أبحاثسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

لن تحكموا سورية هكذا/ مروان قبلان

19 مارس 2025

من البدهيّات التي يعرفها دارسو السياسية وممارسوها، أن أي سلطة، بغضّ النظر عن ماهيتها (جماعة دينية، حزب سياسي، عسكر، عائلة مالكة)، وبغضّ النظر عن طريقة ولوجها إلى الحكم (بوسائل ديمقراطية، انقلاب عسكري، ثورة شعبية… إلخ)، ومهما يكن النظام السياسي الذي تمثله وتعمل به (فردي، شمولي، ديمقراطي، ملكي… إلخ) لا يمكنها أن تحكم وحدها مهما بلغت الموارد والإمكانات التي تملكها. ومن البدهيّات أيضاً في دراسات النّظم السياسية المعاصرة أنه كلما اتّسعت قاعدة الحكم كان النظام أكثر استقراراً هناك في القمة. في دول الخليج العربية، مثلاً، تحكم عوائل مالكة تستند إلى شرعيات تقليدية، لكن هذه الشرعية لا تكفي وحدها للحكم، بل تحتاج إلى تحالفاتٍ اجتماعية، تضمّ عادة شيوخ القبائل، والتّجار، والأعيان، ومشايخ الدين، ويضطلعون بدور مهم في استقرار نظام الحكم من خلال أدوارهم التمثيلية ونفوذهم في مجتمعاتهم. فوق ذلك، تعيد الدولة توزيع ريوع تصدير الطاقة على شكل منافع وخدمات لعموم المجتمع (توفير فرص العمل، والصحّة، والتعليم… إلخ). هذه المعادلة (رابح- رابح) مستمرّة، والأرجح أن تستمرّ، ما دامت هذه التحالفات قائمة ويوجد ما يكفي من ثرواتٍ لتمويلها. في النظم الديمقراطية العريقة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما، لا يمكن لأي حزبٍ أن يفوز في الانتخابات ويحكم من دون تحالفات سياسية تعينه على ذلك، خذ مثلاً إدارة الرئيس ترامب، التي ما كان لها أن تعود إلى الحكم لولا التحالف الثلاثي الذي بنته، ويقوم على المحافظين، من القوميين والإنجيليين، إلى جانب قطاع المال والأعمال، وعلى رأسه عمالقة التكنولوجيا، فضلاً عن الطبقة العاملة الأميركية البيضاء الغاضبة من تدهور أوضاعها الاقتصادية، وعدم قدرتها على مواكبة التغيّرات الاجتماعية والتكنولوجية. في إيران، حيث يحكم نظام ثيوقراطي، تعتمد السلطة في استمرارها على تحالف البازار والعسكر ورجال الدين، تسنُدهم شبكة منافع اجتماعية هائلة، تربط ملايين الإيرانيين بالنظام، وتحفظ بقاءه رغم الضغوط الخارجية.

إذا جئنا إلى سورية، وهي موضوع حديثنا واهتمامنا الدائم، نجد أن نظام البعث اعتمد في انتزاعه السلطة، واستقراره فيها أكثر من 50 عاماً، على تحالف يضم العمّال والفلاحين وصغار الكسبة، إلى جانب الضباط الريفيين ومثقفي الطبقة الوسطى، جرى تطعيمُه لاحقاً بعناصر من البرجوازية المدينية (في حلب ودمشق خصوصاً) إلى جانب جزءٍ معتبر من المؤسّسة الدينية. بدأ هذا النظام يتداعى فقط عندما شرع بشّار في تفكيك تحالفات نظام البعث الواسعة، واستبدالها بتحالفاتٍ أضيق، عمادها ضباط الأمن والجيش وطبقة رجال الأعمال الجدد، والذي كان في جوهره تحالف فساد بين السلطة والثروة (للتفصيل في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى دراسة للكاتب “لماذا انهارت دولة البعث في سورية؟”، موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).

لن تستطيع السلطة الجديدة في دمشق أن تحكم من دون تحالفاتٍ اجتماعيةٍ وسياسيةٍ معتبرة، وهي تخطئ إذا ظلت جماعة منغلقةً على ذاتها، وظنّت أن بمقدورها أن تحكم وحدها، سواء بوصفها فصيلاً (هيئة تحرير الشام) أو حتى ائتلافَ فصائل (غرفة عمليات ردع العدوان)، وسوف تؤدّي سياسات تفكيك مؤسّسات الدولة، والاستئثار، والتسريح القائمة، عاجلاً أم آجلاً، إلى اضطراباتٍ اجتماعية في المناطق المحسوبة على السلطة الجديدة، وسوف تعزّز نزعات الانفصال في تلك التي لا تملك سيطرة فعلية عليها، خاصة أن هناك قوى إقليمية تدفع بهذا الاتجاه، وفي مقدّمتها إسرائيل وإيران.

لا تملك السلطة الجديدة حالياً تحالفات اجتماعية متينة، والإجماع النسبي المتكوّن حولها يعود إلى عاملين رئيسين: الأول، إحساس عامة السوريين بأهمية الإنجاز المتمثل بنجاحهم في إسقاط أحد أسوأ الأنظمة في التاريخ المعاصر، ورغبتهم في إنقاذ بلدهم، والنهوض بها، ومنعها من التفكّك، لذلك تجدهم، بدافع وطني خالص، يغضّون النظر عن سياسات لا تعجبهم في سبيل حماية الإنجاز. والثاني، إحساس السوريين “السنّة” بأنهم استعادوا الحكم الذي يعتبرونه حقّاً لهم بحكم غالبيتهم العددية، والذي تغذّيه السلطة الجديدة. لكن المشاعر والأحاسيس وسياسات الهوية لا تستمر طويلاً إذا لم تسندها بعض المنافع، بدليل ثورة الشيعة في العراق على حكّامهم عام 2019. لكن هذا قد يأتي عندنا أسرع، لأن سورية، بعكس العراق، لا تملك موارد أو ريوعاً كبرى لامتصاص غضب الناس أو كسب رضاهم. وهي، فوق ذلك، أسيرة عقوباتٍ دوليةٍ تشترط المشاركة السياسية لرفعها.

… خلاصة القول، لن تستطيعوا حكم سورية، ولا الحفاظ على وحدتها، من دون أن يشعر كل سوري أن له سهماً في بلده.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى