الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 19 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

————————–

التضليل الإعلامي يقود سوريا إلى الفتنة الطائفية/ ابتسام تريسي

19/3/2025

لا يخفى على أحد أثر الصورة على الرأي العام في أيّ بقعة من بقاع العالم، فكلّنا يذكر صورة رئيس الشرطة الوطنية وهو يُطلق النار على سجين فيتنامي وسط الشارع، التي اقتنصها مصور الأسوشيتدبرس لتُحوِّل فيما بعد مسار الحرب الوحشية في فيتنام. وكلّنا يذكر صورة الطفل الكردي ديلان، الذي لفظه البحر على أحد الشواطئ التركية لتنفتح بعدها الحدود أمام الهجرة السورية. وليس بعيدًا صورة الطفلة التي ينتظرها النسر لتموت؛ كي يأكلها في السودان أيام المجاعة القاتلة.

لم يكن مصطلح “الترند” موجودًا في تلك الأيام إذ أصبح مشهورًا في زمن السوشال ميديا التي فتحت الباب واسعًا أمام الكذب والافتراء بفضل ما بات يُعرف بالذكاء الاصطناعي. في مطلق الأحوال، نستطيع القول إنّ الإعلام هو البطل الحقيقي (سلبًا وإيجابًا) في الحروب، والنزاعات، والصراعات بين البشر. فهو العصا الحقيقية التي تُحرّك القطعان البشرية على سطح هذا الكوكب.

    الإعلام والانقلاب الغبي على الدولة السورية

ما نزال في سوريا نعيش هذا الصراع الدموي منذ عام 1958 وحتى اللحظة، وقد تصاعد بشكل صاروخي منذ 2011 وحتى الآن، وما تزال الصورة أو الترند يتلاعبان بعقول البشر حيث يأخذ الإعلام صورة بشكل انتقائي يتماشى مع أهداف مشغليه ويُخفي ما عداها، وكلّ ذلك من أجل تجييش الجموع باتّجاه محدد، وما يزال أصحاب العقول الرخوة تلتقط ما يُبث، وتبني مواقفها على أساسه.

رأينا ذلك أثناء الحركة الانقلابية الغبية التي قام بها فلول النظام الأسدي مدعومين بمنصات إلكترونية دولية معادية للحكومة الجديدة في دمشق، لقد اختاروا القتال بالزي المدني لتظهر فيديوهاتهم على أنّهم قوى مدنية يتمُّ الاعتداء عليها. فبركوا الكثير من الفيديوهات، ونشروها ليتلقفها أصحاب الأجندات الخارجية، وأصحاب العقول الرخوة من الناس. وأقصد بأصحاب العقول الرخوة أولئك الذين يتكاسلون عن البحث والتدقيق.

    تجاوزات فردية صعّدت وتيرة الصراع الطائفي

أثناء قمع الحركة الانقلابية وقعت تجاوزات من أناس موتورين، ومن أصحاب فكر ظلامي لا يفرّقون بين مقاتل وبريء. ومن تلك التجاوزات على سبيل المثال صورة المرأة التي قُتل أبناؤها الثلاثة، فقد أيقن معظم المجتمع السوري أنها من فعل الأمن العام، لتتضح الصورة فيما بعد أنّ من قتلهم شبيحة مقداد فتيحة؛ لأنّهم مع الدولة؛ ولأنّهم معارضين للحركة الانقلابية. ومع تعاطفنا الكامل مع هذه الأم ومع أبنائها، إلا أنّ الصورة استُخدمت من قبل النشطاء الإنسانيين على مواقع التواصل ضدّ الدولة، ، وخرج المثقفون السوريون في باريس إلى الساحات بوقفة تضامنية مع أبناء الساحل من الطائفة العلوية، وكان بينهم الشاعر أدونيس الذي صمت 14 عشر عامًا عن مجازر الأسد بحجة أنّ الثورة خرجت من المساجد.

في الوقت ذاته لم يُشر هؤلاء إلى أكثر من ثلاثمئة أم ينتظرن جثامين أولادهن في بقية المحافظات السورية. فمقتل ابن الأكثرية قد يكون جريمة تحتاج إلى نظر، أمّا مقتل ابن الطائفة فجريمة لا تُغتفر. قِلّة من الناس من كتبوا على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى استحياء إدانتهم للمجرم أياً يكن، لكن في المقابل دبجوا المقالات الطوال ضدّ أصحاب الفكر الظلامي “يقصدون فقط الحكومة الجديدة”.

    ما هكذا تورد الإبل

عندما نطالب بالعدالة الانتقالية، فإنّنا نطالب بها من أجل كلّ الضحايا. قديمًا وحديثًا فتلك الجرائم التي حصلت منذ عام 2011 وحتى الآن لا تموت بالتقادم، ولا تموت بقولنا “عفا الله عمّا مضى”، ولا تموت بعبارة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.

وإذا كنّا حريصين على السلم الأهلي فعلينا أن نرى أولاً من غدر بالسلم الأهلي وتسبّب بكلّ هذا الدم؟ إنّه ذاته من أراد الانقلاب على الحكم الجديد، هو ذاته من جعل الخوف يدبّ في قلوب الأكثرية التي عانت القتل والتهجير، والخوف من عودة نظام البراميل. هذه الأكثرية الخائفة شكّلت -خلال ساعات- جيشًا لوأد الفتنة، والقضاء على الانقلاب نتيجة رعبهم من نجاحه. وفي الحروب دائمًا سيسقط الكثير من الأبرياء، خاصة عندما يكون أحد طرفي النزاع هم من تسبب بالتغريبة السورية، وهم من كان الطرف الآخر يحتفل بجوعهم، وموتهم، ويرقص وعلى رأسه الحذاء العسكري. هؤلاء المقاتلون ليسوا ثوارًا، وليسوا ملائكة في الوقت نفسه. ومن أخطأ منهم تجب محاسبته، لكن العبث في عش الدبابير لن يُخرج عسلاً كما توهّم الانقلابيون.

    زمن الفبركة الإعلامية ومنصة تأكد

لقد أيقنت الكثير من الصحف الغربية من وجود تلاعب واضح كعين الشمس، ومخابرات العالم أجمع يعرفون أدق التفاصيل التي تجري على الأرض في سوريا، فقد نشرت صحيفة ألمانية الصور الحقيقية لما جرى من تزوير للواقع.

لكنّ الشعب السوري الذي جرفته مشاعر الغضب والتعصب لم يعد يميّز بين ما هو حقيقي وما هو مزور مما جعل بعض النشطاء ينشؤون منصة باسم “تأكد”. تلك المنصة حريصة على ملاحقة المنشورات المزيفة والبحث عن أصل الصورة والخبر. مع هذا لم تستطع منع انجرار الأكثرية لتداول الصور المزيفة، والفيديوهات المزورة لما جرى في الساحل السوري يوم الانقلاب وبعده. فقد حاول الفلول من أيتام الأسد تحويل أنفسهم من قتلة طائفيين مجرمين إلى أشخاص مدنيين تعرضوا للاضطهاد والانتهاكات من قبل الجيش الذي يحاول السيطرة على الانفلات الأمني وإعادة الهدوء والأمان لمدن الساحل السوري. أما إظهاره بشكل متوحش، وعبر حملة منظّمة وممنهجة فحدث للتغطية على إجرامهم بحقّ الأكثرية خلال العقود الماضية وختامها بالحركة الانقلابية التي انتهت بهم في خيام في قاعدة حميميم الروسية حيث عزلهم الروس لانتشار أمراض بينهم. وقد أبلغهم الروس بعد العزل أنّهم سينقلون مع عوائلهم إلى بلد آخر لم يصرحوا لهم عن اسمه، من المرجح أن يكون إسرائيل بعد أن طالبوها بحمايتهم.

 كاتبة وأديبة سورية

صدر لها عشر روايات، وأربع مجموعات قصصية.. حائزة على الجائزة الأولى لمسابقة سعاد الصباح عن مجموعة “جذور ميتة”.. والجائزة الأولى لموقع لها أون لاين عن مجموعة “نساء بلا هديل”.. والجائزة الأولى لمسابقة المزرعة عن رواية “الخروج إلى التيه”. ودخلت رواية “عين الشمس” القائمة الطويلة لجائزة البوكر

الجزيرة مباشر

—————————–

تحقيق استقصائي يكشف خفايا “لواء درع الساحل” وارتباطاته المشبوهة

2025.03.19

كشف تحقيق استقصائي أجرته منصة “إيكاد” عن خفايا تنظيم “لواء درع الساحل”، الذي برز مؤخرًا كأحد الميليشيات المسلحة المسؤولة عن أحداث تمرد شهدها الساحل السوري.

ويشير التحقيق إلى وجود عمليات تضخيم إعلامي منظم، وارتباطات مشبوهة بالدوائر الإعلامية الإسرائيلية، فضلًا عن شخصيات وكيانات يُرجّح أنها وهمية.

نبذة عن “لواء درع الساحل”

وفقًا لما توصل إليه فريق “إيكاد”، فإن “لواء درع الساحل” تم تأسيسه في فبراير الماضي على يد “مقداد فتيحة”، وهو جندي سابق في قوات نظام الأسد، معروف بسجل حافل بانتهاكات جسيمة، شملت عمليات قتل خارج نطاق القانون والتمثيل بالجثث.

وبحسب مصادر التحقيق، فإن فتيحة كان ينتمي إلى “الفرقة 25” التي يقودها سهيل الحسن، وكان أحد عناصر “الحرس الجمهوري”، وسبق أن ظهر في صور موثقة بجوار جثث قام بإحراقها.

في 6 مارس/آذار الجاري، نشرت صفحة تحمل اسم “مقداد فتيحة – لواء درع الساحل الاحتياطية”، مقطع فيديو لفتيحة يعلن فيه عن التمرد المسلح ضد الحكومة السورية. وبعد لحظات فقط من نشر الفيديو، بدأت صفحات موالية للحكومة بالترويج لمحتوى مشابه، مما يشير إلى احتمال وجود تنسيق إعلامي مدروس.

ووفقًا لتحليل فريق “إيكاد”، فقد تم رصد ذروتين للنشاط الإعلامي حول “لواء درع الساحل”:

    في فبراير/شباط مع الإعلان الأولي عن تشكيل التنظيم.

    في مارس/آذار بعد إعلان التمرد، حيث شهدت مواقع التواصل موجة واسعة من التفاعل باستخدام وسوم محددة مثل (#المقاومه_لواء_درع_الساحل) و(#المقداد٣١٣).

كما يطرح التحقيق تساؤلات حول طبيعة “لواء درع الساحل”، خاصة مع وجود صفحات إلكترونية يُعتقد أنها وهمية تدعم التنظيم، إضافة إلى ارتباطه بحملات تضليل إعلامي لها امتدادات خارجية. كما يشير إلى احتمال وجود تلاعب في تصوير قوة وانتشار اللواء، ما يعزز فرضية كونه جزءًا من سيناريو أكبر لأغراض سياسية أو عسكرية.

    #تحقيقات

🧵 | على مدى أيام بعد التمرد الذي حصل في الساحل السوري، عمل فريق إيكاد على تتبع صفحات “لواء درع الساحل”، أحد الفصائل المسؤولة عن الأحداث، لنكشف عن أسرار جديدة، منها ارتباطها بصفحات إسرائيلية، وعمليات تضخيم إعلامي مدروسة، وشخصيات وألوية منضوية تحتها يرجّح أنها وهمية وتحاول… pic.twitter.com/4Oi4jiIPkf

تلفزيون سوريا

———————————

المعضلة السورية في الدولة والمجتمع/ سوسن جميل حسن

19 مارس 2025

منذ انطلاق الثورة السورية، باكراً في عمرها، بدأ التأسيس لذاكرة الدم، ونحن شعوبٌ في الأساس تعيش في الماضي، ولا تريد أن تنسى، شعوبٌ نحمل الماضي على كاهلنا مثل سلحفاة، مسيرتها نحو المستقبل تحرق قروناً من السنوات من دون أن تتقدّم، حتى تصير المسافة بينها وبين الركب الإنساني لا تقاس.

منذ 14 عاماً والشعب السوري يكرّس تبعيته للماضي في جوانبه المظلمة، دفع أثماناً باهظة في مقارعة الاستبداد، وفي سبيل نيل حريته ودفاعاً عن كرامته، لكنه لم يُنجز ثورته كما كان يرجو، على الرغم من الإنجاز الكبير في سقوط الطاغية. للثورة أهداف ومبادئ وقيم.

في الواقع، ازدادت حياة الناس بؤساً وفاقةً، وزيادة على ذلك عمّت الفوضى، وعُدنا إلى المربع الأول، وكأن نظام الأسد لم يسقط، بل الذي سقط آخر المشاعر والقيم الإنسانية.

سورية اليوم في أكثر مراحلها ضعفاً، وتحدّيات داخلية وخارجية كثيرة تقف في وجه بناء الدولة السورية، ولن يسلّم داعمو النظام الساقط الإقليميون بالهزيمة، على الرغم من الضربة التي تلقّوها، بل سيحاولون الانقضاض على سورية الوليدة وإثارة الفوضى فيها. لذلك كانت أدواتهم جاهزة للتحرّك في لحظةٍ ما، وهذا ما حدث في الساحل السوري، وجرى قتل كثيرين من عناصر الأمن العام، وهذا مرفوضٌ ومُدان، لأنه جهاز دولة، منوطٌ به حماية الأمن والسلم الأهليين، لكن مواجهة هذه الحالة من التمرّد لا تكون بفسح المجال لفصائل متطرّفة إلى هذا الحدّ، تضم أعداداً من المقاتلين الغرباء عن المجتمع السوري، من جنسياتٍ عديدة، بأن تواجه البيئة كلها، مستبيحةً أمن الساكنين في حياتهم وممتلكاتهم، ولا بإعلان النفير العام والدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، فالظرفُ لا يحتمل مزيداً من المواجهة الطائفية، وكثير من الشعب السوري لم تلتئم جراحُه، ولم تنصفه العدالة الانتقالية بعد.

يعيد المشهد نفسه، وكأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة، وصوّر هذه المشاهد من نفذ القتل، كما كان جيش النظام البائد والفصائل الرديفة يمارسون، كذلك التهجير، فأمام هذا العنف المنفلت هجّ مئات من الساكنين، هام قسم كبير منهم في البراري من دون وجهة، يبحثون عن النجاة فحسب.

أين المشكلة؟ بل أين المعضلة، ما دام أن الحروب الأهلية تتكرّر في سورية؟ ربما يمكن القول إن المشكلة تكمن في شكل الدولة، وفي شكل المجتمع السوريين، سورية البلد متعدّد الطوائف والإثنيات، لا يمكن أن تتعايش هذه التعددية وتعيش في وطن يشعر معه أبناؤه بالانتماء إليه والدفاع عنه والسير به ليواكب ركب الحضارة الإنسانية، من دون أن تكون هناك دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، لها دستور يشارك الجميع في صياغته، دستور يجعل الكرامة الإنسانية أعلى قيمة ومنطلق الحقوق لكل المواطنين، ويرفع من شأن الحرية، حرّية القول، حرّية العقيدة، حرّية التعبير عن الخصوصية الثقافية من دون فرض قيم ومبادئ أي طرف، مهما بلغ تعداده في الخريطة البشرية السورية، على أطراف أخرى.

تحت خيمة الحرية بحماية القانون، ربما يستطيع المجتمع أن يتأمل موروثه الثقافي بطريقة أخرى عوضًا عن التمسّك الأعمى به مهما حمل من سرديات متراكمة عبر تاريخ من الحروب والانكسارات، فيتصالح مع نفسه، ومع فكرة العيش في دولة مواطنة تقوم على القانون والمؤسّسات، فهل يمكن الحديث عن دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسّسات من دون الحديث عن الديمقراطية؟ إذا لم تتوافر الفرص أمام جميع شرائح المجتمع كي تكون فاعلة ومشاركة في صنع القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في الداخل، ورسم السياسات الخارجية، فسوف تبقى سورية تحت تهديد أخطار القلاقل التي تهدّد السلم الأهلي واستقرار المجتمع.

تحتاج سورية إلى مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية، وقائم على الحقوق. لقد أدّى النظام الشمولي الذي سيطرت فيه الدولة بإحكام على المجتمع والأفراد، وسعت إلى إضفاء أيديولوجية على المجتمع بأسره بالقوة، إلى تخريبٍ كاملٍ للهياكل السياسية والمؤسّسية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وروّجت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمرة، بتشجيع الهويات الضيقة والانتماء إلى الجماعة، سواء الطائفية أو القومية، وعزّزت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمّرة، بتشجيع هذه الهويات الضيقة والانتماءات، ما أدّى إلى جعل المجتمع السوري جاهزاً للاشتعال كلما توافرت الظروف الملائمة، زاد في هذه الحرائق المدمّرة ما تعرّض له الشعب السوري من قتل وعنف بمختلف أشكاله في سنوات الثورة، عدا وصف كل من ثار في وجهه بالإرهاب، وتمكُّن بعض الفصائل السلفية الجهادية من بعض المناطق في سورية، وتعزيز فكرها وطرق إدارتها المناطق التي تسيطر عليها.

إذا أضفنا صفة أخرى إلى النظام الشمولي الذي أدار به البلاد حكمُ الأسد، صفة الاستبداد، نفهم لماذا ترفض شرائح من الشعب السوري التسامح مع التعبير العلني عن الخلافات السياسية الكبيرة، فهذه إحدى مخرجات الأنظمة الشمولية الاستبدادية.

لكن هل يصبح الوضع أسهل بمجرّد سقوط النظام وانتهائه وانتقال سلطة الدولة إلى الحكومة الجديدة؟ بالطبع لا، فهذا مرتبط بمسألة كيفية الحكم في هذه المرحلة. إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعد، وجذوره وقوته المؤسسية لا تختفي لمجرّد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سببٌ وراء الطريقة التي يتم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظامٍ ما، ووراء الطريقة التي يتم بها الحفاظ عليها، على الرغم من التوترات الداخلية والمصالح المتباينة، وما جرى في سورية بعد دخولنا في الشهر الرابع من سقوط النظام، أن الدولة تديرها حكومة انتقالية، يمكن القول إنها من لون واحد، قد يكون له مبرّراته كمرحلة انتقالية، لكن الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة المؤقتة ضرورة ملحّة، فأمام الحكومة مشكلات كبيرة: دفع رواتب الذين يعملون في الحكومة بانتظام، والتعامل مع النزاعات بطريقة مختلفة وأكثر عدلاً، وتعويض ضحايا الجرائم والانتهاكات السابقة، خاصة بعد تفعيل العدالة الانتقالية، وإقامة تحالفات جديدة مع الدول وقطاعات الأعمال الأخرى، والحفاظ على القانون والنظام، لقطع الطرق على الذين يحاولون استغلال الفراغ السياسي، والذين يحاولون القيام بأفعال إجرامية، تنشط بشكل كبير في ظروفٍ مشابهة.

جرى إشهار الإعلان الدستوري أخيراً، فأحدث ضجيجاً وسجالاً حامياً على مستوى القاعدة الشعبية، وهذا صحّي، فلدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة هذا الإعلان قراءة نقدية، وتحليله وبيان ما يقدّم من ضمانات لأهداف الثورة التي قام الشعب بها، أو مدى افتراقه عنها. وبحسب هذه الشريحة من المنتقدين، من حقوقيين وغيرهم، لم يكن هذا الإعلان الدستوري المرجو والمنتظر، بل يؤسس لسورية مغايرة عن التي طمح ببنائها معظم الشعب السوري.

من نافل القول إنه بعد فترة من الصراع الداخلي، كما وقع في سورية، وبعد التدهور الاقتصادي وانعدام الأمن السياسي والضغط الدولي، بدأ السكان، بعد أن عاشوا فرحتهم بسقوط النظام،، يطمحون إلى رئيس دولةٍ قادرٍ على تحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد، لكن هذا الأمر تواجهه تحدّياتٌ كبيرة، ويكمن التحدّي بشكل أساسي في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم، كذلك معاقبة مجرمي النظام السابق، بما تقتضي العدالة، ومواجهة الحركات القتالية التي تهدّد الأمن المجتمعي، كما حصل في الساحل السوري، إنما عن طريق أجهزة الدولة الوطنية، وليس بترك الفصائل تتدخّل فتستبيح أمن السكان وتضرم الكراهية والثأرية.

وما دام أن هذا الأمر وقع ولا مكان لنكرانه، بل أقرّ به الرئيس أحمد الشرع، وقال إن “بعض الانتهاكات وقعت” وشكّل لجنة تحقيق، كان من المفيد أكثر لو ضمّت شخصيات من الخارج، من أجل الموضوعية المطلوبة، وإحالة المرتكبين إلى القضاء، فإن ما تقتضيه المرحلة بعد الإعلان عن هذه اللجنة هو الإنصاف المرجو والموضوعية في تقويم الوضع، وينتظر أيضاً عرض كل المقاتلين الذين أثاروا الفوضى، ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وقتلوا عشرات من رجال الأمن العام، ليعرف الشعب مدى الخطورة التي تتربّص به، ويعرف أن الدولة تحمي الجميع. لكن سؤالاً مقلقاً يطفو اليوم، بعد الإعلان الدستوري الذي يرسم هوية الدولة والمجتمع السوريين خمس سنوات على الأقل في مرحلة انتقالية، عن مدى احتمال استقرار المجتمع في هذه الفترة، في ما لو لم تتم معالجة المشكلة من جذورها، والخروج على الناس بكل شفافيةٍ بعرض الواقع بكل ملابساته، كي لا تتكرّر هذه المأساة الإنسانية، ولا تتوسّع الاضطرابات التي تزيد من تفتيت المجتمع الذي يعاني، أساساً، هشاشة خطرة.

العربي الجديد

———————————-

الطائفيّة التي نتجاهلها!/ حازم صاغية

تحديث 19 أذار 2025

في الآونة الأخيرة، وبالتفاعل مع مأساة الساحل السوريّ، سُمعت أصوات كثيرة يمتزج فيها الندم بالاعتذار: لم نقدّر أنّ الطائفيّة على تلك القوّة التي بدت عليها.

فمن أين يأتي هذا الإغفال المتمرّد على شواهد لا تُحصى؟

أغلب الظنّ أنّ ثمّة ميلاً إنسانيّاً رديئاً يغازله الإغفال، مفاده صمت المرء عن نواقص عالمه وعن قصوره. فمُربكٌ ومنغّص إقرار واحدنا بأنّ عطلاً عميقاً يقيم في بيته وأهله وجماعته. وفي المقابل، تستقرّ النفس على استواء هانئ حين نرسم صورة تطفح بالورد عن «أهلنا» الأحبّاء المظلومين.

لكنّ الطائفيّة هي، بمعنى ما، نحن. فهي ليست الدين، ولا رذيلة متأصّلة فينا منذ أجدادنا الأوّلين. إنّها علاقة سياسيّة، وبالتالي ثقافيّة، حديثة في اسمها وفي اشتغالها، من دون أن ينقطع استلهامها لتركيب مجتمعاتنا العصبيّ القديم. ذاك أنّ الأخير أحياه، بدل أن يتجاوزَه، نوع استقبالنا الحداثةَ، ونوع بنائنا الدولَ والسياسة والاقتصاد…

وتجاوباً مع ميل الإغفال، تحضر الآيديولوجيّات النضاليّة عن العداوة لتعزّز تلك الصورة. فالعدوّ، الاستعماريّ والصهيونيّ والشيطانيّ، ينبغي رسمه كَسَلْب أقصى، كي يطمئنّ يقيننا إلى أنّنا إيجاب أقصى. وفي هذا الإيجاب، الذي يتجسّد فينا، يستحيل أن توجد ظاهرات «معيبة» كالطائفيّة والعشائريّة وسواهما.

وفي مُضيّنا باللعبة إلى أواخرها، يتولّى العدوّ إيّاه «بذر» ما قد يُضبط فينا من سيّئات يصعب إخفاؤها. فهو، لأنّه مطلق العداوة ومطلق السوء، يبذر في تربتنا الفتنة والشقاق، والطائفيّة في عدادهما. هكذا تغدو تلك «الآفة» من نتائج انخراطنا في السوق العالميّة، و«تغلغل» الرأسماليّة فينا، وإصلاحات ابراهيم باشا المتأثّرة بالغرب. وهذا علماً بأنّ صحّة تأويل كهذا تجعل تجميد التاريخ ووقف الحياة شرطاً لوقف التآمر علينا.

ولأنّ تلك الطائفيّة صُوّرت خارجيّةً وطارئة، تسبّبَ بها «العدوّ»، يتكفّل بالشفاء منها وعي آخر قوميّ أو علمانيّ أو ديمقراطيّ، لا نبلغه إلاّ في سياق الصراع مع «العدوّ»، باذرِ الشقاق، ومعه التخلّف والتأخّر. هكذا نهوّن الأمر على أنفسنا بفولكلور متقادم: فالمسيحيّ فارس الخوري سبق أن صلّى في الجامع الأمويّ، وقبله أعلن الدرزيّ سلطان الأطرش الثورة على الفرنسيّين، بينما كان العلويّ صالح العلي يُكمل في الساحل ما بدأه ابراهيم هنانو في حلب.

لكنْ إذا كان الجهد المطلوب إيقاظ تلك اللحظات المضيئة، والقفز قرناً كاملاً إلى الوراء لإعادة إجلاس السادة المذكورين في حضن «الشعب الواحد»، فإنّ «العدوّ» إيّاه، في مطاردته لنا بالشرور، لا يدعنا نفعل ذلك، إذ يواجهنا بآلاته الاستشراقيّة التي تُخبرنا أنّنا على شيء من الطائفيّة!. واستكمالاً لصورة الشرّ المطلق، يعثر مثقّفونا على ما يلهب مخيّلتهم في كلّ صفحة يكتبها غربيّ نقداً للغرب والحداثة والعقل والتنوير، ممّا تفصلنا عشرات السنين عن بلوغ تناقضاتها.

وإذ يُرسَم الرئيس الأميركي دونالد ترمب معادلاً حصريّاً لما آلت إليه تلك المعاني، لا ينجو من اللعنة إلاّ طلاّب جامعات كولومبيا المُصرّون على «نزع الاستعمار».

وإلى أفعال «العدوّ»، وهو ليس بريئاً بأيّة حال، تُضاف أفعال «النظام»، وهو أيضاً غير بريء. لكنّ «النظام»، كـ«العدوّ»، خارجيّ، منشقّ عن الأصالة والطيبة اللتين فينا، وهابط علينا من السماء. وهذا علماً بأنّ أسوأ ما يفعله «النظام» تجديده العلاقات العصبيّة «الأصيلة» عبر جهاز الدولة وتقديماته وفُرصه.

ووراء تأويل الكون بـ«النظام» (وهو غالباً ما يُرسَم عوناً للعدوّ ولو تظاهر بالعكس) تقيم ثنائيّة حصريّة وساذجة أخرى: فهناك هذا النظام، مؤسّس العيوب، وهناك الشعب أو الجماهير ممّن هم ضحاياها. ويستند التصوّر هذا إلى المبالغة في أنّنا شعب واحد وأمّة واحدة، وتحويل مهامّ صعبة مطروحة للمستقبل، وغير مضمونة النتائج، إلى وصف مُريح لواقع ناجز. هكذا لا يعود مطلوباً سوى الانتقال من مسح الدم عن السكاكين إلى اختيار «تغيير ديمقراطيّ» أو «وطنيّ ديمقراطيّ» أو «ديمقراطيّ علمانيّ»…

في هذا كلّه تحتلّ مساحةً تكاد لا تُذكر موضوعاتٌ ذاتيّة الصنع، من صنف «دين الدولة» و«دين رئيس الدولة» و«مصادر التشريع». وبمساحة ضئيلة مماثلة تحظى مكافحة الروابط العابرة للأوطان، والأوطانُ ودولها هي وحدها ما يحمي الجماعات الأضعف ويُخضع الجموح الآيديولوجيّ للقانون بوصفه حصنها الضعفاء وملاذهم. وليست محاربة «العدوّ» حتّى الرمق الأخير سوى مسمار آخر ندقّه في نعشنا. ذاك أنّ تسييد القضيّة الواحدة يحمل على تصغير قضايا الحقوق والحرّيّات، إن لم يكن تصفيرها. والضعفاء، تعريفاً، ينشدّون إلى تعدّديّة القضايا، ولا يطمئنهم إلاّ عالم قليل السلاح وعديم الكلام المسلّح. أوليس لافتاً، من منظور مشرقيّ، ذاك الانتقال بين ليلة وليلة من الاصطهاج بـ«طوفان الأقصى» إلى «التذابح بين الأخوة»؟

وهذه جميعاً، من دين الدولة وتجديد العصبيّات وغلبتها إلى الوعي العابر للحدود إلى القضيّة الواحدة…، تناقض تماماً ما اصطُلح على تسميته بالغرب وتناوئ اقتراحاته، متوهّمةً بهذا إكمال المعركة ضدّه. لكنّنا، أقلّه كي لا نُفاجأ ثانية بالطائفيّة، مدعوّون إلى التنقيب في أحوالنا وأفكارنا، وفي إسهامنا بتعزيز تلك الطائفيّة من حيث أردنا محاصرتها.

الشرق الأوسط

————————–

عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة/ رمزي عز الدين رمزي

التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي

آخر تحديث 18 مارس 2025

كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار “اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”. كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن “يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا”.

ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.

أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم “ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي” كما ينص القرار 2254.

غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.

وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.

لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.

ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك… غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.

جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.

إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.

كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ “رجل واحد– صوت واحد” يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.

ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.

ثالثا، الاتفاق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل “قوات سوريا الديمقراطية” على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.

رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.

أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.

ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.

يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.

لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.

وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.

ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.

المجلة

————————————-

ما بعد الوطنية السورية: الإنكار القسري للمسألة الطائفية إذ ينتهي انفجاراً في الوجوه/ موريس عايق

19-03-2025

        يلحظ المرء لدى الحكم الحالي في سوريا جملة من الأمور التي تذكّر بالنظام السابق، سواء في سلوكياته مثلما حصل مع مؤتمر الحوار الوطني الذي يشبه في إخراجه ومخرجاته ودوره الوظيفي مؤتمرات الحوار التي سبق للنظام أن دعا إليها، أو في خطابه الإعلامي للداخل والخارج، وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي الحالي مع المذبحة الحاصلة بحق العلويين. ما يمكن قوله هو أن هذه التشابهات العديدة التي تجمع الحكم الحالي بالنظام السابق تشير إلى جذر مشترك لها يتعلق بطبيعة الكيان والدولة. هناك «ثوابت» يحيل إليها كل من يمسك بزمام الأمور تنشأ من طبيعة السلطة المركزية وحاجات فرضها، وأيضاً من طبيعة ما يفرضه الكيان السوري نفسه والمخيلة التي يستلهمها الجميع في سوريا، بمعزل عن إيديولوجياتهم وانتماءاتهم.

        على مستوى الخطاب الإعلامي، تظهر لدى الممسكين بالسلطة في سوريا لغة وطنية مُترفعة ومنكرة للانقسامات الأهلية، الطائفية خاصة ولكن أيضاً القومية/الإثنية، فيتم التأكيد على وحدة الشعب السوري وتجاوزه لهذه الانقسامات وتعاليه عنها، وكأنها أمراض ولحظات عابرة لسوء الفهم. في المقابل، يتم توصيف المعركة بأنها معركة مع فلول النظام السابق، المقابل الحالي للإرهابيين السابقين، الذين يستهدفون الشعب السوري كله. العداء هو مع هؤلاء وليس مع طوائفهم وجماعاتهم، وبالتالي تُنكر الطبيعة الأهلية للانقسامات فيما يصبح التأجيج الطائفي والأهلي مشروع هؤلاء الفلول، كما سبق وكان مشروع الإرهابيين، الذين يسعون إلى صبغ النزاع بالطائفية وتوريط طوائفهم «الكريمة» لتقديم النزاع كنزاع طائفي يكون معبراً لتدخلات خارجية تنال من سوريا. هذا ما كانه خطاب الأسد على مرّ ما يزيد عن العقد خلال الحرب الأهلية السورية، واليوم هو خطاب أهل السلطة، وخاصة في اللحظات الحالية حين المواجهة في الساحل على أشدها، مترافقة مع مواجهات باردة مع الدروز وقسد. بالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة وجود الفلول وعصابات النظام السابق فيما يحدث حقيقة في الساحل، لكن هذا لا يقدم كل الصورة ولا يلغي حقيقة الانقسام الأهلي الكامن خلف هذه الصدامات والنزاعات.

        وفي تشابه آخر، يظهر إلى جانب الخطاب الرسمي المترفّع عن الطائفية خطاب شعبي موغل في التحريض الطائفي ومعباً بالرموز الطائفية وأساطيرها ودعوات الثأر لديها. إن متابعة لوسائل التواصل الاجتماعي، وأكثر من ذلك قنوات تيلغرام حيث تغيب المحاذير وتحضر إمكانيات أكبر لأشكال التعبير مثل الفيديوهات، والأشكال الشعبية للاستنفار والنفير والتظاهر، تقدّم للمرء صورة عن قدر التجييش الطائفي وحضوره المفرط لدى القواعد، سواء الحاضنة الشعبية أو القواعد التنظيمية. وهي ازدواجية سبق وشاهدناها لدى نظام الأسد، بين خطاب رسمي وطني وآخر شعبي وقاعدي شديد الطائفية. كما يرافق هذا الخطاب القاعدي الطائفي وقائع التنكيل الأهلي والقتل والإذلال على طول خطوط الانقسام الطائفي.

        ليست هذه التشابهات وليدة الصدفة، بل تقول الكثير عن خطوط مستقرة وثابتة لحاجات السلطة بوصفها سلطة، ونتاج الكيان السوري والمخيلة الأهلية. نحن نشهد هذه المتوازيات رغم كل التباين الإيديولوجي، فالبعثي القومي تحدث كما يتحدث السلفي الجهادي اليوم حين تواجدا في الموقع نفسه ووقفا أمام المهمة نفسها وحملا الطموح الخاص بالسلطة نفسه. هذه المتوازيات يجب أن تدفعنا أكثر باتجاه التعامل مع سؤال السلطة مباشرة ومع سؤال الكيان السوري ومعضلاته الأهلية التي تسعى السلطة، أياً كانت هذه السلطة، لإنكارها، بحيث يكون نكرانها جسراً لهندسة اجتماعية تريدها وسلطة تحتكرها. ولهذا فإن التشكيك والريبة من هذه الوطنية هو مدخل إجباري لمساءلة السلطة نفسها والحذر منها، فخطاب الوطنية من طرف السلطة لا يسعى ولا ينجح، ماضياً وحاضراً، في بناء وطنية سورية حقّة؛ بقدر ما كان خطاباً لإسباغ الشرعية على احتكار السلطة وبناء العصبية اللازمة لضمانها والاحتفاظ بها.

        بعيداً عن خطاب الوطنية الرسمي ومتفرعاته، لدينا مسألة طائفية (وقومية فيما يخص الأكراد) مطروحة علينا وبقسوة بالغة، مسألة طائفية نصادفها في كل مسألة تخص بناء سوريا. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال جرائم النظام السابق وتحقيق العدالة لضحاياه، كما هي حاضرة في المقلب الآخر لضحايا الثورة أنفسهم. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال شكل الدولة وطبيعة الحكم، في تقسيم السلطة وشكل المؤسسات، في إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، في تقسيم الثروات. في كل أمر نسعى إلى مناقشته نرى المسألة الطائفية في أحد وجوهها حاضرة بشكل مباشر. رغم ذلك، هناك إصرار على نفيها والقفز عنها، بحسب التقليد السوري القائم على إنكار أي بعد طائفي في النقاش والتحايل عليه. نحاول نفي السؤال الطائفي عن كل مسألة رغم أنه يقبع في خلفية تفكير كل من يتناول هذه المسألة، والجميع يعلم. الجميع يعلم أن سؤال العدالة في سوريا هو سؤال طائفي بامتياز، وأن جميع من يتعاطى الملف يتعاطى معه انطلاقاً من هذه الطائفية الكامنة فيه. لكن، وفي لحظة النقاش العام ومحاولة بناء استراتيجيات لتناول سؤال العدالة، يصر الجميع على إقصاء المسالة الطائفية والمخاتلة حولها عبر التأكيد على فردية الجريمة وغياب البعد الطائفي، فيما تذهب الوقائع على الأرض في اتجاه مغاير وشديد الخطر.

        منذ سقوط النظام، يسود في سوريا مزاج سنّي ظافر مشفوعاً بإحساس هائل بمظلومية عظيمة ألمّت به، حُمل خلال ما يزيد عن العقد على خطاب قائم على سردية المواجهة مع النظام النصيري. هذا المزاج الحالي شديد الخطر، يرغب بالثأر سواءً لضحاياه في الحرب أو لعقود الذل التي عاشها تحت نظام الأسد. هذا المزاج هو الأساس اليوم لبناء عصبية سنّية تكون قاعدة لعصبية النظام الجديد، ومنطلق التغاضي عن كل مخاطره وتوجهاته. لن يكون الآخرين وحدهم ضحايا هذه العصبية، رغم كونهم ضحايا مباشرين لها عبر تسويغ الحرب ضدهم، لكن سيكون الكثير من السنّة لاحقاً ضحايا هذه العصبية. يتوزّع السنّة على كامل الجغرافيا السورية وعلى الطيف الاجتماعي، من كل الطبقات، ومن كل الخلفيات الاجتماعية، ومن كل الخلفيات الإثنية؛ ولهذا فمن الصعب أن يكون هناك إطار جامع لهذه العصبية. هم كتلة الأمة التي لا يمكن لها أن تكون كلها في الحكم. تعتاش العصبية السنية الحالية على مخيلة الصراع والحرب، على سردية نزاعها مع الآخرين، دون لُحمة ذاتية وداخلية، ويتطلب الحفاظ على هذه العصبية حرباً مستمرة؛ ملاحقة مستمرة للفول. وتتطلّب أيضاً تطهيراً داخلياً مستمراً لإجلاء صورة نمطية، بالحد الأدنى المقبول، للسنّي. سوف يدفع الكثير من السنة ثمناً غالياً لمحاولة إنتاج وتعميم هذه الصورة، خاصة بالنظر إلى الصورة الممكنة لهذا السني الحق التي يحملها القائمون على السلطة اليوم، وقد بدأ هذا الأمر مبكراً مع الأكراد، وصولاً إلى محنة عفرين وما تلاها.

        وفي مقابل العصبية السنية الحالية نجد جماعات أخرى ينهشها شعور بالخطر الوجودي على نفسها، أو التدهور والخضوع الذي لن يعوضه شيء. فالعلويون يعيشون فكرة الخطر الوجودي في مواجهة سؤال القصاص من الجرائم التي حصلت في عهد الأسد، وهم الذين شكّلوا عصبية نظامه. الدروز يخشون بدورهم تدهوراً وخضوعاً نهائيين، والشيء نفسه يصدق على المسيحيين والإسماعيليين. هناك معضلة مطروحة على الأقليات، ولا تعرفها الأكثرية، وهي أن كل معركة هي معركة وجودية وكل هزيمة هي إيذان بدمار وجودي. كيف لنا التعامل مع هذه الأمور بحكمة وعقلانية كبيرتين، بحيث لا تنهار إمكانية العيش المشترك تحت وطأة أسئلة العدالة وحكم الشعب والمساواة؟ وفي المقابل، كيف لا تُغفل الحاجة الماسة لتقديم إجابات مقبولة على هذه الأسئلة تحت مسمى تطمين الأقليات، بما ينتج غبناً هنا وشعوراً باللامسؤولية هناك؟ المهمة عسيرة إلى أقصى حد، وإمكانية الفشل فيها أكبر من إمكانية النجاح في أفضل الظروف، وليس في ظل ظروف شديدة التعقيد إقليمياً ودولياً كما هو الحال في سوريا. لكن يبقى أن علينا الخوض في هذه المسائل.

        الإنكار القسري للمسألة الطائفية انتهى دوماً إلى انفجارها في وجوهنا، ولم يخدم إلا تكريس سلطة مستبدة وقوية، تؤمّن شرعيتها باسم حمايتنا من هذه الطائفية وببناء عصبية طائفية وأهلية حولها لحماية نفسها. هذا الإنكار القسري لم يمنع الاحتراب الطائفي ولا المجازر وانهيار النسيج الوطني وتفسخه، بل على العكس لعباً دوراً محفزاً في كل هذا عبر منع المحاولات الجدية لمناقشة صريحة للمسالة الطائفية وتحديد أشكال معقولة وممكنة للتعامل معها وتخفيف مخاطرها وحدة نزاعاتها. إن الوطنية السورية، المنكرة والمتعالية عن الانقسامات الأهلية، مؤذية وشديدة الخطر على السوريين. ولا يمكن لها إلا أن تكون إيذاناً لتكريس سلطة استبداد عصبوي جديدة.

موقع الجمهورية

—————————————–

100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات/ ياسين الحاج صالح

في الحاجة لشبكة أمان وطنية

18-03-2025

        100 يوم بعد نهاية الحكم الأسدي هي مفصل زمني مناسب للنظر في ما حدث خلالها، وفي بعض الديناميكيات السورية الجارية، ثم في التناقضات الكامنة وغير المعالجة فيها. من المعقول أن نفترض أن الأيام الباكرة من عهد جديد، حيث الأمور غضة وقليلة التشكل، تعطي فكرة معقولة عمّا يُرجّح أن يجري على مدى أطول من عمر العهد. 

        الحدث واللاحدث

        قبل كل شيء سقط النظام. لا يزال هذا خبراً مهماً. انطوت 54 سنة من «الأبد» والسلطة المُشخْصنة، من التطييف وتغذية الانقسامات الأهلية، من الإفقار السياسي والمادي، ومن العنف والجشع والكذب والترثيث. السقوط غير المتوقع إطلاقاً تحقق خلال 12 يوماً من هجوم قوات «هيئة تحرير الشام»، ما يدل على درجة متقدمة من اهتراء الحكم الأسدي من الداخل. النظام فرط، مركّبه الأمني أولاً، وقد تصرف قادة هذا المركب كمطلوبين ولاذوا بالفرار مثل رئيسهم. أما الجيش النظامي فقد سرّح نفسه وترك مواقعه الأمامية على جبهة الجولان. الحكومة حلّها الفريق المنتصر الذي تصرف بروحية بدءٍ مطلق، سرعان ما تخلى عنه لصالح مسالك تجريبية بلا قواعد، فأقرّ بعض الوزراء والمدراء على أعمالهم، لكنه أحل رجاله في جميع مفاصل السلطة، وجرى تسويغ ذلك بالحاجة إلى فريق متجانس. جرى تسريح موظفين من مختلف الإدارات بصورة متعجّلة عشوائية كذلك، ربما تتلاقى وراءها اعتبارات عقلنة الإدارة والحد من الهدر، بتصورٍ نيوليبرالي للدولة والاقتصاد، بنزعة عزل أنصار النظام السابق أو المستفيدين منه.

        أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، صار الرئيس الجديد، ومقامه الرئاسي هو قصر الشعب الذي بناه رفيق الحريري لحافظ الأسد، والقصر يشغل موقعاً «بانوبتيكياً» من دمشق، بما يُمكِّن قاطنيه من المراقبة دون أن يُروا. الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، الشرع، شذب لحيته وارتدى ثياباً مدنية، ولم يلبث أن ارتدى طقماً وربطة عنق، وأخذت تظهر له صور مع نساء غير محجبات بعد أن كان طلب من أول امرأة شابة رغبت في أخذ صورة معه أن تغطي رأسها. كما ظهرت صورة لزوجته لأول مرة وعُرف اسمها. وزير خارجيته يتكلم الإنكليزية، ويقول كل «الكلام الصحيح» في المحافل الدولية. القوى الدولية أظهرت، بعد صدمة البداية وتردّد ما بعدها، إيجابية تجاه الوضع الجديد، لكن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد سقوط النظام يبدو إسرائيلياً في هذا الشأن، وإسرائيل أظهرت عداءً شديداً للوضع الجديد، وتستخدم في وصفه كلمتي الجهاديين والإرهابيين.

        الشرع تكلم على نصرٍ بلا انتقام. وحكم هذا التصور النظر إلى قضية العدالة الانتقالية، ملاحقة ومحاسبة الجناة التي هي مطلب يجمع قطاعات شعبية بمجموعات حقوقية بنشطاء سياسيين ومثقفين، فضلا عن ارتباطه الوثيق بفكرة الثورة بالذات من حيث هي تطلع لإحقاق الحق، أي هو من أكثر المطالب وطنية وعمومية في سورية. الشرع وفريقه عرضوا تردداً بين منطق: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبين تجاوب تجريبي مع هذا الطلب الجامع، وصولاً إلى تقرير المبدأ في الإعلان الدستوري المؤسف الذي صدر قبل أيام. وبينما يمكن تقدير التردد الأول بأنهم يدركون أن عدالة انتقالية شاملة تعني مساءلة بعضهم عن ارتكابات مسجلة بحقهم، يحتمل أن يكون تفجر عنف طائفي إبادي في الساحل هو ما دفع نحو دسترة المبدأ. ويبدو أن الميل العام في أوساطهم هي قصر مبدأ العدالة الانتقالية على جرائم النظام (وداعش).

        وفي اجتماعٍ لعسكر الحكم الجديد في مؤتمر النصر قبل نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي اختير الشرع رئيساً مؤقتاً، وهو أشار غير مرة إلى مرحلة انتقالية قد تدوم ثلاث سنوات أو أربعة أو خمسة، استقرت على خمسة في الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر قبل أيام.

        وكان قد سُلِق مؤتمر للحوار الوطني أعدت له لجنة سباعية، خمسة رجال وامرأتان، عيّنهم الشرع. أخذت عملية الحوار، التي نُظّمت وفق محاور مناطقية حصراً، وقتاً قصيراً جداً، أعقبها مؤتمر ليومين، تمخّض عن توصيات عامة غير ملزمة. كان هذا مساراً ركيكاً، لا يعكس احتراماً لكفاح مديد، مرير، باهظ الكلفة. غياب الشفافية سمة مطّردة للوضع الجديد، الذي يبدو أنه يحب الكتمان في قضاء حاجاته، فيما يلزم وفيما لا يلزم.

        في المحصلة، كان المؤتمر وما سبقه من تحضير لا-حدثاً، في بلد يحتاج إلى أحداث تُتذكَّر وتُعلِّم وتترك أثراً. 

        الحدث الثاني في الأهمية بعد سقوط النظام هو مذابح طائفية في الساحل أعقبت تفجّر تمرد مسلح على يد بعض عسكريي النظام السابقين، بتنسيق مع ماهر الأسد فيما يبدو، وربما بتشجيع إيراني. المتمردون قتلوا عشرات من عناصر الأمن العام، وقاد ذلك إلى مواجهة هوجاء، استُنفرت خلال أيامها الأربعة قطاعات سنية مُحتقنة، يغلب الظن أنه حفزها هلع من خسارة السلطة التي جرى الإمساك بها بعد مِحَن ويأس كبيرين، وتميل بفعل ذلك إلى خوض صراعات وجودية، أي إبادية. وبحسب معلومات متواترة جرت الدعوة إلى الجهاد في مساجد من قبل خطباء وأئمة سلفيين عينتهم السلطة الجديدة. كما شارك في المذبحة المهولة جهاديون أجانب منضوون في هيئة تحرير الشام، شاركوا في قتل إبادي لعلويين آمنين مسالمين. أُجهز في المذبحة على عوائل بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، هذا بينما قتل المهاجمون كامل ذكور عوائل أخرى. عدد الضحايا غير معلوم، لكنه ربما يبلغ الألف أو يتجاوزها. واقترنت المجازر بعمليات سلب ونهب لصوصية واسعة النطاق، وبإحراق بيوت وأثاث. ويقدر أن 10 آلاف لجؤوا إلى لبنان، وألوف إلى قاعدة حميميم الروسية.

        ومنذ الآن هذه هي أكبر وأسوأ مذبحة ضد العلويين منذ نشوء الكيان السوري الحديث. إنها حدث كبير، أساسي، باقٍ، يتجاوز كونه تروما علوية لا تنسى، إلى جرح عميق في جسد الوطنية السورية بينما هي لا تزال وليدة، بما يهدد فرصها في النجاة.

        وما يزيد سوء الجريمة سوءاً مشاركة متحمسة للقَتَلة الذي صوروا بأنفسهم أفاعيلهم، يمارسونها بتشف، وهم من أتاحوها للعموم. وعرضت بيئات سنية موالية ميلاً ثابتاً للجمع بين إنكار الجرائم والتقليل من شأنها، وبين تبريرها بجرائم سابقة للنظام الأسدي أو بتواطؤ راهن للعلويين مع فلوله المسلحين، وبين تسفيه المنتقدين. 

        الشرع أعلن في اليوم الثالث للمذبحة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم ومحاسبة الفاعلين، مكونة من سبعة أشخاص، بينهم امرأة واحدة؛ ولجنة أخرى، ثلاثية، أحد أعضائها علوي، لحماية السلم الأهلي. ليس ظاهراً إن كانت اللجنتان ستقومان بعمل جدي. فاللجان قد تشكّل لكسب الوقت واحتواء الضغوط، فتكون بذلك مقبرة للمشكلات لا معالجات حية لها.

        الحدث المهم الثالث هو إعلان اتفاق بين «الجمهورية العربية السورية» و«قوات سورية الديمقراطية»، وقع عليه «الرئيس» أحمد الشرع و«القائد» مظلوم عبدي، وأُعلن عنه مساء يوم 10 آذار (مارس)، وقت كانت لا تزال تتوالى أخبار المجازر في الساحل. وهو ما حدا بالبعض إلى ربط منفعل بينهما، رافضاً واحدة من أجل الأخرى أو متعجلاً طي صفحة واحدة من أجل الأخرى.

        هل سيطلق الاتفاق ديناميات توحد و«اندماج في الدولة السورية» لقوات «قسد»، وضمان هذه الدولة حق «المجتمع الكردي» في «المواطنة» والحقوق الدستورية الأخرى كافة؟ هذا ما يؤمل إن أخلص الطرفان في نياتهما، وإن لم تعبث قوى خارجية نافذة. ويبدو أن الأميركيين إيجابيون حيال الاتفاق الذي يرجّح أنهم دفعوا قسد لتوقيعه، وسط تقديرات بأن يسحبوا قواتهم من سورية قريباً. هذا أن ثبتوا على موقف ولم ينصاعوا للتفضيلات الإسرائيلية. وليس مؤكداً أن الأتراك سعداء بالاتفاق. زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية لدمشق يوم 14 آذار تثير التساؤلات عن مصيره.  

        والحدث الرابع وقع يوم 13 آذار: الإعلان الدستوري. غاب عن مراسم إعلان الوثيقة ممثلون للجماعات السورية، فيما كان الحضور السني، الديني والسياسي، طاغياً. الإعلان يركز السلطة بيد الرئيس، ويفتئت على الحقيقة بالكلام على فصل السلطات، بينما الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تقوم من جهتها «بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة»، تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. ما يخص الحريات العامة يبدو أنه يسهل التلاعب به عبر جواز إخضاع ممارسة تلك الحريات «للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة». هذا كلام مرسل مفتوح على تأويلات متعددة تلغيه.

        وبينما يعني مفهوم الدستور ذاته أن الحكم دستوري، أي مقيّد وغير مطلق، فإن احتياطات الإعلان الدستوري ليست موجهة نحو السلطة ومخاطر إساءة استخدامها، بل نحو ضمان إطلاقها.

        وبعد يوم واحد من صدوره، أعلن مجلس سورية الديمقراطية (مسد)، الجسم السياسي لقسد، رفضه للإعلان الدستوري بوصفه «مشروعاً مفروضاً من طرف واحد»، ما ينذر بسقوط اتفاق الشرع- عبدي الموقّع قبله بأربعة أيام. كلام «مسد» جاء في يوم زيارة المسؤولين التركيين المشار إليهما فوق.   

        وفي حين أن هناك إيقاع للزمن السوري اليوم يتصل ببدءٍ من الصفر في كل شيء تقريباً، بمشكلات على كل مستوى تقريباً، بسيولة عالية في «الأنفس والآفاق»، بما يضفي صفة تأسيسية على هذا الزمن، وما يوجب أن يكون ما يجري فيه أحداثاً مكونة وتأسيسية، فإن ما جرى ترتيبه بعد سقوط النظام لا يرتفع للمرتبة المفترضة من حيث الحدثية والتكوين والتأسيس، أو هو يسيء إلى ثلاثتها معاً. 

        ديناميات

        من الواضح أن العمليات السياسية السورية خلال 100 يوم تدور حول الجماعات الأهلية الوراثية، وأن تطلعات التمثيل ومشاعر الاستبعاد تحيل إليها. القوى النابذة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً تحيل إلى هذه الجماعات دون غيرها: الكرد في مناطق من الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، والدروز في السويداء وفي جرمانا، والعلويون في الساحل ومناطق من حمص وحماه. وسِجِلّ الانفجار المفرط للعنف في الساحل يظهر قوة حضور هذا العنصر في اجتماعنا وسياستنا. وهي قوة لا تنفصل دون شك عن نزع وطنية الدولة والمجتمع طوال عقود الحكم الأسدي، بعد أن كانت هذه الوطنية ضعيفة أصلاً ولا تستند إلى قوة اجتماعية مِتنيّة، يلتئم البلد حولها. ربما يُفَكّر في أن العرب السنيين السوريين، بنسبتهم الأكثرية وبانتشارهم في مناطق البلد كلها، هم هذه القوة المتنية، لكن من الظاهر اليوم أنهم بعيدون عن ذلك، وإنهم أنتجوا قوى سياسية أقلّوية وليس بحال أكثروية، تعكس مزيجاً من فقد الثقة بالنفس والخوف من العالم، وتميل إلى العنف بسبب أقلّويتها أساساً. يقول إيديولوجيو الجماعة إن السنّيين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة. الواقع أن التعبيرات السياسية السنّية في سورية تعطي الانطباع بالأحرى بطائفة خائفة، تخشى انقساماتها المتعددة فتكبتها وتحاربها فتنقسم أكثر، وتخشى غيرها فتتصرف بلجاجة وعنف، فتكون قوة انقسام عامة. الفزعة الهائجة إثر هجمات فلول النظام في الساحل تدل على قلق وجودي كان المرء يفترض أن السنّيين هم الأقل معاناة منه، وأنهم الأرسخ وجوداً بالأحرى. ظاهر أنهم ليسوا كذلك، والانفعالات الموتورة التي يواجَه بها أي نقد للوضع الجديد تدل على الخوف وعدم الثقة أكثر من أي شيء آخر.   

        كان لافتاً مع ذلك أن المجتمع السوري أظهر ميلاً إلى التوحد والاتفاق، أقوى مما يتوقع المرء بخاصة إن أخذنا بالاعتبار أن قوى الإدارة الجديدة ليست سنّية فقط، بل هي ذات ماض قريب متطرف جداً. والأصل في ذلك على الأرجح هو إدراك واقعي لحقيقة أن كياناً له من العمر قرن ونيف له، على علّاته، فرص في الحياة أكثر من كيانات جزئية تنشأ اليوم، أو لبعضها من العمر بضع سنوات؛ وأنه يوفر فرص ترق اجتماعي وثقافي وسياسي وأخلاقي أوسع مما توفر أي من هذه الكيانات المحتملة الجزئية، بحكم تعدده المتعدد المستويات وتاريخه. أياً يكن الأمر فإنه لا يمكن لأحد أن يقول إن السوريين في أكثرهم لم يعطوا الإدارة الحالية فرصة.

        وفي المقام الثاني ظاهر أن القوى الإقليمية والدولية ذات وزن كبير في العمليات السياسية السورية، أكبر مما لا يسمح بتوحد البلد وتعافيه، وبطبيعة الحال استقلاله. إسرائيل وسّعت احتلالها في الأراضي السوري ودمرت قدرات تسليحية سورية في الساعات الأولى التالية لفرار بشار وانهيار نظامه. وهي تثابر على الضرب في سورية ضد قدرات عسكرية، ويطلق قادتها تصريحات استعمارية بالغة العدوانية حول انتشار القوات السورية وزعم الاهتمام بمصير الدروز والكرد من الجماعات السورية. وفي حين أن إيران وتوابعها هزمت في سورية، فإن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين وبعض القوات، وعلى نحو مستغرب لم تطلب الإدارة الجديدة من الروس الخروج من البلد. ربما فكرت في أن وجودهم يوازن وجود القوى الأجنبية الأخرى، أو ربما تجنباً لاستعداء طرف قوي ويُخشى منه. الأميركيون لا يزالون هناك في الجزيرة وفي التنف، والأتراك في مناطق من الشمال، وهم يتصرفون كمنتصرين ورعاة للحكم الجديد مثلما تقدم.

        ويشكل تفاعل الانقسامات الأهلية الداخلية والقوى الخارجية مُركّباً نعرفه منذ أيام المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني مركبات داخل/ خارج، أو تدخلات خارجية (من دول أساساً) و«تخرّجات» داخلية (من روابط أهلية وراثية)، بما يحول دون انحلال هذه «الروابط ما دون الوطنية» بلغة ياسين الحافظ قبل نصف قرن، وبما يوسع من هامش مناورة تلك القوى الخارجية، ويضيق من مساحة استقلال البلد ويحد من الفاعلية الدمجية للدولة، كما يضعف القوى الاجتماعية التي تتوافق مصلحتها مع تشكل داخل وطني مستقل.

        والتفاعل نفسه يضع سورية في موقع صراع بين قوى إقليمية ودولية، يشابه ما وقع بين الاستقلال والحكم البعثي. الحكم الأسدي شكّل قطيعة مع نموذج «الصراع على سورية» الذي كتب عنه باتريك سيل كتاباً مهماً، لكن باستحداث نموذج أكثر كارثية: إغلاق تام للملعب الداخلي بالاعتقالات والمجازر، والتعامل مع السوريين كتابعين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وهذا مقابل اللعب في البلدان المجاورة و«الصراع على الشرق الأوسط» مثلما بيّن سيل نفسه في كتاب مهم آخر له عن حكم حافظ الأسد. دارة الدورة في عهد الابن، وطلب النظام نفسه حماة خارجيين ضد محكوميه، وصارت سورية ملعباً لأجانب من دول ومنظمات ما دون الدولة، هذا بعد أن كان مؤيدو النظام يثنون عليه بأنه حوّل سورية من ملعب إلى لاعب.

        سورية في حاجة إلى كسر هذا التعاقب بين وطنية هشة ذات تعددية متقلبة غير مستقرة، وبين وطنية مصمتة تدور حول الحاكم الفرد، تؤول في مواجهة محكوميها إلى محمية لقوى أجنبية. وبينما يبدو أن سورية اليوم أقرب إلى النموذج ما بعد الاستقلالي من حيث قوة حضور الأهلي والخارجي في حياتها السياسية اليوم، فإن الإعلان الدستوري يدفع نحو نموذج أسدي بالأحرى. هل تستقيم هذه الوصفة؟ هذا صعب، ويستحسن التعامل مع مؤشرات اليوم المُبعِدة عن المركز على أنها مُحَكِّمة.

        ما يمكن أن يكون أساساً أمتن لوطنية سورية جديدة هو تعطيل التخرّجات الداخلية بكسب الجماعات السورية كلها إلى جانب مشروع غير طائفي للدولة، ليس هو ما يبشّر به «الإعلان الدستوري». تحييد القوى الخارجية والحدّ من تدخلاتها مرغوب في كل حال ولكل أنواع الأسباب، الأمنية والاقتصادية والسياسية. مؤشرات 100 يوم لا تستجيب كفاية للتطلع الأول، ولا للثاني. السياسة الأسوأ بطبيعة الحال هي التي تجمع بين الاستئثار الفئوي بالدولة وتنفير القوى الإقليمية والدولية.

        تناقضات

        حجم التغيّر الذي حدث قبل 100 يوم كبير، إنه يطوي صفحة 54 عاماً أسدية ونحو 62 عاماً بعثية. من حيث حجم الحدث وتاريخيته يمكن التفكير فيه كاستقلال ثان، يطرح من جديد مهمة البناء الوطني: احتكار السلاح من قبل الدولة، مدّ سلطة الدولة إلى كامل التراب الوطني، توحيد القوانين، عقلنة وتوحيد نظم الإدارة، نظام تعليم وطني جامع، بنية تحتية تربط الجغرافية الوطنية وتكثّف التفاعلات بين أقاليم البلد، إلخ. الاستقلال الثاني مثلما نشأ كمفهوم يحيل إلى الديمقراطية، أو التحرر من السلطة الطغيانية للدولة بعد الاستقلال الأول الذي هو التحرر من الاستعمار. فهل إننا بالكلام على استقلال ثان نتكلم على ديمقراطية في سورية؟ إذا تكلمنا بلغة لم تعد مألوفة يمكن أن نقول إن المهمة الموضوعية المطروحة على سورية والسوريين هي الديمقراطية، حكم الشعب السوري المكوّن من مواطنين مستقلين، لكن «العامل الذاتي»، القوى الفعلية التي أسقطت الحكم الطغياني ليست ديمقراطية، بل وكانت تكفر الديمقراطية قبل سنوات قليلة. 

        هذا تناقض كبير أول بين المهمة الموضوعية والقوى الذاتية. وما يشبه هذه القوى الأخيرة من حلول يتراوح بين نظام تسلطي سنّي، وبين حكم متطرف ديني (هذان شيئان مختلفان، لا يبدو أن أحداً يريد تجنّب الخلط بينهما)، وقد يعمل على تمثيل الجماعات السوري الأخرى وفق نموذج «سياسة الأعيان» التي سبق أن تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري بخصوص السلطنة العثمانية في زمن ما بعد التنظيمات، وكان ساري المفعول في سورية حتى الوحدة مع مصر عام 1958. بالمناسبة، كان ألبرت حوراني ينسب إلى ما سماه «العالَم السني» خاصية جامعة تتمثل في «الثقة بالنفس والحس بالمسؤولية»، خلافاً للجماعات الأخرى في المشرق التي كانت «هامشية ومعزولة عن السلطة والقرار التاريخي». قال هذا عام 1947، أي بعد قليل من استقلال سورية الأول. اليوم، بُعيد استقلالنا الثاني وبعد نحو 70 عاماً من كلام حوراني، لا يبدو حال «العالم السنّي» كذلك، هو أقرب في الواقع إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس معاً.      

        تحيل معالجة هذا التناقض الأول إلى معضلات بناء الدولة السورية.

        وفي المقام الثاني، هناك تناقضات تحيل إلى الذاكرات والرضوض والآلام السورية، نراها تفجرت بعنف وضغينة بعد كارثة الساحل. هناك ذاكرة ورضوض قطاعات من جمهور سنّي محتقن وشديد الانفعال ويشعر بأن آلامه لا تُحترم؛ ثم ذاكرة وألم جمهور علوي نشّطت المذابح الأخيرة مخاوفه الوجودية، وهو وريث تهميش مديد سابق للحكم الأسدي، جغرافي واجتماعي وسياسي. وهناك ذاكرة وألم جمهور كردي، تعرّض لإبادة ثقافية منذ نشوء الكيان السوري الحديث، ويشعر بالغربة في «الجمهورية العربية السورية» التي ثبّت الإعلان الدستوري تسميتها هذه لخمس سنوات (رغم تبنّي علم الاستقلال وتخصيص مادة لوصفه في الإعلان نفسه، العلم الذي كان اسم سورية وقت اعتماده أول مرة: الجمهورية السورية). وهناك بعد ذلك مخاوف وجودية للجماعات الأهلية السورية كلها، يبرز من بينها اليوم الدروز، لكن ظاهر كما قلنا من قبل أن العمليات السياسية تحيل إلى الجماعات الوراثية، والمخاوف والآلام والذاكرات المحتقنة تسهم في تصليب كياناتها. هذا بينما لا تسمح الانفعالات الحادة اليوم بتناول شامل وتأسيسي لصراع الذاكرات هذا. من يركزون على واحدة منهما ينسون الأخرى، وبعض من ينكرون مظلومية طرف أهلي (والمظلومية مزيج من مظالم وتمييز حقيقيين ومن أفعال سردية تضفي عليها النسقية، وتسهم في تشكّل هوية الطرف ذاته) يمضون إلى إثبات مظلومية أطراف أخرى. هذا الحاجة إلى بطل شرير في القصة السورية لا تصلح كأرضية لسياسة وطنية ولا كمعرفة تاريخية ولا كبيان حقوقي عادل. وبخاصة أنها تميل إلى تعريف البطل الشرير بالأهلي وليس بالسياسي، بالطائفة أو الإثنية وليس بالموقع والدور السياسي الفعلي.

        ويفاقم من ذلك، ومن احتداد الانفعالات، أن من في الحكم، أي من في الموقع العام، اليوم، ليسوا ورثة مجادلاً فيهم لإحدى الذاكرات فقط، وإنما هم كذلك المتسببون بتنشيط ذاكرات اضطهاد سابقة.  

        تحيل معالجة هذه التناقضات الثانية إلى معضلات بناء المجتمع السوري كمجتمع موحد قابل للحكم.

        وهذه كلها مسائل تأسيسية، نراها تُعالج اليوم بوعي غير تأسيسي، شكلي وإجرائي، مفتقر إلى معرفة كافية بالمجتمع السوري وتاريخه، كما إلى الحس التاريخي. 

        يضاف إلى ذلك تناقض إجرائي لفت إليه ياسين السويحة بعد ظهور الإعلان الدستوري بين طول الفترة الانتقالية، خمس سنوات، وبين «السلق» المتعجل للحوار الوطني والإعلان الدستوري. قد تلزم مرحلة انتقالية طويلة لمعالجة المشكلات والتوترات الكبيرة المذكورة وغيرها إن كانت الأجواء العامة في البلد إيجابية تحفّز أعداداً متزايدة من السوريين على المشاركة في التفكير والنقاش والفعل، لكن التعجّل والشكلانية تضعف الثقة بالإدارة الجديدة والثقة العامة بين السوريين، وتنشر بالعكس من ذلك أجواء من التشاؤم والانكفاء، على نحو يجعل من خمس سنوات فترة طويلة جداً، ليس مضموناً ألا تشهد كوارث وآلاماً رهيبة جديدة. بعد مجازر الساحل ارتفع منسوب التشاؤم بحدة في البلد، انخفض قليلاً بعد الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية، قبل أن يعاود الارتفاع بعد الإعلان الدستوري.

        وللتقدم نحو معالجة هذه التناقضات لا بد من الإجابة على سؤال: ما هي الأمّة في سورية؟ إلام تحيل ما سماها أحمد الشرع وهو يوقع الإعلان الدستوري «الأمة السورية»؟ أإلى السوريين على اختلاف منابتهم الأهلية؟ أم إلى السنّيين السوريين دون غيرهم؟ أم إلى  المسلمين السنيين في العالم؟ وهل الدولة دولة السوريين؟ أم دولة السنّيين السوريين؟ أم هي دولة للمسلمين السنيّين في سورية؟ ذلك أن احتكار الدولة للسلاح يستقيم فقط على أرضية كون الدولة دولة وطنية سيدة، تقوم باسم «الأمة السورية». وهو ما يتعارض كل التعارض مع امتلاك أجانب للسلاح، واستخدامه ضد سوريين مثلما جرى في مذابح الساحل. يُجرِّم مفهوم الدولة كمقر للسيادة امتلاك أي قطاعات من السوريين خارج الدولة للسلاح، لكنه يجرِّم أكثر امتلاك غير سوريين للسلاح في سورية. هذا عدوان أجنبي، ينزع وطنية الدولة التي لا تقاومه. ولا يحل هذا التعارض بغير تجريد غير السوريين من السلاح، وطردهم إلى بلدانهم أو إلزامهم، إن كانوا لا يستطيعون العودة، بالإقامة المعلومة في مناطق بعينها كلاجئين مسالمين.  

        وقد يمكن إجمال كل هذه التناقضات تحت التناقض بين الثورة السورية والدولة السنية، أو بين الرهان الوطني الجامع للثورة واللون الواحد للفريق المسيطر اليوم. لهذا التناقض تاريخ بالغ القسوة هو الزمن الفاصل بين بدء الثورة في مثل هذا اليوم من عام 2011 وبين يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، الذي بدأ فيه هجوم هيئة تحرير الشام ومن معها، الذي تمخض عن إسقاط النظام خلال 12 يوماً. ثلاثة عشر عاماً وثمانية أشهر وثماني أيام، هي زمن فظيع من القمع والتعذيب والإبادة، والخسارات العظيمة، والتهجير، واللجوء إلى بلدان قريبة وبعيدة، دفعت ثمنه بصورة خاصة البيئات السنّية السورية. هل حكم اليوم وريث 13 عاماً وفوق ثمانية أشهر، أم وريث 12 يوماً؟ إن كانت الأولى فينبغي أن يكون الحكم تعددياً، جامعاً، واستيعابياً، وإن يكن لسنّيين فيه وزن أكبر. وإن كانت الثانية، يقرر فيها من يحرر على ما قيل في شعارٍ يذكّر بشعارات أسدية مسجوعة مثله، فإننا نحصل على حكم واحدي لبلد متعدد، متناقض مثلما كان الحكم الأسدي، وقد لا يحل تناقضه بغير التوسع في العنف. وفي هذا ما يقود إلى قلب مفهوم الدولة على نفسه، ليطابق الدلالة العربية القديمة لكلمة دولة: نوبة أو دور في الحكم، يقصر أو يطول، لكنه ينتهي بعد سنوات أو عقود عاصفة. ثم إنه لما كان السنّيون أكثرية السوريين ديمغرافياً، ولما كان يتعذر أن يحظى بالنفاذ إلى الحكم غير نسبة محدودة منهم، فإنه يُرجّح لانقساماتهم الجهوية أن تلعب دوراً في فرز من هم أقل ومن هم أكثر تساوياً بينهم في فرص النفاذ. وهكذا نخسر سورية موحدة، ولا نحصل على غير جماعة سنية منقسمة.   

        هل تنجو سورية؟

        ركز هذا التناول على مسؤولية من هم في السلطة لأنهم الفريق الأقوى، والشاغل للموقع العام. في الواقع عرضت قطاعات من المهتمين بالشأن العام، بعد مجازر الساحل بخاصة، استعداداً للانزلاق نحو الهياج والتحريض، وحتى الخطاب الطائفي المُصقِع. وهو ما يساهم في مفاقمته تهتك وإباحية مواقع التواصل الاجتماعي، الجديرة بالفعل بأن تسمى مواقع قطيعة اجتماعية. منسوب قلة الاحترام العام، المرتفع سورياً أصلاً، رفدته مواهب قلة الاحترام التي برع فيها منافحو الفرق الكثيرة.

        هل تنجو سورية؟ ليس مضموناً بحال. يجزع كثير من السوريين من فشل الحكم الجديد في معالجة هذه الملفات، حتى وهم يعارضونه، لأنه يُحتمل لذلك أن يعني انهيار البلد. لكن لا يبدو أن الحكم الجديد ينصح نفسه ويشق له ولسورية مسالك غير استئثارية. وبعد أن رأينا بعض «البروفات» الكارثية خلال الـ100 يوم المنقضية، لا بد من التساؤل عن سبل ضمان نجاة البلد في حال جرى الانزلاق نحو مهاوي العنف والانقسام. سورية في حاجة إلى شبكة أمان وطنية في مواجهة هذه المخاطر، والعمل من أجل ذلك من أوجب ما يلزم اليوم.

موقع الجمهورية

لتحميل كتب باتريك سيل

كتاب الأسد ؛ الصراع على الشرق الأوسط

وكتاب: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، 1945 1958 باتريك سيل

أو من الرابط

لتحميل كتاب الشرق الأوسط الحديث (جزئين) لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون

الشرق الأوسط الحديث  الجزء  الأول

الشرق الأوسط الحديث  الجزء  الثاني

——————————————

الباحث الفرنسي سيدريك لابروس لـ”القدس العربي”: الشرع يقتدي ببن سلمان ولا يتحمل مسؤولية أحداث الساحل

17 – مارس – 2025

حسن سلمان

أكد سيدريك لابروس، الباحث الفرنسي المتخصص بالجماعات المسلحة في سوريا، أنه لا يمكن تحميل الحكومة السورية الحالية المسؤولية عن المجازر التي وقعت في المناطق الساحلية، معتبرا أن الجماعات التي ارتكبتها ترفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة لإعادة الأمن والاستقرار للبلاد.

وقال لابروس، في حوار خاص مع “القدس العربي”: “يرغب البعض بتحميل السلطات الجديدة في دمشق، المنبثقة من هيئة تحرير الشام، المسؤولية عن الفظائع التي حدثت في الساحل السوري، لكنهم يتجاهلون حقيقة أن الحكومة الجديدة لا تسيطر على العديد من الجماعات الجهادية، وبعض حلفائها السابقين، وحتى بعض قادة الميليشيات الذين وعدوا بالانضمام إلى الجيش الجديد، لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن”.

وأضاف: “ومن الأمثلة على ذلك أبو عمشة (محمد الجاسم)، وهو قائد ميليشيا سابق خدم تركيا لعدة سنوات، ارتكبت قواته فظائع في الساحل. وهذا الرجل يرفض الامتثال للخطوط التي رسمتها السلطات الجديدة. حتى إن انتهاكاته مستمرة في بعض الأرياف التي تغيب عنها قوات الأمن السورية”.

وتابع بالقول: “يمكن تلخيص ما حدث في الساحل بأنه: فظائع مروعة ارتكبتها جماعات ترفض الانصياع للحكومة الجديدة أو قادة مستقلون للغاية (عنها). والدليل على ذلك أنه منذ وصول القوات الموالية حقًا لأحمد الشرع (الأمن العام)، هدأ الوضع”.

وفيما يتعلق بمسودة “الإعلان الدستوري” وموقف الأكراد منها، قال لابروس: “يستند هذا الإعلان الدستوري بشكل كبير إلى دستور عام 1950 (دستور الاستقلال). وقد كُتب لاستيعاب الحلفاء الإسلاميين للرئيس أحمد الشرع، مع تعزيز دور الشريعة الإسلامية داخل الدولة. وفي الوقت نفسه، يُعزز حقوق المرأة وحرية التعبير”.

وأضاف: “يعود رفض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لهذا النص بشكل أساسي إلى عاملين: عدم وجود اعتراف صريح بالأكراد في النص، وعدم كون شكل الدولة علمانيًا. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأكراد لم يرفضوا خارطة الطريق التي وُقعت قبل أيام قليلة (بين الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية)، وأعلنوا عن نيتهم ​​المشاركة في صياغة الدستور القادم”.

وحول الاتفاق الأخير بين الشرع وعبدي، قال لابروس: “للتوضيح: هو ليس اتفاقًا في الحقيقة، بل أقرب إلى خارطة طريق. وقد ساهمت الولايات المتحدة بشكل كبير في التوصل إليها. وهي نتاج أشهر من مفاوضات حظيت بدعم الولايات المتحدة، كما ذكرت”.

وأضاف: “إدارة ترامب ترغب بالخروج من الأزمة السورية ولديهم شعور بالرضى أنهم حققوا حدا أدنى من الاستقرار. ولذلك ضغطوا على حليفتهم، قوات سوريا الديمقراطية، للتحرك نحو دمشق. أما بالنسبة لدمشق، فالأمر يتعلق بمسألة أخرى: رفع العقوبات الدولية. ولتحقيق ذلك، يجب عليهم تقديم ضمانات بالانفتاح على عملية الانتقال السياسي”.

وقبل أيام، كشفت مصادر عن توقيع اتفاق بين دمشق وبعض وجهات السويداء، يقضي بإلحاق الأجهزة الأمنية في السويداء بوزارة الداخلية السورية، وأن يكون عناصر الشرطة المحلية من أبناء المحافظة الواقعة جنوب البلاد. إلا أن الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز زعماء طائفة الموحدين الدروز، نفى هذا الأمر، ووجه انتقادات لاذعة لحكومة دمشق، التي وصفها بـ”المتطرفة والمطلوبة للعدالة الدولية”.

وعلق لابروس على ذلك بقوله: “الشيخ حكمت الهجري ليس سوى واحد من ثلاثة زعماء دينيين للطائفة الدرزية في سوريا. لكن لديه نفوذ قوي وصوتٌ مسموع. ويُعد رفضه للاتفاقية التي تم توقيعها دليلاً على رغبته في الحصول على المزيد من المكاسب من دمشق”.

واستدرك بالقول: “لكن الدروز لا يتفاوضون على قلب رجل واحد لأنهم ليسوا متحدين. فبينما يُصعّد الشيخ حكمت الهجري من حدة التوتر، وقّع فصيل درزي (رجال الكرامة) اتفاقية مع دمشق لدمج رجاله في وزارة الداخلية، وهذا يؤكد ما قلته سابقا”.

وحول الخطوات المطلوبة من الحكومة الجديدة لاستعادة ثقة السوريين، وتجنب تقسيم البلاد على أسس طائفية، قال لابروس “لبناء ثقة حقيقية وطويلة الأمد، سيتعين على أحمد الشرع مواصلة ما بدأه منذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2024، أي الانفتاح السياسي. وقد فعل ذلك بالفعل”.

وأضاف: “هذا لا يجعله ليبراليًا، بل ظل محافظًا دينيًا متشددًا. لكنه في هذا يستلهم سياسة محمد بن سلمان في السعودية. لقد عيّن بالفعل أشخاصًا من حوله في اللجان الدستورية والقضائية، ممن كانوا -تاريخيًا- معادين له. وسيتعين عليه مواصلة ذلك. لقد أعلن عن تعديل وزاري قريبًا، وسنرى تشكيلته”.

وتابع لابروس: “علينا أن نأمل في انفتاح. سنتمكن حينها من مراقبة تشكيل أول مجلس شعب منذ سقوط النظام. على أي حال، هو (الشرع) ملزم بالتصرف بهذه الطريقة إذا أراد رفع العقوبات. لكن هذا يضعه أمام تحدٍّ كبير: خيبة أمل جنوده، الذين لا يرون إقامة دولة إسلامية كما كانوا يأملون. وربما تأتي أقوى معارضة من معسكره السابق ومن حلفائه السابقين”.

القدس العربي

————————–

 دِلِّة الفرقة الرابعة وفنجان الشرع/  رغيد عقلة

17/03/2025

كان مخططاً لهذه المقالة اتجاهاً مختلفاً، يحمل الكثير من النقد، ليس فقط لسلطة الأمر الواقع القائمة في دمشق اليوم، ولكن لجمهورها أيضاً، ففي أداء الطرفين بمايفترض أنه إطلاق لعملية تغيير سياسي شامل الكثير مما يستحق التوقف عنده، ليأتِ التحرك الغادر لمن وصف نفسه ب (العميد الركن المجاز) “غياث دلة”، الضابط السابق في الفرقة الرابعة سيئة الصيت، ليعكس الاتجاه تماماً، ليس لهذه المقالة فقط، ولكن لمزاج شعبي كان آخذاً في الصعود، اختار الطريق الصعب، وركوب مخاطرة (انتقاد مالا يمكن انتقاده) في أداء إدارة الرئيس الشرع، مجازفاً بإغضاب جمهور سوري واسع آثر عن سبق إصرار وتصميم عدم توجيه أي نقد كان لأداء القائمين على الشأن السياسي السوري اليوم، بل واستحرم على غيره (خطيئة) حتى التفكير بالأمر، تقف وراء ذلك جملة أسباب مختلفة ومتعددة جديرة بالدراسة والبحث، إلَّا أن تحرك “غياث دلِّة” وزُمَرَهُ البائسة أتى ليجهز على أدنى فرصة لأي قلم يحلم بالخروج عن خطاب (فسابكة وتكاتكة) العهد الجديد، الذين أخشى (عليه لا عليهم) أنهم باتوا يشكلون واجهته الأكثر حضوراً، وربما تأثيراً، ويسرحون ويمرحون اليوم بين قصر الشعب وفندقي الفورسيزونز والشيراتون … في دمشق عبد الملك بن مروان ..!!

أن يكون لأي سورية أو سوري اليوم رأي وإن كان سلبياً في كينونة وسيرورة عملية التغيير السياسي برمتها فذاك لايعني أنهم فلول لنظام الوريث الساقط، أو يأسفون على أيام عصابته البائدة، واللافت أن اتهامات كهذه لم تصدر عن مسؤولين في إدارة الرئيس الشرع بحق أحد، فقد حمل عناء ذلك فريق (المؤثرين) المحيطين به، رغم تأكيداته المتكررة على ضمان حقوق كل السوريين في حرية الرأي والتعبير، بما يؤكد نجاعة فكرة الاعتماد على (المؤثرين) وجمهورهم من اللحظة الأولى، وإن كان دورهم اليوم مرشح للتراجع أمام من هم الآن أكثر (تأثيراً) في إحباط أي رأي سلبي في العملية السياسية التي يفترض إطلاقها لسوريا الجديدة، لا أقصد هنا سوى “غياث دلة” ومجاميعه القاتلة، من الفلول الحقيقية لنظام المخلوع الهارب.

لمن لايعرف “غياث دلة” الذي يقف مع آخرين وراء تحركات الغدر التي قامرت بدماء وأرواح أهلنا في الساحل ومعهم شباب الأمن العام، وأعلن نفسه مسؤولاً فيما سمَّاه (المجلس العسكري لتحرير سورية) فإن للمذكور سيرة ذاتية تتناسب تماماً مع دور الفتنة القاتل الذي يقوم به اليوم، فالضابط الذي كانت كل مؤهلاته أنه ابن سائق الأسد الأب، تدرج في مرتبات آلة قتل السوريين المسماة بالفرقة الرابعة إلى أن أصبح رئيساً لأركانها، وشارك في كل عمليات القمع والتنكيل الممنهج التي تعرض لها المدنيين الأبرياء في درعا والغوطة وداريا، بل وأسس لميليشيات رديفة تعمل على قتل السوريين سميت ب (قوات الغيث)، ليتحول بعدها إلى مهمة أرفع وأسمى، ليصبح (تحصلداراً) في ماكينة ماهر الأسد التي تدير الأمرين الوحيدين اللذَين سمح الوريث القاصر لأخيه الأصغر بالتدخل فيهما:

    قمع أي تحرك مناويء للنظام،

    وإدارة امبراطورية فساد مالي تقوم على تصنيع وتجارة الكيبتاغون والمخدرات والجباية من على حواجز الفرقة الرابعة وترفيق القوافل، ونقطة على السطر،

وأي حديث عن أي دور سياسي لماهر الأسد طيلة فترة حكم أخيه بعيد عن الحقيقة، لقناعة الوريث بأن أخاه (وأخته) متقدمان على الجميع في إدراك مدى بلاهته وسفاهته، وأي حديث عن تنسيق لإيران أو حزب الله مع ماهر دون المرور ببشار كان خيالاً تدعمه سرديات بشار نفسه.

على رأس هرم الفساد المالي لماهر الأسد كان يتربع “غياث دلة” ليدير هو و “حسين مريش” و “غسان بلال” (الذي طالب الروس مراراً باعتقاله) إمبراطورية الكيبتاغون وخوَّات الحواجز وترفيق القوافل، في الوقت الذي كان نظامهم يزج فيه بأرواح الشباب العلوي الفقير في معركة ضد أبناء شعبهم، كان الكل فيها خاسراً من اللحظة الأولى، واليوم وبعد أن هرب الوريث وأخاه وتركوا الجميع لأقدارهم، يعود “دلة” لمتابعة التجارة بأرواح العلويين ومصائرهم، معلناً عن مجلس عسكري تأخر أربعة عشر عاماً، كم تمناه السوريون جميعاً ليقف مع شعبه ضد نظام حكم العائلة الذي قامر بأرواح كل السوريين، وأولهم العلويين، الأمر الذي تنطحت له ثلة من ضباط الجيش السوري الشرفاء الذين رفضوا استخدام سلاحهم ضد شعبهم، هؤلاء الضباط اليوم مهمشون تماماً من أي عملية سياسية أو حتى المشاركة بجهد أمني تحتاجه سورية بشدة، لفرض السلم الأهلي وتحصين مرحلة مابعد الأسد الساقط.

ماجرى في اليومين السابقين يحمل دلالات مهمة وخطيرة، وينذر بقادم أخطر وأسوأ، وإن كانت بعض المقولات محقة في أن فتنة “دلة” و “فتيحة” هي أمر مُبَيَّت، ولاعلاقة له بأية انتقادات محقة لأداء إدارة الرئيس الشرع، فإن هذا لاينفي مجموعة حقائق مهمة لايمكن تجاوزها، وإلا كنا كمن يحكم على مسلسل طويل من خلال الحلقتين الأخيرة وماقبلها.

كان واضحاً جداً ومنذ اللحظة الأولى لإعلان سلطة الرئيس الشرع وفريقه أن سورية كلها بحاجة ماسة لعملية عدالة انتقالية ممنهجة ومنظمة، من خلال قنوات رسمية، تسير وفق القانون الجنائي السوري المعتمد، دون الحاجة لإعادة اختراع العجلة، وأن سردية (اذهبوا فأنتم الطلقاء) رغم أنها وفرت دماء سورية غزيرة، إلا أنها كانت مجرد وسيلة من وسائل القبض على السلطة بأدنى ثمن ممكن، كانت مقبولة في البداية، لو أتبعت بمسار قانوني واضح منذ الأيام الأولى للعهد الجديد، الأمر الذي كان أكثر أهميةً ومركزيةً من الدخول في دوامة المناهج الدراسية، أو قوننة الاحتفالات الدينية في المساجد وإخضاعها لسلطة الإدارة الجديدة ..!!

الأمر المهم الآخر هو أن التسريحات الجماعية والفصل من العمل لأعداد غفيرة من الموظفين المدنيين والعسكريين خلق وضعاً اقتصادياً واجتماعياً متفجراً كان واضحاً أنه سيكون له منعكساته على السلم الأهلي، خصوصاً عند اقترانه بعدم قدرة الإدارة الجديدة على دفع رواتب من بقي من الموظفين على رأس عمله أو المتقاعدين، وهو أمر قد لاتتحمل مسؤوليته كاملةً، لأنها بالفعل تسلمت بلداً قاعاً صفصفاً، ولكنها تتحمل واجب معالجته، على الأقل بحكم كونها في موقع المسؤولية.

تستطيع الإدارة الحالية أن تُحَمِّل العقوبات الدولية على سورية كماً كبيراً من مسؤولية عدم قدرتها على معالجة الواقع الإقتصادي الحالي، ولكن بالمقابل فإن المجتمع الدولي كان واضحاً وشفافاً منذ البداية وأعلن في أكثر من مناسبة أن رفع أية عقوبات سيكون تدريجياً ومقترناً بخطوات ملموسة تقوم بها الإدارة الجديدة على طريق الانفتاح الحقيقي والمشاركة الكاملة لكل السوريين في عملية الانتقال السياسي، الأمر الذي لايعتقد العديد من المراقبين الدوليين أنه قد حصل فعلاً، يشاركهم الرأي العديد من السوريين.

الموضوع الأكثر أهميةً وحساسيةً هو قضية المقاتلين غير السوريين الذين فعلت الإدارة خيراً في أنها سحبتهم في وقت سابق من مناطق الساحل ذات الكثافة العلوية، مما خفف كثيراً من حالة الاحتقان الشعبي نتيجة مصادمات بينهم وبين الأهالي، ولكنها على مايبدو كانت مضطرة للعودة للاستعانة بهم بعد التحرك الغادر لمجموعات “دلِّة” و “فتيحة” ومن استطاعوا تجييشهم معهم في محاولة انقلاب حقيقي على الوضع القائم، استدعت من الجميع ثمناً فادحاً.

حتى وان اختلفت عناوين العقبات الرئيسية التي يواجهها الوضع السوري اليوم، بين العدالة الانتقالية والوضع الإقتصادي الصعب والتحدي الأمني في مواجهة تحركات غادرة لن يكون تحرك فلول الفرقة الرابعة آخرها، إلا أن الثابت هو أنه لا حلول سحرية لها، إلا من خلال أمر واحد ومحدد، وهو قبول مبدأ المشاركة السياسية، فدونه لن تكون هناك عدالة انتقالية يكون العلويون السوريون جزءاً منها وفي صلبها، ومعها لاعليها، ولن يكون هناك رفع للعقوبات الاقتصادية عن سورية، ولن يكون هناك قبول لاستيعاب الضباط المنشقين عن الجيش السوري النظامي في قوات الإدارة الجديدة ليكونوا في صلب عملية الدفاع عن مرحلة مابعد الأسد من أي تحرك غادر لفلوله وبقاياه، ولكن الواضح (حتى الآن)  أن العقدة المستحكمة للإدارة الجديدة تكمن في أنها منفتحة على أي شيء سوى هذه المشاركة السياسية.

اعتراف الرئيس الشرع بالتجاوزات التي حصلت في عملية الرد على التحرك الغادر لفلول الأسد أمر حميد، وخطوة في الاتجاه الصحيح، كذلك تشكيل لجنة للتحقيق فيها ومعاقبة مرتكبيها، إلا أن كل ذلك لن يكون ذو قيمة على الإطلاق في معزل عن المشاركة السياسية، فهي وحدها مفتاح الحلول مع أطياف واسعة من السوريين والمجتمع الدولي معاً.

يستطيع الرئيس الشرع أن يعتقد أن أحداث الساحل الأخيرة قد خدمته، خصوصاً وأن النفير العام (الذي لم يطلقه هو أو فريقه بالمناسبة)، قد وجه رسالة صريحة للجميع بأن الشارع (ببعض نخبوييه) معه، وباستطاعته دوماً تجييشه بالتلميح لا بالتصريح، ليس ضد الفلول فقط، بل ضد أي مناويء له أو لفكره، والأهم من ذلك كله، للشكل الذي يريده لسورية، وبذلك تكون دِلِّة الغيث قد صبت في فنجانه دون غيره.

كنت أتمنى على الرئيس الشرع أن يقلب الفنجان بوجه غياث دلِّة، فدِلال الأسد عودت السوريين سَمَّها الزعاف، وأن يعود للوجدان الجمعي السوري الذي لازال فيه من راهن عليه كضامن للعبور لمرحلة مابعد الأسد، مقابل جمهور سوري آخر، عريض وإن كان لايزال صامت، يرى أن الشرع استفاد من حالة (النفير العام) التي أمّنت له هامشاً شعبياً مريحاً لإطلاق إعلان دستوري كان مخيباً لآمالهم، لأسباب متعددة، تستحق وقفة قادمة.

رغيد عقلة

كاتب سياسي سوري أميركي

————————————

====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى