الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 19 أذار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي
———————————-
المخاض السوري… اتفاق بمثابة خطاب نيّات/ علي العبدالله
19 مارس 2025
غطى صدور الإعلان الدستوري السوري المؤقت يوم 13 مارس/ آذار الجاري على حدثٍ آخر ليس أقل أهمية منه، توقيع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يوم 10 مارس/ آذار الجاري، على اتفاق سياسي من ثمانية بنود، يقضي بدمج مؤسّسات الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها، بما في ذلك قواتها العسكرية، في الدولة قيد التأسيس، ما جعل العودة إليه بالتقويم والنقد ضرورة وطنية.
جرى التوقيع على الاتفاق في ظرفٍ محليٍّ وإقليميٍّ ودوليٍّ دقيق وخطير، في ضوء بروز خلافاتٍ عميقةٍ بين السلطة الجديدة وقوى سياسية واجتماعية سورية من الكرد والدروز والعلويين تتحفظ على القرارات التي أخذتها، إن في مؤتمر النصر أو مؤتمر الحوار الوطني أو تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري مؤقت، في ضوء ما انطوت عليه هذه القرارات من ميلٍ إلى مركزة السلطة بيد شخص واحد ومكون سوري واحد، ودلالة ذلك على طبيعة النظام السياسي الذي تنوي السلطة الجديدة تمريره، من جهة، وتصعيد الكيان الصهيوني ليس في احتلال مساحاتٍ واسعةٍ من الأرض السورية في محافظتي القنيطرة ودرعا، ومواصلة قصفه مواقع عسكرية سورية، ومنعه انتشار قوات سورية في الجنوب السوري، في سعي إلى تحويله إلى منطقة منزوعة السلاح، بحيث يشجّع أطرافاً محلية على التمرّد، ويجعل سورية منقوصة السيادة فقط، بل وبإعلاناته المتكرّرة عن ضرورة الابقاء على سورية مفكّكة وضعيفة، عبر ترويج تحويلها دولة اتحادية؛ وتحريض الدول الغربية على عدم منح الشرعية للسلطة الجديدة وتبنيه سياسة حماية “الأقليات” في سورية، الدروز بشكل خاص، من جهة ثانية، ومواصلة القوات التركية قصف مواقع لـ”قسد”، من جهة ثالثة، وتنامي التوتر بين العلويين عامة والمسرّحين من الخدمة في الجيش والمخابرات والوظائف العمومية منهم خاصة، أجّجه حصول تجاوزات وقتل مدنيين خلال عمليات مطاردة مطلوبين ممن لم يقوموا بتسوية أوضاعهم من العسكريين وعناصر مخابرات النظام البائد والتفتيش عنهم في أحياء السوريين العلويين وقراهم في محافظات اللاذقية وحمص وحماة، من جهة رابعة. حوّله (التوتر) تحريض إسرائيلي إيراني إلى مواجهات دامية ووقوع مجازر طائفية ضد المدنيين في هذه المحافظات، اللاذقية بشكل خاص، أغلبهم من العلويين، بعد هجوم مجموعات مما يسمى “المجلس العسكري لتحرير سورية” على مواقع عسكرية للسلطة الجديدة في محافظتي اللاذقية وطرطوس واستهدافه مدنيين من السُنّة. زادت في تعقيد الموقف بوادر تذمّر شعبي على خلفية ضعف الدخل وارتفاع نسبة الفقر وبلوغه حد الجوع وسوء الخدمات. هذا وقد لعبت الإدارة الأميركية دوراً مباشراً في عملية التوقيع على الاتفاق العتيد ملقية طوق نجاة للشرع بدفع مظلوم عبدي للتوقيع على الاتفاق الذي سبق الاتفاق على بنوده أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ما قاد إلى تراجع سخونة الموقف العام في سورية بخفض أصوات الناقدين السلطةَ وإلى تخفيف حدّة ردود الفعل الدولية على المجازر الطائفية.
جاء الاتفاق العتيد في ثمانية بنود عامة مع إعلان عن تشكيل لجان مشتركة من الطرفين للاتفاق على صيغة محددة لكل بند وعلى آليات التنفيذ في مدة لا تتجاوز نهاية العام الحالي، ما ترك بذرة شك في احتمال نجاح الاتفاق وبلوغه مرحلة التنفيذ الكامل على خلفية التباينات الواسعة بين الطرفين حول طبيعة النظام السياسي المستهدف، مركزي ولامركزي، وصيغة دمج “قسد” في الجيش الوليد. يعزّز هذا الشك غياب الشفافية، خاصة من السلطة الجديدة التي تقدّم استجابات متعارضة على المشكلات والملفات المطروحة كما في الإعلان الدستوري المؤقت، الذي لم يلحظ مستدعيات الاتفاق مع قسد وأهمية نجاحه على المسار العام، وتدخلات دول كثيرة للتأثير على مخارج المخاض السوري، من جهة، وحرصها على إرضاء تركيا، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “لا نعتقد أن تكون هناك أي تنازلات في سورية أبداً بشأن مساعي الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية”، والسعودية، التي لا تنظر بعين الرضا إلى التمدد التركي في سورية، من جهة ثانية. وهذا بالإضافة لما سيؤدي إليه عدم إشراك المجلس الوطني الكردي، القريب من قيادة إقليم كردستان العراق، في المفاوضات، ومنح “قسد” صفة تمثيل كرد سورية ومنح زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان فرصة التقدّم في التنافس على زعامة الشعب الكردي وتسجيل نقطة على رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي مسعود البارزاني، من تكريس للانقسام الكردي السوري سياسياً واجتماعياً ومن ردود أفعال سلبية، وما قد يطرحه هذا من عقباتٍ على طريق تنفيذ الاتفاق.
تعدّدت تفسيرات خلفية الاتفاق من الكتّاب والناشطين السوريين، عرباً وكرداً، حيث ذهب كتّاب وناشطون عرب إلى اعتباره تنازلاً من قيادة “قسد” وقبولها بشروط السلطة الجديدة وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بالتطوّرات الإقليمية والدولية التي ستنعكس سلباً على “قسد” في ضوء احتمال حصول اتفاق تركي أميركي، وصدور قرار أميركي بالانسحاب من شمال شرق سورية، رجّحت مصادر عسكرية حصوله مع بقاء قوات أميركية في قاعدة التنف، ما دفعها إلى القبول بالاتفاق، بالرغم من أنه لا يلبّي تطلعاتها السياسية. في حين ذهب كتّاب وناشطون كُرد إلى اعتباره تنازلاً من السلطة الجديدة، وقبولها بشروط “قسد” وتصوّراتها، وربطوا هذا القبول بمأزق السلطة الجديدة في دمشق بعد اهتزاز صورتها على خلفية المجازر الطائفية التي وقعت ضد العلويين في عدة محافظات سورية وحاجتها لترميم هذه الصورة ببعث رسائل للداخل والخارج تشير إلى استعدادها للقبول بحلول في الملفات العالقة ترضي كل الجهات السورية. تفسيرات ذاتية هدفها الاحتفاظ بالرضا عن الذات، ربط معلق عربي يُقدم خبيراً عسكرياً بين الاتفاق وقدرة حكومة دمشق العسكرية، وقال: “إن القوة العسكرية التي استطاعت كسر نفوذ الفلول كانت بمثابة رسالة إلى قسد بأنها غير قادرة على مواجهة القدرات العسكرية التي تمتلكها حكومة دمشق”. قول متعسّف لم يلحظ أن الفلول قلةٌ لا تدعمهم حاضنة شعبية علوية وازنة، وأن ما لدى “قسد” من مقاتلين مدرّبين على القتال المنسق ومن أسلحة متطوّرة يفوق ما لدى الفلول وحكومة دمشق كثيراً.
يبقى أن ثمّة مخاوف مشروعة من فشل الاتفاق وعدم الذهاب به إلى نهاياته المحدّدة في ضوء جملة عوامل، لعل أولها أن الصيغة العامة لأهم البنود، الأول والثاني والرابع، قابلة لأكثر من قراءة، ما سيسمح بطرح قراءات متباينة من الطرفين خلال اجتماع اللجان المشتركة، ويفتح الباب أمام الإخلال بالاتفاق أو الانسحاب منه بذريعة الخروج عن مضمونه. وقد ظهرت التباينات إلى العلن في إجابات مظلوم عبدي على أسئلة رئيس تحرير مجلة المجلة إبراهيم حميدي، إذ قال: “نحن متفقون على أن وحدة الأراضي السورية، وإنشاء جيش موحد وإطار مؤسّسي واحد، والعاصمة الواحدة والعلم الواحد هي قضايا سيادية أساسية، لكن الكثير من التفاصيل، بما في ذلك آليات التنفيذ والجداول الزمنية والمسائل اللوجستية لم تُحلّ بعد، ولا تزال هناك اختلافات في التفاصيل ووجهات النظر. شمال شرق سورية ذو الغالبية الكردية [الكرد ليسوا أغلبية في هذه المنطقة] له ظروف مختلفة وستكون هذه العناصر على جدول الأعمال عند مناقشة تفاصيل دمج المؤسسات العسكرية. يجب أن يكون تقاسم الموارد الطبيعية عادلاً وأن تحصل جميع المناطق في سورية على حصتها العادلة. خلال حقبة حزب “البعث”، كانت جميع السلطات مركزة في المركز، يجب إنهاء ذلك وإعطاء بعض السلطات للمناطق وإنشاء حكومات محلية”… مواقف خلافية تستبق تشكيل اللجان والتفاوض على تنفيذ الاتفاق تشير إلى احتمال السعي لتحسين أوراق قسد التفاوضية أو إلى خط رجعة للتهرّب من تنفيذ الاتفاق؟.
أما ثاني العوامل، فالفترة المحدّدة لتنفيذ الاتفاق، حتى نهاية العام الحالي، بصيغتها المجملة، طويلة نسبياً، ما سيثير احتمال حدوث تحولات في المواقف، المحلية والإقليمية والدولية، تسمح لأحد الطرفين بالتراجع عن الاتفاق عامة أو عن بند أو أكثر من بنوده الثمانية. ثالث العوامل غياب سلم أولويات لعملية التنفيذ واحتمال افتعال تباينات واختلافات لدى تنفيذ البنود الإجرائية 3 و4 و5 و6 والتذرّع بذلك لعرقلة تنفيذ البندين 1 و2 المتعلقين بالحّقوق التي سيجسّدها النظام السياسي في حال عدم التوافق عليها، ما سيقود إلى فشل الاتفاق.
قادت صيغة الاتفاق العامة إلى وصفه من صحيفة لوموند الفرنسية بـ”خطاب نيات” وإلى اعتباره من السفير التركي السابق في سورية عمر أونهون “إطاراً عاماً أكثر من كونه خطة قابلة للتنفيذ الفوري”، وقول الباحث في مركز القرن الدولي الأميركي آرون لوند: “في حين قد يبدو الأمر الآن وكأنه حلٌّ مربح للجانبين، فإن الاختبار الحقيقي سيكون في تنفيذه”، ودفعت النظام التركي إلى عدم البقاء متحفّزاً، وهو يراقب عملية تنفيذ الاتفاق، ليرى إلى أي مدىً سيلبي تنفيذه مطالبه بحل قوات سوريا الديمقراطية، وسحب سلاحها وعدم السماح بقيام حكم ذاتي كردي في شمال شرق سورية، بل تحرّك للتأثير على صيغة تنفيذ بنود الاتفاق، عبر مواصلة الضغط العسكري على “قسد” عبر مواصلة القصف الجوي والبرّي لمواقعها واغتيال كوادرها بالمسّيرات، لدفعها إلى التخلي عن تصوّراتها لحقوق الكرد وللنظام السياسي السوري القائم على اللامركزية، والقبول بتفسير لبنود الاتفاق يلبي مطالبه، والضغط، في الوقت نفسه، على السلطة الجديدة عبر عرقلة اندماج فصائل الجيش الوطني السوري في جيش وزارة الدفاع الوليد، والإبقاء على ارتباطهم به عبر دفع رواتب العناصر الجيش وتسليح وتذخير فصائله، كي لا تنسى مطالبه وشروطه لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية قيد التأسيس.
يبقى الاتفاق خطوةً مبشّرة على طريق مسار سياسي دقيق وحساس، حيث سيتوقف مستقبله على قدرة طرفيه المحليين على الموازنة بين مصالحهما المتضاربة وإدارتهما الملفّات الخلافية بدلالة الوطنية الشاملة والعدل والمساواة وتعاطيهما مع التدخلات الخارجية وضغوطها بمرونة وتوازن.
العربي الجديد
————————————
أبعد من إعلان دستوري/رفيق خوري
جاء على طريقة “كل السلطة للشرع” خلال مرحلة انتقالية مدتها 5 أعوام من دون أية مساءلة
الأربعاء 19 مارس 2025 1:01
ما رأيناه في الساحل السوري الذي تعرض المدنيون فيه لمذابح على أيدي فصائل سلفية مسلحة جاءت بها الدعوات في الجوامع إلى نصرة الإدارة الجديدة ضد عملية عسكرية قام بها ضباط من النظام المنهار، يشبه نسخة من كتاب “إدارة التوحش” الذي وقعه أبو بكر ناجي كاسم مستعار.
سوريا تنتقل بعد نصف قرن من صحراء سياسية إلى غابة نقاش سياسي مفتوح، لكن نقاش الألسن التي كانت خرساء محكوم حالياً بأن يكون نوعاً من سباحة في بحر اللايقين، على طريقة إدغار موران في توصيف الحياة، فالوضع الجديد في سوريا هو في جانب منه قديم جداً، وفي جانب آخر شبه حديث، ومن يقوده بعد السقوط الانهياري لنظام الأسد يبدو كمن يقوم بمهمة مستحيلة هي ركوب حصانين في وقت واحد، حصان السلفية وحصان التنوع في المجتمع، وأي “إعلان دستوري”، بصرف النظر عن النص الذي حمل توقيع الرئيس أحمد الشرع، هو بطبائع الأمور تكريس لمرحلة غير دستورية، مرحلة الغلبة والحكم بالشوكة على أيدي تنظيم سلفي يوحي أنه قابل للتغير بما يعكس التنوع والتعدد في المجتمع السوري، ومستعد لحكومة تشمل كل الأطياف السورية.
ذلك أن الإعلان الدستوري جاء على طريقة “كل السلطة للسوفيات” في الماضي وكل السلطة للأسد والوريث، فكل السلطة للرئيس الشرع خلال مرحلة انتقالية مدتها خمسة أعوام من دون أية مساءلة أو محاسبة، نظام رئاسي في بلد دمره نظام رئاسي مطلق، ولم يزدهر إلا خلال أعوام من النظام الديمقراطي البرلماني بعد الاستقلال، ولا سيما في خمسينيات القرن الماضي.
إنها مرحلة انتقالية لا تحمل في هذا الوقت الباكر جواباً عن سؤال لا بد منه وهو إلى أين الانتقال؟ وأي نظام بعد خمسة أعوام؟ وهل يستطيع من يمارس الحكم المطلق على مدى خمسة أعوام أن يبدأ المشاركة والتعدد والمساءلة في السلطة؟
ما رأيناه في الساحل السوري الذي تعرض المدنيون فيه لمذابح على أيدي فصائل سلفية مسلحة جاءت بها الدعوات في الجوامع إلى نصرة الإدارة الجديدة ضد عملية عسكرية قام بها ضباط من النظام المنهار، يشبه نسخة من كتاب “إدارة التوحش” الذي وقعه أبو بكر ناجي كاسم مستعار، لا بل إنه شيء من “فلتان التوحش” وما سمعناه من تشكيل لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي يوحي بأن العقاب آت، فالدرس الأول في سوريا هو أنها عانت إدارة التوحش على يد النظام الساقط، وبالتالي فإن المطلوب من الإدارة الجديدة هو إخراجها من التوحش لا إعادتها إلى نوع آخر منه، فكل توحش خطر وقاتل، ولا حاجة إلى تذكر ما فعلته “الخلافة الداعشية” في العراق وسوريا، فتجارب الإسلام السياسي في ليبيا وتونس ومصر فشلت وقادت إلى الخراب، والإسلام السياسي خسر شعبيته كما يقول جيل كيبل في كتابه “النبي والجائحة”.
الصراع اليوم بين الإسلام السياسي وخصومه، والتحرك صار من أسلمة الحداثة إلى تحديث الإسلام، وهذا هو التحدي المباشر حالياً خلال المرحلة الانتقالية، فحين تطلّع نوح فيلدمان إلى العراق بعدما هندس دستوره، وهو أستاذ القانون في جامعة هارفورد، لم ير سوى “شتاء عربي تراجيدي”، وقال إن “الديمقراطية مؤجلة وتحتاج الى جيل آخر”، وهذا ما ينطبق بالطبع على سوريا خلال المرحلة الجديدة، فليس في الوثائق التي صدرت حتى اليوم شيء عن الديمقراطية التي هي حلم السوريين بعد كوابيس الديكتاتورية الطويلة، وليس على جدول الأعمال أمام الإدارة الجديدة بند الديمقراطية، وحتى المواطنة فإنها تحتاج إلى زمن على جدول الأعمال.
وليس من المفاجآت أن يقرأ السوريون في قاموس مختلف عن القاموس الذي تقرأ فيه “هيئة تحرير الشام” التي أمسكت حتى الآن بكل مفاصل السلطة، ولا خارج المألوف أن يكون الأمن قبل الإصلاح، وأن تتقدم هموم التنمية ورفع العقوبات على هموم الانفتاح السلطوي، فالحاجة تبدو ملحة إلى التمكين في واقع سلطته المركزية غير ممسكة بكل المناطق والحدود، حيث تسود أنواع من اللامركزية بلا نظام، والفصل الكامل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحسب الإعلان الدستوري هو فصل بلا توازن بين السلطات، ولا يشبه الفصل في النظام الرئاسي الأميركي حيث كل سلطة لها سلطة تحد منها، فالمحكمة العليا تبث دستورية القوانين، والقضاة يوقفون قرارات الرئيس والوزراء، والكونغرس يحاكم الرئيس، ولا وزير يتولى المسؤولية قبل أن يوافق مجلس الشيوخ على تعيينه من جانب الرئيس، ومع ذلك تطغى أحياناً السلطة الرئاسية.
في كتاب “ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم” تقول أستاذة العلوم السياسية شيرلي بيرمان إن “الديمقراطية الليبرالية لا تحدث فقط بفصل رجال ونساء عظام، بل أيضاً نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، ولكي تنجح فإنها في حاجة إلى وحدة وطنية ودولة قوية”، والطريق في سوريا الجديدة يبدو أطول، فالتحولات الاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى وقت وجهود، والدولة القوية مثل الدولة الضعيفة خطرة من دون وحدة وطنية، والسلطة التي تعكس التنوع داخل المجتمع، لا السلطة التي يمارسها فريق من لون واحد، هي الشرط لازدهار الوحدة الوطنية.
في عز عصر الاستبداد أصدر المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، ووضع معادلة بسيطة لتحديد نوعية السلطة، “السياسة هي إدارة الشؤون العامة بمقتضى الحكمة، والاستبداد هو التصرف بالشؤون العامة بمقتضى الهوى”، ولا أحد يجهل أن مهمة أحمد الشرع صعبة وامتحانه كبير، لكن “الرجل الذي ينقل جبلاً يبدأ بحمل حجارة صغيرة” كما قال كونفوشيوس.
———————————
قراءة في الإعلان الدستوري السوري/ منى أسعد
18.03.2025
يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي…
كان السقوط المُهين لنظام الأسد الدكتاتوري الدموي المُغرق في استبداده، الذي استمرّ ما يزيد على خمسين عاماً، فرحة عارمة وحّدت مكونات المجتمع السوري جميعها، ودفعت بهم/ن الى الاحتفال في الشوارع والحارات. فبعد حرب أهلية استمرّت أربعة عشر عاماً، دُمّرت خلالها كل معالم الحياة في سوريا، بان للشعب السوري باب أمل ببدء مرحلة جديدة لا استبداد فيها ولا طغيان.
كان هذا حلم الجميع وأملهم بالحياة في دولة الكرامة والحرية والمساواة التامّة غير المنقوصة، وكان الجميع بانتظار أن يصدر الإعلان الدستوري الذي سيضع النواظم للانتقال إلى هذه الحياة التي يحلمون/يحلمن بها.
أجهضت لجنة الصياغة، كحال لجنة الحوار الوطني التي سبقتها، فرحة السوريين بإعلانها نصوص الإعلان الدستوري، لما اشتمل عليه من مسائل دستورية خلافية، فما هي أبرز النقاط الإشكالية؟
بداية لم تحظَ لجنة الصياغة بثقة شريحة واسعة من السوريين، لافتقارها إلى معايير الشفافية والتشاركية مع ممثلي المجتمع وقواه السياسية والمدنية، ممن يتوافق عليهم الشعب، الأمر الذي شكّل مساساً بمبدأ أساسي في النظم الدستورية، ألا وهو مبدأ الديمقراطية.
وأدى افتقار اللجنة إلى جهابذة القانون وأساتذته المشهود لهم بالخبرة الدستورية والفقه القانوني، سواء في القانون الدستوري، أو المدني، أو الجزائي، أو الشرعي، إلى وضع اللجنة في موقع الريبة والشكّ في قدرتها على صياغة إعلان دستوري جامع وموحّد لجميع أبناء البلد الواحد، بكل أطيافهم وتنوّعهم في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من تاريخ سوريا.
وهنا من المفيد الإشارة إلى أن الإعلان الدستوري ليس دستوراً مؤقتاً أو دستوراً دائماً، إنما هو مجموعة نصوص قانونية ذات طبيعة دستورية، يُلجأ إليها بشكل استثنائي في البلدان الخارجة حديثاً من ظروف استثنائية، كالانقلابات العسكرية أو الحرب الأهلية أو النظام الاستبدادي الدكتاتوري، حيث يُعمَل بنصوص الإعلان الدستوري كخطوة انتقالية، بهدف إضفاء الصبغة القانونية على أفعال السلطة الحاكمة وقراراتها، في معرض تنظيمها أوجه الحياة كافة في البلد، ريثما يتم إصدار دستور جديد.
ولهذا، فإن خطورة الإعلان الدستوري لا تكمن في قلّة نصوصه، إنما في مقاصده ومضامينه، كونه يشرّع نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، ويشرّع في الوقت ذاته عمل السلطة القائمة في هذه المرحلة. بمعنى آخر، يتيح الإعلان الدستوري للسلطة الحاكمة في حال جنوحها نحو الأخذ بالنظام الشمولي، حقّ تمديد العمل بنصوصه، حتى يتسنّى لرئيس السلطة القائمة حقّ السيطرة على مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، بعد إخضاعه سلطات الدولة الثلاث لسطوته، وإعطائه حقّ التصرف المطلق بشؤون الدولة وثرواتها ومواردها، بعيداً عن أية رقابة أو محاسبة، وهو ما سيؤدّي حتماً، إلى إعادة إنتاج النظام الشمولي من دون تحقيق الهدف المرجو من اللجوء إلى الإعلان الدستوري، ألا وهو التحوّل الديمقراطي الحقيقي المنشود.
في المقابل، بإمكان النخبة الحاكمة السير باتجاه الانتقال بالبلاد من دولة العنف والإقصاء والاقتتال، إلى دولة الديمقراطية والقانون، من خلال النصّ، بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض، على إعمال مبادئ دستورية عدة، أهمها:
أولاً: النصّ على مبادئ الديمقراطية القائمة على حق الشعب في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمه، وحقّه في المشاركة في آلية الحكم، عبر اختيار من يمثّله في عملية صياغة القوانين والرقابة على تنفيذها وطلب إلغائها، في حال تعارضها مع مقتضيات الحياة الدستورية.
ثانيا: النصّ دستورياً على مبدأ المواطنة المتساوية، التي تُفيد بتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث وبين الأفراد في الدولة، والمتمثّلة بمعناها الحقوقي بالجنسية التي تمنحها الدولة لهم/ن، بكل ما تتضمّنه هذه العلاقة من حقوق وحريات أساسية تُعطي الفرد الواحد التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، كما وردت في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وعلى حد سواء مع باقي الأفراد ممن يحملون جنسية الدولة، بغضّ النظر عن الدين أو المذهب أو القومية أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الحالة الصحية أو الاجتماعية أو الانتماءات الأيديولوجية.
في المقابل، يترتّب على الفرد القيام بالواجبات كافة التي ينصّ عليها دستور الدولة. الأمر الذي يعزّز حسّ المساواة والانتماء الى الوطن، والتعايش السلمي في المجتمع، وفي ذلك ترميم للنسيج الاجتماعي الممزّق حالياً.
لذا، فإن عدم تضمين الإعلان الدستوري مبادئ المواطنة المتساوية، وعدم النصّ على ذلك صراحة، بذريعة النصّ على احترام التنوّع الديني والثقافي داخل المجتمع، لا يعني سوى إلغاء هذه الحقوق وضماناتها دستورياً، وهو الأمر الذي خبره السوريون والسوريات لأكثر من نصف قرن، بسبب فرض قانون الطوارئ طيلة تلك الفترة.
كذلك، قضت المادة 52 من الإعلان على أن “يستمرّ العمل بنصوص الإعلان الدستوري، طيلة المرحلة الانتقالية المحدّدة بخمس سنوات والقابلة للتجديد، حتى يُقرّ دستور دائم للبلاد”، وهنا أيضاً لم يحدّد أعضاء اللجنة الفترة الزمنية النهائية لإعداد الدستور الدائم، أو حتى المبادئ التي سيُبنى عليها وطرق إقراره، وهل هي المبادئ ذاتها التي عُمل بها وفق نصوص الإعلان الدستوري، أم ثمة مبادئ مختلفة للدستور المؤقّت أو الدائم؟ هذه الضبابية وعدم الوضوح في الحياة الدستورية، يخلقان لدى المجتمع حالة من القلق وعدم اليقين بالسويّة الدستورية للنظام وانعدام الثقة بديمقراطيته، بخلاف ما تقتضيه الأعراف الدستورية في العالم أجمع.
وبالعودة إلى نصوص الإعلان الدستوري، نجد أنه أكّد في المادة الثالثة أن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع”، الأمر الذي يُفيد بقطع الطريق على المشرّع، ومنعه من اللجوء إلى مصادر أخرى لاستقاء أحكامه، كمبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، والبناء على تلك المبادئ في صياغة النصوص الناظمة للحقوق والحريات في المجتمع، والقائمة على مبدأ المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية.
وعليه، فإن غياب هذا الأمر يُخلّ بمبدأ المساواة، الذي هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، إذ على رغم أن غالبية المجتمع السوري من المسلمين، فإنه مجتمع متنوّع دينياً وعرقياً وإثنياً وطائفياً، وبالتالي يصبح من غير الجائز دستورياً، إخضاع بعض مكونات المجتمع من أتباع الديانات غير المسلمة إلى أحكام الفقه الإسلامي، سنداً لذريعة احترام خصوصية المجتمع السوري.
التمييز والتفضيل هذان بين أبناء المجتمع الواحد، سيزيدان من تعقيدات الحالة السورية، ويعمّقان شعور أبناء المجتمع السوري الواحد من غير المسلمين بالتهميش والأقصاء، بخاصة أن إعمال هذا النصّ سيؤدّي إلى إخضاع القوانين الوضعية كافة لأحكام الفقه الإسلامي، سواء منها قانون العقوبات أو القانون المدني أو قانون الجنسية، سواء في صياغتها أو تفسيرها كما في تطبيقها، وهو الأمر الذي سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، كما سيشكّل مساساً دستورياً بمبدأ حيادية الدولة تجاه مواطنيها ومعتقداتهم، وسيزيد في الوقت ذاته، من حدّة الانقسام الطائفي والديني، وسيرفع من مستوى الاحتقان المجتمعي، من دون أن يمنع ذلك مضمون المادة العاشرة التي تنصّ: “المواطنون متساوون أمام القانون بالحقوق والواجبات من دون تمييز…”، فهذا النصّ على رغم أهميته لن يمنع وحده، عودة الاحتقان المجتمعي الذي عانى منه المجتمع السوري لأكثر من نصف قرن، وأودى به إلى حرب أهلية استمرّت لأكثر من 14 عاماً، دُمّرت خلالها علاقاته الإنسانية ومُزّقت لحمته المجتمعية، وزادت من حدّة الاستبداد الدموي بمواجهته.
وهنا لا بد من التأكيد، أن الكثير من الدول الإسلامية تنازلت عن كون الشريعة الإسلامية مصدراً للتشريع، مكتفية بأن دين الدولة الإسلام، لكن لا تطبّق الشريعة في محاكمها، كتجربة تونس مثلاً، حيث أقرّت “حركة النهضة” دستور 2011 المتضمّن النصّ على حيادية الدولة تجاه الدين، والنصّ على ضمان حرية الاعتقاد ورفض التكفير والحضّ على الكراهية.
وبالعودة ثانية إلى ما نصّ عليه الإعلان الدستوري، من نصوص تتعلّق بمسائل دستورية وثيقة الارتباط بآليات الحكم ونُظمه، وانعكاس ذلك على الحياة المجتمعية، منها تلك الناظمة لصلاحيات رئيس الجمهورية، إذ ورد في نصّ المادة الثانية أن “الدستور يؤسّس لنظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات”، وهذا يفيد:
أولاً: عدم تحديد شكل نظام الحكم، وهل هو نظام رئاسي أم برلماني أم مختلط، على رغم أهمية هذا التحديد في تحديد معالم نظام الحكم وشكله، وآليات عمل سلطات الدولة الثلاث، وعلاقتها مع مواطني الدولة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
وثانياً، النصّ على عبارة “الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات”، التي تمسّكت بها لجنة الصياغة، يتعارض كلياً مع نصّ اللجنة ذاتها، من تجميع للسلطات الثلاث في يد رئيس الجمهورية، فهو رئيس السلطة التنفيذية والقائد الأعلى للجيش والقوّات المسلحة، وهو من يُعيّن رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة ويُقيلهم، وهو أيضاً من يُعيّن ثلث أعضاء السلطة التشريعية (مجلس الشعب)، وهو من يُعيّن اللجنة التي سيكلّفها باختيار الثلثين الباقيين من أعضاء (مجلس الشعب)، وهذا يعني أن رئيس السلطة التنفيذية هو أيضاً رئيس السلطة التشريعية، لكونها تتبع مباشرة لسيطرته بصفته رئيس الجمهورية.
والأخطر من ذلك، هو خضوع السلطة القضائية لرئيس الجمهورية، وذلك وفق ما نصّت عليه المادة 47 من الإعلان الدستوري، التي تمنح رئيس الجمهورية حقّ حلّ المحكمة الدستورية، وحقّ تعيين قضاة المحكمة الدستورية الجديدة… ومعروف أن المحكمة الدستورية تتمتّع بخصوصية عالية نظراً الى طبيعة مهامها، وأولها الرقابة على دستورية القوانين وتفسيرها وتطبيقها، ولها الحق في إلغاء القوانين وما يترتّب عليها في حال مخالفتها النصّ الدستوري، ومهمّتها الأساسية الثانية تتجلّى في كونها الجهة الوحيدة المخوّلة بمساءلة رئيس الجمهورية ومحاسبته، في حال ارتكابه مخالفة للدستور والقانون.
لذا فإن منح رئيس الجمهورية الحقّ في تعيين قضاة المحكمة الدستورية، يُفيد بفقدانها استقلاليتها وحياديتها ونزاهتها، بسبب تابعيتها لمن عيّن قضاتها، ألا وهو رئيس الجمهورية، الأمر الذي تفقد معه المحكمة قدرتها على القيام بصلاحياتها، سواء ما تعلّق منها بالرقابة على دستورية القوانين، الذي يفسح المجال للعمل بقوانين غير دستورية، أو ما تعلّق بمهامها من محاسبة رئيس الجمهورية في حال ارتكابه أعمالاً غير قانونية، أو أعمالاً تتضمّن مخالفات قانونية أو دستورية في معرض قيامه بواجباته ومهام عمله، الأمر الذي سيؤدّي إلى النصّ دستورياً على حالة الإفلات من العقاب، وهو ما كانت عليه حال المحكمة الدستورية السورية لأكثر من نصف قرن، استطاع خلالها الأسد الأب والأسد الابن النجاة من أية مساءلة قانونية، عما أقدما عليه من جرائم ومذابح بحقّ الشعب السوري.
أكّد أعضاء لجنة الصياغة عبر عشرة نصوص، صون الدولة للحقوق والحريات الفردية، لكنهم عادوا وأكّدوا في المادة 23 حقّ الدولة في” إخضاع هذا الحقّ للضوابط المتعلّقة بالأمن الوطني، أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام، ومنع الجريمة أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”، الأمر الذي يُفيد برجوع الدولة عن التزامها بصون هذه الحقوق والحريات وحمايتها، من خلال إعمال أي من هذه الضوابط، الكثيرة حقاً.
وعليه، فإن إقرار الإعلان الدستوري هذا، بناء على الواقع السوري، وبكل ما تضمّنه من قصور في تبنّي مبدأ الديمقراطية، وحقوق المواطنة المتساوية، وما اشتمل عليه أيضاً، من تناقض بيّن ولبس واضح، عند النصّ على صلاحيات السلطة التنفيذية في الحدّ من الحريات والحقوق الأساسية، كما أن تمكين شخص الرئيس من إحكام سيطرته على سلطات الدولة الثلاث، والنصّ على تفرّد “الفقه الإسلامي بصفته المصدر الرئيس للتشريع”، ذلك كله سيحول دون تحقيق الهدف المرجوّ من الإعلان الدستوري، وهو اعتباره الناظم الدستوري لهذه المرحلة الانتقالية من تاريخ سوريا، الذي سيسمح للنخبة السياسية الحاكمة، بالسير بالمجتمع نحو إعادة بناء الثقة بين مكوّناته المجتمعية، ونحو مجتمع ديمقراطي تسوده مبادئ العدالة والمساواة التامّة والكرامة الإنسانية، بل يمكن القول إن الإعلان الدستوري هذا جاء على النقيض تماماً، إذ سيحول العمل به من دون بناء دولة القانون والمؤسسات، وسينحو حتماً إلى عودة النظام الدكتاتوري، وإن كان تحت مسمّى مختلف.
ربما والحال هذه، يمكننا القول بضرورة تعطيل هذا الإعلان الدستوري، والعودة إلى العمل بدستور 1950 كدستور مؤقّت، على رغم ما يشوبه من تحفّظات، ريثما يتمّ إقرار دستور جديد لسوريا الجديدة، يلبّي طموحات الشعب السوري وتطلّعاته الى حياة تسودها الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
– محامية سورية
درج
————————————
حكمت الهجري: لن ننفذ إعلاناً لا يتوافق عليه كل السوريين/ ضياء الصحناوي
19 مارس 2025
أصدرت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز في سورية ممثلة بالشيخ حكمت الهجري بياناً، مساء اليوم الثلاثاء، عبر موقعها الرسمي، بينت فيه رؤيتها للوضع السياسي العام ورأيها بأداء الإدارة والحكومة الانتقالية. وأوضح الهجري أن الرئاسة الروحية حاولت منذ اليوم الأول لسقوط النظام البائد، الحفاظ على وحدة الوطن ومصير الشعب السوري، وقد مدت الأيادي للحكومة والإدارة الانتقالية أملأ في بناء دولة ديمقراطية تجمع كل مكونات الشعب السوري تحت سقف القانون العادل والمواطنة، ولكن بدأ يتضح للجميع أن الإدارة تستأثر بالقرار والسلطة والتعيينات ذات اللون الواحد بعيداً عن إرادة الجماهير وأحلامها في بناء وطن حر وديمقراطي.
ورأى الشيخ حكمت الهجري أن الإدارة تعمل بضبابيّة وغموض وتفرض سياسة الأمر الواقع وتحاول تغطية الأحداث عبر عناوين “ملثّمة” وتُصدر نفسها إلى العالم بصورة الوطن. وقال الهجري مخاطباً السوريين إن “الإدارة ورغم كل محاولات التواصل والوعود ما زالت تكرر مشهد إدارة اللون الواحد دون أي اعتبار أو احترام للشهادات والخبرات والأصول القانونية ولا للأعراف الدولية. وتتعامل أمام الشعب السوري والعالم بصفة المنتصر، وتفرض ما تريد على أبناء الوطن بأيادي الغرباء الملثمين، وتفرض قيادات من غير المختصين وتفصل الموظفين بشكل تعسفي”.
وانتقد الهجري مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في ساعات وحمل توصيات جاهزة ومخيبة للآمال، وكذلك الإعلان الدستوري الصادر عن اللجنة ذات اللون الواحد، التي “سلّمت كل البلاد لشخص واحد بصلاحيات مطلقة تؤسّس لسلطة استبدادية جديدة”. كما دان الهجري الجرائم التي ارتكبت في حمص والساحل السوري معتبراً أنها أعادت ببشاعتها إلى أذهان السوريين جرائم تنظيم “داعش”، محملاً الحكومة مسؤولية هذه الانتهاكات، ومؤكداً إدانة القتلة وضرورة محاسبتهم وطرد الغرباء إلى خارج الوطن.
وأكد الهجري أن الايدي “ما زالت ممدودة للتعاون مع الإدارة على أن تبدأ بتصحيح المسارات بدءا بالإعلان الدستوري” الذي يرى فيه أنه يكرس الدكتاتورية، مطالبا بإعلان دستوري يأخذ بالخصوصية التاريخية والثقافية لكامل البلاد ويحترم حقوق الإنسان، ويضمن المشاركة الفعالة للمواطنين في صنع القرار بدولة ديمقراطية موحدة، تقوم على مبدأ فصل السلطات واستقلاليتها، وصلاحيات محلية إدارية أوسع للمحافظات السورية، وكذلك يحد من صلاحيات منصب الرئاسة، مؤكدا عدم تنفيذ أي بند من دستور أو إعلان دستوري، لا يتوافق مع إرادة الشعب وحقوقه.
وطالب حكمت الهجري بعدم إشراك الغرباء بالجيش الوطني وقطاعات الشرطة ومفاصل الدولة، ونبه إلى أن الشعب السوري واعٍ وصاحٍ ولا تنطلي عليه أي حيل من تجنيس وتغييرات ديموغرافية، ولا تغطية أي تصرف بدستور أو قانون أو قرار ملثم، مشيرا إلى أن ثورة عمرها خمس عشرة سنة، جديرة أن تمنح الشعب حُكمه نفسه بنفسه وخير بلاده وكرامته بأمان وسلمية.
وكانت السويداء قد شهدت خلال الأيام القليلة الماضية حراكاً سياسيا هادفا لتوحيد الموقف والكلمة، بين المكونات السياسية ورجال الدين والوجهاء تمثل في عدد كبير من اللقاءات والحوارات بين جموع السياسيين من جهة والوجهاء وشيوخ العقل الثلاثة من جهة أخرى. وخلص هذا الحراك إلى تقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف والذي تمثل بين مكونين أحدهما يدعو للاندماج الكامل مع حكومة الشرع والآخر يرفض الاندماج بانتظار تصحيح مسارات الحكومة كما يدعي. وبالمحصلة، نتج عن هذه اللقاءات رؤية موحدة لمستقبل السويداء كجزء لا يتجزأ من الوطن الأم سورية، ورفض قاطع لكل ادعاءات التقسيم، وكذلك السعي لمد الأيدي لحكومة الشرع ضمن مجال النقد والتصحيح.
————————-
المعضلة السورية في الدولة والمجتمع/ سوسن جميل حسن
19 مارس 2025
منذ انطلاق الثورة السورية، باكراً في عمرها، بدأ التأسيس لذاكرة الدم، ونحن شعوبٌ في الأساس تعيش في الماضي، ولا تريد أن تنسى، شعوبٌ نحمل الماضي على كاهلنا مثل سلحفاة، مسيرتها نحو المستقبل تحرق قروناً من السنوات من دون أن تتقدّم، حتى تصير المسافة بينها وبين الركب الإنساني لا تقاس.
منذ 14 عاماً والشعب السوري يكرّس تبعيته للماضي في جوانبه المظلمة، دفع أثماناً باهظة في مقارعة الاستبداد، وفي سبيل نيل حريته ودفاعاً عن كرامته، لكنه لم يُنجز ثورته كما كان يرجو، على الرغم من الإنجاز الكبير في سقوط الطاغية. للثورة أهداف ومبادئ وقيم.
في الواقع، ازدادت حياة الناس بؤساً وفاقةً، وزيادة على ذلك عمّت الفوضى، وعُدنا إلى المربع الأول، وكأن نظام الأسد لم يسقط، بل الذي سقط آخر المشاعر والقيم الإنسانية.
سورية اليوم في أكثر مراحلها ضعفاً، وتحدّيات داخلية وخارجية كثيرة تقف في وجه بناء الدولة السورية، ولن يسلّم داعمو النظام الساقط الإقليميون بالهزيمة، على الرغم من الضربة التي تلقّوها، بل سيحاولون الانقضاض على سورية الوليدة وإثارة الفوضى فيها. لذلك كانت أدواتهم جاهزة للتحرّك في لحظةٍ ما، وهذا ما حدث في الساحل السوري، وجرى قتل كثيرين من عناصر الأمن العام، وهذا مرفوضٌ ومُدان، لأنه جهاز دولة، منوطٌ به حماية الأمن والسلم الأهليين، لكن مواجهة هذه الحالة من التمرّد لا تكون بفسح المجال لفصائل متطرّفة إلى هذا الحدّ، تضم أعداداً من المقاتلين الغرباء عن المجتمع السوري، من جنسياتٍ عديدة، بأن تواجه البيئة كلها، مستبيحةً أمن الساكنين في حياتهم وممتلكاتهم، ولا بإعلان النفير العام والدعوة إلى الجهاد من على منابر المساجد، فالظرفُ لا يحتمل مزيداً من المواجهة الطائفية، وكثير من الشعب السوري لم تلتئم جراحُه، ولم تنصفه العدالة الانتقالية بعد.
يعيد المشهد نفسه، وكأن سورية عادت عقداً إلى الخلف، قتل طائفي، ترهيب، بل حتى طيران يلقي ما يشبه البراميل المتفجرة، وصوّر هذه المشاهد من نفذ القتل، كما كان جيش النظام البائد والفصائل الرديفة يمارسون، كذلك التهجير، فأمام هذا العنف المنفلت هجّ مئات من الساكنين، هام قسم كبير منهم في البراري من دون وجهة، يبحثون عن النجاة فحسب.
أين المشكلة؟ بل أين المعضلة، ما دام أن الحروب الأهلية تتكرّر في سورية؟ ربما يمكن القول إن المشكلة تكمن في شكل الدولة، وفي شكل المجتمع السوريين، سورية البلد متعدّد الطوائف والإثنيات، لا يمكن أن تتعايش هذه التعددية وتعيش في وطن يشعر معه أبناؤه بالانتماء إليه والدفاع عنه والسير به ليواكب ركب الحضارة الإنسانية، من دون أن تكون هناك دولة تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، لها دستور يشارك الجميع في صياغته، دستور يجعل الكرامة الإنسانية أعلى قيمة ومنطلق الحقوق لكل المواطنين، ويرفع من شأن الحرية، حرّية القول، حرّية العقيدة، حرّية التعبير عن الخصوصية الثقافية من دون فرض قيم ومبادئ أي طرف، مهما بلغ تعداده في الخريطة البشرية السورية، على أطراف أخرى.
تحت خيمة الحرية بحماية القانون، ربما يستطيع المجتمع أن يتأمل موروثه الثقافي بطريقة أخرى عوضًا عن التمسّك الأعمى به مهما حمل من سرديات متراكمة عبر تاريخ من الحروب والانكسارات، فيتصالح مع نفسه، ومع فكرة العيش في دولة مواطنة تقوم على القانون والمؤسّسات، فهل يمكن الحديث عن دولة حديثة تقوم على القانون والمؤسّسات من دون الحديث عن الديمقراطية؟ إذا لم تتوافر الفرص أمام جميع شرائح المجتمع كي تكون فاعلة ومشاركة في صنع القرارات المتعلقة بتنظيم الحياة في الداخل، ورسم السياسات الخارجية، فسوف تبقى سورية تحت تهديد أخطار القلاقل التي تهدّد السلم الأهلي واستقرار المجتمع.
تحتاج سورية إلى مجتمع أكثر عدلاً وديمقراطية، وقائم على الحقوق. لقد أدّى النظام الشمولي الذي سيطرت فيه الدولة بإحكام على المجتمع والأفراد، وسعت إلى إضفاء أيديولوجية على المجتمع بأسره بالقوة، إلى تخريبٍ كاملٍ للهياكل السياسية والمؤسّسية وحتى الاقتصادية والاجتماعية، وروّجت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمرة، بتشجيع الهويات الضيقة والانتماء إلى الجماعة، سواء الطائفية أو القومية، وعزّزت، إضافة إلى ذلك، ثقافة مدمّرة، بتشجيع هذه الهويات الضيقة والانتماءات، ما أدّى إلى جعل المجتمع السوري جاهزاً للاشتعال كلما توافرت الظروف الملائمة، زاد في هذه الحرائق المدمّرة ما تعرّض له الشعب السوري من قتل وعنف بمختلف أشكاله في سنوات الثورة، عدا وصف كل من ثار في وجهه بالإرهاب، وتمكُّن بعض الفصائل السلفية الجهادية من بعض المناطق في سورية، وتعزيز فكرها وطرق إدارتها المناطق التي تسيطر عليها.
إذا أضفنا صفة أخرى إلى النظام الشمولي الذي أدار به البلاد حكمُ الأسد، صفة الاستبداد، نفهم لماذا ترفض شرائح من الشعب السوري التسامح مع التعبير العلني عن الخلافات السياسية الكبيرة، فهذه إحدى مخرجات الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
لكن هل يصبح الوضع أسهل بمجرّد سقوط النظام وانتهائه وانتقال سلطة الدولة إلى الحكومة الجديدة؟ بالطبع لا، فهذا مرتبط بمسألة كيفية الحكم في هذه المرحلة. إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعد، وجذوره وقوته المؤسسية لا تختفي لمجرّد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سببٌ وراء الطريقة التي يتم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظامٍ ما، ووراء الطريقة التي يتم بها الحفاظ عليها، على الرغم من التوترات الداخلية والمصالح المتباينة، وما جرى في سورية بعد دخولنا في الشهر الرابع من سقوط النظام، أن الدولة تديرها حكومة انتقالية، يمكن القول إنها من لون واحد، قد يكون له مبرّراته كمرحلة انتقالية، لكن الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة المؤقتة ضرورة ملحّة، فأمام الحكومة مشكلات كبيرة: دفع رواتب الذين يعملون في الحكومة بانتظام، والتعامل مع النزاعات بطريقة مختلفة وأكثر عدلاً، وتعويض ضحايا الجرائم والانتهاكات السابقة، خاصة بعد تفعيل العدالة الانتقالية، وإقامة تحالفات جديدة مع الدول وقطاعات الأعمال الأخرى، والحفاظ على القانون والنظام، لقطع الطرق على الذين يحاولون استغلال الفراغ السياسي، والذين يحاولون القيام بأفعال إجرامية، تنشط بشكل كبير في ظروفٍ مشابهة.
جرى إشهار الإعلان الدستوري أخيراً، فأحدث ضجيجاً وسجالاً حامياً على مستوى القاعدة الشعبية، وهذا صحّي، فلدى سورية ما يكفي من الكفاءات من رجال ونساء يمكنهم قراءة هذا الإعلان قراءة نقدية، وتحليله وبيان ما يقدّم من ضمانات لأهداف الثورة التي قام الشعب بها، أو مدى افتراقه عنها. وبحسب هذه الشريحة من المنتقدين، من حقوقيين وغيرهم، لم يكن هذا الإعلان الدستوري المرجو والمنتظر، بل يؤسس لسورية مغايرة عن التي طمح ببنائها معظم الشعب السوري.
من نافل القول إنه بعد فترة من الصراع الداخلي، كما وقع في سورية، وبعد التدهور الاقتصادي وانعدام الأمن السياسي والضغط الدولي، بدأ السكان، بعد أن عاشوا فرحتهم بسقوط النظام،، يطمحون إلى رئيس دولةٍ قادرٍ على تحقيق الاستقرار والنهوض بالبلاد، لكن هذا الأمر تواجهه تحدّياتٌ كبيرة، ويكمن التحدّي بشكل أساسي في إيجاد طرق لبناء مجتمع مستدام، بعد تغيير النظام، أكثر عدلاً، وديمقراطي، ومتطوّر، وآمن للناس وحقوقهم، كذلك معاقبة مجرمي النظام السابق، بما تقتضي العدالة، ومواجهة الحركات القتالية التي تهدّد الأمن المجتمعي، كما حصل في الساحل السوري، إنما عن طريق أجهزة الدولة الوطنية، وليس بترك الفصائل تتدخّل فتستبيح أمن السكان وتضرم الكراهية والثأرية.
وما دام أن هذا الأمر وقع ولا مكان لنكرانه، بل أقرّ به الرئيس أحمد الشرع، وقال إن “بعض الانتهاكات وقعت” وشكّل لجنة تحقيق، كان من المفيد أكثر لو ضمّت شخصيات من الخارج، من أجل الموضوعية المطلوبة، وإحالة المرتكبين إلى القضاء، فإن ما تقتضيه المرحلة بعد الإعلان عن هذه اللجنة هو الإنصاف المرجو والموضوعية في تقويم الوضع، وينتظر أيضاً عرض كل المقاتلين الذين أثاروا الفوضى، ممن يطلق عليهم “فلول النظام” وقتلوا عشرات من رجال الأمن العام، ليعرف الشعب مدى الخطورة التي تتربّص به، ويعرف أن الدولة تحمي الجميع. لكن سؤالاً مقلقاً يطفو اليوم، بعد الإعلان الدستوري الذي يرسم هوية الدولة والمجتمع السوريين خمس سنوات على الأقل في مرحلة انتقالية، عن مدى احتمال استقرار المجتمع في هذه الفترة، في ما لو لم تتم معالجة المشكلة من جذورها، والخروج على الناس بكل شفافيةٍ بعرض الواقع بكل ملابساته، كي لا تتكرّر هذه المأساة الإنسانية، ولا تتوسّع الاضطرابات التي تزيد من تفتيت المجتمع الذي يعاني، أساساً، هشاشة خطرة.
العربي الجديد
————————————
عن ضرورة الدعم الدولي لسوريا الجديدة/ رمزي عز الدين رمزي
التسوية لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي- أميركي
آخر تحديث 18 مارس 2025
كنت قد أحجمت عن الكتابة عن سوريا منذ السادس من ديسمبر/كانون الأول 2024، أي قبل يومين من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى دمشق والإطاحة بحكم الأسد. في ذلك الوقت، بينتُ أنه من واجب الدول العربية أن لا تسمح بانهيار الدولة السورية والإمساك بزمام المبادرة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وأوضحتُ كذلك أنه، على الرغم من أن القرار “اعتُمد في عام 2015، عندما كانت الظروف مختلفة اختلافا كليا، فإنه يبقى الإطار المتفق عليه دوليا للوصول إلى تسوية ما وأنه يحتاج إلى خطة عمل لتسهيل تطبيق بنوده الأساسية المتمثلة في الانتقال السياسي، وإعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة”. كما بينتُ أيضا أن هذا الأمر من شأنه أن “يخلق الظروف المناسبة لوضع حد للتدخل الأجنبي في سوريا”.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أراقب الأحداث التي راحت تتكشف في كافة أنحاء سوريا. تابعتُ التطورات بمزيج من الأمل والقلق، بل وربما ببعض الأسى أحيانا. الأمل في مستقبل أفضل للشعب السوري الذي رزح طويلا تحت وطأة نظام متعنت عجز عن ممارسة المرونة والابتكار، وحشد الإرادة السياسية لتلبية تطلعات شعبه. كنت مفعما بالأمل لأن أخلاقيات العمل المُثلى، والمثابرة، وروح الإبداع، والفطنة الريادية التي يتمتع بها أبناء الشعب السوري، كفيلةٌ بجعله قادرا على رسم مستقبل أفضل لبلاده.
أما القلق فسببه تعقيد المعضلة السورية، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، التي تتطلب قيادة استثنائية قادرة على اجتراح الحلول لإنجاز الانتقال السياسي وصولا إلى نظام حكم “ذي مصداقية وتعددي وغير طائفي” كما ينص القرار 2254.
غير أن الذكرى السنوية الرابعة عشر للانتفاضة السورية، مقترنة بالتطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، ساعدتني في التغلب على ترددي في مشاركة آرائي حول الوضع الراهن، وكلي أمل أن تساعد مساهمتي الشعب السوري على تحقيق تطلعاته في الحرية والكرامة والازدهار.
وعلى الرغم من أن هذه التطورات ما زالت تندرج ضمن إطار الأمل والقلق، فإنها عززت قناعتي بأنه لا ينبغي ترك سوريا لتبحر وحيدة في المياه الغادرة للانتقال السياسي. إذ يقع على عاتق المجتمع الدولي، وفي مقدمته الأمم المتحدة، والدول العربية أولا، واجب، بل مسؤولية، مساعدة الشعب السوري على تجاوز صعوبات الانتقال السياسي.
لنسلط الضوء أولا على مؤتمر الحوار الوطني. كان بيانه الختامي خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن العملية المتسرعة، فضلا عن قصر مدتها المؤسف، تركت الكثير من السوريين، وكذلك عددا غير قليل من المراقبين الدوليين، متشككين في مصداقيتها. والأمر الذي يلقي بظلاله هو إذا ما استُخدمت الأساليب نفسها التي اعتُمدت في تنظيم المؤتمر عند تشكيل الحكومة الانتقالية، وصياغة الدستور، والسعي لتحقيق العدالة الانتقالية، والتحضير للانتخابات الوطنية، وغيرها من القضايا الحساسة، فلا شك أن هذا سوف يترك المزيد من السوريين في حالة من اليأس بشأن مستقبلهم.
ثانيا، الإعلان الدستوري الصادر في 13 مارس/آذار، ففي حين نجد أنه ينص على كل الأمور الصحيحة بشأن الفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وما إلى ذلك… غير أنه يمنح الرئيس سلطة غير محدودة على كل من السلطتين التشريعية والقضائية للحكومة.
جدير بالذكر أن ما نقدمه هنا هو مجرد ملاحظات أولية. لا ينطوي الإعلان الدستوري على أي إشارة إلى الديمقراطية، ولو كهدف طموح، في حين أن جميع الدساتير الحديثة- بما فيها دساتير الدول العربية- تشير إلى الحكم الديمقراطي كركيزة من ركائز النظام السياسي.
إن غياب ذكر الديمقراطية يثير جملة من التساؤلات. ففي الوقت الذي يمتلك فيه رئيس الجمهورية الحق في تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب (البرلمان)، فإنه يعين أيضا اللجنة التي تختار ثلثي الأعضاء الباقين، ما يعني عمليا أنه يستطيع ممارسة سيطرة كاملة على المجلس.
كما أن تشكيل الأحزاب السياسية مقيد بقانون يصدره مجلس الشعب، في حين أنه إذا كانت حرية التعبير السياسي مكفولة فلا ينبغي تقييد تشكيل الأحزاب السياسية بأي شكل من الأشكال، باستثناء كونها لا تستند إلى أساس ديني أو عرقي. كذلك يعين الرئيس قضاة المحكمة العليا. وتُمنح كل هذه الصلاحيات للرئيس دون أي ضوابط أو توازنات. وأخيرا، في حين أن الفترات الانتقالية القصيرة أفضت إلى نتائج عكسية حيث أنتجت دساتير وبرلمانات معيبة تفتقر إلى تمثيل حقيقي وموثوق للسكان، فإن فترة انتقالية مدتها خمس سنوات هي فترة طويلة للغاية. ونظرا لجوهر الإعلان، فهذه الفترة تطرح السؤال المشروع حول ما إذا كان الأمر برمته مجرد حيلة لتوفير الوقت والمساحة اللازمة للسلطات الحالية كي تثبت أركان حكمها وتنتج نظام حكم يعتمد مبدأ “رجل واحد– صوت واحد” يقوم على صوت واحد لكل رجل وامرأة طيلة الوقت، ما يمنع أي نقل حقيقي للسلطة بعيدا عن السلطات الحالية.
ثانيا، أثارت الأحداث المأساوية في كل من حمص واللاذقية وطرطوس، والتي أودت بحياة أكثر من ألف شخص، مخاوف جمة. وبغض النظر عن الجهة التي تقف وراء اندلاع العنف، فقد لقي مئات المدنيين الأبرياء حتفهم على يد الميليشيات المرتبطة بالسلطات في دمشق. ويُحسب للرئيس الشرع سرعة استجابته بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ولجنة للسلم الأهلي. نأمل أن لا يقتصر عمل اللجنتين على الوقوف عند الأحداث بحد ذاتها، بل أن تتناولا أيضا السياق الذي وقعت فيه والعوامل الكامنة وراء العنف الذي اشتعل. ومن أبرز هذه العوامل التسريح الجماعي للعسكريين والمدنيين دون أي تعويض مادي.
ثالثا، الاتفاق بين “قوات سوريا الديمقراطية” والسلطات في دمشق، بوساطة حيوية من الولايات المتحدة، وفرنسا على ما يبدو. إنه تطور بالغ الأهمية، ونأمل أن يفتح الباب لحل المشكلة الكردية المُتفاقمة منذ أمد بعيد في سوريا. بيد أن الاتفاق لا يضع سوى مبادئ ومعايير عامة للتسوية، فهو يترك الباب مفتوحا أمام مفاوضات مطولة لتسوية القضايا الأكثر حساسية وأهمية. على سبيل المثال، لا يُحدد الاتفاق كيفية دمج الهياكل العسكرية والإدارية في الشمال الشرقي مع تلك الموجودة في دمشق. والأكثر أهمية، ما زال الغموض يكتنف مسألة دمج قوات الأمن التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية مع الأفراد العسكريين الوطنيين، وكذلك كيفية توحيد الهياكل الإدارية وتحديد نموذج الحكم الذي سوف يُعتمد.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسائل حاسمة مثل الدستور، وخصائص الدولة المستقبلية، ودور قوات سوريا الديمقراطية في المرحلة الانتقالية، والهيئة التشريعية، والحكومة المؤقتة، دون حل. فلا عجب أن يأتي رد فعل “قوات سوريا الديمقراطية” على الإعلان الدستوري سلبيا. وباختصار، فإن تحويل الاتفاق إلى أي شيء ملموس يتطلب الكثير من حسن النوايا والعمل الجاد.
رابعا، في حين يعد الاتفاق بين السلطات في دمشق والطائفة الدرزية تطورا جديرا بالترحيب، فإن استمرار إسرائيل في التعدي على السيادة السورية إلى جانب إعطاء نفسها الحق في حماية الطائفة الدرزية في سوريا، لا يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي فحسب، بل والأهم من ذلك أنه تكتيك يهدف إلى تقويض الانتقال السياسي الشامل في سوريا.
أخيرا، يعتبر عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مشاورات غير رسمية بشأن سوريا بناء على طلب مشترك من روسيا والولايات المتحدة أمرا إيجابيا. فهي المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذا النوع من المشاورات منذ زمن طويل. فمنذ ذروة التعاون الروسي الأميركي الذي أثمر عن قرار مجلس الأمن رقم 2254 (الذي ما يزال الإطار المتفق عليه دوليا للتسوية في سوريا)، لم تُعقد أي مشاورات غير رسمية بناء على طلب مشترك من موسكو وواشنطن.
ولطالما أكدتُ أن التسوية في سوريا لا يمكن أن تتم إلا باتفاق روسي أميركي، أو على الأقل بتفاهم بين الجانبين. كان هذا صحيحا قبل الثامن من ديسمبر، ولا يزال صحيحا الآن. وسيُجبر هذا الاتفاق الجهات الفاعلة الإقليمية على تعديل سياساتها وتبني مواقف بناءة أكثر بشأن التسوية. وهذا بدوره سيساعد على خلق دينامية داخلية تُفضي إلى تسوية.
يبدو اليوم أن هناك تقاربا وليدا بين موسكو وواشنطن. بعد اجتماع جدة في المملكة العربية السعودية، زادت احتمالية التوصل إلى تسوية في أوكرانيا بشكل ملحوظ. وإذا نجح هذا الأمر، فستتخذ العلاقات الروسية الأميركية مسارا تصاعديا، مع آثار إيجابية في سائر أنحاء العالم، ومن بينها سوريا.
لقد عززت التطورات المذكورة أعلاه قناعتي بأنه إذا تُرك السوريون دون دعم دولي كاف، فلن يتمكنوا من التوصل بمفردهم إلى اتفاق حول مستقبل البلاد يلبي تطلعات السكان ذوي التعدد الديني والعرقي والثقافي.
وعلى الرغم من أن السلطات الحالية في دمشق لديها تحفظات واضحة على القرار 2254 وبالتالي على الدور السياسي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة، فهي لم توصد الباب في وجه التعاون مع الأمم المتحدة.
ونظرا لأن السلطات في دمشق تفتقر إلى الخبرة اللازمة، فضلا عن الموارد البشرية المؤهلة الكافية داخل سوريا للاضطلاع بهذه المهام الجسيمة، فينبغي لها أن ترحب بالمساعدة الدولية، التي تقودها الدول العربية والأمم المتحدة، لتوفير الدعامات والأسس اللازمة لحماية عملية الانتقال نحو نظام حكم موثوق وتعددي وغير طائفي. وهو ما ينطبق بشكل خاص على مجالات إعادة الإعمار وما يتصل بها من رفع العقوبات الدولية، وعودة اللاجئين، والتحضير للانتخابات، كما ينطبق في الوقت نفسه على مسألة العدالة الانتقالية بالغة الأهمية. فالأمم المتحدة لها باعٌ طويل وخبرة واسعة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن الاستفادة من هذه الخبرة في الواقع السوري.
المجلة
———————————-
100 يوم سورية جديدة: أحداث، ديناميّات، وتناقضات/ ياسين الحاج صالح
في الحاجة لشبكة أمان وطنية
18-03-2025
100 يوم بعد نهاية الحكم الأسدي هي مفصل زمني مناسب للنظر في ما حدث خلالها، وفي بعض الديناميكيات السورية الجارية، ثم في التناقضات الكامنة وغير المعالجة فيها. من المعقول أن نفترض أن الأيام الباكرة من عهد جديد، حيث الأمور غضة وقليلة التشكل، تعطي فكرة معقولة عمّا يُرجّح أن يجري على مدى أطول من عمر العهد.
الحدث واللاحدث
قبل كل شيء سقط النظام. لا يزال هذا خبراً مهماً. انطوت 54 سنة من «الأبد» والسلطة المُشخْصنة، من التطييف وتغذية الانقسامات الأهلية، من الإفقار السياسي والمادي، ومن العنف والجشع والكذب والترثيث. السقوط غير المتوقع إطلاقاً تحقق خلال 12 يوماً من هجوم قوات «هيئة تحرير الشام»، ما يدل على درجة متقدمة من اهتراء الحكم الأسدي من الداخل. النظام فرط، مركّبه الأمني أولاً، وقد تصرف قادة هذا المركب كمطلوبين ولاذوا بالفرار مثل رئيسهم. أما الجيش النظامي فقد سرّح نفسه وترك مواقعه الأمامية على جبهة الجولان. الحكومة حلّها الفريق المنتصر الذي تصرف بروحية بدءٍ مطلق، سرعان ما تخلى عنه لصالح مسالك تجريبية بلا قواعد، فأقرّ بعض الوزراء والمدراء على أعمالهم، لكنه أحل رجاله في جميع مفاصل السلطة، وجرى تسويغ ذلك بالحاجة إلى فريق متجانس. جرى تسريح موظفين من مختلف الإدارات بصورة متعجّلة عشوائية كذلك، ربما تتلاقى وراءها اعتبارات عقلنة الإدارة والحد من الهدر، بتصورٍ نيوليبرالي للدولة والاقتصاد، بنزعة عزل أنصار النظام السابق أو المستفيدين منه.
أحمد الشرع، أبو محمد الجولاني سابقاً، زعيم هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، صار الرئيس الجديد، ومقامه الرئاسي هو قصر الشعب الذي بناه رفيق الحريري لحافظ الأسد، والقصر يشغل موقعاً «بانوبتيكياً» من دمشق، بما يُمكِّن قاطنيه من المراقبة دون أن يُروا. الرجل البالغ من العمر 42 عاماً، الشرع، شذب لحيته وارتدى ثياباً مدنية، ولم يلبث أن ارتدى طقماً وربطة عنق، وأخذت تظهر له صور مع نساء غير محجبات بعد أن كان طلب من أول امرأة شابة رغبت في أخذ صورة معه أن تغطي رأسها. كما ظهرت صورة لزوجته لأول مرة وعُرف اسمها. وزير خارجيته يتكلم الإنكليزية، ويقول كل «الكلام الصحيح» في المحافل الدولية. القوى الدولية أظهرت، بعد صدمة البداية وتردّد ما بعدها، إيجابية تجاه الوضع الجديد، لكن ترامب الذي عاد إلى البيت الأبيض بعد سقوط النظام يبدو إسرائيلياً في هذا الشأن، وإسرائيل أظهرت عداءً شديداً للوضع الجديد، وتستخدم في وصفه كلمتي الجهاديين والإرهابيين.
الشرع تكلم على نصرٍ بلا انتقام. وحكم هذا التصور النظر إلى قضية العدالة الانتقالية، ملاحقة ومحاسبة الجناة التي هي مطلب يجمع قطاعات شعبية بمجموعات حقوقية بنشطاء سياسيين ومثقفين، فضلا عن ارتباطه الوثيق بفكرة الثورة بالذات من حيث هي تطلع لإحقاق الحق، أي هو من أكثر المطالب وطنية وعمومية في سورية. الشرع وفريقه عرضوا تردداً بين منطق: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبين تجاوب تجريبي مع هذا الطلب الجامع، وصولاً إلى تقرير المبدأ في الإعلان الدستوري المؤسف الذي صدر قبل أيام. وبينما يمكن تقدير التردد الأول بأنهم يدركون أن عدالة انتقالية شاملة تعني مساءلة بعضهم عن ارتكابات مسجلة بحقهم، يحتمل أن يكون تفجر عنف طائفي إبادي في الساحل هو ما دفع نحو دسترة المبدأ. ويبدو أن الميل العام في أوساطهم هي قصر مبدأ العدالة الانتقالية على جرائم النظام (وداعش).
وفي اجتماعٍ لعسكر الحكم الجديد في مؤتمر النصر قبل نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي اختير الشرع رئيساً مؤقتاً، وهو أشار غير مرة إلى مرحلة انتقالية قد تدوم ثلاث سنوات أو أربعة أو خمسة، استقرت على خمسة في الإعلان الدستوري المؤقت الذي صدر قبل أيام.
وكان قد سُلِق مؤتمر للحوار الوطني أعدت له لجنة سباعية، خمسة رجال وامرأتان، عيّنهم الشرع. أخذت عملية الحوار، التي نُظّمت وفق محاور مناطقية حصراً، وقتاً قصيراً جداً، أعقبها مؤتمر ليومين، تمخّض عن توصيات عامة غير ملزمة. كان هذا مساراً ركيكاً، لا يعكس احتراماً لكفاح مديد، مرير، باهظ الكلفة. غياب الشفافية سمة مطّردة للوضع الجديد، الذي يبدو أنه يحب الكتمان في قضاء حاجاته، فيما يلزم وفيما لا يلزم.
في المحصلة، كان المؤتمر وما سبقه من تحضير لا-حدثاً، في بلد يحتاج إلى أحداث تُتذكَّر وتُعلِّم وتترك أثراً.
الحدث الثاني في الأهمية بعد سقوط النظام هو مذابح طائفية في الساحل أعقبت تفجّر تمرد مسلح على يد بعض عسكريي النظام السابقين، بتنسيق مع ماهر الأسد فيما يبدو، وربما بتشجيع إيراني. المتمردون قتلوا عشرات من عناصر الأمن العام، وقاد ذلك إلى مواجهة هوجاء، استُنفرت خلال أيامها الأربعة قطاعات سنية مُحتقنة، يغلب الظن أنه حفزها هلع من خسارة السلطة التي جرى الإمساك بها بعد مِحَن ويأس كبيرين، وتميل بفعل ذلك إلى خوض صراعات وجودية، أي إبادية. وبحسب معلومات متواترة جرت الدعوة إلى الجهاد في مساجد من قبل خطباء وأئمة سلفيين عينتهم السلطة الجديدة. كما شارك في المذبحة المهولة جهاديون أجانب منضوون في هيئة تحرير الشام، شاركوا في قتل إبادي لعلويين آمنين مسالمين. أُجهز في المذبحة على عوائل بأكملها بمن فيها من نساء وأطفال، هذا بينما قتل المهاجمون كامل ذكور عوائل أخرى. عدد الضحايا غير معلوم، لكنه ربما يبلغ الألف أو يتجاوزها. واقترنت المجازر بعمليات سلب ونهب لصوصية واسعة النطاق، وبإحراق بيوت وأثاث. ويقدر أن 10 آلاف لجؤوا إلى لبنان، وألوف إلى قاعدة حميميم الروسية.
ومنذ الآن هذه هي أكبر وأسوأ مذبحة ضد العلويين منذ نشوء الكيان السوري الحديث. إنها حدث كبير، أساسي، باقٍ، يتجاوز كونه تروما علوية لا تنسى، إلى جرح عميق في جسد الوطنية السورية بينما هي لا تزال وليدة، بما يهدد فرصها في النجاة.
وما يزيد سوء الجريمة سوءاً مشاركة متحمسة للقَتَلة الذي صوروا بأنفسهم أفاعيلهم، يمارسونها بتشف، وهم من أتاحوها للعموم. وعرضت بيئات سنية موالية ميلاً ثابتاً للجمع بين إنكار الجرائم والتقليل من شأنها، وبين تبريرها بجرائم سابقة للنظام الأسدي أو بتواطؤ راهن للعلويين مع فلوله المسلحين، وبين تسفيه المنتقدين.
الشرع أعلن في اليوم الثالث للمذبحة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الجرائم ومحاسبة الفاعلين، مكونة من سبعة أشخاص، بينهم امرأة واحدة؛ ولجنة أخرى، ثلاثية، أحد أعضائها علوي، لحماية السلم الأهلي. ليس ظاهراً إن كانت اللجنتان ستقومان بعمل جدي. فاللجان قد تشكّل لكسب الوقت واحتواء الضغوط، فتكون بذلك مقبرة للمشكلات لا معالجات حية لها.
الحدث المهم الثالث هو إعلان اتفاق بين «الجمهورية العربية السورية» و«قوات سورية الديمقراطية»، وقع عليه «الرئيس» أحمد الشرع و«القائد» مظلوم عبدي، وأُعلن عنه مساء يوم 10 آذار (مارس)، وقت كانت لا تزال تتوالى أخبار المجازر في الساحل. وهو ما حدا بالبعض إلى ربط منفعل بينهما، رافضاً واحدة من أجل الأخرى أو متعجلاً طي صفحة واحدة من أجل الأخرى.
هل سيطلق الاتفاق ديناميات توحد و«اندماج في الدولة السورية» لقوات «قسد»، وضمان هذه الدولة حق «المجتمع الكردي» في «المواطنة» والحقوق الدستورية الأخرى كافة؟ هذا ما يؤمل إن أخلص الطرفان في نياتهما، وإن لم تعبث قوى خارجية نافذة. ويبدو أن الأميركيين إيجابيون حيال الاتفاق الذي يرجّح أنهم دفعوا قسد لتوقيعه، وسط تقديرات بأن يسحبوا قواتهم من سورية قريباً. هذا أن ثبتوا على موقف ولم ينصاعوا للتفضيلات الإسرائيلية. وليس مؤكداً أن الأتراك سعداء بالاتفاق. زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات التركية لدمشق يوم 14 آذار تثير التساؤلات عن مصيره.
والحدث الرابع وقع يوم 13 آذار: الإعلان الدستوري. غاب عن مراسم إعلان الوثيقة ممثلون للجماعات السورية، فيما كان الحضور السني، الديني والسياسي، طاغياً. الإعلان يركز السلطة بيد الرئيس، ويفتئت على الحقيقة بالكلام على فصل السلطات، بينما الرئيس يعين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكل لجنةً عليا لاختيار أعضاء مجلس الشعب، تقوم من جهتها «بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة»، تنتخب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. ما يخص الحريات العامة يبدو أنه يسهل التلاعب به عبر جواز إخضاع ممارسة تلك الحريات «للضوابط التي تشكل تدابير ضرورية للأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة». هذا كلام مرسل مفتوح على تأويلات متعددة تلغيه.
وبينما يعني مفهوم الدستور ذاته أن الحكم دستوري، أي مقيّد وغير مطلق، فإن احتياطات الإعلان الدستوري ليست موجهة نحو السلطة ومخاطر إساءة استخدامها، بل نحو ضمان إطلاقها.
وبعد يوم واحد من صدوره، أعلن مجلس سورية الديمقراطية (مسد)، الجسم السياسي لقسد، رفضه للإعلان الدستوري بوصفه «مشروعاً مفروضاً من طرف واحد»، ما ينذر بسقوط اتفاق الشرع- عبدي الموقّع قبله بأربعة أيام. كلام «مسد» جاء في يوم زيارة المسؤولين التركيين المشار إليهما فوق.
وفي حين أن هناك إيقاع للزمن السوري اليوم يتصل ببدءٍ من الصفر في كل شيء تقريباً، بمشكلات على كل مستوى تقريباً، بسيولة عالية في «الأنفس والآفاق»، بما يضفي صفة تأسيسية على هذا الزمن، وما يوجب أن يكون ما يجري فيه أحداثاً مكونة وتأسيسية، فإن ما جرى ترتيبه بعد سقوط النظام لا يرتفع للمرتبة المفترضة من حيث الحدثية والتكوين والتأسيس، أو هو يسيء إلى ثلاثتها معاً.
ديناميات
من الواضح أن العمليات السياسية السورية خلال 100 يوم تدور حول الجماعات الأهلية الوراثية، وأن تطلعات التمثيل ومشاعر الاستبعاد تحيل إليها. القوى النابذة اجتماعياً وسياسياً وجغرافياً تحيل إلى هذه الجماعات دون غيرها: الكرد في مناطق من الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب)، والدروز في السويداء وفي جرمانا، والعلويون في الساحل ومناطق من حمص وحماه. وسِجِلّ الانفجار المفرط للعنف في الساحل يظهر قوة حضور هذا العنصر في اجتماعنا وسياستنا. وهي قوة لا تنفصل دون شك عن نزع وطنية الدولة والمجتمع طوال عقود الحكم الأسدي، بعد أن كانت هذه الوطنية ضعيفة أصلاً ولا تستند إلى قوة اجتماعية مِتنيّة، يلتئم البلد حولها. ربما يُفَكّر في أن العرب السنيين السوريين، بنسبتهم الأكثرية وبانتشارهم في مناطق البلد كلها، هم هذه القوة المتنية، لكن من الظاهر اليوم أنهم بعيدون عن ذلك، وإنهم أنتجوا قوى سياسية أقلّوية وليس بحال أكثروية، تعكس مزيجاً من فقد الثقة بالنفس والخوف من العالم، وتميل إلى العنف بسبب أقلّويتها أساساً. يقول إيديولوجيو الجماعة إن السنّيين ليسوا طائفة، وإنما هم الأمة. الواقع أن التعبيرات السياسية السنّية في سورية تعطي الانطباع بالأحرى بطائفة خائفة، تخشى انقساماتها المتعددة فتكبتها وتحاربها فتنقسم أكثر، وتخشى غيرها فتتصرف بلجاجة وعنف، فتكون قوة انقسام عامة. الفزعة الهائجة إثر هجمات فلول النظام في الساحل تدل على قلق وجودي كان المرء يفترض أن السنّيين هم الأقل معاناة منه، وأنهم الأرسخ وجوداً بالأحرى. ظاهر أنهم ليسوا كذلك، والانفعالات الموتورة التي يواجَه بها أي نقد للوضع الجديد تدل على الخوف وعدم الثقة أكثر من أي شيء آخر.
كان لافتاً مع ذلك أن المجتمع السوري أظهر ميلاً إلى التوحد والاتفاق، أقوى مما يتوقع المرء بخاصة إن أخذنا بالاعتبار أن قوى الإدارة الجديدة ليست سنّية فقط، بل هي ذات ماض قريب متطرف جداً. والأصل في ذلك على الأرجح هو إدراك واقعي لحقيقة أن كياناً له من العمر قرن ونيف له، على علّاته، فرص في الحياة أكثر من كيانات جزئية تنشأ اليوم، أو لبعضها من العمر بضع سنوات؛ وأنه يوفر فرص ترق اجتماعي وثقافي وسياسي وأخلاقي أوسع مما توفر أي من هذه الكيانات المحتملة الجزئية، بحكم تعدده المتعدد المستويات وتاريخه. أياً يكن الأمر فإنه لا يمكن لأحد أن يقول إن السوريين في أكثرهم لم يعطوا الإدارة الحالية فرصة.
وفي المقام الثاني ظاهر أن القوى الإقليمية والدولية ذات وزن كبير في العمليات السياسية السورية، أكبر مما لا يسمح بتوحد البلد وتعافيه، وبطبيعة الحال استقلاله. إسرائيل وسّعت احتلالها في الأراضي السوري ودمرت قدرات تسليحية سورية في الساعات الأولى التالية لفرار بشار وانهيار نظامه. وهي تثابر على الضرب في سورية ضد قدرات عسكرية، ويطلق قادتها تصريحات استعمارية بالغة العدوانية حول انتشار القوات السورية وزعم الاهتمام بمصير الدروز والكرد من الجماعات السورية. وفي حين أن إيران وتوابعها هزمت في سورية، فإن روسيا لا تزال تحتفظ بقاعدتين وبعض القوات، وعلى نحو مستغرب لم تطلب الإدارة الجديدة من الروس الخروج من البلد. ربما فكرت في أن وجودهم يوازن وجود القوى الأجنبية الأخرى، أو ربما تجنباً لاستعداء طرف قوي ويُخشى منه. الأميركيون لا يزالون هناك في الجزيرة وفي التنف، والأتراك في مناطق من الشمال، وهم يتصرفون كمنتصرين ورعاة للحكم الجديد مثلما تقدم.
ويشكل تفاعل الانقسامات الأهلية الداخلية والقوى الخارجية مُركّباً نعرفه منذ أيام المسألة الشرقية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أعني مركبات داخل/ خارج، أو تدخلات خارجية (من دول أساساً) و«تخرّجات» داخلية (من روابط أهلية وراثية)، بما يحول دون انحلال هذه «الروابط ما دون الوطنية» بلغة ياسين الحافظ قبل نصف قرن، وبما يوسع من هامش مناورة تلك القوى الخارجية، ويضيق من مساحة استقلال البلد ويحد من الفاعلية الدمجية للدولة، كما يضعف القوى الاجتماعية التي تتوافق مصلحتها مع تشكل داخل وطني مستقل.
والتفاعل نفسه يضع سورية في موقع صراع بين قوى إقليمية ودولية، يشابه ما وقع بين الاستقلال والحكم البعثي. الحكم الأسدي شكّل قطيعة مع نموذج «الصراع على سورية» الذي كتب عنه باتريك سيل كتاباً مهماً، لكن باستحداث نموذج أكثر كارثية: إغلاق تام للملعب الداخلي بالاعتقالات والمجازر، والتعامل مع السوريين كتابعين سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً، وهذا مقابل اللعب في البلدان المجاورة و«الصراع على الشرق الأوسط» مثلما بيّن سيل نفسه في كتاب مهم آخر له عن حكم حافظ الأسد. دارة الدورة في عهد الابن، وطلب النظام نفسه حماة خارجيين ضد محكوميه، وصارت سورية ملعباً لأجانب من دول ومنظمات ما دون الدولة، هذا بعد أن كان مؤيدو النظام يثنون عليه بأنه حوّل سورية من ملعب إلى لاعب.
سورية في حاجة إلى كسر هذا التعاقب بين وطنية هشة ذات تعددية متقلبة غير مستقرة، وبين وطنية مصمتة تدور حول الحاكم الفرد، تؤول في مواجهة محكوميها إلى محمية لقوى أجنبية. وبينما يبدو أن سورية اليوم أقرب إلى النموذج ما بعد الاستقلالي من حيث قوة حضور الأهلي والخارجي في حياتها السياسية اليوم، فإن الإعلان الدستوري يدفع نحو نموذج أسدي بالأحرى. هل تستقيم هذه الوصفة؟ هذا صعب، ويستحسن التعامل مع مؤشرات اليوم المُبعِدة عن المركز على أنها مُحَكِّمة.
ما يمكن أن يكون أساساً أمتن لوطنية سورية جديدة هو تعطيل التخرّجات الداخلية بكسب الجماعات السورية كلها إلى جانب مشروع غير طائفي للدولة، ليس هو ما يبشّر به «الإعلان الدستوري». تحييد القوى الخارجية والحدّ من تدخلاتها مرغوب في كل حال ولكل أنواع الأسباب، الأمنية والاقتصادية والسياسية. مؤشرات 100 يوم لا تستجيب كفاية للتطلع الأول، ولا للثاني. السياسة الأسوأ بطبيعة الحال هي التي تجمع بين الاستئثار الفئوي بالدولة وتنفير القوى الإقليمية والدولية.
تناقضات
حجم التغيّر الذي حدث قبل 100 يوم كبير، إنه يطوي صفحة 54 عاماً أسدية ونحو 62 عاماً بعثية. من حيث حجم الحدث وتاريخيته يمكن التفكير فيه كاستقلال ثان، يطرح من جديد مهمة البناء الوطني: احتكار السلاح من قبل الدولة، مدّ سلطة الدولة إلى كامل التراب الوطني، توحيد القوانين، عقلنة وتوحيد نظم الإدارة، نظام تعليم وطني جامع، بنية تحتية تربط الجغرافية الوطنية وتكثّف التفاعلات بين أقاليم البلد، إلخ. الاستقلال الثاني مثلما نشأ كمفهوم يحيل إلى الديمقراطية، أو التحرر من السلطة الطغيانية للدولة بعد الاستقلال الأول الذي هو التحرر من الاستعمار. فهل إننا بالكلام على استقلال ثان نتكلم على ديمقراطية في سورية؟ إذا تكلمنا بلغة لم تعد مألوفة يمكن أن نقول إن المهمة الموضوعية المطروحة على سورية والسوريين هي الديمقراطية، حكم الشعب السوري المكوّن من مواطنين مستقلين، لكن «العامل الذاتي»، القوى الفعلية التي أسقطت الحكم الطغياني ليست ديمقراطية، بل وكانت تكفر الديمقراطية قبل سنوات قليلة.
هذا تناقض كبير أول بين المهمة الموضوعية والقوى الذاتية. وما يشبه هذه القوى الأخيرة من حلول يتراوح بين نظام تسلطي سنّي، وبين حكم متطرف ديني (هذان شيئان مختلفان، لا يبدو أن أحداً يريد تجنّب الخلط بينهما)، وقد يعمل على تمثيل الجماعات السوري الأخرى وفق نموذج «سياسة الأعيان» التي سبق أن تكلم عليها ألبرت حوراني وفيليب خوري بخصوص السلطنة العثمانية في زمن ما بعد التنظيمات، وكان ساري المفعول في سورية حتى الوحدة مع مصر عام 1958. بالمناسبة، كان ألبرت حوراني ينسب إلى ما سماه «العالَم السني» خاصية جامعة تتمثل في «الثقة بالنفس والحس بالمسؤولية»، خلافاً للجماعات الأخرى في المشرق التي كانت «هامشية ومعزولة عن السلطة والقرار التاريخي». قال هذا عام 1947، أي بعد قليل من استقلال سورية الأول. اليوم، بُعيد استقلالنا الثاني وبعد نحو 70 عاماً من كلام حوراني، لا يبدو حال «العالم السنّي» كذلك، هو أقرب في الواقع إلى ضعف الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس معاً.
تحيل معالجة هذا التناقض الأول إلى معضلات بناء الدولة السورية.
وفي المقام الثاني، هناك تناقضات تحيل إلى الذاكرات والرضوض والآلام السورية، نراها تفجرت بعنف وضغينة بعد كارثة الساحل. هناك ذاكرة ورضوض قطاعات من جمهور سنّي محتقن وشديد الانفعال ويشعر بأن آلامه لا تُحترم؛ ثم ذاكرة وألم جمهور علوي نشّطت المذابح الأخيرة مخاوفه الوجودية، وهو وريث تهميش مديد سابق للحكم الأسدي، جغرافي واجتماعي وسياسي. وهناك ذاكرة وألم جمهور كردي، تعرّض لإبادة ثقافية منذ نشوء الكيان السوري الحديث، ويشعر بالغربة في «الجمهورية العربية السورية» التي ثبّت الإعلان الدستوري تسميتها هذه لخمس سنوات (رغم تبنّي علم الاستقلال وتخصيص مادة لوصفه في الإعلان نفسه، العلم الذي كان اسم سورية وقت اعتماده أول مرة: الجمهورية السورية). وهناك بعد ذلك مخاوف وجودية للجماعات الأهلية السورية كلها، يبرز من بينها اليوم الدروز، لكن ظاهر كما قلنا من قبل أن العمليات السياسية تحيل إلى الجماعات الوراثية، والمخاوف والآلام والذاكرات المحتقنة تسهم في تصليب كياناتها. هذا بينما لا تسمح الانفعالات الحادة اليوم بتناول شامل وتأسيسي لصراع الذاكرات هذا. من يركزون على واحدة منهما ينسون الأخرى، وبعض من ينكرون مظلومية طرف أهلي (والمظلومية مزيج من مظالم وتمييز حقيقيين ومن أفعال سردية تضفي عليها النسقية، وتسهم في تشكّل هوية الطرف ذاته) يمضون إلى إثبات مظلومية أطراف أخرى. هذا الحاجة إلى بطل شرير في القصة السورية لا تصلح كأرضية لسياسة وطنية ولا كمعرفة تاريخية ولا كبيان حقوقي عادل. وبخاصة أنها تميل إلى تعريف البطل الشرير بالأهلي وليس بالسياسي، بالطائفة أو الإثنية وليس بالموقع والدور السياسي الفعلي.
ويفاقم من ذلك، ومن احتداد الانفعالات، أن من في الحكم، أي من في الموقع العام، اليوم، ليسوا ورثة مجادلاً فيهم لإحدى الذاكرات فقط، وإنما هم كذلك المتسببون بتنشيط ذاكرات اضطهاد سابقة.
تحيل معالجة هذه التناقضات الثانية إلى معضلات بناء المجتمع السوري كمجتمع موحد قابل للحكم.
وهذه كلها مسائل تأسيسية، نراها تُعالج اليوم بوعي غير تأسيسي، شكلي وإجرائي، مفتقر إلى معرفة كافية بالمجتمع السوري وتاريخه، كما إلى الحس التاريخي.
يضاف إلى ذلك تناقض إجرائي لفت إليه ياسين السويحة بعد ظهور الإعلان الدستوري بين طول الفترة الانتقالية، خمس سنوات، وبين «السلق» المتعجل للحوار الوطني والإعلان الدستوري. قد تلزم مرحلة انتقالية طويلة لمعالجة المشكلات والتوترات الكبيرة المذكورة وغيرها إن كانت الأجواء العامة في البلد إيجابية تحفّز أعداداً متزايدة من السوريين على المشاركة في التفكير والنقاش والفعل، لكن التعجّل والشكلانية تضعف الثقة بالإدارة الجديدة والثقة العامة بين السوريين، وتنشر بالعكس من ذلك أجواء من التشاؤم والانكفاء، على نحو يجعل من خمس سنوات فترة طويلة جداً، ليس مضموناً ألا تشهد كوارث وآلاماً رهيبة جديدة. بعد مجازر الساحل ارتفع منسوب التشاؤم بحدة في البلد، انخفض قليلاً بعد الاتفاق مع قوات سورية الديمقراطية، قبل أن يعاود الارتفاع بعد الإعلان الدستوري.
وللتقدم نحو معالجة هذه التناقضات لا بد من الإجابة على سؤال: ما هي الأمّة في سورية؟ إلام تحيل ما سماها أحمد الشرع وهو يوقع الإعلان الدستوري «الأمة السورية»؟ أإلى السوريين على اختلاف منابتهم الأهلية؟ أم إلى السنّيين السوريين دون غيرهم؟ أم إلى المسلمين السنيين في العالم؟ وهل الدولة دولة السوريين؟ أم دولة السنّيين السوريين؟ أم هي دولة للمسلمين السنيّين في سورية؟ ذلك أن احتكار الدولة للسلاح يستقيم فقط على أرضية كون الدولة دولة وطنية سيدة، تقوم باسم «الأمة السورية». وهو ما يتعارض كل التعارض مع امتلاك أجانب للسلاح، واستخدامه ضد سوريين مثلما جرى في مذابح الساحل. يُجرِّم مفهوم الدولة كمقر للسيادة امتلاك أي قطاعات من السوريين خارج الدولة للسلاح، لكنه يجرِّم أكثر امتلاك غير سوريين للسلاح في سورية. هذا عدوان أجنبي، ينزع وطنية الدولة التي لا تقاومه. ولا يحل هذا التعارض بغير تجريد غير السوريين من السلاح، وطردهم إلى بلدانهم أو إلزامهم، إن كانوا لا يستطيعون العودة، بالإقامة المعلومة في مناطق بعينها كلاجئين مسالمين.
وقد يمكن إجمال كل هذه التناقضات تحت التناقض بين الثورة السورية والدولة السنية، أو بين الرهان الوطني الجامع للثورة واللون الواحد للفريق المسيطر اليوم. لهذا التناقض تاريخ بالغ القسوة هو الزمن الفاصل بين بدء الثورة في مثل هذا اليوم من عام 2011 وبين يوم 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، الذي بدأ فيه هجوم هيئة تحرير الشام ومن معها، الذي تمخض عن إسقاط النظام خلال 12 يوماً. ثلاثة عشر عاماً وثمانية أشهر وثماني أيام، هي زمن فظيع من القمع والتعذيب والإبادة، والخسارات العظيمة، والتهجير، واللجوء إلى بلدان قريبة وبعيدة، دفعت ثمنه بصورة خاصة البيئات السنّية السورية. هل حكم اليوم وريث 13 عاماً وفوق ثمانية أشهر، أم وريث 12 يوماً؟ إن كانت الأولى فينبغي أن يكون الحكم تعددياً، جامعاً، واستيعابياً، وإن يكن لسنّيين فيه وزن أكبر. وإن كانت الثانية، يقرر فيها من يحرر على ما قيل في شعارٍ يذكّر بشعارات أسدية مسجوعة مثله، فإننا نحصل على حكم واحدي لبلد متعدد، متناقض مثلما كان الحكم الأسدي، وقد لا يحل تناقضه بغير التوسع في العنف. وفي هذا ما يقود إلى قلب مفهوم الدولة على نفسه، ليطابق الدلالة العربية القديمة لكلمة دولة: نوبة أو دور في الحكم، يقصر أو يطول، لكنه ينتهي بعد سنوات أو عقود عاصفة. ثم إنه لما كان السنّيون أكثرية السوريين ديمغرافياً، ولما كان يتعذر أن يحظى بالنفاذ إلى الحكم غير نسبة محدودة منهم، فإنه يُرجّح لانقساماتهم الجهوية أن تلعب دوراً في فرز من هم أقل ومن هم أكثر تساوياً بينهم في فرص النفاذ. وهكذا نخسر سورية موحدة، ولا نحصل على غير جماعة سنية منقسمة.
هل تنجو سورية؟
ركز هذا التناول على مسؤولية من هم في السلطة لأنهم الفريق الأقوى، والشاغل للموقع العام. في الواقع عرضت قطاعات من المهتمين بالشأن العام، بعد مجازر الساحل بخاصة، استعداداً للانزلاق نحو الهياج والتحريض، وحتى الخطاب الطائفي المُصقِع. وهو ما يساهم في مفاقمته تهتك وإباحية مواقع التواصل الاجتماعي، الجديرة بالفعل بأن تسمى مواقع قطيعة اجتماعية. منسوب قلة الاحترام العام، المرتفع سورياً أصلاً، رفدته مواهب قلة الاحترام التي برع فيها منافحو الفرق الكثيرة.
هل تنجو سورية؟ ليس مضموناً بحال. يجزع كثير من السوريين من فشل الحكم الجديد في معالجة هذه الملفات، حتى وهم يعارضونه، لأنه يُحتمل لذلك أن يعني انهيار البلد. لكن لا يبدو أن الحكم الجديد ينصح نفسه ويشق له ولسورية مسالك غير استئثارية. وبعد أن رأينا بعض «البروفات» الكارثية خلال الـ100 يوم المنقضية، لا بد من التساؤل عن سبل ضمان نجاة البلد في حال جرى الانزلاق نحو مهاوي العنف والانقسام. سورية في حاجة إلى شبكة أمان وطنية في مواجهة هذه المخاطر، والعمل من أجل ذلك من أوجب ما يلزم اليوم.
موقع الجمهورية
لتحميل كتب باتريك سيل
كتاب الأسد ؛ الصراع على الشرق الأوسط
وكتاب: الصراع على سورية، دراسة للسياسة العربية بعد الحرب، 1945 1958 باتريك سيل
أو من الرابط
لتحميل كتاب الشرق الأوسط الحديث (جزئين) لـ ألبرت حوراني وفيليب خوري وماري ويلسون
الشرق الأوسط الحديث الجزء الأول
الشرق الأوسط الحديث الجزء الثاني
—————————-
الوعي السياسي السوري اليوم/ أحمد نذير اتاسي
لم يزعجني نص الاعلان الدستوري فقد كنت اتوقع اسوأ منه، الاسلاميون مثل الانسان العجوز لا يتغير ولا يتأقلم، وخاصة السلفيون. ما ازعجني فعلا الى حد الالم هو اكتشافي الحالة الحضيضية لضعف التفكير السياسي في سوريا. ثم يأتي جماعة “المتفائلون” ليركزوا على النقاط “المضيئة” فيزيدون الطين بلة بفقدانهم لاي مشروع سياسي او حتى فكري.
لا اقدس جيل الخمسينات او الستينات، لا بل اعتقد انهم مخطئون بمئات الاشياء، لكن هناك ما يشفع لهم: اولا كانوا ابناء مرحلتهم فأنتجوا ما تمليه عليهم، ثانيا، كان عند بعضهم وعي سياسي وامل حقيقي بتغيير سياسي بعيدا عن الملكية. اما اليوم فيأتينا الجولاني بحكم ملكي صريح واقرب الى الملكية من حكم الاسد (على الاقل دستوريا)، ولا احد يرفع حاجبا مستغربا او مستفسرا. لا بل الجميع يهنئون انفسهم ويُعملون عقولهم للمحافظة على ما يعتبرونه اهم انجازات الثورة السورية، واعني الحكم السني. انهم فعلا يظنون ان حكم الاسد لم يكن الا حكما علويا (لم يذكر احد ديكتاتوريته). يظنون انه كان حكما سيئا لانه كان علويا، وحكما دمويا لانه كان حكما علويا حاقدا، وحكما ديكتاتوريا لانه كان حكم عائلة علوية، وحكما فاسدا لانه كان حكم عشيرة علوية، وحكما طائفيا لانه كان حكم طائفة علوية. انها نفس النظرية البائسة التي بررت لانتفاضة الاخوان المسلمين عام ١٩٧٩، والتي فشلت يومها لانها كانت انتفاضة طائفية ضيقة لم يقبلها لا الريف السوري ولا الاقليات التي كانت لا تزال تنظر الى الاسد بريبة. لكن بعدها تأكدت الاقليات ان الاسد كان فعلا يحميهم من الخطر السني، وتأكد الريف ان الاسد يحميهم من الخطر المديني. واليوم يعود الينا الجولاني بنسخة معدلة من نظرية الاخوان، الدولة السنية التي تحمي المدينة والريف من الخطر العلوي، اي تحالف مدينة وريف سني، وسنرى في المستقبل القريب مظاهره وشخصياته وادواته الايديولوجية.
كان حكم بشار الاسد طائفيا، وعلويا ربما، ليس لدي احصائيات. ويبدو انه كان علويا بشكل فاضح في منطقتي الساحل وحمص. لا اعرف الكثير عن دمشق وحلب، لكني اشك في ذلك لاني اعرف ان العصبية الشامية كانت بالعة الوظائف والعصبية الحلبية كانت بالعة الاقتصاد. وربما ظهرت السمة العلوية اثناء الحرب من خلال اعتماد الاسد على المليشيات الطائفية. وهذا كان مقصودا فالقصف كان من الجيش والهجوم كان من المليشيات. والناس لم تفرق بين المليشيات الايرانية والمليشيات العلوية، كما هي العادة في المجتمعات الطائفية العشائرية. اعرف ان العدو عند العلويين كان السنة وان العدو عند السنة كان العلويين. لكن هل فعلا يعرف الناس الخائفون في بيوتهم من كان ينفذ القصف والمجازر والهجومات الابادية؟ يساورني الشك ويزداد يوما بعد يوم عندما ارى الهوس الطائفي المسعور ان الطرفين ربما كانا ضحية حملات تجييش واستقطاب ونشر معلومات سيئة. لكن كيف نعرف هذا والجولاني يرفض مأسسة العدالة الانتقالية ويستخدم الفزعة الطائفية عندما خاف على حكمه تماما كما فعل بشار الاسد.
لكن لا يهم، هذا في الماضي، ومشكلتنا مع الماضي هي انه ذهب ولن يعود. لكننا نحكم بناءا عليه. ان سقوط الاسد كان سقوطا لكل منظومته: الديكتاتورية والطائفية والعلوية والاقلوية والاحتكارية والمخابراتية. انها لن تعود، ليس هناك شيء اليوم اسمه خطر تحالف الاقليات، وليس هناك شيء اسمه عودة المخابرات العلوية، وليس هناك شيء اسمه عودة مخلوف. يجب ان يفهم السوريون ان اية بنية نبنيها اليوم ليست من فعل الاسد بل من فعلنا نحن. لا اعرف كيف اختفت المخابرات والفرقة الرابعة والمليشيات الطائفية الايرانية ورجال الاعمال الفاسدين. وبالطبع لا يمكن الاعتماد على الجولاني ليقول لنا، اذ يبدو انه يطمح الى اعادتها لتسيير امارته الاسلامية. لكن الجو الدولي الذي جاء بحافظ الاسد وسمح بالتوريث هو الذي سمح للجولاني باخذ سوريا وطرد الاسد وايران وادواتهما. ان قناعتي بزوال الاسد لا تأتي من ثقتي بالجولاني، لا فهو مجرد منتهز للفرص، وانما من فهمي للجو الدولي الذي جاء به. اننا على اعتاب مرحلة جديدة تشبه عام ١٩٢٠ او ١٩٥٧ او عام ١٩٧٠. الاسد انتهى وتحالف الاقليات انتهى (نعم كان هناك تحالف من الاقليات، ولا اتهم الجميع لكن العقلية كانت اقلوية). كل ما اريده اليوم هو ان ينتهي حكم الديكتاتورية.
كيف نتخلص من حكم الديكتاتورية؟ آلاف الاشياء، لكن يمكن ان نبدأ (والبداية عشوائية) بالعقلية، تلك العقلية التي سمحت للجولاني ان يعرض علينا سيئاته طوال ثلاثة اشهر.
اولا- فهم الوضع الاقليمي والدولي. الجولاني لم يأت محررا. الجولانى اتى لملء فراغ سقوط الاسد. وسقوط الاسد لم يكن بسبب معارك الجولاني وانما كان بسبب معارك اسرائيل مع ايران. تركيا والجولاني كانوا يتفرجون وانتهزوا الفرصة لغاية في نفس تركيا. الغرب موافق لان الجولاني كان حلا عسكريا جيدا لمعضلة جاءت بسرعة.
اليوم يتعاملون معه على هذا الاساس، اي التقليل من عقابيل القرار وليس انجاح القرار. المجتمع الدولي بقيادة الغرب منفتح على الاحتمالات في سوريا وليس لديه اي بديل، لذلك فان الفرصة التي يستفيد منها الجولاني، علينا ايضا ان ننتهزها لتحقيق اهدافنا، واهدافنا ليست اهدافه.
ثانيا- سخافة فكرة المرحلة الانتقالية. لم تكن سوريا بحاجة لمرحلة انتقالية قبل سقوط الاسد بشهر، وبعد سقوطه بيوم اصبحت تحتاج الى مرحلة انتقالية لمدة خمس سنوات. سيقول قائل، بالطبع هناك تغييرات هائلة يجب ادخالها وهذا يحتاج الى وقت. اي تغيير يحتاج الى وقت، لكن لماذا يحتاج الى الغاء الدستور والقانون وتعيين ديكتاتور. على العكس اننا اليوم احوج منا من اية مرحلة اخرى للتوافق والتفاوض والانتخاب. لماذا لا يطردون السكان من بيوتهم ايضا ويفرغون مؤسسات الدولة المحلية والوطنية من موظفيها باعتبار انها تحت التنفيذ والبناء، لماذا المرحلة الانتقالية تقتصر على تحييد مجلس الشعب وتعيين قائد مطلق؟ الدولة ليست سيارة ولا يحتاج تغييرها الى تعطيلها.
وهل هي مرحلة تحضيرية؟ هل نحتاج الى تحضير من اجل الديمقراطية؟ ولماذا يكون التحضير بافراغ الدولة وجمع السلطات وتعطيل مجلس الشعب وفرض دستور اقصائي؟ ما هو التحضير الذي بدأه الجولاني؟ اعتقد انه يحضر لحكم ديني ملكي ديكتاتوري. المقدمات تعلمنا عن النتائج. لو كان يحضر لانتخابات لعمل احصاءا، ولو كان يحضر لديمقراطية لسمح بالاحزاب كأول عمل, ولو كان يحضر للتشاركية لشارك كل المؤهلين من غير لونه.
ثالثا- عقلية التسليم الى الرجل الاوحد. هذه نقطة في غاية الاهمية عسيرة فعلا على عقل السوريين لان العقلية الذكورية الابوية مستفحلة الى درجة نعتبرها طبيعية. اذا افترضنا ضرورة وجود مرحلة انتقالية لعمل تغيير، فلماذا يحتاج هذا التغيير الى وضع كل السلطات بيد رجل واحد، واشدد على كلمة رجل، النساء السوريات دخلن مع قدوم الجولاني في عقلية ليلة الدخلة ورأين في الشاب الطويل الاسمر ذي اللحية الذكر المعيل والحامي اللواتي تربين عليها. انها تماما شخصية الاب التي نجدها في اب العائلة وشيخ المسجد او الكنيسة وشيخ العشيرة او الضيعة، الرجل الصلب حامل البندقية حلال المشاكل وقاهر الاعداء والنقي في ديانته والمستقيم في اخلاقه الحكيم الحليم. استفيقوا، انها مجرد صورة، لم يكن الرجال يوما هكذا، انه من طينة الرجال الاغبياء الذين ركضوا الى التسليح بنفس الوتيرة التي ركض بها الاسد الى التسليح، انه من طينة الرجال المتعصبين الذين انتسبوا الى داعش وعملوا المحاكم الشرعية، انه من طينة الشباب المجنون الذي سارع الى جهاد العراق وعمره ١٨ سنة، انه من طينة الشاب الذي يضرب اخته وامه لانها غير متحجبة او لا تسمع الكلمة، انه من طينة كل الرجال الذين لا يفقهون من الحكمة الا ان الله جعلهم قوامين على النساء.
ولماذا نحتاج الى تجميع كل السلطات بيد هذا الرجل؟ اننا في صميم ثقافتنا لا نؤمن بالتحاور والتشاور وحكمة الاخرين. اننا فعلا لا نؤمن بالديمقراطية كتشاور (وليس شورى واستشارة)، انها جمع الآراء والتفاوض بينها. اننا نؤمن ان رأينا هو الافضل وان الطريقة الوحيدة لتنفيذه هي بالفرض. الآراء الاخرى مجرد ازعاج يأتي من ذكور آخرين يتنافسون على السلطة وينتظرون قتل غرمائهم. وكما يقولون اذا كانت فكرتك عن الحوار هو ان تنتظر دورك لتصرخ فأنت لست في حوار. ونحن ننتظر دورنا لنستولي ونفرض. انظروا الى عقلية الاسكات التي سادت بعد ظهور الجولاني، انها ممارسة فظيعة وقاتلة. لا نتحمل الرأي الآخر. ان تعدد الاراء بالنسبة لنا له اسم واحد هو الفوضى. فليسأل كل واحد نفسه (نفسها) كم رأيا تتحمل في بيتك، رأي من الذي ينتصر دائما، ستجد ان في الاسرة السورية رأي واحد فقط هو في الاغلب رأي الاب او الزوج.
ان ما يعرضه الجولاني، وما يعرضه كل الاسلامويين، هو مجرد ملكية. لا فرق بين امير او خليفة او صاحب بيعة او ولي الامر وبين ملك. حتى الرئيس حولناه الى ملك. اننا ربما المجتمع الوحيد اليوم في العالم الذي يحلم بالملكية، بحكم الرجل الواحد بخليفة الله المدعوم بمجلس الاستشارة فقط. الجولاني مراهق سياسي لا يعرف الا الشكوك الامنية وتصفية المعارضين، وهذا ما يقوم به على الساكت. حتى اجتماع المانحين في بروكسيل رفض استقباله فما كان من وزير خارجيته المراهق ان اتهمهم بالمؤامرة.
اننا نحب ونفضل ونؤمن بالديكتاتور العادل، ديكتاتور على منهاج النبوة ديكتاتور مع عدالة عمرية.اننا فعلا نعتقد ان الرجل الواحد المتسلط اقدر على الوصول الى الحلول الصحيحة والقرارات الناجحة من مجموعة من العقول المتفاوضة. يكفي ان يكون مؤمنا حتى يقوده الله الى سداد الرأي. انا متأكد ان الرجال الحمشين القوامين على النساء في اسرهم يستشيرون نساءهم واقرباءهم. لا بل في الحقيقة معظم الرجال في بلدنا يتركون العائلة الاكبر تقرر عنهم في دراستهم وزواجهم وتربية اولادهم واعمالهم ومصاريفهم.
رابعا – فكرة عودة الاسد وفقدان الحكم السني. كما قلت الاسد لن يعود. لكن اذا استمر حكم الرجل الواحد فسيأتي من هو اسوأ منه. والحفاظ على سنية الحكم لا تجلب الاستقرار بل تعيد حكاية الاقصاء والمظلوميات. ان مأساتنا مع الاسد لم تكن علويته وانما ديكتاتوريته. التركيز اليوم على “حرب العلويين” ليس الا لعبة سياسية لتمرير تركيز السلطات بيد شخص واحد. كم شخصا ستقتلون حتى تحموا انفسكم من عودة مخابرات الاسد. اذا كانت نظريتكم صحيحة عن علوية الاسد كمصدر للمآسي، فيجب ان تقتلوا كل العلويين. لا بل يجب ان تقتلوا كل الاقليات حتى لا يتحالفون ضدكم. ومع ذلك فان هذا لن يحميكم من عودة الديكتاتورية.
هل تعرفون الى اين يتجه الجولاني؟ انه يتجه الى الموديل الايراني، مكتب المرشد الاعلى للثورة والحرس الثوري المنفصلان عن الدولة والمتسلطان على كل شيء. سيترككم تنتخبون مجلس شعب، لكنه سيكون المرشد الاعلى الذي يستطيع ان يرفض كل شيء. هذا هو المشروع الاسلاموي، والذي يدعي غير ذلك فهو كاذب. كل ما يريده هو تأمين النفط والقمح، وبعدها يستطيع ان يغلق البلد ويقتل المعارضين ويشتري السلاح من روسيا وحتى ايران. السنوات الخمس التي يريدها ليست لتحضير سوريا وانما لجهيزها لفرض حكمه. الدستور الذي اعلنه مجرد مسخرة مليئة بالثقوب التي يستطيع النفاذ منها. لا بل نفذ منها من خلال فكرتي المرحلة الانتقالية والديكتاتور العادل. لقد اعدنا انتاج الديكتاتورية مرة اخرى دون ان ندري وذلك لان وعينا السياسي في الحضيض.
====================