سقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعنصوص

حين وقعت يوماً في حبّ مسرح!/ روزا ياسين حسن

عن أمكنة سرقوها منّا واستعدناها

في يوم بعيد ما، وقبل أن يبدأ سفر خروجنا، وقعت في حبّ مسرح الحمراء في دمشق، رجل مفعم بهدوئه الباذخ، الحياة تجري حوله سريعة صاخبة وهو راسخ، لا شيء يعنيه من كثرة الأقاويل حول أهميته أو تأثيره! متعدّد الحالات كما مسرحياته، يفيض شغفاً وموسيقا. أحببته بكل حالاته، كما أحبني بكل حالاتي، وعلاقة روحية راحت تتعمّق بيننا. أتى يوم عصيب وباعدنا الزمن كما باعدتنا الجغرافيا، هربت منه ومن بلادي الدامية، لكنه الحب أقوى من أن تكسره، وألين من أن تؤطره بشرط أو حالة. أحلم به ينتظرني على الناصية هناك قريباً من بوابة الصالحية. اليوم يمكن لحلمي ذاك أن يتحقق، وأنا أكيدة بأننا حين سنلتقي سننسى بلحظة كل سنوات البعد، ويعود حبنا للتحقّق مجدداً.

نعم، يمكن لامرأة أن تعشق مسرحاً، كما يمكن لرجل أن يعشق دار سينما. أعرف الكثير من علاقات الحب تلك. أبي مثلاً كان عاشقاً لـسينما أوغاريت في مدينته اللاذقية. هل منكم من يعرف سينما أوغاريت؟!

سينما أوغاريت تقع في قلب ساحة سُمّيت باسمها. يفترض بأنها من أقدم دور السينما في مدينتي الساحلية اللاذقية. يمكنني أن أتخيّل أبي بعد سنوات طويلة من رحيله، وهو يخرج من السوق المقبي أواسط السبعينيات فتواجهه سينما أوغاريت بكل بهائها في صدر الساحة قبل أن ينعطف يساراً. يسمّره لثوانٍ إعلان الفيلم الجديد على طول واجهتها: غابة من السيقان، يبدو فيها محمود ياسين تحت مجموعة كبيرة من السيقان النسائية المثيرة.

من الجيد أن أبي رحل قبل أن يشاهد الظلام يدمّر أمكنته. لا أصدّق نفسي وأنا أقول ذلك! لكن الموت الفيزيائي في أحيان كثيرة نعمة، كي لا نرى نهايات أحبابنا أمام أعيننا. فواجهة سينما أوغاريت ستتعفّن، سيتحوّل المكان خلال الأربعة عشر عاماً الأخيرة إلى ثكنة عسكرية واجهتها عارية إلا من صور الديكتاتور والكتابات المبجِّلة له. لم يعد لملصقات الأفلام الملوّنة مكان! كيف كنت سأصف له سوراً طارئاً من دواليب الشاحنات السوداء يشطر الساحة، سوراً بُني لا لشيء إلا ليشوّه شكل الساحة ويسجن السينما، كي ينسى الناس ما كان.

الأمكنة مرايا تعكس حقيقة ساكنيها، وأمكنتنا مثلنا كانت متعبة مذعورة ومُحتلّة.

مع ازدياد قبضة النظام البائد على البلاد راح حضور المساحة العامة يتضاءل، كما راحت المعاني القديمة للأمكنة ودلالاتها التاريخية والمجتمعية، وحتى العاطفية والأخلاقية، تتبدّل بشكل صارخ. سينما أوغاريت أصبحت في السنوات الماضية مركزاً لتصدير الشبّيحة والرعب لسكان المدينة، على وجه الخصوص أولئك الذين اعترضوا على حمّام الدم الذي عمّ البلاد منذ بداية 2011. بدلاً من رشدي أباظة ونادية لطفي، سيحلّ أبو جعفر الذي ينظّم مجموعات الموت المنتشرة في أحياء المدينة الملتهبة، وبدل أن تخرج ناهد شريف بكل بهائها من بوابة السينما والناس تصفّق وتهلّل لها، ستخرج، وبمنتهى السرّية والصمت، جثث ملفوفة بأقمشة متّسخة لمعارضين قُتلوا تحت التعذيب. السينما صارت سجناً للتعذيب أيضاً!

علاقاتنا مع الأمكنة لا تختلف كثيراً عنها مع البشر ومع أنفسنا، تترتّب ببساطة لتشبه أشكال العلاقة مع “الآخر”، أي مرآة لذواتنا، فلكل علاقة مختلفة مع المكان علاقة مختلفة مع ذواتنا. على هذا فقد كان لعلاقاتنا مع بعض أمكنتنا القديمة أن تتدمّر، خصوصاً بعد الفجائع التي عشناها بعد العام 2011، تماماً كما تدمّرت علاقات مع أصدقاء ومعارف وانشرخ المجتمع برمته. وبما أن المكان بمقدوره أن يكوّن وجهة نظره الخاصة فمن “يسيطر” عليه قادر على تغيير رأيه ومواقفه؟! علاقة جدلية معقّدة وتبادلية عبّر عنها التبريزي بقوله: “عندما يدخل عاشق حقيقي لله غرفة فإنها تُصبح غرفة صلاته. لكن عندما يدخل شارب الخمر إلى الغرفة نفسها فإنها تُصبح خمّارته”. ندخل مكاناً فنشعر بطاقة روحه، ثمة أمكنة ذكورية وأمكنة أنثوية، فلم يكن ابن عربي يقصد بالمكان الذي لا يؤنث لا يعوّل عليه إنه تأنيث لغوي فحسب، وإنما تأنيث روحي، محملٌ بطاقة الحياة والاستقبال والقبول والتعدّد والحدس.

في يوم ما راحت أمكنتنا الحبيبة تتحوّل ذكورية غاضبة وأحادية، كما تحوّلت الكثير من طاقاتنا!

أما عن ذلك الانتماء الذي قصدته فثمة جملة قالتها لي دكتورتي المشرفة خلال دراستي للعمارة لا تغادر ذاكرتي:

– المكان كائن أنتِ تخلقينه، وكأي مخلوق سينفصل بيولوجياً عنك ليعيش حياته ومشاعره. عليك أن تتعاملي مع الأمر على هذا النحو!

احتاج الأمر مني وقتاً طويلاً لأفهم ما أرادت إيصاله لي.

قَصَدَتْ أن للمكان الذي أخلقه مشاعر عميقة تتفاعل مع ساكنيه، يتأثر ويؤثّر. يسمع ما يدور داخله وحوله، ويسمع قاطنوه صوته حتى لو لم يدركوا ذلك، يسمعونه بأرواحهم/ لاوعيهم حتى لو لم يسمعوه بآذانهم/ وعيهم. نحن لا نراكم خطوطاً على الورق، ولا حجارة فوق بعضها، بل نبدأ في خلق حكاية كائن أكثر رسوخاً من أي كائن آخر على هذه الأرض، وربما أكثر حساسية. هذا ما كان المفترض أن تكون عليه دراستي للعمارة، لكن الأمر لم يسر على هذا النحو أبداً.

المشكلة كانت تكمن بأني قادمة من جيل لديه علاقة وتجربة شبه مُدَمَّرة مع المكان، كما هي تجربته وعلاقته مع كثير من الأشياء والأفكار في “سوريا الأسد”. كما كان مفهوم (الهوية الوطنية) مدمّر إلى حدّ بعيد، كان مفهوم الانتماء إلى المكان مدمّر كذلك، فكيف ستأتي لحظة نتعامل فيها معه باعتباره كائناً كامل الأهلية والحقوق؟!

تعاطي السلطات البائدة مع الأمكنة كان يشبه تعاطيها معنا، نحن الناس. الأمكنة عبيد مملوكة تماماً كما كنّا، مُراقَبَة منتهكَة وخائفة. غياب العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تبدّى، وبكل وضوح، في غياب العدالة المكانية، وما حصل بعد العام 2011 من دمار لملايين البيوت والأبنية والساحات لم يكن منفصلاً عن قتل وموت واعتقال وتهجير ملايين الناس، قتل ذاكرة الأمكنة جزء من قتل ذاكرة الشعب كذلك.

استعادة الانتماء للمكان ليس رحلة سهلة بالتأكيد، لكن التحوّل المذهل، الذي يتبدّى ساطعاً اليوم، لا يتعلّق بسقوط سياسي لنظام الديكتاتورية فحسب، بل يتعلّق بعلاقتنا التي تتحوّل كسحر مع ساحاتنا، كمثال عن أمكنتنا العامة. من الصعب على من لم يعش في “سوريا الأسد” أن يقدّر إعصار المشاعر التي تعتمل في داخل السوريين/ات وهم ينزلون إلى ساحات مدنهم ويهتفون، فقد استمات نظام الأسد كي لا يسمح للمتظاهرين إبّان الثورة باحتلال ساحات المدن، فساحات المدن قلوبها. وكم دُفعت أثمان غالية ليستطيع الناس أن يهتفوا في ساحاتهم، يغنّوا أو ينصبوا الخيام، ليشعروا بأنهم يلمسون قلوب مدنهم، أي يملكوها!

مع مرور الزمن وكلما كانت سيطرة نظام البعث على البلاد تزداد، كانت ملامحها تتغير وجمالها القديم يذوي، وملامح البلاد هي أمكنتها. العشوائيات التي ملأت أطراف المدن، البنايات القبيحة مكعبات بيتونية حائلة اللون، الصحراء التي أكلت أخضر البلاد. من يقارن واقع سوريا بماضيها لن يستطيع التعرّف عليها. موت الأمكنة في سوريا كان قسرياً، قتلاً متعمّداً لكبريائها، تهشيماً لكاريزمتها القديمة، نوعاً من الانتقام الضمني. غياب مفهوم “العدالة المكانية” الذي طوّره الأميركي إدوارد سوجا، بدا جلياً في عموم البلاد، كما بدا جلياً أن عموم السوريين/ات راحوا يوماً بعد يوم يخسرون معركة العدالة الاجتماعية كمعركة حول الجغرافيا. التمدّد العمراني راح “يشهد لا مساواة اقتصادية وقطبية اجتماعية متزايدة”.

مدرستي القديمة المهلهلة مثلاً كانت أشبه بثكنة عسكرية محمّلة بكل ذاكرة الثكنات! العلم العملاق لحزب البعث على واجهتها، بجانبه صورة طولية بحجمه “للرفيق المناضل حافظ الأسد”، الكلمات البذيئة والرسوم الجنسية على حيطان حمامات المدرسة وأبواب المراحيض، رائحة نشادر خانقة في مكان ملّوث بالفضلات، وقذارات تمتلئ الأرض بها، هذه كانت مدرستنا! لم يعن لنا يوماً أن نجد المقاعد مكسّرة، والجدران واللوح مليئة برسومات بشعة وشتائم، كان الأمر يثير ضحكنا المكبوت. كل ما كنّا نفعله بمرافق المدرسة وأثاثها لم يكن يُشعرنا بالذنب! فالمقاعد ليست مقاعدنا، والمدرسة ليست لنا، تماماً كما الشوارع، فلا ضير من إلقاء الأوساخ فيها، الأرصفة، الحدائق، وحتى الأشجار ليست لنا! كان لدينا إحساس مقيم بأن مدينتنا ليست لنا، شاطئ البحر ليس لنا كذلك، وكل ما حولنا ينبئنا بأن إحساسنا صحيح: أنتم لا تملكون شيئاً! ولستم سوى ضيوف في بلاد يملكها “الأب القائد”.

مع مرور الزمن راحت السلطات تهب الأماكن العامة لأشخاص بعينهم، سواء بعقود بيع أو إيجار لسنوات طويلة، كعقود إيجار الأبنية الأثرية. كانت رسالة مبطنة مفادها لا شيء ملككم، حتى أنتم لستم ملك أنفسكم! لا يمكنني أن أنظر إلى جرائم تهريب الآثار التي ارتُكبت كثيراً، إلا كعدم انتماء إلى المكان وتاريخه، بل شعور بعبوديته. من هرّب ويهرب الآثار على استعداد حقيقي لبيع ذاكرة المكان مقابل منفعته الشخصية.

المكان الوحيد الذي كان من الممكن أن يشعر المرء بأنه “مكانه” في سوريا: البيت.

لذلك بقي السوريون/ات حريصين على العناية ببيوتهم و”امتلاكها”، محاولة أخيرة للشعور بالانتماء إلى هذه الأرض، لخلق علاقة حميمة مع مكان ما في هذه البلاد التي تزداد غربة. لكل هذا فللبيت في بلادي قيمة خاصة، لديه سردية وواقع آخر. حدّثني مرة صديقي خلدون، الذي استشهد لاحقاً خلال الثورة، بأنه كان يشتاق لصوت صرير الأبواب في بيت أهله حين أُجبر على البعاد عنه. لكل باب صوته الخاص، صريره المتفرّد، الذي يتحدّث به إلى سكّانه. اليوم حين أسمع صرير أبواب بيتي لا يمكنني إلا أن أتذكر خلدون. ربما هذا هو السبب الذي يجعلني لا أريد تزييت مفاصل الأبواب!

البيت في سوريا كان فرداً من أفراد العائلة، بل أهم فرد فيها، له وجه ويدان ورائحة وابتسامة ومزاج. اليوم فحسب لي أن أشعر بروحي أن أبواب البيوت بدأت تنفتح وتتدفّق حميميتها إلى الخارج، سوريا تتحوّل إلى بيت، ذلك التحوّل المذهل، بيت يتّسع للجميع، وللجميع الحق فيه. هذا لا يعني بأن التوجّس لا يملكني من الفترة الانتقالية القادمة، هي صعبة بالتأكيد، محفوفة بخوف وغموض وترقّب ومخاطر قد تستمر لسنوات، أين سيذهب تأثير 54 سنة من التخريب المتعمّد للبشر والمجتمع؟! أين ستذهب كل هذه الذاكرة؟! لكن ثمة أمر أساسي تبدّل دون عودة يستطيع المرء لمسه عميقاً: لقد عدنا لامتلاك أمكنتنا، ولن يسرقها أحد منّا بعد الآن، لقد عدنا لامتلاك بلادنا.

التهجير والاختفاء القسري كان رحيلاً عاطفياً للأمكنة عنّا، وليس رحيلنا الفيزيائي عنها فحسب.

كما تُبنى الذكريات والتجارب والعلاقات، تُبنى الأماكن اجتماعياً من قبل أفرادها ومجموعاتها التي تعيش فيها. الإحساس بالمكان والانتماء إليه والتعلّق به، لا ينفصل عن إحساس المكان بنا والتعلّق بوجودنا، للمكان روح ومشاعر وأحاسيس كالبشر، يشتاق لناسه وقد لا ينساهم. وهو كأي كائن يواشج المكان والزمان داخله في لحظة ما، ويضحي من المحال فصلهما عن بعضهما. بتعبير “غاستون باشلار” في كتابه جماليات المكان فإن “المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها يحتوي على الزمن مكثفاً، هذه هي وظيفة المكان”. العلاقة مع المكان علاقة أرواحية عميقة، بعيدة كل البعد عن كونها مجرد علاقة فيزيائية. هل تساءل منكم لماذا لا نحلم في كثير من أحلامنا إلا بأمكنتنا؟ أجسامنا الأثيرية التي تقطع الجغرافيا والزمان تذهب لتعيش في أمكنتها الحبيبة أوقات الحلم، أو لنقل في واقع الحلم. كنت أفكّر دوماً: حين ستعود أرواح أحبابي ستعود إلى أمكنة هُجّرنا منها، إلى قبور لم يعد بإمكاننا أن نزيّنها أو نغطّيها بأغصان الآس والشموع والبخور. هل لذلك نهتم نحن السوريون بقبور أحبابنا؟ أول فكرة اجتاحتني حين سقط النظام: يا إلهي! يمكنني الآن العودة لاحتضان قبور أحبابي!

التهجير القسري ليس انتقالاً فيزيائياً من جغرافيا إلى جغرافيا أخرى، بل جريمة سياسيّة وإنسانية و”عاطفية” لا تؤثر على الأفراد والمجتمعات ديموغرافياً فحسب، بل على لاوعيهم الجمعي برمته. أن نبدأ من الصفر في أمكنة أخرى، يشبه الرحيل القسري عن علاقات حب استثمرنا فيها طويلاً، يشبه فقدنا لجذورنا لنلفي أنفسنا فجأة في مهبّ الريح.

يمكنني أن أميّز بين تجربتين مؤلمتين ومتناقضتين تتعلّقان بالمكان: التهجير والحصار. إذا كان التهجير، كما قلت، رحيل فاجع للأمكنة، فإن الحصار في المكان باعتباره تجربة مناقضة للتهجير، هو سجن للأمكنة قسراً بداخلنا، كما هو سجن لنا في الأمكنة. في لحظة ما تتحوّل أمكنتنا المحبوبة إلى تجربة قاسية تغيّر عواطفنا تجاهها، كما تغيّر ذاكرتنا معها. تجربة السجن كذلك شكل من أشكال تجربة الحصار. ففي الوقت الذي حوّل التهجير فيه الكثير من أمكنتنا المرتحلة إلى فكرة أشبه بيوتوبيا، فردوس مفقود خالٍ من أي عيب، حوّل الحصار الكثير من أمكنتنا السجينة إلى جحيم. الكثير من السوريين/ات تدمّرت علاقتهم مع أمكنتهم بعد حصارهم فيها. الحصار يحوّل أمكنتنا إلى معتقلات، ويتحوّل تركيز المحاصر كما المسجون إلى غريزة البقاء، البقاء على قيد الحياة، تأمين الطعام المفقود والصراع ضد الجوع. الحصار الفيزيائي في الأمكنة وحضور سؤال البقاء يجعل الذاكرة السابقة حصاراً، كما يجعل العجز حصاراً. وكما يحاول الاعتقال والتعذيب تخريب الإنسان داخلنا، تفكيك رؤيته لذاته وإيمانه وفخره بكنهه الإنساني، يعمل الحصار على تخريب المكان داخلنا وتفكيك رؤيتنا له، وهذه إحدى أهم وظائفه. الحرب في سوريا كانت أولاً على امتلاك البلاد، احتلالها، وما التهجير والحصار إلا شكلين متقابلين من تجريد الناس من أماكنها الحبيبة. وكم غريب كيف تتغيّر ذاكرة مشاعرنا تجاه المكان! قبل الحصار تكون مفعمة بالحب، بعد الحصار تصبح ذاكرة مليئة بالقهر والعوز والألم! لا المكان يبقى المكان، ولا نحن نبقى نحن، ولا علاقتنا تبقى كما كانت، بلّورة من الكريستال ألقاها طفل عابث على الأرض فتشظّت ألف قطعة.

لكن أكثر الذين يمكن أن تتشوّه ذاكرة الأمكنة في وجدانهم هم الأطفال. حين يرتبط المكان بالقهر والحرمان والبشاعة والموت، سيتشوّه معناه كما قيمته، كائن أتى إلى الحياة مشوّهاً. بالنسبة لمئات آلاف الأطفال الذين عاشوا تحت الحصار، قتلوا أو أصيبوا، بكفاف الطعام أو الدواء بقوا على قيد الحياة! لكنها لم تكن حياة.

نعم، بالنسبة للسوريين الذين عاشوا الحصار في مناطق كثيرة من البلاد لم تكن تلك حياة. الأمر لم يقتصر على تدمير علاقتهم مع أمكنتهم الأساسية التي سجنوا بها وسجنت بهم واختبروا تجارب فجائعية معها، بل أيضاً لأنهم حرموا من علاقات مع أمكنة أخرى غير متاحة في حصارهم أو في مخيمات اللجوء، حين تحوّل البيت خيمة المدرسة خيمة، والمقهى خيمة، وما من داعٍ للحديث عن أماكن أخرى تبدّدت من حيواتهم كالمسارح والسينمات والساحات والحدائق وغيرها.. في مخيمات اللجوء ولسنوات طويلة انمسخت الأماكن كلها إلى خيم. خيم يُغرقها المطر، تطير مع الرياح، وتختنق في حر الصيف، أماكن طارئة عنوانها اللاأمان.

كل الدمار الذي شوّه تفاصيل سوريا لن يُشفى ويعاد ترميمه ببساطة، كلّنا نعرف ذلك. لم أكن أتوقّع أبداً أن سقوط النظام يعني أن نستلم مفاتيح الفردوس وندخل اليوتوبيا/ سوريا الفاضلة. بلد سُرقت من ناسها، تآكلت لعقود بقيم وممارسات عفنة وخطاب قمعي إقصائي، فُتّت بشكل ممنهج وزُرع الخوف بين طياتها، لكن سقوط النظام كان مجرّد عتبة لا بد منها كي يستعيد أهل البلاد بلادهم، كي ننتقل إلى حقبة جديدة ستتطلّب الكثير الكثير من النضال سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات. البناء الأهم هو بناء الانتماء للوطن/ مكاننا، لسوريا الموحدة الحرّة الملونة، بلد القانون والديمقراطية والمواطنة واحترام التعددية والحقوق الشخصية والسياسية والثقافية والاجتماعية والدينية للجميع.

نهابة، أودّ أن أختم الحديث بقصتي الخاصة مع “ساحة الفاروس” في مدينتي اللاذقية. لا يمكنني أن أذكر تلك الساحة المسكينة إلا قذرة، مليئة برائحة الدخان والدم، بسبب محلات بيع الدجاج وعشرات السرافيس التي اتخذت الساحة كراجاً لها. المرور عبرها كان بالنسبة لي، وللكثيرين غيري، أشبه بعقوبة. صدمتي الكبيرة كانت حين اكتشفت مؤخراً بأن تلك الساحة كانت واحدة من أهم ساحات بلاد الشام. الأمر بالنسبة لي كان شبيهاً باكتشافي أن ذلك المتسوّل المسكين المتّسخ ممزّق الثياب، الذي يبحث في القمامة وهو يحدّث نفسه غاضباً، كان فناناً مبدعاً أو بروفسوراً أو أباً حنوناً مؤثراً، قبل أن ترميه الأيام بحجارتها!

تلك الساحة المهملة البشعة الفاروس كانت ساحة “دير الفاروس” واحد من أهم وأقدم الأديرة المسيحيّة في المشرق العربي، عُثر فيه على نسخة خطّية من الكتاب المقدّس مكتوبة بخط ثيودوسيوس، الأُسقُف الرومي سنة 181 م، الدير ذاته الذي زاره أبو العلاء المعري سنة 990 م وتعلّم الفلسفة اليونانية فيه!

سوريا كلّها تشبه ساحة الفاروس، وقد حان الوقت كي تستعيد هويتها الحقيقية البهيّة وتنفض عنها عفناً طارئاً كساها طويلاً. وعلى الرغم من إيماني بإمكانية تحقيق ذلك ولو طال الزمن، مازال وسواساً لئيماً لجوجاً، لا أستطيع التخلّص منه، يحكمني: كيف يمكن لمصائر هذه البلاد/ بلادنا أن تكون كمصائرنا متقلّبة درامية، صادمة فجائعية بهذه الطريقة؟!

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى