صفحات الثقافة

قصة النصيحة: الحكمة السردية في عالم متشظٍّ/ ألكسندر ستيرن

19 مارس 2025

ترجمة: سارة حبيب

في عمود لصالح مجلة “ذا بوينت”، تعرب أغنيس كالارد، فيلسوفة ومدرّسة في جامعة شيكاغو، عن رفضها للنصيحة. وتدافع عن فكرتها باستخدام حادثة حصلت مع الروائية مارغريت آتوود. عند سؤالها عن نصيحة تقدمها لمجموعة من الكتّاب الطموحين، تحتار آتوود في أمرها، وينتهي بها المطاف بتقديم ما ليس أكثر من “كليشيهات” عامة تشجعهم على أن يكتبوا كل يوم ويحاولوا ألا يشعروا بالإحباط. لكن كالارد تعذر تفاهة آتوود، ملقية باللوم على عدم الاتساق الجوهري الذي يتسم به الشيء الذي طُلب من آتوود تقديمه.

النصيحة، بالنسبة إلى كالارد، تشغل منطقة ضبابية بين ما تدعوه “تعليمات” و”تدريب”. تكتب كالارد: “تعطي شخصًا ما تعليمات عن كيفية تحقيق هدف ما هو في حد ذاته ذريعة لهدف آخر أبعد”، في حين أن “التدريب… يُحدِث في الشخص توجيهًا تحويليًا نحو شيء ذي قيمة متأصلة فيه: نصر رياضي أو فكري أو حتى اجتماعي”. مشكلة النصيحة، وفقًا لكالارد، هي أنها تحاول اختزال عمل التدريب الشخصي الذي يستغرق وقتًا طويلًا وتكثيفه إلى تعليمات:

لا يأتي الشباب إلى آتوود لأجل الحصول على تعليمات حول كيفية تشغيل برنامج مايكروسوفت وورد، ولا يتقدمون بطلب غير معقول بأن تصبح آتوود مدربتهم في الكتابة. إنهم بالأحرى يريدون نوع القيمة الذي قد يحصلون عليه من الشيء الثاني (التدريب)، إنما يريدون أن يُعطى إليهم بطريقة الأولى (التعليمات). لكن هذه مجرد جعجعة بلا طحين.

آتوود، كما تكتب كالارد، قد تروي قصة عن تطورها ككاتبة، لكن تلك الخصوصيات لن ترقى إلى مستوى شيء شبيه بحكمة عامة يمكن لكاتب شاب أن يدمجها في حياته. “يبدو أن العبرة من قصة كل شخص عظيم هي أنه لم يكن يحاول إعادة سرد قصة شخص آخر”، كما تكتب كالارد. بالتالي، عند سؤالها عن نوع من الإرشاد لا وجود له، ليس بوسع آتوود أن تقدم سوى بديهيات يمكن لأي شخص ليست لديه خبرة في الكتابة أن يقدمها.

بالتأكيد، كالارد محقة في التذمر من الميول التي تسعى لإيجاد حلول ذرائعية للمشاكل الوجودية، ومن معاملة الأغنياء والمشهورين كما لو أنهم فكوا شيفرة ما يمكن لهم ببساطة مشاركتها مع معجبينهم. الإنترنت مليء بحيل حياتية مريبة ومرشدين روحيين انتهازيين حول أسلوب العيش مثل جوردان بيترسون وغوينيث بالترو.

مع هذا، ترى كالارد أن المشكلة تخص الفئة التحليلية للنصيحة ذاتها، وهي بتسرع نوعًا ما ترفضها برمتها. لكن مشكلة النصيحة ليست مفاهيمية. أتباع آتوود خائبو الأمل لم يكونوا يأملون بالحصول على نوع من التوجيه مستحيلٍ تحليليًا، بل توجيه يشهد تراجعًا كبيرًا ليس إلا.

مقالة الفيلسوف والناقد الألماني فالتر بنيامين “راوي القصص”، التي يرجع عنوانها إلى كاتب القصة القصيرة الروسي نيكولاي ليسكوف، تقدم سببًا تاريخيًا لهذا التراجع: “قابلية نقل التجربة تتناقص”. يحاول بنيامين أن يفهم هذا التغيير من خلال تراجع سرد القصص. رواة قصص مثل ليسكوف، فرانز كافكا، وإدغار آلان بو يكتبون بطريقة تقترب من التقليد الشفهي. قصصهم لا تزال “تدخل في نسيج الحياة الحقيقية”، وهي تحتوي، “صراحة أو خفية، شيئًا مفيدًا”، سواء أكان أخلاقيًا، عمليًا، أو شبيهًا بالأمثال. يعطي بنيامين مثالًا لقصة كتبها هيرودوت عن الملك الفرعوني بسماتيك الذي هُزم وأسِر على يد الفرس وأجبِر على مشاهدة ابنه وابنته يُدفعان للسير نحو الموت أو العبودية كجزء من موكب نصر الفرس. يظل بسماتيك بلا حراك، “عيناه مسمرتان على الأرض” إلى أن يميز بين السجناء أحد خدمه – “رجل عجوز معدم”. عندها فحسب “يضرب بقبضتيه على رأسه و[يُظهر] أعمق إشارات الحزن كلها”.

يقارن بنيامين هذا النوع من القص الذي هو مفتوح النهاية، محيّر، ومحرض على التفكير، مع الرواية التي يدعوها “أقدم مؤشر على سيرورة تشكّل نهايتها تراجعَ القص”. تعتمد الرواية على تكنولوجيا الكتاب التي تتيح للسرد أن يفصل نفسه عن التقليد الشفهي. وتصبح في نهاية المطاف ملجأ الفرد المعزول عن المجتمع والتقاليد. الشخصية الرئيسية للرواية هي “الفرد الذي لم يعد قادرًا على الحديث عن همومه بطريقة نموذجية، الذي يفتقر هو نفسه إلى المشورة وليس بوسعه أن يقدم أيًا منها”. يستشهد بنيامين بأول رواية عظيمة “دون كيخوته” التي تُظهر افتقارًا جليًا إلى المشورة: “العظمة الروحية، الجرأة، القدرة على تقديم المساعدة التي يتسم بها واحد من أنبل الرجال… لا تحتوي على أي بصيص من الحكمة”.

عادة، أبطال الروايات العظيمة – فكر أيضًا بميرسو في رواية “الغريب” لكامو أو جاي غاتسبي في رواية “غاتسبي العظيم” لفيتزجيرالد- يتصارعون، سواء أكان بشكل كوميدي أو تراجيدي، مع انحلال سياقات المعنى المتماسكة. بعيدًا عن تقديم المشورة للقراء، تقدم لهم الروايات العزاء على الاغتراب الحديث؛ ما دعاه جورج لوكاتش “التشرد الخارق للطبيعة”. يكتب بنيامين: “ما يجذب القارئ إلى الرواية هو الأمل بتدفئة حياته المرتعشة بموتٍ يقرأ عنه”.

تتخلى القصة التقليدية عن الواقعية النفسية لصالح عمومية يمكن أن تندمج في حيوات المستمعين إليها. قد نستدعي حكاية رمزية، وإن تكن حكاية غامضة، من أجل تفسير تصرف ما قمنا به.

الرواية، من ناحية أخرى، تقدم تجارب بديلة تكون غالبًا متصلة بنا نفسيًا أو حتى تطهيرية لكنها تتعلق بتهذيب المشاعر أكثر مما تتعلق بتوجيه التصرفات. إننا أميل لأن نستدعي رواية ما من أجل تعريف نوع الشخص الذي نحن عليه من أن نلتقط منها ما تعلمناه عن العالم وكيف نتصرف فيه.

يقارن بنيامين القص أيضًا بشكل تواصل “أكثر تهديدًا” يهدد حتى أهمية الرواية: المعلومات. تأتي إلينا المعلومات من الصحف – واليوم، عبر التلفاز والإنترنت- “سلفًا… مثقلة بالشروحات”. في الصحافة، تكون التجربة خاضعة للمعالجة، وأي شي غامض أو غريب يُفسَّر لصالح “محتوى يصلح كوجبة خفيفة” تُستهلك من دون أن تكون أبدًا مدمجة في تجربة القارئ أو المشاهد.

مشكلة النصيحة، وفقًا لكالارد، هي أنها تحاول اختزال عمل التدريب الشخصي الذي يستغرق وقتًا طويلًا وتكثيفه إلى تعليمات (Getty)

هدف المعلومات، كما يؤكد بنيامين في مقالة منفصلة “عن بعض الموتيفات عند بودلير”، “هو العكس تمامًا […]: إنه عزل الأحداث عن الحيز الذي يمكن لها أن تؤثر فيه على تجربة القارئ”. التأويلات صراحة وضمنيًا ملحقة بالأحداث لجعلها مفهومة في حد ذاتها.

في القصة، على العكس، “الارتباطات النفسية بين الأحداث ليست مفروضة على القارئ” بل تُترك مفتوحة للتأويل. علم النفس يُتجنَّب لصالح العمومية. على سبيل المثال، نحن لسنا بحاجة إلى وصف مفصل للدراما النفسية بين “الابن الضال” وأبيه لنفهم أهمية القصة التي، بالنتيجة، يمكن أن تُدمج في حيواتنا وتعاملاتنا مع الآخرين بدلًا من أن تُستهلك وتُنبذ بوصفها سمة بالية مبتذلة. المعرفة التي تقدمها المعلومات سطحية، أو، في أفضل أحوالها، ذرائعية. قد تساعدنا في أن نستفيد من سمات مايكروسوفت وورد، لكن لا يمكنها أن تعالج مسائل أكثر عمقًا. “قيمة المعلومات لا تتجاوز اللحظة التي كانت فيها جديدة”، كما يكتب بنيامين.

يتعلق هذا بتمييز يقوم به بنيامين في مكان آخر بين التجربة الحدَثية الآنية (Erlebnis) والتجربة المدمَجة المستمرة القابلة للسرد (Erfahrung). يربط “Erlebnis” بالمشاهد الحديثة والمعلومات القابلة للاستهلاك بشكل منفصل. فهي تتضمن أجزاء يمكن لنا بالكاد أن نتبين ارتباط واحدها بالآخر أو نجمعها معًا. “Erfahrung”، على العكس، هي نوع التجربة التي تجعل المرء “مجرِّبًا”؛ التجربة التي تضع حياة المرء ضمن تقليد قابل للتمييز لكي يشعر بدرجة ما من الاتصال بما أتى قبله. بدلًا عن ذلك، كثيرًا ما تبدو تجارب أسلافنا ومواقفهم غير مفهومة تقريبًا، إن لم تكن محرجة تمامًا، ما يجعلنا نعيش في حالة من انعدام الماضي تقريبًا. فبقدر ما يكون الماضي معلومًا قط، يكون كذلك بوصفه معلومات معالَجة، مجتثّة من السياق ومحوَّلة إلى مجرد محتوى يتم استدعاؤه واستهلاكه في حاضر أزلي.

بالنسبة إلى بنيامين، من دون نوع التجربة المنعكسة في القص، نكون محرومين أيضًا من إمكانية النصيحة غير الذرائعية. “المشورة ليست إجابة عن سؤال بقدر ما هي اقتراح يخص متابعة قصة تتكشف فحسب. لالتماس هذه المشورة، على المرء أولًا أن يكون قادرًا على سرد قصة”. هذا النوع من المشورة ليس تعليمات ذرائعية ولا تدريبًا يتضمن توجيه فرد نحو هدف أو حقل معين. كما أنه ليس شكل النصيحة الذي يسعى خطا لاختزال الأخير (التدريب) إلى الأولى (التعليمات). إنه يتضمن حكمة عامة مختزلة من تجربة محسوسة متماسكة: بعض من حكمة عملية أو مغزى يتجاوزان مجرد أن “يكون المرء ذاته” أو، على حد تعبير كالارد “ألا يحاول سرد [قصة] شخص آخر”.

في الثقافة الاحترافية المعاصرة، من المرجح أن يسمع المرء كلمات “سرد” و”قص” في إشارة إلى بناء “علامة تجارية شخصية” للمرء. يُشجَّع المرء على أن يختار – أو حتى يختلق تمامًا- تفاصيل من حياته الشخصية ليقدمها للسوق. من الناحية المثالية، يمكن أن تُفصّل هذه الخصوصيات لأي سياق يكون بحاجتها. هكذا، تصبح حياة المرء شيئًا معاكسًا للقصة بالمعنى الذي وضعه بنيامين. فبدلًا عن تجربة مندمجة، متماسكة يمكن أن تُستمد الحكمة منها أو يمكن تطبيق الحكمة عليها، تصبح مجموعة قطع ديكور منفصلة ومنعزلة، تُستغل بطريقة معتلة اجتماعيًا وتُعرَض لتحدث انطباعًا أو أثرًا مرغوبًا. تصبح السردية الشخصية أداة مضبوطة بدقة لتسلق سلالم مؤسساتية متقلقلة. ولمثل قصة الحياة تلك، تصبح النصيحة المعلوماتية المقدمَّة كمنتج استهلاكي على الإنترنت ملائمة.

هل يمكن أن ننقذ التماسك من التشظي، الاندماجَ من الاغتراب، الحكمة من الذرائعية؟ رغم مقدار غير قليل من الحنين في مقالته، يعارض بنيامين النظر إلى هذا التفكك بوصفه “علامة على الانحلال”. بالأحرى، هو يدعوه “مجرد ملازم لقوى التاريخ الدنيوية المنتِجة؛ علامة أزالت السردَ تدريجيًا من مجال الكلام الحي وفي الوقت ذاته تجعل من الممكن إيجاد جمال جديد في ما يتلاشى”. يشير بنيامين إلى حماقة التوق إلى، أو ادعاء، شكل حياة ماضٍ على نحو حاسم. لكن ذلك لا يعني أن نوعًا من التماسك السردي ليس في المتناول تمامًا. في الحقيقة، كما يشير بنيامين، غياب ذلك التماسك في حد ذاته يمكن أن يقودنا إلى تثمينه والسعي إليه بطريقة جديدة.

يستخدم بنيامين اللغة الدينية صراحة ليشير إلى استرداد التجربة الهادفة من التشظي الحديث. مثل تلك المساعي، كما يكتب، تتضمن “افتداء” التجربة. وهو يعثر على أحد الأمثلة في شعر بودلير الذي يحاول أن يصنع كلًا موحدًا من “تجارب الصدمة” المنفصلة للحياة الحضرية الفوضوية في باريس الصناعية. كذلك، يحضر مثال آخر في “بحثًا عن الزمن المفقود” لبروست، حيث تتيح ذاكرة لاإرادية، يستحثها مذاق حلوى المادلين، لبروست أن “يسيطر على تجربته”.

بالطبع، لا يمكننا جميعًا أن نكون بودلير أو بروست، لكن بوسعنا أن ننمّي نوع الانتباه الضروري لمقاومة الاستيعاب المتشظي في هذه التجربة الجديدة المشرقة أو تلك؛ بوسعنا أن نحاول السيطرة على تجاربنا وندمجها في كلٍّ قابل للإدراك. بوسعنا أيضًا مقاومة إغراء اعتبار قصتنا مجموعة من الممتلكات الخاصة والعمليات الميكانيكية التي تعتمد صلتها بحياة الآخرين على تداخل ظروف خاصة.

وفقًا لكالارد، سيرة آتوود الذاتية لن تؤثث أي شيء من قبيل “عشر خطوات بسيطة لتصبح روائيًا ناجحًا”، لكن هل من المبالغ فيه ترقبُ محاولةٍ لأن نجد في سرد مدروس لمسيرتها اقتراحًا بدروس عملية لكاتب طموح؟ إن مثل تلك النصيحة لن تكون تلميحات يمكن التعبير عنها بسهولة مستخلصة من سرد معلوماتي؛ بل ستنشأ من تفسير سرد غامض يلهم أفراد الجمهور تأملًا أكثر عمقًا للمضي في قصصهم الخاصة.

وإذا استنبطنا أكثر، هل من المبالغ فيه أن نأمل من أولئك الموجودين في مواقع السلطة مشورةً ما تتجاوز التدريب الشخصي أو التعليمات البالية لقيادة المؤسسات الآخذة بالتدهور؟ إن مثل تلك النصيحة قد تقر بتفكك المعنى إنما لا تزال تحمل أملًا ما بالافتداء.

ألكسندر ستيرن: كاتب يحمل دكتوراه في الفلسفة من جامعة نوتردام. تشمل كتاباته الفلسفة، الثقافة، واللغة. له كتاب “سقوط اللغة: بنيامين وفيتغنشتاين حول المعنى” (2019)

رابط النص الأصلي:

https://shorturl.at/aUZdI

المترجم: سارة حبيب

ضفة ثالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى