«ثقافة «وطنية»: لماذا نخجل من أسماء طوائفنا؟/ محمد سامي الكيال

تحديث 21 أذار 2025
يتبرّأ كثير من المثقفين والناشطين العرب من «الطائفية»، التي يبدو أنها لا تساوي تماماً، في الاستخدام العربي، مفردة Sectarianism الإنكليزية شديدة الإشكالية، ومثيلاتها في اللغات الأوروبية. نحن هنا لا نتحدث عن مجرّد رفض للتمييز، أو التحريض الطائفي، أو الأنظمة السياسية والدستورية القائمة على المحاصصة، أو وجود مجتمعات هوية معزولة على هامش المتن الاجتماعي، بل عن رفض شامل لأي إشارة لوجود هوية سياسة أو اجتماعية أو ثقافية في الحيز العام، خارج الأمة والشعب الواحد. هكذا تُستعمل أسماء طوائف وإثنيات، مثل «العلوية» و»الدرزية» و»الإسماعيلية» و»السنّة» و»الروم» ببعض الخجل، وكأنها كلمات نابية، بل إن بعض المتحدثين يعتذرون لمستمعيهم بعد ذكرها، مع التأكيد أنهم ليسوا طائفيين. المفارقة الطريفة أن الخطاب العام مليء، في الوقت نفسه، بكثير من الإشارات لـ»العرب» و»المسلمين»، بوصفها أسماء لهويات ثقافية أصيلة، بل ربما جوهرية.
يمكن تفسير هذا التناقض بكون الهوية العربية/الإسلامية هي الهوية الجامعة لـ»الشعب»، التي تقوم عليها الوطنيات في معظم دول المنطقة. وهي بالتأكيد ليست وطنيات بالمعنى الجمهوري اللائكي الراديكالي، الذي يرفض إدخال أي رمز ديني في المجال العلماني، ويدفعه إلى الحيز الخاص. الرموز والمفردات الدينية تحيط بنا في كل مكان، وليس بوصفها مجرّد دوال تاريخية أو ثقافية، بل دوالَّ سياسية حاسمة، وفي الوقت نفسه نرفض «الطائفية»، بوصفها «تخلّفاً»، ونخجل من أي انتماءات طائفية «دون وطنية». هذا يعني أنه كي نكون وطنيين، يجب أن نوافق على إلغاء أي ذات سياسية أو ثقافية خارج العروبة والإسلام.
من ناحية أخرى، لن نجد، خارج النصوص الاستشراقية الكلاسيكية، كثيراً من الوصف الإثنوغرافي للمجتمعات، التي يبدو أن ذكر اسم أديانها اليوم نوع من العار. هل هذا يعني أن الاستشراق هو من خلق تلك التحديدات الإثنوغرافية؟ ربما، قد يكون أنتجها بوصفها موضوعاً بحثياً، أو حتى خطابياً، ولكن ماذا عن العروبة و»الإسلام» نفسيهما، باعتبارهما منطلق التأسيس القومي في المنطقة، أليس لـ»الغرب» و»الاستشراق»، ولمفاهيم التحديث الواردة إلى المنطقة، والعصر الاستعماري، دور أساسي في إنتاجهما، بوصفهما موضوعاً سياسياً وخطابياً؟
مهما تفحّصنا المسألة، فلن نجد حلولاً للتناقضات الكثيرة في رفض «الطائفية» والقبول بالأحادية القومية/الإسلامية، في الآن ذاته، فالأمر لا يتعلّق برفض «البنى الأولية»، أو تأييد النزعة الجمهورية اللائكية، أو مناهضة الاستشراق والتحديث الكولونيالي. التفسير الأكثر احتمالا هو سيادة النزعة القومية الأحادية الإلغائية، التي ترفض أولاً الوجود الإثني والسياسي خارج الأمة الواحدة، ودولتها ذات الدين؛ وقد تتبعه بإبادة ذلك الوجود مادياً، وهو ما حدث كثيراً في تاريخ المنطقة.
ولكن بعيداً عن نقد النزعة القومية/الإسلامية، بوصفها نزعة حديثة، لم توجد قبل العصر الاستعماري، ولّدَت «الأكثرية» الحاملة للأمة، وبالتالي أعادت إنتاج «الأقليات»، فهل المجاهرة بأسماء الطوائف، ما قد يؤدي إلى بناء ذات سياسية لها، سيبعدنا عن «الوطنية» فعلاً؟ هل علينا أن نخفي عارنا الطائفي، أياً كانت مصادره، ونبحث عن وطن بلا أقليات وأكثرية؟
المتديّن العلماني
يوجد انطباع، في ثقافتنا السياسية الراهنة، بأن المطالبة بالعلمانية هي شأن العلمانيين حصراً، أي أصحاب النزعة الأيديولوجية، التي تُعرّف ذاتها بشكل تطهّري من أي هوية دينية. الانطباع خاطئ بالتأكيد، إذا فهمنا العلمانية بوصفها ضرورة أساسية لحرية المعتقد: الوصول إلى الدولة المحايدة دينياً، التي لا تميّز بين مواطنيها على أساس انتمائهم الديني، قد يكون مصلحة لكثير من المتدينين، خاصة ممن يعتبرون «أقليات»، نظراً لوجود الأكثرية الحاملة للدولة/الأمة. الأمثلة المعاصرة على ذلك كثيرة، وأكثرها دلالةً مثالان: الأول ميل كثير من المسلمين المتدينين في الدول الغربية، لانتخاب الأحزاب اليسارية، ذات النزعة العلمانية، خوفاً من تسلّط أحزاب اليمين المحافظ والشعبوي، التي تدعم «ثقافة قائدة» على أسس قومية ودينية؛ والثاني توجّه عدد من رجال الدين في سوريا، المنتمين إلى «الأقليات»، إلى المطالبة بالعلمانية، بعد سقوط نظام الأسد، خوفاً من تسلّط «الأكثرية».
لا يوجد تناقض أو نفاق في الموقفين، إلا من منظور نزعة مثالية في النظر للعلمانية، تفهمها بوصفها عقيدة متعالية، وليست معادلة سياسية وقانونية لضمان حياد الدولة الديني، وحريّة المعتقد، والمساواة أمام القانون. مشاكل المنظور التطهّري ليست عقائدية فقط، بل تكمن أيضاً في تجاهله سؤالاً أساسياً: ما القوى الاجتماعية التي يمكن أن تؤسس العلمانية في دولة ما؟ يمكن أن نلجأ لمخيّلة تاريخية نمطية، فنتصوّر مجموعة من «المفكّرين الأحرار»؛ أو «حرساً وطنياً» من «الطبقة الثالثة» (غير الكهنة وغير النبلاء) على الطراز الفرنسي؛ أو حتى طبقة عاملة منظّمة، أفرادها من «الياقات الزرقاء» الأمميين؛ بالطبع كل هذه التصورات لا تمتّ بصلة إلى أي معرفة تاريخية جديّة عن نشأة المجال العلماني في الدول الغربية، وعلاقته بالسيادة الحديثة، وتطوّر الحيّز العام، ولغته. في كثير من الأحيان لم تكن العلمانية محصّلة مباشرة لجهود ومخططات «الأحرار»، وإنما نتيجة صدامات اجتماعية شديدة التعقيد، بين قوى وفئات، ذات مصالح ومنظورات ودوافع متعددة ومُركّبة، وليست «تحررية» دائماً.
تُظهر النزعة «الوطنية»، على الطراز المشرقي، عداءً شديداً لكل الفئات الاجتماعية، الموجودة بشكل فعلي في بلدانها. ويبدو أن «وطنها» لا يقوم إلا على إخراس وإقصاء وإلغاء كل من له مصلحة فعلية بمواجهة التسلّط المركزي للدولة القومية ذات الدين. ترفض تلك النزعة، في مجتمعات متعددة بشدة، فيها مسائل قومية وإثنية وطائفية عالقة منذ عقود، أي بروز لذات سياسية خارجة عن تجريد «الشعب الواحد». ما الذي سيبقى إذا طالبنا الجميع بالذوبان في ذلك «الشعب»؟ ربما ليس أكثر من دولة مركزية قومية/إسلامية، على رأسها «قائد ضرورة»، لا يحوي مجتمعها أي قوى مستقلة. وحول الدولة بعض «المدنيين»، والناشطين في «المنظمات غير الحكومية»، الذين لا تثير إسلامية الدولة حفيظتهم، بقدر ما تثيرها جرأة هذا «الأقلوي»، أو ذاك على التعبير. قد يكون أنصار «الشعب الواحد» الأكثر طائفية في منطقتنا، لأن ذاك «الواحد» يتطلب استئصال التعدد الفعلي، كي يستمر. التجريد المتعالي هنا لا يعيش إلا بتحطيم الملموس، والاجتماعي، والحياتي. ولكن هل هذا يعني أن البشر يجب أن يُسجنوا في هويات غير قابلة للتغيير، تكون بديلاً عن «الشعب الواحد»؟
الوطني المتديّن
لا يمكن أن توجد طوائف وإثنيات دون مجموعة من الممارسات والأداءات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي سياق علاقات شديدة التعقيد مع جهاز الدولة، وإطارها السياسي والقانوني. ولذلك فإن رفض الطائفية، كي يكون أكثر من مجرّد جُمل إنشائية، يجب أن ينظر إلى «الأداء» و»العلاقة»، قبل أن يرفض البشر على الهوية، أي بسبب تعبيرهم عن ذات سياسية وثقافية ما. بالنسبة للأداء، فليس إبراز الاختلاف مُنتجاً بالضرورة للطائفية، بل على العكس، قد يكون أسلوباً لمواجهة مظاهر القمع السياسي والديني والثقافي، خاصة إذا ارتبط بتوجّه سياسي، يطالب بالحياد الديني للدولة؛ وحرية المعتقد والتعبير؛ ومواجهة تضخّم الدولة المركزية؛ والاعتراف المقونن بالتعددية، بل إنه قد يؤمّن انفتاحاً فعلياً على الآخر المختلف، المُهدّد بدوره بالقمع، والذي يصبح عندها شريكاً في النضال ضد التسلّط.
أما بالنسبة للعلاقة، فإن الأكثرية والأقليات، لا يمكن أن توجد إلا في إطار دولة قومية، هي ما ينتج ظواهر، مثل الطائفية، المحاصصة، التمييز المنظّم. والأهم أن تصليب «الأكثرية»، والتغطية على أزماتها وتناقضاتها، يتطلّب إنتاج «أعداء الشعب»، أي «أقليات»، أشبه بأورام في جسد الأمة، لا بد من استئصالها. ربما كان على مناهضي الطائفية الجدّيين التركيز على مقاومة هذا النوع من الدول، وتجريداتها، بدلاً من الانشغال العُصابي برفض كل مظاهر التعددية في مجتمعاتهم، فتلك المظاهر، بما تحويه من أداءات، هي ما قد يغيّر فهم البشر لذواتهم، ويخرجهم من الانغلاق على المكبوت والمسكوت عنه في هوياتهم. عبر إعادة التعرّف على ذاتهم الجماعية، وعلى الآخر، في إطار رفض الاضطهاد السياسي والديني، المنظّم مركزياً.
وإذا كان حياد الدولة الديني مصلحة للمتدينين المُعرّضين للاضطهاد، فيجب أن يكون أيضاً مصلحة لغير المتدينين. ومن المدهش أن كثيراً من هؤلاء، خاصة الأكثر «وطنية» منهم، لا يستطيعون تمييز حلفائهم الموضوعيين، في مواجهة الدولة ذات الدين. ما يدفع فعلاً للتساؤل عن فهمهم للنزعة العلمانية: هل هم مجرّد قوميين، مستعدين، في سبيل «الشعب الواحد»، للقبول بنمط دولة متناقضة دستورياً، تنصّ على «المساواة» و»دين الدولة» في الوقت نفسه؟ إذا كان الجواب «نعم»، فنحن أمام ظاهرة سياسية أشدّ خطورة وطائفية بكثير من متديني «الأقليات»، وأنصار «الهويات الفرعية».
يبقى السؤال: هل يمكن الوصول إلى «المواطنة»، عبر رفض وإنكار الوقائع، والمسائل الشائكة، التي خلفتها نماذج الدول القومية، بعد الاستعمارية، في منطقتنا، والخجل من ذكر أسماء المعتقدات والإثنيات؟ أو بمجرد تكرار صيغ إنشائية مثل: «أنا لست أقلية أو أكثرية، أنا مواطن»؟
يصعب أن نستخلص أي فكرة جديّة من الإنكار والتكرار الإنشائي، وربما لا يفعل ممارسوه إلا محاولة تذكّر أيديولوجياتهم الوطنية، التي باتت تحوي فجوات وثقوباً كثيرة، لم يعد يمكن سدّها، وسط الانهيار الاجتماعي والسياسي، الذي تعيشه المنطقة. «لا للطائفية»، بالمفهوم المشرقي التقليدي، باتت أقرب لتعويذة، يلقيها «وطنيون» مذعورون، علّها تطرد شياطين «الواقع»، التي تدمّر عالمهم الرمزي بأكمله. ربما الأجدى ترك المذعورين وشأنهم، والالتفات إلى مسائل أجدى: كيف يمكن منع «الشعب الواحد» من استئصال «الأورام»؟ وهل يمكن لـ»الشعوب»، التي تكتشف ذاتها اليوم، في ظروف القمع والتهديد بالإبادة، أن تنتج أي صيغة، تخفف من كوارث ما عرفناه من «وطنية»؟
كاتب سوري
القدس العربي