الإعلان الدستوري لسوريا 2025سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

الإعلان الدستوري لسوريا 2025-مقالات وتحليلات- تحديث 21 أذار 2025

لمتابعة هذا الملف اتبع الرابط التالي

الإعلان الدستوري لسوريا 2025

——————————–

الإعلان الدستوري السوري: بين الضرورة القانونية والانتقادات السياسية

نشر في 21 آذار/مارس ,2025

مقدمة

بعد إلغاء دستور 2012، في الإعلان الذي نصّ عليه بيان “مؤتمر النصر”، في 29 كانون الثاني/ يناير 2025، أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، في الثاني من آذار/ مارس 2025، قرارًا بتشكيل لجنة قانونية تضم في عضويتها سبعة أعضاء، مهمّتها وضع مشروع لإعلان دستوري مؤقت للمرحلة الانتقالية في سورية، وقدّمت اللجنة مشروعها إلى الرئيس الشرع، وتم اعتماده والتوقيع عليه في 13 آذار/ مارس 2025، ليكون مرجعية دستورية مؤقتة للفترة الانتقالية التي حدّدها الإعلان بخمس سنوات.

ومن المتعارف عليه أن الدساتير توضع من قبل هيئة منتخبة أصولًا، إلا أنّ البلدان الخارجة من حروب داخلية، والتي يتعذّر إجراء انتخابات فيها، تلجأ إلى وضع إعلان دستوري مؤقت يُشكّل المرجع الرئيس لتنظيم المرحلة الانتقالية، ويقتصر الإعلان عادة على ما هو ضروري، ويتجنّب كلّ ما هو خلافي، حيث تُرجَأ القضايا الكبرى إلى مرحلة إعداد دستور دائم للبلاد بعد أن تتحقق عوامل الاستقرار. ويهدف الإعلان الدستوري عادة في البلدان الخارجة من حروب داخلية إلى خلق مناخ يُعزّز حالة الاستقرار والوضع الأمني وسبل تحقيق وحدة البلاد، كما يهدف إلى تعزيز أسباب المصالحة الوطنية واستعادة ثقة الشعب بالسلطة الجديدة والعهد الجديد، وخلق الثقة بين مكونات المجتمع، ومعالجة المشكلات الكبرى التي خلّفتها الحرب، وإلى تحقيق العدالة الانتقالية ونزع فتيل الانتقام، وإعادة بناء المؤسسات، والسير بسلام خلال المرحلة الانتقالية، تحضيرًا للمرحلة الدائمة وتهيئة الأجواء لوضع دستور دائم، وإجراء انتخابات تُنهي المرحلة الانتقالية، وتضع البلاد على سكّة السلامة والازدهار. والسؤال المتداول في هذا السياق: إلى أيّ حد حقق الإعلان الدستوري السوري هذه المتطلبات؟

أثار الإعلان الدستوري، كما هو متوقّع، وهو وثيقة مهمّة لمرحلة انتقالية ستحدد شكل سورية القادمة، جملةً من الردود المتباينة، منها المرحّبة والمؤيدة ومنها المنتقدة والرافضة، وجاءت هذه الردود من حقوقيين وأكاديميين وناشطين، ومن قوى سياسية ومنظمات حقوقية، وتتوزع المواقف على قوسٍ ينوس بين الترحيب والتأييد المطلق، والرفض الكلي، وما بينهما.

بدأت الانتقادات مع تشكيل لجنة صياغة مشروع الإعلان الدستوري، وهي لجنة تتألف من سبعة حقوقيين فقط، معظمهم يحملون التوجه الفكري والعقائدي ذاته، مع أن في سورية كفاءات مخلصة لثورة الشعب السوري تتمتع بقدرات وخبرات أوسع في هذا المجال، وافتقرت اللجنة إلى خبراء في السياسة والمجتمع والاقتصاد، علمًا أن مهمّة القانونيين عادة ما تكون تشكيل الصياغة القانونية للقرار السياسي وتوضيح المسار الرئيس لطبيعة المرحلة الانتقالية ومهامها، وتحديد الهيئات التي ستقود المرحلة الانتقالية ومداها الزمني. فليست اللجنة المختصة بصياغة الإعلان الدستوري هي من يحدد طبيعة النظام، أهو رئاسي أم برلماني أم مختلط، ولا هي من يحدد طبيعة النظام الاقتصادي وشكل الإدارة، مركزية أو لامركزية، ولا صلاحيات الرئيس ومجلس الشعب وغير ذلك من المفاصل الرئيسية للمرحلة الانتقالية، إنما تحددها القيادة السياسية، وتلتزم لجنة الصياغة بها.

يُعدّ إصدار إعلان دستوري خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أنه لا يُغني عن ضرورة معالجة القصور الذي يتضمنه خلال الفترة القادمة، المطلوب اليوم هو إجراء مقاربة متوازنة في التعامل مع هذا الإعلان، بعيدًا عن التمجيد المطلق أو الرفض القاطع، عبر مناقشته بموضوعية، وتعزيز جوانبه الإيجابية، والعمل على تصحيح نواقصه بما يخدم مصلحة السوريين. وبوجه عام، يمثل هذا الإعلان خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه ليس نهاية المسار، بل بداية لمرحلة تتطلب التزامًا حقيقيًا من جميع الأطراف، لضمان نجاح الانتقال السياسي، وضمان أن يُعبّر أي دستور مستقبلي عن إرادة السوريين عبر لجنة تأسيسية منتخبة واستفتاء شعبي شفاف.

    جدالات السوريين حول الإعلان الدستوري

على عكس الاهتمام الثانوي الذي منحه السوريون لإصدار دستور 2012، فقد لقي الإعلان الدستوري الحالي اهتمامًا واسعًا في أوساط السوريين وأوساط المتابعين غير السوريين للأحداث السورية، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت التي تكاد تصل اليوم إلى كل إنسان، دورًا كبيرًا في زيادة هذا الاهتمام، وكانت ساحة الجدال الرئيسة. وبسبب سخونة الأجواء السورية، عقب سقوط النظام أواخر السنة الماضية، والتغييرات على المستويين الرسمي الحكومي والشعبي، والتغيرات في إيقاعات الحياة اليومية في الساحة السورية، جاءت ردّات فعل السوريين قوية على مجمل التحولات، بناءً على مواقف ذات خلفيات متباينة تتأرجح بين أيديولوجيا السلفية الجهادية والأيديولوجيا الليبرالية وما بينهما، ولكل منها رؤيتها لنظام الحكم القادم في سورية، أو بناءً على دوافع دينية ومذهبية ومناطقية، وتأثيرات أحداث الساحل وما جرى بها من أعمال، ومحاولات بعض ضباط النظام القيام ببعض الأعمال العدوانية ضد قوات الأمن، وردّ هذه القوات القوي عليها، ثم التداعيات التي تلتها من تجاوزات وانتهاكات، واصطفاف السوريين حولها بين مبرر ومتقبل واعتذاري وناقد، يضاف إلى ذلك وجود منطقة شرق الفرات التي تسيطر عليها قوات قسد، ولها مطالب محددة تريد أن تراها في الدستور، ووجود منطقة السويداء، ولها هي الأخرى مطالب محددة، وظهور ردات الفعل والمواقف على إثر الشكل الذي جرى به ما سمي بمؤتمر الحوار الوطني، أو تشكيل لجنة إعداد مشروع الإعلان الدستوري، وفوق كل ذلك تأثير الأوضاع المعيشية المتردية لمعظم السوريين، وعدم إحراز أي تحسّن ملموس في هذه الظروف خلال هذه المدة القصيرة، مع انعدام الإمكانيات ولا سيما مع الضغوط الأميركية على الجهات التي وعدت السلطات الجديدة بتقديم مساعدات، وغيرها.

ضمن هذه الأجواء، استقبل السوريون الإعلانَ الدستوري باهتمام واسع، كما ذكرنا، وقد تباينت المواقف مما جاء فيه بين مرحّب بقوة، ورافض بقوة، وما بينهما من مواقف اتسم بعضها بالتحليل والنقد الموضوعي من منطلق إيجابي. وقد غلب على غالبية المواقف الرغبة في أن تجتاز سورية المرحلة الانتقالية بنجاح، فقد تعب السوريون من الحروب، وهم يتطلعون للاستقرار وعودة الحياة إلى طبيعتها وتحسّن شروط عيشهم وتوفّر فرص العمل وزيادة دخولهم التي تدهورت إلى حد الجوع. واتسم بعض تلك المواقف بالنقد الشديد، مثل موقف (قسد) و(مسد) إذ أعلنتا رفض الإعلان الدستوري بالكامل، ورأتا أنه يتجاهل التعددية القومية والدينية في سورية، وأنه يعيد إنتاج الاستبداد بصيغة جديدة، حيث يكرّس الحكم المركزي، ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات كبيرة، ودعوا إلى إعادة صياغة الإعلان بما يضمن توزيع السلطة بشكل عادل، والاعتراف بحقوق جميع المكونات السورية. وصدرت انتقادات واعتراضات من جهات أخرى مثل المنظمة الآثورية الديمقراطية، كما صدرت بعض الأصوات المعارضة له في السويداء على صعيد الفئات الشعبية ومشايخ العقل، واعتبروه بأنه لا يمثل التنوع السوري، كذلك انتقدته بعض المنظمات الحقوقية وبعض القانونيين، وعبرت بعض التيارات الليبرالية والعلمانية عن انتقاداتها بدءًا من تشكيل اللجنة الدستورية، التي لم تضمّ ممثلين عن جميع مكونات الشعب السوري لضمان صياغة إعلان دستوري يعبّر عن الجميع، وانتقادها الإعلان كونه لا يتبنى نهجًا ديمقراطيًا حقيقيًا، وأبقى على نصوص تميّز بين السوريين، بما يخرق مبادئ المواطنة المتساوية كأساس للحكم، ولا يضمن الإعلان حيادية الدولة.

    الشعب مصدر السلطات:

غاب عن الإعلان الدستوري أيّ ذكر لمبدأ السيادة الشعبية، وهو ليس مجرد تعبير رمزي، بل يشكل جوهر الشرعية السياسية، إذ يمنح المواطنين القدرة على فرض إرادتهم، من خلال الاستفتاء الشعبي والآليات الديمقراطية الأخرى، ويثير هذا الغياب العديد من التساؤلات، لا سيما أن المادة 52 تنص على أن الإعلان يبقى نافذًا حتى إقرار دستور دائم وتنظيم انتخابات وفقًا له، من دون تحديد الجهة التي ستقر الدستور الدائم، وكيفية إقراره، مما يفتح الباب أمام فرض دستور دون الرجوع إلى إرادة الشعب، وكان من الضروري أن ينصّ الإعلان بوضوح على أن الشعب هو مصدر السلطات، وأن المرحلة الانتقالية ستُفضي إلى نظام تعددي قائم على التداول السلمي للسلطة.

    النظام السياسي:

لم ينص الإعلان على أن نظام الحكم في الدولة السورية هو نظام جمهوري، إلا أن المادة 2 نصّت على إقامة نظام سياسي يرتكز على مبدأ الفصل بين السلطات، وهي صيغة غامضة، في حين إنه نص من جهة أخرى على صلاحيات واسعة للرئيس، مما يضعف مبدأ الفصل بين السلطات. وقد كان اختيار النظام الرئاسي الموضوع الأكثر أهمية في الإعلان الدستوري المؤقت، فالبلدان التي تخرج من حروب داخلية تتجنب النظام الرئاسي، وتلجأ إلى النظام البرلماني الأوسع تمثيلًا، مثل ألمانيا بعد هتلر، إيطاليا بعد موسوليني، وإسبانيا بعد فرانكو، والبرتغال بعد سالازار وغيرها، ونجحت في اختيارها، بينما فشلت دول تبنت النظام الرئاسي عقب خروجها من حروب أهلية، مثل بعض دول أمريكا اللاتينية، إذ تحوّل النظام الرئاسي إلى استبداد عانت منه طويلًا. ومن ناحية أخرى، فإن سورية قد عانت استبداد النظام الرئاسي الأسدي لخمسة عقود، حيث سيطر الأسد على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كافة، إضافة إلى الجيش والأمن. ويعتقد خبراء آخرون أنه كان من الأجدى اتباع النظام البرلماني، ولا سيما أن الإعلان الدستوري قد وضع بيد الرئيس القدرة على التحكم في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى قيادة الجيش، من دون وضع أي قيود عليه وتحديد أي سلطة لها قدرة على محاسبته، مما يجعل مبدأ فصل السلطات الذي نصّ عليه الإعلان مجردَ حبر على ورق. في حين رأى أنصار النظام الرئاسي أنه الأنسب لسورية، حيث يمركز السلطات في يد رجل واحد، مما يساعد على اجتياز المرحلة الانتقالية بسلام. وكان من اللافت أن الإعلان قد أغفل وضع ضوابط لحالة تجاوز رئيس الدولة لمهامه أو مخالفته لمقتضيات منصبه، فضلًا عن عدم وجود آلية لعزله، في حال مخالفته للإعلان الدستوري، ولم يحدد الإعلان الشروط الواجب توفرها في من يتولى رئاسة الجمهورية، وقد كان من الضروري النص على شروط واضحة لتولي المنصب، مثل ضرورة تمتّع المرشح بالجنسية السورية بالولادة أو بالاكتساب، والحد الأدنى للعمر، ومدى جواز حمله لجنسية أخرى، ومستواه التعليمي، وغيرها من المتطلبات الأساسية ويبدو أنه افترض أن السيد أحمد الشرع هو الرئيس دون الحاجة إلى وضع معايير أخرى.

     النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية:

لقيت قضايا النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وموضوعات توزيع الدخل بعض الاهتمام في الإعلان، فقد نصّت (المادة 16) على صيانة حقوق الملكية الخاصة، وعدّتالثروات الباطنية ملكية عامة تستثمرها الدولة لصالح المجتمع، ونصت (المادة 11) على أن الاقتصاد الوطني يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية الشاملة وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة للمواطنين، وأن الاقتصاد الوطني سيقوم على مبدأ المنافسة الحرة العادلة ومنع الاحتكار، وأن الدولة تشجع الدولة الاستثمار وتحمي المستثمرين في بيئة قانونية جاذبة. ولم يكن هناك نصّ صريح على “اقتصاد السوق الحر”، وهو التعبير المحدد لاقتصاد السوق الذي يقوم على حرية الاستثمار والدخول إلى السوق والخروج منها وحرية تشكّل الأسعار وفق مبدأ المنافسة، ونصت (المادة 15) على أن العمل حق للمواطن، وتكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. ولم ينص الإعلان على حماية العمل وحقوق العاملين، أسوة بما ذكره عن حماية المستثمرين.

يعدّ هذا الاهتمام أقلّ مما تستحقه موضوعات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الدخل، والتي تقوم عليها حياة الفرد والمجتمع. وكما هو معتاد، فإن اهتمامات الناس ومناقشاتهم الكثيرة حول الإعلان الدستوري المؤقت لا تأتي في معظمها على ذكر هذا الجانب رغم أهميته القصوى. ويأمل السوريون أن يروا ترجمة فعلية لسياسات تعزيز العدالة الاجتماعية، سواء في رسم السياسات العامة أو في ممارسة مؤسسات الدولة، مستفيدين من خبرة بلدان أخرى ترى أهمية في تقليص التفاوت الاجتماعي وتحسين عدالة توزيع الدخول بما لا يكبح تنمية الإنتاجية.

    النظام الإداري:

لم يتطرق الإعلان بوضوح إلى طبيعة النظام الإداري، وهي تعدّ جزءًا من أسس بناء الدولة، ولا سيما أن سورية كانت خلال العهد المنصرم دولة شديدة المركزية، في مختلف جوانب الحياة، مما أعاق نمو الفرد والمجتمع من الناحيتين المادية والروحية، وهذه القضية هي موضع نقاش حار بين السوريين، سواء من جانب المنطلقات القومية، مثل مطالب الكرد السوريين الذين ينادون باللامركزية السياسية والفيدرالية، أو من جانب تقني إداري يدعو له خبراء في الإدارة ويقوم على لا مركزية إدارية واسعة تمنح السلطات المحلية المنتخبة والخاضعة للمحاسبة الكثير من صلاحيات إدارة شؤونهم المحلية، بما في ذلك تأمين موارد مالية كافية لهذه الإدارة المحلية. وقد طبّق النظام السابق نظام الإدارة المحلية منذ سبعينيات القرن المنصرم، ولكنها كانت ضعيفة وهامشية أمام سلطات المحافظ الذي يسميه رئيس الجمهورية، وسلطات الأمن التي قضمت صلاحيات جميع المؤسسات.

وقد تضمنت المادة 7 (الفقرة 3) نصًا يشمل الحقوق الثقافية للمكونات السورية، حيث “تكفل الدولة التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته، والحقوق الثقافية واللغوية لجميع السوريين”، إضافة إلى المادة 10 التي تحظر التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس، وهو ما يتماشى مع المعايير الدولية لحماية المجتمعات ذات الروابط اللغوية والثقافية المتميزة. غير أن هذا النص يبقى أقل من مطالب الكرد الأخرى المتعلقة بتسمية سورية واللغة الكردية وموازنة مستقلة وغيرها من مطالب، وقد تم التوصل إلى اتفاق أبرمه كلٌّ من الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، أعلنت خطوطه العامة فقط وكان هذا بمثابة اختراق، ويتوقع وجود عقبات غير سهلة في وضعه قيد التنفيذ.

    مصدر التشريع:

جعل الإعلان الدستوري الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع، ويرى المؤيدون أن هذا حق طبيعي للسنّة الذين يشكلون أكثرية الشعب السوري، وأن الدساتير السورية طالما تضمنت هذا النص، وكانت سورية بخير قبل سلطة البعث، ويعتد المؤيدون للنص بأن دولًا متقدمة ديمقراطية في أوروبا وأمريكا (بولندا – السويد – آيسلندا – اليونان مالطا وبعض دول أمريكا اللاتينية) تنص دساتيرها على نوع من دين الدولة ودين الملك، وتحمل بعض أعلامها رموزًا دينية، ويرى المعارضون أن هذا صحيح، ولكن دساتير هذه الدول لا تنص على أن مصدر تشريعاتها هو من تراث الكنيسة وما جاء به الأولون، بل تشريعهم وضعي بالكامل، وتنص دساتيرهم على فصل الكنيسة عن الدولة وشؤون الناس اليومية، وتترك حرية العبادة وممارسة الطقوس، ولا يوجد فقه ديني مسيحي ليكون هو مصدرًا لتشريعاتهم، إضافة إلى وجود مجتمع قوي مدني وثقافة راسخة لا تسمح للكنيسة بالتدخل في الشؤون المدنية. ويرى المعارضون أيضًا أن هذا النص يدخل مستقبل سورية في متاهة، فالفقه، وعمره 1400 عام، يضم مذاهب متعددة واجتهادات فقهية بمئة اتجاه واتجاه، ثم هي مرتبطة بأزمنة وأمكنة متحولة عبر الزمن، وتختلف جذريًا عن طبيعة عصرنا الأكثر تعقيدًا من تلك العصور بمئات المرات. وأن الحاكم في الفقه الإسلامي (الخليفة، أمير المؤمنين، السلطان، والرئيس حديثًا) هو حاكم مطلق في كل الشؤون ولا يشاركه في السلطة أحد، يشاور من يريد دون إلزام بأخذ رأي أحد، ويحرم معارضة الحاكم والخروج عليه، وقد كان هذا في المجتمعات القديمة غربًا وشرقًا، ولكنه أصبح من مخلفات الماضي في المجتمعات الحديثة، خاصة أن هذا يتعارض مع النص في الإعلان الدستوري على الحريات العامة في التنظيم والتعبير والاعتقاد في المجتمعات الحديثة، والتي تتضمن حكمًا الحق بمعارضة الحاكم.

يرى خبراء أن المسألة ليست في النص بقدر ما هو السياق، فالنص ذاته كان موجودًا في دستور 1950 ودستور 1973 ودستور 2012، ومع ذلك لم تتقيد السلطات الحاكمة منذ 1950 بالفقه الإسلامي إلا في قانون الأحوال المدنية، وكانت تنهج نهجًا وضعيًا في صياغة التشريعات والقوانين الأخرى، عدا قوانين الأحوال الشخصية، ويتخوف المعارضون اليوم من أن القوى الممسكة بالسلطة هذه المرة ذات مرجعية سلفية جهادية في الأصل، وإن مالوا إلى اللين الآن، وثمة خوف وقلق من أن يباشروا بعد تمكنهم بفرض التشدد، وقد بدأت بعض الممارسات والدعوات المتشددة تبرز هنا وهناك، على نحو يختلف عما تعوده معظم السوريين، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، ويخشى البعض أن يزداد التشدد وتغيب المرونة الحالية التي يبديها هؤلاء العناصر. وبالتالي سيصبح هذا النص قيدًا يعتد به المتشددون على كافة التشريعات والقوانين، وقيدًا على الحياة المعاصرة. وقد اقترح أحد الخبراء في شؤون الدين والفقه، أن الأجدى، ضمن السياقات الحالية، النص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيس للتشريع”.

    دين الدولة ودين رئيس الدولة:

مسألة دين الدولة ورئيسها واحدة من النقاط ذات الحساسية، لاعتبارات واصطفافات مذهبية ودينية، وقد تجنب الإعلان النص على دين الدولة، ولكنه نص على أن دين رئيس الدولة الإسلام، وقد نظر المؤيدون لهذا النص على أنه نص يمثل هوية الأكثرية “السنّة”، وهو أمرٌ منطقي، ويرى المعارضون أن الأكثرية والأقلية هي أكثرية سياسية، ولا يوجد من يمثل أي مكوّن برمته، فثمة تباينات واختلاف في المصالح والتوجهات ضمن كل مكون، وتشترك مجموعات من مختلف المكونات في توجهاتها وفي شكل سورية المستقبلية التي تريدها، وأن الدين ليس المحدد الرئيس للهوية، فثمة قيم وعادات وتقاليد ومصالح مشتركة تشترك فيها مجموعات من مختلف المكونات يفرضها العيش المشترك، وأن النص على دين رئيس الدولة يخرق مبدأ المواطنة والمساواة بين السوريين، والتي نصّ عليها الإعلان ذاته، حيث تنص المادة 10 على أن المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب. ويتعارض مع أسس الدولة العصرية التي تساوي بين مواطنيها.

لكن يبدو أن من الصعب عدم النص على دين رئيس الدولة الإسلام، ليس فقط لأن اللجنة التي تم تشكيلها يتبنى أفرادها هذه القناعة، والسلطة الحاكمة ذات أيديولوجيا إسلام سياسي، بل لأن هذه القضية كانت على نحو ما حاضرة في الجدال الدائر في سورية منذ دستور الاستقلال 1950، ثم الصراع الذي دار إثر نشر مسودة دستور 1973، عندما لم تتضمن دين رئيس الدولة “الإسلام” والاحتجاجات العنيفة التي جرت في عدة مدن سورية، وخاصة في حماة.

    السلطة التشريعية:

نصّت المواد 24 حتى 30 على إقامة السلطة التشريعية في المرحلة الانتقالية، وقبل صدور الإعلان الدستوري، نصّت الوثائق والتصريحات على تشكيل مجلس تشريعي، وليس مجلس شعب، وهي التسمية الأقرب إلى كونه معيّنًا وليس منتخبًا، وانتقد خبراء ضعف استقلالية السلطة التشريعية، نتيجة التدخل الرئاسي المباشر في تشكيله، حيث لا يتم انتخاب أعضائه بالكامل، إذ يمنح الإعلان الدستوري رئيس الجمهورية صلاحية تعيين ثلث أعضائه مباشرة، بموجب المادة 24، ويتم اختيار الثلثين الآخرين عبر “هيئات فرعية ناخبة”، تعيّنها لجنة عليا يشكلها رئيس الجمهورية، ولم يحدد الإعلان آلية واضحة لانتخاب هذين الثلثين، مما يفتح المجال أمام التلاعب السياسي في تشكيل المجلس، ويمنح الرئيس نفوذًا واسعًا على قراراته، سواء عبر تعيين أعضائه أو التأثير في الهيئات الناخبة. ونتيجة لذلك، تصبح السلطة التشريعية خاضعة لتوجيهات رئيس الدولة، الذي يعيّن ثلث الأعضاء مباشرة، ويتحكم في اختيار الثلثين الآخرين بشكل غير مباشر، مما يقوض استقلاليتها بشكل واضح. علاوة على ذلك، فإن اللجنة المكلفة باختيار أعضاء مجلس الشعب تبدو غير محددة المعالم في نص الإعلان، إذ لم يتم توضيح كيفية تشكيلها أو المعايير التي ستعتمدها في اختيار الأعضاء. ويثير ذلك مخاوف من أن تكون هذه اللجنة شبيهة باللجنة التي أشرفت على اختيار أعضاء مؤتمر الحوار الوطني، خصوصًا أن لها دورًا حاسمًا في تحديد تركيبة مجلس الشعب، وهو المجلس الذي سيتولى عملية التشريع خلال المرحلة الانتقالية، ومن ضمن ذلك إقرار القوانين المتعلقة بالانتقال السياسي وتأمين مساره.

منح الإعلان (مادة 39) رئيس الجمهوريةحق الاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب، ولا تقر بعدها إلا بموافقة ثلثي مجلس الشعب، ومن المعروف أن هذه الصيغة تمكّن الرئيس من إعاقة إصدار أي قانون لا يوافق هو عليه. فعادة ما يكون مجلس الشعب مواليًا، ولا سيما أن مجلس الشعب الانتقالي تشكله لجنة يسميها الرئيس.

وعلى الرغم من أن المرحلة الانتقالية هي خمس سنوات، فقد حددت المادة 26 مدة ولاية مجلس الشعب، وجعلتها ثلاثين شهرًا قابلة للتجديد، وهذا يعطي قدرة للرئيس أن يعيد تشكيل مجلس الشعب الانتقالي كل سنة ونصف مرة واحدة، مما يتيح له تعديل تركيب المجلس وإضعاف قوته، لأنه يعني أن الأعضاء المعارضين أو أصحاب الصوت المرتفع لن يجدد لهم. وحددت المادة 30 مهام مجلس الشعب المؤقت وصلاحياته، ولكنها حجبت عنه الحق في محاسبة الوزراء أو أي مؤسسة حكومية، مما يضعف سلطته الرقابية وهي من أسس مهام مجس الشعب.

    السلطة التنفيذية:

أناط الإعلان الدستوري السلطة التنفيذية بالرئيس والوزراء (مادة 31)، وقيدها بالحدود المنصوص عليها في هذا الإعلان، ولم يقل مجلس الوزراء، وحددت المادة 42 مهام السلطة التنفيذية. ومنح الإعلان الرئيس سلطة تعيين الوزراء (المادة 35)، ونصّت المادة ذاتها على أن رئيس الجمهورية يتولى تسمية رئيس مجلس الوزراء، وقد حسم هذا الجدل الذي دار حول وجود رئيس للوزراء، وفق النمط الفرنسي، عن حالة عدم وجود رئيس وزراء على النمط الأميركي أو التركي.

كما منح الإعلان الرئيسَ موقع القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، والمسؤول عن إدارة شؤون البلاد ووحدة أراضيها وسلامتها، ورعاية مصالح الشعب (المادة 31)، كما منح الرئيس سلطة إعلان التعبئة العامة والحرب وإعلان حالة الطوارئ، بعد موافقة مجلس الأمن القومي (المادة 41)، ولكن لم ينص الإعلان على كيفية تشكيل مجلس الأمن القومي وقوامه ومهامه، أي إنها متروكة للرئيس. وكان من اللافت تقييد إعلان حالة الطوارئ التي أبقاها بيد الرئيس، ولكنه قيدها بثلاثة أشهر كحد أقصى، ولا تمدد لمرة ثانية إلا بعد موافقة مجلس الشعب. ويأتي هذا بعد حالة سورية السابقة الفريدة في العالم، إذ أعلنت حالة الطوارئ صبيحة الثامن من آذار 1963، ولم يعلن وقفها حتى العام 2012. ومنح الإعلان الرئيس سلطة إصدار القوانين واللوائح (المادة 36)، وسلطة تمثيل الدولة وتوقيع المعاهدات مع الخارج (المادة 37). وأبقى تصديق المعاهدات الدولية بيد مجلس الشعب (المادة 31). ومنحه سلطة تعيين البعثات الدبلوماسية، وصلاحية إصدار العفو الخاص، ولم يمنحه صلاحية إصدار العفو العام، ولم يبين الإعلان الجهة التي تملك صلاحية إصدار العفو العام.

    السلطة القضائية:

نصّ الإعلان على أن القضاء يتكون من القضاء العادي والقضاء الإداري (المادة 45)، وأخضع القضاء العسكري لسلطة مجلس القضاء الأعلى (المادة 45)، ولم يعد تابعًا لوزارة الدفاع، مما يمثل خطوة نحو استقلال القضاء، وقد كانت صلاحياته في عهد الأسد سلطة تشمل المدنيين في قضايا مدنية لا علاقة لها بالعسكر. وكان من اللافت حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية سيئة السمعة، التي عانى منها السوريون على مدى عقود (المادة 44)، بحيث يصبح القضاء العادي الجهة الوحيدة المخولة بالنظر في القضايا. وعلى الرغم من أن الإعلان نص على استقلال القضاء (المادة 43)، وأن المجس الأعلى للقضاء يضمن حسن سير القضاء واحترام استقلاله (المادة 43)، فإن استقلالية السلطة القضائية تعد ضعيفة، لأن القضاء يعاني غياب استقلالية صريحة وقوية، حيث لم يحدد الإعلان الدستوري من يترأس مجلس القضاء الأعلى، مما يفتح الباب أمام احتمال هيمنة رئيس الجمهورية عليه، كما لم يتضمن الإعلان أي ضمانات لمنع التدخلات التنفيذية في الأحكام القضائية، مما يجعل القضاء عرضة للتأثير السياسي، ويقوض دوره كسلطة مستقلة. إضافةً إلى ذلك، منحت المادة 47 رئيس الجمهورية سلطة تعيين جميع أعضاء المحكمة الدستورية العليا، البالغ عددهم سبعة، على الرغم من أن الاختصاص الرئيسي لهذه المحكمة هو الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، مما يثير مخاوف جدية بشأن مدى استقلالية قراراتها. ولم يحدد الإعلان الدستوري صلاحيات المحكمة الدستورية العليا وآليات عملها، وقد يُقال إن هذه التفاصيل ستُترك لتنظيمها عبر القانون، إلا أن ذلك يطرح إشكاليات كبرى، لأن آلية ممارسة المحكمة لدورها في الرقابة على دستورية القوانين يجب أن تُحسم ضمن الإعلان الدستوري نفسه، لا أن تُترك لقانون قد يكون خاضعًا لتوجهات السلطة التنفيذية. كذلك، غاب عن الإعلان الدستوري تحديد الجهة التي ستصدر الأحكام القضائية باسمها، وهو أمرٌ بالغ الأهمية، إذ إن العُرف الدستوري في الجمهوريات ينصّ على أن الأحكام تصدر “باسم الشعب”، باعتباره صاحب السيادة، وفي الأنظمة الملكية تصدر باسم الملك، بصفته صاحب السيادة. وإن ترك هذا الأمر دون تحديد يثير تساؤلات حول مصدر الشرعية السيادية في الدولة، ويرى البعض أنها ربما بتأثيرات النهج السلفي الذي يتجنب النص على أن “السلطة للشعب، وأن الشعب مصدر السلطات”، وتستخدم التوجّهات السلفية عبارات مثل “السلطة لله” أو “الحاكمية لله”، بما يعني اللجوء إلى الأحكام الدينية والشريعة والفقه في كل صغيرة وكبيرة.

“القضاء ومؤسسة القضاء” هي مقياس انتظام المجتمعات الحديثة، ويشير وضع القضاء والمؤسسة القضائية ومدى رسوخها ونزاهتها وفاعليتها واستقلاليتها إلى نوعية الحياة. وأهم مؤشرات وجود قضاء عادل وكفء ونزيه هو رسوخ ثقافة التقاضي واللجوء إلى القضاء بين الناس، وثقة الفرد أنه سينال حقوقه بعدل، وهذا يعني وجود قوانين وضعية شاملة وواضحة وشفافة، وقضاء كفء ونزيه، وقضاة مستقلين عن أي تدخل من سلطات تنفيذية، وخضوع جميع مؤسسات الدولة للقضاء حتى مؤسستي الشرطة والأمن، وعدم قدرة أي مسؤول أن يحتمي بسلطته أو أن يحتمي رجل ثري بماله من أحكام القضاء العادل، فلا سلطة فوق سلطة القضاء، وأن تكون تكاليف التقاضي في متناول كل مواطن، مهما كان دخله محدودًا.

11 العدالة الانتقالية:

يمثل إدراج نص في الإعلان الدستوري عن العدالة الانتقالية، في المادتين 48 و 49، أهمية كبيرة، حيث أظهرت تجربة الشهور الثلاث الماضية مخاطر التأخير في إحداث هيئة العدالة الانتقالية، وإصدار قانون ينظمها ويحدد مدتها وأسس الاتهام والمحاسبة، فقد راكمت الحرب السورية جبالًا من الرغبة في الثأر والانتقام، ردًا على ما قام به النظام وحلفاؤه من مجازر وقتل ودمار، ومن دون إحداث الهيئة وإصدار قانون ينظمها وإجراءات واضحة، والبدء بتنفيذ محاكمات بحق المجرمين الحقيقيين، بما يسهم في اجتثاث الرغبة في الانتقام، فإن الفوضى ستكون البديل، وهذا ما شهدناه على نطاق غير ضيق خلال الفترة السابقة، مما ترك آثارًا سلبية على استعادة السلم الأهلي. لذا من الأهمية بمكان الإسراع في إصدار قانون للعدالة الانتقالية وتشكيل هيئتها والبدء بالتنفيذ وضبط التجاوزات ومحاسبة مرتكبيها. وقد كان من الأهمية بمكان أن تنص المادة 48 على إلغاء القوانين الاستثنائية ومحاكم الإرهاب، وإلغاء الإجراءات الأمنية الاستثنائية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية. لكن النص لم يضمن استقلالية تامة للهيئة، ولم يوضّح مدى قدرتها على الاستعانة بالمحكمة الجنائية الدولية والمنظمات الأممية ذات الخبرة لضمان حياديتها ودقة توثيقها.

ويجب أن تكون العدالة الانتقالية شاملة وتحاسب كل من تنطبق عليه شروط ارتكاب جرائم، بغض النظر عن أي طرف من أطراف الحرب. فإن نص الفقرة 2 من المادة 49 قد جاء ضد “النظام” فقط، والنظام سقط، ويجب أن تشمل المحاسبة أفرادًا محددين بأسمائهم. وعلى الرغم من وجاهة النص على محاسبة كل من يمجد جرائم النظام البائد ويبررها ورموزه أو ينكر جرائمه (فقرة 3 من المادة 49)، فإن هناك خشية من التعسف في تطبيق هذا النص، كأن يسحب على الفترات السابقة لسقوط النظام. ولا سيما أن الفقرة 2 قد أشارت صراحة إلى استثناء جرائم النظام البائد من مبدأ عدم رجعية القوانين، بما يعني إصدار قانون بخصوص هذه الجرائم ليطبق بأثر رجعي، متجاهلًا الجرائم التي ارتكبها آخرون، ولم ينص الإعلان على الجرائم التي قد تُرتكب لاحقًا بعد سقوط النظام.

12 الحقوق والحريات العامة:

كان من الجيد أن ينصّ الإعلان في عدة مواد على موضوعات الحقوق والحريات، فقد نصت (المادة 3) على أن حرية الاعتقاد مصونة، وأن الدولة تحترم جميع الأديان السماوية، وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها، ولكن تبعها نصّ “على ألا يُخلّ ذلك بالنظام العام”، وهذا يترك مجالًا واسعًا للتعسف في التطبيق، كما نصت (المادة 12) على أن الدولة تصون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتكفل حقوق المواطن وحرياته، ونصت على أن جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية تعدّ جزءًا لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري. ومن جهة أخرى، نصت المادة 48 على إلغاء جميع القوانين الاستثنائية التي ألحقت ضررًا بالشعب السوري وتتعارض مع حقوق الإنسان. ونصّت (المادة 13) على أن الدولة تكفل حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة، وهي تصون حرمة الحياة الخاصة، وكل اعتداء عليها يعدّ جرمًا يعاقب عليه القانون. ونصت على حرية المواطن في التنقل، ولا يجوز إبعاد المواطن عن وطنه أو منعه من العودة إليه. ونصّت (المادة 14) على أن الدولة تصون حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقًا لقانون جديد، بما يعني أن تراخيص الأحزاب السابقة تعد لاغية. وتضمن الدولة عمل الجمعيات والنقابات. ونصت (المادة 18) على أن الدولة تصون كرامة الإنسان وحرمة الجسد، وتمنع الاختفاء القسري والتعذيب المادي والمعنوي، وأن جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم، كما نصّت على عدم جواز إيقاف أي شخص أو الاحتفاظ به أو تقييد حريته إلا بقرار قضائي، باستثناء حالة الجرم المشهود. ونصّت (المادة 19) على أن المساكن مصونة، لا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا في الأحوال المبينة في القانون. وهنا يخشى أن يتساهل القانون في حالات تفتيش البيوت أو أن يتم تجاوز القانون من قبل الأجهزة الأمنية المولعة بتفتيش أي شيء.

وحول حقوق المرأة، نصّت (المادة 21) على أن الدولة تحفظ المكانة الاجتماعية للمرأة، وتصون كرامتها ودورها داخل الأسرة والمجتمع، وتكفل حقّها في التعليم والعمل. وتكفل حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتحميها من جميع أشكال القهر والظلم والعنف. ولكن هذا النص تجنب استعمال كلمة “مساواة”، ونصت المادة 22 على أن الدولة تعمل على حماية الأطفال من الاستغلال وسوء المعاملة، وتكفل حقهم في التعليم والرعاية الصحية.

ويبقى المعيار هو إصدار قوانين تترجم هذه الحقوق والحريات، وتنظّم الحياة السياسية وتشكيل الأحزاب وحرية نشاطاتها في أرض الواقع، خلال فترة قصيرة قادمة، وحرية تشكيل النقابات والجمعيات وحرية نشاطها، وقوانين تنظيم حريات التعبير بشتى أشكاله المقروءة والمسموعة والمشاهدة.

وكان من اللافت، بعد كل هذه النصوص الجيدة التي نصّت على الحقوق والحريات، أن تأتي المادة (23) وإضافة إلى تقييد جميع هذه الحقوق والحريات بإخضاعها لنصوص قانونية تصدر فيما بعد، لتنصّ سلفًا على جواز إخضاعها -هذه الحقوق- للضوابط والتدابير، بذريعة “ضرورات الأمن الوطني أو سلامة الأراضي أو السلامة العامة أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو لحماية الصحة أو الآداب العامة”. وقد خبر السوريون طويلًا استخدام ذرائع الأمن الوطني لتقييد الحريات والحقوق. ومن ثم يخشون أن الإعلان قد يأخذ باليد اليمنى ما منحه من حقوق وحريات باليد اليسرى. وقد بات السوريون يشاهدون اليوم مجموعات صغيرة تجوب الشوارع أو المؤسسات أحيانًا، تعترض على مظاهر السوريين وسلوكهم في حياتهم اليومية بذرائع دينية متشددة.

13- بناء جيش وطني:

نصت الفقرة 9 من المادة 42 على بناء جيش وطني احترافي، ويفهم من هذه الصيغة “التطوع وعدم وجود خدمة إلزامية”، وجاء هذا النص انسجامًا مع قرار كانت سلطة الأمر الواقع قد اتخذته بحل الجيش الوطني، وإلغاء الخدمة الإلزامية. ويتعارض هذا التوجه مع التوجهات السورية منذ بداية الاستقلال 1946، ويعتقد الخبراء أن وجود خدمة إلزامية له ضرورات وله آثار إيجابية كثيرة، ستخسرها البلاد في حال إلغائها. فالخدمة الإلزامية في جيش وطني تنمّي الروح الوطنية السورية الواحدة، وتسهم في تعريف أبناء سورية على بعضهم على نحو أفضل وأعمق، وتعزز التعايش، وتُكسب المجنّدين مهارات إضافية.

14- المرحلة الانتقالية:

حددت المادة 52 مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات ميلادية، ونصت على أن تبدأ من تاريخ نفاذ هذا الإعلان الدستوري، من دون أن تنص على أنها غير قابلة للتمديد، بل نصت على أن الفترة الانتقالية تنتهي بعد إقرار دستور دائم للبلاد وتنظيم انتخابات وفقًا له، ففي حال عدم إقرار دستور وإجراء انتخابات وفقًا له، فإن الفترة الانتقالية ستمدد حكمًا لأجل غير مسمى. ولم يُحدد الإعلان آلية واضحة لصياغة الدستور الدائم، وكيفية تشكيل اللجنة الدستورية التي ستضع الدستور الدائم، هل ستُنتخب أم تُعيّن، ولم يوضح آلية إقرار الدستور: أستكون باستفتاء شعبي أم ستُقرّ عبر البرلمان الانتقالي، وترك الإعلان مستقبل الدستور غامضًا، مما قد يؤدي إلى خلافات سياسية تؤخر الانتقال الديمقراطي الذي لم ينص عليه الإعلان.

خاتمة:

تأتي أهميّة الإعلان الدستوري، في المراحل الانتقالية التي تلي الحروب الداخلية، من أنه يحدد الاتجاه الذي ستسير نحوه البلاد في المرحلة التالية للمرحلة الانتقالية، وهو يضع قواعد بناء الدولة الجديدة، ويكتسب النص القانوني بالمجمل أهميّة كبيرة جدًا في الدول الديمقراطية، ولدى الشعوب التي تملك ثقافة ديمقراطية عميقة، لأنه يُعدّ المحدد الفعلي والمرجع الأساس، في حين إنه يكون ذا دور ضعيف في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية، ولدى الشعوب التي لا تتمتع بثقافة وتقاليد ديمقراطية، حيث تستطيع السلطة التنفيذية المتغولة أن تضرب بالنصوص عرض الحائط، سواء من خلال القوانين التي ستصدر، أو من خلال الممارسة، مهما كانت النصوص جيدة ومحددة ومقيدة للسلطة التنفيذية، ولنا في سورية أمثلة مؤلمة خلال نظام الأسد.

بدا من الواضح أن الفلسفة التي وقفت وراء صياغة البيان تهدف إلى تقديم بيان يحظى بقبول لدى أوسع فئات الشعب السوري، وأن يكون قريبًا في نصوصه ومصطلحاته من معايير الدولة العصرية قدر الإمكان، على ألا يثير في الوقت ذاته نقمة قواعد هيئة تحرير الشام وحلفائها، بمرجعياتهم الدينية التي تقوم على أسس ما زالت تقليدية لا تتفق مع مناخات الحريات العامة وقيم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان والبناء الديمقراطي الحديث للدولة العصرية عمومًا، فجاء الإعلان بهذه الصيغة، وهي الفلسفة التي قام عليها بيان ما سُمّي بمؤتمر الحوار الوطني، ومجمل التصريحات الشفوية والمقابلات الإعلامية، التي تختلف عن الممارسة الفعلية التي تقوم على ما يسمّى “سياسة الانسجام”.

وبحسب مراقبين، كان يمكن للإعلان الدستوري أن يعزز الاستقرار واستعادة الأمن وتحقيق وحدة البلاد، والمصالحة الوطنية، وأن يُعزز ثقة الشعب بالسلطة الجديدة والعهد الجديد، وأن يخلق الثقة بين مكونات المجتمع، ويعالج المشكلات الكبرى التي خلفتها الحرب، وينزع فتيل الانتقام، ويعيد بناء المؤسسات والسير بسلام خلال المرحلة الانتقالية، تحضيرًا للمرحلة الدائمة وتهيئة الأجواء لوضع دستور دائم، وإجراء انتخابات تنهي المرحلة الانتقالية، وتضع البلاد على سكة السلامة والازدهار. وهذا ما يمكن استدراكه من خلال الممارسة.

ويذهب بعض المنتقدين إلى مدى أبعد، إذ يرون أن الإعلان يفتقر إلى ضمانات كافية تحول دون تحوله إلى أداة لترسيخ سلطة استبدادية جديدة، بدلًا من أن يكون نقطة انطلاق نحو الديمقراطية، فهناك مخاوف من أن يؤدي هذا الإعلان إلى مزيدٍ من التعقيد في المشهد السوري، وربما يفتح المجال أمام مرحلة انتقالية غير مستقرة، قد تستمر من دون تحقيق تقدّم حقيقي في المسار الديمقراطي.

تحميل الموضوع

مرجز حرمون

—————————————

الصخب السوري حول الإعلان الدستوري/ ماجد كيالي

يمكن الحديث عن نواقص كثيرة كما عن إيجابيات كثيرة فيه

آخر تحديث 21 مارس 2025

لم يحظ “الإعلان الدستوري” الذي أصدرته القيادة السورية المؤقتة بإجماع السوريين. وهذا أمر بديهي، إذ لا يمكن لأي شعب أن يتوافق على كل شيء، فالتطابق سمة لدول الأنظمة الاستبدادية والشمولية.

بيد أن خصوصية التجربة السورية تحيل الخلافات الحاصلة والصاخبة بين السوريين، ليس فقط إلى خشية بعضهم من إمكان تجيير ذلك الإعلان لتعزيز النواحي السلطوية على حساب غيرها، لشعب خرج للتو من ربقة واحد من أعتى أنظمة الاستبداد، ولا بالنظر للتسرع في صوغ الإعلان، وقبله طريقة تنظيم مؤتمر الحوار الوطني، وإنما لأن السوريين مختلفون، أصلا، على أشياء كثيرة، تبعا لواقعهم وتاريخهم، وكونهم لم يتعودوا على تنظيم اختلافاتهم أو توافقاتهم، وإيجاد مخارج لها بواسطة الحوار والطرق الديمقراطية. وأيضا، لأنهم من الأساس، لم يعتادوا تعريف ذاتهم كشعب، مع الاحترام لشعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”، الذي يبرز، فقط، كهتاف في المظاهرات، من دون تمثلات مناسبة له في الواقع.

    تكمن مشكلة السوريين في أن نظام الأسد (الأب والابن) حرمهم أولا من الدولة التي ابتلعتها السلطة، ومن المواطنة التي تكفل صيرورتهم كشعب

ولعل أكثر أمرين افتقد السوريون لهما، طوال العقود السابقة، هما: الدولة أي دولة المؤسسات والقانون، والمواطنة أي كمكانة سياسية وحقوقية وكعلاقات فيما بينهم وما بينهم وبين الدولة. فالأولى، أي الدولة، هي شرط الديمقراطية. والثانية، أي المواطنة، هي شرط المجتمع المدني وشرط تحول السوريين- الأفراد الذين تتشكل منهم الجماعات- إلى مجتمع أو إلى شعب حقا، لذا فهما أيضا أكثر أمرين يحتاجهما السوريون في هذه المرحلة.

وتكمن مشكلة السوريين في أن نظام الأسد (الأب والابن) حرمهم أولا من الدولة التي ابتلعتها السلطة، ومن المواطنة التي تكفل صيرورتهم كشعب، فاقم منها انتهاجه سياسة “فرق تسد”، ووضع كل جماعة سورية في مواجهة غيرها، زارعا الخوف والكراهية والتنافسية السلبية فيما بينهم. أيضا، فقد حرم السوريين من السياسة، وبالتالي فهم لم يتعودوا على تقاليد المشاركة السياسية، طوال أكثر من نصف قرن، لذا فبعد أن باتوا على مسرح التاريخ، ظهر أن فائضا من الكلام لديهم، لكن من دون خبرات أو تقاليد حزبية، أو تجارب كفاحية. وتاليا فقد فاقم من كل ما تقدم أن السوريين، بعد انهيار النظام، وجدوا أنفسهم إزاء فراغ وانهيار كبيرين، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والمرجعيات، لصالح غلبة هويات أولية، إثنية وطائفية وعشائرية ومناطقية وطبقية، وكلها على حساب الهوية الوطنية.

ربما كل ذلك يفسر أن ردود الفعل ذات الطابع الشعبي على الإعلان أتت بأحكام متسرعة ومطلقة وبتحيزات مسبقة، مع توجسات مشروعة، بغض النظر عن الموقف من الإعلان سلبا أو إيجابا، تأييدا مطلقا أو رفضا مطلقا.

طبعا، يمكن الحديث عن سلبيات أو نواقص كثيرة في الإعلان الدستوري، كما يمكن الحديث عن إيجابيات كثيرة فيه، بيد أن ما يجب إدراكه، أن الأمر يتعلق بإعلان دستوري مؤقت، بمعنى أن التفاعلات القادمة بين السوريين أنفسهم، وبينهم وبين الحكم الجديد، هي التي ستحدد طبيعة الدستور القادم ومعه طبيعة الحكم.

ما يفترض إدراكه أيضا أنه ليس من الواقعي انتظار تحول سوريا دفعة واحدة من دولة استبدادية إلى دولة ديمقراطية وحريات ومواطنين. فهذا هو الأمل، بيد أن ذلك يستلزم ترسيخ ثقافة الديمقراطية والمواطنة والحريات وحقوق الإنسان في المجتمع، أي ثقافة تتأسس على إتاحة حرية الرأي والتعبير والتظاهر، وحرية الأحزاب والإعلام، وهذه كلها مفتقدة في الواقع السوري، منذ ستة عقود، عدا أن الدولة ذاتها ما زالت مفتقدة فيه.

كل ما تقدم ليس له علاقة بالحكم الجديد، أين أخطأ أو أين أصاب؟ فهذا شأن آخر، لكن الحديث هنا يتعلق بالواقع المتعين في سوريا، حتى لا يبقى الكلام وقفا على وصفات إنشائية جاهزة، على شكل “روشيتات” نظرية، تنفع لأي مكان وزمان.

مثلا، ربما كان الأفضل للدستور لو نص على أن “السيادة هي للشعب” وأن “الدستور هو السلطة العليا، ولا سلطة لأحد فوقه”، وهذا مهم في دساتير النظم الجمهورية بدلالته السياسية. كما كان من المهم الإشارة ليس فقط إلى استقلالية السلطات الثلاث، وإنما النص على عدم هيمنة سلطة على أخرى، وأيضا أن النظام السياسي في سوريا ديمقراطي، وعلى أساس التداول بواسطة الانتخابات، وكذلك عدم تقييد حق ما بإجراءات سلطوية، تبعا لرغبة السلطة التنفيذية، لأن الدستور والقوانين، هي التي تنظم تلك المسائل.

مع ذلك ينبغي الأخذ بالاعتبار أن البلد يقوم من نقطة الصفر، أو ما دونه، سواء بالنسبة لقيامة الدولة، أو لقيام المواطنة/المجتمع؛ هذا أولا. ثانيا: ما يفترض ملاحظته هنا أن المسألة لا تتعلق بالنص فقط، وإنما بطبيعة السلطة، وتوجهاتها. مثلا نظام “الأسد” (الاب والابن)، قام على مبادئ “الوحدة والحرية والاشتراكية” ومقاومة إسرائيل والإمبريالية، وأن فلسطين قضيته المركزية، لكنه جعل من كل ذلك “عدة شغل”، أي للنصب والابتزاز والتسلط. وهذا دستور نظام “الأسدين” (1973-2012)، نص على أن “الجمهورية العربية السورية” دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية (م1)، وأن “السيادة للشعب” (م2) وأن مجالس الشعب مؤسسات منتخبة انتخابا ديمقراطيا يمارس المواطنون من خلالها حقوقهم في إدارة الدولة وقيادة المجتمع (م10). ونص في المادة (25) على أن الحرية حق مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم… المواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. وفي المادة (28) بأن كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي… ولا يجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقا للقانون… لا يجوز تعذيب أحد جسديا أو معنويا أو معاملته معاملة مهينة”، لكن ذلك النظام دمر حياة الشعب السوري ودمر سوريا.

أيضا، فإن مشكلة السوريين في نقاشاتهم حول الإعلان، أنهم يبدون كأنهم يقفون في خندقين متقابلين، الموافقون ضد المعترضين وبالعكس، ومن ليس معنا ضدنا، إما وطني أو عميل، وهذا غير صحي البتة، وهذا ضد مبدأ الحرية الذي ضحى من أجله السوريون، وضد مبدأ الديمقراطية، وبخاصة أن كل طرف يدعي أنه يمثل الشعب أو أنه كل الشعب!

المجلة

———————————

سوريا إلى أين؟/ بكر صدقي

تحديث 21 أذار 2025

من واكب التطورات السياسية في سوريا ما بعد نظام الأسد لا يخفى عليه تخبط المجموعة الحاكمة الجديدة أمام التحديات الهائلة التي خلّفها النظام المخلوع. بات وراءنا الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم تسجل خلالها الإدارة الجديدة أي تقدم في أهم الملفات كالأمن والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي وتفكيك الفصائل المسلحة وتوحيد الجغرافيا السورية والمجتمع السوري.

لقد انبهرت هذه السلطة بسرعة توليها السلطة في اثني عشر يوماً، وبالقبول العربي والإقليمي والدولي الواسع والسريع بها، كما بقبول غالبية اجتماعية قام قبولها على الالتفاف حول الإنجاز الكبير المتمثل في إسقاط النظام. وفي حين تدين السلطة لسرعة إسقاط النظام بظرف إقليمي استثنائي هو ارتدادات عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها الكارثية، قام القبول العربي ـ الإقليمي ـ الدولي على رغبة الدول المعنية باستعادة الاستقرار الذي طال غيابه 14 عاماً وتسبب بتداعيات خطيرة وصلت آثارها إليها، كمشكلات الإرهاب وتدفق اللاجئين والمخدرات والأعباء الاقتصادية المرتبطة بها. أما القبول السوري العام فكان أساسه الفرح العارم بسقوط النظام وما عناه ذلك من انفتاح الأفق أمام تأسيس جديد يقطع مع الماضي الكارثي، إضافة إلى الأداء المقبول لهيئة تحرير الشام وحلفائها أثناء عملية «ردع العدوان» وبخاصة في مناطق حساسة كحلب ودمشق وجبال الساحل، حيث لم تشهد المعركة عمليات انتقامية واسعة النطاق أو أعمال عنف على أساس طائفي أو تضييقاً واسع النطاق على الحريات العامة والخاصة.

غير أن كل ذلك راح ينقلب إلى تراجع في شعبية الفريق الحاكم بمرور الأيام، بدءاً بمسرحية «مؤتمر الحوار الوطني» الهزلية وصولاً إلى المجازر الطائفية في الساحل مع الأسبوع الأول من شهر آذار الجاري، وأخيراً إصدار الإعلان الدستوري الذي لاقى انتقادات واسعة، فطغى على المشهد السياسي غياب الثقة بين قطاعات واسعة من المجتمع لا تقتصر على العلويين أو الأقليات، مقابل ارتفاع منسوب العدوانية اللفظية لدى مؤيدي السلطة الجديدة في مواجهة أي نقد لمسالكها حتى فيما اعترفت بها هي نفسها وشكلت «لجنة تقصي حقائق» بشأنها. مجمل القول هو أن الرصيد الكبير (المشروط) الذي حصلت عليه السلطة الجديدة في الداخل والخارج آخذ في التآكل كل يوم مع تراجع الآمال التي عقدت على التحول الكبير الذي تمت المراهنة عليه.

لن أدخل في تفاصيل نقد الإعلان الدستوري الذي قام به كثر وشمل مختلف مفرداته، ولكن من الطريف الإشارة إلى بند يتعلق برئاسة الجمهورية حيث ورد فيه شرط يتعلق بدين رئيس الجمهورية من غير أي إشارة إلى جنسيته، ربما لأن اللجنة الدستورية التي عينها الشرع لم تخطر ببالها هذه الثغرة الخطيرة حتى لو تعلقت باحتمال قريب من الصفر. فوفقاً لهذا الشرط يمكن لأي مسلم أن يشغل منصب رئاسة الجمهورية حتى لو كان غير سوري الجنسية، مع العلم أن هيئة تحرير الشام وفصائل جهادية أخرى فيها أعضاء أجانب من جنسيات مختلفة، وبينهم من تم تجنيسهم على عجل وبصورة غير معلنة!

لعل غموض أجندة الفريق الحاكم، وبخاصة قائده أحمد الشرع، في مسائل أساسية كشكل الدولة ونظام الحكم وغيرها، هو ما شجع كثيرين على المراهنة على تغيير لا بد أن يطال برنامجهما الأيديولوجي المعروف القائم على الفكر السلفي والنزعة الطائفية السنية. لكن هذا الغموض لم ينجلِ في الفترة المنصرمة إلا عن أسوأ الكوابيس التي استبعدها السوريون، فتفجر العنف الطائفي واتضحت الميول السلطوية والإقصائية من غير أن يظهر ضوء في نهاية النفق حتى لو كان طويلاً بحكم حجم المشكلات الهائل وضعف وسائل معالجتها.

وعلى رغم هذه المؤشرات المقلقة، يبقى أن السلطة ما زالت ضعيفة وهشة (وهذا بدوره مقلق) وخاضعة لاشتراطات كثيرة أغلبها للأسف خارجي، ستكون مرغمة على التعاطي الإيجابي معها لاستكمال شرعيتها المنقوصة، ولحل مشكلة العقوبات المفروضة على سوريا التي لا تسمح بإطلاق عجلة الاقتصاد، ولا يمكن للسلطة أن تحافظ على ما تبقى لها من شعبية قبل ذلك.

تطفو على السطح، في الحراك الاجتماعي السوري، مشكلة «المكوّنات» التي فشلت السلطة في إدماجها لأنها لم تر في السوريين إلا مكوّنات طائفية وعرقية وثقافية وسعت إلى التحايل عليها بدلاً من معالجتها بروح وطنية. بدا الاتفاق الذي وقعته السلطة مع قسد وكأنه «تاريخي» في أعقاب مأساة أهل الساحل، لكن الإعلان الدستوري بالصورة التي صدر بها قد أضعف من تاريخيته المحتملة، فلا رضيت عنه قسد ولا تيار وازن من دروز السويداء بقيادة الشيخ حكمت الهجري.

لا يمكن للمغمغة بشأن ديمقراطية الدولة وعلمانيتها، وهما شرطان لازمان لقيام دولة في سوريا تمثل جميع مواطنيها، أن تؤسس لهذه الدولة المأمولة، حتى لو تجنب أركان السلطة الكلمتين بذاتهما بحكم الإيديولوجيا التي تحكم تفكيرهم. ما لم تمض السلطة في هذا الاتجاه، ولو بخطوات بطيئة، نخشى سيناريوهات كارثية كتقسيم البلاد أو الحكم بالعنف المعمم مع شعبوية قاتلة. ويحتاج الفريق الحاكم إلى تحالف عريض مع فئات اجتماعية واسعة ليتمكن من تأسيس شرعيته. في حين أن الاستفراد بالسلطة والعجز عن تفكيك الجماعات المسلحة وتوحيد مناطق البلاد هو السائد إلى الآن. سوريا ليست بخير.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

تداول آراء” في أولى جولات التفاوض بين دمشق و”قسد”/ محمد أمين

21 مارس 2025

بدأت جولات تفاوض بين الحكومة السورية من جهة، و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) من جهة ثانية، من أجل تنفيذ مضامين اتفاق وُقّع أخيراً بين الطرفين في دمشق، بهدف دمج هذه القوات في المنظومة العسكرية للبلاد، واستعادة الدولة السيطرة على الشمال الشرقي من سورية. فقد عُقدت أولى جولات التفاوض، أمس الأول الأربعاء، بحضور قائد “قسد” مظلوم عبدي، ومسؤولين أميركيين، في القاعدة العسكرية بمدينة الشدادي بريف الحسكة. وبحسب مصادر مطلعة، عقدت ثلاث جلسات خلال الجولة الأولى من مفاوضات دمشق و”قسد” منها جلسة بين الوفد الحكومي وفريق أميركي، من دون مشاركة ممثلين عن “قسد”. وأشارت المصادر نفسها إلى أن الفريق الأميركي ذكر لوفد الحكومة السورية أنهم متعاونون (الجانب الأميركي) بأعلى المستويات لإحلال السلام على الأراضي السورية، وطالب الوفد “قسد” بتعزيز العلاقات مع الحكومة السورية.

من جهته أوضح رئيس اللجنة الحكومية المكلّفة بالتفاوض، حسين السلامة، في تصريحات لـ”تلفزيون سوريا”، مساء أمس الأول، أن “النقاش جرى من منطلق المسؤولية الوطنية، وبإرادة مشتركة تهدف إلى وحدة الأراضي السورية وتشمل جميع المكونات من دون إقصاء أحد”. وأضاف: “اتفقنا خلال الاجتماع الأولى على تشكيل لجان عمل متناظرة تخصصية، ستبدأ عملها بداية شهر إبريل/نيسان المقبل”، موضحاً أن عملها سينحصر على “تقريب وجهات النظر وإعداد خريطة طريق لتوحيد الأراضي السورية”.

في السياق، ذكرت “قسد” في بيان، أمس الأول، أنه “جرى تداول للآراء خلال الاجتماع”، مشيرة إلى أنه تم التطرق خلال الاجتماع للإعلان الدستوري (وقّعه الرئيس السوري أحمد الشرع يوم 13 مارس/ آذار الحالي) والحاجة لعدم إقصاء أي مكون سوري من لعب دوره والمشاركة في رسم مستقبل سورية وكتابة دستور”. وكان الرئيس السوري أحمد الشرع، قد وقّع في دمشق يوم 10 مارس/ آذار الحالي، اتفاقاً مع قائد “قسد”، مظلوم عبدي، نصّ على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم، وعلى وقف إطلاق النار في كافة الأراضي السورية. كما أكد الاتفاق أن “المجتمع الكردي أصيل في الدولة وحقه مضمون في المواطنة والدستور”. ونص على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية شمال شرقي سورية التابعة لـ”قسد”، ضمن إدارة الدولة السورية.

الرفض الكردي للإعلان الدستوري يخيّم على اتفاق “قسد” ودمشق

نزع هذا الاتفاق مع “قسد” فتيل توتر على الساحة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وقطع الطريق أمام صدام عسكري كان يخشى منه السوريون لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية، الغني بالثروتين الزراعية والنفطية. تعاطت الإدارة الجديدة في سورية مع ملف الشمال الشرقي بالكثير من “الهدوء” لتجنيب البلاد دورة عنف جديدة يمكن أن تجر البلاد إلى صدام واسع النطاق على أساس عرقي. واتفق الطرفان، أي الرئاسة السورية وقوات قسد، على الخطوط العريضة، والمبادئ العامة للاتفاق، إلا أن هناك الكثير من التفاصيل التي ربما ستتطلب جولات كثيرة من التفاوض لحسمها، خصوصاً لجهة الوضع النهائي لقوات قسد التي تطالب بدخول الجيش السوري كتلةً واحدة وبقائها الجهة المسيطرة على الشمال الشرقي من سورية.

ملف المقاتلين الأجانب

في المقابل، تصر الإدارة السورية على دخول إفرادي لعناصر هذه القوات التي تسيطر عليها “وحدات حماية الشعب” الكردية، والتي يُنظر إليها على أنها الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، والذي ما تزال كوادره تتحكم بالكثير من مفاصل القرار في شمال شرقي سورية. وربما سيكون ملف المقاتلين الأجانب في صفوف “قسد” والمنتمين إلى “العمال الكردستاني”، معضلة أمام إنجاز اتفاق نهائي بين دمشق و”قسد”. فقد أكد قياديون في تلك القوات، بمن فيهم مظلوم عبدي، أن هؤلاء المقاتلين سيغادرون سورية في حال إتمام الاتفاق مع دمشق. ولا معلومات وإحصائيات يمكن الركون إليها عن عدد المسلحين الأجانب في صفوف “قسد”، إلا أن تقارير إعلامية تتحدث عن ثلاثة آلاف عنصر من أكراد العراق وتركيا وإيران، دخلوا سورية على مراحل. وتصر الإدارة السورية على خروج هؤلاء المسلحين من الأراضي السورية لتفادي تهديدات تركية بالتدخل العسكري في الشمال السوري لإجبار “قسد” على تسليم السلاح.

وقد زوّد التحالف الدولي ضد الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة “قسد” بأسلحة نوعية خلال الحرب التي خاضتها هذه القوات ضد تنظيم داعش منذ تأسيسها في عام 2015، وصولاً إلى مطلع عام 2019، حين أُعلن عن هزيمة التنظيم في منطقة شرقي نهر الفرات. ومن المرجّح أن يكون مصير هذا السلاح، خصوصاً الثقيل منه من المسائل التي ستطيل عمر المفاوضات، لا سيما أن “قسد” تريد الاحتفاظ بسلاحها. وكان الاتفاق الذي أبرم بين الرئاسة السورية و”قسد” قد نصّ أيضاً على “دعم الدولة السورية في مكافحتها فلول الأسد، وكافة التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها”، لذا من المتوقع أن تُسند إلى “قسد” مهام من وزارة الدفاع السورية خارج الشمال الشرقي من سورية، في حال التوصل لآليات تنفيذ الاتفاق. ورغم أن الاتفاق بين دمشق و”قسد” ذو طابع عسكري، إلا أنه من المتوقع أن تحاول هذه القوات ربط تنفيذ الاتفاق بالحصول على مكاسب سياسية للأكراد السوريين، في الدستور الدائم الذي من المفترض إنجازه في منتصف المرحلة الانتقالية والمقدرة بنحو خمس سنوات.

عراقيل أمام اتفاق دمشق و”قسد”

رأى المحلل السياسي المقرب من الإدارة الذاتية (شمال شرقي سورية)، إبراهيم مسلم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن هناك عراقيل أمام تنفيذ الاتفاق الذي وُقّع بين الشرع وعبدي “منها القصف المتكرر من قبل الجانب التركي على الشمال السوري وعدم اتخاذ الإدارة الجديدة موقفاً رافضاً لهذا القصف الذي يفضي إلى مقتل مدنيين”. وبرأيه “هناك خطاب كراهية تجاه الأكراد في سورية، أعتقد أنه سيكون إحدى العراقيل أمام الاتفاق”، مضيفاً أن “قسد قدمت تنازلات من أجل الاتفاق، ولكن تنفيذه يحتاج إلى وقت، فالأمر مرتبط بالظروف الإقليمية والدولية المحيطة بالملف السوري”.

عناصر من “قسد” بدير الزور،4 سبتمبر 2023(دليل سليمان/فرانس برس)

وفي السياق، رأى المحلل السياسي بسام السليمان، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “أصعب القضايا كما يبدو لي هي دمج قوات قسد في الجيش السوري الجديد”. وباعتقاده فإن “ملف الإدارة الذاتية التي شكلتها قسد سيكون من القضايا الصعبة، خصوصاً أن لدى هذه الإدارة نحو 150 ألف موظف يجب دمجهم في مؤسسات الدولة”. كما اعتبر أن ملف “داعش” ومواجهته، فضلاً عن إدارة السجون التي تضم أسرى التنظيم سيكون حاضراً بقوة على طاولة التفاوض بين دمشق و”قسد”. وبرأيه فإن “الحضور الأميركي في هذا الملف سيظل موجوداً ريثما ينتهي ملف التنظيم بشكل كامل، سواء أنجز اتفاق بين دمشق وقسد أو لم ينجز”. وتوقع السليمان أن يكون مسار التفاوض طويلاً بين الطرفين، موضحاً أن “اتفاق دمشق كان اتفاقاً على المبادئ”، والأمر “يحتاج إلى الكثير من الحوار وخطوات بناء الثقة المتبادلة”.

العربي الجديد

——————————

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى