أدونيس.. لنغسل أيدينا إلى الأبد/ سلمان عز الدين

“ضُبط” أدونيس في وقفة تضامنية مع ضحايا أحداث العنف التي شهدها الساحل السوري مؤخرًا، والظهور في مناسبة كهذه ليس مما يعيب المرء عادة، بل على العكس هو جلاب للمديح والثناء، سواء أكان المعني شخصًا عاديًا أم شاعرًا “عالميًا”.
غير أن الكثيرين تعاملوا مع أدونيس هنا وكأنه “ضُبط” فعلًا، وواقع الحال يشير إلى أن الرجل لا يملك هذه المرة أيضًا ما يدافع به عن نفسه، أو بالأحرى: لا يملك مريدوه ودراويشه ما ينافحون به عنه، ذلك أن أدونيس نفسه لا يتنازل للدفاع عن مواقفه وأفكاره أمام “الغوغاء”، ولا حتى لتوضيح هذه المواقف والأفكار، وهو الذي لا يزال ينتظر أن تأتي الأجيال القادمة لتفهم شعره وفكره، في تسليم لا يخلو من تلذذ أن معاصريه لا يفهمونه البتة.
وها هو الرجل يكتب نثرًا وشعرًا منذ ستين عامًا، وها هي “الأجيال القادمة” تتوالى، فيما الحاصل أنه يزداد غموضًا والتباسًا.
ولكن لم إصرار البعض على أدونيس أن يخرج ليشرح ويفسر ويُفهمنا؟ ماذا لو خرج غدًا، أو بعد غد، وشرح بواحدة من عباراته الغرائبية النبوئية، كأن يقول: “لأن العصف الجميل قد أتى ولكن الخراب الجميل لم يأت بعد”. ماذا؟ هل فهمتم شيئًا؟
وما يضعف حجة المنافحين أن معظم النقد لأدونيس جاء من أناس أعلنوا بوضوح موقفهم الإنساني والأخلاقي والوطني من أحداث الساحل. قالوا فيها ما قالوه عن أحداث مماثلة سابقة عمت المناطق السورية في عهد النظام البائد وعلى يديه: إنها جرائم موصوفة. كما أدانوا السلطة الجديدة مثلما كانوا قد أدانوا السلطة الساقطة. الشيئ الذي يكشف السبب الأساس لهذه الحملة على الشاعر: لماذا لم يفعل ذلك هو أيضًا؟. لماذا صمت أربعة عشر عاما ملأها النظام البائد مذابح ومجازر، وجاء الآن فقط ليعلن صحوة ضميره؟.
يقيم أدونيس، منذ دهور، فوق السحاب. وعندما اشتعلت الثورة السورية قرر الهبوط والتفرغ بضع ساعات لشؤون هذه الدنيا، فخط رسالة إلى بشار الأسد اقترف فيها ثلاث أو أربع حماقات من العيار الثقيل. قال له: السيد الرئيس أنت رئيس شرعي ومحبوب من السوريين الذين انتخبوك. ثم تكرم بإعطاء بضع نصائح ثمينة، بينها حل حزب البعث الذي رآه السبب الوحيد لغضب الناس من رئيسهم المحبوب. ثم ودع السيد الرئيس وودعنا إلى غير رجعة.
ومن هناك، من فوق، من الطبيعي أن تتغلب الرؤية الميتافيزيقة على الشاعر، فتبدو له المحنة السورية مجرد حلقة جديدة في ذلك الصراع العبثي الذي يخوضه البشر الحمقى منذ الأزل. أناس يتقاتلون لنقص أصلي في عقولهم، لعيب خلقي في غرائزهم.. أما السياسة وشؤونها، أما السلطة السياسة الديكتاتورية وما تقترفه، أما القهر الاجتماعي الواقع على المواطنين.. فكلها مما لا يليق بشاعر رؤيوي أن يكترث به.
ولو أن أدونيس اكتفى بهذه اللامبالاة الفوق أرضية لكان ذلك أخف وطأة، لكنه كان يلتفت بين فترة وأخرى إلينا، نحن سكان هذه الأرض المنكوبة، مقاربًا أزمتنا بطريقة غير مباشرة، من بعيد لبعيد، ووفق رؤيته ذاتها التي لم تتبدل.
ومقاربة أدونيس لا تبتعد كثيرًا عن تلك التي يتشبث بها بعض النخبويين في بلادنا، وتقوم على تقريع الجماهير الجاهلة المحصنة ضد الحداثة، هذه “الغوغاء” التي يغيبها أفيون الشعوب، فتغدو مسؤولة عن إحباط كل محاولات التحديث، بسبب تعلقها بالتراث وتشبثها بالثقافة الشعبية، والتقاليد البالية، والعقل الغيبي، والعلاقات الاجتماعية المتخلفة.
بالمقابل فإن السلطة السياسية، سلطة بشار الأسد وسواه، والنخب الثقافية الدائرة في فلكها، تعفى من النقد والتقريع، فلا مسؤولية تقع على بطشها وجرائمها وشعاراتها الفارغة وحداثتها الزائفة وتحديثها القسري الأجوف، تعاليها وكسلها وإهمالها المتعمد للثقافة وتكبيلها للإبداع. وإذا ما حضر النقد لهذه السلطة، فعبر همس لطيف، أو همهمة غير مفهومة أو كلام إنشاء عام مما يردده الباحثون عن رفع العتب.
وإضافة إلى الجماهير التي يكرهها أدونيس، هناك مذنبون لا يني الرجل يحاربهم بضراوة منذ عقود: أسلافنا الذين أورثونا هذا التراث المكبل، وصاغوا لنا حياتنا الكئيبة هذه، وهو بالطبع يستمر في تحقيق انتصارات باهرة عليهم، ربما لأن منطقه فذ وساحق، أو ربما لأنهم، جميعًا، صاروا أمواتًا منذ ألف عام.
ولماذا قرر أدونيس فجأة أن ينزل إلى عالم البشر وينخرط مباشرة في شؤونهم، فيشارك في وقفة “سان ميشيل” في باريس؟
“استيقظ حسه الطائفي”، يقول كثيرون مشيرين إلى انتمائه إلى المنطقة نفسها التي شهدت أحداث العنف الأخيرة. ويا له من كلام صعب، ليس على أدونيس طبعًا فهو محصن بلا مبالاة كتيمة، ولكن على الذين يضطرون إلى ترديد هذه العبارة مغامرين بأن يخدشوا إحساس أهل الضحايا، ولكن أدونيس هو المسؤول عن ذلك، إذ لطالما جرح إحساس مئات الألوف من أهالي الضحايا السوريين، بصمته حينًا وفزلكته الفارغة حينًا آخر، وبتصويبه السهام إلى كل الأهداف ما عدا تلك التي يتوجب أن توجه إليها في كل الأحيان.
وربما يكون الحل فيما اقترحه البعض: أن نغسل أيدينا من أدونيس مرة وإلى الأبد، فقد صار هذا أمرًا فنتازيًا: هو يصر على مفاجأتنا منذ عقود طويلة، ونحن مصرون على أن نتفاجأ ونصيح: “ياااه غريييب!”.
الترا سوريا