أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

كارثة أن تصبح النخب جماهير/ أرنست خوري

19 مارس 2025

نضال النخب من أجل حقّ الجماهير بالعيش مواطنين أحراراً محترمين شيء، واقتباس هذه النخب خطاب الجماهير، أي ارتداؤها ثوب الشعبوية شيء آخر تماماً. في الحالة الثانية، تكون النخب المثقفة والبرجوازية قد تخلّت عن دورها التقدّمي التغييري والديمقراطي لتسابق الجماهير على التصفيق للزعيم والمزايدة على خطابه الرسمي. عندها، نكون أمام كارثة وطنية في ظروفٍ تاريخيةٍ كالتي تمرّ فيها سورية هذه الأيام، محاولةً شقّ طريقها لبناء دولة من تحت الصفر وإعلاء المواطنية على الطوائف والإثنيات وإرساء علاقات سليمة وسلمية في الداخل والتصالح مع العالم. وإن كان أحد أسباب فشل الثورة السورية 13 عاماً ترييف المدينة طوال عقود حكم البعث، وضعف البرجوازية السورية نتيجة حربٍ شعواء شنّها نظام الأسد منذ ولادته عليها وعلى المدينة منذ تأسّس “البعث” السوري على يد ضباط ريفيين، فإنّ احتمالات فشل بناء سورية جديدة تكبر كلما تخلت النخبة المثقفة عن دورها النقدي لتصبح نسخة مزورة من الجماهير، وكلما استقالت البرجوازية من موقعها التغييري لتلتحق بالبروليتاريا. ومصطلحا البرجوازية والبروليتاريا يحضران هنا لا حنيناً لأدبيّاتٍ ماركسية، إنما لأن الذكاء الاصطناعي وجميع القفزات التكنولوجية والمعرفية والعلوم الاجتماعية لم تقدّم مصطلحين بديلين يحملان ما تحمله البرجوازية من طاقةٍ تغييرية، هرباً من القاع وسعياً إلى الأعلى، والتغيير يحصل في هذه المسافة الفاصلة بين المنزلتين، وطاقة سلبية عنفية أو استسلامية لدى البروليتاريا التي عندما لا يكون لديها وعي ثوري تغييري على قولة كارل ماركس، تكون “رثّة” و”حطب صوبيا”، والوصفان لصاحب اللحية الكثّة إياه.

وانزلاق نخبٍ إلى خطاب الجماهير يُرصد في كل حدث سوري هذه الأيام. يحضُر في تبرير نخبٍ كثيرة مجازر الساحل الطائفية أو صمتها عنها أو سلوكها مسلك “اعمل نفسك ميّت” أمام فيديوهات المذبحة وقصصها. يُعثَر عليه في التخلي عن العقل والحكمة والخطاب الهادئ، والانزلاق إلى وطنياتٍ شوفينيةٍ رخيصة، تلاقي وطنياتٍ أرخص في لبنان، على هامش ما استفقنا عليه من حربٍ على الحدود المعروف منذ عقود أنها مرتع لتهريب السلاح والسلع والأموال والممنوعات والبشر، وأنها مكان إقامة للعشائر ولتداخل السكان، وساحة للنزاعات العقارية وأخيراً ملعب لعبث حزب الله. في ظرفٍ كالذي تعيشه سورية، بلداً يحاول الخروج من الجحيم ويتعثّر، كل ما فيه منهار ومفلس، إسرائيل تفعل ما تشاء في أرضه وسمائه وتخترق مجتمعه، الكراهية بين طوائفه وقوميّاته تعيش ربيعها، لا دولة فيه ولا مؤسّسات… وفي لبنان الذي لا يفهم كثر كيف أن ناسه لا يزالون يتدبّرون أمورهم أكلاً وشرباً وأمناً، بلد منكوب من حزب الله ومن إسرائيل ومن زعماء طوائف وضيعين ومسؤولين فاسدين وسارقين محترفين… في ظروف سورية ولبنانية كهذه، تركّب نخبٌ رؤوساً حامية فوق أكتافها، فتسمعها تحرّض سلطاتها الجديدة على اجتياح لبنان وربما الزحف نحو العاصمة وضاحيتها لتقضي على حزب الله، وتتقمّص دعوة هيثم المالح إلى استعادة سورية ساحلها وجبلها (أي لبنان). في ظروفٍ كهذه، بدل أن تتفق النخبتان السورية واللبنانية، بعدما زال حاجز النظام الأسدي وانكسرت شوكة حزب الله نسبياً، على أن مصلحة البلدين مشتركة بأن تكون فيهما دولة حقيقية تضبط الحدود وتمنع وجود المليشيات، وبدل أن تهدّئ هذه النخب من جنون جماهير متعطّشة للدماء وللعنصرية، تراها وتقرأها وتسمعها تبتذل شعبوية وتحريضاً وكلاماً فارغاً عن الحسم العسكري والضرب بيد من حديد ووضع حدّ لـ”حزب الشيطان”، ليبدو خطاب السلطة العسكرية أكثر هدوءاً من تدوينات وتصريحات وفيديوهات مثقفين وصحافيين وشخصيات عامة كان يُنظر إليها قبل سقوط نظام الأسد مرشحةً لقيادة سورية الجديدة، بمجتمعها إن لم يكن بدولتها.

ذات يوم، خاف أحمد فؤاد نجم مما اعتقده نصراً في 1973، على قاعدة “خدنا سينا خَدو مصر”. اليوم، خوفنا كبير على نصر السوريين، أن يكونوا أسقطوا الأسد ولكنهم خسروا نخبتهم.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى