أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

ما بعد الوطنية السورية: الإنكار القسري للمسألة الطائفية إذ ينتهي انفجاراً في الوجوه/ موريس عايق

19-03-2025

        يلحظ المرء لدى الحكم الحالي في سوريا جملة من الأمور التي تذكّر بالنظام السابق، سواء في سلوكياته مثلما حصل مع مؤتمر الحوار الوطني الذي يشبه في إخراجه ومخرجاته ودوره الوظيفي مؤتمرات الحوار التي سبق للنظام أن دعا إليها، أو في خطابه الإعلامي للداخل والخارج، وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي الحالي مع المذبحة الحاصلة بحق العلويين. ما يمكن قوله هو أن هذه التشابهات العديدة التي تجمع الحكم الحالي بالنظام السابق تشير إلى جذر مشترك لها يتعلق بطبيعة الكيان والدولة. هناك «ثوابت» يحيل إليها كل من يمسك بزمام الأمور تنشأ من طبيعة السلطة المركزية وحاجات فرضها، وأيضاً من طبيعة ما يفرضه الكيان السوري نفسه والمخيلة التي يستلهمها الجميع في سوريا، بمعزل عن إيديولوجياتهم وانتماءاتهم.

        على مستوى الخطاب الإعلامي، تظهر لدى الممسكين بالسلطة في سوريا لغة وطنية مُترفعة ومنكرة للانقسامات الأهلية، الطائفية خاصة ولكن أيضاً القومية/الإثنية، فيتم التأكيد على وحدة الشعب السوري وتجاوزه لهذه الانقسامات وتعاليه عنها، وكأنها أمراض ولحظات عابرة لسوء الفهم. في المقابل، يتم توصيف المعركة بأنها معركة مع فلول النظام السابق، المقابل الحالي للإرهابيين السابقين، الذين يستهدفون الشعب السوري كله. العداء هو مع هؤلاء وليس مع طوائفهم وجماعاتهم، وبالتالي تُنكر الطبيعة الأهلية للانقسامات فيما يصبح التأجيج الطائفي والأهلي مشروع هؤلاء الفلول، كما سبق وكان مشروع الإرهابيين، الذين يسعون إلى صبغ النزاع بالطائفية وتوريط طوائفهم «الكريمة» لتقديم النزاع كنزاع طائفي يكون معبراً لتدخلات خارجية تنال من سوريا. هذا ما كانه خطاب الأسد على مرّ ما يزيد عن العقد خلال الحرب الأهلية السورية، واليوم هو خطاب أهل السلطة، وخاصة في اللحظات الحالية حين المواجهة في الساحل على أشدها، مترافقة مع مواجهات باردة مع الدروز وقسد. بالطبع، لا يمكن إنكار حقيقة وجود الفلول وعصابات النظام السابق فيما يحدث حقيقة في الساحل، لكن هذا لا يقدم كل الصورة ولا يلغي حقيقة الانقسام الأهلي الكامن خلف هذه الصدامات والنزاعات.

        وفي تشابه آخر، يظهر إلى جانب الخطاب الرسمي المترفّع عن الطائفية خطاب شعبي موغل في التحريض الطائفي ومعباً بالرموز الطائفية وأساطيرها ودعوات الثأر لديها. إن متابعة لوسائل التواصل الاجتماعي، وأكثر من ذلك قنوات تيلغرام حيث تغيب المحاذير وتحضر إمكانيات أكبر لأشكال التعبير مثل الفيديوهات، والأشكال الشعبية للاستنفار والنفير والتظاهر، تقدّم للمرء صورة عن قدر التجييش الطائفي وحضوره المفرط لدى القواعد، سواء الحاضنة الشعبية أو القواعد التنظيمية. وهي ازدواجية سبق وشاهدناها لدى نظام الأسد، بين خطاب رسمي وطني وآخر شعبي وقاعدي شديد الطائفية. كما يرافق هذا الخطاب القاعدي الطائفي وقائع التنكيل الأهلي والقتل والإذلال على طول خطوط الانقسام الطائفي.

        ليست هذه التشابهات وليدة الصدفة، بل تقول الكثير عن خطوط مستقرة وثابتة لحاجات السلطة بوصفها سلطة، ونتاج الكيان السوري والمخيلة الأهلية. نحن نشهد هذه المتوازيات رغم كل التباين الإيديولوجي، فالبعثي القومي تحدث كما يتحدث السلفي الجهادي اليوم حين تواجدا في الموقع نفسه ووقفا أمام المهمة نفسها وحملا الطموح الخاص بالسلطة نفسه. هذه المتوازيات يجب أن تدفعنا أكثر باتجاه التعامل مع سؤال السلطة مباشرة ومع سؤال الكيان السوري ومعضلاته الأهلية التي تسعى السلطة، أياً كانت هذه السلطة، لإنكارها، بحيث يكون نكرانها جسراً لهندسة اجتماعية تريدها وسلطة تحتكرها. ولهذا فإن التشكيك والريبة من هذه الوطنية هو مدخل إجباري لمساءلة السلطة نفسها والحذر منها، فخطاب الوطنية من طرف السلطة لا يسعى ولا ينجح، ماضياً وحاضراً، في بناء وطنية سورية حقّة؛ بقدر ما كان خطاباً لإسباغ الشرعية على احتكار السلطة وبناء العصبية اللازمة لضمانها والاحتفاظ بها.

        بعيداً عن خطاب الوطنية الرسمي ومتفرعاته، لدينا مسألة طائفية (وقومية فيما يخص الأكراد) مطروحة علينا وبقسوة بالغة، مسألة طائفية نصادفها في كل مسألة تخص بناء سوريا. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال جرائم النظام السابق وتحقيق العدالة لضحاياه، كما هي حاضرة في المقلب الآخر لضحايا الثورة أنفسهم. المسألة الطائفية حاضرة في سؤال شكل الدولة وطبيعة الحكم، في تقسيم السلطة وشكل المؤسسات، في إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد، في تقسيم الثروات. في كل أمر نسعى إلى مناقشته نرى المسألة الطائفية في أحد وجوهها حاضرة بشكل مباشر. رغم ذلك، هناك إصرار على نفيها والقفز عنها، بحسب التقليد السوري القائم على إنكار أي بعد طائفي في النقاش والتحايل عليه. نحاول نفي السؤال الطائفي عن كل مسألة رغم أنه يقبع في خلفية تفكير كل من يتناول هذه المسألة، والجميع يعلم. الجميع يعلم أن سؤال العدالة في سوريا هو سؤال طائفي بامتياز، وأن جميع من يتعاطى الملف يتعاطى معه انطلاقاً من هذه الطائفية الكامنة فيه. لكن، وفي لحظة النقاش العام ومحاولة بناء استراتيجيات لتناول سؤال العدالة، يصر الجميع على إقصاء المسالة الطائفية والمخاتلة حولها عبر التأكيد على فردية الجريمة وغياب البعد الطائفي، فيما تذهب الوقائع على الأرض في اتجاه مغاير وشديد الخطر.

        منذ سقوط النظام، يسود في سوريا مزاج سنّي ظافر مشفوعاً بإحساس هائل بمظلومية عظيمة ألمّت به، حُمل خلال ما يزيد عن العقد على خطاب قائم على سردية المواجهة مع النظام النصيري. هذا المزاج الحالي شديد الخطر، يرغب بالثأر سواءً لضحاياه في الحرب أو لعقود الذل التي عاشها تحت نظام الأسد. هذا المزاج هو الأساس اليوم لبناء عصبية سنّية تكون قاعدة لعصبية النظام الجديد، ومنطلق التغاضي عن كل مخاطره وتوجهاته. لن يكون الآخرين وحدهم ضحايا هذه العصبية، رغم كونهم ضحايا مباشرين لها عبر تسويغ الحرب ضدهم، لكن سيكون الكثير من السنّة لاحقاً ضحايا هذه العصبية. يتوزّع السنّة على كامل الجغرافيا السورية وعلى الطيف الاجتماعي، من كل الطبقات، ومن كل الخلفيات الاجتماعية، ومن كل الخلفيات الإثنية؛ ولهذا فمن الصعب أن يكون هناك إطار جامع لهذه العصبية. هم كتلة الأمة التي لا يمكن لها أن تكون كلها في الحكم. تعتاش العصبية السنية الحالية على مخيلة الصراع والحرب، على سردية نزاعها مع الآخرين، دون لُحمة ذاتية وداخلية، ويتطلب الحفاظ على هذه العصبية حرباً مستمرة؛ ملاحقة مستمرة للفول. وتتطلّب أيضاً تطهيراً داخلياً مستمراً لإجلاء صورة نمطية، بالحد الأدنى المقبول، للسنّي. سوف يدفع الكثير من السنة ثمناً غالياً لمحاولة إنتاج وتعميم هذه الصورة، خاصة بالنظر إلى الصورة الممكنة لهذا السني الحق التي يحملها القائمون على السلطة اليوم، وقد بدأ هذا الأمر مبكراً مع الأكراد، وصولاً إلى محنة عفرين وما تلاها.

        وفي مقابل العصبية السنية الحالية نجد جماعات أخرى ينهشها شعور بالخطر الوجودي على نفسها، أو التدهور والخضوع الذي لن يعوضه شيء. فالعلويون يعيشون فكرة الخطر الوجودي في مواجهة سؤال القصاص من الجرائم التي حصلت في عهد الأسد، وهم الذين شكّلوا عصبية نظامه. الدروز يخشون بدورهم تدهوراً وخضوعاً نهائيين، والشيء نفسه يصدق على المسيحيين والإسماعيليين. هناك معضلة مطروحة على الأقليات، ولا تعرفها الأكثرية، وهي أن كل معركة هي معركة وجودية وكل هزيمة هي إيذان بدمار وجودي. كيف لنا التعامل مع هذه الأمور بحكمة وعقلانية كبيرتين، بحيث لا تنهار إمكانية العيش المشترك تحت وطأة أسئلة العدالة وحكم الشعب والمساواة؟ وفي المقابل، كيف لا تُغفل الحاجة الماسة لتقديم إجابات مقبولة على هذه الأسئلة تحت مسمى تطمين الأقليات، بما ينتج غبناً هنا وشعوراً باللامسؤولية هناك؟ المهمة عسيرة إلى أقصى حد، وإمكانية الفشل فيها أكبر من إمكانية النجاح في أفضل الظروف، وليس في ظل ظروف شديدة التعقيد إقليمياً ودولياً كما هو الحال في سوريا. لكن يبقى أن علينا الخوض في هذه المسائل.

        الإنكار القسري للمسألة الطائفية انتهى دوماً إلى انفجارها في وجوهنا، ولم يخدم إلا تكريس سلطة مستبدة وقوية، تؤمّن شرعيتها باسم حمايتنا من هذه الطائفية وببناء عصبية طائفية وأهلية حولها لحماية نفسها. هذا الإنكار القسري لم يمنع الاحتراب الطائفي ولا المجازر وانهيار النسيج الوطني وتفسخه، بل على العكس لعباً دوراً محفزاً في كل هذا عبر منع المحاولات الجدية لمناقشة صريحة للمسالة الطائفية وتحديد أشكال معقولة وممكنة للتعامل معها وتخفيف مخاطرها وحدة نزاعاتها. إن الوطنية السورية، المنكرة والمتعالية عن الانقسامات الأهلية، مؤذية وشديدة الخطر على السوريين. ولا يمكن لها إلا أن تكون إيذاناً لتكريس سلطة استبداد عصبوي جديدة.

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى