الناسسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

الصحفيون السوريون: المهنية وأحقّية البكاء/ رهام مرشد

مأزق الكتابة عن أقبية المعتقلات وأبناء جلدتنا

19-03-2025

        أن تكون سورياً أولاً، وصحفياً ثانياً، في المئة يوم التي مضت على سقوط النظام، يعني أن تجرحك زوايا القصص التي تبحث عنها، أن تخدش نفسك قصداً لأنك نجوت، وأنت تسمع قصص الموت الممتد وتراه دون تجميل. روايات ثقيلة، وأقل ما تفعله أن تبكي، أن تترك مهنيّتك وحيادَك وقواعد المقابلات الصحفية التي تعلّمتها، لتشارك من نجا إحساسه وهو يروي تجربته. أنت طرف في هذه المسارات مهما هربت، أنت الآن لست صحفياً جاء ليحقق السبق ويفهم ما حدث، بل هذه قصص أبناء جلدتك، تنقلها إلى العالم الذي شاهدها مراراً ولم يحرك ساكناً، العالم الذي كان يُثير حنقك لعدم فهمه سياقك السوري، ومن أين جاء كل هذا الحزن والقسوة. كصحفي، ستشهرُها أمام عيونهم مرات ومرات ليعرفوا أي جحيم كان جاثماً فوق أنفاسنا، كما ستعذّب بها نفسك على نجاتك، وعدم انضمامك لمن ذهب فداءً للحرية.

        في ظل هذا الثقل كنا قد حلُمنا أن تكون لحظة التحرير أيضاً لحظة تحرُّر من الخوف والظلم الذي عشناه، وعاشه أهلنا من قبلنا. حلُمنا بأن تجد العائلات مفقوديها، وبأن تطمئن القلوب. لكن ما حصلنا عليه كان أرضاً نخاف أن نمشي عليها، ثم نعود لننبشها بحثاً عن أمل، أملٍ في العثور عليهم، أو على أجسادهم.

        * * * * *

        في اليوم التالي لسقوط الأسد، جرّبت لأول مرة أن أعمل بهويتي الصريحة وباسمي الكامل في مجالي الصحفي داخل سوريا، بعد تسع سنواتٍ من العمل في الخفاء مع مؤسسات ومنصات صحفية، غيّرت اسمي خلالها مرّات عديدة. اندفعتُ بكل قوتي إلى العمل مع فريق إحدى المؤسسات الإعلامية الكبيرة التي تواصلت معي قبل عدة أيام، وعرَضَت عليّ العمل كمراسلة لتغطية الأحداث. حين التقيتُ بهم صباحاً، كانت لديهم عدة اقتراحات للبدء، لكنني كنت مصرة أن الأهم هو محاولة فهم ما يجري في سجن صيدنايا، ونقل القصص عن قرب، وشرح الواقع كما هو، دون الانجراف وراء الترند الذي خلقه عدد من المؤثرين بفيديوهات وروايات عن سجون تحت الأرض وطبقات لا تنتهي.

        وصلنا إلى السجن صباح اليوم التاسع من كانون الأول (ديسمبر)، لنرى المئات يسيرون باتجاهه. كانت السيارات عاجزة عن الوصول إلى المكان بسبب الحشود الضخمة، لذا تحتّم على الناس النزول والمشي ساعة كاملة تقريباً على طريق معبد يتجه صعوداً، وعند الثلث الأخير منه، يظهر السجن على قمة الجبل الذي لا بدّ من صعوده للوصول. شاهدنا عائلات كاملة تمشي، أمهات وآباء كبار في السن، وبعضهم يعاني من الأمراض والآلام، كلهم يصعدون نحو أملٍ يخبئه ذلك المكان المتوحش. كان حجاً غير مأمولة عقباه.

        على الجهة الأخرى من الطريق، سار العائدون بخطوات مثقلة، أولئك الذين لم يجدوا مفقوديهم. نساء ورجال، شباب وشابات، يحاولون ثني المتجهين نحو السجن عن متابعة الطريق، ينصحونهم بالعودة، قائلين إنهم جربوا ولم يجدوا شيئاً، لكن كلماتهم لم تجد صداها، فالأهالي كانوا مستعدين للسير أميالاً أخرى، والحفر بأيديهم إن لزم الأمر، علّهم يعثرون على أثر لأحبابهم، على أي خيط يربطهم بالمفقودين.

        وصلنا وكان المكان مكتظاً بالناس، متراصين جانب بعضهم، يجولون بين الغرف، يضعون آذانهم على الأرض، يبحثون في الزنزانات عن أي شيء قد يدلهم على مفقوديهم. شباب الهيئة والدفاع المدني كانوا يحفرون الأرض في أماكن متفرقة بأدوات بسيطة، فيما تعمل حفارة كبيرة في الخارج. احتشد الناس حولهم بالعشرات، يراقبون بلهفة، يتوقف الحفر حيناً، يرجوهم العاملون أن يبتعدوا، لكن لا أحد يتحرك. لم يكن أحد ليُجازف بالتراجع خطوة واحدة، فقد يخرج أحد المفقودين في أي لحظة، وكانوا يريدون أن يكونوا أول من يراه.

        تكررت المشاهد ذاتها: يصرخ أحدهم «الله أكبر»، فتندفع الحشود نحوه، تتدافع، يحدوها الأمل بأنه عثر على شيء… لكن لا شيء.

        بقينا هناك نحو أربع ساعات، نتحدث مع العائلات، نوثق تفاصيل المكان، نصوّر الزنزانات، بقايا الطعام المتروك، البطانيات الملقاة على عجل، تلك الرمادية المقيتة التي تحمل ملامح العسكر، والمساعدات، والممتلئة بأشباح القهر والوحشة.

        عدتُ إلى المنزل مساءً، زحفتُ نحو السرير، وبدأت بكاءً مستمراً، رجفاناً يهزني، أتوقف لالتقاط أنفاسي، ثم أعود إليه كأنني أريد أن أفرغ كل شيء دفعة واحدة.

        نعم، كنا نعرف. كنا ندرك تماماً وحشية هذا النظام، عشنا الاضطهاد بأشكال مختلفة وتعرض كل منا لنصيبه، سمعنا الشهادات من أقرب الناس إلينا، تابعنا التفاصيل عبر الشاشات وقرأنا عنها، لكن لحظة التكشّف هذه كانت شيئاً آخر. كانت لحظة خالصة من الحزن والغضب، لحظة قهر لم يعد يُهمس بها في السر، أو في الحلقات المغلقة لمن كان منا يعيش في سوريا، بل خَرَجت للعلن. لأول مرة، بكينا بلا خوف، تحدثنا عن الوحشية الأسدية في كل مكان بسوريا… كانت لحظة بكاء جماعية.

        في اليوم الثالث بعد التحرير، ومنذ الصباح الباكر، علمنا باكتشاف الجثث في مشفى حرستا. تنقّلنا بين ثلاثة مستشفيات بعد تتبع المعلومات المنشورة، والتي كان معظمها غير دقيق. كان الناس يتوافدون بأعداد كبيرة إلى المستشفيات ذاتها، بحثاً عن أحبائهم، حتى وصلنا أخيراً إلى الوجهة التي نُقلت إليها الجثث، مشفى المجتهد. عند وصولنا، كان عدد قليل من الناس قد بدأ يعرف المكان، مما أتاح الفرصة لطرح بعض الأسئلة على الأطباء. دخلنا المشرحة بناءً على طلبهم، لم أستطع النظر، أدرتُ وجهي إلى الحائط، وبدأنا في طرح بعض الأسئلة وتسجيل الإجابات، في محاولة لفهم الطريقة التي ماتوا بها والمدة التي مرّت على وفاتهم.

        كان سوء التغذية والتعذيب المستمر، إلى جانب البرد والرطوبة، من الأسباب الرئيسية لتوقف قلوبهم ووفاتهم. ملامح الأجساد، ووفقاً لما لمحته في تلك النظرات السريعة، وما أكده الأطباء، كانوا دليلاً على ذلك.

        في الأيام التالية للتغطية، أصبح من الصعب عليّ أن أمارس عملي الصحفي، أو أن أكبح دموعي ورجفاني في الأماكن العامة، خاصة بعد النزول إلى أقبية معتقلات الفروع الأمنية. تلك الأقبية التي تحمل سمات مشتركة: رائحة واخزة قادرة وحدها على بث الرعب فيك، سواد كالح أو رمادي، قذارة تملأ المكان، وكتابات محفورة على الجدران تفيضُ بالرجاء والدعاء لله، ومناجاة للأمهات واستغاثات لا تنقطع، وأمل معلّق بنهاية ما.

        كانت المكاتب وغرف الحراس تتوزع في أغلب الأفرع الأمنية بالطوابق العلوية، بينما كانت السجون في الأقبية. تنزلُ أولى درجات السلالم وكأنك تدخل فوهة مظلمة، حيث تختفي الرؤية تماماً. كانت الحيطان كلها سوداء أو مائلة للرمادي الغامق، والسلالم ضيقة بشكل غير متوقع، لا تعكس المساحة التي ستكتشفها لاحقاً.

        نضيء هواتفنا ونتحسس خطواتنا، فكل الأفرع الأمنية تشبه المتاهات، لا شكل واضح لها ولا تحديد للمسار. لا تعرف من أين دخلت وكم من الوقت سيمضي حتى تصل إلى آخر الغرف. كان الطعام قد تُرك في المكان على عجل، فترى بضع حبات بندورة متعفنة وربطات خبز الدولة وبعض حبات الزيتون. الطعام الذي شاهدناه يكفي لحوالي عشرة إلى خمسة عشرة شخص، وذلك في الزنازين الكبيرة نسبياً، التي قال لنا أحد المعتقلين إنهم كانوا يحشرون فيها حوالي 70 شخصاً، وفي بعض الزنازين قدّ يصل العدد إلى 100 شخص.

        الزنازين المنفردة قلّما وجدنا فيها طعاماً، فمعظمها كانت فارغة إلا من بطانية واحدة وبعض الشقف. لكنها كانت ممتلئة بالكلمات والرسومات. في فرع الخطيب، كانت المنفردات ملونة بأربعة ألوان لا أدري سببها: الأحمر، الأسود، الأصفر، والرمادي. اشتدت غزارة الكتابات في المنفردات ذات اللونين الأحمر والأسود، وكانت معظمها مناجاة لله بالفرج ورفع الظلم.

        يوماً بعد يوم، بدأت أفقد تركيزي وقدرتي على التحكم بمشاعري، وبما أنني لم أستطع السيطرة على شيء، لا على تفاعل جسدي ولا على مخيلتي، فقد حوّلت جهودي لمحاولة التواصل مع أصدقائي ليقوموا بدورهم بالتواصل مع المنظمات التي كانت تعمل في التوثيق، لإخبارهم بحجم الملفات الموجودة والمنتشرة على الأرض، وحثهم على القدوم أو تشكيل فريق في دمشق بشكل سريع. بالطبع، كانت محاولاتي غير مجدية فعلياً، فقد كان هناك عوائق وهم كانوا يعملون على ذلك بالفعل دون الحاجة للتحفيز. لكن هذا هو ما حاولت فعله إلى جانب العمل الصحفي، الذي كنت أشعر أحياناً أنه غير مجدي في بعض المواقف.

        من أكثر أقبية الفروع رعباً كان فرع 248. السواد حالك والمساحة كبيرة جداً وغير متوقعة، تنتقل فيه من ردهة بناء عادي الحجم نسبياً، لتنزل إلى قبو كبير جداً. حاولت عدّ الزنازين لكن لم أفلح، ولم أستطع التركيز على العمل والتوثيق أو الأسئلة، فقد كان هناك شيء يلح عليّ بشكل غير منطقي، وهو أن أحد الضباط أو العناصر ما زال هناك، وسيخرج من إحدى هذه الغرف ليحبسنا ويضربنا أو يقتلنا.

        لم أستطع في تلك اللحظات أن أفكر غير ذلك، كنت مقتنعة أن أحدهم لم ينجح في الهرب، لم أستطع إجبار نفسي على تصديق أنهم رحلوا، وهذا ما كنا نحاول إقناع أنفسنا به كل يوم. في قلب هذا الظلام والرائحة، انتقل خوفي إلى الفريق الذي أعمل معه بعد أن شاركتهم ما أفكر فيه. المشكلة أننا كسوريين، من الطبيعي أن تراودنا هذه الخيالات، لكنني كنت قد نقلت الخوف من الصورة التي أفكر فيها إلى الفريق، وفي لحظة، تحركت إحدى البطانيات أمام الصحفية التي كانت معي، فصرخت، وصرخت معها. كانت فأرة هربت مسرعة، لكن ذلك لم يعد مهماً، قررنا الخروج، فلم نكن مفيدين ولم نستطع يومها الاستمرار والعمل  كما يلزم.

        انتفى موضوع النوم تقريباً، ولم أعد أحاول إجبار نفسي على القيام بذلك، فقد كانت مهمة خاسرة. رضيتُ بأنني سأعمل يومين دون نوم، وفي الثالث سأنهار وأغفو، ولا أظن أن وضعي كان مختلفاً عن العديد من الأصدقاء والصديقات الصحفيين وغيرهم. لم يعن هذا أننا لم نذهب إلى بعض السهرات والمقاهي، وتمايلنا وغنينا وشربنا بصحة سقوطه، لكن غالبيتنا، في وحدتنا، جافانا النوم وتركنا مع حمل ثقيل، وكنا نعتمد على وسائل مختلفة لتهدئة الحال.

        لم أستطع أن أكون حيادية أو مهنية حول ما كنت أشاهده وأسمعه. أنا سورية، وما كنت أراه هو تركة من العفونة والحزن والخوف، أُلقيت علينا دفعة واحدة، حضَرت بتأني وحقارة على كافة الأصعدة. كنت أنظر إلى كل الاتجاهات وأرى تلك التركة جاثمة، تركة عائلة وأتباع الأسد والبعث المقرفة.

        المفارقة التي فكرت فيها مراراً هي محاولتهم الناجحة لفرض وجودهم البصري القسري على الجميع. فتماثيلهم وصورهم لم تكن مجرد دعايات أو رموز سياسية، بل تحولت ضمن منهجهم في إدارة البلاد والعباد إلى مقدسات، تنظر لك في الشارع وعلى العملة، في المكاتب ودوائر الدولة، على الجبال وعند الحدود، كان الموضوع يشبه طقساً قهرياً لعبادتهم. لذا كان من الطبيعي أن تكون ردة التحرير هي تكسير الطاغية المقدس، وكانت سرعة اجتثاثه من الساحات والمباني والشوارع أيضاً صادمة.

        ذهب المراقب، والراقوب، والعين المفتوحة دائماً التي تذكرنا بمكاننا ومن نحن تحت سلطتهم، لكن تركتهم لم تذهب بعد. تركة التشبيح، وقلة النخوة والأمانة، تركة الجبن وخيانة البلاد، تركة الكره الذي زرعوه، والذي لفظناه بأشكال مختلفة. ومع ذلك، نسأل أنفسنا يومياً كسوريين: لماذا كانوا يكرهوننا؟

موقع الجمهورية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى