سوريا السُنيّة… تزاوج بين ِسرديّةٍ سلفية جهادية وسرديّة شديدة الطائفية/ موريس عايق

مشروع الهوية السُنيّة في سوريا، مشروعٌ فاشيّ ينطوي على خطرٍ إباديّ تجاه الآخرين، وهو ما شهدنا بوادره في الأيام القليلة فيما حصل تجاه العلويين، على خلفية قمع تمردٍ قامت به فلول النظام السابق.
19 آذار 2025
سوريا السُنيّة عنوانُ المرحلة القادمة من تاريخ سوريا. عنوانٌ يساعدنا على تبيان علاقة سوريا الجديدة بالإقليم وصراعاته، كما يشرح علاقة سوريا الجديدة نفسها بأبنائها وبنيتها الداخلية، وهو ما قد شهدنا بوادره الأُولى مع المذابح والتطهير الواقع على العلويين في الساحل، على أثر محاولة تمرّدٍ دموية أودت بحياة مئاتٍ من مقاتلي الأمن العام.
سوريا السُنية ليست إحالةً إلى الأكثرية السنيّة من سكان سوريا، فهذا المعطى لم يتغيّر موضوعيّاً منذ نهاية الحروب الصليبية على بلاد الشام، وبالتالي لا يستدعي إحالةً خاصة به. إنما هي إحالةٌ إلى إعادة تعريف هوية سوريا انطلاقاً من هُويّةٍ سنية تنظر إلى نفسها بوصفها جماعةً قومية، جماعة ذات عصبية، بمعزلٍ نسبيّ عن الاعتقادات الدينية لأبنائها ومدى أرثوذكسيتها.
سوريا السُنيّة ليست إسلامية أو عربية، هي جزءٌ من الأمة المُترفّعة عن الطوائف، مثلما كان الحال يوماً مع الإيديولوجيات القومية والإسلامية التي تعالت عن انقسامات الأمة، سواء لاعتبارها تنوّعاً يغذي الأمة أو انقساماتٍ ثانوية لا يجب أن تطغى بحالٍ على صراعات الأمة الكبرى. فالأجيال الأولى من الإخوان المسلمين ما قبل طغيان السلفية، والحركات الشيعية الثورية، نظرت إلى نفسها بوصفها جزءاً من أمّة إسلامية واسعة تتضمّن السنة والشيعة. وهو ما نزال نشهد أثره على الأقل في السياق الفلسطيني، حيث تعبر التحالفاتُ الانقسامَ السنيّ-الشيعيّ، وحتى الإسلاميّ-غير الإسلاميّ، في مواجهة خطرٍ يستهدف الأمة.
اللحظة السُنيّة لا تتموضع اليوم في مواجهة الأمة مع الأعداء الخارجيين، بل في سياقٍ مضاد، حيث تصير الهُويّة السُنيّة بديلاً عن الأمة أو هي الأمّة حقاً، فيما يصير الآخرون، ممن يفترض كونهم جزءاً من هذه الأمة، أغياراً وتهديداً. وكما في عملية تعريف كلّ جماعةٍ لذاتها، فإنها تحتاج إلى أغيار-أعداء، بحيث تكون خطوط المواجهة معهم هي نفسها آلية التعريف والتحديد الخاصة بهذه الجماعة. وفي الحالة السنية، وفي سياق الحرب الأهلية الطويلة في الهلال الخصيب، من لبنان إلى العراق فسوريا، فإن العدو هو الشيعة-العلويون وبقية الأقليات، هؤلاء هم آخر السُنة.
لا تلعب إسرائيل دوراً أساسياً ومحورياً في هذه السردية، من دون أن يلغي هذا العداء لها. فهي لم تكن جزءاً من المقتلة الحاصلة في الهلال الخصيب، لكنها أيضاً شديدة الخفّة في تعريف الهُويّة السُنية، التي نفعت لتعريف هويةٍ إسلاميةٍ أو عربية واسعة قامت أساساً على الترفّع عن هذه الانقسامات نفسها وليس تكريسها. على العكس، لطالما بدأ تكريس هذه الانقسامات جزءاً من عملية تسويغ إسرائيل لنفسها والتطبيع معها.
تظهر اللحظة السُنيّة جليةً في مواقف السوريين تجاه حماس والحركات الفلسطينية عامة، والهجوم عليها باعتبارها جزءاً من المحور الإيرانيّ، عدوّ السوريين. القضية السورية مُتماهيةٌ بشكلٍ متزايد مع القضية السنيّة، في مواجهة القضية الفلسطينية. المسألة السُنية في مواجهة مسألةٍ فلسطينية لا تشكل خطراً وجودياً على الأمة السنية كما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا. هذا التناقض بين القضيتين لا تقتصر أمثلته على السوريين وحدهم، نراه لدى الفلسطينيين أنفسهم ولدى إسلاميين في بلادٍ عربية عديدة، وأيضاً لدى أغيارٍ مطلقين. فالسيناتوران ليندسي غراهام وجو ويلسون نصيران كبيران للثورة السورية، فيما هما أيضاً نصيران كبيران لبنيامين نتنياهو والليكود الإسرائيلي في حربهما ضدّ غزّة.
سوريا السُنية تنظر إلى هذه القضايا من عدسة سُنيّتها، وما تفرضه عليها وعلى الأمة السنية في المشرق من أولوياتٍ وتحديات. ومن هنا يجب أن لا يتوقع أحدٌ أنّ مواجهة إسرائيل سوف تكون في مقدّمة هذه التحديات، إنما مواجهةُ إيران وحلفائها، حتى الفلسطينيين منهم، من قليلي السنيّة، مثل حماس أو الجهاد الإسلامي. وهذا لا يعني أنّ سوريا سوف تكون حليفةً لإسرائيل كما يتوهم آخرون في الخندق المواجه. وعلى هذا الأساس فسوف تجد سوريا نفسها مُلحقةً بالمحور الخليجي وتحالفاته وصراعاته. وقريباً سوف يكتشف الإسلاميون (وليس السنيون)، قبل غيرهم، مدى أوهامهم التي يعلقونها على سوريا الجديدة ودورها المتخيّل لديهم في صراعات الأمة.
على الصعيد الداخلي، مشروعُ الهوية السُنيّة في سوريا مشروعٌ فاشيّ، ينطوي على خطرٍ إباديٍّ للآخرين، وهو ما شهدنا بوادره في الأيام القليلة الماضية، فيما حصل تجاه العلويين على خلفية قمع تمردٍ قامت به فلول النظام السابق. فقد قام هذا المشروع على تزاوجٍ بين سرديةٍ سلفيةٍ جهادية، وسرديةٍ شديدة الطائفية، عن صراع أهل السنة مع الشيعة والنصيريين. وهذه المواقف والتصوّرات حول العلويين في سوريا، كما تظهر على وسائل التواصل من قِبل الناس العاديين أو على ألسنة مقاتلين وقادة فصائل وحتى نخب إعلامية، لا تختلف في شيءٍ عن تلك التي حملها الألمان عن اليهود في زمن صعود النازية؛ هؤلاء الأشرار بفطرتهم، القتلة والخونة والمسؤولون جميعهم عما حاق بنا من دمار، الذين ابتهجوا لمصائبنا ورقصوا على أشلاء قتلانا، هم جميعاً مذنبون. إنّ الدعاية الفاشية لهذا المشروع تقوم بشيطنةٍ تامّةٍ للعلويين باعتبارهم علويين، كما تترجم نفسها باستنساخٍ تامّ لمقولات النظام الإجرامي للأسد، فقط بتغيير المواقع.
غير أنّ العنف لن يقتصر على الآخرين وحدهم، فأحد أصعب تحديات هذا المشروع هو سؤال إدامة الهوية السنيّة نفسها، وقد تبلورتْ عبر الحرب الأهلية المديدة في المشرق، وخطّ المواجهة المفتوح مع النظام السوري السابق (سردية مواجهة النظام النصيري)، ومع إيران والحركات الشيعية في العراق ولبنان، والتعبئة الطائفية التي تولّتْها الحركات الإسلامية، تحديداً بصيغتها السلفية. سوف تصمد هذه الهوية، وحتى قد تتعزّز، لزمن قريبٍ قادم بفضل الذخيرة التي تمتلكها. لكن إلى متى؟ يفتقر السنّة في سوريا، خارج سياق الحرب والمواجهة، إلى عوامل داخلية تعزّز لحمتهم، فيما تكثر بينهم عوامل الانقسام. سنّة سوريا ليسوا سلفيين في غالبيتهم، ينقسمون بين المدن والأرياف، وما بين انقساماتٍ مناطقية وعشائرية وإثنية. يُضاف إلى ذلك تحدٍّ اقتصاديّ لا أحد يدري بكيفيّة التعامل معه في سياق الدمار والحصار، وهي أمورٌ لن تزول قريباً وخاصة على ضوء المجازر الأخيرة التي لحقت بالعلويين. إنّ عملية تحويل السنّة إلى سنّةٍ معياريين، يتناسبون مع هذه الهوية المفترضة، تتطلّب قدراً لا بأس به من القمع والقسر الداخليين ضدّ السنة أنفسهم، وهي عمليةٌ سوف تزداد بقدر تضاؤل دور المواجهة الخارجية وانحسارها. ما هي طبيعة الهوية الداخلية للسُنية، سلفيّة أم أشعريّة، وأين موقع السنة من الذين لا يرون أنفسهم سنّةً على مستويات السياسة والاجتماع، حتى ولو كانوا مؤمنين ملتزمين؟ هذه أسئلةٌ سوف يلعب العنف قدراً كبيراً في حلها.
انتصار المشروع ليس حتمياً أو مرجّحاً، وإن كان الدم والخراب مرجّحين لزمنٍ قادم، فالقدرة على مواجهته، أو التخفيف من وطأته داخلياً، تزداد بدورها ضموراً، على قلتها أساساً. هذا المشرق في حالةٍ من الخواء والعجز عن تقديم خياراتٍ بديلة، وكأنّنا محكومون بالموت لزمن طويل قادم.
كاتب سوري مقيم في ألمانيا.
*المقال يمثل وجهة نظر الكاتب فقط.
موقع حكاية ما انحكت