط تقديرات بأن يسحبوا قواتهم من سورية قريباً. هذا أن ثبتوا على موقف ولم ينصاعوا للتفضيلات الإسرائيلية. وليس مؤكداً أن الأتراك سعداء بالاتفاق. زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية لدمشق يوم 14 آذار تثير التساؤلات عن مصيره.
والحدث الرابع وقع يوم 13 آذار: الإعلان الدستوري. غاب عن مراسم إعلان الوثيقة ممثلون للجماعات السورية، فيما كان الحضور السني، الديني والسياسي، طاغياً. الإعلان يركز السلطة بيد الرئيس، ويفتئت على الحقيقة بالكلام على فصل السلطات، بينما الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تقوم من جهتها «بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة»، تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. ما يخص الحريات العامة يبدو أنه يسهل التلاعب به عبر جواز إخضاع ممارسة تلك الحريات «للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة». هذا كلام مرسل مفتوح على تأويلات متعددة تلغيه.
وبينما يعني مفهوم الدستور ذاته أن الحكم دستوري، أي مقيّد وغير مطلق، فإن احتياطات الإعلان الدستوري ليست موجهة نحو السلطة ومخاطر إساءة استخدامها، بل نحو ضمان إطلاقها.
وبعد يوم واحد من صدوره، أعلن مجلس سورية الديمقراطية (مسد)، الجسم السياسي لقسد، رفضه للإعلان الدستوري بوصفه «مشروعاً مفروضاً من طرف واحد»، ما ينذر بسقوط اتفاق الشرع- عبدي الموقّع قبله بأربعة أيام. كلام «مسد» جاء في يوم زيارة المسؤولين التركيين المشار إليهما فوق.
وفي حين أن هناك إيقاع للزمن السوري اليوم يتصل ببدءٍ من الصفر في كل شيء تقريباً، بمشكلات على كل مستوى تقريباً، بسيولة عالية في «الأنفس والآفاق»، بما يضفي صفة تأسيسية على هذا الزمن، وما يوجب أن يكون ما يجري فيه أحداثاً مكونة وتأسيسية، فإن ما جرى ترتيبه بعد سقوط النظام لا يرتفع للمرتبة المفترضة من حيث الحدثية والتكوين والتأسيس، أو هو يسيء إلى ثلاثتها معاً.
ديناميات
من الواضح أن العمليات السياسية السورية خلال 100 يوم تدور حول الجماعات الأهلية الوراثية، وأن تطلعات التمثيل ومشاعر الاستبعاد تحيل إليها. القوى النابذة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً تحيل إلى هذه الجماعات دون غيرها: الكرد في مناطق من الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، والدروز في السويداء وفي جرمانا، والعلويون في الساحل ومناطق من حمص وحماه. وسِجِلّ الانفجار المفرط للعنف في الساحل يظهر قوة حضور هذا العنصر في اجتماعنا وسياستنا. وهي قوة لا تنفصل دون شك عن نزع وطنية الدولة والمجتمع طوال عقود الحكم الأسدي، بعد أن كانت هذه الوطنية ضعيفة أصلاً ولا تستند إلى قوة اجتماعية مِتنيّة، يلتئم البلد حولها. ربما يُفَكّر في أن العرب السنيين السوريين، بنسبتهم الأكثرية وبانتشارهم في مناطق البلد كلها، هم هذه القوة المتنية، لكن من الظاهر اليوم أنهم بعيدون عن ذلك، وإنهم أنتجوا قوى سياسية أقلّوية وليس بحال أكثروية، تعكس مزيجاً من فقد الثقة بالنفس والخوف من العالم، وتميل إلى العنف بسبب أقلّويتها أساساً. يقول إيديولوجيو الجماعة إن السنّيين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة. الواقع أن التعبيرات السياسية السنّية في سورية تعطي الانطباع بالأحرى بطائفة خائفة، تخشى انقساماتها المتعددة فتكبتها وتحاربها فتنقسم أكثر، وتخشى غيرها فتتصرف بلجاجة وعنف، فتكون قوة انقسام عامة. الفزعة الهائجة إثر هجمات فلول النظام في الساحل تدل على قلق وجودي كان المرء يفترض أن السنّيين هم الأقل معاناة منه، وأنهم الأرسخ وجوداً بالأحرى. ظاهر أنهم ليسوا كذلك، والانفعالات الموتورة التي يواجَه بها أي نقد للوضع الجديد تدل على الخوف وعدم الثقة أكثر من أي شيء آخر.
كان لافتاً مع ذلك أن المجتمع السوري أظهر ميلاً إلى التوحد والاتفاق، أقوى مما يتوقع المرء بخاصة إن أخذنا بالاعتبار أن قوى الإدارة الجديدة ليست سنّية فقط، بل هي ذات ماض قريب متطرف جداً. والأصل في ذلك على الأرجح هو إدراك واقعي لحقيقة أن كياناً له من العمر قرن ونيف له، على علّاته، فرص في الحياة أكثر من كيانات جزئية تنشأ اليوم، أو لبعضها من العمر بضع سنوات؛ وأنه يوفر فرص ترق اجتماعي وثقافي وسياسي وأخلاقي أوسع مما توفر أي من هذه الكيانات المحتملة الجزئية، بحكم تعدده المتعدد المستويات وتاريخه. أياً يكن الأمر فإنه لا يمكن لأحد أن يقول إن السوريين في أكثرهم لم يعطوا الإدارة الحالية فرصة.
وفي المقام الثاني ظاهر أن القوى الإقليمية والدولية ذات وزن كبير في العمليات السياسية السورية، أكبر مما لا يسمح بتوحد البلد وتعافيه، وبطبيعة الحال استقلاله. إسرائيل وسّعت احتلالها في الأراضي السوري ودمرت قدرات تسليحية سورية في الساعات الأولى التالية لفرار بشار وانهيار نظامه. وهي تثابر على الضرب في سورية ضد قدرات عسكرية، ويطلق قادتها تصريحات استعمارية بالغة العدوانية حول انتشار القوات السورية وزعم الاهتمام بمصير الدروز والكرد من الجماعات السورية. وفي حين أن إيران وتوابعها هزمت في سورية، فإن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين وبعض القوات، وعلى نحو مستغرب لم تطلب الإدارة الجديدة من الروس الخروج من البلد. ربما فكرت في أن وجودهم يوازن وجود القوى الأجنبية الأخرى، أو ربما تجنباً لاستعداء طرف قوي ويُخشى منه. الأميركيون لا يزالون هناك في الجزيرة وفي التنف، والأتراك في مناطق من الشمال، وهم يتصرفون كمنتصرين ورعاة للحكم الجديد مثلما تقدم.
ويشكل تفاعل الانقسامات الأهلية الداخلية والقوى الخارجية مُركّباً نعرفه منذ أيام المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني مركبات داخل/ خارج، أو تدخلات خارجية (من دول أساساً) و«تخرّجات» داخلية (من روابط أهلية وراثية)، بما يحول دون انحلال هذه «الروابط ما دون الوطنية» بلغة ياسين الحافظ قبل نصف قرن، وبما يوسع من هامش مناورة تلك القوى الخارجية، ويضيق من مساحة استقلال البلد ويحد من الفاعلية الدمجية للدولة، كما يضعف القوى الاجتماعية التي تتوافق مصلحتها مع تشكل داخل وطني مستقل.
والتفاعل نفسه يضع سورية في موقع صراع بين قوى إقليمية ودولية، يشابه ما وقع بين الاستقلال والحكم البعثي. الحكم الأسدي شكّل قطيعة مع نموذج «الصراع على سورية» الذي كتب عنه باتريك سيل كتاباً مهماً، لكن باستحداث نموذج أكثر كارثية: إغلاق تام للملعب الداخلي بالاعتقالات والمجازر، والتعامل مع السوريين كتابعين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وهذا مقابل اللعب في البلدان المجاورة و«الصراع على الشرق الأوسط» مثلما بيّن سيل نفسه في كتاب مهم آخر له عن حكم حافظ الأسد. دارة الدورة في عهد الابن، وطلب النظام نفسه حماة خارجيين ضد محكوميه، وصارت سورية ملعباً لأجانب من دول ومنظمات ما دون الدولة، هذا بعد أن كان مؤيدو النظام يثنون عليه بأنه حوّل سورية من ملعب إلى لاعب.
سورية في حاجة إلى كسر هذا التعاقب بين وطنية هشة ذات تعددية متقلبة غير مستقرة، وبين وطنية مصمتة تدور حول الحاكم الفرد، تؤول في مواجهة محكوميها إلى محمية لقوى أجنبية. وبينما يبدو أن سورية اليوم أقرب إلى النموذج ما بعد الاستقلالي من حيث قوة حضور الأهلي والخارجي في حياتها السياسية اليوم، فإن الإعلان الدستوري يدفع نحو نموذج أسدي بالأحرى. هل تستقيم هذه الوصفة؟ هذا صعب، ويستحسن التعامل مع مؤشرات اليوم المُبعِدة عن المركز على أنها مُحَكِّمة.
ما يمكن أن يكون أساساً أمتن لوطنية سورية جديدة هو تعطيل التخرّجات الداخلية بكسب الجماعات السورية كلها إلى جانب مشروع غير طائفي للدولة، ليس هو ما يبشّر به «الإعلان الدستوري». تحييد القوى الخارجية والحدّ من تدخلاتها مرغوب في كل حال ولكل أنواع الأسباب، الأمنية والاقتصادية والسياسية. مؤشرات 100 يوم لا تستجيب كفاية للتطلع الأول، ولا للثاني. السياسة الأسوأ بطبيعة الحال هي التي تجمع بين الاستئثار الفئوي بالدولة وتنفير القوى الإقليمية والدولية.
تناقضات
حجم التغيّر الذي حدث قبل 100 يوم كبير، إنه يطوي صفحة 54 عاماً أسدية ونحو 62 عاماً بعثية. من حيث حجم الحدث وتاريخيته يمكن التفكير فيه كاستقلال ثان، يطرح من جديد مهمة البناء الوطني: احتكار السلاح من قبل الدولة، مدّ سلطة الدولة إلى كامل التراب الوطني، توحيد القوانين، عقلنة وتوحيد نظم الإدارة، نظام تعليم وطني جامع، بنية تحتية تربط الجغرافية الوطنية وتكثّف التفاعلات بين أقاليم البلد، إلخ. الاستقلال الثاني مثلما نشأ كمفهوم يحيل إلى الديمقراطية، أو التحرر من السلطة الطغيانية للدولة بعد الاستقلال الأول الذي هو التحرر من الاستعمار. فهل إننا بالكلام على استقلال ثان نتكلم على ديمقراطية في سورية؟ إذا تكلمنا بلغة لم تعد مألوفة يمكن أن نقول إن المهمة الموضوعية المطروحة على سورية والسوريين هي الديمقراطية، حكم الشعب السوري المكوّن من مواطنين مستقلين، لكن «العامل الذاتي»، القوى الفعلية التي أسقطت الحكم الطغياني ليست ديمقراطية، بل وكانت تكفر الديمقراطية قبل سنوات قليلة.
هذا تناقض كبير أول بين المهمة الموضوعية والقوى الذاتية. وما يشبه هذه القوى الأخيرة من حلول يتراوح بين نظام تسلطي سنّي، وبين حكم متطرف ديني (هذان شيئان مختلفان، لا يبدو أن أحداً يريد تجنّب الخلط بينهما)، وقد يعمل على تمثيل الجماعات السوري الأخرى وفق نموذج «سياسة الأعيان» التي سبق أن تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري بخصوص السلطنة العثمانية في زمن ما بعد التنظيمات، وكان ساري المفعول في سورية حتى الوحدة مع مصر عام 1958. بالمناسبة، كان ألبرت حوراني ينسب إلى ما سماه «العالَم السني» خاصية جامعة تتمثل في «الثقة بالنفس والحس بالمسؤولية»، خلافاً للجماعات الأخرى في المشرق التي كانت «هامشية ومعزولة عن السلطة والقرار التاريخي». قال هذا عام 1947، أي بعد قليل من استقلال سورية الأول. اليوم، بُعيد استقلالنا الثاني وبعد نحو 70 عاماً من كلام حوراني، لا يبدو حال «العالم السنّي» كذلك، هو أقرب في الواقع إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس معاً.
تحيل معالجة هذا التناقض الأول إلى معضلات بناء الدولة السورية.
وفي المقام الثاني، هناك تناقضات تحيل إلى الذاكرات والرضوض والآلام السورية، نراها تفجرت بعنف وضغينة بعد كارثة الساحل. هناك ذاكرة ورضوض قطاعات من جمهور سنّي محتقن وشديد الانفعال ويشعر بأن آلامه لا تُحترم؛ ثم ذاكرة وألم جمهور علوي نشّطت المذابح الأخيرة مخاوفه الوجودية، وهو وريث تهميش مديد سابق للحكم الأسدي، جغرافي واجتماعي وسياسي. وهناك ذاكرة وألم جمهور كردي، تعرّض لإبادة ثقافية منذ نشوء الكيان السوري الحديث، ويشعر بالغربة في «الجمهورية العربية السورية» التي ثبّت الإعلان الدستوري تسميتها هذه لخمس سنوات (رغم تبنّي علم الاستقلال وتخصيص مادة لوصفه في الإعلان نفسه، العلم الذي كان اسم سورية وقت اعتماده أول مرة: الجمهورية السورية). وهناك بعد ذلك مخاوف وجودية للجماعات الأهلية السورية كلها، يبرز من بينها اليوم الدروز، لكن ظاهر كما قلنا من قبل أن العمليات السياسية تحيل إلى الجماعات الوراثية، والمخاوف والآلام والذاكرات المحتقنة تسهم في تصليب كياناتها. هذا بينما لا تسمح الانفعالات الحادة اليوم بتناول شامل وتأسيسي لصراع الذاكرات هذا. من يركزون على واحدة منهما ينسون الأخرى، وبعض من ينكرون مظلومية طرف أهلي (والمظلومية مزيج من مظالم وتمييز حقيقيين ومن أفعال سردية تضفي عليها النسقية، وتسهم في تشكّل هوية الطرف ذاته) يمضون إلى إثبات مظلومية أطراف أخرى. هذا الحاجة إلى بطل شرير في القصة السورية لا تصلح كأرضية لسياسة وطنية ولا كمعرفة تاريخية ولا كبيان حقوقي عادل. وبخاصة أنها تميل إلى تعريف البطل الشرير بالأهلي وليس بالسياسي، بالطائفة أو الإثنية وليس بالموقع والدور السياسي الفعلي.
ويفاقم من ذلك، ومن احتداد الانفعالات، أن من في الحكم، أي من في الموقع العام، اليوم، ليسوا ورثة مجادلاً فيهم لإحدى الذاكرات فقط، وإنما هم كذلك المتسببون بتنشيط ذاكرات اضطهاد سابقة.
تحيل معالجة هذه التناقضات الثانية إلى معضلات بناء المجتمع السوري كمجتمع موحد قابل للحكم.
وهذه كلها مسائل تأسيسية، نراها تُعالج اليوم بوعي غير تأسيسي، شكلي وإجرائي، مفتقر إلى معرفة كافية بالمجتمع السوري وتاريخه، كما إلى الحس التاريخي.
يضاف إلى ذلك تناقض إجرائي لفت إليه ياسين السويحة بعد ظهور الإعلان الدستوري بين طول الفترة الانتقالية، خمس سنوات، وبين «السلق» المتعجل للحوار الوطني والإعلان الدستوري. قد تلزم مرحلة انتقالية طويلة لمعالجة المشكلات والتوترات الكبيرة المذكورة وغيرها إن كانت الأجواء العامة في البلد إيجابية تحفّز أعداداً متزايدة من السوريين على المشاركة في التفكير والنقاش والفعل، لكن التعجّل والشكلانية تضعف الثقة بالإدارة الجديدة والثقة العامة بين السوريين، وتنشر بالعكس من ذلك أجواء من التشاؤم والانكفاء، على نحو يجعل من خمس سنوات فترة طويلة جداً، ليس مضموناً ألا تشهد كوارث وآلاماً رهيبة جديدة. بعد مجازر الساحل ارتفع منسوب التشاؤم بحدة في البلد، انخفض قليلاً بعد الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية، قبل أن يعاود الارتفاع بعد الإعلان الدستوري.
وللتقدم نحو معالجة هذه التناقضات لا بد من الإجابة على سؤال: ما هي الأمّة في سورية؟ إلام تحيل ما سماها أحمد الشرع وهو يوقع الإعلان الدستوري «الأمة السورية»؟ أإلى السوريين على اختلاف منابتهم الأهلية؟ أم إلى السنّيين السوريين دون غيرهم؟ أم إلى المسلمين السنيين في العالم؟ وهل الدولة دولة السوريين؟ أم دولة السنّيين السوريين؟ أم هي دولة للمسلمين السنيّين في سورية؟ ذلك أن احتكار الدولة للسلاح يستقيم فقط على أرضية كون الدولة دولة وطنية سيدة، تقوم باسم «الأمة السورية». وهو ما يتعارض كل التعارض مع امتلاك أجانب للسلاح، واستخدامه ضد سوريين مثلما جرى في مذابح الساحل. يُجرِّم مفهوم الدولة كمقر للسيادة امتلاك أي قطاعات من السوريين خارج الدولة للسلاح، لكنه يجرِّم أكثر امتلاك غير سوريين للسلاح في سورية. هذا عدوان أجنبي، ينزع وطنية الدولة التي لا تقاومه. ولا يحل هذا التعارض بغير تجريد غير السوريين من السلاح، وطردهم إلى بلدانهم أو إلزامهم، إن كانوا لا يستطيعون العودة، بالإقامة المعلومة في مناطق بعينها كلاجئين مسالمين.
وقد يمكن إجمال كل هذه التناقضات تحت التناقض بين الثورة السورية والدولة السنية، أو بين الرهان الوطني الجامع للثورة واللون الواحد للفريق المسيطر اليوم. لهذا التناقض تاريخ بالغ القسوة هو الزمن الفاصل بين بدء الثورة في مثل هذا اليوم من عام 2011 وبين يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، الذي بدأ فيه هجوم هيئة تحرير الشام ومن معها، الذي تمخض عن إسقاط النظام خلال 12 يوماً. ثلاثة عشر عاماً وثمانية أشهر وثماني أيام، هي زمن فظيع من القمع والتعذيب والإبادة، والخسارات العظيمة، والتهجير، واللجوء إلى بلدان قريبة وبعيدة، دفعت ثمنه بصورة خاصة البيئات السنّية السورية. هل حكم اليوم وريث 13 عاماً وفوق ثمانية أشهر، أم وريث 12 يوماً؟ إن كانت الأولى فينبغي أن يكون الحكم تعددياً، جامعاً، واستيعابياً، وإن يكن لسنّيين فيه وزن أكبر. وإن كانت الثانية، يقرر فيها من يحرر على ما قيل في شعارٍ يذكّر بشعارات أسدية مسجوعة مثله، فإننا نحصل على حكم واحدي لبلد متعدد، متناقض مثلما كان الحكم الأسدي، وقد لا يحل تناقضه بغير التوسع في العنف. وفي هذا ما يقود إلى قلب مفهوم الدولة على نفسه، ليطابق الدلالة العربية القديمة لكلمة دولة: نوبة أو دور في الحكم، يقصر أو يطول، لكنه ينتهي بعد سنوات أو عقود عاصفة. ثم إنه لما كان السنّيون أكثرية السوريين ديمغرافياً، ولما كان يتعذر أن يحظى بالنفاذ إلى الحكم غير نسبة محدودة منهم، فإنه يُرجّح لانقساماتهم الجهوية أن تلعب دوراً في فرز من هم أقل ومن هم أكثر تساوياً بينهم في فرص النفاذ. وهكذا نخسر سورية موحدة، ولا نحصل على غير جماعة سنية منقسمة.
هل تنجو سورية؟
ركز هذا التناول على مسؤولية من هم في السلطة لأنهم الفريق الأقوى، والشاغل للموقع العام. في الواقع عرضت قطاعات من المهتمين بالشأن العام، بعد مجازر الساحل بخاصة، استعداداً للانزلاق نحو الهياج والتحريض، وحتى الخطاب الطائفي المُصقِع. وهو ما يساهم في مفاقمته تهتك وإباحية مواقع التواصل الاجتماعي، الجديرة بالفعل بأن تسمى مواقع قطيعة اجتماعية. منسوب قلة الاحترام العام، المرتفع سورياً أصلاً، رفدته مواهب قلة الاحترام التي برع فيها منافحو الفرق الكثيرة.
هل تنجو سورية؟ ليس مضموناً بحال. يجزع كثير من السوريين من فشل الحكم الجديد في معالجة هذه الملفات، حتى وهم يعارضونه، لأنه يُحتمل لذلك أن يعني انهيار البلد. لكن لا يبدو أن الحكم الجديد ينصح نفسه ويشق له ولسورية مسالك غير استئثارية. وبعد أن رأينا بعض «البروفات» الكارثية خلال الـ100 يوم المنقضية، لا بد من التساؤل عن سبل ضمان نجاة البلد في حال جرى الانزلاق نحو مهاوي العنف والانقسام. سورية في حاجة إلى شبكة أمان وطنية في مواجهة هذه المخاطر، والعمل من أجل ذلك من أوجب ما يلزم اليوم.
موقع الجمهورية
لتحميل كتب باتريك سيل
كتاب الأسد ؛ الصراع على الشرق الأوسط
وكتاب: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، 1945 1958 باتريك سيل
أو من الرابط
لتحميل كتاب الشرق الأوسط الحديث (جزئين) لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون
الشرق الأوسط الحديث الجزء الأول
الشرق الأوسط الحديث الجزء الثاني
——————————————
الباحث الفرنسي سيدريك لابروس لـ”القدس العربي”: الشرع يقتدي ببن سلمان ولا يتحمل مسؤولية أحداث الساحل
17 – مارس – 2025
حسن سلمان
أكد سيدريك لابروس، الباحث الفرنسي المتخصص بالجماعات المسلحة في سوريا، أنه لا يمكن تحميل الحكومة السورية الحالية المسؤولية عن المجازر التي وقعت في المناطق الساحلية، معتبرا أن الجماعات التي ارتكبتها ترفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة لإعادة الأمن والاستقرار للبلاد.
وقال لابروس، في حوار خاص مع “القدس العربي”: “يرغب البعض بتحميل السلطات الجديدة في دمشق، المنبثقة من هيئة تحرير الشام، المسؤولية عن الفظائع التي حدثت في الساحل السوري، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الحكومة الجديدة لا تسيطر على العديد من الجماعات الجهادية، وبعض حلفائها السابقين، وحتى بعض قادة الميليشيات الذين وعدوا بالانضمام إلى الجيش الجديد، لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن”.
وأضاف: “ومن الأمثلة على ذلك أبو عمشة (محمد الجاسم)، وهو قائد ميليشيا سابق خدم تركيا لعدة سنوات، ارتكبت قواته فظائع في الساحل. وهذا الرجل يرفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة. حتى إن انتهاكاته مستمرة في بعض الأرياف التي تغيب عنها قوات الأمن السورية”.
وتابع بالقول: “يمكن تلخيص ما حدث في الساحل بأنه: فظائع مروعة ارتكبتها جماعات ترفض الانصياع للحكومة الجديدة أو قادة مستقلون للغاية (عنها). والدليل على ذلك أنه منذ وصول القوات الموالية حقًا لأحمد الشرع (الأمن العام)، هدأ الوضع”.
وفيما يتعلق بمسودة “الإعلان الدستوري” وموقف الأكراد منها، قال لابروس: “يستند هذا الإعلان الدستوري بشكل كبير إلى دستور عام 1950 (دستور الاستقلال). وقد كُتب لاستيعاب الحلفاء الإسلاميين للرئيس أحمد الشرع، مع تعزيز دور الشريعة الإسلامية داخل الدولة. وفي الوقت نفسه، يُعزز حقوق المرأة وحرية التعبير”.
وأضاف: “يعود رفض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لهذا النص بشكل أساسي إلى عاملين: عدم وجود اعتراف صريح بالأكراد في النص، وعدم كون شكل الدولة علمانيًا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأكراد لم يرفضوا خارطة الطريق التي وُقعت قبل أيام قليلة (بين الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية)، وأعلنوا عن نيتهم المشاركة في صياغة الدستور القادم”.
وحول الاتفاق الأخير بين الشرع وعبدي، قال لابروس: “للتوضيح: هو ليس اتفاقًا في الحقيقة، بل أقرب إلى خارطة طريق. وقد ساهمت الولايات المتحدة بشكل كبير في التوصل إليها. وهي نتاج أشهر من مفاوضات حظيت بدعم الولايات المتحدة، كما ذكرت”.
وأضاف: “إدارة ترامب ترغب بالخروج من الأزمة السورية ولديهم شعور بالرضى أنهم حققوا حدا أدنى من الاستقرار. ولذلك ضغطوا على حليفتهم، قوات سوريا الديمقراطية، للتحرك نحو دمشق. أما بالنسبة لدمشق، فالأمر يتعلق بمسألة أخرى: رفع العقوبات الدولية. ولتحقيق ذلك، يجب عليهم تقديم ضمانات بالانفتاح على عملية الانتقال السياسي”.
وقبل أيام، كشفت مصادر عن توقيع اتفاق بين دمشق وبعض وجهات السويداء، يقضي بإلحاق الأجهزة الأمنية في السويداء بوزارة الداخلية السورية، وأن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء المحافظة الواقعة جنوب البلاد. إلا أن الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز زعماء طائفة الموحدين الدروز، نفى هذا الأمر، ووجه انتقادات لاذعة لحكومة دمشق، التي وصفها بـ”المتطرفة والمطلوبة للعدالة الدولية”.
وعلق لابروس على ذلك بقوله: “الشيخ حكمت الهجري ليس سوى واحد من ثلاثة زعماء دينيين للطائفة الدرزية في سوريا. لكن لديه نفوذ قوي وصوتٌ مسموع. ويُعد رفضه للاتفاقية التي تم توقيعها دليلاً على رغبته في الحصول على المزيد من المكاسب من دمشق”.
واستدرك بالقول: “لكن الدروز لا يتفاوضون على قلب رجل واحد لأنهم ليسوا متحدين. فبينما يُصعّد الشيخ حكمت الهجري من حدة التوتر، وقّع فصيل درزي (رجال الكرامة) اتفاقية مع دمشق لدمج رجاله في وزارة الداخلية، وهذا يؤكد ما قلته سابقا”.
وحول الخطوات المطلوبة من الحكومة الجديدة لاستعادة ثقة السوريين، وتجنب تقسيم البلاد على أسس طائفية، قال لابروس “لبناء ثقة حقيقية وطويلة الأمد، سيتعين على أحمد الشرع مواصلة ما بدأه منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024، أي الانفتاح السياسي. وقد فعل ذلك بالفعل”.
وأضاف: “هذا لا يجعله ليبراليًا، بل ظل محافظًا دينيًا متشددًا. لكنه في هذا يستلهم سياسة محمد بن سلمان في السعودية. لقد عيّن بالفعل أشخاصًا من حوله في اللجان الدستورية والقضائية، ممن كانوا -تاريخيًا- معادين له. وسيتعين عليه مواصلة ذلك. لقد أعلن عن تعديل وزاري قريبًا، وسنرى تشكيلته”.
وتابع لابروس: “علينا أن نأمل في انفتاح. سنتمكن حينها من مراقبة تشكيل أول مجلس شعب منذ سقوط النظام. على أي حال، هو (الشرع) ملزم بالتصرف بهذه الطريقة إذا أراد رفع العقوبات. لكن هذا يضعه أمام تحدٍّ كبير: خيبة أمل جنوده، الذين لا يرون إقامة دولة إسلامية كما كانوا يأملون. وربما تأتي أقوى معارضة من معسكره السابق ومن حلفائه السابقين”.
القدس العربي
————————–
دِلِّة الفرقة الرابعة وفنجان الشرع/ رغيد عقلة
17/03/2025
كان مخططاً لهذه المقالة اتجاهاً مختلفاً، يحمل الكثير من النقد، ليس فقط لسلطة الأمر الواقع القائمة في دمشق اليوم، ولكن لجمهورها أيضاً، ففي أداء الطرفين بمايفترض أنه إطلاق لعملية تغيير سياسي شامل الكثير مما يستحق التوقف عنده، ليأتِ التحرك الغادر لمن وصف نفسه ب (العميد الركن المجاز) “غياث دلة”، الضابط السابق في الفرقة الرابعة سيئة الصيت، ليعكس الاتجاه تماماً، ليس لهذه المقالة فقط، ولكن لمزاج شعبي كان آخذاً في الصعود، اختار الطريق الصعب، وركوب مخاطرة (انتقاد مالا يمكن انتقاده) في أداء إدارة الرئيس الشرع، مجازفاً بإغضاب جمهور سوري واسع آثر عن سبق إصرار وتصميم عدم توجيه أي نقد كان لأداء القائمين على الشأن السياسي السوري اليوم، بل واستحرم على غيره (خطيئة) حتى التفكير بالأمر، تقف وراء ذلك جملة أسباب مختلفة ومتعددة جديرة بالدراسة والبحث، إلَّا أن تحرك “غياث دلِّة” وزُمَرَهُ البائسة أتى ليجهز على أدنى فرصة لأي قلم يحلم بالخروج عن خطاب (فسابكة وتكاتكة) العهد الجديد، الذين أخشى (عليه لا عليهم) أنهم باتوا يشكلون واجهته الأكثر حضوراً، وربما تأثيراً، ويسرحون ويمرحون اليوم بين قصر الشعب وفندقي الفورسيزونز والشيراتون … في دمشق عبد الملك بن مروان ..!!
أن يكون لأي سورية أو سوري اليوم رأي وإن كان سلبياً في كينونة وسيرورة عملية التغيير السياسي برمتها فذاك لايعني أنهم فلول لنظام الوريث الساقط، أو يأسفون على أيام عصابته البائدة، واللافت أن اتهامات كهذه لم تصدر عن مسؤولين في إدارة الرئيس الشرع بحق أحد، فقد حمل عناء ذلك فريق (المؤثرين) المحيطين به، رغم تأكيداته المتكررة على ضمان حقوق كل السوريين في حرية الرأي والتعبير، بما يؤكد نجاعة فكرة الاعتماد على (المؤثرين) وجمهورهم من اللحظة الأولى، وإن كان دورهم اليوم مرشح للتراجع أمام من هم الآن أكثر (تأثيراً) في إحباط أي رأي سلبي في العملية السياسية التي يفترض إطلاقها لسوريا الجديدة، لا أقصد هنا سوى “غياث دلة” ومجاميعه القاتلة، من الفلول الحقيقية لنظام المخلوع الهارب.
لمن لايعرف “غياث دلة” الذي يقف مع آخرين وراء تحركات الغدر التي قامرت بدماء وأرواح أهلنا في الساحل ومعهم شباب الأمن العام، وأعلن نفسه مسؤولاً فيما سمَّاه (المجلس العسكري لتحرير سورية) فإن للمذكور سيرة ذاتية تتناسب تماماً مع دور الفتنة القاتل الذي يقوم به اليوم، فالضابط الذي كانت كل مؤهلاته أنه ابن سائق الأسد الأب، تدرج في مرتبات آلة قتل السوريين المسماة بالفرقة الرابعة إلى أن أصبح رئيساً لأركانها، وشارك في كل عمليات القمع والتنكيل الممنهج التي تعرض لها المدنيين الأبرياء في درعا والغوطة وداريا، بل وأسس لميليشيات رديفة تعمل على قتل السوريين سميت ب (قوات الغيث)، ليتحول بعدها إلى مهمة أرفع وأسمى، ليصبح (تحصلداراً) في ماكينة ماهر الأسد التي تدير الأمرين الوحيدين اللذَين سمح الوريث القاصر لأخيه الأصغر بالتدخل فيهما:
قمع أي تحرك مناويء للنظام،
وإدارة امبراطورية فساد مالي تقوم على تصنيع وتجارة الكيبتاغون والمخدرات والجباية من على حواجز الفرقة الرابعة وترفيق القوافل، ونقطة على السطر،
وأي حديث عن أي دور سياسي لماهر الأسد طيلة فترة حكم أخيه بعيد عن الحقيقة، لقناعة الوريث بأن أخاه (وأخته) متقدمان على الجميع في إدراك مدى بلاهته وسفاهته، وأي حديث عن تنسيق لإيران أو حزب الله مع ماهر دون المرور ببشار كان خيالاً تدعمه سرديات بشار نفسه.
على رأس هرم الفساد المالي لماهر الأسد كان يتربع “غياث دلة” ليدير هو و “حسين مريش” و “غسان بلال” (الذي طالب الروس مراراً باعتقاله) إمبراطورية الكيبتاغون وخوَّات الحواجز وترفيق القوافل، في الوقت الذي كان نظامهم يزج فيه بأرواح الشباب العلوي الفقير في معركة ضد أبناء شعبهم، كان الكل فيها خاسراً من اللحظة الأولى، واليوم وبعد أن هرب الوريث وأخاه وتركوا الجميع لأقدارهم، يعود “دلة” لمتابعة التجارة بأرواح العلويين ومصائرهم، معلناً عن مجلس عسكري تأخر أربعة عشر عاماً، كم تمناه السوريون جميعاً ليقف مع شعبه ضد نظام حكم العائلة الذي قامر بأرواح كل السوريين، وأولهم العلويين، الأمر الذي تنطحت له ثلة من ضباط الجيش السوري الشرفاء الذين رفضوا استخدام سلاحهم ضد شعبهم، هؤلاء الضباط اليوم مهمشون تماماً من أي عملية سياسية أو حتى المشاركة بجهد أمني تحتاجه سورية بشدة، لفرض السلم الأهلي وتحصين مرحلة مابعد الأسد الساقط.
ماجرى في اليومين السابقين يحمل دلالات مهمة وخطيرة، وينذر بقادم أخطر وأسوأ، وإن كانت بعض المقولات محقة في أن فتنة “دلة” و “فتيحة” هي أمر مُبَيَّت، ولاعلاقة له بأية انتقادات محقة لأداء إدارة الرئيس الشرع، فإن هذا لاينفي مجموعة حقائق مهمة لايمكن تجاوزها، وإلا كنا كمن يحكم على مسلسل طويل من خلال الحلقتين الأخيرة وماقبلها.
كان واضحاً جداً ومنذ اللحظة الأولى لإعلان سلطة الرئيس الشرع وفريقه أن سورية كلها بحاجة ماسة لعملية عدالة انتقالية ممنهجة ومنظمة، من خلال قنوات رسمية، تسير وفق القانون الجنائي السوري المعتمد، دون الحاجة لإعادة اختراع العجلة، وأن سردية (اذهبوا فأنتم الطلقاء) رغم أنها وفرت دماء سورية غزيرة، إلا أنها كانت مجرد وسيلة من وسائل القبض على السلطة بأدنى ثمن ممكن، كانت مقبولة في البداية، لو أتبعت بمسار قانوني واضح منذ الأيام الأولى للعهد الجديد، الأمر الذي كان أكثر أهميةً ومركزيةً من الدخول في دوامة المناهج الدراسية، أو قوننة الاحتفالات الدينية في المساجد وإخضاعها لسلطة الإدارة الجديدة ..!!
الأمر المهم الآخر هو أن التسريحات الجماعية والفصل من العمل لأعداد غفيرة من الموظفين المدنيين والعسكريين خلق وضعاً اقتصادياً واجتماعياً متفجراً كان واضحاً أنه سيكون له منعكساته على السلم الأهلي، خصوصاً عند اقترانه بعدم قدرة الإدارة الجديدة على دفع رواتب من بقي من الموظفين على رأس عمله أو المتقاعدين، وهو أمر قد لاتتحمل مسؤوليته كاملةً، لأنها بالفعل تسلمت بلداً قاعاً صفصفاً، ولكنها تتحمل واجب معالجته، على الأقل بحكم كونها في موقع المسؤولية.
تستطيع الإدارة الحالية أن تُحَمِّل العقوبات الدولية على سورية كماً كبيراً من مسؤولية عدم قدرتها على معالجة الواقع الإقتصادي الحالي، ولكن بالمقابل فإن المجتمع الدولي كان واضحاً وشفافاً منذ البداية وأعلن في أكثر من مناسبة أن رفع أية عقوبات سيكون تدريجياً ومقترناً بخطوات ملموسة تقوم بها الإدارة الجديدة على طريق الانفتاح الحقيقي والمشاركة الكاملة لكل السوريين في عملية الانتقال السياسي، الأمر الذي لايعتقد العديد من المراقبين الدوليين أنه قد حصل فعلاً، يشاركهم الرأي العديد من السوريين.
الموضوع الأكثر أهميةً وحساسيةً هو قضية المقاتلين غير السوريين الذين فعلت الإدارة خيراً في أنها سحبتهم في وقت سابق من مناطق الساحل ذات الكثافة العلوية، مما خفف كثيراً من حالة الاحتقان الشعبي نتيجة مصادمات بينهم وبين الأهالي، ولكنها على مايبدو كانت مضطرة للعودة للاستعانة بهم بعد التحرك الغادر لمجموعات “دلِّة” و “فتيحة” ومن استطاعوا تجييشهم معهم في محاولة انقلاب حقيقي على الوضع القائم، استدعت من الجميع ثمناً فادحاً.
حتى وان اختلفت عناوين العقبات الرئيسية التي يواجهها الوضع السوري اليوم، بين العدالة الانتقالية والوضع الإقتصادي الصعب والتحدي الأمني في مواجهة تحركات غادرة لن يكون تحرك فلول الفرقة الرابعة آخرها، إلا أن الثابت هو أنه لا حلول سحرية لها، إلا من خلال أمر واحد ومحدد، وهو قبول مبدأ المشاركة السياسية، فدونه لن تكون هناك عدالة انتقالية يكون العلويون السوريون جزءاً منها وفي صلبها، ومعها لاعليها، ولن يكون هناك رفع للعقوبات الاقتصادية عن سورية، ولن يكون هناك قبول لاستيعاب الضباط المنشقين عن الجيش السوري النظامي في قوات الإدارة الجديدة ليكونوا في صلب عملية الدفاع عن مرحلة مابعد الأسد من أي تحرك غادر لفلوله وبقاياه، ولكن الواضح (حتى الآن) أن العقدة المستحكمة للإدارة الجديدة تكمن في أنها منفتحة على أي شيء سوى هذه المشاركة السياسية.
اعتراف الرئيس الشرع بالتجاوزات التي حصلت في عملية الرد على التحرك الغادر لفلول الأسد أمر حميد، وخطوة في الاتجاه الصحيح، كذلك تشكيل لجنة للتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها، إلا أن كل ذلك لن يكون ذو قيمة على الإطلاق في معزل عن المشاركة السياسية، فهي وحدها مفتاح الحلول مع أطياف واسعة من السوريين والمجتمع الدولي معاً.
يستطيع الرئيس الشرع أن يعتقد أن أحداث الساحل الأخيرة قد خدمته، خصوصاً وأن النفير العام (الذي لم يطلقه هو أو فريقه بالمناسبة)، قد وجه رسالة صريحة للجميع بأن الشارع (ببعض نخبوييه) معه، وباستطاعته دوماً تجييشه بالتلميح لا بالتصريح، ليس ضد الفلول فقط، بل ضد أي مناويء له أو لفكره، والأهم من ذلك كله، للشكل الذي يريده لسورية، وبذلك تكون دِلِّة الغيث قد صبت في فنجانه دون غيره.
كنت أتمنى على الرئيس الشرع أن يقلب الفنجان بوجه غياث دلِّة، فدِلال الأسد عودت السوريين سَمَّها الزعاف، وأن يعود للوجدان الجمعي السوري الذي لازال فيه من راهن عليه كضامن للعبور لمرحلة مابعد الأسد، مقابل جمهور سوري آخر، عريض وإن كان لايزال صامت، يرى أن الشرع استفاد من حالة (النفير العام) التي أمّنت له هامشاً شعبياً مريحاً لإطلاق إعلان دستوري كان مخيباً لآمالهم، لأسباب متعددة، تستحق وقفة قادمة.
رغيد عقلة
كاتب سياسي سوري أميركي
————————————
====================
====================
واقع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وحكومة الجمهورية العربية السورية مقالات وتحليلات تتحدث يوميا تحديث 19 أذار 2025
تحديث 19 أذار 2025
——————————-
لمتابعة تفاصيل هذا الملف اتبع الرابط التالي
دوافع وكواليس الاتفاق بين “قسد” وأحمد الشرع
—————————————
المخاض السوري… اتفاق بمثابة خطاب نيّات/ علي العبدالله
19 مارس 2025
غطى صدور الإعلان الدستوري السوري المؤقت يوم 13 مارس/ آذار الجاري على حدثٍ آخر ليس أقل أهمية منه، توقيع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يوم 10 مارس/ آذار الجاري، على اتفاق سياسي من ثمانية بنود، يقضي بدمج مؤسّسات الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها، بما في ذلك قواتها العسكرية، في الدولة قيد التأسيس، ما جعل العودة إليه بالتقويم والنقد ضرورة وطنية.
جرى التوقيع على الاتفاق في ظرفٍ محليٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ دقيق وخطير، في ضوء بروز خلافاتٍ عميقةٍ بين السلطة الجديدة وقوى سياسية واجتماعية سورية من الكرد والدروز والعلويين تتحفظ على القرارات التي أخذتها، إن في مؤتمر النصر أو مؤتمر الحوار الوطني أو تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري مؤقت، في ضوء ما انطوت عليه هذه القرارات من ميلٍ إلى مركزة السلطة بيد شخص واحد ومكون سوري واحد، ودلالة ذلك على طبيعة النظام السياسي الذي تنوي السلطة الجديدة تمريره، من جهة، وتصعيد الكيان الصهيوني ليس في احتلال مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ومواصلة قصفه مواقع عسكرية سورية، ومنعه انتشار قوات سورية في الجنوب السوري، في سعي إلى تحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، بحيث يشجّع أطرافاً محلية على التمرّد، ويجعل سورية منقوصة السيادة فقط، بل وبإعلاناته المتكرّرة عن ضرورة الابقاء على سورية مفكّكة وضعيفة، عبر ترويج تحويلها دولة اتحادية؛ وتحريض الدول الغربية على عدم منح الشرعية للسلطة الجديدة وتبنيه سياسة حماية “الأقليات” في سورية، الدروز بشكل خاص، من جهة ثانية، ومواصلة القوات التركية قصف مواقع لـ”قسد”، من جهة ثالثة، وتنامي التوتر بين العلويين عامة والمسرّحين من الخدمة في الجيش والمخابرات والوظائف العمومية منهم خاصة، أجّجه حصول تجاوزات وقتل مدنيين خلال عمليات مطاردة مطلوبين ممن لم يقوموا بتسوية أوضاعهم من العسكريين وعناصر مخابرات النظام البائد والتفتيش عنهم في أحياء السوريين العلويين وقراهم في محافظات اللاذقية وحمص وحماة، من جهة رابعة. حوّله (التوتر) تحريض إسرائيلي إيراني إلى مواجهات دامية ووقوع مجازر طائفية ضد المدنيين في هذه المحافظات، اللاذقية بشكل خاص، أغلبهم من العلويين، بعد هجوم مجموعات مما يسمى “المجلس العسكري لتحرير سورية” على مواقع عسكرية للسلطة الجديدة في محافظتي اللاذقية وطرطوس واستهدافه مدنيين من السُنّة. زادت في تعقيد الموقف بوادر تذمّر شعبي على خلفية ضعف الدخل وارتفاع نسبة الفقر وبلوغه حد الجوع وسوء الخدمات. هذا وقد لعبت الإدارة الأميركية دوراً مباشراً في عملية التوقيع على الاتفاق العتيد ملقية طوق نجاة للشرع بدفع مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاق الذي سبق الاتفاق على بنوده أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما قاد إلى تراجع سخونة الموقف العام في سورية بخفض أصوات الناقدين السلطةَ وإلى تخفيف حدّة ردود الفعل الدولية على المجازر الطائفية.
جاء الاتفاق العتيد في ثمانية بنود عامة مع إعلان عن تشكيل لجان مشتركة من الطرفين للاتفاق على صيغة محددة لكل بند وعلى آليات التنفيذ في مدة لا تتجاوز نهاية العام الحالي، ما ترك بذرة شك في احتمال نجاح الاتفاق وبلوغه مرحلة التنفيذ الكامل على خلفية التباينات الواسعة بين الطرفين حول طبيعة النظام السياسي المستهدف، مركزي ولامركزي، وصيغة دمج “قسد” في الجيش الوليد. يعزّز هذا الشك غياب الشفافية، خاصة من السلطة الجديدة التي تقدّم استجابات متعارضة على المشكلات والملفات المطروحة كما في الإعلان الدستوري المؤقت، الذي لم يلحظ مستدعيات الاتفاق مع قسد وأهمية نجاحه على المسار العام، وتدخلات دول كثيرة للتأثير على مخارج المخاض السوري، من جهة، وحرصها على إرضاء تركيا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “لا نعتقد أن تكون هناك أي تنازلات في سورية أبداً بشأن مساعي الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية”، والسعودية، التي لا تنظر بعين الرضا إلى التمدد التركي في سورية، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة لما سيؤدي إليه عدم إشراك المجلس الوطني الكردي، القريب من قيادة إقليم كردستان العراق، في المفاوضات، ومنح “قسد” صفة تمثيل كرد سورية ومنح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان فرصة التقدّم في التنافس على زعامة الشعب الكردي وتسجيل نقطة على رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي مسعود البارزاني، من تكريس للانقسام الكردي السوري سياسياً واجتماعياً ومن ردود أفعال سلبية، وما قد يطرحه هذا من عقباتٍ على طريق تنفيذ الاتفاق.
تعدّدت تفسيرات خلفية الاتفاق من الكتّاب والناشطين السوريين، عرباً وكرداً، حيث ذهب كتّاب وناشطون عرب إلى اعتباره تنازلاً من قيادة “قسد” وقبولها بشروط السلطة الجديدة وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بالتطوّرات الإقليمية والدولية التي ستنعكس سلباً على “قسد” في ضوء احتمال حصول اتفاق تركي أميركي، وصدور قرار أميركي بالانسحاب من شمال شرق سورية، رجّحت مصادر عسكرية حصوله مع بقاء قوات أميركية في قاعدة التنف، ما دفعها إلى القبول بالاتفاق، بالرغم من أنه لا يلبّي تطلعاتها السياسية. في حين ذهب كتّاب وناشطون كُرد إلى اعتباره تنازلاً من السلطة الجديدة، وقبولها بشروط “قسد” وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بمأزق السلطة الجديدة في دمشق بعد اهتزاز صورتها على خلفية المجازر الطائفية التي وقعت ضد العلويين في عدة محافظات سورية وحاجتها لترميم هذه الصورة ببعث رسائل للداخل والخارج تشير إلى استعدادها للقبول بحلول في الملفات العالقة ترضي كل الجهات السورية. تفسيرات ذاتية هدفها الاحتفاظ بالرضا عن الذات، ربط معلق عربي يُقدم خبيراً عسكرياً بين الاتفاق وقدرة حكومة دمشق العسكرية، وقال: “إن القوة العسكرية التي استطاعت كسر نفوذ الفلول كانت بمثابة رسالة إلى قسد بأنها غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية التي تمتلكها حكومة دمشق”. قول متعسّف لم يلحظ أن الفلول قلةٌ لا تدعمهم حاضنة شعبية علوية وازنة، وأن ما لدى “قسد” من مقاتلين مدرّبين على القتال المنسق ومن أسلحة متطوّرة يفوق ما لدى الفلول وحكومة دمشق كثيراً.
يبقى أن ثمّة مخاوف مشروعة من فشل الاتفاق وعدم الذهاب به إلى نهاياته المحدّدة في ضوء جملة عوامل، لعل أولها أن الصيغة العامة لأهم البنود، الأول والثاني والرابع، قابلة لأكثر من قراءة، ما سيسمح بطرح قراءات متباينة من الطرفين خلال اجتماع اللجان المشتركة، ويفتح الباب أمام الإخلال بالاتفاق أو الانسحاب منه بذريعة الخروج عن مضمونه. وقد ظهرت التباينات إلى العلن في إجابات مظلوم عبدي على أسئلة رئيس تحرير مجلة المجلة إبراهيم حميدي، إذ قال: “نحن متفقون على أن وحدة الأراضي السورية، وإنشاء جيش موحد وإطار مؤسّسي واحد، والعاصمة الواحدة والعلم الواحد هي قضايا سيادية أساسية، لكن الكثير من التفاصيل، بما في ذلك آليات التنفيذ والجداول الزمنية والمسائل اللوجستية لم تُحلّ بعد، ولا تزال هناك اختلافات في التفاصيل ووجهات النظر. شمال شرق سورية ذو الغالبية الكردية [الكرد ليسوا أغلبية في هذه المنطقة] له ظروف مختلفة وستكون هذه العناصر على جدول الأعمال عند مناقشة تفاصيل دمج المؤسسات العسكرية. يجب أن يكون تقاسم الموارد الطبيعية عادلاً وأن تحصل جميع المناطق في سورية على حصتها العادلة. خلال حقبة حزب “البعث”، كانت جميع السلطات مركزة في المركز، يجب إنهاء ذلك وإعطاء بعض السلطات للمناطق وإنشاء حكومات محلية”… مواقف خلافية تستبق تشكيل اللجان والتفاوض على تنفيذ الاتفاق تشير إلى احتمال السعي لتحسين أوراق قسد التفاوضية أو إلى خط رجعة للتهرّب من تنفيذ الاتفاق؟.
أما ثاني العوامل، فالفترة المحدّدة لتنفيذ الاتفاق، حتى نهاية العام الحالي، بصيغتها المجملة، طويلة نسبياً، ما سيثير احتمال حدوث تحولات في المواقف، المحلية والإقليمية والدولية، تسمح لأحد الطرفين بالتراجع عن الاتفاق عامة أو عن بند أو أكثر من بنوده الثمانية. ثالث العوامل غياب سلم أولويات لعملية التنفيذ واحتمال افتعال تباينات واختلافات لدى تنفيذ البنود الإجرائية 3 و4 و5 و6 والتذرّع بذلك لعرقلة تنفيذ البندين 1 و2 المتعلقين بالحّقوق التي سيجسّدها النظام السياسي في حال عدم التوافق عليها، ما سيقود إلى فشل الاتفاق.
قادت صيغة الاتفاق العامة إلى وصفه من صحيفة لوموند الفرنسية بـ”خطاب نيات” وإلى اعتباره من السفير التركي السابق في سورية عمر أونهون “إطاراً عاماً أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ الفوري”، وقول الباحث في مركز القرن الدولي الأميركي آرون لوند: “في حين قد يبدو الأمر الآن وكأنه حلٌّ مربح للجانبين، فإن الاختبار الحقيقي سيكون في تنفيذه”، ودفعت النظام التركي إلى عدم البقاء متحفّزاً، وهو يراقب عملية تنفيذ الاتفاق، ليرى إلى أي مدىً سيلبي تنفيذه مطالبه بحل قوات سوريا الديمقراطية، وسحب سلاحها وعدم السماح بقيام حكم ذاتي كردي في شمال شرق سورية، بل تحرّك للتأثير على صيغة تنفيذ بنود الاتفاق، عبر مواصلة الضغط العسكري على “قسد” عبر مواصلة القصف الجوي والبرّي لمواقعها واغتيال كوادرها بالمسّيرات، لدفعها إلى التخلي عن تصوّراتها لحقوق الكرد وللنظام السياسي السوري القائم على اللامركزية، والقبول بتفسير لبنود الاتفاق يلبي مطالبه، والضغط، في الوقت نفسه، على السلطة الجديدة عبر عرقلة اندماج فصائل الجيش الوطني السوري في جيش وزارة الدفاع الوليد، والإبقاء على ارتباطهم به عبر دفع رواتب العناصر الجيش وتسليح وتذخير فصائله، كي لا تنسى مطالبه وشروطه لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية قيد التأسيس.
يبقى الاتفاق خطوةً مبشّرة على طريق مسار سياسي دقيق وحساس، حيث سيتوقف مستقبله على قدرة طرفيه المحليين على الموازنة بين مصالحهما المتضاربة وإدارتهما الملفّات الخلافية بدلالة الوطنية الشاملة والعدل والمساواة وتعاطيهما مع التدخلات الخارجية وضغوطها بمرونة وتوازن.
العربي الجديد
————————————
اعتقالات في الشرق.. صراع الأجنحة داخل “قسد” يهدد الاتفاق مع دمشق
2025.03.19
تتصاعد التوترات في شرقي سوريا، على وقع حملة اعتقالات موسعة تشنها قوات سوريا الديمقراطية ضد المدنيين، في مشهد يعكس التحولات التي تشهدها المنطقة بعد توقيع الاتفاق بين “قسد” ودمشق.
ورغم أن هذا الاتفاق مثّل لحظة مفصلية في المشهد السوري وكان يفترض أن يؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار، إلا أنه قد يتحول إلى شرارة لمزيد من التوتر والصراعات، فلم تكن تداعياته كما توقع كثيرون، إذ تزايدت حملة القمع بحق السكان، وسط مؤشرات على انقسامات داخلية وتضارب في المصالح بين القوى الفاعلة على الأرض.
لم تقتصر حملة الاعتقالات على ناشطين سياسيين أو معارضين، بل شملت مواطنين عاديين وشبابا مدنيين، حتى إن مجرد رفع العلم السوري الجديد أو صورة الرئيس أحمد الشرع والتعبير عن الفرح بسقوط النظام وتوقيع الاتفاق بات سببا كافيا للاعتقال والملاحقة.
في ظل هذه التطورات، تُطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل المنطقة، وحقيقة موقف “قسد” من الاتفاق، وما إذا كانت هذه الاعتقالات تعبر عن توجه جديد أم أنها مجرد انعكاس لخلافات داخلية بين القوى المسيطرة على الأرض.
ماذا يجري شرقي سوريا؟
لم تهدأ الاعتقالات في المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” منذ سقوط نظام الأسد، لتزداد وتيرتها مع الأسابيع اللاحقة، حيث وثقت
الشبكة السورية لحقوق الإنسان 59 حالة اعتقال بينهم 3 أطفال وسيدتين على يد قوات “قسد” في شهر يناير/كانون الثاني الماضي ليرتفع العدد في شهر فبراير/ شباط إلى 68 حالة اعتقال بينهم 6 أطفال.
وأوضحت الشبكة أن هذه الاعتقالات جاءت على خلفية قيام المحتجزين بإزالة شعارات ورايات “قسد” من بعض المواقع العامة ورفع العلم السوري الجديد (علم الثورة) خلال الاحتفالات الشعبية التي أعقبت سقوط النظام.
في العاشر من الشهر الجاري كان الحدث المفاجئ، وهو توقيع اتفاق بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، تضمن ثمانية بنود رئيسية، كان أبرزها وقف إطلاق النار ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية ضمن الدولة وضمان حقوق الأكراد ورفض التقسيم.
عقب توقيع الاتفاق عمّت الاحتفالات مدن شرقي سوريا، فخرج الأهالي إلى الشوارع تعبيراً عن فرحتهم بهذه الخطوة التي وصفت بـ”التاريخية”، لتبدأ عقب ذلك حملة مداهمات واسعة من قبل قوات خاصة وأمنية تابعة لـ”قسد” و”الشبيبة الثورية”.
وبحسب مصادر محلية لموقع “تلفزيون سوريا” فإن أحياء ومدن دير الزور والحسكة والرقة شهدت حملة اعتقالات واسعة طالت أكثر من 300شخص خلال الأيام الماضية، مستهدفة كل من وضع العلم السوري أو صورة الرئيس أحمد الشرع أو نشر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبر عن فرحهم بذكرى الثورة السورية.
كما أصدرت “قسد” توجيهات لمتعاونيها (مخبرين) بضرورة الإبلاغ عن أي شخص يعبر عن دعمه للحكومة السورية أو انتقاده لـ”قسد”، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو في الأماكن العامة وأماكن العمل، حسب ما قال مصدر محلي من مدينة الحسكة لموقع “تلفزيون سوريا”.
وتزامنت حملة الاعتقالات مع مداهمة المنازل وتخريب محتوياتها وكسر الأبواب ومصادرة الهواتف المحمولة.
وأصدر ناشطو الجزيرة السورية من حقوقيين وسياسيين وإعلاميين بياناً أكدوا فيه أن قسد نفذت حملة اعتقالات واسعة طالت كل من يعارض توجهاتها السياسية والعسكرية واستهدفت أشخاصا من مختلف التوجهات.
واعتبر البيان أن هذه الاعتقالات تشكل انتهاكاً صارخاً لما نص عليه الاتفاق المبرم بين الشرع وعبدي حيث ينص في بنده السابع بوضوح على رفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية، ومنع أي محاولات لبث الفتنة بين مكونات الشعب السوري.
وطالب الناشطون الحكومة السورية في دمشق بـ”التدخل العاجل للإفراج عن جميع المعتقلين فورا، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لحمايتهم، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات”.
وكان الرئيس أحمد الشرع أكد في مقابلة مع وسائل إعلام تركية في 23 من يناير/ كانون الأول الماضي أن “هناك مكون عربي كبير في شرق سوريا تحت حكم قسد ويريد الارتباط مع الدولة السورية، وهناك اعتقالات من قبل قسد للمكون العربي، وأي اعتداء سيحصل عليهم ستكون الدولة ملزمة بالدفاع عنهم”.
أسباب مباشرة وغير مباشرة
تنوعت دوافع حملة الاعتقالات التي شنتها “قسد” في شرقي سوريا بين أسباب مباشرة تتعلق بردود الفعل الشعبية على الاتفاق مع دمشق، وأخرى غير مباشرة تعكس مخاوفها من التحولات السياسية في المنطقة.
وفقاً للباحث السوري سامر الأحمد، فإن الأسباب المباشرة تتعلق بموقف الأهالي من الإدارة الجديدة وتأييدهم لها، حيث شهدت بعض المناطق عقب توقيع الاتفاق احتفالات، وحاول بعض الأشخاص التابعين لتنظيم “شبيبة الثورة” رفع صورة عبد الله أوجلان الذي يعتبر الزعيم الروحي لـ”حزب العمال الكردستاني”، لكن متظاهرين رفضوا ذلك.
وفي اليوم التالي شن عناصر “الشبيبة الثورية” التابعة لـ”قسد” حملة اعتقالات ممنهجة مستهدفة كل من شارك في تلك الاحتفالات.
أما فيما يتعلق بالأسباب غير المباشرة، وفق ما قاله الأحمد لموقع “تلفزيون سوريا”، فإن سقوط النظام أثار مخاوف “قسد” من فقدان سيطرتها على مناطق نفوذها، خاصة مع تنامي احتمالات تمدد الدولة السورية الجديدة، إلى شرق الفرات.
وزاد من هذه المخاوف وجود رفض اجتماعي واسع لـ”قسد”، سواء من العشائر العربية أو حتى بعض المكونات الكردية، ما جعلها ترى في حملة الاعتقالات وسيلة لإعادة فرض سيطرتها بالقوة وهيمنتها وإحكام قبضتها الأمنية.
وتسعى “قسد” من خلال التضييق الأمني والملاحقات إلى دفع أنصار الثورة السورية والسلطة الجديدة للخروج من المنطقة، في محاولة لتفريغها من أي قوى معارضة محتملة، فاليوم تشهد المنطقة حملة نزوح كبيرة وخاصة من فئة الشباب إلى محافظات حلب وإدلب هرباً من الاعتقالات والتجنيد الإجباري.
والأخطر من ذلك، حسبما يرى الأحمد، أن العديد ممن جرى اعتقالهم جرى تحويلهم إلى محاكم الإرهاب، حيث يتم تصنيفهم كإرهابيين، وليتم لاحقا محاكمتهم وفق قوانين مكافحة الإرهاب، ما يجعلهم يصنفون كمعتقلين على غرار سجناء تنظيم “داعش”، فقد حكم على بعض المعتقلين بالسجن لفترات تتراوح بين أربع وخمس سنوات.
من جانبه يرجع المحلل السياسي علي تمي سبب الاعتقالات إلى أن “قسد” تدرك تماماً تفاصيل الاتفاق الذي وقعته مع دمشق، لكنها غير مستعدة للسماح بأي مظاهر للاحتفال به، لأنها تدرك أن ذلك قد يؤدي إلى تقويض سلطتها.
ووفق تمي، فإن هناك أكثر من 50 حالة اعتقال وثقت بعد الإعلان عن الاتفاق، وهو مؤشر واضح على أن هناك تياراً قوياً داخل “قسد” يرفض تنفيذ بنود الاتفاق على الأرض، مرجحاً عدم تنازلها عن أي نقطة استراتيجية لصالح الدولة السورية إلا تحت ضغط عسكري مباشر.
اعتقالات تكشف صراع الأجنحة
في الوقت الذي كان يتوقع أن يفضي الاتفاق بين دمشق و”قسد” إلى تهدئة الأوضاع والاندماج في مؤسسات الدولة، جاءت التطورات على عكس ذلك تماماً، فقد صعدت كل من “قسد” و”مسد” (مجلس سوريا الديمقراطية) من خطابهما المعادي للحكومة السورية، ورفضا الاعتراف بالإعلان الدستوري المؤقت ولوحتا بعدم الاعتراف بالحكومة الجديدة.
التطورات الأخيرة في الشرق عن انقسامات داخلية بدأت تتكشف داخل “قسد” نفسها، حيث تلوح بوادر صراع بين جناحين متباينين.
الباحث سامر الأحمد اعتبر أنه عقب الاتفاق بدأت بوادر انشقاق واضح بين تيارين متباينين: الأول وهو تيار مظلوم عبدي السياسي وهو مؤيد للاتفاق مع دمشق، أما التيار الثاني هو التيار الأمني الذي يسيطر على المشهد ويقوده كوادر حزب العمال الكردستاني وقيادات جبل قنديل.
ويعتبر التيار الأمني صاحب النفوذ الأكبر والمسيطر ويرفض الاتفاق باعتباره تهديداً مباشراً لهيمنة الحزب وسيطرته الأمنية والعسكرية، على عكس التيار السياسي الذي ليس لديه سلطة لتنفيذ الاتفاق الوقع.
وتوقع الباحث حدوث خلافات وانقسامات داخل قسد قد تتجاوز تداعياته مجرد مماطلة في التنفيذ، وقد تصل إلى تصعيد داخلي قد يؤدي إلى انقسامات فعلية داخل قسد، ما سيضع دمشق أمام تحد جديد وهو التعامل مع شريك متفكك، غير قادر على ضبط قراره الداخلي.
وفي حال عدم تمكنت “قسد” من حسم هذا الصراع الداخلي سريعاً، فقد لا يكون فشل الاتفاق نتيجة لتدخلات خارجية فحسب، بل نتيجة انهيار “قسد” من الداخل.
من جانبه يرى علي تمي أن من يتحكم بالميدان ليست “قسد “التي هي واجهة أميركية للتعاطي مع العالم الخارجي وخاصة تركيا، لكن المتحكم الحقيقي هو حزب العمال الكردستاني الذي لن يلتزم بأي اتفاق لطالما له علاقات قوية واستراتيجية مع المحور الإيراني.
ووصف مظلوم عبدي بأنه “ورقة أميركية” تستخدمها حين اللزوم، و”لا يستطيع الخروج من الخطوط المرسومة له من قبل حزب العمال الكردستاني، وبالأحرى هو جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة ولكل منهم دور يقوم به”.
وقال تمي أن “المتابع في بعض الأحيان يعتقد أن هناك خلافات أو صراعات داخل الحزب، لكن هي تبادل للأدوار فيما بينهم، وواشنطن تدرك جيداً هذا الأمر، ويبدو أنها تحاول ابتزاز تركيا بهدف إرضاخها وابتزازها على المدى البعيد ومنعها من التمدد داخل سوريا”.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه تمي أن الاتفاق لن ينفذ على أرض الواقع وبالتالي البديل هو الحرب، قال الأحمد إن “المنطقة ذاهبة نحو مجهول إذا لم يكن هناك ضغط دولي لإخراج قيادات التيار الأمني من سوريا”.
وبشأن خيارات عبدي في ظل الخلافات داخل قسد، اعتبر الأحمد أن عبدي لا يملك أي خيار سوى الرضوخ لضغوط التيار الأمني وقيادات قنديل.
وقال إن أي “محاولة خروج لعبدي عن المسار سيتم قتله لأن سلوك حزب العمال دائماً مع المناوئين له أو المنشقين عنه دائماً القتل والتصفية كما حصل مع كثير من القيادات في تركيا وأوروبا”.
تلفزيون سوريا
———————————
ما مصير المقاتلين الأجانب في قسد بعد الاتفاق مع حكومة دمشق؟/ باسل المحمد
19/3/2025
في ظل التحولات السياسية والعسكرية التي تشهدها الساحة السورية منذ سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/كانون الثاني الماضي، يأتي اتفاق قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مع حكومة دمشق كعلامة فارقة، من حيث تأثيره في تعزيز موقع السلطة السورية الجديدة من جهة، وقطع الطريق على محاولات التمرد والانفصال من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن الاتفاق أسهم إلى حد كبير في حل أغلب القضايا الخلافية بين الطرفين، كموضوع دمج قوات قسد تحت مظلة جيش الدولة، وحصول الأكراد على حق المواطنة والمشاركة في الحياة السياسية، فإنه لم يأت على ذكر قضية “المقاتلين الأجانب” في صفوف “قسد”، والتي تمثل نقطة إشكالية بين الطرفين، بسبب ارتباط هؤلاء بحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية حليف دمشق الأقرب، إضافة إلى القوائم الأوروبية والأميركية.
وفي ظل المعطيات الجديدة، يصبح من الضروري تسليط الضوء على مستقبل هؤلاء المقاتلين الذين أشارت العديد من التصريحات لمسؤولين في قوات “قسد” إلى أنهم سيغادرون سوريا بعد التوصل إلى اتفاق دائم مع حكومة دمشق، فهل سيعودون إلى بلادهم أم ستكون لديهم وجهات وخيارات أخرى؟
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) ومظلوم عبدي بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار والاندماج في الدولة السورية (الفرنسية)
إشارات ودعوات
أشارت العديد من التقارير إلى أن بند إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا يشكل نقطة أساسية في موضوع دمج قوات “قسد” في هيكلية الجيش السوري الجديد، وتعزيز وحدة الأراضي السورية.
ومع أن التصريحات المباشرة للرئيس السوري أحمد الشرع لم تذكر هذا الموضوع بشكل واضح، إلا أن قيادات قسد مثل مظلوم عبدي وغيره من القيادات أكدوا في تصريحاتهم أن انسحاب المقاتلين الأجانب كان من الشروط الأساسية لإتمام الاتفاق.
وجاء في محضر الاجتماع الثلاثي الذي جمع بين أذرع قسد السياسية والعسكرية والإدارية في 17 فبراير/شباط الماضي أنه تم الاتفاق على دمج المؤسسات العسكرية والأمنية مع مؤسسات الدولة وإخراج المقاتلين غير السوريين كجزء من عملية إعادة تنظيم القوات الوطنية، وذلك بحسب ما أفاد به القيادي في “قسد” عمر إدلبي على منصة إكس.
وفي هذا السياق، نقلت مواقع إلكترونية عن مصادر سورية مطلعة أن وحدات حماية الشعب، المنضوية في قوات قسد، طالبت أعضاء حزب العمال الكردستاني غير السوريين بمغادرة سوريا بأسرع وقت ممكن.
وجاء طلب مغادرة المقاتلين غير السوريين في صفوف حزب العمال الكردستاني بعد يوم واحد من الاتفاق الذي أبرم بين قسد والإدارة السورية الجديدة.
ضغوط تركية
أما بالنسبة لتركيا التي تعتبر قوات “قسد” بشكل عام تهديدًا لأمنها القومي، والتي دائمًا ما تلوح بعملية عسكرية ضدها، فقد أكدت في 13 مارس/آذار أنه يجب على “الإرهابيين إلقاء السلاح وإخراج المقاتلين الأجانب من سوريا”، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
وقال مصدر في وزارة الدفاع التركية “نحن في تركيا ما زلنا مصممين على مكافحة الإرهاب”، مضيفا “لا تغيير في توقعاتنا بشأن إنهاء الأنشطة الإرهابية في سوريا، وإلقاء الإرهابيين أسلحتهم، وإخراج الإرهابيين الأجانب”.
وتعليقًا على الموقف التركي، يقول الباحث المتخصص في شؤون الشرق السوري سامر الأحمد إنه على الرغم من ترحيبها بالاتفاق بين حكومة دمشق وقوات “قسد”، فإن تركيا “ما زالت قلقة من تطبيق بنوده، وتصرّ على إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، لأنها ترى فيهم تهديدا لأمنها القومي، بسبب انتماء غالبيتهم العظمى إلى حزب العمال الكردستاني”.
وبحسب حديث الأحمد للجزيرة نت، فإن هناك معلومات تشير إلى أن الدولة التركية سلّمت التحالف الدولي قائمة بأسماء ما يقارب ألف عنصر من هؤلاء المقاتلين لإخراجهم من المنطقة، وهي بالتوازي مع ذلك ما زالت مستمرة بملاحقتهم وتصفيتهم عن طريق المسيرات.
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أوضح في تصريحات صحفية أن أنقرة تراقب من كثب اتفاقا بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، معربًا عن قلقه بشأن التهديدات المستقبلية المحتملة لأمن تركيا.
أعداد المقاتلين وجنسياتهم
لا تتوفر إحصائيات دقيقة عن عدد المقاتلين الأجانب في صفوف قوات “قسد”، إذ تتفاوت التقديرات بشكل كبير، ففي الوقت الذي تشير فيه بعض المصادر إلى وجود ما يقارب 3 آلاف مقاتل، يؤكد قائد “قسد” في تصريحات صحفية أن عددهم لا يتجاوز المئات.
وكان عبدي قد اعترف لأول مرة بوجود مقاتلين أكراد غير سوريين -بمن في ذلك أعضاء حزب العمال الكردستاني- في صفوف قواته، مؤكدًا في تصريحات لوكالة رويترز في 19 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي أن المقاتلين الأكراد الذين قدموا إلى سوريا من مختلف أنحاء الشرق الأوسط لدعم القوات الكردية السورية سيغادرون إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في المواجهة مع تركيا بشمال سوريا.
من ناحيته، يوضح الباحث المهتم بالشأن الكردي في مركز رامار للبحوث بدر ملا رشيد أنه لا توجد معلومات دقيقة عن أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف “قسد”، ولكن وفق المصادر والتقديرات فإن الأعداد تقارب 3 آلاف مقاتل، إذ جاء القسم الأكبر منهم مع بدء معركة عين العرب “كوباني” عام 2014 عند فتح الحدود بين تركيا وسوريا.
وعن جنسيات هؤلاء المقاتلين، يوضح الباحث ملا رشيد للجزيرة نت أن أغلبهم ينتمون إلى العرق الكردي المنتشر في البلدان المجاورة (تركيا، العراق، إيران)، إضافة إلى وجود متطوعين أجانب من المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليونان وكندا وأستراليا والولايات المتحدة.
وقد شكّل هؤلاء ما عُرف باسم “الكتيبة الدولية”، إلى جانب انضمامهم إلى عدد من الكتائب اليسارية العاملة ضمن وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لـ”قسد”.
وكانت دراسة سابقة لمركز الشرق للأبحاث الإستراتيجية في إسطنبول أوضحت أن أعداد المقاتلين الأجانب لا تتجاوز 800 مقاتل، لكن الرقم الحقيقي، بحسب المركز، قد يكون أكثر من ذلك بكثير، لعدم وجود بيانات تفصيلية عن المسلحين الأتراك والعراقيين الذين انضموا إلى الجماعة.
عوائق العودة
وسط هذا الإصرار المحلي والإقليمي على إيجاد حل لقضية المقاتلين الأجانب في صفوف قوات “قسد”، سواء أكانوا أكرادا أم من الجنسيات الغربية، يبرز سؤال عن مدى إمكانية إعادتهم إلى بلادهم الأصلية، والعوائق الأمنية والقانونية التي قد تحول دون ذلك.
الباحث في مركز الشرق للأبحاث الإستراتيجية محمد أمين جنكيز يعتقد، في حديثه للجزيرة نت، أن معظم المقاتلين الأجانب، بمن فيهم أعضاء حزب العمال الكردستاني غير السوريين، سيجبرون على مغادرة سوريا إلى بلادهم الأصلية بعد اتفاق “قسد” مع حكومة دمشق.
ويضرب جنكيز مثالًا على ذلك بالمقاتلين الأكراد من أصول تركية الذين سيستفيدون من عملية السلام الجديدة في تركيا، ودعوة مؤسس الحزب أوجلان إلى ترك السلاح وحل الحزب، إضافة إلى الحديث عن عفو عام سوف تصدره الدولة التركية عن عناصر “العمال الكردستاني”.
وبحسب جنكيز، قد يتمكن أعضاء “العمال الكردستاني” ذوو الرتب المنخفضة، أي قيادات الصف الثاني والثالث من القدوم إلى تركيا بعد عفو عام محتمل، أما من هم في مواقع القيادة فمن المرجح أن تطلب تركيا نفيهم.
وفي 27 فبراير/شباط الماضي أصدر مؤسس حزب العمال الكردستاني في تركيا عبد الله أوجلان بيانًا تاريخيا من سجنه، دعا فيه إلى بدء مرحلة جديدة من السلام مع الدولة التركية، وأكد ضرورة إنهاء النزاع المسلح، مطالبا مقاتلي حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وحل الحزب.
وبشكل عام، يرى الباحث ملا رشيد أن كثيرين من المقاتلين الأجانب يفشلون في إعادة الاندماج داخل مجتمعاتهم بعد عودتهم إلى أرض الوطن، وبعضهم قد ينجح في ذلك.
ويضيف رشيد أن قرار بقائهم أو عودتهم يرتبط بنوعية الدور الذي أدوه خلال انخراطهم مع “قسد”، فالمقاتلون الذين شاركوا في العمليات القتالية على أرض المعركة وتولوا مهام قيادية مثل المتطوعين الأتراك لا يعودون إلى بلدهم، بل يختارون عادة التوجه إلى معسكرات حزب العمال الكردستاني الأخرى.
ويعود قرار البقاء، بحسب ملا رشيد، في الأساس إلى القوانين التي قد يتعرضون لها إبان عودتهم إلى وطنهم، وذلك نتيجة قتالهم مع منظمات تعدّ إرهابية في كثير من البلدان، إذ أصدرت بعض الدول تشريعات جديدة لمحاكمة مواطنيها بعد عودتهم من سوريا.
من تلك الدول بلجيكا والنمسا وأستراليا التي سنّت قوانين لتجريد مزدوجي الجنسية من جنسياتهم، في حين اعتمدت دول أخرى على قانون العقوبات لسجن العائدين بتهم المشاركة في منظمات إرهابية، كما يضيف ملا رشيد.
جبال قنديل الملاذ الأخير
أمام هذه العقبات القانونية والأمنية، يرى مراقبون أن جبال قنديل تشكل ملاذًا آمنًا للمقاتلين الأجانب في صفوف “قسد” وخاصة قيادات الصف الأول الذين ينحدرون غالبًا من أصول تركية وإيرانية، ويُسمى هؤلاء في مناطق سيطرة قوات “قسد” بـ”كوادر جبل قنديل”.
وتقع جبال قنديل على بعد 120 إلى 150 كم شمال مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وتمتد من الأطراف الجنوبية الشرقية من تركيا إلى الحدود مع إيران، وتشكل حصنًا طبيعيا منيعًا لمقاتلي “العمال الكردستاني”.
وتعليقاً على هذا الموضوع، يوضح الباحث جنكيز أنه من المرجح أن يتوجه بعض الأتراك المنتمين لقوات سوريا الديمقراطية، وهم من قيادات الصف الأول، إلى جانب العديد من المقاتلين الأوروبيين والأميركيين ممن يحملون العقيدة اليسارية، إلى جبال قنديل بعد عبورهم إلى إقليم كردستان العراق.
أما بالنسبة للأعضاء الإيرانيين في صفوف “قسد”، فهؤلاء قد لا يتمكنون من العودة إلى إيران لأسباب أمنية وقانونية؛ لذا سيتوجهون إلى جبال قنديل على الأرجح، ومن هناك قد يختار بعضهم البقاء مع حزب العمال الكردستاني، أو الانضمام إلى حزب الحياة الحرة، الفرع الإيراني للحزب، والمشاركة في العمل المسلح ضد إيران.
لا تكمن المشكلة في وجود المقاتلين الأجانب في صفوف “قسد” كحالات فردية وإنما في وجود حزب العمال الكردستاني في العمود الفقري للبنية الأمنية الموجودة في الجزيرة السورية، بحسب الباحث الأحمد.
لذا، يعتقد الأحمد أن إخراج الحزب وتفكيكه صعب جدا، وقد يلاقي الاتفاق الموقع بين قسد وحكومة دمشق كثيرًا من المطبات، بحيث يتطور الوضع -إذا لم يتم حل هذا الملف- إلى اقتتال داخلي ضمن صفوف قسد، لأن هؤلاء المقاتلين يرفضون الاتفاق والاندماج ضمن الجيش السوري الجديد.
وكان قائد “قسد”، مظلوم عبدي، زعم في تصريحات سابقة لوكالة رويترز أنه على الرغم من قدوم مقاتلين من حزب العمال الكردستاني إلى سوريا فإنه لا توجد روابط تنظيمية بين الحزب وقواته، وأردف “نظرا للتطورات الجديدة في سوريا، فقد آن الأوان لعودة المقاتلين الذين ساعدونا في حربنا إلى مناطقهم ورؤوسهم مرفوعة”.
المصدر : الجزيرة
———————————-
الحوار الكردي يقترب من نهايته رغم استبعاد أحزاب “الوحدة”/ سلام حسن
19 مارس 2025
عقد المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، أكبر أحزاب الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية، اجتماعا مشتركا اليوم الثلاثاء في استراحة الوزير بمدينة الحسكة، بإشراف مظلوم عبدي، قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وبرعاية أميركية تجسدت بحضور المبعوث الأميركي الخاص لمنطقة شمال وشرق سورية، سكوت بولز. ويأتي الاجتماع استكمالًا لاجتماعات سابقة عُقدت في القامشلي وأربيل ودهوك عبر سنوات عديدة، بهدف تشكيل وفد كردي مشترك للذهاب إلى دمشق، واستكمال مناقشة البنود الخلافية التي لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها بعد.
وقال المتحدث الرسمي باسم المجلس الوطني الكردي فيصل يوسف لـ”العربي الجديد”، إن الاجتماع كان إيجابيًا، وناقش الرؤية السياسية الكردية المشتركة حول سورية، “وبقيت بعض الأمور العملية لتشكيل الوفد، والتي سيتم حسمها بعد ثلاثة أيام، أي بعد عيد نوروز”.
من جهته، قال عبدي على منصة “إكس” اليوم الثلاثاء: “نحن مصممون على نجاح الحوار الكردي-الكردي، وقد اجتمع الطرفان الكرديان PYD وENKS لوضع خطة مشتركة وتحقيق الوحدة الكردية في هذه المرحلة”. وأضاف أن “المواقف والرؤية من كلا الطرفين كانت إيجابية ومصدرًا للارتياح”، مشددًا على أن هذا الاجتماع يمثل خطوة نحو تحقيق الوحدة الكردية، وبناء سورية متعددة الألوان وديمقراطية تضمن حقوق جميع المكونات.
بدوره، قال محمد موسى، سكرتير الحزب اليساري الكردي في سورية، وهو أحد الأحزاب المتحالفة مع “الاتحاد الديمقراطي” ضمن ما يُعرف بـ”أحزاب الوحدة الوطنية”، إن إصرار المجلس الوطني الكردي على الاجتماع مع حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) فقط يمثل عائقًا أمام العمل السياسي المشترك للقوى السياسية في المشهد الكردي العام. وأضاف لـ”العربي الجديد”: “ليس لدينا مشكلة في اجتماع المجلس مع الاتحاد الديمقراطي، إلا أن هذا الحزب لا يمثل أحزاب الوحدة الوطنية (PYNK)، وبالتالي لسنا مسؤولين عما يتوصل إليه الجانبان من نتائج في اجتماعهما”. وأكد أن حزبه أبدى “مرونة” في التعاطي مع هذه المسألة “كي لا نكون عائقًا أمام عقد مؤتمر واسع للقوى السياسية الكردية في سورية”، متهمًا المجلس الوطني بمحاولة “شق صفوف أحزاب الوحدة الوطنية” بقراره الاجتماع مع حزب الاتحاد الديمقراطي فقط، مشيرًا إلى أن هناك عدة أحزاب ضمن “الوحدة الوطنية”، وليس فقط الاتحاد الديمقراطي.
وأوضح أن المجلس يسعى لإيصال رسالة إلى الشارع السياسي الكردي مفادها أن “أحزاب الوحدة الوطنية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ولا رأي لها”، معتبرًا أن ذلك غير صحيح ويُسيء لهم سياسيًا. وكرر التأكيد على أن حزبه لن يقبل بأي مخرجات تصدر عن اجتماع المجلس مع الاتحاد الديمقراطي، واصفًا ما يجري بأنه “مؤامرة” و”لعبة سيئة” من طرف المجلس. وأضاف أن تشكيل وفد يمثل الشارع السياسي الكردي للتفاوض مع السلطات في دمشق يجب أن يكون نتيجة توافقات بين جميع القوى السياسية، لا أن يقتصر الأمر على المجلس والاتحاد الديمقراطي وحدهما.
وكانت المفاوضات بين الطرفين بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2014، برعاية من قيادة إقليم كردستان العراق، وأفضت إلى اتفاقية دهوك التي أرست أساسًا لهذه المفاوضات. ونصّت الاتفاقية على تشكيل مرجعية سياسية كردية، بحيث تكون نسبة تمثيل “حركة المجتمع الديمقراطي” (لاحقًا أحزاب الوحدة الوطنية الكردية – 25 حزبًا) فيها 40%، و”المجلس الوطني الكردي” 40%، و20% للأحزاب والقوى غير المنخرطة في الجسمين السياسيين. كما تم الاتفاق على أن يكون عدد أعضاء المرجعية 32 شخصًا، موزعين بواقع 12 من “حركة المجتمع الديمقراطي”، و12 من “المجلس الوطني”، و8 من القوى السياسية من خارج الإطارين المذكورين.
في سياق متصل، شهدت مدينة القامشلي تظاهرة احتجاجية انطلقت بدعوة من مجموعة من النشطاء الأكراد السوريين، من إعلاميين ومثقفين وكتّاب، رفضًا للإعلان الدستوري المؤقت الصادر عن الحكومة السورية الجديدة. وانطلقت التظاهرة من أمام الملعب البلدي واتجهت نحو مبنى الأمم المتحدة، حيث شارك فيها العشرات من سكان المدينة وريفها والمدن والقرى المجاورة، رافعين لافتات تحمل شعارات متنوعة، منها: “القضية الكردية هي قضية أرض وشعب”، “أنا كردي القومية وطائفتي سورية”، “الإعلان الدستوري يعني حكم الإعدام على الديمقراطية”، “تاريخيًا يحق لنا المزيد، لكن اكتفينا بالفيدرالية حفاظًا على الجمهورية السورية”، و”الدستور يجب أن يكون ديمقراطيًا حتى إن كانت العقلية شوفينية”، إلى جانب شعار آخر دعا فيه المتظاهرون لسورية المستقبلية، إلى أن تكون سورية “ديمقراطية، تعددية، ولامركزية سياسية”.
العربي الجديد
—————————-
الوساطة العسكرية الأميركية بسوريا.. بين التنافس الإقليمي والتدخل الدولي/ مهيب الرفاعي
الأربعاء 2025/03/19
بعد سقوط نظام بشار الأسد، تقف سوريا عند مفترق طرق حاسم على مستوى العلاقات الدولية، والذي نتحدث فيه عن علاقة الإدارة الجديدة بالقوى الفاعلة في سوريا سواء على الصعيد العسكري او السياسي بين طرفين: الأول كان داعماً لنظام الأسد كإيران وروسيا، والثاني الذي كان يعمل على تقويضه كبعض دول الخليج العربي وتركيا وأميركا؛ ومستوى العلاقات الداخلية الذي تتداخل فيه الروابط بين إدارات النظام السابق واستشراف مستقبلها عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، والتركيز على حوكمتها وإعادة بنائها، وبين الفصائل العسكرية المحلية العاملة على الأرض بمختلف مشاربها و مصادر تمويلها وتنوع رعاتها.
وإذ تسعى إدارة الرئيس الشرع إلى تعويض الفاقد الأمني والعسكري، على أقل تقدير، في ظل التوترات الأخيرة في البلاد، لا سميا في الساحل وفي الجنوب السوري؛ وجدت إدارة ترامب مدخلاً إلى سوريا الجديدة مستغلة سطوتها في المنطقة عموماً بدءاً من حالة الحرب على غزة عقب طوفان الأقصى ومحاولات فرض وصاية على قطاع غزة، وصولاً إلى لبنان وتمرير رسائل عبر مبعوثيها إلى بيروت، و ليس انتهاءً بدمشق ومساعيها لخلق تفاهمات ومصالحات جديدة ، ومباركتها الاتفاق بين الحكومة الجديدة وإدارة قوات سوريا الديمقراطية، لتشارك واشنطن بقوة في صياغة واقع سوريا بعد انهيار مجموعة أنظمة تقليدية وحركات عسكرية كانت إلى مدة قريبة عثرة أمام جهود واشنطن لتوضيب المنطقة من جديد.
الوجود الأميركي في سوريا
كانت القوات الامريكية سباقة إلى سوريا عام 2014، من بوابة قتال تنظيم “داعش”، في عمليات أطلق عليها اسم “العزم الصلب – Inherent Resolve” ليصل تعداد الجنود الأميركيين في القواعد الأميركية المنتشرة شرق سوريا إلى حوالي ألفي جندي، لكن دون خط زمني ومهماتي واضح لهذه القوات لا سيما بعد سقوط نظام الأسد ووضع أسس جديدة وجدّية للتحول السياسي في البلاد. حجة واشنطن الأساسية في سوريا وسبب وجودها –بحسب روايتها – هو القضاء على “داعش”، حيث أعلن ترامب في ولايته الأولى إنجاز المهمة وأنه يخطط لتقليص قوته في سوريا بالنتيجة؛ ولكن يبدو أن “داعش” أعاد تنظيمه مجدداً وضربت القيادة المركزية الأميركية حوالي 75 نقطة/هدفاً للتنظيم الذي استغل الاضطرابات الأمنية لإعادة الانتشار والتموضع في المنطقة الشرقية والبادية السورية. هذا التوسع يعيد القلق من التنظيم (إن لم نسلم أنه صناعة أميركية) وأن واشنطن مُربكة حول وجود قواتها في ظل دعوات داخلية أميركية لتقليص عدد الجنود والاكتفاء بحوالي 500 جندي في نقاط مراقبة فقط، وعدم زج القوات الأميركية في سوريا ومعاركها من جديد.
يفرض التدخل العسكري الأميركي في سوريا حالة من التوازن في ظل وجود القوات الروسية والتركية والإيرانية، وتداخل المصالح وحسابات الربح والخسارة على الصعيدين العسكري والسياسي. لكن الملفت للانتباه هو تحول الخطاب من عسكري إلى سياسي-دبلوماسي يراعي تغيير النظام الحاكم في سوريا، ويراعي توجهات الإدارة الجديدة في الحفاظ على سوريا بدون تقسيم وفيدراليات، مع الحرص على ضمان سير عملية الانتقال السياسي والناتج يكون دولة مستقرة تتماهى مع ملامح المنطقة الجديدة، دون محاباة لأي من القوى الفاعلة في سوريا ولا سيما تركيا وروسيا، الذين يشكلان قلقاً لواشنطن، إلى حد ما. هذا الانتقال مهدت له حوارات وزير الخارجية الأسبق أنتوني بلينكن الذي قال إن الدبلوماسية والقيادة الأميركية جادّة في توجيه مسار سوريا الجديدة نحو أهداف تخدم الصالح العام السوري.
طبيعة هذا الحوار مطمئنة بالنسبة للإدارة السورية الجديدة التي تسعى جاهدة لتوحيد الفصائل المتناحرة والمتشعبة في أهدافها وإرساء استقرار دائم في البلاد، لا سيما بعد النجاح النوعي والمباركة الأميركية لضم المقاتلين الأكراد إلى صفوف القوات السورية الجديدة؛ والرغبة الملحة لمعالجة ملف الجنوب السوري؛ حيث لعبت القوات العسكرية الأميركية دوراً مؤثراً ولكنه غير معلن في هذه العملية، حيث تقوم القيادة المركزية الأميركية بتسهيل الاتفاقات بين مختلف الجماعات العسكرية السورية لتجنب عودة الصراعات المسلحة وفقدان السيطرة.
دور الجيش الأميركي في الوساطة
تجاوز تدخل الجيش الأميركي في سوريا نطاق العمليات العسكرية التقليدية، ليشمل جهوداً دبلوماسية تهدف إلى المصالحة بين الفصائل والكتل العسكرية المتنازعة في سوريا. هذا الملف مهم جداً بالنسبة لحكومة دمشق الجديدة التي تسعى إلى تقليص الفراغ الأمني، في الوقت الذي لا تزال فصائل مسلحة تعمل وفق مصالح متضاربة ووفق أجندات تعيق أي تقدّم حقيقي في جهود التعافي السياسي والاقتصادي والأمني؛ على الرغم من انتهاء المواجهات العسكرية الكبرى، وبالتالي فإن وجود جيش موحد هو عنصر أساسي لاستعادة السيادة وضمان الأمن على المدى الطويل. في البداية، اعتمدت الإدارة الجديدة والتي كانت متمثلة بـ”إدارة العمليات العسكرية” على ذاتها في عملية بسط الأمن في البلاد، ووجهت دعوات لفصائل المعارضة السورية المسلحة لحل نفسها والاندماج في جسم عسكري واحد ومحترفو تجاوز جميع الانقسامات؛ لكن هذه الدعوات لم تلقَ تجاوباً كبيراً من الفصائل، لا سيما فصائل الجنوب السوري وقوات سوريا الديمقراطية، والتي تشكل بحد ذاتها جيشاً كان إلى مدة قريبة يسعى للانفصال عن سوريا ويعد لمعركة مع الجيش السوري الجديد.
مع هذه التطورات، ومع تعدد الضامنين في سوريا، تدخلت أميركا التي غازلت الإدارة السورية الجديدة ورفعت وصمة “الإرهاب” عن “هيئة تحرير الشام” التي شكلت نواة العمل السياسي والعسكري الحالي، ومدّت يدها لتبارك وترعى الجهود الرامية للمصالحات في البلاد عموماً؛ وهو نسق سياسي-عسكري توافقي كانت قد عملت عليه روسيا أيام نظام الأسد وعارضته أميركا حينها. فمن خلال وجودها الاستراتيجي في سوريا، قامت أميركا برعاية اتفاقات حاسمة بين الحكومة السورية الجديدة والمقاتلين الأكراد المدعومين من أميركا ذاتها، بحيث تهدف هذه الاتفاقات إلى توحيد الفصائل والمساهمة في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد وفق مبادئ تشاركية تحصل بالنهاية دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز والهيئات المحلية.
بالإضافة إلى ذلك، عملت أميركا على تسهيل الحوار بين فصائل جيش سوريا الحرة، الذي ينشط بالقرب من قاعدة التنف العسكرية الأميركية ويحظى برعاية من واشنطن، وبين الجماعات الإسلامية العسكرية التي انضمت إلى الحكومة الجديدة في مناطق تدمر والبادية السورية لمنع الانزلاق مجدداً في حرب الصحراء التي قد تعقد جهود مكافحة الإرهاب ضد فلول داعش والجماعات المتطرفة الأخرى؛ وهذا ما أكدته صحيفة “The Wall Street Journal” في تقريرها حول الفصائل العسكرية في سوريا ووساطة أميركية في البلاد.
في هذه المرحلة يعمل الضباط الأميركيين الموجودون في قاعدة التنف على ترتيبات دمج جيش سوريا الحرة مع الجيش السوري، بما يضمن استمرار وجوده كونه جماعة معتدلة ليست متطرفة أو إيديولوجية، ويسهل مواجهة فلول “داعش”، وكونه فصيل عسكري تلقى تدريبًا أميركياً شاملاً في قواعد غرفة “موك” في الأردن وقدمت له أسلحة نوعية تشمل مسيرات ومضادات طيران ومضادات دروع وعربات صحراوية. يقنع جنرالات قاعدة التنف، وأبرزهم جوزيف فوتيل، المسؤول العسكريين في جيش سوريا الحرة ببناء علاقات جيدة مع حكومة دمشق الجديدة، ليتمكنوا بذلك من الدخول إلى العمل العسكري في سوريا بصفة رسمية. ما يهم أميركا من هذا العمل هو ضمان التحكم بالمنطقة الوسطى والبادية عن طريق جنود سوريين رسميين ونظاميين لكن لهم ولاء لها بما يضمن أمرين رئيسين: البقاء بالقرب من مصادر النفط والفوسفات في سوريا، والبقاء أمام المد الإيراني وقطع طريق تسليح أي من الخلايا النائمة لميليشياتها في المنطقة والتي تبخرت بأسلحتها ليلة 8 كانون الأول/ديسمبر 2024. عمل هذا الجيش على ملء الفراغ الأمني في المنطقة الوسطى عقب سقوط نظام الأسد وفرار جنوده من ثكناتهم المحيطة بتدمر وريف حمص الشرقي وصولاً إلى الحدود مع الأردن.
ردود الفعل الإقليمية والمخاوف
وعلى الرغم من المواقف الدولية المتباينة حول هذه الاتفاقيات والمساعي التصالحية، تمثل هذه الوساطات عموماً والاتفاق بين الأكراد والحكومة السورية خصوصاً، خطوة كبيرة نحو تعزيز الوحدة والسيطرة السياسية، وهو خطوة ضرورية لحل المشكلات الإدارية والسياسية العالقة، كما أنه يعكس التزاماً بإنشاء دولة سورية موحدة تتماشى مع الخطاب العام الذي تروج له إدارة الرئيس الشرع. بالنسبة لتركيا، وموقفها مهم للغاية، فإنها لم تكن راضية كل الرضى عن هذا الاتفاق، كون قوات سوريا الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني عدوان للدولة التركية، وتتعارض مع رؤيتها الاستراتيجية للجنوب التركي ومسائل الأمن القومي وحماية الحدود من أي محاولات انفصالية، وإن أبدت موافقتها، إلا أن أنقرة حذرة للغاية من هذا الاتفاق وبنوده التنفيذية لا سما البنود المتعلقة بالسلاح وطريقة الاندماج (ككتلة ام كأفراد) وغيرها.
أما إيران، فإنها بالرغم من ضعفها في سوريا، فإنها تسعى بكل جهدها لمعارضة أي محاولات إدماج لفصائل عسكرية وحلها، لإبقاء حالة التقسيم هي الطاغية في سوريا وحالة الميليشيات وحروب الوكالة هي السائدة، كون الاستقرار يضر بمصالحها ونفوذها في المنطقة. ذات الأمر بالنسبة لإسرائيل، التي تعارض فكرة إنشاء جيش سوري موحد ينتج عن توافق في القرارات العسكرية، يجعل من سوريا دولة قوية من جديد وتهدد مشاريع تل أبيب التوسعية ولهذا فإنها تضع ثقلها في الجنوب السوري لدعم رفض الانضمام للحكومة الحالية.
في المقابل، تسعى الدول العربية، مثل السعودية، إلى توسيع نفوذها داخل الحكومة السورية الجديدة، وذلك لموازنة النفوذ التركي وضمان تمثيل مصالحها في عمليات إعادة الإعمار والحوكمة. موقف السعودية متوافق مع موقف أميركا التصالحي في سوريا، وكان لها وجهة نظر في تخفيف تمويل الجماعات الإسلامية السنية في الجنوب السوري ووقف تمويل كتل عسكرية مثل جيش الإسلام وأولية الفرقان وغيرها. بالنسبة لروسيا فإنها حذرة أيضاً من هذه الاتفاقيات كونها تفقدها المبادرة للانخراط ومع الإدارة السورية الجديدة وكسب ثقتها لإبقاء قواعدها على المتوسط، على اعتباره حلم الإمبراطورية الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة والوجود في خط متقدم أمام سواحل أوروبا، وبالنتيجة لن تعارض موسكو حكومة دمشق في قرارها بمد اليد تجاه أي من الجماعات العسكرية سواء في الشرق أو الجنوب؛ مع تحفظ على احتمالية تدخل أميركي في قرارات غرفة عمليات يقودها أحمد العودة في مناطق درعا وريف القنيطرة كونها مدعومة منها بعد اتفاق المصالحة الوطنية 2018 وانضمام هذه الفرقة إلى اللواء الثامن والفيلق الخامس الذي أشرفت على تدريبه وتسليحه موسكو عبر قاعدة حميميم.
آفاق الاستقرار في البلاد
على الرغم من التقدم الدبلوماسي، تواجه حكومة دمشق عقبات واضحة في طريقها نحو المواءمة مع الجهود السياسية الدولية الرامية إلى الاستقرار. إذ لا تزال الحكومة الجديدة تواجه تهديدات أمنية داخلية، لا سيما من فلول نظام الأسد الذين يشنون هجمات مسلحة على الأمن العام في محاولة لزعزعة مساعي الحلول السياسية في البلاد، ومحاولة لوضع الإدارة الجديدة على المحك مقابل التزاماتها أمام المجتمع الدولي. علاوة على ذلك، فإن إدماج الفصائل المسلحة المختلفة في جيش سوري وطني موحد يطرح تحديات لوجستية وأيديولوجية معقدة. بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، وتوحيد العقيدة القتالية، وضمان التمثيل العادل داخل المؤسسة العسكرية، كلها عوامل حاسمة لمنع حدوث انشقاقات داخلية تهدد وحدة البلاد، لا سيما وأن المشهد العسكري السوري منقسم بين فلول النظام السابق وفصائل المعارضة المسلحة السابقة التي رفض عدد منها حل نفسها والأكراد والهجمات الإسرائيلية على جنوب البلاد؛ الأمر الذي يفرض على حكومة دمشق التعامل بمزيد من الحزم و اللين لكسب جميع الأطراف؛ مع السماح للوساطة الخارجية بأخذ مساحتها الحقيقية نظراً لحساسية ملفات التمويل والأدوار في سوريا والتجاذبات الإقليمية.
المدنية
————————————–
الاتفاق مع «قسد» خطوة على الطريق الصحيح/ خالد البري
تحديث 19 أذار 2025
كسرُ تواصل المشروع الميليشياوي في المنطقة مكسبٌ استراتيجي ضخم لمحور الاعتدال، ومحبي السلام. اسألوا مَن استهدفت الميليشيات بلده، فخرَّبت سلماً تاق إليه، وأشعلت حرباً لم يردها، وقضت على طموح مستحَق.
هذه الميليشيات نشأت وأنفقت وسلحت بغرض وحيد هو مدّ نفوذ راعيها على المنطقة. وفي سبيل ذلك أحيت نزعات طائفية لا تستقيم معها دولة حديثة. ونجحت عبر أربعة عقود في تحقيق أغراضها، على حساب الشعب الإيراني ورفاهيته أولاً، وعلى حساب الجوار ثانياً.
المشروع المقابل نادى بالعكس؛ بالمواطنة لا الطائفية، بتغليب مصلحة أهل البلد وبالسلم الأهلي والالتفات إلى المستقبل. إنما السياسة تهوى الأسئلة وتعشق الامتحانات، وتستمتع بـ«ماذا لو…؟».
ماذا لو نجح نظام في كسر المشروع الميليشياوي، لكنه لم يكن كامل الأوصاف؟ ماذا لو أثار تاريخه وأدبياته مخاوف من طريقة حكمه؟ ماذا لو صار وجه العملة المقابل ودخلنا في حلقة مفرغة؟ ماذا لو…؟ ماذا لو…؟
والمهم هنا ليست إجابة مَن يفكر نظرياً ويده في الماء البارد، إذ الإجابة واضحة. من السهل على هؤلاء رفضه. المشكلة أن ترجمة هذه الإجابة على أرض الواقع؛ فلتبقَ الميليشيات. لم نخرج إذن من أسئلة السياسة الصعبة. العامل المرجِّح إجابةُ أصحاب الشأن، الذين اكتووا بنار المشروع الميليشياوي، وحلموا بيوم الخلاص. وهؤلاء قالوا: «لنتمسكْ بالأمل، ولنضع الثقة في الوعود». وتلقف هؤلاء تطمينات الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، مدركين أن المهمة أصعب من الكلام. وأظن أنهم جميعاً استعدّوا نفسياً لمفاجآت، وانتظروا من النظام المدعوم أن يقدِّر حجم الرهان الذي قدموه، وأن يتفهم حرج الموقف.
مجهود ضخم بذلته دول الاعتدال للخروج من حقبة ما بعد 1979، سنة الثورة الإيرانية وما بعدها من أحداث؛ مثل حرب أفغانستان، ثم اغتيال الرئيس المصري ومحاولة الاستيلاء على الحكم. وما أسفرت عنه الحقبة من انتشار التطرف وسيطرته على المجتمعات المسلمة، وأثره السيئ على المكانة السياسية للدول.
الولايات المتحدة أيَّدت المجاهدين في أفغانستان، وسمَّتهم «مقاتلين من أجل الحرية». لكنها تنصلت من ذلك بعد هجمات «11 سبتمبر»، وألقت باللائمة على دول منطقتنا. وتجاهل الإعلام الغربي أيضاً حقيقة أن دول المنطقة دفعت أثماناً أغلى وقدمت تضحيات أكبر. ناهيك بثمن لا يمكن حسابه متمثلٍ في تحمل العبء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للتطرف الإسلامي.
حرب «التحرير» الأفغانية بدأت هي الأخرى قضيةَ تحريرٍ ضد «الطغيان المدعوم سوفياتياً». وكانت موجهة في شقها الأكبر إلى جيش أجنبي في الأراضي الأفغانية. فلم تفتقر إلى دوافع.
لدينا إذن تجربة مُرَّة مع التطرف السياسي الإسلامي، الذي يتلقف الدعم مُستَضْعَفاً، ويُبرز أنيابه بعد التمكين. لكن الدول الداعمة للنظام الجديد في سوريا عوَّلت على استفادة قيادته من التجارب السابقة، وأبرزها أن التسامح مع المتطرفين داخل الصفوف ليس مشكلة للعالم الخارجي فقط، بل لهم أيضاً. قادة المجاهدين في أفغانستان فقدوا السلطة عقب النصر، واستولى عليها الأكثر تطرفاً، مدعوماً بالمقاتلين الأجانب. وحوَّلوا في تجربتهم الأولى أفغانستان إلى معمل لأكثر الأفكار الجهادية تطرفاً وخيالاً وبعداً عن الحسابات الواقعية. والنتيجة، عادت الحرب وعاد الدمار.
طرحُ تلك الأفكار بصراحة ليس موجهاً ضد الاستقرار في سوريا، بل لصالح تحقيقه. لا يخدم بقايا النظام القديم، بل يخدم مستقبل سوريا. رغم المشاعر الملتهبة بعد فجائع نظام الأسد لا بديل عن صيغة تحتوي الجميع، فتعزل المتطرفين. والتأييد الواسع للاتفاق الذي جرى بين الإدارة السورية و«قسد» دليل. أثبت أن الغالبية تريد قيادة تستوعب تنوع المجتمع، وأن الداعين إلى المواجهة والحسم العسكري أقلية متطرفة لا تتحلى بالمسؤولية. كلما شارك مكون من مكونات المجتمع السوري في إدارته كان مكسباً أكبر من أي انتصار بالسلاح. وكلما انضمت مجموعة زاد الضغط على الممتنعين لكي يلتحقوا، وتراجَعَ خطر المجموعات المتطرفة، سواء من مؤيدي السلطة أو من معارضيها.
مراحل التأسيس حرجة. تدفعنا الرغبة في الاستمرار إلى إغفال إشاراتها، فننحرف عن الأمل إلى الرجاء. هي الفرصة الوحيدة للبناء على أسس تخدم المصلحة الراسخة. تضمن لسوريا الاستقرار وتسهل المهمة على داعميها. التأييد الإقليمي قرض ائتماني، يحتمل المخاطر دون الخطوط الحمراء وأبرزها النزاع الطائفي.
اعتقد بشار الأسد أن لديه خطاً قاعدياً يضمن له البقاء مهما فعل. واعتقاده هذا أضره، جعله لا يخاطر بالإصلاح المطلوب. فانزلق على قشور كلام محبيه المُهلِكة. للسياسة طرق ناعمة كالرمال، يعرف مكامن خطورتها خبراء الصحراء، فيما يسير إليها الهواة بعينين غافلتين.
الشرق الأوسط
———————————–
كيف سينعكس اندماج قسد في الدولة السورية على اقتصاد البلاد؟/ شام السبسبي
19/3/2025
دمشق – بعد ترقب دام لأكثر من 3 أشهر، وفي خطوة وصفت بأنها تحول مهم بتاريخ سوريا، وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي يوم 10 مارس/آذار الجاري اتفاقا يقضي باندماج قوات قسد ضمن مؤسسات الدولة، في وقت أكد فيه الاتفاق على وحدة الأراضي السورية ورفض مشاريع التقسيم.
ونص الاتفاق أيضا على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية في شمالي شرقي سوريا ضمن مؤسسات الدولة السورية بما في ذلك المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز.
من جهته، قال قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي قبل أيام إن قسد تعتزم دمج قواتها ضمن وزارة الدفاع السورية تحت مسمى “الفيلق 76″، الذي يلتزم بتنفيذ المهام الموكلة إليه في كافة أنحاء البلاد، في حين سينتشر جزء آخر من قواته على الحدود لتعزيز الأمن والاستقرار.
وأضاف عبدي، في تصريحه لشبكة آسو الإخبارية، أنه سيتم إلغاء كافة حراقات النفط شرقي البلاد، كما ستُنقل جميع صهاريج النفط الخام إلى مصافي الدولة السورية.
اتفاق تاريخي وانفراجة
ويصف الخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم الاتفاق بـ”التاريخي”، معتبرا أنه سيقضي على فكرة نشوب حرب مدمرة على الاقتصاد السوري.
الرئيس السوري (يمين) وقائد قوات سوريا الديمقراطية بعيد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار (الفرنسية)
وأشار الكريم في حديث للجزيرة نت إلى أن الاتفاق لا يزال في المرحلة التجريبية لمدة 6 أشهر، متحدثا عن الأثر الإيجابي للاتفاق على الواقع الاقتصادي في البلاد، وذلك عبر:
الاستفادة من الترخيص الخاص بالإدارة الذاتية من قانون قيصر.
الإسهام في تجميد عقوبات الاتحاد الأوروبي بشكل فعال.
تجاوز مشكلة الإمدادات النفطية والكهرباء عبر استجرارها وجلبها من مناطق الإدارة الذاتية.
ويوضح الكريم أن الاتفاق يمنح الحكومة السورية شرعية دولية، وهذا يدعم تعليق العقوبات لستة أشهر إضافية.
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي السوري أيمن عبد النور أن الاتفاق يسهم بتحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد و”هذا أمر محسوم”، لكن نسبة التحسن تلك تظل متوقفة على مدى مساهمة المجتمع الدولي بتحقيق وتيسير هذه الانفراجة.
واعتبر عبد النور، في حديث للجزيرة نت، أن الاتفاق بمثابة مظلة سياسية، لكن تطبيق وإنجاح الاتفاقات الاقتصادية والأمنية الدقيقة يحتاج إلى تفعيل البند الأخير منه؛ وهو تشكيل لجان تنفيذية تشرف على تطبيق الاتفاق وحل النقاط الخلافية، وهي النقاط الأخطر التي قد “تفجر الاتفاق”، على حد تعبير الخبير.
الطاقة والمحروقات
يرى الكريم أن الاتفاق يحقق منافع عديدة لقطاع الطاقة على المدى القريب، إذ أصبح بالإمكان “تأمين النفط والغاز من مناطق الإدارة الذاتية المُعفاة والمُستثناة من قانون قيصر عبر استغلال تعليق بعض العقوبات، مما يتيح بيع النفط إلى الخارج وتوفيره للداخل، وبالتالي تشجيع الدول الأخرى على التعاون مع سوريا”.
ويضيف الكريم أن ثمة إمكانية أيضا للاستفادة من تعليق العقوبات على البنك المركزي، والسماح بالتعامل معه لتأمين قطع الغيار لمؤسسات البنية التحتية وتحديدا الكهرباء.
وهو ما يذهب إليه أيضا عبد النور، الذي يعتبر أن الاتفاق وفر الإمكانية لتأمين المحروقات لسوريا بشكل أفضل في المرحلة المقبلة، لكن للحصول على أفضل النتائج وأكبر المنافع من الاتفاق لا بد من رفع كامل للعقوبات، لأن رفعها يتيح للشركات الكبرى -الأميركية بشكل خاص- الدخول إلى سوريا والعمل على تحسين كل الطاقات الإنتاجية للآبار النفطية، وفق تقديره.
ويشير عبد النور إلى أن الاتفاق أتاح للحكومة السورية الإمكانية لاستجرار الكهرباء وتوليدها لكافة محافظات البلاد، غير أن ذلك يحتاج إلى توفير الأموال اللازمة، لأن عملية استجرار وجلب الكهرباء ستكون مكلفة، الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار.
وكان نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد يعتمد على استجرار إمدادات النفط من مناطق الإدارة الذاتية وإيران، ذلك بعد خروج مجمل آبار النفط عن سيطرته ابتداء من عام 2012، وكان يؤمن حوالي 50 ألف برميل يوميا، في وقت يبلغ فيه متوسط الطلب على النفط في سوريا حوالي 100 ألف برميل يوميا.
الذهب الأصفر
وعلى الجهة الأخرى، يشير الكريم إلى أن هذا الاتفاق يدفع باتجاه:
تأمين المورد الغذائي لكافة أنحاء سوريا خلال العام المقبل على الأقل، وخاصة مادة القمح الغنية بها مناطق شمالس شرقي سوريا.
تحسين إيرادات الحكومة والتي كانت تُستنزف سابقا في توفير المحروقات والمواد الغذائية.
تأمين الاستقرار النقدي، لوجود كتلة مالية ضخمة جدا من النقد المحلي والأجنبي في مناطق الإدارة الذاتية.
ويعتقد الكريم أن نجاح هذا الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية يسهم على المدى الطويل في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد بالاعتماد على الإنتاج المحلي، ويحسن من الاحتياطي النقدي.
في حين يؤكد عبد النور أن “الوفرة في مادة القمح بعد الاتفاق تعني أولا تأمين مادة الخبز بصورة أكبر، وبالتالي انخفاض سعرها بعد أن سجل ارتفاعا في الشهور الأخيرة، وثانيا تأمين مادة الشعير الضرورية للثروة الحيوانية، والتي كانت في السابق تستورد من مناطق قسد المنتج الأول لها”.
يُذكر أن غلال محاصيل القمح قد تراجعت بصورة كبيرة في المناطق التي كان يسيطر عليها النظام السوري المخلوع، والتي كانت تساوي نحو 70% من مساحة البلاد، وذلك على خلفية خروج عدة مناطق رئيسية منتجة للمادة في شمالي شرقي البلاد عن سيطرته.
وكان إنتاج سوريا من مادة القمح تجاوز في عام 2010 حاجز 3 ملايين طن سنويا، لكنه انخفض تدريجيا في السنوات اللاحقة ليصل مع عام 2024 إلى 720 ألف طن فقط، في حين قدّرت مصادر حكومية حاجة البلاد من المادة بـ2.5 مليون طن سنويا.
عودة مستثمرين وإعادة الإعمار
وعلى المدى المتوسط يمكن للاتفاق أن يشجع على زيادة الحوالات المالية إلى سوريا من قبل الكيانات الخارجية (من بينهم الأفراد)، مستفيدين من الاستثناء الخاصة من العقوبات الاقتصادية الغربية بمناطق قسد، والرخصة الأميركية للبنك المركزي، وبذلك يمكن الالتفاف على هذه العقوبات وتشجيع عودة الكثير من المستثمرين السوريين لضخ الأموال للبنية التحتية، وفقا للكريم.
أما للاستفادة من الاتفاق على المدى الطويل، فيرى الخبير أن المسألة ترتبط بالبنية التشريعية والقانونية الصادرة عن الحكومة الجديدة، وتعيين حكومة يقبل بها الغرب، مما يسهم في تمديد الترخيص وتجميد العقوبات.
ويشير الكريم إلى أن زيادة الاستثمارات ستؤدي إلى تحريك عجلة الاقتصاد، ويقول إن هذا الاتفاق من شأنه تخفيف الضغط على العملة الصعبة بالاعتماد على الاكتفاء الذاتي والموارد المحلية.
وسيساعد الاتفاق على إطلاق عملية إعادة الإعمار، وخاصة في البنية التحتية نتيجة الوفرة المتوقعة للمحروقات التي تعد عصب الصناعة وعصب إعادة الإعمار، بحسب الخبير.
ووفق الكريم يؤدي فتح الأسواق بين مناطق الحكومة السورية ومنطقة الإدارة الذاتية -التي يعيش فيها حوالي 4 ملايين شخص- إلى تحسين حركة التجارة، وبالتالي زيادة الإنتاج واستقطاب قوى عاملة جديدة وتخفيض مؤشر البطالة، وتخفيف الاحتقان الحاصل في سوريا نتيجة عمليات التسريح في الشهور الأخيرة.
المصدر : الجزيرة
————————-
انعكاسات رفض جهات كردية الإعلان الدستوري على اتفاق قسد ودمشق/ عمار دروبي
19/3/2025
أنقرة- أثار اعتراض كيانات سياسية كردية سورية -على الإعلان الدستوري الناظم للمرحلة الانتقالية في سوريا- مخاوف من تأثيرات سلبية على الاتفاق الأخير بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وحكومة دمشق الجديدة، والذي ينتظر أن تعقبه مرحلة جديدة ومنعطف تاريخي في البلاد التي أنهكتها الحرب.
ووصفت “الإدارة الذاتية” في شمالي شرقي سوريا -والتي تمثل الواجهة المدنية لـ”قسد”- الإعلان الدستوري الصادر من دمشق بأنه “مماثل لسياسات حزب البعث السابقة”، معتبرة أنه يفتقر إلى معايير التنوع الوطني السوري “ويخلو من بصمة أبناء سوريا من الأكراد والعرب والسريان والآشوريين وغيرهم من المكونات”.
كما اعتبر المجلس الوطني الكردي الذي يضم عدة أحزاب كردية سورية الإعلان الدستوري بأنه بعيد عن التطلعات نحو بناء دولة ديمقراطية تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوري.
وأكد المجلس في بيان، أول أمس الاثنين، أنه يدعم مطالبات منظمات المجتمع المدني والفعاليات الاجتماعية بتعديل الإعلان الدستوري، بما يضمن حقوق الأكراد والمكونات كافة.
موقف سياسي
ويخشى أن ينعكس موقف تلك الكيانات الكردية سلبا على الاتفاق الذي وقعه الرئيس السوري أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي في 10 مارس/آذار الحالي، والذي وصف بأنه “تاريخي” لما يتضمن من إدماج قوات “قسد” في مؤسسات الدولة وتأكيد وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم.
ويصف عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوري السوري، أحمد القربي، الرفض الكردي بأنه يستند إلى موقف سياسي أكثر مما هو موقف مرتبط بطبيعة الإعلان، مشيرا إلى وجود تيارات سياسية في “قسد” ترفض الاتفاق مع دمشق، وتحاول التشويش عليه من خلال وضع العصي في الدواليب.
واستبعد القربي -في حديث للجزيرة نت- أن يؤثر موقف هذه الكيانات الكردية السورية سلبا على نجاح الاتفاق بين الإدارة السورية وقوات قسد، مؤكدا أن المبادئ الأساسة “أمر متوافق عليه بين الجانبين ويرتبط نجاح تطبيقه بالمواقف الدولية لاسيما الأميركية والتركية”.
وأعرب عن اعتقاده أن تنفيذ الاتفاق يتعلق أيضا بالمواقف ضمن مكونات قوات قسد ورغبتها بالانخراط ضمن الدولة السورية الجديدة من عدمه، لافتا إلى أن الإعلان الدستوري يستخدم “شماعة” من تلك الكيانات الكردية التي عبرت عن رفضه.
وشدد الحقوقي السوري على ضرورة النظر إلى الإعلان الدستوري بأنه ناظم لمرحلة انتقالية في سوريا، وليس دستورا دائما للبلاد.
ورقة ضغط تفاوضي
ومن المقرر أن تجتمع لجنة شكلتها الرئاسة السورية أخيرا مع قائد قسد، يوم غد الأربعاء، بهدف استكمال الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في دمشق، وسط تجاذبات وتطورات عدة في الموقف الكردي.
في حين كشفت مصادر للجزيرة نت أن كيانات كردية تعتزم تشكيل وفد مشترك لزيارة دمشق، وبحث تداعيات الاتفاق الأخير مع قوات قسد وبدء عملية تفاوض جديدة.
ورأى الأكاديمي والمحلل السياسي الكردي فريد سعدون أن ما أزعج الكيانات الكردية ومنها المجلس الوطني الكردي عدم إشراكها في الرأي والإعداد للإعلان الدستوري السوري، وعدم تضمن الإعلان بندا خاصا بالقضية الكردية.
وقال سعدون للجزيرة نت إن البيانات الكردية والمظاهرات الرافضة للإعلان الدستوري “ورقة ضغط سياسي أولا، وتحشيد للرأي العام ثانيا، ورسالة إلى المجتمع الدولي ثالثا”، وأشار إلى أن الموقف الكردي سيعزز الورقة التفاوضية لديه خلال المرحلة المقبلة، مما يدفع بالاتفاق نحو التنفيذ أكثر منه نحو العرقلة.
لكن الباحث في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان اعتبر أن هناك انقساما في الموقف الكردي السوري، حيال الاتفاق الأخير مع حكومة دمشق، مؤكداً أن “الإدارة الذاتية” ومجلس سوريا الديمقراطية “مسد” يرفضان مبدأ التقارب مع الإدارة السورية الجديدة.
وأوضح علوان للجزيرة نت أن تنفيذ الاتفاق لن يتأثر بشكل رئيس بالإعلان الدستوري “بل بالانقسام الحاد في الموقف الكردي” لافتا إلى أن الموقف الغربي لاسيما الأميركي سوف يضغط لمنع إحداث انقسامات كبيرة في شمالي شرقي سوريا حيث يسيطر الأكراد.
وبحسب علوان، فإن الأطراف كافة ستحاول الحفاظ على الخطوط العريضة للاتفاق بين “قسد” ودمشق، خصوصا الحكومة السورية، فيما ستكون التفاصيل بتنفيذه هي المشكلات التي ستعترض طريقه.
المصدر : الجزيرة
———————————
وفد من دمشق يصل الحسكة لبحث تنفيذ الاتفاق مع قسد
دبي – العربية.نت
19 مارس ,2025
على الرغم من منع الحكومة السورية قواتها من التوجه لمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الوقت الراهن، قررت تنفيذ الاتفاق على ما يبدو.
تركيا: سنراقب خطوات تنفيذ اتفاق دمشق وقسد
العرب والعالم تركيا: سنراقب خطوات تنفيذ اتفاق دمشق وقسد
وفد من دمشق يصل الحسكة
فقد أفادت مصادر “العربية/الحدث” اليوم الأربعاء، بأن وفداً من دمشق وصل الحسكة.
وأضافت أن هذا الوفد توجه شرقاً لبحث تنفيذ الاتفاق مع قسد الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع في 10 مارس/آذار 2025 مع القائد العام لتلك القوات مظلوم عبدي، ويقضي باندماجها في الجيش السوري ومؤسسات الدولة الأخرى.
جاء هذا بعد أيام من إعلان الرئاسة السورية أن قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على جزء كبير من شمال شرق البلاد، وقعت اتفاقا للانضمام إلى مؤسسات الدولة الجديدة.
ويقضي الاتفاق بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية التي تسيطر عليها “قسد” بشمال شرق البلاد مع الدولة، مع وضع المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز هناك تحت سيطرة إدارة دمشق.
كما أتى في وقت عصيب من عمر سوريا بعد أحداث الساحل السوري ومقتل العشرات إثر اشتباكات مع فلول من النظام السابق، في تطور قال عنه الرئيس الشرع إنه يهدد جهوده الرامية للم شمل البلاد بعد الصراع الذي دام 14 عاما.
أمل بواقع أفضل
يذكر أن الاتفاق يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية التي تسيطر عليها “قسد” بشمال شرق البلاد مع الدولة، مع وضع المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز هناك تحت سيطرة إدارة دمشق.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع وقعه في 10 مارس/آذار 2025 مع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” مظلوم عبدي في دمشق، ما فتح باب الأمل لدى السوريين بتحسين الواقع الخدماتي المتردي للبلاد بعد 14 عاما من حرب طاحنة، خصوصا وأنها تسيطر كل مناطق الموارد في البلاد.
————————————
عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة/ رمزي عز الدين رمزي
التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي
آخر تحديث 18 مارس 2025
كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار “اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”. كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن “يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا”.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.
أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم “ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي” كما ينص القرار 2254.
غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.
لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.
ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك… غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.
جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.
إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.
كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ “رجل واحد– صوت واحد” يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.
ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.
ثالثا، الاتفاق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل “قوات سوريا الديمقراطية” على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.
رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.
أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.
ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.
يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.
لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.
وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.
ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.
المجلة
————————————–
تركيا والتصعيد ضد أكراد سوريا… ما هي خيارات إدارة الشرع لحسم هذا الملف؟/ محمد سليمان
الثلاثاء 18 مارس 2025
في الشرق الأوسط، عندما تتحرّك الجغرافيا تتحرّك المصالح، وعندما تشتعل الحدود يكون هناك دائماً طرف ثالث يراقب بصمت، متحيّناً الفرصة. هذا ما يحدث راهناً في سوريا حيث تهاجم تركيا مناطق تركّز الأكراد في شمالها، وكأنما تحاول فرض نفسها كقوة لا يمكن تجاهلها في المعادلة السورية، حتى لو كان ذلك على حساب مزيد من الفوضى في البلد الذي لم تستقرّ أوضاعه منذ إسقاط نظام الأسد، نهاية العام المنقضي، وحتّى لو أحرجت هجماتها الحكومة السورية الجديدة التي وقّعت قبل أيام اتفاقاً وصفه السوريون بـ”التاريخي”، مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
جاء تكثيف الهجمات التركية أخيراً، متزامناً مع تصاعد الاشتباكات على الحدود السورية اللبنانية، ما دفع البعض إلى التشكيك في أن تكون هذه المواجهات غير مقصودة، وعدّها مدفوعةً بشيء أكبر من مجرد اشتباكات متفرّقة. ويبقى السؤال: من المستفيد من إشعال هذه الجبهة الآن؟
برغم أنّ الأحداث تبدو منفصلةً، إلا أنّها في الواقع تشكّل أجزاء من مشهد إقليمي واحد، حيث الفوضى ليست عرضاً جانبياً، بل هي عامل أساسي في اللعبة، حتّى إسرائيل التي تتابع المشهد وكأنها تلعب الشطرنج، تحرّك الأحجار هنا وهناك، وتنتظر أن ينهار كل شيء لصالحها.
في هذا التقرير، يحاول رصيف22، الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تحليلات وآراء مجموعة من الناشطين والباحثين المتخصصين في الشأن السوري وتقاطعاته الإقليمية والدولية.
تركيا والأكراد والحكومة السورية… ماذا تريد أنقرة؟
منذ بدء تصعيد تركيا والفصائل الموالية لها، ضد مواقع “قسد”، في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان، مقتل 654 شخصاً، بينهم 66 مدنياً. وبينما تتواصل الاشتباكات والاستهدافات على محورَي سدّ تشرين وجسر قره قوزاق، يقول المرصد إنّ الهجمات التركية الأخيرة تشكّل “تصعيداً غير مسبوق، في وقت تحاول فيه أنقرة فرض واقع ميداني جديد”.
“استمرار الهجمات التركية على الكُرد في سوريا، برغم التقارب مع دمشق، ما هو سوى استمرار للسياسة التركية المعلنة منذ سنوات، والتي تهدف إلى إضعاف الوجود الكردي على طول حدودها. تركيا لم تكتفِ بالتدخل العسكري واحتلال أجزاء من الأراضي السورية، بل تواصل عمليات القصف واستهداف سبل عيش المدنيين بشكل ممنهج”. هذا ما يقوله المدير التنفيذي لرابطة “تآزر” للضحايا، عز الدين صالح، في حديثه إلى رصيف22، ويضيف: “بصرف النظر عن الاتفاق بين الحكومة السورية و’قسد’، فإنّ مسؤولية حماية جميع المواطنين تقع على عاتق الدولة السورية، لذا يجب عليها التحرّك بشكل فعّال لحماية سيادتها ومنع تركيا من استهداف أراضيها ومواطنيها”.
ويؤكد صالح، أنّه بعد توقيع الاتفاق مع “قسد”، الذي ينصّ على دمجها في الجيش السوري الجديد، يتوجّب على الدولة السورية تفعيل الدبلوماسية مع تركيا والدول الحليفة والمجتمع الدولي، من أجل الضغط على تركيا لوقف هجماتها غير القانونية، والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عنها.
ويختم صالح، حديثه بالتأكيد على أنّ حماية السوريين والسوريات دون تمييز، وضمان عودة المهجّرين إلى مناطقهم بأمان وكرامة، يجب أن يكونا أولويةً وطنيةً للحكومة السورية في المرحلة القادمة.
الرؤية التركية لسوريا… بين المخاوف والفرص
من جهته، يرى الناشط المدني حسين الشبلي، أنه لا يمكن فهم الرؤية التركية لسوريا بمعزل عن تقييم تركيا للمنطقة عموماً، فالدولة التركية تعي طوفان الشرق الأوسط الجديد وتتمنى الاستفادة منه بقدر ما تخشى مخاطره، لذلك ترى الفرصة السورية نعمةً و نقمةً في آن واحد.
كما يؤكد الشبلي، أنّ وحدة سوريا بالنسبة لتركيا، ليست مجرّد قضية سياسية، بل هي مسألة اقتصادية وإستراتيجية حيوية. فسوريا الموحّدة تعني طريقاً للطاقة نحو أوروبا، ما يجعلها ممراً حيوياً لمصالح تركيا الاقتصادية، وفرصةً لترسيم الحدود البحرية مع دمشق، وهو ملف بالغ الأهمية لأنقرة، وغنيمة اقتصادية لشركاتها في إعادة الإعمار، حيث تسعى لتكون طرفاً رئيسياً في إعادة بناء سوريا، وتجديد خط سكة حديد الحجاز نحو الخليج، وهو مشروع تاريخي يحمل أبعاداً اقتصاديةً وإستراتيجيةً كبرى، إذ يربط تركيا بأكثر الأسواق استهلاكاً في المنطقة.
القضية الكردية… مفتاح خرائط المنطقة
إلى ذلك، يؤكد الشبلي، أنّ “تركيا تدرك أنّ القضية الكردية ليست مجرد ملف داخلي، بل هي عامل مؤثر في إعادة تشكيل المنطقة عموماً، لذا فإنها تتعامل مع قسد بحذر شديد، خوفاً من امتداداتها الإقليمية والدولية”.
كما يلفت إلى أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يسعى إلى تحقيق اختراق في ملف الأكراد داخل تركيا وتقديمه كإنجاز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصةً مع تصاعد شعبية منافسه، عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو. لهذا، لا يريد أردوغان إنهاء الصراع في سوريا بطريقة تفتح جبهةً كرديةً جديدةً داخل تركيا.
وبناءً على ذلك، يقول الشبلي، إنّ زيارة الوفد التركي إلى دمشق بعد الاتفاق بين “قسد” والأخيرة، أرادت أنقرة من خلالها إيصال رسالة مفادها أنه لا يمكن حلّ القضية الكردية في سوريا بشكل منفصل عن القضية الكردية داخل تركيا.
ما الذي تريده تركيا من “قسد”؟
يرى الشبلي، أنّ ما تريده تركيا من “قسد”، فعلياً، يتلخص في “التخلّي عن أجندتها الأممية، كما فعلت هيئة تحرير الشام سابقاً، والتحوّل إلى فصيل سوري يطالب بالمحاصصة داخل حكومة دمشق، لا أكثر، والانفصال نهائياً عن حزب العمال الكردستاني (PKK)، وإخراج عناصره من سوريا، وإنهاء بنيتها العسكرية، حتى لا تتحوّل إلى نموذج منظّم يشبه النموذج التركي في سوريا”.
ويشدّد على أنّ “تركيا لا تريد أن تبقى القضية الكردية ذات طابع نضالي، سواء في سوريا أو داخل أراضيها، لأنها تدرك أن ذلك قد يفجّر الداخل التركي، خاصةً مع تآكل الهوية الأتاتوركية لصالح هوية عثمانية إسلامية غير قادرة على استيعاب الأكراد ذوي التوجهات اليسارية”.
ما الذي يجب أن تفعله دمشق؟
أما في ما يخصّ ما ينبغي على الحكومة السورية الحالية فعله، إذا أرادت حكومة دمشق تقليل المخاوف التركية والكردية على حد سواء، فيقول الشبلي، إنّ عليها التحرّك بسرعة لخلق بيئة أكثر استقراراً، وإرسال رسائل واضحة إلى جميع الأطراف بأنّ سوريا لن تكون ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية.
فضلاً عن ذلك، يحثّ الشبلي، الإدارة الحالية أيضاً على “تفكيك أسباب القلق التركي من خلال طمأنة أنقرة بأنّ وحدة سوريا تعني أيضاً منع أي شكل من أشكال الانفصال الكردي”، و”إيجاد تسوية للقضية الكردية داخل سوريا بحيث تصبح ‘قسد’ جزءاً من الدولة السورية، دون أن تكون أداةً لأجندات خارجية”، و”إعادة هيكلة الجيش السوري ليصبح أكثر توازناً وتمثيلاً للمكوّنات كافة، ما يجعله قادراً على فرض سيادته ومنع أيّ تدخلات خارجية”.
كذلك، يرى الشبلي، في “تشكيل حكومة أكثر شموليةً وتمثيلاً للأطياف كافة، بما يخلق إجماعاً داخلياً ودولياً لدعم المرحلة الانتقالية في سوريا، عاملاً لا يمكن تجاهله لإنهاء هذا الملف”.
ومن وجهة نظر الشبلي، أيضاً، أنّ تركيا ترى في ظلّ استمرار الهجمات، صعوبة تقدير التقلّبات في المنطقة وعدم استقرار سوريا بعد، لذلك، وتجنّباً لأيّ سيناريو فوضوي وتفادياً لكل المخاطر التي سبق ذكرها، تنوي خلق منطقة عازلة واحتلال عين العرب (كوباني)، معرباً عن اعتقاده بأنّ “أنقرة لا تنوي ترك أمنها القومي عرضةً للصدفة لخاطر حكومة دمشق”.
إذاً، لا يبدو أنّ تركيا ستترك أمنها القومي عرضةً للمجهول، ولا سيّما أنّ المنطقة لا يبدو أنها تتجه إلى الاستقرار في المدى المنظور. والسؤال المهم هنا: هل تستطيع دمشق استباق الأحداث وتجنّب سيناريوهات أكثر تعقيداً؟ ربما الأيام كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.
هل إسرائيل المستفيد الأكبر؟
سؤال آخر لا يقلّ إلحاحاً، يتعلّق بإسرائيل المتربّصة بما يحدث في سوريا، والتي لم تفوّت الفرصة منذ إسقاط نظام الأسد، لتدمير القدرات العسكرية للجيش السوري من جهة، واحتلال الأراضي السورية من جهة ثانية، ومحاولة تأليب بعض الدروز على محيطهم من جهة ثالثة لمنح احتلالها أراضيهم شرعيةً بينما هدفها الأساسي توسيع نفوذها.
في هذا السياق، يقول الناشط الفلسطيني السوري أحمد إبراهيم، لرصيف22، إنّ “استمرار إسرائيل في استهداف الأراضي السورية، جزء من المخطط الصهيوني الذي يسعى إلى ضرب القدرات العربية، وإضعاف أيّ قوة قد تشكل تهديداً لهذا الكيان”. ويشدد على أنّ إسرائيل تختلق الذرائع لتنفيذ مخططاتها العدوانية، فبعد أن كانت تبرّر هجماتها سابقاً بوجود القوات الإيرانية وقوات حزب الله اللبناني على الحدود القريبة منها، أصبحت اليوم تستهدف سوريا بحجة أنّ النظام الجديد متطرّف ويجب منعه من امتلاك أي قدرات عسكرية، ولا سيّما في الجنوب السوري.
“على الحكومة السورية الحالية، إذا أرادت تقليل المخاوف التركية والكردية على حدّ سواء، التحرّك بسرعة لخلق بيئة أكثر استقراراً، وإرسال رسائل واضحة إلى جميع الأطراف بأنّ سوريا لن تكون ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية”
وينبّه إبراهيم، إلى أنّ الهدف الحقيقي لإسرائيل من اعتداءاتها الراهنة على الأراضي السورية، هو إخراج سوريا من دائرة أي صراع عربي مع إسرائيل، وتدمير قدراتها العسكرية بغض النظر عن الجهة الحاكمة، لدفعها نحو “التطبيع أو السلام” الذي تزعمه تل أبيب، برغم معرفتها بأنّ السلام الحقيقي لا يمكن أن يتحقّق إلا بزوال الاحتلال.
تقاطعات الوضع السوري والقضية الفلسطينية
كما يؤكد أنّ “المشروع الصهيوني، منذ نشأته، لم يكن يقتصر على احتلال فلسطين فحسب، بل كان يهدف إلى إقامة ‘إسرائيل الكبرى’ من الفرات إلى النيل، بما يشمل أراضي من الجزيرة العربية والأردن ولبنان. والشعب الفلسطيني، برغم كل الضغوط والمعاناة، لا يزال يقف سدّاً منيعاً أمام تنفيذ هذا المخطط، حيث لم تشعر إسرائيل بالأمان منذ 77 عاماً بسبب استمرار المقاومة”.
كذلك يشدد إبراهيم، على أنّ إسرائيل التي تحاول استغلال الظروف الراهنة في سوريا للسيطرة على مواقع إستراتيجية واقتصادية، لا تزال تواجه واقعاً مغايراً لطموحاتها، حيث إنّ الشعب السوري وإدارته الجديدة، كما هو الحال في الجنوب اللبناني، يرفضان الاستعمار والاحتلال ويصرّان على الدفاع عن أرضهما.
وفي ما يتعلّق بتأثير هذه الأحداث على القضية الفلسطينية، يشير إبراهيم إلى أنّ توسّع إسرائيل في جرائمها لا يزيدها إلا ضعفاً، إذ تتزايد الأصوات الدولية المنددة بجرائمها، كما أنّ الضغط الشعبي على الحكومات يتصاعد لوقف هذه الانتهاكات.
رصيف 22
——————————–
انتهاء أولى جولات التفاوض بين دمشق وقسد.. ما التوصيات الأميركية للطرفين؟
2025.03.19
كشفت مصادر خاصة لموقع “تلفزيون سوريا” عن انتهاء الجولة الأولى من اجتماعات اللجنة الحكومية السورية مع كل من قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، ومسؤولين أميركيين، في القاعدة العسكرية بمدينة الشدادي بريف الحسكة.
ووفق المصادر، ترأس الوفد الحكومي السوري حسين سلامة، المحافظ السابق لدير الزور، بينما مثَّلَ “قسد” القائد العام مظلوم عبدي. واستمرت الجلسات لساعتين، ووُصفت بأنها تمهيدية لجولات تفاوضية مقبلة.
محادثات ثلاثية وجلسة أميركية منفصلة
وتألفت الجولة الأولى من ثلاث جلسات، كان آخرها اجتماع بين الوفد الحكومي والفريق الأميركي من دون مشاركة “قسد”، وفق ما أفادت به المصادر.
وخلال هذا اللقاء، أبلغ المسؤولون الأميركيون الوفد الحكومي السوري بأن واشنطن “متعاونة بأعلى المستويات لدعم جهود إحلال السلام في سوريا”.
وأكدت المصادر أن الوفد الحكومي غادر الحسكة عقب انتهاء الاجتماعات، وسط أجواء وصفت بالإيجابية، مع الاتفاق على استمرار المحادثات مستقبلاً.
في السياق ذاته، أشارت المصادر إلى أن الفريق الأميركي دفع “قسد” نحو تعزيز علاقاتها مع الحكومة السورية، ما قد يمهد لمزيد من التقارب بين الطرفين خلال الجولات المقبلة من المفاوضات.
8 لجان لبحث قرار الدمج
وكان الناطق الرسمي باسم “قوات الشمال الديمقراطي” التابعة لـ “قسد”، محمود حبيب، قال إنه تم الاتفاق على تشكيل ثماني لجان تبحث كامل القضايا التي يجب بحثها ضمن اتفاق إدماج “قسد” في مؤسسات الدولة السورية.
وفي تصريحات لقناة “المملكة” الأردنية، أوضح حبيب أن اللجان “ستبحث كل القضايا الأمنية والعسكرية والإدارية والحكومية”، مشيراً إلى أنها ستصل إلى “نهاية تسعد الجميع، ولا يجب أن يكون في سوريا غالب ومغلوب”.
واعتبر أن “للاتفاق عدة مزايا، إذ إنه أكد على وحدة الأراضي السورية ووحدة القوة العسكرية في سوريا، حين انضمت قوات سوريا الديمقراطية ضمن وزارة الدفاع السورية”، مشيراً إلى أن “السوريين رحبوا بالاتفاق، وظهر ذلك خلال احتفالاتهم بالشوارع، لإدراكهم أهميته على الصعيد الوطني”.
الشرع وعبدي يوقعان اتفاقاً في دمشق
في 10 آذار الجاري، وقع الرئيس السوري أحمد الشرع اتفاقاً مع القائد العام لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مظلوم عبدي، يهدف إلى دمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمالي وشرقي سوريا ضمن هيكل الدولة السورية، مع التأكيد على وحدة الأراضي السورية ورفض أي محاولات للتقسيم.
وتضمّن الاتفاق ثمانية بنود رئيسية، من بينها ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل السياسي والمشاركة في مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة، والاعتراف بالمجتمع الكردي كمكوّن أصيل في الدولة السورية، وضمان حقوقه الدستورية والمواطنة.
كما شمل الاتفاق وقف إطلاق النار في جميع أرجاء سوريا، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي البلاد ضمن إدارة الدولة السورية، بما في ذلك المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز، إضافةً إلى ضمان عودة جميع المهجّرين السوريين إلى مناطقهم مع توفير الحماية اللازمة لهم.
—————————
الأكراد يوحدون مطالبهم.. رؤية سياسية مشتركة تطالب بنظام فدرالي في سوريا
2025.03.19
كشف مصدر مطلع على سير المفاوضات بين المجلس الوطني الكردي (ENKS) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، عن توصل الطرفين إلى اتفاق بشأن المطالبة بإقامة نظام حكم لا مركزي فدرالي في سوريا.
وقال المصدر لموقع “تلفزيون سوريا”، إن وثيقة “الرؤية السياسية الكردية المشتركة” تتضمن المطالبة بسوريا لا مركزية تضمن توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة بين المركز والأقاليم، إضافة إلى إعادة النظر في التقسيمات الإدارية للمحافظات والمناطق السورية وفق معايير الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية.
كما نصت الوثيقة على توحيد المناطق الكردية سياسياً وإدارياً ضمن نظام فدرالي داخل سوريا، إلى جانب التأكيد على ضرورة أن يكون الاسم الرسمي للجمهورية وعلمها ونشيدها الوطني معبّراً عن كل مكونات الشعب السوري، بحسب المصدر.
ووفق المصدر، فإن الوثيقة المكوّنة من نحو 30 بنداً تدعو إلى الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية، وإلغاء المشاريع الاستثنائية التي استهدفت الأكراد، بما في ذلك مشروع “الحزام العربي” وسحب الجنسية خلال الإحصاء الاستثنائي عام 1962.
اجتماع في الحسكة واتفاق وشيك
في السياق ذاته، عقد المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، أمس الثلاثاء، اجتماعاً في قاعدة استراحة الوزير بريف الحسكة، بهدف توحيد الرؤية السياسية الكردية.
وشارك في اللقاء، الذي يعد الأول من نوعه منذ عام 2020، كلّ من المبعوث الأميركي الخاص لمناطق شمال وشرق سوريا، سكوت بولز، وقائد “قوات سوريا الديمقراطية”، مظلوم عبدي.
وأوضح مصدر مطلع أن الاجتماع تركز على مناقشة الرؤية السياسية المشتركة وآلية تشكيل وفد مشترك للتفاوض مع الحكومة السورية، وسط ضغوط أميركية وغربية متزايدة لدفع الطرفين إلى اتفاق نهائي.
وأشار المصدر إلى أن أجواء اللقاء كانت إيجابية، مع تسجيل توافق على أكثر من 90 في المئة من بنود الوثيقة، بينما ما تزال بعض البنود الثانوية بحاجة إلى مزيد من النقاش. ومن المتوقع أن يعلن عن تشكيل وفد مشترك خلال الشهر الجاري، بعد عيد النيروز، للبدء بحوار رسمي مع الحكومة السورية برعاية أميركية وفرنسية.
الحوار الكردي – الكردي.. مسار متعثر منذ 2020
بدأت المفاوضات بين الأحزاب الكردية في سوريا برعاية أميركية في نيسان 2020، بإشراف مباشر من مظلوم عبدي. وعقد الطرفان عشرات الاجتماعات في قاعدة استراحة الوزير العسكرية بريف الحسكة، حيث توصلا إلى تفاهمات حول “الوثيقة السياسية” وإنشاء “مرجعية سياسية” لتوحيد الرؤى والخطاب السياسي.
إلا أن الجولة الثالثة من المفاوضات تعثرت منذ تشرين الأول 2020، نتيجة تصعيد حزب الاتحاد الديمقراطي ضد المجلس الوطني الكردي، حيث شهدت تلك الفترة حرق مقار الحزب، واعتقال وتهديد أعضائه ومسؤوليه.
ورغم العراقيل، ما تزال واشنطن تمارس ضغوطاً كبيرة على الطرفين لاستئناف المفاوضات، في خطوة تهدف إلى توحيد الصف الكردي استعداداً لخوض مفاوضات رسمية مع دمشق.
————————–
====================
====================
عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 19 أذار 2025
تحديث 19 أذار 2025
——————————-
لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
——————-
دعوات انفصال دروز سوريا… قلق أردني في السر والعلن/ طارق ديلواني
القرب الجغرافي يجعل أية تطورات أمنية أو سياسية ذات تأثير مباشر في المملكة
الأربعاء 19 مارس
تشكل دعوات انفصال دروز سوريا، بخاصة في محافظة السويداء، مصدر قلق للأردن لأسباب عدة أهمها الخشية من زعزعة استقرار حدوده الشمالية، وما قد يترتب مستقبلاً على خطر تفكك سوريا مما يزيد من تعقيد المشهد.
تبدي مستويات أردنية عليا قلقاً متزايداً إزاء التطورات المتسارعة في مدينة السويداء السورية، الواقعة على بعد 60 كيلومتراً فقط من حدود المملكة، وعلى مقربة من مدينة الأزرق التي تضم بدورها مكوناً درزياً.
يرجع هذا القلق إلى تصاعد دعوات الانفصال وما قد يرافقها من فوضى أمنية في المنطقة المحاذية للحدود الأردنية، التي لا تبعد سوى مسافة قصيرة أيضاً عن مدينة المفرق والحدود الشمالية للمملكة.
ويرى مراقبون أن هذه التطورات تمثل تهديداً مباشراً للأردن، الذي أكد التزامه وحدة الأراضي السورية ودعمه استقرارها، لا سيما بعد 14 عاماً من المعاناة جراء تداعيات الحرب، خصوصاً تهريب المخدرات والسلاح الذي جعل من الحدود الشمالية بؤرة توتر دائمة.
تغييرات جيوسياسية
لعل أي تصعيد في السويداء سيخلق تداعيات مباشرة على الأردن، سواء من الناحية الأمنية أو الاقتصادية، أو حتى السياسية، مما يدفع المملكة إلى مراقبة ما يجري بحذر والتنسيق مع القوى الدولية والإقليمية لمنع انفلات الأوضاع قرب حدوده.
ويطالب مراقبون بأن يستغل الأردن علاقاته الجيدة مع دروز سوريا، لحماية مصالحه مع التغييرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، فضلاً عن محاولات إعادة تشكيل النفوذ.
وتشكل دعوات انفصال دروز سوريا، بخاصة في محافظة السويداء، مصدر قلق للأردن لأسباب عدة أهمها الخشية من زعزعة استقرار حدوده الشمالية، وما قد يترتب مستقبلاً على خطر تفكك سوريا مما يزيد من تعقيد المشهد، ويستدعي تدخلات إقليمية ودولية، مثل إسرائيل وإيران أو حتى روسيا.
أما المخاوف الديموغرافية فتتمحور بالخشية من حدوث تفاعلات داخلية غير مرغوبة مع وجود أقلية درزية صغيرة في الأردن الذي يسعى إلى استقرار سوريا ووحدتها، لأنه خلاف ذلك يشكل تهديداً مباشراً لأمنه القومي.
وتضم السويداء ممرات تهريب تقليدية خصوصاً للمخدرات والأسلحة، مما يجعلها ذات أهمية أمنية كبرى للأردن.
قلق أم مخاوف
يؤكد المحلل العسكري والإستراتيجي نضال أبو زيد في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، وجود قلق رسمي أردني مما يحدث في السويداء من دعوات للانفصال، لأن ما يهدد وحدة الأراضي السورية من شأنه الإضرار بالمملكة بخاصة مع وجود تشابك أمني اقتصادي، لكنه لم يرتق بعد إلى مخاوف حقيقية، ويضيف “نعم هناك قلق أردني بخاصة أن مدينة الأزرق ذات المكون الدرزي لا تبعد سوى نحو 60 كيلومتراً من مدينة السويداء”.
لكن ما يبدد هذه القلق أردنياً، وفق أبو زيد، هي تصريحات شيخ الدروز في المملكة عجاج مهنا عطا التي تشير إلى أن دروز الأردن منفصلون تماماً عن نظرائهم في السويداء، وليس لديهم النظرة ذاتها.
ويرى أبو زيد أن دروز سوريا أيضاً منقسمون إلى قسمين وليسوا كتلة واحدة، هناك قسم يتبع لشيخ العقل حكمت الهاجري وهو من مؤيدي النظام السوري السابق وهو لا يشكل سوى 25 في المئة من دروز السويداء لذا فإن طروحاته الانفصالية لا تشكل رأي الغالبية، بينما القسم الذي يتبع ليث البلعوس وهو الأكبر ويشكل 75 في المئة من دروز السويداء وهو معارض للنظام السابق وموقفه ليس واضحاً من الإدارة الجديدة في دمشق بعد، لكن لديه شروط للتعاون معها وقد يتوصل إلى اتفاق مشابه للاتفاق الذي وقعه الرئيس أحمد الشرع مع الأكراد (قسد).
تطويق الأردن
على رغم كل ذلك يقول المحلل العسكري والإستراتيجي نضال أبو زيد إن ثمة قلقاً رسمياً أردنياً من الحالة الدرزية في سوريا، خشية أن تمتد آثارها إلى المملكة، موضحاً أن عمان استشعرت مبكراً هذه الحالة والتقطت المخاوف ولا بد من أن يكون لديها خطط للتعامل معها إذا ما تطورت لاحقاً.
ويوضح أن الأردن قلق من دعوات الانفصال في السويداء من باب إتاحة الفرصة لإسرائيل التي تخطط لتطويق المملكة ووضعها بين فكي كماشة من الغرب والشمال، تنفيذاً لأهداف اقتصادية تدعى “ممر داوود”، وهو ممر يضر بالبلد العربي ويستهدفه.
ويعتقد أن إسرائيل دخلت على خط المسألة الدرزية في سوريا أيضاً بهدف السيطرة على غالب الموارد المائية في الجنوب المحاذية للحدود الأردنية.
ولا يستبعد أبو زيد أن يستغل الأردن علاقته الجيدة مع دروز سوريا، التي تعززت عام 2014 عندما طالب الدروز بفتح معبر جديد مع الأردن، تحديداً من منطقة دير الكهف. ويضيف “علاقات الأردن مع الدروز في سوريا إيجابية، وإن كانت لا تشمل جميع أطيافهم، إلا أن ذلك لا يمنع عمان من لعب دور يسهم في فرض الاستقرار في الدولة السورية الجديدة عبر التوصل إلى اتفاق مع جناح ليث البلعوسي”.
وهذا يعني أن الأردن قد يجد نفسه في أية لحظة جزءاً من الأزمة الدرزية، حفاظاً على مصالحه، تماماً كما فعلت تركيا حين تدخلت في الملف الكردي.
الأزرق مدينة إستراتيجية
تعد مدينة الأزرق الأردنية المجاورة للسويداء ذات أهمية إستراتيجية وبيئية، مع تركيبة ديموغرافية متنوعة، بما في ذلك مجتمع درزي صغير لكنه متجذر ومنسجم مع باقي المكونات كالبدو والشركس والشيشان.
تقع الأزرق في محافظة الزرقاء شرق المملكة، وهي من أهم المناطق البيئية والإستراتيجية في البلاد، إذ تشتهر بواحة الأزرق، كما تضم قاعدة جوية، مما يمنح المدينة أهمية أمنية وإستراتيجية كبيرة، ومع انطلاق الأزمة السورية افتتح في المدينة مخيم للاجئين.
ويعود وجود الدروز في الأردن إلى فترات تاريخية مختلفة، حين استقرت مجموعات صغيرة منهم في بعض المناطق، وتحافظ أقلية الدروز في المملكة على خصوصيتها الدينية والاجتماعية، لكنهم مرتبطون تاريخياً واجتماعياً بمحيطهم وغير منعزلين عن مجتمعهم.
نفوذ أردني
تقول مصادر إن الأردن الرسمي بدأ بالفعل اتصالات مع قيادات في السويداء لمصلحة تهدئة المناخ العام والاندماج في الدولة السورية الجديدة، استناداً إلى فرضية وجود نفوذ أردني في الوسط الدرزي ولدى مرجعيات في السويداء منذ الثورة السورية.
ففي يناير (كانون الثاني) 2024، وجه أكبر فصيل عسكري في محافظة السويداء جنوب سوريا، وهو “حركة رجال الكرامة”، خطاباً للأردن دعا فيه المملكة إلى الانتظام بـ”جهود تنسيق” وتبادل معلومات من أجل مكافحة المخدرات في المنطقة الحدودية، بعد قصف جوي قامت به مقاتلات أردنية لجنوب السويداء بسبب عمليات التهريب.
وكان وجهاء عشائر الدروز في الأردن طالبوا عام 2015 عمان بتسليح دروز سوريا في السويداء لحماية أنفسهم، بخاصة من تنظيم” داعش”، لكن السلطات لم تعلق في حينه على هذه الدعوات.
كما كان للأردن تأثير كبير في فصائل الجنوب السوري من خلال ما عرف بغرفة “الموك”، التي أُسست عام 2013 لكنه تراجع بعد 2018 مع اتفاق التسوية الروسي – الأميركي، مع استمرار النفوذ الأمني والاستخباراتي غير المباشر لمراقبة الوضع ومنع التهديدات عبر الحدود.
كان دور غرفة “الموك” التي جمعت في عضويتها دولاً غربية تمويل وتسليح الفصائل المسلحة في الجنوب السوري، بما في ذلك الجيش الحر والتحكم في العمليات العسكرية في الجنوب السوري، إضافة إلى التنسيق الأمني مع الأردن وضبط التهديدات الأمنية القادمة من تلك البقعة، بخاصة من قبل “داعش” و”جبهة النصرة”، وضمان عدم انتقال الفوضى إلى أراضيه.
—————————————–
إسرائيل تعزز الاضطراب في جنوب سوريا وتستغل الانقسامات في السويداء
وزارة الداخلية تنشر اعترافات متهم بالتخطيط «لإثارة الفتن»
دمشق: سعاد جرَوس
18 مارس 2025 م
تواصل إسرائيل توجيه ضرباتها داخل الأراضي السورية والتوغل فيها بالتزامن مع تفاعل الانقسامات في محافظة السويداء، ترتفع وتيرة الاضطراب في مناطق الجنوب السوري وتفتح الاحتمال نحو تصعيد خطير، في الوقت الذي يتطلع فيه السوريون إلى إنهاء حالة الحرب والاستقرار بعد سقوط نظام الأسد وإتمام الثورة عامها الرابع عشر. وذلك في حين كشفت وزارة الداخلية اعترافات لمتهم بالتخطيط لاستهداف الأقليات في سوريا بهدف إثارة الفتن.
دبابة إسرائيلية تقوم بدورية على طول السياج الأمني قبل دخول المنطقة العازلة بين إسرائيل وسوريا قرب قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل (إ.ب.أ)
دبابة إسرائيلية تقوم بدورية على طول السياج الأمني قبل دخول المنطقة العازلة بين إسرائيل وسوريا قرب قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان التي احتلتها إسرائيل (إ.ب.أ)
وبدلاً من الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة لاندلاع الثورة في درعا الذي كان مقرراً الثلاثاء، خرج الأهالي الذين توافدوا من مختلف مناطق المحافظة في تشييع حاشد لضحايا الغارات الإسرائيلية. وتبرر إسرائيل ضرباتها بأنها تستهدف «مراكز قيادة ومواقع عسكرية تحوي أسلحة وآليات عائدة إلى النظام السوري السابق»، بحسب الجيش الإسرائيلي. الذي توغل فجر الثلاثاء، في الطرف الجنوبي لقرية معرية مقابل قرية كويا في منطقة حوض اليرموك بريف درعا الغربي، وقال موقع «درعا24» إن هذه التحركات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية بين وقت وآخر تهدف إلى الاستطلاع.
الباحث في مركز الدراسات جسور، وائل علوان، قال إن إسرائيل «تتعمد استهداف البنية التحتية العسكرية وتدمير ما تبقى من قدرات الدولة السورية، لتمنع سيناريو الاستقرار وتبقي الانقسامات والفوضى بين مختلف المناطق». وإنها تستغل المشهد في سوريا «لتوسيع مدى نفوذها وتدخلها الأمني والعسكري»، لافتاً إلى أن حكومة نتنياهو لا تقوم بتحقيق هذا الهدف الإسرائيلي «بالأدوات العسكرية فقط، بل تسعى إلى استغلال الخلافات الداخلية لاستقطاب أطراف في السويداء وشمال شرقي سوريا، بحيث تمنع من خلالهم تعافي سوريا من التقسيم والفوضى التي جر نظام الأسد البلاد إليها».
اصطفافات السويداء
ولا يزال الانقسام والتباين في المواقف يتفاعلان في السويداء حول الموقف من الاتفاق مع الحكومة في دمشق، وتترجم على الأرض بحوادث عنف متفرقة. ونشبت، الثلاثاء، اشتباكات بين مجموعات من بلدة وقم، غرب السويداء ومجموعة من رعاة الأغنام من أبناء العشائر، وأدت الاشتباكات إلى إصابة شابين إصابات طفيفة، وفق ما أفاد موقع «السويداء 24». وسبق ذلك منع عناصر من مجلس السويداء العسكري المقرب من الزعيم الروحي حكمت الهجري، لإعلاميين محليين من تغطية الوقفة في ساحة الحراك المدني وسط المدينة.
وقالت مصادر محلية في السويداء لـ«الشرق الأوسط»، إن الأمر تم تداركه، لافتة إلى أن هناك مماحكات وتجاذبات دائمة على خلفية الاصطفافات الحاصلة داخل مجتمع السويداء، التي تعمقت بعد سقوط النظام، فهناك «الزعامات الروحية والزعامات العائلية العشائرية، والحراك المدني والفصائل المحلية المسلحة»، وكل مجموعة لها رؤيتها ومخاوفها الخاصة بها حول العلاقة مع الحكومة الانتقالية في دمشق.
وتقول المصادر إن الغالبية في السويداء تجتمع على رفض الكثير من بنود الإعلان الدستوري؛ لأنه لا يلبي طموحات الشعب السوري، إلا أن الفرقاء يختلفون في آليات التعبير عن هذا الرفض، فالحراك المدني يرى أن لا بديل عن الاتفاق مع دمشق وحصر السلاح بيد الدولة وحل الخلافات بالحوار، ويؤيد هذا التوجه الفصائل المحلية المسلحة التي وقَّعت اتفاقاً مع دمشق، تنضم بموجبه إلى القوات السورية وتبقى في السويداء، ومن أبرز الفصائل «حركة رجال الكرامة» و«أحرار جبل العرب».
في المقابل، تتفق الزعامات الروحية الثلاث على التريث في تسليم السلاح، وتنقسم حول الموقف من حكومة دمشق ذات الخلفية الدينية، فالزعيمان حمود الحناوي ويوسف جربوع، يريان أنه لا بد من الحوار معها للتوصل إلى اتفاق، في حين يرفض الزعيم الهجري قبل تقديم ضمانات تتعلق بالمشاركة والتعددية في الحكم.
ويؤيد الهجري المجلس العسكري في السويداء وفصيل «أسود الجبل». وبحسب المصادر، يصرّ الهجري على رفض أي معارضة في السويداء لموقفه من الحكومة بدمشق؛ لأن الأمر متعلق بـ«مصير الطائفة»، بحسب تعبير المصادر التي ترجح أن يكون موقف الهجري مرتبطاً بطموحه إلى استعادة الزعامة السياسية والروحية لعائلته على السويداء عموماً، والتي تعرضت أيام الانتداب الفرنسي للتراجع على خلفية الموقف من الحكومة الوطنية، في حين تصدّر سلطان باشا الأطرش الزعامة السياسية للسويداء.
إلا أنه رغم ذلك، تلفت المصادر إلى توافق الزعامات الروحية الثلاث على ضرورة تجنيب «أبناء السويداء أي صدام دموي»، والدفع باتجاه إقامة «نظام حكم مدني وتعددي، يضم جميع السوريين». وركزت المصادر على أن الخلاف بين الزعامات الثلاث هي الوسائل والأدوات التي يستخدمها كل منهم في تقوية مواقفه، فالهجري الذي برز مع بدء الحراك المدني داعماً له، ساهم بالتواصل معه من قٍبل أطراف دولية بتكريسه زعيماً للحراك، وهو يريد استثمار هذا العلاقات اليوم لتقوية مواقفه، بالإضافة إلى علاقته مع الزعيم الروحي للدروز في الأراضي المحتلة موفق طريف، وهو ما يرفضه الزعيمان الحناوي وجربوع والحراك المدني والفصائل الداعمة لهم.
وعبَّرت المصادر عن الأسف لمحاولة إسرائيل استغلال هذه الخلافات والعمل جاهدة على ضرب الاستقرار في السويداء، وهو ما ينذر باحتمالات خطيرة من شأنها تقويض الاستقرار في جنوب سوريا عموماً.
وعاشت محافظة درعا ليلة عصيبة جراء أكثر من ثلاثين غارة واستهدفت الفوج 175 والمساكن العسكرية واللواء 12، وجميعها في مدينة إزرع، بالإضافة إلى اللواء 15 في مدينة إنخل بريف درعا الشمالي، واللواء 132 في مدينة درعا، وأسفرت الغارات عن مقتل 3 أشخاص، بينهم أحد عناصر الجيش السوري الجديد. كما أسفرت الغارات عن إصابة 22 شخصاً، بينهم أطفال وسيدة. في حين قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي وهيئة البث الإسرائيلية: «إن الجيش الإسرائيلي هاجم مواقع عسكرية جنوب غربي دمشق، وإن الغارات استهدفت مواقع عسكرية في تل المانع بمحيط مدينة الكسوة بريف دمشق».
صورة وزعتها السلطات السورية الجديدة لعناصر يُزعم أنهم من تنظيم «داعش» اعتُقلوا بتهمة التخطيط لتنفيذ تفجير في السيدة زينب
صورة وزعتها السلطات السورية الجديدة لعناصر يُزعم أنهم من تنظيم «داعش» اعتُقلوا بتهمة التخطيط لتنفيذ تفجير في السيدة زينب
جاء ذلك في وقت كشفت فيه وزارة الداخلية السورية وجود جهات تسعى لإثارة «الفتن» في سوريا، وبثت، الثلاثاء، فيديو لما قالت إنه مع «أحد المتهمين بمحاولة استهداف مقام السيدة زينب، وإثارة الفتنة عبر استهداف الطوائف المختلفة في البلاد».
وتضمن مقطع الفيديو المقتضب اعتراف المتهم بأنه شارك في «البدء بالتخطيط لاستهداف مقام السيدة زينب»؛ بغاية «تأجيج الشارع العام والرأي الدولي وإثارة الفتنة». كما تحدث عن خطط لتنفيذ «عمليات استشهادية» عبر عدد من الانتحاريين، مؤكداً «التخطيط للعمل على استهداف «الأقليات من المسيحيين والشيعة والعلويين». وقالت وزارة الداخلية السورية إنها ستنشر الاعترافات الكاملة للمتهم قريباً.
وسبق لصحيفة «واشنطن بوست» أن أفادت بأن الولايات المتحدة شاركت بشكل مباشر معلومات استخباراتية مع الحكومة السورية؛ ما أسهم في إحباط مؤامرة لـ«داعش» لاستهداف ضريح ديني بضواحي دمشق في يناير (كانون الثاني) الماضي.
الشرق الأوسط»،
———————————
كيف نفهم الدروز؟ وكيف يؤثرون على مستقبل سوريا؟/ شادي إبراهيم، عبد الوهاب المرسي
الدروز بين مواقف الحياد ومخاطر الاصطفاف
18/3/2025
بعد أكثر من خمسة عقود من إغلاق الحدود بين سوريا والأراضي المحتلة في إسرائيل في أعقاب حرب عام 1973؛ دخل عشرات من رجال الدين من طائفة الدروز السوريين إسرائيل يوم الجمعة الماضي 14 مارس/آذار، لأول مرة، في زيارة لما يعتقدون أنه مقام النبي شعيب الذي يقع في بلدة جولس بالقرب من طبريا داخل الأراضي المحتلة، والذي يُعتبر أحد أهم المواقع الدينية المقدسة عند الدروز.
على متن ثلاث حافلات ترافقها مركبات عسكرية، عبر رجال الدين خط الهدنة في مجدل شمس في مرتفعات الجولان، وكانت الحافلات الثلاث قد انطلقت من داخل الجولان السوري المحتل إلى بلدة حضر السورية عند الحدود لنقل مشايخ الدروز، وسلكت طريقا عسكريا كان قد أقامه جيش الاحتلال بعد سقوط نظام الأسد.
جاءت الزيارة بناءً على دعوة من الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، موفق طريف، وبدا في تفاصيلها أنها جرت بتنسيق وحفاوة بالغة من قبل سلطات الاحتلال.
ومع أن الزيارة قد قوبلت بردود غاضبة من قبل أصوات درزية، داخل سوريا وخارجها، فإنها جاءت ضمن سياق محاولات إسرائيلية أوسع لاستقطاب الطائفة الدرزية والتعاون معها ضد سلطة دمشق الجديدة؛ مما يعطيها بعدا غاية في الأهمية.
وكان تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية قد قال مؤخرا، إن إسرائيل تسعى إلى إقناع دروز سوريا برفض الحكومة الجديدة في دمشق والمطالبة بحكم ذاتي ضمن نظام فدرالي، وإنها تخطط لإنفاق أكثر من مليار دولار لتحقيق هذه الغاية.
إذن؛ تبدو سوريا، شرقا وجنوبا وغربا، طافية على توترات ليس من السهل احتواؤها، حيث تواجه قدرها التاريخي الذي يجمع تناقضات المشرق العربي داخل حيز جغرافي ضيق لم تصنعه تفاعلات تاريخية واجتماعية طبيعية، فإلى أي وجهة سوف يحسم الدروز طريقهم في هذا المزيج المعقد؟
كيف بدأ الدروز؟.. رحلة عشرة قرون!
في منطقة جبلية صغيرة من بلاد الشام، تمتد جنوب غرب سوريا وجنوب لبنان وشمال إسرائيل، يعيش حوالي مليون ونصف مليون درزي، يُطلقون على أنفسهم اسم “الموحدون”.
هذه الطائفة الدينية والاجتماعية، التي لا يعرفها الغرباء، ولا يفهم معتقدها حتى أغلب أتباعها، تُشكل أقلية صغيرة وإن كانت ذات أهمية سياسية بالغة، حيث شاركت بفعالية وحضور في كافة محطات تأسيس المشرق العربي الحديث.
يتبع الدروز ديانة باطنية غامضة، لا يتحدث مشايخها ومعتنقوها في تفاصيلها الدقيقة، لكن أغلب المصادر السنية تؤرخ لها باعتبارها أحد امتدادات الطائفة الإسماعيلية التي حكمت مصر تحت اسم الدولة الفاطمية وبنت مدينة القاهرة عاصمة لها، وتعود نشأتهم إلى عهد الخليفة السادس للدولة الفاطمية الحاكم بأمر الله -الذي امتدت فترة حكمه من عام 996 إلى 1021م- على يد محمد بن إسماعيل الدرزي الذي هاجر إلى الشام، واشتهرت الطائفة باسمه، مع أن الكثيرين منهم يرفضون نسبتهم إليه وتسميتهم بالدروز!
كما أن ثمة مراجع أخرى تذكر أن المؤسس الفعلي للطائفة هو حمزة بن علي بن محمد الزوزني، الذي بدأ الدعوة التوحيدية منذ عصر الحاكم بأمر الله، وهو من أصول فارسية.
وتقوم دعوة التوحيد، على تفسير باطني مختلف للنص القرآني يستند إلى خليط فلسفي معقد، يمزج الفلسفة اليونانية والديانات الفارسية، والمسيحية.
هذا النتاج الفلسفي، تجسّد لاحقا فيما سيُعرف برسائل الحكمة، وهي عبارة عن عشرات من الرسائل التبشيرية السرية، كتبها الدعاة ونشروها بين القبائل العربية في مناطق نفوذ الدولة الفاطمية.
لم تستمر الدعوة إلى الديانة الجديدة سوى بضعة عقود ثم أغلقوا باب الدعوة في منتصف القرن الحادي عشر، خاصة بعد الهجوم العنيف الذي قاده ضدهم الخليفة الفاطمي أبو حسن علي الظاهر، ليقتصر أتباع المذهب على من بقي من معتنقيه الأوائل وأبنائهم ومن يولد منهم، وصار ممنوعا على من لم يولد درزيًّا الانضمام إلى الطائفة الدرزية.
في مطلع القرن الثامن عشر، اندلع اقتتال داخلي بين الدروز الذين كانوا يقطنون مناطق ضمن ما يعرف الآن بدولة لبنان، نزحت على إثره أعداد منهم لتستوطن جبل العرب شرقًا (الذي يعرف الآن بجبل الدروز)، في المنطقة التي ستصبح لاحقا محافظة السويداء في سوريا الحديثة.
طوال المرحلة العثمانية؛ شكّل الدروز في السويداء ما يشبه الحكم الذاتي في إطار اتفاق ضمني مقابل حمايتهم لدمشق من غزوات القبائل البدوية من الجنوب، ورفض الدروز بشكل صارم محاولات الدولة العثمانية في فتراتها الأخيرة إجبارهم على الالتحاق بالتجنيد، وخاصة في فترة سيطرة الأسرة العلوية على بلاد الشام تحت سلطة إبراهيم باشا بن محمد علي.
انحاز الدروز، بقيادة أحد أهم شخصياتهم التاريخية، وهو سلطان الأطرش، إلى الثورة العربية الكبرى التي قادها الهاشميون ضد الدولة العثمانية بقيادة الشريف حسين 1916 – 1918، ودعموا فكرة الانضمام للدولة العربية المزمع تأسيسها.
وأدت قوات الدروز دورا حاسما في الثورة، إذ تذكر المصادر أنهم دخلوا دمشق قبل وصول قوات الشريف حسين، وطردوا منها القوات العثمانية.
لم تنشأ الدولة العربية كما حلم بها قادة الثورة، وسرعان ما فرضت بريطانيا وفرنسا الانتداب في شرق المتوسط، وتقاسمتا المنطقة لاحقا وفق اتفاقية سايكس بيكو 1916، لتولد بذلك سوريا الحديثة بحدودها الحالية.
كانت السويداء ضمن حصة فرنسا، وحظي الدروز تحت الانتداب الفرنسي بدولة مستقلة باسم دولة جبل الدروز 1921-1936، وسميت أيضا عدة سنوات باسم دولة السويداء، ضمن عدة دول أخرى داخل جغرافيا سوريا الحالية من بينها دولة العلويين في الساحل السوري.
لكن الحقيقة التاريخية أن المشاعر القومية لدى الدروز دفعتهم إلى مقاومة الانتداب الفرنسي رغم منحهم دولة مستقلة، ودشن الدروز الثورة السورية على سلطات الانتداب الفرنسي عام 1925، وخاضوا سلسلة معارك انتهت بهزيمتهم عسكريًّا.
وفي عام 1936، وحّدت فرنسا سوريا على صورتها الحالية، ودمجت فيها دولة جبل الدروز، بموجب ما يعرف بمعاهدة الاستقلال. لكن الانتداب الفرنسي استمر في سوريا فعليًّا حتى أبريل/نيسان 1946.
في عام 1954، شنّ الزعيم السوري أديب الشيشكلي، الذي استولى على السلطة بانقلاب عام 1949، حملة دموية ضد الدروز متهما إياهم بتلقي أسلحة ودعم عسكري من الهاشميين في العراق والأردن.
لكن الدروز واجهوا قمع سلطة الشيشكلي بتمرد واسع، امتد إلى أنحاء أخرى في سوريا، واضطرت السلطة لإعلان حالة الطوارئ في خمس محافظات سورية هي دمشق، وحلب، والسويداء، وحمص، وحماة، واعتقال أعداد كبيرة من المعارضين السياسيين البارزين، وانتهت الأحداث بإعلان انقلاب عسكري على العقيد الشيشكلي دفعه إلى الاستقالة في 25 فبراير/شباط 1954، ليسهم الدروز بذلك مرة أخرى في تشكل المشهد السياسي السوري.
في عام 1966 أوصل انقلاب ناجح ثلاثة ضباط -اثنان منهم علويان والآخر درزي- إلى السلطة. وقبل نهاية العام، قام العلويان -قائد القوات الجوية البعثي اليميني حافظ الأسد، والجنرال البعثي اليساري صلاح جديد– بإقصاء الضابط الدرزي سليم الحاطوم في انقلاب آخر.
أصبح الأسد وزيرًا للدفاع، بينما استقال جديد من الجيش ليصبح عضوًا قويًّا في الحكومة السورية، وفي عام 1970 أطاح الأسد بجديد، وبعد عام ترشح للرئاسة السورية دون منافس، وحصل على 99.99٪ من الأصوات، وفقًا للنتائج الرسمية. حوّل الأسد سوريا إلى دولة يحكمها العلويون، حيث شكّلوا 90% من سلك الضباط في عهده.
لم يثق حافظ الأسد بالدروز؛ مما أدى إلى تقليص مساحة محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية من 11 ألف كيلومتر مربع إلى 6 آلاف كيلومتر مربع، وعزلها عن العالم الخارجي، ودخل الدروز بشكل عام في علاقة مع دولة الأسد مفادها حماية الطائفة مقابل الإذعان لسلطة الدولة.
وفي العام الأخير من حكم بشار الأسد، بدأ الدروز انتفاضة ضد تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وبعد تدشين فصائل إدلب معركة ردع العدوان، شاركت فصائل السويداء، وفقا لوكالة الأناضول، في تأسيس غرفات عمليات الجنوب التي ضمت فصائل درزية وأخرى من محافظات درعا والقنيطرة، واستطاعت طرد قوات الأسد من المحافظات الثلاث، ثم الانطلاق إلى دمشق حيث دخلتها فصائل غرفة عمليات الجنوب قبل أن تصل إليها الفصائل التي كان يقودها أحمد الشرع.
حيرة الدروز التاريخية
مع أن السؤال المطروح على الدروز حاليا بشأن العلاقة مع السلطة المركزية في سوريا يبدو سؤلا جديدا؛ فإن الحقيقة أن الدروز بوصفهم طائفة أقلية، لا يزال هذا أحد أسئلتهم المركزية منذ نشأة المشرق الحديث.
يعيش الدروز اليوم ضمن حدود ثلاث دول، سوريا ولبنان والأراضي المحتلة، إلى جانب أعداد قليلة في الأردن هاجرت إليه بعد نشوب الصراع بين الدروز في السويداء وسلطات الانتداب الفرنسي مطلع القرن العشرين.
ويقدر عددهم بمن فيهم أولئك الذين هاجروا إلى أوروبا أو أميركا أو غرب أفريقيا، بنحو مليون ونصف مليون شخص. منهم 700 ألف يعيشون في السويداء ويمثلون 90٪ من مجمل سكان المحافظة.
بعد صعود القومية العربية واستقرار وضع الدول الناشئة في بلاد المشرق، أصبحت ثمة ثلاثة تيارات كبرى ولدت داخل مجتمع الدروز يقودها ثلاثة زعماء تاريخيين، كان لكل منهم إجابة مختلفة عن سؤال العلاقة مع الدول التي يعيش فيها الدروز ومع المحيط العربي بشكل عام.
في لبنان خطت أسرة جنبلاط التي تتزعم الطائفة سياسيا منذ عقدين على الأقل خطا اندماجيا في الهوية القومية العربية الجامعة، وأسست لمدرسة خاصة حاولت دمج المقولات السياسية اليسارية في المعتقد الديني الدرزي، بما يحوّل الطائفة نفسها إلى حزب سياسي يساري تقدمي، لوضعها في سياق وطني أوسع من مفهوم الطائفة الدينية، وتبنت مفاهيم مناهضة للاستعمار والاحتلال الإسرائيلي.
أما في إسرائيل فقد سلكت الطائفة مسلكا آخر، حيث قادها زعيمها الروحي موفق طريف إلى صيغة إذعانية لدولة الاحتلال، باعتبارها السلطة الغالبة التي على الطائفة أن تتعامل معها صيانة لمصالحها، وقد قبلت الطائفة في وقت مبكر بالالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية منذ عام 1957 وأظهرت الولاء الكامل لإسرائيل في كافة المناسبات.
ومع ذلك فإن ادعاء نجاح هذه الصيغة يتعرض لتحديات بعد إقرار قانون “القومية” في إسرائيل ووصفها بأنها دولة يهودية، بما يضع الدروز في موقع مهمش ويحرمهم من كثير من الامتيازات المدنية رغم تحملهم أعباء الخدمة العسكرية.
والجدير بالذكر أن الدروز في منطقة الجولان المحتل كانت لهم مواقف مختلفة حيث رفضوا التجنس بالجنسية الإسرائيلية، مدفوعين بشعور انتمائهم لسوريا؛ مما عرضهم لتهميش وحرمان بالغ لقراهم من خطط التنمية وعوائدها.
وفي سوريا نحا الزعيم الدرزي سلطان الأطرش منحًى أكثر انتماء للدولة ورفضا للتدخلات الخارجية منذ عشرينيات القرن الماضي، وطوال قرابة قرن كامل هو عمر الدولة السورية الحالية كانت غالبية مواقف الدروز السوريين مؤيدة للوحدة ولم تسُدْ فيهم نزعات انفصالية، ولكن في الوقت نفسه كان الدروز مدافعين شرسين عن أمن الطائفة وأفرادها.
خلال اليومين الماضيين، صرح يوسف جربوع أحد شيوخ طائفة الموحدين الدروز في سوريا، قائلا: “قادرون على حماية أنفسنا بأنفسنا، ولا يوجد ما يجعلنا نطلب الحماية من أي جهة”، قد يشعر البعض بأن هذه مجرد مبالغة في سياق خطابي، لكن استقراء التجربة التاريخية للدروز في سوريا يقول إنهم فعلا لم ينتظروا قوة خارجية يومًا ما لحمايتهم!
كيف هي السويداء اليوم؟
أظهرت تداعيات ما بعد سقوط الأسد انقسامات داخل مجتمع الدروز في السويداء بين مؤيدي الفدرالية والمطالبين بوحدة سوريا، وهو انقسام شمل المرجعيات الدينية والتيارات السياسية والفصائل المسلحة.
تُعد “حركة رجال الكرامة” الفصيل الأبرز في السويداء، وقد تأسست عام 2013 بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، في إطار معارضة تجنيد الشبان الدروز ورفض مشاركتهم في الحرب السورية، ورفع مؤسس الحركة حينها شعار “دم السوري على السوري حرام”، إضافة إلى حماية الدروز من الاعتقالات، والضغط لأجل الإفراج عن المعتقلين.
ورغم اغتياله عام 2015، استمرت الحركة في دورها الرافض للهيمنة الأمنية لنظام الأسد، وقامت تحت قيادة الشيخ يحيى الحجار بعد 2017 بتعزيز نفوذها في المنطقة، متبنيةً خطابًا يركز على الدفاع عن الهوية الدرزية والاستقلالية المحلية.
ووفقا لدراسة أعدها مركز حرمون السوري؛ تزايد نفوذ الحركة فيما بين 2018 و2022، مع توسعها في عمليات التصدي لعصابات التهريب والمجموعات الأمنية التابعة للنظام السوري، كما رفضت الحركة التدخلات الإيرانية، ودخلت في مواجهات مباشرة مع المجموعات المدعومة من حزب الله، ورفضت أي شكل من أشكال الارتباط بالمشروع الإيراني في سوريا.
وقد شهدت الحركة عدة انشقاقات، حيث برزت “قوات شيخ الكرامة” بقيادة أبناء وحيد البلعوس، واتخذت موقفًا أكثر حدة اتجاه النظام السوري وروسيا. وظهر “تجمع أحرار جبل العرب” بقيادة الشيخ سليمان عبد الباقي، الذي أدى دورًا في تنظيم الحراك الشعبي وتنسيق الاحتجاجات ضد نظام الأسد عامي 2022 و2023.
وفي 2024، ومع اقتراب سقوط النظام، ظهرت تشكيلات عسكرية جديدة مثل “درع السويداء”، الذي ركز على منع أي فراغ أمني في الجبل، و”كتيبة الفجر” التي تبنّت عمليات أمنية ضد المجموعات المدعومة من إيران وحزب الله في المنطقة.
وحاليا تتراوح مواقف الفصائل في السويداء من الحكومة الجديدة بين ثلاثة توجهات رئيسية. الأول، هو الرفض القاطع لسلطة الحكومة والسعي إلى إعادة هيكلة الحكم في سوريا وفق نظام فدرالي يمنح السويداء استقلالًا إداريًّا واسعًا.
ويعد “المجلس العسكري في السويداء” أحد أبرز الفصائل التي تبنت هذا التوجه، وقد تأسس في يناير/كانون الثاني 2025 بقيادة طارق الشوفي، وهو ناشط سياسي معروف بمواقفه الداعمة للفدرالية، ومعه العميد سامر الشعراني، الذي كان سابقًا أحد ضباط الجيش السوري قبل انشقاقه في 2018.
ويرى “المجلس العسكري” أن النظام المركزي لم يعد قادرًا على تلبية تطلعات المحافظة، ولقي هذا التوجه دعمًا سريعًا من “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التي أعلنت مساندتها للمجلس منذ لحظة تأسيسه.
أما الموقف الثاني، فقد تبنته الفصائل التي ترى ضرورة التعامل بحذر مع الحكومة الجديدة، مع وضع شروط تضمن عدم تكرار هيمنة دمشق على السويداء.
ومن بين هذه الفصائل “رجال الكرامة”، حيث تتبنى الحركة موقفًا يعتمد على الحفاظ على خصوصية المحافظة مع قبول التنسيق الأمني والعسكري مع دمشق، بشرط أن يكون تحت إدارة أبناء السويداء أنفسهم.
وينطبق الأمر ذاته على حركة “أحرار جبل العرب”، التي تأسست عام 2017 على أنها حركة مناهضة للتدخلات الخارجية، لكنها لا تتبنى موقفًا عدائيًّا صريحًا من النظام.
والثالث؛ هو القبول بسلطة دمشق بشرط أن لا يجري تسليم السلاح إلا بعد الاطمئنان لهيكلة وزارة الدفاع الجديدة، والدستور الجديد الذي يضمن مدنية الدولة وحقوق الأقليات، فضلا عن استبعاد العناصر الأجنبية من الوزارة، مثل موقف لواء الجبل.
وقد أفضت المفاوضات بين غرفة العمليات المشتركة في السويداء والحكومة إلى اتفاق يسمح بانضمام أبناء المحافظة إلى قوى الأمن الداخلي، على أن يكونوا من غير أصحاب السوابق الجنائية. وبناءً على ذلك، أرسلت وزارة الداخلية تسع سيارات شرطة إلى السويداء في السادس من مارس/آذار 2025، إلا أن “المجلس العسكري” حال دون دخولها.
وجاء ذلك بالتزامن مع مظاهرات دعا إليها “تيار سوريا الفدرالي”، رفعت شعارات تطالب بإسقاط النظام، وأعلنت دعمها للشيخ حكمت الهجري والشيخ موفق طريف، وهو ما زاد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي في المدينة.
وإلى جانب الفصائل العسكرية؛ تباينت مواقف المرجعيات الدينية الثلاث الأبرز في السويداء (حكمت الهجري، حمود الحناوي، ويوسف الجربوع)، ليس فقط من سلطة الشرع، بل من سلطة الأسد قبل ذلك منذ عام 2022، حيث ظهر اختلاف واضح في درجة المواجهة أو التقارب مع السلطة.
كان الشيخ حكمت الهجري أكثر المرجعيات نشاطًا، من حيث التصريحات السياسية المواكبة للأحداث بعد سقوط الأسد، إذ اعتبر أن حل الفصائل وتسليم سلاحها مرتبط بإقرار الدستور وإنشاء الجيش، كما ألمح إلى أن البلاد تحتاج إلى التدخل الدولي لضمان أن تسفر العملية السياسية عن دولة مدنية.
حكمت الهجري فيسبوك – @تاريخ بني معروف الموحدون
حكمت الهجري، أحد زعماء الدروز في السويداء، ولد في فنزويلا عام 1965 (مواقع التواصل) (مواقع التواصل الإجتماعي)
في حين كانت مواقف كلّ من يوسف وحمود تتركز على رفض أي مشاريع انفصالية في المحافظة. وأبدى الشيخ حمود الحناوي معارضة كاملة لكل التشكيلات العسكرية والسياسية الداعية إلى الانفصال في السويداء.
ماذا عن إسرائيل؟
بالعودة إلى تقييم فرص إسرائيل في الوصول إلى تفاهم مع الدروز، فمن المرجح أن هذا قد لا يكون متاحا أمام إسرائيل في المدى القريب على الأقل.
السبت الماضي، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس بأنهما أمرا الجيش بالاستعداد للدفاع عن مدينة جرمانا السورية، موطن عدد كبير من الدروز. وفي وقت آخر من نفس الأسبوع قالت الخارجية الإسرائيلية إنها سلمت 10 آلاف حزمة مساعدات إنسانية للدروز في مناطق الاشتباك في سوريا، تضم سلعا غذائية.
وفي سياق أوسع، يبدو أن إسرائيل قد أقرت مشروعا طويل المدى لنسج علاقات قوية مع المجتمع الدرزي في السويداء، ليمثل معها أداة لمنع سيطرة قوات الحكومة السورية الجديدة على مناطق الحدود مع إسرائيل.
لكن الواقع أن التباينات داخل مجتمع الدروز، فضلا عن التجربة الطويلة للممارسات الإسرائيلية العنصرية والدموية في المنطقة قد لا تحفز مجتمع الدروز للتعاون مع إسرائيل.
وعلى الجانب الآخر؛ فإن أمام سلطة دمشق اختبار تاريخي لجمع شتات البلد الذي لم يكن تاريخه الحديث مستقرا في أغلب أوقاته.
وبعيدا عن الترتيبات الإدارية والاتفاقات السياسية التي قد يكون عمرها قصيرا؛ فإن التحدي الأكبر هو مدى قدرة السوريين على بناء عقد اجتماعي وترسيخ هوية وطنية تجمع هذا المزيج المعقد الذي يمثل الدروز واحدا من تكويناته التاريخية، بما يمثل ضمانة للأمن المجتمعي وإغلاقاً لفرص التدخلات الخارجية.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
——————————-
حكمت الهجري: لن ننفذ إعلاناً لا يتوافق عليه كل السوريين/ ضياء الصحناوي
19 مارس 2025
أصدرت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في سورية ممثلة بالشيخ حكمت الهجري بياناً، مساء اليوم الثلاثاء، عبر موقعها الرسمي، بينت فيه رؤيتها للوضع السياسي العام ورأيها بأداء الإدارة والحكومة الانتقالية. وأوضح الهجري أن الرئاسة الروحية حاولت منذ اليوم الأول لسقوط النظام البائد، الحفاظ على وحدة الوطن ومصير الشعب السوري، وقد مدت الأيادي للحكومة والإدارة الانتقالية أملأ في بناء دولة ديمقراطية تجمع كل مكونات الشعب السوري تحت سقف القانون العادل والمواطنة، ولكن بدأ يتضح للجميع أن الإدارة تستأثر بالقرار والسلطة والتعيينات ذات اللون الواحد بعيداً عن إرادة الجماهير وأحلامها في بناء وطن حر وديمقراطي.
ورأى الشيخ حكمت الهجري أن الإدارة تعمل بضبابيّة وغموض وتفرض سياسة الأمر الواقع وتحاول تغطية الأحداث عبر عناوين “ملثّمة” وتُصدر نفسها إلى العالم بصورة الوطن. وقال الهجري مخاطباً السوريين إن “الإدارة ورغم كل محاولات التواصل والوعود ما زالت تكرر مشهد إدارة اللون الواحد دون أي اعتبار أو احترام للشهادات والخبرات والأصول القانونية ولا للأعراف الدولية. وتتعامل أمام الشعب السوري والعالم بصفة المنتصر، وتفرض ما تريد على أبناء الوطن بأيادي الغرباء الملثمين، وتفرض قيادات من غير المختصين وتفصل الموظفين بشكل تعسفي”.
وانتقد الهجري مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في ساعات وحمل توصيات جاهزة ومخيبة للآمال، وكذلك الإعلان الدستوري الصادر عن اللجنة ذات اللون الواحد، التي “سلّمت كل البلاد لشخص واحد بصلاحيات مطلقة تؤسّس لسلطة استبدادية جديدة”. كما دان الهجري الجرائم التي ارتكبت في حمص والساحل السوري معتبراً أنها أعادت ببشاعتها إلى أذهان السوريين جرائم تنظيم “داعش”، محملاً الحكومة مسؤولية هذه الانتهاكات، ومؤكداً إدانة القتلة وضرورة محاسبتهم وطرد الغرباء إلى خارج الوطن.
وأكد الهجري أن الايدي “ما زالت ممدودة للتعاون مع الإدارة على أن تبدأ بتصحيح المسارات بدءا بالإعلان الدستوري” الذي يرى فيه أنه يكرس الدكتاتورية، مطالبا بإعلان دستوري يأخذ بالخصوصية التاريخية والثقافية لكامل البلاد ويحترم حقوق الإنسان، ويضمن المشاركة الفعالة للمواطنين في صنع القرار بدولة ديمقراطية موحدة، تقوم على مبدأ فصل السلطات واستقلاليتها، وصلاحيات محلية إدارية أوسع للمحافظات السورية، وكذلك يحد من صلاحيات منصب الرئاسة، مؤكدا عدم تنفيذ أي بند من دستور أو إعلان دستوري، لا يتوافق مع إرادة الشعب وحقوقه.
وطالب حكمت الهجري بعدم إشراك الغرباء بالجيش الوطني وقطاعات الشرطة ومفاصل الدولة، ونبه إلى أن الشعب السوري واعٍ وصاحٍ ولا تنطلي عليه أي حيل من تجنيس وتغييرات ديموغرافية، ولا تغطية أي تصرف بدستور أو قانون أو قرار ملثم، مشيرا إلى أن ثورة عمرها خمس عشرة سنة، جديرة أن تمنح الشعب حُكمه نفسه بنفسه وخير بلاده وكرامته بأمان وسلمية.
وكانت السويداء قد شهدت خلال الأيام القليلة الماضية حراكاً سياسيا هادفا لتوحيد الموقف والكلمة، بين المكونات السياسية ورجال الدين والوجهاء تمثل في عدد كبير من اللقاءات والحوارات بين جموع السياسيين من جهة والوجهاء وشيوخ العقل الثلاثة من جهة أخرى. وخلص هذا الحراك إلى تقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف والذي تمثل بين مكونين أحدهما يدعو للاندماج الكامل مع حكومة الشرع والآخر يرفض الاندماج بانتظار تصحيح مسارات الحكومة كما يدعي. وبالمحصلة، نتج عن هذه اللقاءات رؤية موحدة لمستقبل السويداء كجزء لا يتجزأ من الوطن الأم سورية، ورفض قاطع لكل ادعاءات التقسيم، وكذلك السعي لمد الأيدي لحكومة الشرع ضمن مجال النقد والتصحيح.
————————-
التماسك السوري يُفشل مخطّطات إسرائيل/ أحمد سليمان العمري
18 مارس 2025
تشهد سورية تطوّرات سياسية وعسكرية مُتسارعة، حيث تسعى الحكومة الانتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى تعزيز الاستقرار وإعادة بناء الدولة.
تأتي هذه الجهود في ظلّ وجود عراقيل إقليمية ودولية، أبرزها المحاولات الإسرائيلية المستمرّة لإضعاف الدولة السورية ومنعها من استعادة سيادتها الكاملة، ولكن كلّما ازداد التماسك الوطني حول الحكومة السورية الجديدة، تراجعت قدرة إسرائيل على تنفيذ أجندتها، ممّا يدفعها إلى التصعيد العسكري والتدخّل بذرائع مختلفة.
التحديات الداخلية والخارجية
تواجه سورية الجديدة عقبات كبيرة في مرحلة إعادة البناء، أبرزها معالجة الانقسامات التي أثّرت على النسيج الاجتماعي، بهدف تحقيق مصالحة مجتمعية وتعزيز الهُويّة الوطنية، مع الحفاظ على وحدة الأراضي السورية. هذه الانقسامات لا تقتصر على الجوانب السياسية فحسب، بل تمتد إلى “الانقسامات الطائفية والمجتمعية” التي تسعى بعض القوى الخارجية إلى توظيفها لتحقيق أهدافها التقسيمية.
وللتعامل مع هذه المآزق، يتطلّب الأمر أولا ضمان الاستقرار الأمني في البلاد، وذلك للحيلولة دون أيّ محاولة لإشعال نزاع داخلي، كما يتوازى مع هذا الجهد، ضرورة تبني مسار سياسي يُساهم في بناء أسس قوية للعدالة الانتقالية والمصالحة. وفي هذا السياق، يشكّل التوتّر الأخير في الساحل السوري فرصة مهمة لمعالجة هذه القضايا.
التفاهمات بين الحكومة السورية ووجهاء السويداء
على مستوى الصعيد الداخلي، استطاعت الحكومة السورية تحقيق تفاهمات مهمّة مع وجهاء السويداء؛ المحافظة ذات الأغلبية الدرزية، ممّا قطع الطريق أمام المحاولات الإسرائيلية لاستغلال هذه الطائفة في مشاريع تقسيمية، فقد جاءت هذه التفاهمات بعد حوار جاد بين الطرفين، حيث تمّ الاتفاق على تعزيز الخدمات، تحسين الوضع الأمني، وإعادة دمج السويداء في مؤسّسات الدولة.
أحد أبرز نتائج هذه التفاهمات كان رفض أيّ تحرّكات مسلّحة خارج سلطة الدولة، وهو ما أضعف الخطاب الإسرائيلي الذي حاول تقديم نفسه كـ “حامٍ للأقليات” في سورية، فكلما ازدادت اللُّحمة بين المكوّنات الوطنية والحكومة، فقدت إسرائيل أوراقها التي تستغلّها للتدخّل في الشأن السوري.
إسرائيل ومحاولات ضرب الاستقرار السوري
مع تحقيق هذه التفاهمات، لم تخفِ إسرائيل غضبها من التقارب الداخلي السوري، حيث عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، عن ذلك بتصريح قال فيه: “كل صباح، عندما يفتح الجولاني (أحمد الشرع) عينيه في القصر الرئاسي بدمشق، سيرى الجيش الإسرائيلي يراقبه من مرتفعات جبل الشيخ”.
هذا التصريح يعكس قلق إسرائيل من استعادة سورية لقوّتها، خاصّة مع اقتراب حلّ الأزمة الداخلية وعودة دمشق إلى الحاضنة العربية. لطالما سعت إسرائيل إلى استغلال التوترات الداخلية لإضعاف الدولة السورية، إلا أنّ التماسك الداخلي المُتزايد أصبح يشكّل عائقًا أمام هذه الاستراتيجية.
إسرائيل ومحاولة تدمير القدرات العسكرية السورية
منذ سقوط بشار الأسد، كثّفت إسرائيل هجماتها العسكرية على المنشآت السورية، وذلك بهدف منع الحكومة الجديدة من استعادة سيطرتها على أدواتها العسكرية، فقد شنّت إسرائيل نحو 500 غارة جوية على مواقع عسكرية سورية، استهدفت قواعد جوية، أنظمة دفاع جوي، ومستودعات أسلحة، ممّا عرقل جهود الحكومة السورية في استعادة قوّتها الدفاعية.
إحدى أخطر هذه الهجمات كانت استهداف القاعدة الجوية في حمص، التي كانت تحتوي على أنظمة دفاع جوي متقدّمة، كما استهدفت إسرائيل عدّة مواقع عسكرية قرب دمشق، بدعوى “ضرب النفوذ الإيراني”، لكن الهدف الحقيقي كان إضعاف الجيش السوري ومنعه من استعادة كامل عافيته وسيادته.
إلى جانب ذلك، نفذّت إسرائيل اجتياحًا عسكريًا داخل الأراضي السورية بعمق 65 كيلومترا، في محاولة لفرض واقع جديد في المناطق العازلة، ومع ذلك، ما زالت تتحدّث عن “المنطقة العازلة” كذريعة لتدخّلاتها، رغم أنّ هذه المناطق تقع ضمن السيادة السورية الكاملة.
هذا التحرّك يعكس استراتيجية إسرائيلية مُمنهجة لتوسيع نفوذها العسكري ومنع سورية من استعادة سيطرتها على حدودها الجنوبية.
إسرائيل وتسييس الطوائف السورية
إلى جانب العمليات العسكرية، تسعى إسرائيل إلى ضرب سورية من الداخل من خلال تسييس الطوائف السورية وتحويلها إلى مليشيات مسلّحة تعمل ضدّ الحكومة. فبعد فشلها في السويداء، تفشل أيضا في شرق الفرات، فقد وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع اتفاقًا مع قائد “قوات سوريا الديمقراطية”، تمّ بموجبه دمج هذه القوات في الجيش السوري، ممّا يعزّز الوحدة الوطنية ويقطع الطريق أمام المحاولات الإسرائيلية لاستغلال الانقسامات الداخلية.
وبهذا تفقد إسرائيل ورقة مهمّة كانت تستخدمها لزعزعة الاستقرار في المنطقة، كما أنّ هذا الاتفاق يعكس نجاحًا جديدًا لسياسة الحكومة السورية في تعزيز التماسك الوطني، وإفشال المخطّطات الخارجية التي تسعى إلى تقسيم البلاد.
العثرات والفرص أمام سورية
رغم النجاح في إحباط بعض المخطّطات الإسرائيلية، لا تزال سورية تواجه صعوبات كبيرة، أهمها: إعادة بناء الجيش والبنية العسكرية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، في ظلّ العقوبات الغربية، واستكمال المصالحة الوطنية لضمان عودة جميع المناطق إلى سيطرة الدولة.
ورغم هذا وذاك إلّا أن هناك أيضا فرصًا كثيرة يمكن لسورية الاستفادة منها، أبرزها عودة العلاقات مع الدول العربية، التي قد تساهم في دعم عملية إعادة الإعمار وتجاوز أزماتها الاقتصادية.
خاتمة
ما تشهده سورية اليوم هو صراع شرس بين مشروع إعادة بناء الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية، وبين محاولات إسرائيل والغرب لتفكيك البلاد ومنعها من استعادة سيادتها.
التفاهمات الوطنية تؤكّد أنّ البلاد تسير نحو مرحلة جديدة من الاستقرار رغم كلّ العقبات وبعض سلبيات الحكومة الانتقالية، وأمّا إسرائيل فستستمر في تصعيد هجماتها العسكرية ومحاولات لخلق صراعات داخلية، أمام تراجع متزايد في قدرتها على التأثير داخل سورية، فكلّما ازداد تماسك النسيج الوطني، ضعفت قدرة إسرائيل على فرض أجندتها، مما يؤكّد أنّ المستقبل سيكون لمن يمتلك الإرادة السياسية واللُّحمة الشعبية الوطنية لتحقيق السيادة والاستقلال الكامل.
العربي الجديد
——————-
تكرار الاعتداءات الإسرائيلية جنوبيّ سورية… غليان واستعداد لمقاومة شعبية/ ضياء الصحناوي و محمد أمين
19 مارس 2025
تفتح الاعتداءات الإسرائيلية والتدخل والاستفزاز الإسرائيلي الذي لم ينقطع في جنوب سورية، المشهد في هذه المنطقة على احتمالات عدة، ولا سيما أن دولة الاحتلال تبدو ماضيةً في سياسة معلنة لفرض واقع عسكري وميداني جديد بالقوة، يقوم على تحويل الجنوب السوري برمته إلى منطقة نفوذ لها، بهدف الحيلولة دون عودة الجيش السوري الوليد إلى مواقع كان ينتشر فيها جيش النظام السابق في المنطقة قبل سقوطه في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وأعلن الجيش الإسرائيلي، أمس الثلاثاء، أنه هاجم مدافع شكّلت تهديداً بحسب زعمه، في منطقة خان أرنبة بجنوب سورية، وأنه “لن يسمح بوجود تهديد عسكري في منطقة جنوب سورية وسيعمل ضده”. وجاء ذلك بعد يوم من غارات إسرائيلية استهدفت غربي مدينة درعا، وتوغل برّي في ريف درعا الغربي.
كذلك شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي، مساء أمس الثلاثاء، غارتين جويتين استهدفتا موقعين في ريف محافظة حمص الجنوبي وسط سورية.
الاعتداءات الإسرائيلية متواصلة
وبحسب “تجمّع أحرار حوران” الذي يرصد أوضاع الجنوب السوري، فإن مجموعة من جنود الاحتلال، تراجعت صباح أمس الثلاثاء عن منطقة كانت قد توغلت فيها لساعات عدة سيراً على الأقدام جنوبي بلدة معرية في منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي. وجاء التوغل بعد ساعات قليلة من شنّ الاحتلال غارات جوية مساء الاثنين، استهدفت المنطقة بين اللواء 132 وحيّ مساكن الضاحية غربي مدينة درعا. وقتل في هذه الغارات 3 أشخاص وأصيب 19 آخرون، بينهم أطفال ومتطوعون في الدفاع المدني السوري. كذلك شنّت الطائرات الإسرائيلية عشرات الغارات على مواقع عسكرية في محيط مدينة إزرع شمالي درعا، وفق التجمع، الذي أوضح أن القصف استهدف الفوج 175 بـ15 غارة جوية، والمساكن العسكرية بثلاث غارات، فضلاً عن غارتين على اللواء الـ12، وجميعها في إزرع. وزعم الجيش الإسرائيلي أنه استهدف “أهدافاً عسكرية” في جنوب سورية، “بينها مراكز قيادة ومواقع عسكرية تحوي أسلحة وآليات عائدة إلى نظام الأسد”.
ودأب جيش الاحتلال الإسرائيلي على التوغل في ريفي درعا والقنيطرة جنوبيّ سورية بعد احتلاله المنطقة العازلة بين سورية وهضبة الجولان المحتلة، منذ سقوط نظام الأسد. وتؤكد الاعتداءات المتكررة قلق إسرائيل من إسقاط نظام الأسد الذي حافظ على هدوء الجبهة معها على مدى 50 عاماً، عمر اتفاقية “فكّ الاشتباك” الدولية (1974) التي أطاحتها إسرائيل عقب سقوط هذا النظام.
في السياق، أوضح الناشط الإعلامي يوسف المصلح، في حديث مع “العربي الجديد”، أن القوة الإسرائيلية التي توغلت صباح أمس جنوبيّ بلدة معرية “جرفت سواتر وفجّرت دشماً، ثم انسحبت إلى ثكنة الجزيرة الواقعة بالقرب من معرية في منطقة حوض اليرموك”. وبيّن المصلح أن الجيش الإسرائيلي كان قد احتل هذه الثكنة القريبة من الحدود في اليوم الثاني لسقوط نظام الأسد، واتخذ منها مركزاً له بعدما فتح إليها طرقات وأمدّها بالتيار الكهربائي. وأوضح أن الجيش الإسرائيلي نفّذ العديد من التوغلات في ريف درعا منذ سقوط نظام الأسد، أعمقها ذاك الذي وصل إلى منطقة تل المال في ريف درعا الشمالي.
إلى ذلك، أكد المواطن عمر الحريري، الذي يقيم بالقرب من المواقع التي استهدفها الطيران الإسرائيلي، أن تل أبيب تعمدت استهداف المدنيين، معرباً عن اعتقاده في حديث مع “العربي الجديد”، أن القصف بمثابة “رسالة” للإدارة في دمشق، كي لا تعزز مواقعها العسكرية في المنطقة.
وأكد الناشط الإعلامي سامر العلي، في حديث مع “العربي الجديد”، وجود مخاوف لدى سكّان محافظة درعا من أن تكون الهجمات والتوغلات “مقدمة لعملية برية أكبر”، مضيفاً أن “هناك تحليقاً مكثفاً للطائرات المسيّرة الإسرائيلية في سماء المنطقة الجنوبية من سورية”.
غليان في الجنوب السوري
وتنبع أهمية محافظة درعا من كونها تقع على حدود هضبة الجولان المحتل، ما يعني أنها في قلب الجنوب السوري الذي تعبث به تل أبيب منذ 8 ديسمبر الماضي. وتفتح الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة المشهد في جنوب سورية على كل الاحتمالات، بما فيها ظهور مقاومة شعبية، وهو ما أكده مصدر في فصائل الجنوب السوري العسكرية في حديث مع “العربي الجديد”. وأكد المصدر أن أي اعتداء مبالغ فيه سيؤدي إلى مقاومة شعبية شرسة بغضّ النظر عن الإمكانات العسكرية. وتابع: “في ريف درعا الغربي، هناك تجمع سكاني كبير يتجاوز الـ600 ألف نسمة، اعتمادهم على الزراعة، ومن ثم فإن الاقتراب الإسرائيلي من مصدر رزقهم سيفجر غضباً كبيراً”. ولفت إلى “وجود احتقان شعبي تجاه تل أبيب، ولا سيما في ظلّ المجازر التي ترتكبها في غزة”. وتابع: “عندما تستدعي المواجهة مع إسرائيل سنواجهها بالإمكانات العسكرية التي نملكها. السلاح متوافر بكثرة في درعا، وسنتلقى مساعدة من كل السوريين. أعتقد لو وصلت إسرائيل إلى مدن وبلدات مثل طفس، فستبدأ المواجهة”.
وتأتي التحركات الإسرائيلية في ريفي درعا والقنيطرة في سياق خطة تل أبيب المعلنة بعدم السماح للجيش السوري الجديد الذي يجري تشكيله بالعودة إلى المواقع التي كان يوجد فيها جيش النظام السابق. ويبدو أن إسرائيل بصدد تشكيل واقع عسكري جديد في جنوب سورية يقوم على تحويله كلّه إلى منطقة أمنية عازلة خالية من السلاح تحت ذرائع أمنية. ولهذه الغاية، عمد جيش الاحتلال إلى تدمير أغلب الترسانة العسكرية السورية بعد سقوط نظام الأسد، قبل أن تحتل قواته المنطقة العازلة وأعلى قمة في جبل الشيخ، فضلاً عن مواقع أخرى، مستغلاً عدم قدرة سورية على الدفاع عن أراضيها في الوقت الراهن، فالصدام مع تل أبيب لا يعد أولوية لدى الإدارة الجديدة في دمشق التي تضع فرض الاستقرار وتحسين الاقتصاد هدفاً رئيسياً لها في المدى المنظور.
وتعليقاً على الاعتداءات الإسرائيلية على درعا، رأى الباحث العسكري ضياء قدور، في حديث مع “العربي الجديد”، أن إسرائيل “تهدف إلى القضاء على كل القدرات العسكرية السورية، وخصوصاً في الجنوب، والحيلولة دون تمركز الجيش السوري الجديد جنوب دمشق”، مضيفاً أن دولة الاحتلال “تعتبر ذلك تهديداً استراتيجياً لها”. وأعرب قدور عن اعتقاده بأن “ما تقوم به إسرائيل مغامرة عسكرية خرقاء لا مبررات أمنية لها”، مضيفاً أنه “باستثناء جبل الشيخ لا يمكن لإسرائيل الاستمرار في السيطرة على المواقع التي احتلتها أخبراً، وهي تريد أن تثبت توحّشها وامتلاكها فائض قوة”.
وفي السياق، رأى المحلل العسكري العميد فايز الأسمر، في حديث مع “العربي الجديد”، أن التحرك الإسرائيلي الذي أعقب سقوط الأسد هدفه “تحييد الدولة السورية وإبقاؤها بلا أنياب، أي دولة فاشلة لعقود”، معرباً عن اعتقاده بأن الاعتداءات الإسرائيلية تهدف أيضاً إلى الضغط على الحكومة السورية الجديدة “من أجل خلق واقع جديد بتعديل اتفاقية 1974 لزيادة عمق المنطقة العازلة وتحديد نوعية الأسلحة والقوات المسموح بوجودها بالقرب من هذه المنطقة”.
وتتزامن الاعتداءات الإسرائيلية في جنوب سورية مع محاولات تل أبيب لطرح نفسها “حامية” للأقليات في سورية، وخصوصاً الدروز، لتكريس حضورها ونفوذها في هذا الجنوب الذي يتشكل من ثلاث محافظات: القنيطرة غرباً، ودرعا في الوسط، والسويداء شرقاً.
وعن هدف تل أبيب من العبث في جنوب سورية، رأى الباحث السياسي حازم نهار، المتحدر من الجولان المحتل، في حديث مع “العربي الجديد”، أن إسرائيل “تدرك جيداً طبيعة الوضع في سورية وطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمرّ فيها البلاد بعد سقوط الأسد”. وتابع أن “سورية اليوم بلد مهشَّم عسكرياً ومدمَّر اقتصادياً، وليس هناك بالنسبة إليها (إسرائيل) ما هو أفضل من هذه المرحلة لتفرض قواعد اشتباك جديدة، ولا سيما بعد إنجازاتها العسكرية خلال عام 2024 بتهديم غزة في فلسطين، وتقزيم حزب الله في لبنان، وحصر النفوذ الإيراني في المنطقة”. وبرأيه، فإن إسرائيل “تريد سلاماً من دون إعادة الجولان إلى سورية، وتطمح من العمل العسكري الذي تقوم به إلى أن يصبح أعظم أحلامنا هو العودة إلى اتفاقية فصل القوات في عام 1974”. وأشار إلى أن الاعتداءات المتكررة تؤكد أن إسرائيل “لا تطمئن لطبيعة السلطة القائمة في دمشق بحكم أيديولوجيتها المعادية لإسرائيل، كما لا يغيب عنها أيضاً التراث السوري عموماً الرافض لإسرائيل، ولذلك يدخل عملها في سياق العمل الاستباقي لأي مخاطر يمكن أن تأتيها من جهة الحدود السورية”.
ورأى نهار أن إسرائيل تطمح إلى أن تؤدي تدخلاتها العسكرية إلى خلخلة النسيج السوري بما قد يؤدي إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار في سورية أو إلى تقسيم سورية بما يلغي أي خطر سوري عليها مستقبلاً، ويسمح لها بالدخول في تحالفات سياسية وعسكرية مع قوى سورية متبلورة أو قابلة للتبلور. ولم يستبعد نهار أهدافاً كامنة خلف الاعتداءات الإسرائيلية “والمتمثلة بقطع الطريق على عودة إيران إلى سورية، أو تمكن تركيا من تقوية نفوذها في سورية بطريقة قد تشكل خطراً في مراحل لاحقة”.
العربي الجديد
————————-
المتحدث باسم رجال الكرامة باسم أبو فخر: إسرائيل لا يهمها الدروز/ مصطفى محمد
الأربعاء 2025/03/19
حذر المتحدث باسم حركة “رجال الكرامة” باسم أبو فخر، من حدوث فتنة داخلية في السويداء، جراء وجود جهات لم يسمها، تريد استمرار حالة “الفوضى”.
وفي مقابلة مع “المدن”، طالب أبو فخر الحكومة السورية بالتعاون مع محافظة السويداء، للوصول إلى تفاهمات “تصب في صالح الوطن”، وقال معلقاً على الاتفاق بين الدولة السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد): “نخشى أن يكون الاتفاق مخرجاً للحكومة السورية من مأزق الساحل”.صقر أبو فخر
عن زيارة وفد من مشايخ الدروز إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، قال أبو فخر: “هي زيارة دينية بحتة، لكن اعترضنا على التوقيت”.
بموازاة ذلك، نبّه المتحدث باسم حركة “رجال الكرامة”، إلى “خطورة” التحريض على دروز سوريا. وقال: “نخشى من أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الشعب السوري لم يعد قادراً على التعايش بين المكونات”.
وفي ما يلي نص المقابلة:
-المشهد في السويداء يكشف عن انقسام داخلي بخصوص التعامل مع الحكومة السورية، بين تيار منفتح على دمشق وآخر معارض، أين تقف “حركة رجال الكرامة”؟ وهل تخشون على المحافظة من تطور الانقسام إلى مواجهة؟
بكل شفافية ونحن نحتاجها (الشفافية) الآن في السويداء وفي كل سوريا، نعم نعاني من انقسام في ظاهر الأمر لكن التوجهات والمخاوف واحدة ، فجميعنا يسعى لإقامة دولة ديمقراطية جامعة، يكون فيها الجميع متساوون وفق الدستور لا أكثرية ولا أقلية.
في المقابل فإن سياسة الحكومة الحالية عليها كثير من المآخذ كقطع الرواتب و فصل الموظفين إلى الاعلان الدستوري الذي جاء مخيبا للآمال إلى الأنباء الواردة من الساحل، وما رافقها من عجز السلطة عن كبح جماح الغوغاء التي دخلت باسم الجيش وارتكبت المجازر، ولذلك هناك فئة أعلنت رفضها القاطع للحكومة الحالية.
نحن في حركة رجال الكرامة سبق وأن توصلنا إلى تفاهمات مع الحكومة منذ أكثر من شهر، تنص على تشكيل جهاز أمن عام من العناصر الثورية من أبناء السويداء، ومن المنشقين عن النظام السابق، كما اتفقنا على تشكيل لواء يتبع لوزارة الدفاع أيضاً من الفصائل الثورية والمنشقين وأبناء السويداء ممن يرغب الانضمام لوزارة الدفاع، وهذا حل وسطي يمكن أن يكون حلاً في المرحلة الانتقالية، ولاقى هذا الاتفاق معارضة من جهات لا تريد النظام، لأن الوضع المنفلت هو خير بيئة لها وتقوم بعمليات استفزازية، ولكننا في الحركة نلتزم بضبط النفس حرصاً على وحدة الصف، ومنعاً لحدوث فتنة داخلية.
-تصدرت السويداء واجهة المشهد السوري بعد الاتفاق بين دمشق و”قسد”، وكانت الترجيحات تصب في عقد اتفاق آخر مع السويداء، لكن للآن التفاهات لم تكتمل، لماذا؟
ما يبدو لنا أن الحكومة أرادت أن تخرج من مأزق الساحل بالترويج لاتفاقات مع قسد والدروز، وروجت عدة قنوات إخبارية لاتفاق جرى مع وجهاء السويداء، وفي الحقيقة فإن الاتفاق قديم ونعمل على تنفيذه، أما بخصوص الصيغة التي روجوا لها فهي غير صحيحة بالشكل الذي تبنته وسائل الاعلام، ونحن نتمنى عقد هذا التفاهم لكن هناك طرف لا يريد أن يتم ذلك.
-هل يمكن القول إن أعمال العنف في الساحل، قد أخرت تفاهم السويداء مع دمشق؟
ما جرى في الساحل أثار مخاوف كبيرة عند أهل السويداء، لا سيما أن ما حدث كان نابعاً من فكر، اكثر من كونه أعمال انتقام، وهذه المخاوف جعلت قسما كبيراً يتبنى وجه النظر الرافضة لحكومة دمشق، ولكن هناك أسباب أخرى تؤخر هذا التفاهم.
– الشبخ حكمت الهجري وصف الإعلان الدستوري بأنه “غير منطقي”، هل تشاطرونه التقييم، ولماذا؟
طبعا هو غير منطقي، وأنا غير مختص بالشأن القانوني والدستوري، لكن لدينا مستشارين في هذا المجال، وأخبرونا أن فحواه إقامة نظام استبدادي كالنظام الساقط، وهذا ما نرفضه.
مع ذلك، فإن الحالة الوطنية تفرض الحوار الجاد لإنقاذ البلاد من مخاطر محتملة، وهذا الرأي نشاطر به أطرافاً عديدة في السويداء، وهذه الأطراف هي جزء أساسي من قرار المحافظة التي لا تتمثل في شخص واحد بل تعمل بمبدأ المشورة.
– زيارة وفد المشايخ الدرزي من السويداء إلى دولة الاحتلال أثارت جدلاً واسعاً في سوريا، وأيضاً اتهامات لبعض التيارات في السويداء بالتعاون مع الاحتلال، خصوصاً أنه سبق الزيارة تصريحات من الاحتلال بخصوص دروز سوريا، ما هدف الزيارة؟ وهل الانتقادات للوفد محقة؟
الزيارة أولا ليست لمشايخ السويداء بل لدروز قرى جبل الشيخ التي تتبع لمحافظتي ريف دمشق والقنيطرة، وهي زيارة سنوية كانت تقام قبل عدوان 1967 والنظام كان يمنعها وقد وجد الأهل فرصة لمعاودة الزيارة الدينية البحتة.
ومع اعتراضنا وكذلك اعتراض جهات عديدة في الطائفة على التوقيت والظروف التي رافقت الزيارة، بتنا نعتقد أن هناك جهات تحاول شيطنة الطائفة وذلك يترافق بكم هائل من التحريض والطعن على مواقع التواصل الاجتماعي بغية تحميل الطائفة مسؤولية تطورات قد تحدث مستقبلا.
– تحليلات متداولة تشير إلى أن دولة الاحتلال تستخدم ورقة الدروز في المفاوضات مع القيادة السورية، ما مدى دقة ذلك؟
نحن على يقين كامل بذلك، فدولة الكيان تسعى لحماية حدودها ولا يهمها الدروز لكنها تجعلهم وسيلة لا أكثر، وما أكد ذلك تواصلنا مع الأهل في الداخل (إسرائيل) الذين أكدوا لنا ذلك مع دعمهم لموقفنا المتشبث بالانتماء الوطني والقومي.
– في الإطار ذاته، حذّر الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان وليد جنبلاط من الاختراق الفكري الصهيوني لأبناء الطائفة الدرزية، واستخدام بعضهم “إسفيناً” لتقسيم سوريا تحت شعار “تحالف الأقليات”، هل تحذيرات جنبلاط محقة، أم لا؟ وهل تخشون على سوريا من التقسيم؟
السيد وليد جنبلاط صاحب نظرة استراتيجية واعية وصحيحة و نقدر له نصيحته تجاهنا، و نحن نتوافق مسبقاً مع هذا التوجه.
بخصوص التقسيم والذي لا نتمناه أبداً، شاهدنا كيف كان وضع العلويين في الساحل، ونخشى من تبعات التحريض الطائفي على الدروز.
حقيقة تخشى اليوم من أن يكون الشعب السوري قد أصبح غير قادر على التعايش السلمي، و هذا ما نرفض أن نصل إليه، فخلاصنا في التشاركية الوطنية وصياغة دستور دائم يحقق الوحدة الوطنية وآمال الجميع وهذا يقع على عاتق السلطة وتتحمل المسؤولية الكبرى في الوصول إليه.
-إلى أين يتجه المشهد في السويداء؟ وهل سنشاهد اتفاقا قريباً مع الدولة السورية؟
هناك حالة وطنية راسخة عند أهل السويداء، و نحن في حركة رجال الكرامة نعمل على تقريب وجهات النظر لكن ينبغي على الحكومة التعاون معنا للوصول إلى تفاهمات نهائية تصب في مصلحة الجميع.
المدن
——————————–
فوضى وتحريض.. هل تعمّق سياسات إسرائيل الانقسامات في سوريا؟
18 مارس 2025
رحّبت إسرائيل بسقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، حيث اعتبرته ضربة قوية للمحور الإيراني، إذ أنهى دور سوريا كحلقة وصل بين إيران و”حزب الله” في لبنان. ومع ذلك، أثار الحدث مخاوف إسرائيلية من احتمال انهيار سوريا بالكامل، مما يمنح إيران فرصة جديدة لتعزيز نفوذها، أو نشوء محور إسلامي سُنّي مدعوم من تركيا ليحل محل النفوذ الإيراني، بحسب تقرير لـ”مجموعة الأزمات الدولية”.
وبحسب مجموعة الأزمات، لمواجهة هذه التطورات، شنت إسرائيل 500 غارة جوية خلال يومين بعد سقوط الأسد، مستهدفة مخازن الأسلحة السورية، بما في ذلك الأسلحة الكيميائية. كما أرسلت قواتها إلى داخل سوريا، وأقامت تسعة مواقع عسكرية في المنطقة العازلة التي تم تحديدها عام 1974، حيث أقامت حواجز، ونفذت دوريات ومداهمات، وأطلقت النار على المتظاهرين السوريين.
كذلك، عززت إسرائيل وجودها في جبل الشيخ داخل سوريا، مما منحها موقعًا استراتيجيًا على دمشق وسهل البقاع اللبناني، وأشار المسؤولون الإسرائيليون إلى أن بقاء الجيش الإسرائيلي في الأراضي السورية التي احتلها مؤخرًا غير محدد المدة. وإضافة إلى التوسع العسكري، أعلنت إسرائيل نيتها إقامة منطقة منزوعة السلاح أوسع في جنوب سوريا، وسعت لكسب ولاء أبناء الطائفة الدرزية عبر تقديم وعود بحمايتهم والسماح لهم بالعمل في الجولان المحتل.
كما مارست ضغوطًا على إدارة ترامب لاستغلال العقوبات الأميركية المفروضة على نظام الأسد السابق كورقة ضغط على الحكومة السورية المؤقتة، مطالبةً بربط رفع العقوبات بشروط صارمة، بما في ذلك تلك المفروضة على “هيئة تحرير الشام”، وفقًا لمجموعة الأزمات الدولية.
ومع ذلك، فإن استمرار إسرائيل في هذا النهج العسكري المتشدد دون مزيج من الدبلوماسية قد يدفع سوريا نحو الفوضى، مما يفتح الباب أمام إيران أو الجماعات الجهادية لاستغلال الوضع، أو يدفع الحكومة الجديدة في دمشق للتقارب أكثر مع تركيا.
سياسات إسرائيل تثير الانقسامات في سوريا
شهدت مدينة جرمانا في دمشق اشتباكات عنيفة أواخر شباط/فبراير الماضي بين قوات الأمن التابعة للحكومة الانتقالية وفصائل درزية مسلحة، مما أدى إلى مقتل عنصر أمن ومدني. وقد سارعت إسرائيل إلى إعلان دعمها للدروز، محذرةً من أنهم في خطر تحت حكم “نظام إسلامي متطرف”، لكن زعماء دروز رفضوا أي تدخل إسرائيلي. وبعد يوم واحد، تمكنت دمشق من التوصل إلى اتفاق مع الفصائل المسلحة، مما أدى إلى تهدئة التوترات بسرعة.
وتقول مجموعة الأزمات إن هذه الحوادث تتكرر مع محاولة سوريا التعافي بعد أكثر من عقد من الحرب، لكن إسرائيل تخاطر بتأجيج الفوضى من خلال محاولات التقرب من الأقليات مثل الدروز والأكراد، مما قد يزيد من عزلتهم داخل مجتمع سوري رافض لأي تدخل إسرائيلي. ومع تصعيدها ضد دمشق، يُنظر إلى سياسات إسرائيل على أنها تهدف إلى إبقاء سوريا ضعيفة ومقسمة، حيث يدعو وزير خارجيتها، جدعون ساعر، إلى فدرلة سوريا على غرار استراتيجيتها السابقة في لبنان، مما يعكس محاولاتها لتقسيم خصومها على أسس طائفية وعرقية.
يصف المسؤولون الإسرائيليون إنشاء منطقة عازلة داخل سوريا بأنه إجراء وقائي لتعزيز أمنها، خاصة بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وتوسعت رؤية إسرائيل للأمن إلى ما هو أبعد من مرتفعات الجولان المحتلة، حيث أصبحت أكثر استعدادًا للضربات الاستباقية ضد أي تهديد محتمل.
وتشمل الأهداف الإسرائيلية، بحسب مجموعة الأزمات، منع تهديد سوريا لإسرائيل أو الأردن، حماية الأقليات، التعاون في التخلص من الأسلحة الكيميائية المتبقية، ووقف تسليح “حزب الله” عبر إيران. من خلال احتلال مناطق أو فرض منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، تسعى إسرائيل إلى فرض شروطها بالقوة.
شكوك إسرائيلية حول الحكومة السورية الجديدة
تشعر إسرائيل بقلق عميق تجاه القيادة السورية الجديدة، حيث لا تثق في أن “هيئة تحرير الشام” تخلّت عن ماضيها الجهادي. وترى أن نهج الرئيس المؤقت أحمد الشرع البراغماتي ينبع فقط من حاجته الماسة للوقود والقمح ورفع العقوبات. وبحسب مجموعة الأزمات، رغم أن الهيئة قطعت علاقاتها بالقاعدة، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين يعتقدون أن الحكومة الجديدة لن تكون قادرة أو ربما غير راغبة في السيطرة على العناصر الجهادية المتبقية.
وأشار المسؤولون الإسرائيليون إلى العنف الذي اندلع في الساحل السوري في أوائل آذار/مارس الجاري، حيث ارتكبت قوات موالية للحكومة فظائع ضد المدنيين العلويين بعد هجوم شنته مجموعات مسلمحة موالية للأسد، بحسب مجموعة الأزمات.
وتضيف مجموعة الأزمات في تقريرها، يبدو أن إسرائيل قلقة من كل السيناريوهات المحتملة في سوريا، مما يثير ارتباكًا في استراتيجيتها. فمن ناحية، تسعى لإضعاف الحكومة السورية الجديدة خوفًا من أن تصبح معادية في المستقبل، لكنها في الوقت نفسه تخشى عجزها عن القضاء على الجهاديين والجماعات الموالية لإيران. كما أن إسرائيل قلقة من دور تركيا المتنامي في دمشق، حيث يعتقد بعض مسؤوليها أن أنقرة دعمت “هيئة تحرير الشام” في السيطرة على دمشق، رغم أن تركيا لطالما اعتبرت الهيئة منظمة إرهابية، وفضلت دعم فصائل معارضة أخرى. وتعززت هذه الشكوك عندما زار مسؤولون أتراك كبار دمشق بعد سقوط الأسد، مما زاد المخاوف الإسرائيلية من النفوذ التركي.
تراقب إسرائيل أيضًا التطورات في شمال شرق سوريا، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على المنطقة بدعم من الولايات المتحدة. في المقابل، تعتبر تركيا هذه القوات عدوًا لها، وساعدت فصائل معارضة مدعومة منها في استعادة أراضٍ كانت تحت سيطرة “قسد”. وتخشى إسرائيل أن يقوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من المنطقة، مما قد يتيح لأنقرة توسيع نفوذها أكثر.
وازدادت هذه المخاوف بعد الاتفاق بين الحكومة السورية و”قسد” في 10 آذار/مارس الجاري، حيث تعهدت القوات الكردية بدمج هياكلها المدنية والعسكرية في الدولة المركزية السورية. في المقابل، يبدو أن إسرائيل، من خلال تدخلها العسكري ومحاولاتها لعزل سوريا اقتصاديًا، تدفع دمشق أكثر نحو الاعتماد على أنقرة، مما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت سياساتها تخدم مصالحها بالفعل.
إسرائيل تخاطر بدفع سوريا نحو تحالف أعمق مع تركيا
بحسب مجموعة الأزمات، بعد فقدان معظم قدراتها العسكرية، لا تمتلك سوريا حاليًا أي وسيلة لتهديد إسرائيل، حتى لو أرادت ذلك، وهو أمر تنفيه القيادة الجديدة بشدة. إذ تتركز جهود السوريين على إعادة الإعمار وإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع.
وقد أكد الشرع التزام سوريا باتفاق فك الاشتباك لعام 1974، داعيًا المجتمع الدولي إلى إلزام إسرائيل بوقف انتهاكاتها لهذا الاتفاق، ووقف غاراتها الجوية وسحب قواتها من الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط الأسد.
وتدرك القيادة السورية الجديدة أن مواجهة إسرائيل لا تحقق أي مكاسب، إذ تضع استقرار البلاد وإنعاش الاقتصاد على رأس أولوياتها، وتسعى إلى بناء علاقات إيجابية مع أطراف إقليمية ودولية متعددة. لكن استمرار إسرائيل في تقويض حكم الشرع قد يطيل أمد الفوضى في سوريا. كما أن محاولاتها كسب الأقليات مثل الدروز والأكراد قد تؤدي إلى تأجيج التوترات الداخلية. ورغم تفضيل إسرائيل لسوريا ضعيفة ومنقسمة، إلا أن ذلك قد يخلق فراغًا أمنيًا تستغله إيران لإعادة بناء نفوذها، وتسليح جماعات موالية لها.
وفي المقابل، تواصل إسرائيل الضغط على إدارة ترامب للإبقاء على العقوبات وتصنيف الجماعات المرتبطة بسوريا كإرهابية، لمنع دمشق من الحصول على دعم اقتصادي دون شروط صارمة. لكن سوريا تواجه أزمة اقتصادية خانقة، مع نقص حاد في الغذاء والطاقة والمأوى، مما يزيد نقمة السكان على الحكومة الانتقالية.
إذا لم تغيّر إسرائيل نهجها تجاه سوريا ما بعد الأسد، فقد تدفع الحكومة الجديدة إلى تعزيز تحالفها مع تركيا كوسيلة لمواجهة الضغوط والتوسع الإسرائيلي. ومن المؤشرات على ذلك اتفاق 10 آذار/مارس بين الحكومة السورية و”قسد”، الذي عزز التنسيق بين الطرفين، بدلًا من دفع الكرد بعيدًا عن دمشق.
ويخلص تقرير مجموعة الأزمات في نهايته إلى أنه بدلًا من النظر إلى سوريا كتهديد، يمكن لإسرائيل اعتبار الواقع الجديد فرصة استراتيجية، حيث لم يعد لإيران نفوذ في دمشق، التي باتت تسعى للتقارب مع الغرب ودول الجوار. لكن الإبقاء على العقوبات الأميركية المشددة قد يفتح الباب أمام عودة النفوذ الإيراني.
كما يمكن لإسرائيل التعاون مع واشنطن وأوروبا لضمان تفكيك أي قدرات كيماوية متبقية، والتنسيق مع الولايات المتحدة والأردن لمعالجة المخاوف الأمنية في الجنوب السوري، عبر الاستفادة من الوجود الأميركي في قاعدة التنف. من خلال الدبلوماسية والتنسيق الأمني، يمكن لإسرائيل حماية مصالحها دون دفع سوريا نحو الفوضى أو إعادة تمكين إيران.
الترا سوريا
——————————-
الباحث الفرنسي سيدريك لابروس لـ”القدس العربي”: الشرع يقتدي ببن سلمان ولا يتحمل مسؤولية أحداث الساحل
17 – مارس – 2025
حسن سلمان
أكد سيدريك لابروس، الباحث الفرنسي المتخصص بالجماعات المسلحة في سوريا، أنه لا يمكن تحميل الحكومة السورية الحالية المسؤولية عن المجازر التي وقعت في المناطق الساحلية، معتبرا أن الجماعات التي ارتكبتها ترفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة لإعادة الأمن والاستقرار للبلاد.
وقال لابروس، في حوار خاص مع “القدس العربي”: “يرغب البعض بتحميل السلطات الجديدة في دمشق، المنبثقة من هيئة تحرير الشام، المسؤولية عن الفظائع التي حدثت في الساحل السوري، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الحكومة الجديدة لا تسيطر على العديد من الجماعات الجهادية، وبعض حلفائها السابقين، وحتى بعض قادة الميليشيات الذين وعدوا بالانضمام إلى الجيش الجديد، لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن”.
وأضاف: “ومن الأمثلة على ذلك أبو عمشة (محمد الجاسم)، وهو قائد ميليشيا سابق خدم تركيا لعدة سنوات، ارتكبت قواته فظائع في الساحل. وهذا الرجل يرفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة. حتى إن انتهاكاته مستمرة في بعض الأرياف التي تغيب عنها قوات الأمن السورية”.
وتابع بالقول: “يمكن تلخيص ما حدث في الساحل بأنه: فظائع مروعة ارتكبتها جماعات ترفض الانصياع للحكومة الجديدة أو قادة مستقلون للغاية (عنها). والدليل على ذلك أنه منذ وصول القوات الموالية حقًا لأحمد الشرع (الأمن العام)، هدأ الوضع”.
وفيما يتعلق بمسودة “الإعلان الدستوري” وموقف الأكراد منها، قال لابروس: “يستند هذا الإعلان الدستوري بشكل كبير إلى دستور عام 1950 (دستور الاستقلال). وقد كُتب لاستيعاب الحلفاء الإسلاميين للرئيس أحمد الشرع، مع تعزيز دور الشريعة الإسلامية داخل الدولة. وفي الوقت نفسه، يُعزز حقوق المرأة وحرية التعبير”.
وأضاف: “يعود رفض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لهذا النص بشكل أساسي إلى عاملين: عدم وجود اعتراف صريح بالأكراد في النص، وعدم كون شكل الدولة علمانيًا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأكراد لم يرفضوا خارطة الطريق التي وُقعت قبل أيام قليلة (بين الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية)، وأعلنوا عن نيتهم المشاركة في صياغة الدستور القادم”.
وحول الاتفاق الأخير بين الشرع وعبدي، قال لابروس: “للتوضيح: هو ليس اتفاقًا في الحقيقة، بل أقرب إلى خارطة طريق. وقد ساهمت الولايات المتحدة بشكل كبير في التوصل إليها. وهي نتاج أشهر من مفاوضات حظيت بدعم الولايات المتحدة، كما ذكرت”.
وأضاف: “إدارة ترامب ترغب بالخروج من الأزمة السورية ولديهم شعور بالرضى أنهم حققوا حدا أدنى من الاستقرار. ولذلك ضغطوا على حليفتهم، قوات سوريا الديمقراطية، للتحرك نحو دمشق. أما بالنسبة لدمشق، فالأمر يتعلق بمسألة أخرى: رفع العقوبات الدولية. ولتحقيق ذلك، يجب عليهم تقديم ضمانات بالانفتاح على عملية الانتقال السياسي”.
وقبل أيام، كشفت مصادر عن توقيع اتفاق بين دمشق وبعض وجهات السويداء، يقضي بإلحاق الأجهزة الأمنية في السويداء بوزارة الداخلية السورية، وأن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء المحافظة الواقعة جنوب البلاد. إلا أن الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز زعماء طائفة الموحدين الدروز، نفى هذا الأمر، ووجه انتقادات لاذعة لحكومة دمشق، التي وصفها بـ”المتطرفة والمطلوبة للعدالة الدولية”.
وعلق لابروس على ذلك بقوله: “الشيخ حكمت الهجري ليس سوى واحد من ثلاثة زعماء دينيين للطائفة الدرزية في سوريا. لكن لديه نفوذ قوي وصوتٌ مسموع. ويُعد رفضه للاتفاقية التي تم توقيعها دليلاً على رغبته في الحصول على المزيد من المكاسب من دمشق”.
واستدرك بالقول: “لكن الدروز لا يتفاوضون على قلب رجل واحد لأنهم ليسوا متحدين. فبينما يُصعّد الشيخ حكمت الهجري من حدة التوتر، وقّع فصيل درزي (رجال الكرامة) اتفاقية مع دمشق لدمج رجاله في وزارة الداخلية، وهذا يؤكد ما قلته سابقا”.
وحول الخطوات المطلوبة من الحكومة الجديدة لاستعادة ثقة السوريين، وتجنب تقسيم البلاد على أسس طائفية، قال لابروس “لبناء ثقة حقيقية وطويلة الأمد، سيتعين على أحمد الشرع مواصلة ما بدأه منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024، أي الانفتاح السياسي. وقد فعل ذلك بالفعل”.
وأضاف: “هذا لا يجعله ليبراليًا، بل ظل محافظًا دينيًا متشددًا. لكنه في هذا يستلهم سياسة محمد بن سلمان في السعودية. لقد عيّن بالفعل أشخاصًا من حوله في اللجان الدستورية والقضائية، ممن كانوا -تاريخيًا- معادين له. وسيتعين عليه مواصلة ذلك. لقد أعلن عن تعديل وزاري قريبًا، وسنرى تشكيلته”.
وتابع لابروس: “علينا أن نأمل في انفتاح. سنتمكن حينها من مراقبة تشكيل أول مجلس شعب منذ سقوط النظام. على أي حال، هو (الشرع) ملزم بالتصرف بهذه الطريقة إذا أراد رفع العقوبات. لكن هذا يضعه أمام تحدٍّ كبير: خيبة أمل جنوده، الذين لا يرون إقامة دولة إسلامية كما كانوا يأملون. وربما تأتي أقوى معارضة من معسكره السابق ومن حلفائه السابقين”.
القدس العربي
————————–
====================
====================
الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 19 أذار 2025
تحديث 19 أذار 2025
——————————-
لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
———————————-
المخاض السوري… اتفاق بمثابة خطاب نيّات/ علي العبدالله
19 مارس 2025
غطى صدور الإعلان الدستوري السوري المؤقت يوم 13 مارس/ آذار الجاري على حدثٍ آخر ليس أقل أهمية منه، توقيع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يوم 10 مارس/ آذار الجاري، على اتفاق سياسي من ثمانية بنود، يقضي بدمج مؤسّسات الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها، بما في ذلك قواتها العسكرية، في الدولة قيد التأسيس، ما جعل العودة إليه بالتقويم والنقد ضرورة وطنية.
جرى التوقيع على الاتفاق في ظرفٍ محليٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ دقيق وخطير، في ضوء بروز خلافاتٍ عميقةٍ بين السلطة الجديدة وقوى سياسية واجتماعية سورية من الكرد والدروز والعلويين تتحفظ على القرارات التي أخذتها، إن في مؤتمر النصر أو مؤتمر الحوار الوطني أو تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري مؤقت، في ضوء ما انطوت عليه هذه القرارات من ميلٍ إلى مركزة السلطة بيد شخص واحد ومكون سوري واحد، ودلالة ذلك على طبيعة النظام السياسي الذي تنوي السلطة الجديدة تمريره، من جهة، وتصعيد الكيان الصهيوني ليس في احتلال مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ومواصلة قصفه مواقع عسكرية سورية، ومنعه انتشار قوات سورية في الجنوب السوري، في سعي إلى تحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، بحيث يشجّع أطرافاً محلية على التمرّد، ويجعل سورية منقوصة السيادة فقط، بل وبإعلاناته المتكرّرة عن ضرورة الابقاء على سورية مفكّكة وضعيفة، عبر ترويج تحويلها دولة اتحادية؛ وتحريض الدول الغربية على عدم منح الشرعية للسلطة الجديدة وتبنيه سياسة حماية “الأقليات” في سورية، الدروز بشكل خاص، من جهة ثانية، ومواصلة القوات التركية قصف مواقع لـ”قسد”، من جهة ثالثة، وتنامي التوتر بين العلويين عامة والمسرّحين من الخدمة في الجيش والمخابرات والوظائف العمومية منهم خاصة، أجّجه حصول تجاوزات وقتل مدنيين خلال عمليات مطاردة مطلوبين ممن لم يقوموا بتسوية أوضاعهم من العسكريين وعناصر مخابرات النظام البائد والتفتيش عنهم في أحياء السوريين العلويين وقراهم في محافظات اللاذقية وحمص وحماة، من جهة رابعة. حوّله (التوتر) تحريض إسرائيلي إيراني إلى مواجهات دامية ووقوع مجازر طائفية ضد المدنيين في هذه المحافظات، اللاذقية بشكل خاص، أغلبهم من العلويين، بعد هجوم مجموعات مما يسمى “المجلس العسكري لتحرير سورية” على مواقع عسكرية للسلطة الجديدة في محافظتي اللاذقية وطرطوس واستهدافه مدنيين من السُنّة. زادت في تعقيد الموقف بوادر تذمّر شعبي على خلفية ضعف الدخل وارتفاع نسبة الفقر وبلوغه حد الجوع وسوء الخدمات. هذا وقد لعبت الإدارة الأميركية دوراً مباشراً في عملية التوقيع على الاتفاق العتيد ملقية طوق نجاة للشرع بدفع مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاق الذي سبق الاتفاق على بنوده أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما قاد إلى تراجع سخونة الموقف العام في سورية بخفض أصوات الناقدين السلطةَ وإلى تخفيف حدّة ردود الفعل الدولية على المجازر الطائفية.
جاء الاتفاق العتيد في ثمانية بنود عامة مع إعلان عن تشكيل لجان مشتركة من الطرفين للاتفاق على صيغة محددة لكل بند وعلى آليات التنفيذ في مدة لا تتجاوز نهاية العام الحالي، ما ترك بذرة شك في احتمال نجاح الاتفاق وبلوغه مرحلة التنفيذ الكامل على خلفية التباينات الواسعة بين الطرفين حول طبيعة النظام السياسي المستهدف، مركزي ولامركزي، وصيغة دمج “قسد” في الجيش الوليد. يعزّز هذا الشك غياب الشفافية، خاصة من السلطة الجديدة التي تقدّم استجابات متعارضة على المشكلات والملفات المطروحة كما في الإعلان الدستوري المؤقت، الذي لم يلحظ مستدعيات الاتفاق مع قسد وأهمية نجاحه على المسار العام، وتدخلات دول كثيرة للتأثير على مخارج المخاض السوري، من جهة، وحرصها على إرضاء تركيا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “لا نعتقد أن تكون هناك أي تنازلات في سورية أبداً بشأن مساعي الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية”، والسعودية، التي لا تنظر بعين الرضا إلى التمدد التركي في سورية، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة لما سيؤدي إليه عدم إشراك المجلس الوطني الكردي، القريب من قيادة إقليم كردستان العراق، في المفاوضات، ومنح “قسد” صفة تمثيل كرد سورية ومنح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان فرصة التقدّم في التنافس على زعامة الشعب الكردي وتسجيل نقطة على رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي مسعود البارزاني، من تكريس للانقسام الكردي السوري سياسياً واجتماعياً ومن ردود أفعال سلبية، وما قد يطرحه هذا من عقباتٍ على طريق تنفيذ الاتفاق.
تعدّدت تفسيرات خلفية الاتفاق من الكتّاب والناشطين السوريين، عرباً وكرداً، حيث ذهب كتّاب وناشطون عرب إلى اعتباره تنازلاً من قيادة “قسد” وقبولها بشروط السلطة الجديدة وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بالتطوّرات الإقليمية والدولية التي ستنعكس سلباً على “قسد” في ضوء احتمال حصول اتفاق تركي أميركي، وصدور قرار أميركي بالانسحاب من شمال شرق سورية، رجّحت مصادر عسكرية حصوله مع بقاء قوات أميركية في قاعدة التنف، ما دفعها إلى القبول بالاتفاق، بالرغم من أنه لا يلبّي تطلعاتها السياسية. في حين ذهب كتّاب وناشطون كُرد إلى اعتباره تنازلاً من السلطة الجديدة، وقبولها بشروط “قسد” وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بمأزق السلطة الجديدة في دمشق بعد اهتزاز صورتها على خلفية المجازر الطائفية التي وقعت ضد العلويين في عدة محافظات سورية وحاجتها لترميم هذه الصورة ببعث رسائل للداخل والخارج تشير إلى استعدادها للقبول بحلول في الملفات العالقة ترضي كل الجهات السورية. تفسيرات ذاتية هدفها الاحتفاظ بالرضا عن الذات، ربط معلق عربي يُقدم خبيراً عسكرياً بين الاتفاق وقدرة حكومة دمشق العسكرية، وقال: “إن القوة العسكرية التي استطاعت كسر نفوذ الفلول كانت بمثابة رسالة إلى قسد بأنها غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية التي تمتلكها حكومة دمشق”. قول متعسّف لم يلحظ أن الفلول قلةٌ لا تدعمهم حاضنة شعبية علوية وازنة، وأن ما لدى “قسد” من مقاتلين مدرّبين على القتال المنسق ومن أسلحة متطوّرة يفوق ما لدى الفلول وحكومة دمشق كثيراً.
يبقى أن ثمّة مخاوف مشروعة من فشل الاتفاق وعدم الذهاب به إلى نهاياته المحدّدة في ضوء جملة عوامل، لعل أولها أن الصيغة العامة لأهم البنود، الأول والثاني والرابع، قابلة لأكثر من قراءة، ما سيسمح بطرح قراءات متباينة من الطرفين خلال اجتماع اللجان المشتركة، ويفتح الباب أمام الإخلال بالاتفاق أو الانسحاب منه بذريعة الخروج عن مضمونه. وقد ظهرت التباينات إلى العلن في إجابات مظلوم عبدي على أسئلة رئيس تحرير مجلة المجلة إبراهيم حميدي، إذ قال: “نحن متفقون على أن وحدة الأراضي السورية، وإنشاء جيش موحد وإطار مؤسّسي واحد، والعاصمة الواحدة والعلم الواحد هي قضايا سيادية أساسية، لكن الكثير من التفاصيل، بما في ذلك آليات التنفيذ والجداول الزمنية والمسائل اللوجستية لم تُحلّ بعد، ولا تزال هناك اختلافات في التفاصيل ووجهات النظر. شمال شرق سورية ذو الغالبية الكردية [الكرد ليسوا أغلبية في هذه المنطقة] له ظروف مختلفة وستكون هذه العناصر على جدول الأعمال عند مناقشة تفاصيل دمج المؤسسات العسكرية. يجب أن يكون تقاسم الموارد الطبيعية عادلاً وأن تحصل جميع المناطق في سورية على حصتها العادلة. خلال حقبة حزب “البعث”، كانت جميع السلطات مركزة في المركز، يجب إنهاء ذلك وإعطاء بعض السلطات للمناطق وإنشاء حكومات محلية”… مواقف خلافية تستبق تشكيل اللجان والتفاوض على تنفيذ الاتفاق تشير إلى احتمال السعي لتحسين أوراق قسد التفاوضية أو إلى خط رجعة للتهرّب من تنفيذ الاتفاق؟.
أما ثاني العوامل، فالفترة المحدّدة لتنفيذ الاتفاق، حتى نهاية العام الحالي، بصيغتها المجملة، طويلة نسبياً، ما سيثير احتمال حدوث تحولات في المواقف، المحلية والإقليمية والدولية، تسمح لأحد الطرفين بالتراجع عن الاتفاق عامة أو عن بند أو أكثر من بنوده الثمانية. ثالث العوامل غياب سلم أولويات لعملية التنفيذ واحتمال افتعال تباينات واختلافات لدى تنفيذ البنود الإجرائية 3 و4 و5 و6 والتذرّع بذلك لعرقلة تنفيذ البندين 1 و2 المتعلقين بالحّقوق التي سيجسّدها النظام السياسي في حال عدم التوافق عليها، ما سيقود إلى فشل الاتفاق.
قادت صيغة الاتفاق العامة إلى وصفه من صحيفة لوموند الفرنسية بـ”خطاب نيات” وإلى اعتباره من السفير التركي السابق في سورية عمر أونهون “إطاراً عاماً أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ الفوري”، وقول الباحث في مركز القرن الدولي الأميركي آرون لوند: “في حين قد يبدو الأمر الآن وكأنه حلٌّ مربح للجانبين، فإن الاختبار الحقيقي سيكون في تنفيذه”، ودفعت النظام التركي إلى عدم البقاء متحفّزاً، وهو يراقب عملية تنفيذ الاتفاق، ليرى إلى أي مدىً سيلبي تنفيذه مطالبه بحل قوات سوريا الديمقراطية، وسحب سلاحها وعدم السماح بقيام حكم ذاتي كردي في شمال شرق سورية، بل تحرّك للتأثير على صيغة تنفيذ بنود الاتفاق، عبر مواصلة الضغط العسكري على “قسد” عبر مواصلة القصف الجوي والبرّي لمواقعها واغتيال كوادرها بالمسّيرات، لدفعها إلى التخلي عن تصوّراتها لحقوق الكرد وللنظام السياسي السوري القائم على اللامركزية، والقبول بتفسير لبنود الاتفاق يلبي مطالبه، والضغط، في الوقت نفسه، على السلطة الجديدة عبر عرقلة اندماج فصائل الجيش الوطني السوري في جيش وزارة الدفاع الوليد، والإبقاء على ارتباطهم به عبر دفع رواتب العناصر الجيش وتسليح وتذخير فصائله، كي لا تنسى مطالبه وشروطه لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية قيد التأسيس.
يبقى الاتفاق خطوةً مبشّرة على طريق مسار سياسي دقيق وحساس، حيث سيتوقف مستقبله على قدرة طرفيه المحليين على الموازنة بين مصالحهما المتضاربة وإدارتهما الملفّات الخلافية بدلالة الوطنية الشاملة والعدل والمساواة وتعاطيهما مع التدخلات الخارجية وضغوطها بمرونة وتوازن.
العربي الجديد
————————————
أبعد من إعلان دستوري/رفيق خوري
جاء على طريقة “كل السلطة للشرع” خلال مرحلة انتقالية مدتها 5 أعوام من دون أية مساءلة
الأربعاء 19 مارس 2025 1:01
ما رأيناه في الساحل السوري الذي تعرض المدنيون فيه لمذابح على أيدي فصائل سلفية مسلحة جاءت بها الدعوات في الجوامع إلى نصرة الإدارة الجديدة ضد عملية عسكرية قام بها ضباط من النظام المنهار، يشبه نسخة من كتاب “إدارة التوحش” الذي وقعه أبو بكر ناجي كاسم مستعار.
سوريا تنتقل بعد نصف قرن من صحراء سياسية إلى غابة نقاش سياسي مفتوح، لكن نقاش الألسن التي كانت خرساء محكوم حالياً بأن يكون نوعاً من سباحة في بحر اللايقين، على طريقة إدغار موران في توصيف الحياة، فالوضع الجديد في سوريا هو في جانب منه قديم جداً، وفي جانب آخر شبه حديث، ومن يقوده بعد السقوط الانهياري لنظام الأسد يبدو كمن يقوم بمهمة مستحيلة هي ركوب حصانين في وقت واحد، حصان السلفية وحصان التنوع في المجتمع، وأي “إعلان دستوري”، بصرف النظر عن النص الذي حمل توقيع الرئيس أحمد الشرع، هو بطبائع الأمور تكريس لمرحلة غير دستورية، مرحلة الغلبة والحكم بالشوكة على أيدي تنظيم سلفي يوحي أنه قابل للتغير بما يعكس التنوع والتعدد في المجتمع السوري، ومستعد لحكومة تشمل كل الأطياف السورية.
ذلك أن الإعلان الدستوري جاء على طريقة “كل السلطة للسوفيات” في الماضي وكل السلطة للأسد والوريث، فكل السلطة للرئيس الشرع خلال مرحلة انتقالية مدتها خمسة أعوام من دون أية مساءلة أو محاسبة، نظام رئاسي في بلد دمره نظام رئاسي مطلق، ولم يزدهر إلا خلال أعوام من النظام الديمقراطي البرلماني بعد الاستقلال، ولا سيما في خمسينيات القرن الماضي.
إنها مرحلة انتقالية لا تحمل في هذا الوقت الباكر جواباً عن سؤال لا بد منه وهو إلى أين الانتقال؟ وأي نظام بعد خمسة أعوام؟ وهل يستطيع من يمارس الحكم المطلق على مدى خمسة أعوام أن يبدأ المشاركة والتعدد والمساءلة في السلطة؟
ما رأيناه في الساحل السوري الذي تعرض المدنيون فيه لمذابح على أيدي فصائل سلفية مسلحة جاءت بها الدعوات في الجوامع إلى نصرة الإدارة الجديدة ضد عملية عسكرية قام بها ضباط من النظام المنهار، يشبه نسخة من كتاب “إدارة التوحش” الذي وقعه أبو بكر ناجي كاسم مستعار، لا بل إنه شيء من “فلتان التوحش” وما سمعناه من تشكيل لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي يوحي بأن العقاب آت، فالدرس الأول في سوريا هو أنها عانت إدارة التوحش على يد النظام الساقط، وبالتالي فإن المطلوب من الإدارة الجديدة هو إخراجها من التوحش لا إعادتها إلى نوع آخر منه، فكل توحش خطر وقاتل، ولا حاجة إلى تذكر ما فعلته “الخلافة الداعشية” في العراق وسوريا، فتجارب الإسلام السياسي في ليبيا وتونس ومصر فشلت وقادت إلى الخراب، والإسلام السياسي خسر شعبيته كما يقول جيل كيبل في كتابه “النبي والجائحة”.
الصراع اليوم بين الإسلام السياسي وخصومه، والتحرك صار من أسلمة الحداثة إلى تحديث الإسلام، وهذا هو التحدي المباشر حالياً خلال المرحلة الانتقالية، فحين تطلّع نوح فيلدمان إلى العراق بعدما هندس دستوره، وهو أستاذ القانون في جامعة هارفورد، لم ير سوى “شتاء عربي تراجيدي”، وقال إن “الديمقراطية مؤجلة وتحتاج الى جيل آخر”، وهذا ما ينطبق بالطبع على سوريا خلال المرحلة الجديدة، فليس في الوثائق التي صدرت حتى اليوم شيء عن الديمقراطية التي هي حلم السوريين بعد كوابيس الديكتاتورية الطويلة، وليس على جدول الأعمال أمام الإدارة الجديدة بند الديمقراطية، وحتى المواطنة فإنها تحتاج إلى زمن على جدول الأعمال.
وليس من المفاجآت أن يقرأ السوريون في قاموس مختلف عن القاموس الذي تقرأ فيه “هيئة تحرير الشام” التي أمسكت حتى الآن بكل مفاصل السلطة، ولا خارج المألوف أن يكون الأمن قبل الإصلاح، وأن تتقدم هموم التنمية ورفع العقوبات على هموم الانفتاح السلطوي، فالحاجة تبدو ملحة إلى التمكين في واقع سلطته المركزية غير ممسكة بكل المناطق والحدود، حيث تسود أنواع من اللامركزية بلا نظام، والفصل الكامل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحسب الإعلان الدستوري هو فصل بلا توازن بين السلطات، ولا يشبه الفصل في النظام الرئاسي الأميركي حيث كل سلطة لها سلطة تحد منها، فالمحكمة العليا تبث دستورية القوانين، والقضاة يوقفون قرارات الرئيس والوزراء، والكونغرس يحاكم الرئيس، ولا وزير يتولى المسؤولية قبل أن يوافق مجلس الشيوخ على تعيينه من جانب الرئيس، ومع ذلك تطغى أحياناً السلطة الرئاسية.
في كتاب “ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم” تقول أستاذة العلوم السياسية شيرلي بيرمان إن “الديمقراطية الليبرالية لا تحدث فقط بفصل رجال ونساء عظام، بل أيضاً نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، ولكي تنجح فإنها في حاجة إلى وحدة وطنية ودولة قوية”، والطريق في سوريا الجديدة يبدو أطول، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى وقت وجهود، والدولة القوية مثل الدولة الضعيفة خطرة من دون وحدة وطنية، والسلطة التي تعكس التنوع داخل المجتمع، لا السلطة التي يمارسها فريق من لون واحد، هي الشرط لازدهار الوحدة الوطنية.
في عز عصر الاستبداد أصدر المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، ووضع معادلة بسيطة لتحديد نوعية السلطة، “السياسة هي إدارة الشؤون العامة بمقتضى الحكمة، والاستبداد هو التصرف بالشؤون العامة بمقتضى الهوى”، ولا أحد يجهل أن مهمة أحمد الشرع صعبة وامتحانه كبير، لكن “الرجل الذي ينقل جبلاً يبدأ بحمل حجارة صغيرة” كما قال كونفوشيوس.
———————————
قراءة في الإعلان الدستوري السوري/ منى أسعد
18.03.2025
يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي…
كان السقوط المُهين لنظام الأسد الدكتاتوري الدموي المُغرق في استبداده، الذي استمرّ ما يزيد على خمسين عاماً، فرحة عارمة وحّدت مكونات المجتمع السوري جميعها، ودفعت بهم/ن الى الاحتفال في الشوارع والحارات. فبعد حرب أهلية استمرّت أربعة عشر عاماً، دُمّرت خلالها كل معالم الحياة في سوريا، بان للشعب السوري باب أمل ببدء مرحلة جديدة لا استبداد فيها ولا طغيان.
كان هذا حلم الجميع وأملهم بالحياة في دولة الكرامة والحرية والمساواة التامّة غير المنقوصة، وكان الجميع بانتظار أن يصدر الإعلان الدستوري الذي سيضع النواظم للانتقال إلى هذه الحياة التي يحلمون/يحلمن بها.
أجهضت لجنة الصياغة، كحال لجنة الحوار الوطني التي سبقتها، فرحة السوريين بإعلانها نصوص الإعلان الدستوري، لما اشتمل عليه من مسائل دستورية خلافية، فما هي أبرز النقاط الإشكالية؟
بداية لم تحظَ لجنة الصياغة بثقة شريحة واسعة من السوريين، لافتقارها إلى معايير الشفافية والتشاركية مع ممثلي المجتمع وقواه السياسية والمدنية، ممن يتوافق عليهم الشعب، الأمر الذي شكّل مساساً بمبدأ أساسي في النظم الدستورية، ألا وهو مبدأ الديمقراطية.
وأدى افتقار اللجنة إلى جهابذة القانون وأساتذته المشهود لهم بالخبرة الدستورية والفقه القانوني، سواء في القانون الدستوري، أو المدني، أو الجزائي، أو الشرعي، إلى وضع اللجنة في موقع الريبة والشكّ في قدرتها على صياغة إعلان دستوري جامع وموحّد لجميع أبناء البلد الواحد، بكل أطيافهم وتنوّعهم في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من تاريخ سوريا.
وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الإعلان الدستوري ليس دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً، إنما هو مجموعة نصوص قانونية ذات طبيعة دستورية، يُلجأ إليها بشكل استثنائي في البلدان الخارجة حديثاً من ظروف استثنائية، كالانقلابات العسكرية أو الحرب الأهلية أو النظام الاستبدادي الدكتاتوري، حيث يُعمَل بنصوص الإعلان الدستوري كخطوة انتقالية، بهدف إضفاء الصبغة القانونية على أفعال السلطة الحاكمة وقراراتها، في معرض تنظيمها أوجه الحياة كافة في البلد، ريثما يتم إصدار دستور جديد.
ولهذا، فإن خطورة الإعلان الدستوري لا تكمن في قلّة نصوصه، إنما في مقاصده ومضامينه، كونه يشرّع نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، ويشرّع في الوقت ذاته عمل السلطة القائمة في هذه المرحلة. بمعنى آخر، يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي من دون تحقيق الهدف المرجو من اللجوء إلى الإعلان الدستوري، ألا وهو التحوّل الديمقراطي الحقيقي المنشود.
في المقابل، بإمكان النخبة الحاكمة السير باتجاه الانتقال بالبلاد من دولة العنف والإقصاء والاقتتال، إلى دولة الديمقراطية والقانون، من خلال النصّ، بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، على إعمال مبادئ دستورية عدة، أهمها:
أولاً: النصّ على مبادئ الديمقراطية القائمة على حق الشعب في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمه، وحقّه في المشاركة في آلية الحكم، عبر اختيار من يمثّله في عملية صياغة القوانين والرقابة على تنفيذها وطلب إلغائها، في حال تعارضها مع مقتضيات الحياة الدستورية.
ثانيا: النصّ دستورياً على مبدأ المواطنة المتساوية، التي تُفيد بتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث وبين الأفراد في الدولة، والمتمثّلة بمعناها الحقوقي بالجنسية التي تمنحها الدولة لهم/ن، بكل ما تتضمّنه هذه العلاقة من حقوق وحريات أساسية تُعطي الفرد الواحد التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، كما وردت في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى حد سواء مع باقي الأفراد ممن يحملون جنسية الدولة، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب أو القومية أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الحالة الصحية أو الاجتماعية أو الانتماءات الأيديولوجية.
في المقابل، يترتّب على الفرد القيام بالواجبات كافة التي ينصّ عليها دستور الدولة. الأمر الذي يعزّز حسّ المساواة والانتماء الى الوطن، والتعايش السلمي في المجتمع، وفي ذلك ترميم للنسيج الاجتماعي الممزّق حالياً.
لذا، فإن عدم تضمين الإعلان الدستوري مبادئ المواطنة المتساوية، وعدم النصّ على ذلك صراحة، بذريعة النصّ على احترام التنوّع الديني والثقافي داخل المجتمع، لا يعني سوى إلغاء هذه الحقوق وضماناتها دستورياً، وهو الأمر الذي خبره السوريون والسوريات لأكثر من نصف قرن، بسبب فرض قانون الطوارئ طيلة تلك الفترة.
كذلك، قضت المادة 52 من الإعلان على أن “يستمرّ العمل بنصوص الإعلان الدستوري، طيلة المرحلة الانتقالية المحدّدة بخمس سنوات والقابلة للتجديد، حتى يُقرّ دستور دائم للبلاد”، وهنا أيضاً لم يحدّد أعضاء اللجنة الفترة الزمنية النهائية لإعداد الدستور الدائم، أو حتى المبادئ التي سيُبنى عليها وطرق إقراره، وهل هي المبادئ ذاتها التي عُمل بها وفق نصوص الإعلان الدستوري، أم ثمة مبادئ مختلفة للدستور المؤقّت أو الدائم؟ هذه الضبابية وعدم الوضوح في الحياة الدستورية، يخلقان لدى المجتمع حالة من القلق وعدم اليقين بالسويّة الدستورية للنظام وانعدام الثقة بديمقراطيته، بخلاف ما تقتضيه الأعراف الدستورية في العالم أجمع.
وبالعودة إلى نصوص الإعلان الدستوري، نجد أنه أكّد في المادة الثالثة أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، الأمر الذي يُفيد بقطع الطريق على المشرّع، ومنعه من اللجوء إلى مصادر أخرى لاستقاء أحكامه، كمبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والبناء على تلك المبادئ في صياغة النصوص الناظمة للحقوق والحريات في المجتمع، والقائمة على مبدأ المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية.
وعليه، فإن غياب هذا الأمر يُخلّ بمبدأ المساواة، الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، إذ على رغم أن غالبية المجتمع السوري من المسلمين، فإنه مجتمع متنوّع دينياً وعرقياً وإثنياً وطائفياً، وبالتالي يصبح من غير الجائز دستورياً، إخضاع بعض مكونات المجتمع من أتباع الديانات غير المسلمة إلى أحكام الفقه الإسلامي، سنداً لذريعة احترام خصوصية المجتمع السوري.
التمييز والتفضيل هذان بين أبناء المجتمع الواحد، سيزيدان من تعقيدات الحالة السورية، ويعمّقان شعور أبناء المجتمع السوري الواحد من غير المسلمين بالتهميش والأقصاء، بخاصة أن إعمال هذا النصّ سيؤدّي إلى إخضاع القوانين الوضعية كافة لأحكام الفقه الإسلامي، سواء منها قانون العقوبات أو القانون المدني أو قانون الجنسية، سواء في صياغتها أو تفسيرها كما في تطبيقها، وهو الأمر الذي سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، كما سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ حيادية الدولة تجاه مواطنيها ومعتقداتهم، وسيزيد في الوقت ذاته، من حدّة الانقسام الطائفي والديني، وسيرفع من مستوى الاحتقان المجتمعي، من دون أن يمنع ذلك مضمون المادة العاشرة التي تنصّ: “المواطنون متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات من دون تمييز…”، فهذا النصّ على رغم أهميته لن يمنع وحده، عودة الاحتقان المجتمعي الذي عانى منه المجتمع السوري لأكثر من نصف قرن، وأودى به إلى حرب أهلية استمرّت لأكثر من 14 عاماً، دُمّرت خلالها علاقاته الإنسانية ومُزّقت لحمته المجتمعية، وزادت من حدّة الاستبداد الدموي بمواجهته.
وهنا لا بد من التأكيد، أن الكثير من الدول الإسلامية تنازلت عن كون الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، مكتفية بأن دين الدولة الإسلام، لكن لا تطبّق الشريعة في محاكمها، كتجربة تونس مثلاً، حيث أقرّت “حركة النهضة” دستور 2011 المتضمّن النصّ على حيادية الدولة تجاه الدين، والنصّ على ضمان حرية الاعتقاد ورفض التكفير والحضّ على الكراهية.
وبالعودة ثانية إلى ما نصّ عليه الإعلان الدستوري، من نصوص تتعلّق بمسائل دستورية وثيقة الارتباط بآليات الحكم ونُظمه، وانعكاس ذلك على الحياة المجتمعية، منها تلك الناظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية، إذ ورد في نصّ المادة الثانية أن “الدستور يؤسّس لنظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات”، وهذا يفيد:
أولاً: عدم تحديد شكل نظام الحكم، وهل هو نظام رئاسي أم برلماني أم مختلط، على رغم أهمية هذا التحديد في تحديد معالم نظام الحكم وشكله، وآليات عمل سلطات الدولة الثلاث، وعلاقتها مع مواطني الدولة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
وثانياً، النصّ على عبارة “الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات”، التي تمسّكت بها لجنة الصياغة، يتعارض كلياً مع نصّ اللجنة ذاتها، من تجميع للسلطات الثلاث في يد رئيس الجمهورية، فهو رئيس السلطة التنفيذية والقائد الأعلى للجيش والقوّات المسلحة، وهو من يُعيّن رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة ويُقيلهم، وهو أيضاً من يُعيّن ثلث أعضاء السلطة التشريعية (مجلس الشعب)، وهو من يُعيّن اللجنة التي سيكلّفها باختيار الثلثين الباقيين من أعضاء (مجلس الشعب)، وهذا يعني أن رئيس السلطة التنفيذية هو أيضاً رئيس السلطة التشريعية، لكونها تتبع مباشرة لسيطرته بصفته رئيس الجمهورية.
والأخطر من ذلك، هو خضوع السلطة القضائية لرئيس الجمهورية، وذلك وفق ما نصّت عليه المادة 47 من الإعلان الدستوري، التي تمنح رئيس الجمهورية حقّ حلّ المحكمة الدستورية، وحقّ تعيين قضاة المحكمة الدستورية الجديدة… ومعروف أن المحكمة الدستورية تتمتّع بخصوصية عالية نظراً الى طبيعة مهامها، وأولها الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها وتطبيقها، ولها الحق في إلغاء القوانين وما يترتّب عليها في حال مخالفتها النصّ الدستوري، ومهمّتها الأساسية الثانية تتجلّى في كونها الجهة الوحيدة المخوّلة بمساءلة رئيس الجمهورية ومحاسبته، في حال ارتكابه مخالفة للدستور والقانون.
لذا فإن منح رئيس الجمهورية الحقّ في تعيين قضاة المحكمة الدستورية، يُفيد بفقدانها استقلاليتها وحياديتها ونزاهتها، بسبب تابعيتها لمن عيّن قضاتها، ألا وهو رئيس الجمهورية، الأمر الذي تفقد معه المحكمة قدرتها على القيام بصلاحياتها، سواء ما تعلّق منها بالرقابة على دستورية القوانين، الذي يفسح المجال للعمل بقوانين غير دستورية، أو ما تعلّق بمهامها من محاسبة رئيس الجمهورية في حال ارتكابه أعمالاً غير قانونية، أو أعمالاً تتضمّن مخالفات قانونية أو دستورية في معرض قيامه بواجباته ومهام عمله، الأمر الذي سيؤدّي إلى النصّ دستورياً على حالة الإفلات من العقاب، وهو ما كانت عليه حال المحكمة الدستورية السورية لأكثر من نصف قرن، استطاع خلالها الأسد الأب والأسد الابن النجاة من أية مساءلة قانونية، عما أقدما عليه من جرائم ومذابح بحقّ الشعب السوري.
أكّد أعضاء لجنة الصياغة عبر عشرة نصوص، صون الدولة للحقوق والحريات الفردية، لكنهم عادوا وأكّدوا في المادة 23 حقّ الدولة في” إخضاع هذا الحقّ للضوابط المتعلّقة بالأمن الوطني، أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام، ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”، الأمر الذي يُفيد برجوع الدولة عن التزامها بصون هذه الحقوق والحريات وحمايتها، من خلال إعمال أي من هذه الضوابط، الكثيرة حقاً.
وعليه، فإن إقرار الإعلان الدستوري هذا، بناء على الواقع السوري، وبكل ما تضمّنه من قصور في تبنّي مبدأ الديمقراطية، وحقوق المواطنة المتساوية، وما اشتمل عليه أيضاً، من تناقض بيّن ولبس واضح، عند النصّ على صلاحيات السلطة التنفيذية في الحدّ من الحريات والحقوق الأساسية، كما أن تمكين شخص الرئيس من إحكام سيطرته على سلطات الدولة الثلاث، والنصّ على تفرّد “الفقه الإسلامي بصفته المصدر الرئيس للتشريع”، ذلك كله سيحول دون تحقيق الهدف المرجوّ من الإعلان الدستوري، وهو اعتباره الناظم الدستوري لهذه المرحلة الانتقالية من تاريخ سوريا، الذي سيسمح للنخبة السياسية الحاكمة، بالسير بالمجتمع نحو إعادة بناء الثقة بين مكوّناته المجتمعية، ونحو مجتمع ديمقراطي تسوده مبادئ العدالة والمساواة التامّة والكرامة الإنسانية، بل يمكن القول إن الإعلان الدستوري هذا جاء على النقيض تماماً، إذ سيحول العمل به من دون بناء دولة القانون والمؤسسات، وسينحو حتماً إلى عودة النظام الدكتاتوري، وإن كان تحت مسمّى مختلف.
ربما والحال هذه، يمكننا القول بضرورة تعطيل هذا الإعلان الدستوري، والعودة إلى العمل بدستور 1950 كدستور مؤقّت، على رغم ما يشوبه من تحفّظات، ريثما يتمّ إقرار دستور جديد لسوريا الجديدة، يلبّي طموحات الشعب السوري وتطلّعاته الى حياة تسودها الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
– محامية سورية
درج
————————————
حكمت الهجري: لن ننفذ إعلاناً لا يتوافق عليه كل السوريين/ ضياء الصحناوي
19 مارس 2025
أصدرت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في سورية ممثلة بالشيخ حكمت الهجري بياناً، مساء اليوم الثلاثاء، عبر موقعها الرسمي، بينت فيه رؤيتها للوضع السياسي العام ورأيها بأداء الإدارة والحكومة الانتقالية. وأوضح الهجري أن الرئاسة الروحية حاولت منذ اليوم الأول لسقوط النظام البائد، الحفاظ على وحدة الوطن ومصير الشعب السوري، وقد مدت الأيادي للحكومة والإدارة الانتقالية أملأ في بناء دولة ديمقراطية تجمع كل مكونات الشعب السوري تحت سقف القانون العادل والمواطنة، ولكن بدأ يتضح للجميع أن الإدارة تستأثر بالقرار والسلطة والتعيينات ذات اللون الواحد بعيداً عن إرادة الجماهير وأحلامها في بناء وطن حر وديمقراطي.
ورأى الشيخ حكمت الهجري أن الإدارة تعمل بضبابيّة وغموض وتفرض سياسة الأمر الواقع وتحاول تغطية الأحداث عبر عناوين “ملثّمة” وتُصدر نفسها إلى العالم بصورة الوطن. وقال الهجري مخاطباً السوريين إن “الإدارة ورغم كل محاولات التواصل والوعود ما زالت تكرر مشهد إدارة اللون الواحد دون أي اعتبار أو احترام للشهادات والخبرات والأصول القانونية ولا للأعراف الدولية. وتتعامل أمام الشعب السوري والعالم بصفة المنتصر، وتفرض ما تريد على أبناء الوطن بأيادي الغرباء الملثمين، وتفرض قيادات من غير المختصين وتفصل الموظفين بشكل تعسفي”.
وانتقد الهجري مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في ساعات وحمل توصيات جاهزة ومخيبة للآمال، وكذلك الإعلان الدستوري الصادر عن اللجنة ذات اللون الواحد، التي “سلّمت كل البلاد لشخص واحد بصلاحيات مطلقة تؤسّس لسلطة استبدادية جديدة”. كما دان الهجري الجرائم التي ارتكبت في حمص والساحل السوري معتبراً أنها أعادت ببشاعتها إلى أذهان السوريين جرائم تنظيم “داعش”، محملاً الحكومة مسؤولية هذه الانتهاكات، ومؤكداً إدانة القتلة وضرورة محاسبتهم وطرد الغرباء إلى خارج الوطن.
وأكد الهجري أن الايدي “ما زالت ممدودة للتعاون مع الإدارة على أن تبدأ بتصحيح المسارات بدءا بالإعلان الدستوري” الذي يرى فيه أنه يكرس الدكتاتورية، مطالبا بإعلان دستوري يأخذ بالخصوصية التاريخية والثقافية لكامل البلاد ويحترم حقوق الإنسان، ويضمن المشاركة الفعالة للمواطنين في صنع القرار بدولة ديمقراطية موحدة، تقوم على مبدأ فصل السلطات واستقلاليتها، وصلاحيات محلية إدارية أوسع للمحافظات السورية، وكذلك يحد من صلاحيات منصب الرئاسة، مؤكدا عدم تنفيذ أي بند من دستور أو إعلان دستوري، لا يتوافق مع إرادة الشعب وحقوقه.
وطالب حكمت الهجري بعدم إشراك الغرباء بالجيش الوطني وقطاعات الشرطة ومفاصل الدولة، ونبه إلى أن الشعب السوري واعٍ وصاحٍ ولا تنطلي عليه أي حيل من تجنيس وتغييرات ديموغرافية، ولا تغطية أي تصرف بدستور أو قانون أو قرار ملثم، مشيرا إلى أن ثورة عمرها خمس عشرة سنة، جديرة أن تمنح الشعب حُكمه نفسه بنفسه وخير بلاده وكرامته بأمان وسلمية.
وكانت السويداء قد شهدت خلال الأيام القليلة الماضية حراكاً سياسيا هادفا لتوحيد الموقف والكلمة، بين المكونات السياسية ورجال الدين والوجهاء تمثل في عدد كبير من اللقاءات والحوارات بين جموع السياسيين من جهة والوجهاء وشيوخ العقل الثلاثة من جهة أخرى. وخلص هذا الحراك إلى تقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف والذي تمثل بين مكونين أحدهما يدعو للاندماج الكامل مع حكومة الشرع والآخر يرفض الاندماج بانتظار تصحيح مسارات الحكومة كما يدعي. وبالمحصلة، نتج عن هذه اللقاءات رؤية موحدة لمستقبل السويداء كجزء لا يتجزأ من الوطن الأم سورية، ورفض قاطع لكل ادعاءات التقسيم، وكذلك السعي لمد الأيدي لحكومة الشرع ضمن مجال النقد والتصحيح.
————————-
المعضلة السورية في الدولة والمجتمع/ سوسن جميل حسن
19 مارس 2025
منذ انطلاق الثورة السورية، باكراً في عمرها، بدأ التأسيس لذاكرة الدم، ونحن شعوبٌ في الأساس تعيش في الماضي، ولا تريد أن تنسى، شعوبٌ نحمل الماضي على كاهلنا مثل سلحفاة، مسيرتها نحو المستقبل تحرق قروناً من السنوات من دون أن تتقدّم، حتى تصير المسافة بينها وبين الركب الإنساني لا تقاس.
منذ 14 عاماً والشعب السوري يكرّس تبعيته للماضي في جوانبه المظلمة، دفع أثماناً باهظة في مقارعة الاستبداد، وفي سبيل نيل حريته ودفاعاً عن كرامته، لكنه لم يُنجز ثورته كما كان يرجو، على الرغم من الإنجاز الكبير في سقوط الطاغية. للثورة أهداف ومبادئ وقيم.
في الواقع، ازدادت حياة الناس بؤساً وفاقةً، وزيادة على ذلك عمّت الفوضى، وعُدنا إلى المربع الأول، وكأن نظام الأسد لم يسقط، بل الذي سقط آخر المشاعر والقيم الإنسانية.
سورية اليوم في أكثر مراحلها ضعفاً، وتحدّيات داخلية وخارجية كثيرة تقف في وجه بناء الدولة السورية، ولن يسلّم داعمو النظام الساقط الإقليميون بالهزيمة، على الرغم من الضربة التي تلقّوها، بل سيحاولون الانقضاض على سورية الوليدة وإثارة الفوضى فيها. لذلك كانت أدواتهم جاهزة للتحرّك في لحظةٍ ما، وهذا ما حدث في الساحل السوري، وجرى قتل كثيرين من عناصر الأمن العام، وهذا مرفوضٌ ومُدان، لأنه جهاز دولة، منوطٌ به حماية الأمن والسلم الأهليين، لكن مواجهة هذه الحالة من التمرّد لا تكون بفسح المجال لفصائل متطرّفة إلى هذا الحدّ، تضم أعداداً من المقاتلين الغرباء عن المجتمع السوري، من جنسياتٍ عديدة، بأن تواجه البيئة كلها، مستبيحةً أمن الساكنين في حياتهم وممتلكاتهم، ولا بإعلان النفير العام والدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، فالظرفُ لا يحتمل مزيداً من المواجهة الطائفية، وكثير من الشعب السوري لم تلتئم جراحُه، ولم تنصفه العدالة الانتقالية بعد.
يعيد المشهد نفسه، وكأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة، وصوّر هذه المشاهد من نفذ القتل، كما كان جيش النظام البائد والفصائل الرديفة يمارسون، كذلك التهجير، فأمام هذا العنف المنفلت هجّ مئات من الساكنين، هام قسم كبير منهم في البراري من دون وجهة، يبحثون عن النجاة فحسب.
أين المشكلة؟ بل أين المعضلة، ما دام أن الحروب الأهلية تتكرّر في سورية؟ ربما يمكن القول إن المشكلة تكمن في شكل الدولة، وفي شكل المجتمع السوريين، سورية البلد متعدّد الطوائف والإثنيات، لا يمكن أن تتعايش هذه التعددية وتعيش في وطن يشعر معه أبناؤه بالانتماء إليه والدفاع عنه والسير به ليواكب ركب الحضارة الإنسانية، من دون أن تكون هناك دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، لها دستور يشارك الجميع في صياغته، دستور يجعل الكرامة الإنسانية أعلى قيمة ومنطلق الحقوق لكل المواطنين، ويرفع من شأن الحرية، حرّية القول، حرّية العقيدة، حرّية التعبير عن الخصوصية الثقافية من دون فرض قيم ومبادئ أي طرف، مهما بلغ تعداده في الخريطة البشرية السورية، على أطراف أخرى.
تحت خيمة الحرية بحماية القانون، ربما يستطيع المجتمع أن يتأمل موروثه الثقافي بطريقة أخرى عوضًا عن التمسّك الأعمى به مهما حمل من سرديات متراكمة عبر تاريخ من الحروب والانكسارات، فيتصالح مع نفسه، ومع فكرة العيش في دولة مواطنة تقوم على القانون والمؤسّسات، فهل يمكن الحديث عن دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسّسات من دون الحديث عن الديمقراطية؟ إذا لم تتوافر الفرص أمام جميع شرائح المجتمع كي تكون فاعلة ومشاركة في صنع القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في الداخل، ورسم السياسات الخارجية، فسوف تبقى سورية تحت تهديد أخطار القلاقل التي تهدّد السلم الأهلي واستقرار المجتمع.
تحتاج سورية إلى مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية، وقائم على الحقوق. لقد أدّى النظام الشمولي الذي سيطرت فيه الدولة بإحكام على المجتمع والأفراد، وسعت إلى إضفاء أيديولوجية على المجتمع بأسره بالقوة، إلى تخريبٍ كاملٍ للهياكل السياسية والمؤسّسية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وروّجت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمرة، بتشجيع الهويات الضيقة والانتماء إلى الجماعة، سواء الطائفية أو القومية، وعزّزت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمّرة، بتشجيع هذه الهويات الضيقة والانتماءات، ما أدّى إلى جعل المجتمع السوري جاهزاً للاشتعال كلما توافرت الظروف الملائمة، زاد في هذه الحرائق المدمّرة ما تعرّض له الشعب السوري من قتل وعنف بمختلف أشكاله في سنوات الثورة، عدا وصف كل من ثار في وجهه بالإرهاب، وتمكُّن بعض الفصائل السلفية الجهادية من بعض المناطق في سورية، وتعزيز فكرها وطرق إدارتها المناطق التي تسيطر عليها.
إذا أضفنا صفة أخرى إلى النظام الشمولي الذي أدار به البلاد حكمُ الأسد، صفة الاستبداد، نفهم لماذا ترفض شرائح من الشعب السوري التسامح مع التعبير العلني عن الخلافات السياسية الكبيرة، فهذه إحدى مخرجات الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
لكن هل يصبح الوضع أسهل بمجرّد سقوط النظام وانتهائه وانتقال سلطة الدولة إلى الحكومة الجديدة؟ بالطبع لا، فهذا مرتبط بمسألة كيفية الحكم في هذه المرحلة. إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعد، وجذوره وقوته المؤسسية لا تختفي لمجرّد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سببٌ وراء الطريقة التي يتم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظامٍ ما، ووراء الطريقة التي يتم بها الحفاظ عليها، على الرغم من التوترات الداخلية والمصالح المتباينة، وما جرى في سورية بعد دخولنا في الشهر الرابع من سقوط النظام، أن الدولة تديرها حكومة انتقالية، يمكن القول إنها من لون واحد، قد يكون له مبرّراته كمرحلة انتقالية، لكن الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة المؤقتة ضرورة ملحّة، فأمام الحكومة مشكلات كبيرة: دفع رواتب الذين يعملون في الحكومة بانتظام، والتعامل مع النزاعات بطريقة مختلفة وأكثر عدلاً، وتعويض ضحايا الجرائم والانتهاكات السابقة، خاصة بعد تفعيل العدالة الانتقالية، وإقامة تحالفات جديدة مع الدول وقطاعات الأعمال الأخرى، والحفاظ على القانون والنظام، لقطع الطرق على الذين يحاولون استغلال الفراغ السياسي، والذين يحاولون القيام بأفعال إجرامية، تنشط بشكل كبير في ظروفٍ مشابهة.
جرى إشهار الإعلان الدستوري أخيراً، فأحدث ضجيجاً وسجالاً حامياً على مستوى القاعدة الشعبية، وهذا صحّي، فلدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة هذا الإعلان قراءة نقدية، وتحليله وبيان ما يقدّم من ضمانات لأهداف الثورة التي قام الشعب بها، أو مدى افتراقه عنها. وبحسب هذه الشريحة من المنتقدين، من حقوقيين وغيرهم، لم يكن هذا الإعلان الدستوري المرجو والمنتظر، بل يؤسس لسورية مغايرة عن التي طمح ببنائها معظم الشعب السوري.
من نافل القول إنه بعد فترة من الصراع الداخلي، كما وقع في سورية، وبعد التدهور الاقتصادي وانعدام الأمن السياسي والضغط الدولي، بدأ السكان، بعد أن عاشوا فرحتهم بسقوط النظام،، يطمحون إلى رئيس دولةٍ قادرٍ على تحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد، لكن هذا الأمر تواجهه تحدّياتٌ كبيرة، ويكمن التحدّي بشكل أساسي في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم، كذلك معاقبة مجرمي النظام السابق، بما تقتضي العدالة، ومواجهة الحركات القتالية التي تهدّد الأمن المجتمعي، كما حصل في الساحل السوري، إنما عن طريق أجهزة الدولة الوطنية، وليس بترك الفصائل تتدخّل فتستبيح أمن السكان وتضرم الكراهية والثأرية.
وما دام أن هذا الأمر وقع ولا مكان لنكرانه، بل أقرّ به الرئيس أحمد الشرع، وقال إن “بعض الانتهاكات وقعت” وشكّل لجنة تحقيق، كان من المفيد أكثر لو ضمّت شخصيات من الخارج، من أجل الموضوعية المطلوبة، وإحالة المرتكبين إلى القضاء، فإن ما تقتضيه المرحلة بعد الإعلان عن هذه اللجنة هو الإنصاف المرجو والموضوعية في تقويم الوضع، وينتظر أيضاً عرض كل المقاتلين الذين أثاروا الفوضى، ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وقتلوا عشرات من رجال الأمن العام، ليعرف الشعب مدى الخطورة التي تتربّص به، ويعرف أن الدولة تحمي الجميع. لكن سؤالاً مقلقاً يطفو اليوم، بعد الإعلان الدستوري الذي يرسم هوية الدولة والمجتمع السوريين خمس سنوات على الأقل في مرحلة انتقالية، عن مدى احتمال استقرار المجتمع في هذه الفترة، في ما لو لم تتم معالجة المشكلة من جذورها، والخروج على الناس بكل شفافيةٍ بعرض الواقع بكل ملابساته، كي لا تتكرّر هذه المأساة الإنسانية، ولا تتوسّع الاضطرابات التي تزيد من تفتيت المجتمع الذي يعاني، أساساً، هشاشة خطرة.
العربي الجديد
————————————
عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة/ رمزي عز الدين رمزي
التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي
آخر تحديث 18 مارس 2025
كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار “اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”. كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن “يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا”.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.
أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم “ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي” كما ينص القرار 2254.
غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.
لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.
ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك… غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.
جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.
إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.
كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ “رجل واحد– صوت واحد” يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.
ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.
ثالثا، الاتفاق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل “قوات سوريا الديمقراطية” على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.
رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.
أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.
ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.
يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.
لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.
وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.
ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.
المجلة
———————————-
100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات/ ياسين الحاج صالح
في الحاجة لشبكة أمان وطنية
18-03-2025
100 يوم بعد نهاية الحكم الأسدي هي مفصل زمني مناسب للنظر في ما حدث خلالها، وفي بعض الديناميكيات السورية الجارية، ثم في التناقضات الكامنة وغير المعالجة فيها. من المعقول أن نفترض أن الأيام الباكرة من عهد جديد، حيث الأمور غضة وقليلة التشكل، تعطي فكرة معقولة عمّا يُرجّح أن يجري على مدى أطول من عمر العهد.
الحدث واللاحدث
قبل كل شيء سقط النظام. لا يزال هذا خبراً مهماً. انطوت 54 سنة من «الأبد» والسلطة المُشخْصنة، من التطييف وتغذية الانقسامات الأهلية، من الإفقار السياسي والمادي، ومن العنف والجشع والكذب والترثيث. السقوط غير المتوقع إطلاقاً تحقق خلال 12 يوماً من هجوم قوات «هيئة تحرير الشام»، ما يدل على درجة متقدمة من اهتراء الحكم الأسدي من الداخل. النظام فرط، مركّبه الأمني أولاً، وقد تصرف قادة هذا المركب كمطلوبين ولاذوا بالفرار مثل رئيسهم. أما الجيش النظامي فقد سرّح نفسه وترك مواقعه الأمامية على جبهة الجولان. الحكومة حلّها الفريق المنتصر الذي تصرف بروحية بدءٍ مطلق، سرعان ما تخلى عنه لصالح مسالك تجريبية بلا قواعد، فأقرّ بعض الوزراء والمدراء على أعمالهم، لكنه أحل رجاله في جميع مفاصل السلطة، وجرى تسويغ ذلك بالحاجة إلى فريق متجانس. جرى تسريح موظفين من مختلف الإدارات بصورة متعجّلة عشوائية كذلك، ربما تتلاقى وراءها اعتبارات عقلنة الإدارة والحد من الهدر، بتصورٍ نيوليبرالي للدولة والاقتصاد، بنزعة عزل أنصار النظام السابق أو المستفيدين منه.
أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، صار الرئيس الجديد، ومقامه الرئاسي هو قصر الشعب الذي بناه رفيق الحريري لحافظ الأسد، والقصر يشغل موقعاً «بانوبتيكياً» من دمشق، بما يُمكِّن قاطنيه من المراقبة دون أن يُروا. الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، الشرع، شذب لحيته وارتدى ثياباً مدنية، ولم يلبث أن ارتدى طقماً وربطة عنق، وأخذت تظهر له صور مع نساء غير محجبات بعد أن كان طلب من أول امرأة شابة رغبت في أخذ صورة معه أن تغطي رأسها. كما ظهرت صورة لزوجته لأول مرة وعُرف اسمها. وزير خارجيته يتكلم الإنكليزية، ويقول كل «الكلام الصحيح» في المحافل الدولية. القوى الدولية أظهرت، بعد صدمة البداية وتردّد ما بعدها، إيجابية تجاه الوضع الجديد، لكن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد سقوط النظام يبدو إسرائيلياً في هذا الشأن، وإسرائيل أظهرت عداءً شديداً للوضع الجديد، وتستخدم في وصفه كلمتي الجهاديين والإرهابيين.
الشرع تكلم على نصرٍ بلا انتقام. وحكم هذا التصور النظر إلى قضية العدالة الانتقالية، ملاحقة ومحاسبة الجناة التي هي مطلب يجمع قطاعات شعبية بمجموعات حقوقية بنشطاء سياسيين ومثقفين، فضلا عن ارتباطه الوثيق بفكرة الثورة بالذات من حيث هي تطلع لإحقاق الحق، أي هو من أكثر المطالب وطنية وعمومية في سورية. الشرع وفريقه عرضوا تردداً بين منطق: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبين تجاوب تجريبي مع هذا الطلب الجامع، وصولاً إلى تقرير المبدأ في الإعلان الدستوري المؤسف الذي صدر قبل أيام. وبينما يمكن تقدير التردد الأول بأنهم يدركون أن عدالة انتقالية شاملة تعني مساءلة بعضهم عن ارتكابات مسجلة بحقهم، يحتمل أن يكون تفجر عنف طائفي إبادي في الساحل هو ما دفع نحو دسترة المبدأ. ويبدو أن الميل العام في أوساطهم هي قصر مبدأ العدالة الانتقالية على جرائم النظام (وداعش).
وفي اجتماعٍ لعسكر الحكم الجديد في مؤتمر النصر قبل نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي اختير الشرع رئيساً مؤقتاً، وهو أشار غير مرة إلى مرحلة انتقالية قد تدوم ثلاث سنوات أو أربعة أو خمسة، استقرت على خمسة في الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر قبل أيام.
وكان قد سُلِق مؤتمر للحوار الوطني أعدت له لجنة سباعية، خمسة رجال وامرأتان، عيّنهم الشرع. أخذت عملية الحوار، التي نُظّمت وفق محاور مناطقية حصراً، وقتاً قصيراً جداً، أعقبها مؤتمر ليومين، تمخّض عن توصيات عامة غير ملزمة. كان هذا مساراً ركيكاً، لا يعكس احتراماً لكفاح مديد، مرير، باهظ الكلفة. غياب الشفافية سمة مطّردة للوضع الجديد، الذي يبدو أنه يحب الكتمان في قضاء حاجاته، فيما يلزم وفيما لا يلزم.
في المحصلة، كان المؤتمر وما سبقه من تحضير لا-حدثاً، في بلد يحتاج إلى أحداث تُتذكَّر وتُعلِّم وتترك أثراً.
الحدث الثاني في الأهمية بعد سقوط النظام هو مذابح طائفية في الساحل أعقبت تفجّر تمرد مسلح على يد بعض عسكريي النظام السابقين، بتنسيق مع ماهر الأسد فيما يبدو، وربما بتشجيع إيراني. المتمردون قتلوا عشرات من عناصر الأمن العام، وقاد ذلك إلى مواجهة هوجاء، استُنفرت خلال أيامها الأربعة قطاعات سنية مُحتقنة، يغلب الظن أنه حفزها هلع من خسارة السلطة التي جرى الإمساك بها بعد مِحَن ويأس كبيرين، وتميل بفعل ذلك إلى خوض صراعات وجودية، أي إبادية. وبحسب معلومات متواترة جرت الدعوة إلى الجهاد في مساجد من قبل خطباء وأئمة سلفيين عينتهم السلطة الجديدة. كما شارك في المذبحة المهولة جهاديون أجانب منضوون في هيئة تحرير الشام، شاركوا في قتل إبادي لعلويين آمنين مسالمين. أُجهز في المذبحة على عوائل بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، هذا بينما قتل المهاجمون كامل ذكور عوائل أخرى. عدد الضحايا غير معلوم، لكنه ربما يبلغ الألف أو يتجاوزها. واقترنت المجازر بعمليات سلب ونهب لصوصية واسعة النطاق، وبإحراق بيوت وأثاث. ويقدر أن 10 آلاف لجؤوا إلى لبنان، وألوف إلى قاعدة حميميم الروسية.
ومنذ الآن هذه هي أكبر وأسوأ مذبحة ضد العلويين منذ نشوء الكيان السوري الحديث. إنها حدث كبير، أساسي، باقٍ، يتجاوز كونه تروما علوية لا تنسى، إلى جرح عميق في جسد الوطنية السورية بينما هي لا تزال وليدة، بما يهدد فرصها في النجاة.
وما يزيد سوء الجريمة سوءاً مشاركة متحمسة للقَتَلة الذي صوروا بأنفسهم أفاعيلهم، يمارسونها بتشف، وهم من أتاحوها للعموم. وعرضت بيئات سنية موالية ميلاً ثابتاً للجمع بين إنكار الجرائم والتقليل من شأنها، وبين تبريرها بجرائم سابقة للنظام الأسدي أو بتواطؤ راهن للعلويين مع فلوله المسلحين، وبين تسفيه المنتقدين.
الشرع أعلن في اليوم الثالث للمذبحة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم ومحاسبة الفاعلين، مكونة من سبعة أشخاص، بينهم امرأة واحدة؛ ولجنة أخرى، ثلاثية، أحد أعضائها علوي، لحماية السلم الأهلي. ليس ظاهراً إن كانت اللجنتان ستقومان بعمل جدي. فاللجان قد تشكّل لكسب الوقت واحتواء الضغوط، فتكون بذلك مقبرة للمشكلات لا معالجات حية لها.
الحدث المهم الثالث هو إعلان اتفاق بين «الجمهورية العربية السورية» و«قوات سورية الديمقراطية»، وقع عليه «الرئيس» أحمد الشرع و«القائد» مظلوم عبدي، وأُعلن عنه مساء يوم 10 آذار (مارس)، وقت كانت لا تزال تتوالى أخبار المجازر في الساحل. وهو ما حدا بالبعض إلى ربط منفعل بينهما، رافضاً واحدة من أجل الأخرى أو متعجلاً طي صفحة واحدة من أجل الأخرى.
هل سيطلق الاتفاق ديناميات توحد و«اندماج في الدولة السورية» لقوات «قسد»، وضمان هذه الدولة حق «المجتمع الكردي» في «المواطنة» والحقوق الدستورية الأخرى كافة؟ هذا ما يؤمل إن أخلص الطرفان في نياتهما، وإن لم تعبث قوى خارجية نافذة. ويبدو أن الأميركيين إيجابيون حيال الاتفاق الذي يرجّح أنهم دفعوا قسد لتوقيعه، وسط تقديرات بأن يسحبوا قواتهم من سورية قريباً. هذا أن ثبتوا على موقف ولم ينصاعوا للتفضيلات الإسرائيلية. وليس مؤكداً أن الأتراك سعداء بالاتفاق. زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية لدمشق يوم 14 آذار تثير التساؤلات عن مصيره.
والحدث الرابع وقع يوم 13 آذار: الإعلان الدستوري. غاب عن مراسم إعلان الوثيقة ممثلون للجماعات السورية، فيما كان الحضور السني، الديني والسياسي، طاغياً. الإعلان يركز السلطة بيد الرئيس، ويفتئت على الحقيقة بالكلام على فصل السلطات، بينما الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تقوم من جهتها «بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة»، تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. ما يخص الحريات العامة يبدو أنه يسهل التلاعب به عبر جواز إخضاع ممارسة تلك الحريات «للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة». هذا كلام مرسل مفتوح على تأويلات متعددة تلغيه.
وبينما يعني مفهوم الدستور ذاته أن الحكم دستوري، أي مقيّد وغير مطلق، فإن احتياطات الإعلان الدستوري ليست موجهة نحو السلطة ومخاطر إساءة استخدامها، بل نحو ضمان إطلاقها.
وبعد يوم واحد من صدوره، أعلن مجلس سورية الديمقراطية (مسد)، الجسم السياسي لقسد، رفضه للإعلان الدستوري بوصفه «مشروعاً مفروضاً من طرف واحد»، ما ينذر بسقوط اتفاق الشرع- عبدي الموقّع قبله بأربعة أيام. كلام «مسد» جاء في يوم زيارة المسؤولين التركيين المشار إليهما فوق.
وفي حين أن هناك إيقاع للزمن السوري اليوم يتصل ببدءٍ من الصفر في كل شيء تقريباً، بمشكلات على كل مستوى تقريباً، بسيولة عالية في «الأنفس والآفاق»، بما يضفي صفة تأسيسية على هذا الزمن، وما يوجب أن يكون ما يجري فيه أحداثاً مكونة وتأسيسية، فإن ما جرى ترتيبه بعد سقوط النظام لا يرتفع للمرتبة المفترضة من حيث الحدثية والتكوين والتأسيس، أو هو يسيء إلى ثلاثتها معاً.
ديناميات
من الواضح أن العمليات السياسية السورية خلال 100 يوم تدور حول الجماعات الأهلية الوراثية، وأن تطلعات التمثيل ومشاعر الاستبعاد تحيل إليها. القوى النابذة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً تحيل إلى هذه الجماعات دون غيرها: الكرد في مناطق من الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، والدروز في السويداء وفي جرمانا، والعلويون في الساحل ومناطق من حمص وحماه. وسِجِلّ الانفجار المفرط للعنف في الساحل يظهر قوة حضور هذا العنصر في اجتماعنا وسياستنا. وهي قوة لا تنفصل دون شك عن نزع وطنية الدولة والمجتمع طوال عقود الحكم الأسدي، بعد أن كانت هذه الوطنية ضعيفة أصلاً ولا تستند إلى قوة اجتماعية مِتنيّة، يلتئم البلد حولها. ربما يُفَكّر في أن العرب السنيين السوريين، بنسبتهم الأكثرية وبانتشارهم في مناطق البلد كلها، هم هذه القوة المتنية، لكن من الظاهر اليوم أنهم بعيدون عن ذلك، وإنهم أنتجوا قوى سياسية أقلّوية وليس بحال أكثروية، تعكس مزيجاً من فقد الثقة بالنفس والخوف من العالم، وتميل إلى العنف بسبب أقلّويتها أساساً. يقول إيديولوجيو الجماعة إن السنّيين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة. الواقع أن التعبيرات السياسية السنّية في سورية تعطي الانطباع بالأحرى بطائفة خائفة، تخشى انقساماتها المتعددة فتكبتها وتحاربها فتنقسم أكثر، وتخشى غيرها فتتصرف بلجاجة وعنف، فتكون قوة انقسام عامة. الفزعة الهائجة إثر هجمات فلول النظام في الساحل تدل على قلق وجودي كان المرء يفترض أن السنّيين هم الأقل معاناة منه، وأنهم الأرسخ وجوداً بالأحرى. ظاهر أنهم ليسوا كذلك، والانفعالات الموتورة التي يواجَه بها أي نقد للوضع الجديد تدل على الخوف وعدم الثقة أكثر من أي شيء آخر.
كان لافتاً مع ذلك أن المجتمع السوري أظهر ميلاً إلى التوحد والاتفاق، أقوى مما يتوقع المرء بخاصة إن أخذنا بالاعتبار أن قوى الإدارة الجديدة ليست سنّية فقط، بل هي ذات ماض قريب متطرف جداً. والأصل في ذلك على الأرجح هو إدراك واقعي لحقيقة أن كياناً له من العمر قرن ونيف له، على علّاته، فرص في الحياة أكثر من كيانات جزئية تنشأ اليوم، أو لبعضها من العمر بضع سنوات؛ وأنه يوفر فرص ترق اجتماعي وثقافي وسياسي وأخلاقي أوسع مما توفر أي من هذه الكيانات المحتملة الجزئية، بحكم تعدده المتعدد المستويات وتاريخه. أياً يكن الأمر فإنه لا يمكن لأحد أن يقول إن السوريين في أكثرهم لم يعطوا الإدارة الحالية فرصة.
وفي المقام الثاني ظاهر أن القوى الإقليمية والدولية ذات وزن كبير في العمليات السياسية السورية، أكبر مما لا يسمح بتوحد البلد وتعافيه، وبطبيعة الحال استقلاله. إسرائيل وسّعت احتلالها في الأراضي السوري ودمرت قدرات تسليحية سورية في الساعات الأولى التالية لفرار بشار وانهيار نظامه. وهي تثابر على الضرب في سورية ضد قدرات عسكرية، ويطلق قادتها تصريحات استعمارية بالغة العدوانية حول انتشار القوات السورية وزعم الاهتمام بمصير الدروز والكرد من الجماعات السورية. وفي حين أن إيران وتوابعها هزمت في سورية، فإن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين وبعض القوات، وعلى نحو مستغرب لم تطلب الإدارة الجديدة من الروس الخروج من البلد. ربما فكرت في أن وجودهم يوازن وجود القوى الأجنبية الأخرى، أو ربما تجنباً لاستعداء طرف قوي ويُخشى منه. الأميركيون لا يزالون هناك في الجزيرة وفي التنف، والأتراك في مناطق من الشمال، وهم يتصرفون كمنتصرين ورعاة للحكم الجديد مثلما تقدم.
ويشكل تفاعل الانقسامات الأهلية الداخلية والقوى الخارجية مُركّباً نعرفه منذ أيام المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني مركبات داخل/ خارج، أو تدخلات خارجية (من دول أساساً) و«تخرّجات» داخلية (من روابط أهلية وراثية)، بما يحول دون انحلال هذه «الروابط ما دون الوطنية» بلغة ياسين الحافظ قبل نصف قرن، وبما يوسع من هامش مناورة تلك القوى الخارجية، ويضيق من مساحة استقلال البلد ويحد من الفاعلية الدمجية للدولة، كما يضعف القوى الاجتماعية التي تتوافق مصلحتها مع تشكل داخل وطني مستقل.
والتفاعل نفسه يضع سورية في موقع صراع بين قوى إقليمية ودولية، يشابه ما وقع بين الاستقلال والحكم البعثي. الحكم الأسدي شكّل قطيعة مع نموذج «الصراع على سورية» الذي كتب عنه باتريك سيل كتاباً مهماً، لكن باستحداث نموذج أكثر كارثية: إغلاق تام للملعب الداخلي بالاعتقالات والمجازر، والتعامل مع السوريين كتابعين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وهذا مقابل اللعب في البلدان المجاورة و«الصراع على الشرق الأوسط» مثلما بيّن سيل نفسه في كتاب مهم آخر له عن حكم حافظ الأسد. دارة الدورة في عهد الابن، وطلب النظام نفسه حماة خارجيين ضد محكوميه، وصارت سورية ملعباً لأجانب من دول ومنظمات ما دون الدولة، هذا بعد أن كان مؤيدو النظام يثنون عليه بأنه حوّل سورية من ملعب إلى لاعب.
سورية في حاجة إلى كسر هذا التعاقب بين وطنية هشة ذات تعددية متقلبة غير مستقرة، وبين وطنية مصمتة تدور حول الحاكم الفرد، تؤول في مواجهة محكوميها إلى محمية لقوى أجنبية. وبينما يبدو أن سورية اليوم أقرب إلى النموذج ما بعد الاستقلالي من حيث قوة حضور الأهلي والخارجي في حياتها السياسية اليوم، فإن الإعلان الدستوري يدفع نحو نموذج أسدي بالأحرى. هل تستقيم هذه الوصفة؟ هذا صعب، ويستحسن التعامل مع مؤشرات اليوم المُبعِدة عن المركز على أنها مُحَكِّمة.
ما يمكن أن يكون أساساً أمتن لوطنية سورية جديدة هو تعطيل التخرّجات الداخلية بكسب الجماعات السورية كلها إلى جانب مشروع غير طائفي للدولة، ليس هو ما يبشّر به «الإعلان الدستوري». تحييد القوى الخارجية والحدّ من تدخلاتها مرغوب في كل حال ولكل أنواع الأسباب، الأمنية والاقتصادية والسياسية. مؤشرات 100 يوم لا تستجيب كفاية للتطلع الأول، ولا للثاني. السياسة الأسوأ بطبيعة الحال هي التي تجمع بين الاستئثار الفئوي بالدولة وتنفير القوى الإقليمية والدولية.
تناقضات
حجم التغيّر الذي حدث قبل 100 يوم كبير، إنه يطوي صفحة 54 عاماً أسدية ونحو 62 عاماً بعثية. من حيث حجم الحدث وتاريخيته يمكن التفكير فيه كاستقلال ثان، يطرح من جديد مهمة البناء الوطني: احتكار السلاح من قبل الدولة، مدّ سلطة الدولة إلى كامل التراب الوطني، توحيد القوانين، عقلنة وتوحيد نظم الإدارة، نظام تعليم وطني جامع، بنية تحتية تربط الجغرافية الوطنية وتكثّف التفاعلات بين أقاليم البلد، إلخ. الاستقلال الثاني مثلما نشأ كمفهوم يحيل إلى الديمقراطية، أو التحرر من السلطة الطغيانية للدولة بعد الاستقلال الأول الذي هو التحرر من الاستعمار. فهل إننا بالكلام على استقلال ثان نتكلم على ديمقراطية في سورية؟ إذا تكلمنا بلغة لم تعد مألوفة يمكن أن نقول إن المهمة الموضوعية المطروحة على سورية والسوريين هي الديمقراطية، حكم الشعب السوري المكوّن من مواطنين مستقلين، لكن «العامل الذاتي»، القوى الفعلية التي أسقطت الحكم الطغياني ليست ديمقراطية، بل وكانت تكفر الديمقراطية قبل سنوات قليلة.
هذا تناقض كبير أول بين المهمة الموضوعية والقوى الذاتية. وما يشبه هذه القوى الأخيرة من حلول يتراوح بين نظام تسلطي سنّي، وبين حكم متطرف ديني (هذان شيئان مختلفان، لا يبدو أن أحداً يريد تجنّب الخلط بينهما)، وقد يعمل على تمثيل الجماعات السوري الأخرى وفق نموذج «سياسة الأعيان» التي سبق أن تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري بخصوص السلطنة العثمانية في زمن ما بعد التنظيمات، وكان ساري المفعول في سورية حتى الوحدة مع مصر عام 1958. بالمناسبة، كان ألبرت حوراني ينسب إلى ما سماه «العالَم السني» خاصية جامعة تتمثل في «الثقة بالنفس والحس بالمسؤولية»، خلافاً للجماعات الأخرى في المشرق التي كانت «هامشية ومعزولة عن السلطة والقرار التاريخي». قال هذا عام 1947، أي بعد قليل من استقلال سورية الأول. اليوم، بُعيد استقلالنا الثاني وبعد نحو 70 عاماً من كلام حوراني، لا يبدو حال «العالم السنّي» كذلك، هو أقرب في الواقع إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس معاً.
تحيل معالجة هذا التناقض الأول إلى معضلات بناء الدولة السورية.
وفي المقام الثاني، هناك تناقضات تحيل إلى الذاكرات والرضوض والآلام السورية، نراها تفجرت بعنف وضغينة بعد كارثة الساحل. هناك ذاكرة ورضوض قطاعات من جمهور سنّي محتقن وشديد الانفعال ويشعر بأن آلامه لا تُحترم؛ ثم ذاكرة وألم جمهور علوي نشّطت المذابح الأخيرة مخاوفه الوجودية، وهو وريث تهميش مديد سابق للحكم الأسدي، جغرافي واجتماعي وسياسي. وهناك ذاكرة وألم جمهور كردي، تعرّض لإبادة ثقافية منذ نشوء الكيان السوري الحديث، ويشعر بالغربة في «الجمهورية العربية السورية» التي ثبّت الإعلان الدستوري تسميتها هذه لخمس سنوات (رغم تبنّي علم الاستقلال وتخصيص مادة لوصفه في الإعلان نفسه، العلم الذي كان اسم سورية وقت اعتماده أول مرة: الجمهورية السورية). وهناك بعد ذلك مخاوف وجودية للجماعات الأهلية السورية كلها، يبرز من بينها اليوم الدروز، لكن ظاهر كما قلنا من قبل أن العمليات السياسية تحيل إلى الجماعات الوراثية، والمخاوف والآلام والذاكرات المحتقنة تسهم في تصليب كياناتها. هذا بينما لا تسمح الانفعالات الحادة اليوم بتناول شامل وتأسيسي لصراع الذاكرات هذا. من يركزون على واحدة منهما ينسون الأخرى، وبعض من ينكرون مظلومية طرف أهلي (والمظلومية مزيج من مظالم وتمييز حقيقيين ومن أفعال سردية تضفي عليها النسقية، وتسهم في تشكّل هوية الطرف ذاته) يمضون إلى إثبات مظلومية أطراف أخرى. هذا الحاجة إلى بطل شرير في القصة السورية لا تصلح كأرضية لسياسة وطنية ولا كمعرفة تاريخية ولا كبيان حقوقي عادل. وبخاصة أنها تميل إلى تعريف البطل الشرير بالأهلي وليس بالسياسي، بالطائفة أو الإثنية وليس بالموقع والدور السياسي الفعلي.
ويفاقم من ذلك، ومن احتداد الانفعالات، أن من في الحكم، أي من في الموقع العام، اليوم، ليسوا ورثة مجادلاً فيهم لإحدى الذاكرات فقط، وإنما هم كذلك المتسببون بتنشيط ذاكرات اضطهاد سابقة.
تحيل معالجة هذه التناقضات الثانية إلى معضلات بناء المجتمع السوري كمجتمع موحد قابل للحكم.
وهذه كلها مسائل تأسيسية، نراها تُعالج اليوم بوعي غير تأسيسي، شكلي وإجرائي، مفتقر إلى معرفة كافية بالمجتمع السوري وتاريخه، كما إلى الحس التاريخي.
يضاف إلى ذلك تناقض إجرائي لفت إليه ياسين السويحة بعد ظهور الإعلان الدستوري بين طول الفترة الانتقالية، خمس سنوات، وبين «السلق» المتعجل للحوار الوطني والإعلان الدستوري. قد تلزم مرحلة انتقالية طويلة لمعالجة المشكلات والتوترات الكبيرة المذكورة وغيرها إن كانت الأجواء العامة في البلد إيجابية تحفّز أعداداً متزايدة من السوريين على المشاركة في التفكير والنقاش والفعل، لكن التعجّل والشكلانية تضعف الثقة بالإدارة الجديدة والثقة العامة بين السوريين، وتنشر بالعكس من ذلك أجواء من التشاؤم والانكفاء، على نحو يجعل من خمس سنوات فترة طويلة جداً، ليس مضموناً ألا تشهد كوارث وآلاماً رهيبة جديدة. بعد مجازر الساحل ارتفع منسوب التشاؤم بحدة في البلد، انخفض قليلاً بعد الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية، قبل أن يعاود الارتفاع بعد الإعلان الدستوري.
وللتقدم نحو معالجة هذه التناقضات لا بد من الإجابة على سؤال: ما هي الأمّة في سورية؟ إلام تحيل ما سماها أحمد الشرع وهو يوقع الإعلان الدستوري «الأمة السورية»؟ أإلى السوريين على اختلاف منابتهم الأهلية؟ أم إلى السنّيين السوريين دون غيرهم؟ أم إلى المسلمين السنيين في العالم؟ وهل الدولة دولة السوريين؟ أم دولة السنّيين السوريين؟ أم هي دولة للمسلمين السنيّين في سورية؟ ذلك أن احتكار الدولة للسلاح يستقيم فقط على أرضية كون الدولة دولة وطنية سيدة، تقوم باسم «الأمة السورية». وهو ما يتعارض كل التعارض مع امتلاك أجانب للسلاح، واستخدامه ضد سوريين مثلما جرى في مذابح الساحل. يُجرِّم مفهوم الدولة كمقر للسيادة امتلاك أي قطاعات من السوريين خارج الدولة للسلاح، لكنه يجرِّم أكثر امتلاك غير سوريين للسلاح في سورية. هذا عدوان أجنبي، ينزع وطنية الدولة التي لا تقاومه. ولا يحل هذا التعارض بغير تجريد غير السوريين من السلاح، وطردهم إلى بلدانهم أو إلزامهم، إن كانوا لا يستطيعون العودة، بالإقامة المعلومة في مناطق بعينها كلاجئين مسالمين.
وقد يمكن إجمال كل هذه التناقضات تحت التناقض بين الثورة السورية والدولة السنية، أو بين الرهان الوطني الجامع للثورة واللون الواحد للفريق المسيطر اليوم. لهذا التناقض تاريخ بالغ القسوة هو الزمن الفاصل بين بدء الثورة في مثل هذا اليوم من عام 2011 وبين يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، الذي بدأ فيه هجوم هيئة تحرير الشام ومن معها، الذي تمخض عن إسقاط النظام خلال 12 يوماً. ثلاثة عشر عاماً وثمانية أشهر وثماني أيام، هي زمن فظيع من القمع والتعذيب والإبادة، والخسارات العظيمة، والتهجير، واللجوء إلى بلدان قريبة وبعيدة، دفعت ثمنه بصورة خاصة البيئات السنّية السورية. هل حكم اليوم وريث 13 عاماً وفوق ثمانية أشهر، أم وريث 12 يوماً؟ إن كانت الأولى فينبغي أن يكون الحكم تعددياً، جامعاً، واستيعابياً، وإن يكن لسنّيين فيه وزن أكبر. وإن كانت الثانية، يقرر فيها من يحرر على ما قيل في شعارٍ يذكّر بشعارات أسدية مسجوعة مثله، فإننا نحصل على حكم واحدي لبلد متعدد، متناقض مثلما كان الحكم الأسدي، وقد لا يحل تناقضه بغير التوسع في العنف. وفي هذا ما يقود إلى قلب مفهوم الدولة على نفسه، ليطابق الدلالة العربية القديمة لكلمة دولة: نوبة أو دور في الحكم، يقصر أو يطول، لكنه ينتهي بعد سنوات أو عقود عاصفة. ثم إنه لما كان السنّيون أكثرية السوريين ديمغرافياً، ولما كان يتعذر أن يحظى بالنفاذ إلى الحكم غير نسبة محدودة منهم، فإنه يُرجّح لانقساماتهم الجهوية أن تلعب دوراً في فرز من هم أقل ومن هم أكثر تساوياً بينهم في فرص النفاذ. وهكذا نخسر سورية موحدة، ولا نحصل على غير جماعة سنية منقسمة.
هل تنجو سورية؟
ركز هذا التناول على مسؤولية من هم في السلطة لأنهم الفريق الأقوى، والشاغل للموقع العام. في الواقع عرضت قطاعات من المهتمين بالشأن العام، بعد مجازر الساحل بخاصة، استعداداً للانزلاق نحو الهياج والتحريض، وحتى الخطاب الطائفي المُصقِع. وهو ما يساهم في مفاقمته تهتك وإباحية مواقع التواصل الاجتماعي، الجديرة بالفعل بأن تسمى مواقع قطيعة اجتماعية. منسوب قلة الاحترام العام، المرتفع سورياً أصلاً، رفدته مواهب قلة الاحترام التي برع فيها منافحو الفرق الكثيرة.
هل تنجو سورية؟ ليس مضموناً بحال. يجزع كثير من السوريين من فشل الحكم الجديد في معالجة هذه الملفات، حتى وهم يعارضونه، لأنه يُحتمل لذلك أن يعني انهيار البلد. لكن لا يبدو أن الحكم الجديد ينصح نفسه ويشق له ولسورية مسالك غير استئثارية. وبعد أن رأينا بعض «البروفات» الكارثية خلال الـ100 يوم المنقضية، لا بد من التساؤل عن سبل ضمان نجاة البلد في حال جرى الانزلاق نحو مهاوي العنف والانقسام. سورية في حاجة إلى شبكة أمان وطنية في مواجهة هذه المخاطر، والعمل من أجل ذلك من أوجب ما يلزم اليوم.
موقع الجمهورية
لتحميل كتب باتريك سيل
كتاب الأسد ؛ الصراع على الشرق الأوسط
وكتاب: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، 1945 1958 باتريك سيل
أو من الرابط
لتحميل كتاب الشرق الأوسط الحديث (جزئين) لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون
الشرق الأوسط الحديث الجزء الأول
الشرق الأوسط الحديث الجزء الثاني
—————————-
====================