الأحداث التي جرت في الساحل السوريسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوعسياسة

عن الأحداث التي جرت في الساحل السوري أسبابها، تداعياتها ومقالات وتحليلات تناولت الحدث تحديث 21 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي

الأحداث التي جرت في الساحل السوري

—————————–

فرنسا «الساحل العلوي»: نوستالجيا الانتداب وابتذال الاستشراق/ صبحي حديدي

تحديث 21 أذار 2025

خلال مشاركته في مؤتمر المانحين حول سوريا، الذي احتضنته بروكسيل مؤخراً؛ ولكن، أيضاً، على صفحته الشخصية في منصة X ؛ كرّر وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو استخدام تعبير «الساحل العلوي» في إشارة إلى هجمات الفلول وأعمال العنف والاشتباكات المسلحة والمجازر ضدّ أبناء الطائفة العلوية خصوصاً، التي شهدتها منطقة الساحل السوري مؤخراً. ومن حيث المبدأ، أو التذرّع بحسن النوايا، في وسع المرء الافتراض بأنّ مساعدي الوزير الفرنسي (كي لا يُشار إلى واجب اطلاعه شخصياً على معطيات الحدّ الأدنى الديمغرافية حول المنطقة) قد أعلموه مسبقاً أنّ سكان ذلك الشطر من سوريا ليسوا علويين فقط، بل ثمة أطياف دينية ومذهبية وإثنية شتى، من سنّة ومسيحيين وتركمان وأكراد…

مصيبةٌ إذا كان بارو لا يعلم، أو لم يُعلمه مستشارون في وزارة ذات سجلّ حافل بفصولٍ عن سوريا البلد والشعب والجغرافيا، لا تعود بجذورها إلى إرث استعماري مُثقل بعقود من إراقة دماء السوريين وارتكاب الجيش الفرنسي مجازر وفظائع وانتهاكات فظة وجرائم حرب، فحسب؛ بل ينطوي تاريخها الحديث والمعاصر على ملفات شتى من التواطؤ مع نظام «الحركة التصحيحية» الأسد الأب ووريثه الابن معاً، والتغطية على منظومات الاستبداد والفساد، ومحاولات تجميل قبائح النظام وإعادة تأهيله. المصيبة أعظم إذا كان يعلم، أو أعلموه، لكنه فضّل التغافل عن العلم والمعلومة واختار استسهال هذا الطراز الفاضح من مسخ الصفة الفعلية الوطنية والديمغرافية التعددية لمنطقة الساحل السوري، إلى هوية طائفية ضيّقة من جهة أولى؛ ولا يغيب عنها، من جهة ثانية، مزيج من نوستالجيا استعادة مصطلحات الانتداب الفرنسي وتفاهة التشخيص الاستشراقي في آن معاً.

هذا، كما يقتضي إنصاف سجلات الخارجية الفرنسية (أو الـ«كاي دورساي» كما في التوصيف الاستعماري الأشدّ رسوخاً) وزير غرّ نصف جاهل/ نصف هاوٍ، أتى إلى الوزارة من بوابة حماقة كبرى ارتكبها رئيسه إمانويل ماكرون، حين حلّ الجمعية الوطنية ووضع فرنسا في مأزق حكومي لا يكفّ عن التفاقم. فإذا كانت تفوهاته حول «الساحل العلوي» زلّة لسان حمقاء في بروكسيل، فإنّ إصراره على استخدام التعبير ذاته على منصة X لن يفلح في منح عقله السياسي والدبلوماسي والمهني (سبق أن ترأس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي، كما شغل سابقاً وزارتَيْ التحويل الرقمي والاتصالات، وأوروبا) أدنى درجة من فضيلة الشك.

لكنه، من جهة ثالثة لا تقلّ مغزى، ليس غرّاً إلى درجة التغافل عن أضرار استخدام تعبير، خاطئ وحمّال إشكاليات عديدة وتحريضي واستفزازي، مثل «الساحل العلوي»؛ وبالتالي فإنّ من السذاجة الجنوح إلى تفسير الجهل أو انحطاط المعرفة أو زلّة اللسان، في قراءة إصرار بارو على استخدام التعبير تصريحاً في بروكسيل أمام محفل أوروبي ودولي، وتدويناً على منصّة يتابعها مئات الملايين في طول العالم وعرضه. وإذا عزّت مبررات الوزير في الحنين إلى أمثال جدّه الجنرال هنري غورو (المندوب السامي الفرنسي على سوريا ولبنان، الذي تقصد زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وخاطبه هكذا: «استيقظ يا صلاح الدين. لقد عدنا. وجودي هنا يكرّس انتصار الصليب على الهلالـ«)؛ فلعلّه يحنّ إلى دور الانتداب الفرنسي في تأسيس ما أسمته باريس «دولة جبل العلويين» بين سنوات 1920 وحتى 1936، وشجعت تضافره على تقسيم سوريا مع دويلات دمشق وحلب وجبل العرب، وسلخ لواء الإسكندرون وضمّه إلى تركيا.

أم لعلّ بارو هذه الأيام تناهبه حنين إلى سَلَف له في أيام ماضية يدعى لوران فابيوس، سنة 2012؛ الذي اشتبك، في قاعة مجلس الأمن الدولي، مع بشار الجعفري مندوب النظام السوري آنذاك، حول علاقة بعض «وجهاء» العلويين بالانتداب الفرنسي. وهكذا أشار فابيوس إلى واقعة صحيحة تاريخياً: «بما أنك تحدثت عن فترة الاحتلال الفرنسي، فمن واجبي تذكيرك بأن جدّ رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسمية وقّع عليها ومحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وإن أحببت أعطيك نسخة عنها».

ولأنه ينتمي إلى الـ«موديم» الحزب اليميني الذي يتلفع بأردية ليبرالية كاذبة، فلعلّ بارو اتكأ على تراث شاع في قصر الإليزيه، خلال عهود جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وتولى مراراً سلسلة عمليات تجميلية أعادت تأهيل صورة الأسد الابن؛ بل بادر شيراك إلى منح قَتَلة صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري المغفرةَ والترحيب معاً، مستأنفاً خطّ تعاطف مع نظام «الحركة التصحيحية» شمل الأب مثل الابن. ذاك عكس مزاجاً، سياسياً ولكن شخصياً أيضاً، جسدته حقائق أنّ شيراك كان الرئيس الغربي الوحيد الذي سار في جنازة الأسد الأب؛ كما كان المبادر إلى كسر عزلة الأخير الدولية، حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998؛ وإلى إضفاء شرعية سياسية وأمنية على وجود قوّات النظام السوري في لبنان، خلال افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت، سنة 2002.

من جانبه كان ساركوزي يواصل سياسةً في مراقصة طغاة الشرق الأوسط اعتمدها رؤساء فرنسا، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ــ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان). فإذا كانت الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة «السياسة العربية لفرنسا» فإنّ خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري كان مدانياً لسلوك طبيعي، منتظَر وغير مستغرب البتة، من ذلك الرجل بالذات. الابتذال الاستشراقي تبدى أولاً في الزعم بأنّ العلاقة مع الأسد الابن هي امتداد «جغرافي» لوقوع سوريا على شواطئ المتوسط؛ الأمر الذي يلمّع انتداباً فرنسياً استعمارياً خضعت له سوريا، قبل أن يطوي صفحاته العنفية التي أراقت دماء السوريين في موقعة ميسلون صيف 1920، وقمع الثورة السورية الكبرى لعام 1925، ومذبحة حامية البرلمان السوري سنة 1945…

وظلّ حبراً على ورق ذلك النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها «العفو الدولية» و«ميدل إيست واتش» و«الاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان» و«الشبكة الأورو ـ متوسطية» و«المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب»…)؛ وناشدته إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في سوريا. أحد أسلاف بارو في الخارجية (برنار كوشنر، صاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول) اكتفى بدسّ قصاصة في جيب وزير خارجية النظام وليد المعلّم، تضمنت لائحة بأسماء معتقلين سياسيين سوريين، سوف ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

سلسلة الأضاليل، التي يشيعها خطاب بارو تتقاطع على نحو وثيق مع مقاربات حول سوريا الراهنة الجديدة باتت شائعة في بعض وسائل الإعلام الفرنسية، تنساق تلقائياً إلى استخدام تنميطات مشابهة، اختزالية وابتسارية يُستطاب توظيفها سريعاً ضمن سياقات العزف المتكرر على نغمة «الأقليات» و«المكوّنات». هي، إلى هذا، ليست بمنأى عن مغازلة تيارات اليمين المتطرف والعداء للإسلام عموماً والسنّي منه خصوصاً، حيث يخدم التوصيف الهوياتي المذهبي أو الإثني في تفتيت إجماع وطني متنامٍ، قبيل تصنيفه قسراً في هذه أو تلك من مقولات «التشدد» أو «السلفية» أو حتى «الإرهاب».

ولا عجب أن يصمت بارو عن انتقادات طالت تعبيره المغلوط الفاضح، فالقادم من الرجل قد لا يكون مماثلاً فقط، بل أعظم!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

——————————-

سوريا… احتدام التنافس بين أجندات الخارج والداخل/ إبراهيم حميدي

ترمب يتوقع التقسيم وإسرائيل تريد “فيدرالية” وإيران تدفع إلى “التشظي”… والدول العربية تريد الاستقرار

19 مارس 2025

الرئيس دونالد ترمب قال في جلسة مغلقة، إن سوريا “ماضية إلى التقسيم لثلاث مناطق”. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث علنا عن “حماية الدروز”، وروج آخرون في حكومته لسيناريو “الفيدرالية”. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد دعم “وحدة سوريا” و”محاربة الإرهاب” ومنع قيام كيان كردي.

إيران، من جهتها، لم تقبل الهزيمة الاستراتيجية في سوريا. امتصت الصدمة وقررت التحرك فيها عبر “ثلاث جبهات”، فيما قبلت روسيا بتقليل خسائرها والبحث مع دمشق عن علاقات جديدة تتضمن استمرار وجودها العسكري ونفوذها في البلاد والإقليم.

أما الدول العربية والأوروبية، فقررت الانخراط مع الإدارة السورية الجديدة، لأن “دعمها أقل كلفة من أي بديل آخر”، وهي تريد الاستثمار في المكاسب الجيوسياسية، المتعلقة بخسارة إيران وروسيا، لأن أمن سوريا يتعلق بأمنها واستقرار الإقليم.

هذه خلاصة تقديرات ومعلومات من مسؤولين غربيين تحدثوا إلى “المجلة” خلال الأيام الماضية.

أميركا: التقسيم

في الأيام الأخيرة لإدارة جو بايدن، فتحت بابا للحوار مع الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتقت المسؤولة في الخارجية باربرا ليف، رئيس الإدارة أحمد الشرع في دمشق، وواصلت اتصالات غير معلنة قام بها دبلوماسيون أميركيون مع وزير الخارجية أسعد الشيباني، كما خففت بعض العقوبات عن قطاعات سورية لمدة ستة أشهر.

منذ مجي إدارة دونالد ترمب، تشير المعلومات إلى وجود اتجاهين:

الأول، يرفض الانخراط مطلقا مع دمشق ويستند في موقفه إلى بُعد أيديولوجي يتعلق بـ”القاعدة”، أو تجارب شخصية تخص حرب العراق وهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 أو بسبب علاقة شخصية مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد مثل مديرة المخابرات الوطنية تولسي غابارد. كما يرفض أصحاب هذا الرأي العمل مع الجيش السوري الجديد لمحاربة “داعش” ضمن التحالف الدولي وقيادة عملية “العزم الصلب”.

الثاني، مستعد لـ”انخراط مشروط” وفق مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، عبر إقدام دمشق على سلسلة من خطوات تشمل: تشكيل حكومة جامعة، تشكيل جيش مهني حرفي، إبعاد المقاتلين الأجانب، تدمير برنامج السلاح الكيماوي والتدمير الشامل، محاربة “داعش”، التمسك بإبعاد إيران خارج سوريا، قطع طريق الإمداد إلى “حزب الله”، عدم الموافقة على استمرار وجود القاعدتين العسكريتين الروسيتين.

في المقابل، تعرض واشنطن استعدادها لخطوات تشمل تخفيف العقوبات على قطاعات محددة في شكل تصاعدي وصولا إلى رفع كامل للعقوبات و”قانون قيصر” في نهاية المطاف بعد حوالي أربع سنوات، علما أن قائمة العقوبات الأميركية تشمل “قانون قيصر” و”قانون محاسبة سوريا” و”دعم الإرهاب”، ويعود بعضها إلى عام 1979، إضافة إلى عقوبات فردية ضد مسؤولين في النظام السابق وشخصيات حالية أخرى.

سوريا ليست أولوية على أجندة ترمب. وتجري حاليا مراجعة داخل المؤسسات الأميركية وصولا إلى سياسة موحدة إزاء سوريا. ونُقل عن ترمب قوله في اجتماع خاص إن سوريا ستقسم إلى ثلاث مناطق تابعة لقوى خارجية مثل إسرائيل وتركيا وغيرهما، وإنه لا بد من محاربة “الإرهاب”، مع تلميح إلى إمكانية الانسحاب من شمال شرقي سوريا، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع (البنتاغون) إلى إعداد خطط للانسحاب في ستة أشهر، ودعمها بقوة لقائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي للوصول إلى حل تفاوضي مع الرئيس أحمد الشرع خلال ذلك.

إسرائيل: فيدرالية

يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التأثير على ترمب وفريقه، بحيث تكون حسابات تل أبيب ذات أولوية في البيت الأبيض الذي لا يدرج سوريا ضمن أولوياته في الشرق الأوسط. بالفعل، جرت مناقشات بين أجهزة إسرائيلية وأخرى أميركية حول هذا الملف، مع ترجيح رأي تل أبيب في شؤون جارتها.

نتنياهو يعتبر سوريا أولوية له هي والأمن القومي وإبعاد ايران. فالجيش الإسرائيلي قام بمجرد سقوط الأسد بتدمير جميع الأصول العسكرية الاستراتيجية السورية، البرية والجوية والبحرية والبرامج العلمية والصاروخية. كما احتل المنطقة العازلة في الجولان بموجب اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974. وسيطر على قمة جبل الشيخ ومنابع المياه في المنطقة. وشن سلسلة غارات في جنوب سوريا ووسطها لمنع بناء أصول استراتيجية دفاعية سورية.

إضافة إلى ذلك، تتخذ إسرائيل موقفا عدائيا ضد الحكم السوري الجديد، وهي تدفع باتجاه إقامة “فيدرالية” أو “لامركزية واسعة” في سوريا، تشمل إقليما جنوبيا يتضمن السويداء ودرعا، وشرقيا يشمل “قوات سوريا الديمقراطية”، وغربيا يتضمن إقليما علويا، بحيث يبقى الإقليم العربي-السني الأكبر معزولا عن جواره وفضاءات المياه الدافئة.

جرت اتصالات سرية حول هذه الأمور في واشنطن وعواصم إقليمية. ويدفع نتنياهو بقوة لإقناع ترمب وفريقه بهذا التصور، الذي هو موضع قلق عربي وتركي ومواكبة إيرانية غير مباشرة ومتابعة روسية، كما هو محل مواكبة أوروبية مع ترجيح للمقاربة البريطانية.

روسيا: تقليل الخسائر

عندما أدرك الرئيس فلاديمير بوتين قرب نهاية بشار الأسد الذي تمرد مرات عدة على طلباته- وكان آخرها رفضه لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان بناء على مبادرة الكرملين- رتب مع نظيره التركي الانخراط في الأيام الأخيرة من نظام الأسد لتقليل الخسائر الروسية الاستراتيجية وتجنيب دمشق والموالين للنظام الخراب والانتقام.

بالفعل جرى الانتقال بأقل كلفة للمدن والبشر والموالين للنظام، ولم تتعرض القاعدتان الروسيتان، في حميميم وطرطوس، لأي هجمات من النظام السوري الجديد. كما صدرت تصريحات من المسؤولين السوريين الجدد تتحدث عن العلاقة القديمة مع روسيا واحترام مصالحها باعتبارها دولة كبرى.

زار ميخائيل بوغدانوف مبعوث الرئيس الروسي دمشق والتقى الرئيس الشرع الذي تلقى اتصالا معلنا من بوتين وآخر غير معلن. تتناول المحادثات السورية–الروسية نقاطا عدة: التزود بالسلاح الروسي، تسلم بشار الأسد وكبار المسؤولين المتهمين بجرائم حرب، مستقبل القاعدتين الروسيتين، المساهمة في إعمار سوريا، تقديم المساعدات والأموال السورية المطبوعة تعويضا عن مساهمة روسيا في قمع الشعب السوري، الديون الروسية لسوريا.

بوتين أبلغ دمشق رسالة واضحة بأنه لن يسلم الأسد إلى دمشق، لأنه “قال كلمته وقدم له لجوءا إنسانيا”، كما أنه لم يقبل فكرة أن “ينتحر الأسد على الطريقة الروسية”، لكن موسكو أبدت انفتاحا لتقديم السلاح والمساهمة في الإعمار وسحب قواتها “فورا إذا أرادت دمشق”. كما أبدت دمشق انفتاحا لبحث وجود عسكري روسي في سوريا. والمفاوضات جارية وتتناول هذه البنود والمقايضات.

في هذا السياق، حصل تطوران: الأول، أن تل أبيب سعت لدى واشنطن لتأييد استمرار الوجود الروسي لـ”موازنة النفوذ التركي” في سوريا. والثاني، تمرد فلول النظام السوري في الساحل، حيث اتخذت موسكو موقفا يسمح لها باستخدام هذا التمرد ورقة ضغط على دمشق وورقة تسمح لها بترك الخيارات مفتوحة في حال أقيم إقليم علوي.

إيران: التشظي

لم تقبل طهران الواقع الجديد بفقدان سوريا بعد لبنان، فهي خسرت طريق الإمداد إلى “حزب الله”، والحديقة الخلفية للعراق، وأداة الضغط على إسرائيل عبر جبهتي لبنان وسوريا. كل المؤشرات تشير إلى تفضيل إيران خيار “التشظي السوري” والرهان على الوقت، لاستعادة موطئ قدم في سوريا. عليه، بدأت في الفترة الأخيرة بعد اجتماعات سرية عدة تحريك أوراقها لفتح ثلاث جبهات:

الأولى، استعادة علاقات مع مسؤولين في النظام السوري السابق كان بينهم العميد غياث دالا، الذي كان يقود “قوات الغيث” في “الفرقة الرابعة” بقيادة اللواء ماهر، شقيق بشار الأسد، وكان ضابط الارتباط مع “الحرس” الإيراني و”حزب الله”. ماهر الأسد نفسه هرب مع قادة ميليشيات تابعة لإيران في 8 ديسمبر/كانون الأول إلى العراق، وقيل إنه انتقل إلى السليمانية في كردستان العراق. ومن غير المؤكد مكان وجوده الحالي. كانت أيادي إيران واضحة في تمرد الساحل الأخير، بالدعاية والتدريب والمعلومات.

الثانية، الضغط على “الحشد الشعبي” العراقي للتحرك نحو الحدود السورية. وإيران تريد تعزيز وجودها في العراق بعد خسارات “الهلال” في بلاد الشام، وتريد استخدامه في الملعب السوري. أيضا، يجري تداول سيناريو عودة “داعش” للنشاط في الأنبار وغربي العراق والتوغل نحو البادية السورية.

الثالثة، الضغط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتحريك عشائر عربية شرق الفرات، للتنسيق والعمل العسكري ضد الإدارة السورية الجديدة. قائد “قسد” نفى ذلك في حديثه إلى “المجلة”. وقال: “لن يكون هناك مستقبل لعلاقات مع إيران. ونحن حاليا نركز على أن نكون جزءا من الإدارة الجديدة وجزءا من المحادثات السياسية لا أن نكون معارضة كما يتهمنا البعض”. كما وقع اتفاق مبادئ مع الرئيس الشرع في دمشق يوم 10 مارس/آذار بعد جهود أميركية وفرنسية مكثفة.

تركيا: مع الوحدة ضد كيان كردي

لم يكن أردوغان مرتاحا كثيرا لاتفاق الشرع-عبدي. الاتفاق كان موجودا على طاولتيهما منذ لقائهما في 29 ديسمبر، لكن تمرد الساحل والانتهاكات فيه من جهة، وحديث الأميركيين السري عن احتمال الانسحاب بعد ستة أشهر من جهة ثانية، وتفاهم زعيم “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان مع أنقرة من جهة ثالثة، دفعت الشرع وعبدي لتلبية جهود أميركية-فرنسية، وتوقيع اتفاق يحتاج تنفيذه إلى الكثير من التفاوض وخريطة طريق، هي في قبضة مساعديهما. مظلوم حق نجاحا بأنه “فتح باباً رئاسياً لمناقشة حقوق الأكراد لأول مرة في التاريخ”. والشرع، فتح باباً سورياً لحياكة الخريطة السورية بعد أكثر من عقد من التآكل.

تركيا تدفع إلى تنفيذ مبادئ الشرع-عبدي، وهي: منع وجود “الإدارة الذاتية” وأي كيان كردي، وانضواء شمال شرقي سوريا ضمن سوريا الموحدة، وتفكيك البنية العسكرية الثقيلة لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، وطرد قادة “حزب العمال الكردستاني” الموجودين في قيادة “الوحدات”.

وتسعى تركيا للإفادة من علاقتها مع “هيئة تحرير الشام” والشرع للدفع باتجاه تعزيز نفوذها في سوريا والإقليم في النواحي التجارية والعسكرية والسياسية والجيوسياسية. فسوريا تاريخيا بوابة تركيا إلى العالم العربي. لكن هذا النفوذ هو مصدر قلق لدول أخرى بينها دول عربية فاعلة.

الدول العربية: استقرار سوريا ووحدتها

منذ سقوط الأسد، بادرت دول عربية كبرى لدعم النظام الجديد وفتح صفحة جديدة معه، لأسباب عدة، بينها: البناء على الخسارة الاستراتيجية الأكبر لإيران منذ 1979. تخفيف اعتماد النظام السوري الجديد على تركيا. الحوار والانخراط والدعم لسوريا الجديدة وإعطائها الفرصة، لأن البديل سيئ جدا، والفوضى في سوريا مضرة والتقسيم خطير على الدول المجاورة والأمن الإقليمي العربي.

اكتشفت دول عربية حدود التحرك والدعم. لا يزال سيف العقوبات مسلطا. أميركا وافقت على تسهيل إمداد سوريا بالغاز لصالح توفير الكهرباء وسمحت بصفقة تتضمن مقايضة إعفاءات مقابل الوصول إلى السلاح الكيماوي السوري، لكنها لا تزال ترفض السماح بتحويلات مالية كبرى والانفتاح على النظام المصرفي السوري. هناك إصرار على ترك هامش الوقت لدمشق وتقديم النصيحة وليس الضغط والتحاور مع واشنطن ودول أوروبية لاعتماد أفضل الخيارات الواقعية حاليا في سوريا.

الأجندة السورية وجرس الإنذار

ما حصل في الساحل السوري بين 6 و10 مارس/آذار، سواء التمرد أو الانتهاكات الكبيرة، كان بمثابة جرس إنذار. فقد أظهر أهمية المفاجأة التي حصلت في 8 ديسمبر، إذ سقط نظام الأسد بعد 54 سنة من دون كلف دموية كبيرة بفضل التزام العناصر في “هيئة تحرير الشام” والفصائل الأخرى بتعليمات القيادة العليا.

لكنه أظهر في الوقت نفسه، أسئلة حول سلسلة القيادة من فوق إلى أدنى، ومدى التزام المقاتلين أو الفصائل بالتعليمات، وطرح أسئلة في عواصم أوروبية عن “حماية الأقليات”، ودفع باريس إلى تأجيل توجيه دعوة لزيارات رفيعة لمسؤولين سوريين وعواصم أخرى لتجميد إعادة فتح سفاراتها لأسباب أمنية. إضافة إلى ذلك، كان بمثابة ناقوس خطر لما يمكن أن يحصل في حال عمت الفوضى. فتشظي سوريا يعني تطاير الشظايا والجهاديين في الإقليم وما وراءه.

برزت مشكلة تسريح عناصر الجيش والأمن والشرطة وموظفي القطاع العام، وتوفير الخدمات والكهرباء. فأصبح الملف الاقتصادي الاجتماعي أولوية للحكم الجديد. فالعقوبات لم ترفع والمساعدات الدولية تراجعت والتوقعات الشعبية زادت. قد يكون أحد الحلول طبع أموال جديدة، وتنفيذ هذا في موسكو. قد يكون الرمق في مساعدات عاجلة، لكنها قليلة طالما أنها عينية مرتبطة بالنظام المصرفي الغربي. ولا تزال الجالية السورية وحلفاء دمشق العرب والإقليميون، يعملون لدى واشنطن لرفع العقوبات وتخفيف معاناة الناس، لأنه دون ذلك، فإن تأثير رفع العقوبات الأوروبية والبريطانية والكندية سيكون محدودا جدا.

وأظهر المؤتمر الدولي التاسع لدعم سوريا في بروكسل يوم 17 مارس/آذار، الدعم الأوروبي المستمر للسوريين، حيث أعلن عن تعهدات مالية بقيمة ستة مليارات دولار أميركي. فمنذ عام 2011، حشد الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أكثر من 37 مليار يورو من المساعدات داخل البلاد وفي المنطقة.

لكن الأهم أن المؤتمر أظهر، أن دعم الحكم السوري الجديد سيكون أقل كلفة من أي خيار آخر، بما في ذلك خيار عزله. وواصلت فرنسا جهودها لحشد المجتمع الدولي، تماشيا مع مؤتمر باريس في 13 فبراير/شباط، لإيجاد حلول دائمة وتوفير الاحتياجات الأساسية. كما جددت رسالتها إلى السلطات السورية بضرورة محاكمة ومعاقبة المسؤولين عن العنف ضد الضحايا المدنيين في الأسابيع الأخيرة.

مقابل الأجندات الخارجية، هناك أجندة سوريا وخيوط سورية. وباعتبار ما حدث في الساحل كان جرس إنذار واختبارا كبيرا، فإن الشرع رد عليه بسلسلة خطوات برغماتية انفتاحية تمثلت في تشكيل لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي وإعلان دستوري. هناك انقسام حول هذه الخطوات. البعض قابله بالترحيب، فيما شكك آخرون فيها وطرحوا أسئلة عن ضرورة أن تكون الخطوات جامعة وأن تكون الخطوط مفتوحة في الاتجاهين بين المركز والأطراف.

أجندة دمشق هي رفض التقسيم ورفض الفيدرالية والعمل على بناء جيش وطني وحكومة ومؤسسات دولة وتعميم السلم الأهلي. واتفاق الشرع–عبدي، كان يعني في أحد جوانبه، إعطاء أولوية للأجندة الوطنية. هناك خطوات منتظرة ومتبادلة بين المركز وجهات الجنوب والشمال والغرب، لقطع الطريق على الأجندات الخارجية المتنافسة. وهناك أجندات خارجية متنافسة على مستقبل سوريا. عمليا، يحتدم الصراع بين أجندات الخارج وأجندة الداخل، ولكل أدواته وتحالفاته وإمكاناته ومواقيته.

المجلة

——————————-

أدونيس.. لنغسل أيدينا إلى الأبد/ سلمان عز الدين

“ضُبط” أدونيس في وقفة تضامنية مع ضحايا أحداث العنف التي شهدها الساحل السوري مؤخرًا، والظهور في مناسبة كهذه ليس مما يعيب المرء عادة، بل على العكس هو جلاب للمديح والثناء، سواء أكان المعني شخصًا عاديًا أم شاعرًا “عالميًا”.

غير أن الكثيرين تعاملوا مع أدونيس هنا وكأنه “ضُبط” فعلًا، وواقع الحال يشير إلى أن الرجل لا يملك هذه المرة أيضًا ما يدافع به عن نفسه، أو بالأحرى: لا يملك مريدوه ودراويشه ما ينافحون به عنه، ذلك أن أدونيس نفسه لا يتنازل للدفاع عن مواقفه وأفكاره أمام “الغوغاء”، ولا حتى لتوضيح هذه المواقف والأفكار، وهو الذي لا يزال ينتظر أن تأتي الأجيال القادمة لتفهم شعره وفكره، في تسليم لا يخلو من تلذذ أن معاصريه لا يفهمونه البتة.

وها هو الرجل يكتب نثرًا وشعرًا منذ ستين عامًا، وها هي “الأجيال القادمة” تتوالى، فيما الحاصل أنه يزداد غموضًا والتباسًا.

ولكن لم إصرار البعض على أدونيس أن يخرج ليشرح ويفسر ويُفهمنا؟ ماذا لو خرج غدًا، أو بعد غد، وشرح بواحدة من عباراته الغرائبية النبوئية، كأن يقول: “لأن العصف الجميل قد أتى ولكن الخراب الجميل لم يأت بعد”. ماذا؟ هل فهمتم شيئًا؟

وما يضعف حجة المنافحين أن معظم النقد لأدونيس جاء من أناس أعلنوا بوضوح موقفهم الإنساني والأخلاقي والوطني من أحداث الساحل. قالوا فيها ما قالوه عن أحداث مماثلة سابقة عمت المناطق السورية في عهد النظام البائد وعلى يديه: إنها جرائم موصوفة. كما أدانوا السلطة الجديدة مثلما كانوا قد أدانوا السلطة الساقطة. الشيئ الذي يكشف السبب الأساس لهذه الحملة على الشاعر: لماذا لم يفعل ذلك هو أيضًا؟. لماذا صمت أربعة عشر عاما ملأها النظام البائد مذابح ومجازر، وجاء الآن فقط ليعلن صحوة ضميره؟.

يقيم أدونيس، منذ دهور، فوق السحاب. وعندما اشتعلت الثورة السورية قرر الهبوط والتفرغ بضع ساعات لشؤون هذه الدنيا، فخط رسالة إلى بشار الأسد اقترف فيها ثلاث أو أربع حماقات من العيار الثقيل. قال له: السيد الرئيس أنت رئيس شرعي ومحبوب من السوريين الذين انتخبوك. ثم تكرم بإعطاء بضع نصائح ثمينة، بينها حل حزب البعث الذي رآه السبب الوحيد لغضب الناس من رئيسهم المحبوب. ثم ودع السيد الرئيس وودعنا إلى غير رجعة.

ومن هناك، من فوق، من الطبيعي أن تتغلب الرؤية الميتافيزيقة على الشاعر، فتبدو له المحنة السورية مجرد حلقة جديدة في ذلك الصراع العبثي الذي يخوضه البشر الحمقى منذ الأزل. أناس يتقاتلون لنقص أصلي في عقولهم، لعيب خلقي في غرائزهم.. أما السياسة وشؤونها، أما السلطة السياسة الديكتاتورية وما تقترفه، أما القهر الاجتماعي الواقع على المواطنين.. فكلها مما لا يليق بشاعر رؤيوي أن يكترث به.

ولو أن أدونيس اكتفى بهذه اللامبالاة الفوق أرضية لكان ذلك أخف وطأة، لكنه كان يلتفت بين فترة وأخرى إلينا، نحن سكان هذه الأرض المنكوبة، مقاربًا أزمتنا بطريقة غير مباشرة، من بعيد لبعيد، ووفق رؤيته ذاتها التي لم تتبدل.

ومقاربة أدونيس لا تبتعد كثيرًا عن تلك التي يتشبث بها بعض النخبويين في بلادنا، وتقوم على تقريع الجماهير الجاهلة المحصنة ضد الحداثة، هذه “الغوغاء” التي يغيبها أفيون الشعوب، فتغدو مسؤولة عن إحباط كل محاولات التحديث، بسبب تعلقها بالتراث وتشبثها بالثقافة الشعبية، والتقاليد البالية، والعقل الغيبي، والعلاقات الاجتماعية المتخلفة. 

بالمقابل فإن السلطة السياسية، سلطة بشار الأسد وسواه، والنخب الثقافية الدائرة في فلكها، تعفى من النقد والتقريع، فلا مسؤولية تقع على بطشها وجرائمها وشعاراتها الفارغة وحداثتها الزائفة وتحديثها القسري الأجوف، تعاليها وكسلها وإهمالها المتعمد للثقافة وتكبيلها للإبداع. وإذا ما حضر النقد لهذه السلطة، فعبر همس لطيف، أو همهمة غير مفهومة أو كلام إنشاء عام مما يردده الباحثون عن رفع العتب.

 وإضافة إلى الجماهير التي يكرهها أدونيس، هناك مذنبون لا يني الرجل يحاربهم بضراوة منذ عقود: أسلافنا الذين أورثونا هذا التراث المكبل، وصاغوا لنا حياتنا الكئيبة هذه، وهو بالطبع يستمر في تحقيق انتصارات باهرة عليهم، ربما لأن منطقه فذ وساحق، أو ربما لأنهم، جميعًا، صاروا أمواتًا منذ ألف عام.

ولماذا قرر أدونيس فجأة أن ينزل إلى عالم البشر وينخرط مباشرة في شؤونهم، فيشارك في وقفة “سان ميشيل” في باريس؟

“استيقظ حسه الطائفي”، يقول كثيرون مشيرين إلى انتمائه إلى المنطقة نفسها التي شهدت أحداث العنف الأخيرة. ويا له من كلام صعب، ليس على أدونيس طبعًا فهو محصن بلا مبالاة كتيمة، ولكن على الذين يضطرون إلى ترديد هذه العبارة مغامرين بأن يخدشوا إحساس أهل الضحايا، ولكن أدونيس هو المسؤول عن ذلك، إذ لطالما جرح إحساس مئات الألوف من أهالي الضحايا السوريين، بصمته حينًا وفزلكته الفارغة حينًا آخر، وبتصويبه السهام إلى كل الأهداف ما عدا تلك التي يتوجب أن توجه إليها في كل الأحيان.

وربما يكون الحل فيما اقترحه البعض: أن نغسل أيدينا من أدونيس مرة وإلى الأبد، فقد صار هذا أمرًا فنتازيًا: هو يصر على مفاجأتنا منذ عقود طويلة، ونحن مصرون على أن نتفاجأ ونصيح: “ياااه غريييب!”.

الترا سوريا

———————————-

6 عوامل أفشلت الانقلاب في سوريا/ كمال أوزتورك

19/3/2025

لم ترشح رواية رسمية مفصلة عما جرى في سوريا في 8 مارس/ آذار 2025، ومع ذلك فقد كانت تلك الأحداث التي شهدها الساحل السوري في جوهرها “محاولة انقلاب”.

تذكروا أن العمليات الإرهابية التي بدأها جنود سابقون من جيش الأسد في مناطق اللاذقية وطرطوس وحماة سرعان ما تحولت إلى اشتباكات في أماكن متعددة.

هذه المواجهات، التي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص، أثارت ردود فعل قوية على مستوى الرأي العام العالمي، وخاصة في تركيا وأوروبا وأميركا، حيث انطلقت حملة تحت شعار: “العلويون يرتكبون مذابح”، مما دفع الولايات المتحدة وروسيا إلى دعوة مجلس الأمن الدولي لعقد اجتماع طارئ.

لكن الأحداث لم تتوقف عند هذا الحد. في شمال حلب، خرج مسلحو قوات سوريا الديمقراطية YPG وحزب العمل الكردستاني PKK من مواقعهم في حيي الشيخ مقصود والأشرفية الخاضعين لسيطرتهم، وهاجموا قوات الأمن التابعة للحكومة السورية الجديدة. شهدت هذه المناطق اشتباكات عنيفة، ونتج عن ذلك اضطرابات كبيرة داخل المدينة.

وفي الوقت نفسه، بدأت المليشيات الشيعية داخل العراق، إلى جانب الجماعات الكردية شبه العسكرية القريبة من PKK، في التحرك، لكن الحكومة العراقية وتركيا منعتا دخول هذه الجماعات إلى سوريا.

وبمرور الوقت، أصبح من الواضح أن هذه الأحداث لم تكن مجرد اضطرابات عشوائية، بل كانت جزءًا من مخطط منظم يهدف إلى الإطاحة بالحكومة السورية، وذلك من خلال تحركات منسقة بين بقايا جيش الأسد وقوات سوريا الديمقراطية YPG.

وكان من يقف وراء هذا المخطط، إسرائيل، وبدرجة أقل، إيران. لكن هذه المحاولة فشلت.

إذن، كيف حدث ذلك؟

لماذا فشلت محاولة الإطاحة بالحكومة في دمشق؟

سبق أن كتبت هنا أن إسرائيل، في إطار إستراتيجيتها لزعزعة استقرار سوريا، حاولت خلق فوضى عبر استغلال الأقليات الدرزية والعلوية والكردية.

لكن الدروز لم يكونوا جزءًا من هذا المخطط. بل على العكس، أعلن زعيمهم في لبنان وليد جنبلاط، إلى جانب العديد من العائلات الدرزية، وقوفهم إلى جانب الحكومة السورية.

في المقابل، انسحبت بعض المجموعات من الجنود السابقين لجيش الأسد إلى العمل السري داخل المناطق العلوية، حيث نظمت نفسها بانتظار اللحظة المناسبة للهجوم على الحكومة. وكان من الواضح أن هذه الجماعات تلقت تحفيزًا من إيران.

يُعتقد أن التحذير الصارم الذي وجهه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإيران بعدم التدخل في الشأن السوري كان يستند إلى معلومات استخباراتية تلقتها أنقرة حول استعداد بقايا جيش الأسد وقوات YPG لتنفيذ هجمات.

أما رفض قوات سوريا الديمقراطية YPG المرتبطة بحزب العمال الكردستاني دعوة عبدالله أوجلان لإلقاء السلاح، فقد كان بإيعاز من إسرائيل، حيث استغل التنظيم الاضطرابات التي بدأت في اللاذقية وطرطوس ليشن هجمات على قوات الأمن التابعة للحكومة السورية في حلب، ليكون جزءًا من المخطط الأوسع للإطاحة بالحكومة.

لو نجحت هذه الخطة، لكانت دمشق قد دخلت في حالة من الفوضى، وكان من الممكن أن تمتد الاضطرابات إلى العاصمة، مما كان سيؤدي إلى سقوط حكومة أحمد الشرع، مدعومًا ذلك بتدخلات من قوى أجنبية.

وكانت النتيجة التي يهدف إليها المخطط هي إقامة دولتين جديدتين في سوريا: دولة علوية على الساحل، ودولة كردية بقيادة YPG في الشمال. هذه الخطة كانت جزءًا من المشروع الإسرائيلي المعلن لتقسيم سوريا، كما أنها كانت تتماشى مع المصالح الإيرانية.

أما روسيا، فقد فضلت البقاء في موقف المراقب، في انتظار معرفة من ستكون له الغلبة قبل أن تحدد موقفها النهائي.

لكن هذا المخطط لم ينجح، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب:

1- التحالف التركي-السعودي أفشل المخطط

حظيت الحكومة السورية الجديدة بدعم قوي من اثنتين من أقوى دول المنطقة. عندما قدمت تركيا والمملكة العربية السعودية دعمًا قويًا لحكومة أحمد الشرع، انضمت إليهما دول أخرى ضمن نفس التحالف.

مع بداية الأحداث، حلّقت الطائرات الحربية التركية فوق الحدود العراقية- السورية، مما منع المجموعات الكردية والمليشيات الشيعية شبه العسكرية التي كانت تحاول العبور إلى سوريا.

وبعد يومين فقط من اندلاع المواجهات، زار كل من وزير الخارجية التركي، ووزير الدفاع، ورئيس جهاز الاستخبارات الوطنية (MİT) دمشق، ليعلنوا مجددًا دعمهم العلني للحكومة السورية.

من جانبها، أعلنت السعودية وقوفها إلى جانب الحكومة السورية، كما ضمنت دعم القبائل العربية والجماعات المدعومة من الأردن لصالح دمشق. وكان لهذا الدعم التركي والسعودي الدور الأكبر في إفشال المحاولة الانقلابية.

2- نجاح الحكومة السورية في إدارة الأزمة

بعد اندلاع الأحداث في اللاذقية وطرطوس، تابع أحمد الشرع بجدية الادعاءات التي تفيد بأن المدنيين تعرضوا للأذى، وبدلًا من إنكار هذه الادعاءات، قام على الفور بتشكيل لجنة وفتح تحقيقًا رسميًا، وهو ما كان نقطة تحوّل هامة.

كما تمكنت الحكومة من السيطرة على بعض الجماعات التي خرجت عن السيطرة وألحقت أضرارًا بالمدنيين، حيث تم اعتقال عناصرها، مما أدى إلى طمأنة الأقلية العلوية بشأن سلامتها، وأحبط أي محاولة لتحويل الأزمة إلى حرب أهلية. وقد ساهمت هذه الإجراءات أيضًا في تهدئة الرأي العام العالمي.

3- تأثير اتفاق عمّان

قبل يوم واحد فقط من اندلاع الأحداث، اجتمعت كل من تركيا وسوريا والعراق ولبنان والأردن في عمّان، حيث أعلنت للمرة الأولى عن إنشاء هيكل مشترك لمكافحة تنظيم الدولة.

وقد لقي الإعلان عن أن أربع دول مجاورة لسوريا ستؤسس مركز عمليات داخل البلاد لدعم الحكومة السورية صدى واسعًا في المنطقة.

إلى جانب ذلك، أعلنت هذه الدول عن تعاونها في مجال أمن الحدود، ومكافحة المخدرات، والتصدي للإرهاب، مما مثل دعمًا كبيرًا لسوريا.

استوعبت كل من إيران وإسرائيل هذه الرسالة، كما أدركت القوى التي تعمل بالوكالة داخل سوريا أن قنوات دعمها الخارجية ستنقطع قريبًا، وهو ما شكل تأثيرًا نفسيًا ساهم في إحباط المحاولة الانقلابية.

4- التوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة

أدى قيام الإدارة الأميركية بمفاوضات مباشرة مع حماس بشأن وقف إطلاق النار في غزة إلى تصاعد التوتر بين إسرائيل والولايات المتحدة.

وفي رد فعل علني على الانتقادات الإسرائيلية، وقبل أن يتم عزله لاحقًا، قال المبعوث الخاص الذي عيّنه ترامب لشؤون الأسرى في غزة، آدم بوهلر، في تصريح لشبكة CNN: “نحن لسنا عملاء لإسرائيل؛ لدينا مصالح محددة، وقد تواصلنا مع حماس بناءً على هذه المصالح”.

وفي حديث لصحيفة وول ستريت جورنال، قال مسؤول أميركي: “لقد بذلنا جهدًا من أجل تحقيق تقارب بين الأكراد والحكومة السورية”، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة كانت تتصرف بشكل معاكس لسياسة إسرائيل التي تهدف إلى زعزعة استقرار سوريا. وهذه المؤشرات كانت تدل على وجود خلافات واضحة بين إسرائيل والولايات المتحدة.

وعندما فشلت المحاولة الانقلابية، التقى قائد القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) الجنرال مايكل إريك كوريلا مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (SDF) مظلوم عبدي، ثم نقله على متن مروحية أميركية إلى دمشق، حيث تم ترتيب لقائه مع أحمد الشرع للتوصل إلى الاتفاق الشهير بين الطرفين.

في الواقع، لم يكن هذا الأمر يروق لإسرائيل، لأن هذا الاتفاق كان يساهم في استقرار سوريا، وهو ما لا يخدم المصالح الإسرائيلية.

5- الواقع الجيوسياسي

الأمر الذي لم تستوعبه إسرائيل والفصائل المدعومة من الولايات المتحدة، هو أن الواقع الميداني في سوريا، إلى جانب التغيرات الجيوسياسية الجديدة، لم يعد يسمح لهما بتنفيذ العمليات التي كانتا تخططان لها بسهولة.

فتركيا، التي تمتلك قوة عسكرية كبيرة داخل الأراضي السورية والتي دفعت PKK إلى إطلاق نداء بإلقاء السلاح، ازدادت نفوذًا بعد تراجع الدور الإيراني في الساحة السورية. إلى جانب تركيا والسعودية، تدعم قطر وعدد كبير من الدول الإقليمية الحكومة السورية، وترفض أي عمليات عسكرية تهدف إلى زعزعة استقرارها. كما أن خمس دول مجاورة لسوريا شكلت تحالفًا وأعلنت دعمها للحكومة السورية.

كل هذه العوامل تشير إلى أن الواقع الجيوسياسي قد تغير بشكل جذري، ولذلك فإن تنفيذ انقلاب داخل سوريا لم يعد أمرًا سهلًا كما كان يُظن.

6- الصراع الأوروبي-الأميركي

أثرت الحرب التجارية التي بدأها ترامب مع أوروبا على التوازنات الإقليمية أيضًا، حيث بدأت أوروبا في التقارب مع تركيا، كما بدأت في معارضة السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة وإسرائيل في كل من سوريا وغزة. عارض الاتحاد الأوروبي علنًا تهجير الفلسطينيين من غزة إلى دول أخرى، كما أصدر بيانًا بشأن الاضطرابات في سوريا جاء متطابقًا تقريبًا مع الموقف التركي، حيث قال:

“يدين الاتحاد الأوروبي بشدة الهجمات الأخيرة التي شنتها عناصر من بقايا نظام الأسد ضد قوات الحكومة المؤقتة، وأعمال العنف ضد المدنيين في المناطق الساحلية السورية”.

كان هذا التصريح بمثابة دعم واضح للحكومة السورية الجديدة. وبعد الإعلان عنه، أصيبت الجاليات الكردية والعلوية في أوروبا بخيبة أمل، إذ لم تتمكن من تشكيل رأي عام أوروبي داعم لمطالبها.

كما أن هذا التصريح كان مؤشرًا على أن أوروبا لم تعد مستعدة لدعم كل ما تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل فرضه في المنطقة. كل هذه العوامل أدت إلى فشل المحاولة الانقلابية في سوريا.

لكن هناك حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها: الشعب السوري بات يدعم حكومة أحمد الشرع، وقد أنهكته الحروب ولم يعد يريد سوى الاستقرار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

كاتب وصحفي تركي

الجزيرة

—————————-

ما مصلحة إيران من إشعال حرب طائفية في سوريا؟/ فراس فحام

2025.03.20

تواترت التسريبات التي تشير إلى تورط إيران في أحداث الساحل السوري التي اندلعت بداية آذار الجاري، حيث تفيد المعلومات التي رشحت أن 3 غرف عمليات شاركت في تسهيل هجوم فلول الأسد على مواقع الأمن السوري في الساحل، إحداها موجودة في العراق، والثانية في الرقة، والثالثة في الهرمل على الحدود السورية اللبنانية.

ومن قبل المواجهات في الساحل السوري التي أودت بحياة مدنيين أيضاً، عملت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تدار من لبنان والعراق على التحريض، وتقديم سردية تدعي أن العمليات الأمنية التي ينفذها الجيش السوري ضد فلول الأسد على أنها حرب تستهدف الطائفتين العلوية والشيعية.

تعاملت إدارة العمليات العسكرية التي قادت المواجهات ضد نظام الأسد بحساسية عالية تجاه العراق، حيث وجه قائد العمليات أحمد الشرع خلال المعارك التي اندلعت في كانون الثاني الماضي رسائل للجانب العراقي، أكد فيها الحرص على علاقات جيدة مع دول الجوار، كما سُهلت عودة سكان بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين شمالي حلب إلى منازلهم بعد انتهاء العمليات وحمايتهم من أي انتهاكات، مع منع الاقتراب من المزارات الدينية الشيعية.

هذا السلوك من الجانب السوري قوى موقف الحكومة العراقية التي تتبنى الانفتاح على سوريا، وسحب الذرائع من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، والتي بقيت إلى ما قبل زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بغداد منتصف الشهر الجاري تعارض إقامة علاقات مع سوريا، تجسيداً للرؤية الإيرانية.

ولا تزال طهران ترغب في استخدام الأراضي العراقية من أجل زعزعة الاستقرار في سوريا، ووفق ما رشح من معلومات فإن وزير الخارجية السوري طالب بغداد بعدم السماح لإيران بالاستمرار في توظيف أطراف عراقية لعرقلة تطوير العلاقات العراقية السورية.

تمارس إدارة ترمب ضغوطات كبيرة من أجل نزع سلاح الأذرع الموالية لإيران في العراق ولبنان، ويطالب ترمب بحل فصائل “الحشد الشعبي”، أو دمجها ضمن مؤسسات الدولة الرسمية، في ظل معارضة طهران لهذا الخيار الذي سيؤثر بشكل كبير على نفوذها في الساحة العراقية التي تتعامل معها طهران على أنها منصة للتهرب من العقوبات، وساحة مناورة سياسية وعسكرية لتحقيق مصالح إيرانية.

من جهة أخرى، تشهد الساحة اللبنانية منذ عدة أشهر نقاشات حول مستقبل سلاح “حزب الله” اللبناني، والدعوة لتولي الجيش اللبناني مهمة بسط الاستقرار.

استمرار التوتر الطائفي في سوريا، وحصول اشتباكات على الحدود العراقية السورية، أو السورية العراقية كما حصل مؤخراً في الهرمل بعد تسلل عناصر من “حزب الله” إلى الأراضي السورية، يقوي خيار تمسك الحزب والفصائل العراقية المتحالفة مع إيران بسلاحهم، وعرقلة عملية احتكار الدولتين العراقية واللبنانية فقط للسلاح.

لا يبدو أن هذا التوقيت مناسب لإيران بما يتعلق بتفكيك الأذرع المسلحة المرتبطة بها في المنطقة، خاصة وأنها ترفض مطالب ترمب بالعودة إلى الاتفاق النووي لكن تحت الضغوطات الاقتصادية والسياسية، وتفكيك الفصائل الموالية لها يعني تجريد طهران من ورقة ضغط وقبل الجلوس على طاولة المفاوضات.

وطوال فترة التصعيد بين إيران وإسرائيل خلال عامي 2023 و2024، اعتمدت طهران على أذرعها العراقية واللبنانية في تنفيذ هجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة لتهديد أمن إسرائيل، ويبدو أن طهران تتخوف من موجة تصعيد جديدة ضدها، حيث تحلق طائرات استطلاع أميركية في الآونة الأخيرة قرب الحدود الإيرانية، وبالتالي فمن الطبيعي أن تدفع طهران باتجاه استمرار هذه الأذرع المسلحة.

تلفزيون سوريا

—————————–

سوريا وتجاوز ثنائيّة الأكثريّة والأقليّة!/ حسن المصطفى

سوريا اليوم في حاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وألّا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع.

17-03-2025

لا يزالُ مفهوم “المواطنة” ملتبساً في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، كون هذه المجتمعات لا تزال في حالة هجينة، لم تنتقل فيها تماماً إلى الدولة الوطنية الحديثة الناجزة، رغم أن عدداً منها مرت عليه عقود طويلة على الاستقلال، وجزء رئيس من هذا الخلل يعود إلى المنظومة المعرفية الهشة التي شُيدت عليها الأنظمة أو السياسات.

ثمة مفاهيم فلسفية أساسية تدخل في حقل “الفلسفة السياسية”، وهي بمثابة القاعدة الصلبة التي تشيد عليها مؤسسات الدولة، وتوزع وتفصل من خلالها السلطات، وتنتظم العلاقة بين الحكومة والمواطنين، وأيضاً تُشكل الإطار المفاهيمي للدستور.

“المواطنة الشاملة” هي واحدة من أهم تلك المفاهيم، وهي إذ تحضرُ اليوم في الفضاء العربي – الإسلامي، فهي لا تُطل بوصفها قيمة ترفية، بل ركن ركين من دونه لا يمكن لمدماك الدولة الوطنية أن يستقر.

من تابع الأحداث الدموية والمواجهات العسكرية وعمليات التمرد والقتل والانتقام التي جرت في الساحل السوري، أخيراً، وراح ضحيتها أبرياء ومدنيون كثر – من دون الدخول في الجدل السياسي والغرق في وحول الإشاعات والمعلومات المضللة التي تنتشر في شبكات التواصل الاجتماعي – سيجد أن ما جرى يشير إلى قصور في فهم معنى “المواطنة” وإدراك كنهِها لدى شريحة واسعة من السياسيين والجمهور العام!

“المواطنة الشاملة” تعني في أبسط صورها أن الأفراد والجماعات في أي دولة، هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه لا يجوز التمييز بينهم لأسباب عرقية أو دينية أو مناطقية، وهم بذلك لهم الحق في الحصول على فرصٍ متساوية، سواء في التعليم أم في العمل أم في الطبابة وسواها، وأيضاً يستطيعون التعبير عن ذواتهم الخاصة أو الجمعية، بشكل حرٍ ومن دون إكراهات.

هذا يقودنا بالتالي إلى أمرٍ يتجاوز المفهوم السائد لـ”الحقوق”، والقائم على تصورٍ منقوصٍ لـ”الديموقراطية” التي يتصور البعض أنها تعني حكم الأكثرية، وبالتالي يحق لهذه الأكثرية أن تضع ما تشاء من قوانين طالما كان ذلك وفق الإجراءات المنصوص عليها، وبقوة تصويت الأغلبية وتأييدها!

هذه النزعة فيها شيء من الاستعلاء وأيضاً يشوب ممارستها خللٌ كبير، لأنها سوف تنتهك مفهوم “المواطنة الشاملة” الذي يتجاوز التقسيمات القديمة: أكثرية وأقلية.

هذا التقسيم، يخلق تقابلاً يدفع نحو الصراع، وهو يتجاوز المنافسة السياسية إلى المناكفة وفرض ثقافة أعلى على أخرى أدنى!

وعليه، من الممكن أن يقود تقابلُ “الأكثرية” و”الأقلية” إلى تعميق القلق الاجتماعي وزرع بذور الريبة والشك المتبادل.

إن المجتمعات الحديثة في أوروبا على سبيل المثال، بنيت على مفهوم “المواطنة الشاملة”، وبالتالي تم تجاوز الثنائيات المتصارعة، لأن الجميع مواطنون، لهم هوياتهم الفرعية الخاصة، ولهم الحق في إبراز ثقافاتهم ومعتقداتهم، إنما ليس هنالك حق لأكثرية أن تضطهد أكثرية، ولا يمكن للأقلية أيضاً أن تتمرد على الأغلبية، لأن “المواطنة” تجعل المكونات المتجاورة محكومة بـ”القانون العادل” وتحت سقف الدولة المدنية.

سوريا اليوم بحاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وأن لا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع، قادرة على تقديم خطاب وطني ترى فيه كل هذه المكونات ذاتها من دون انتقاص أو تضخم، ويفتح الطريق أمام بناء الدولة الحديثة وتنميتها.

هنالك واقعٌ صعب ومعقد في مجتمع عانى من حكم استبدادي طوال عقود خلت، وهو لا يزال لم يتداو من جراح الأحداث الدامية ما بعد عام 2011 وما جرته من مجازر وحروب أهلية؛ إلا أن هذا الإرث الثقيل من الوجع والعذابات يجب أن يكون حافزاً لبناء “مواطنة حقيقية” لا صورية، وأن يدرك الجميع أن الدم والثأر والكراهية والانتقام، كل هذه هي وصفات جاهزة للخراب الذي سيكون الجميع فيه خاسرون.

هذا الوعي المفاهيمي لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها، بل لا بد من أن تبادر الدولة السورية والمجتمع المدني والقيادات الروحية والسياسية والمثقفين إلى بثِ روح وطنية واعية، تتسامى على الجراح، وتتجاوز الثنائيات المتجادلة والمتصادمة، وتذهب إلى مشاركة حقيقية في بناء الدولة وفق مشاريع عملية طموحة؛ و”المواطنة الشاملة” هي مفتاح رئيس لهذا التحول الذي ينشده السوريون وتتمناه لهم الدول والشعوب الصديقة. 

النهار العربي

——————————-

سورية… فيدرالية الأمر الواقع!/ أحمد مولود الطيار

20 مارس 2025

يرى كثيرٌ من السوريين أنّ أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ”الجولاني”، هو “رجل المرحلة” والضمانة الوحيدة لعدم انزلاق سورية نحو المجهول، حتى إنّ بعضهم بات يردّد مقولةً مستعارة من النظام السابق مفادُها أنّه لا يوجد بديلٌ قادرٌ على إنقاذ البلاد.

غير أنّ هذا الطرح يواجه انتقاداتٍ جوهرية؛ إذ إنّ استمرار الشرع في السلطة قد يؤدّي إلى تفتيت سورية إلى دويلاتٍ وكياناتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ متجاورة، ممّا يجعلها عُرضةً لصراعاتٍ أهليةٍ متكرّرة قد تهدأ لفترةٍ ثم تشتعل مجدّدًا طالما بقي في موقع الحكم. يُضاف إلى ذلك أنّ الشرع نفسه، والجماعة التي كان يقودها (هيئة تحرير الشام)، يقفان حجر عثرةٍ أمام رفع العقوبات الأميركية المنصوص عليها في “قانون قيصر”.

منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، وتولّي أحمد الشرع رئاسة سورية، تمرّ البلاد بتحوّلات عميقة تعيد رسم خريطة النفوذ والسيطرة. ويبدو أنّ البلاد أصبحت مقسّمة فعليًّا بين قوى مختلفة، لكلٍّ منها تحالفاتها وحساباتها الخاصة، ممّا يثير تساؤلاتٍ حول ما إذا كان الشرع قد وافق ضمنيًّا على تقسيم سورية أم أنّه وجد نفسه مضطرًّا للتعامل مع واقع جديد مفروض عليه. ففي الجنوب، تبدو السويداء وكأنّها منطقة مستقلة بحكم الأمر الواقع، حيث لا يملك “الجيش العربي السوري” القدرة على دخولها أو فرض سيطرته عليها. يعود ذلك إلى عدّة عوامل، أبرزها التهديدات الإسرائيلية المباشرة، إذ أكّدت حكومة نتنياهو مرارًا أنّها لن تسمح بوجود أيّ قوةٍ عسكريةٍ تهدّد الدروز هناك. كما أنّ بعض القيادات الدرزية ومشايخ العقل لا يخفون وجود قنوات تواصل مع إسرائيل التي باتت تُعتبر بالنسبة لهم ضمانة لحماية مصالحهم وسط اضطرابات المشهد السوري. هذا التفاهم غير المعلن جعل السويداء عمليًّا خارج سيطرة دمشق، أشبه بمنطقةٍ ذات حكمٍ ذاتيٍّ غير رسمي.

في الشرق، وحيث تمتدّ منطقة الجزيرة السورية التي تشكّل 41% من مساحة سورية، فالوضع لا يقلّ تعقيدًا. فهذه المنطقة الغنيّة بالنفط والموارد الطبيعية بقيت خاضعةً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، رغم تغيّر القيادة في دمشق. وتشير المعطيات إلى أنّ الاتفاق بين الشرع و”قسد” أرسى نوعًا من التفاهم الهش، بحيث تحافظ الإدارة الذاتية الكردية على استقلاليتها مقابل تفاهماتٍ شكليةٍ تتعلّق بالسيادة مع الحكومة الجديدة. ولم تعد العلاقة بين واشنطن و”قسد” مجرّد تحالفٍ تكتيكي، حيث تستخدم الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية “عند الحاجة” كما يردّد البعض، بل تحوّلت إلى شراكةٍ استراتيجية، إذ ترى الولايات المتحدة في “قسد” شريكًا مهمًّا لضمان الاستقرار في المنطقة، بينما تعتمد القوات الكردية على الدعم الأميركي لتأمين استقلالية قرارها بعيدًا عن دمشق. في ظلّ هذا الوضع، لا يملك الشرع خيارًا سوى القبول بهذا الترتيب، ممّا يعني أنّ الجزيرة السورية أصبحت فعليًّا خارج السيطرة المركزية.

أمّا الساحل السوري، وإن بدا حاليًا ضمن النفوذ المركزي لدمشق، إلا أنّ مستقبله غير محسوم، خصوصًا بعد التطوّرات الأخيرة. فقد تآكلت شرعية النظام بين العلويين ولم تعد مضمونة، وهذا على افتراض أنّها كانت موجودة سابقًا، ما يفتح الباب أمام سيناريوهاتٍ مختلفة، من بينها تعزيز الحكم الذاتي أو البحث عن تحالفاتٍ جديدةٍ تضمن استقراره. وفي ظلّ هذا المشهد، يرى بعض المراقبين أنّ المناطق المتبقية تحت سيطرة الشرع باتت تشكّل ما يشبه “كانتونًا سنّيًّا”، حيث يسعى إلى موازنة علاقاته مع القوى الدولية والإقليمية لضمان بقائه. وهو يدرك أنّ الاعتراف الدولي بحكمه لن يتحقّق إلا إذا التزم بحدودٍ واضحة مع إسرائيل جنوبًا، وتجنّب أيّ مواجهة مع “قسد” شرقًا، وضمان مصالح تركيا شمالًا. وبهذا، تبدو حدود مناطق نفوذه مرسومةً بوضوح، من دون أن يكون قادرًا على توسيعها من دون الدخول في صدام مع القوى الفاعلة في الملف السوري.

وعلى الرغم من أنّ الشرع لا يصرّح علنًا بموافقته على تقسيم البلاد، فإنّ تحرّكاته وتفاهماته مع القوى الإقليمية والدولية تعكس قبوله ببقاء مناطق النفوذ الحالية طالما أنّها لا تهدّد سلطته في دمشق. فالسويداء تبقى خطًا أحمر بالنسبة لإسرائيل، والجزيرة محميّة أميركية بحكم الواقع، والشمال يخضع للتأثير التركي المباشر، بينما تحتفظ دمشق ومحيطها بسيطرة الشرع، مع تقديمه بعض التسهيلات الاقتصادية والسياسية لضمان اعترافٍ دولي ولو كان مشروطًا. وبذلك، يبدو أنّ أحمد الشرع قد اختار التعايش مع هذا الواقع بدلًا من خوض مواجهةٍ عسكرية مع القوى الكبرى والإقليمية التي ترسم حدود النفوذ في سورية. فالتقسيم غير المعلن بات أمرًا واقعًا، حيث تتقاسم البلاد قوى متعدّدة، فيما يحرص الشرع على تثبيت موقعه ضمن هذه الخريطة الجديدة، ولو كان ذلك على حساب وحدة سورية الكاملة.

وبعيدًا عن التدخّلات الدولية وصراع المصالح الإقليمية، يبقى الخطر الأكبر على وحدة سورية هو سياسات أحمد الشرع نفسه. فمنذ وصوله إلى السلطة، لم يقدّم مشروعًا وطنيًّا حقيقيًّا يهدف إلى إعادة توحيد البلاد، بل اعتمد على سياسة إدارة الأزمات عوضًا عن حلّها. وقد أدّى هذا الاستئثار بالحكم إلى عددٍ من المخاطر، أبرزها تعميق الانقسامات الطائفية والمناطقيّة، حيث بات لكلّ منطقة إدارتها الخاصة وعلاقاتها الخارجية المستقلة، ممّا يعزّز احتمالات التفتّت على المدى البعيد. بالإضافة إلى إقصاء القوى السياسية الأخرى، حيث لم يبادر الشرع إلى إشراك القوى الفاعلة في حوارٍ وطنيٍّ حقيقي، بل اكتفى بعقد تفاهماتٍ مع جهاتٍ خارجيةٍ للحفاظ على سلطته، ممّا أضعف إمكانية بناء دولةٍ مركزيةٍ متماسكة. كما استمرّ في ترسيخ حكم الفرد بدلًا من بناء مؤسساتٍ قويّة، ما يجعل البلاد أكثر هشاشةً أمام أيّ أزمةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ مستقبلية.

في الوقت الحالي، يبدو أنّ السلطة في دمشق تعمل وفق معادلة “التكيّف مع الأمر الواقع” بدلًا من السعي إلى مشروعٍ وطنيٍّ يوحّد السوريين. ولكن يمكن للشرع تبنّي نهجٍ جديدٍ قائمٍ على حوارٍ وطنيٍّ شاملٍ وحقيقي يشمل جميع المكوّنات السورية، من الأكراد إلى الدروز إلى العرب السنّة والعلويين، إضافةً إلى إصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ حقيقيةٍ تعيد ثقة المواطنين بالدولة عوضًا من الرهانات على الدعم الخارجي. وذلك كفيلٌ بإطلاق إعادة إعمارٍ متوازنةٍ تشجّع اللاجئين والنازحين على العودة إلى مناطقهم، ممّا يعيد توزيع النفوذ الداخلي. ولكن نجاح هذا الحلّ يتطلّب إرادةً سياسيةً قوية، وهو ما لم يظهر حتى الآن لدى الأطراف المتحكّمة بالمشهد.

السيناريوهات القادمة التي تنتظر سورية كثيرةٌ ومفتوحةٌ على احتمالاتٍ شتّى، وأحد تلك السيناريوهات أن يبقى الوضع الحالي كما هو عليه من دون إعلانٍ رسميٍّ للتقسيم؛ حيث تحافظ دمشق على سيطرتها على بعض المناطق، بينما تستمرّ الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق البلاد، ويبقى الشمال السوري خاضعًا للنفوذ التركي، والجنوب تحت تأثير إسرائيل بشكلٍ غير مباشر. وقد تحدث تحوّلاتٌ تدريجيةٌ، مثل توقيع اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ بين مختلف الأطراف، ممّا يؤدّي إلى نوعٍ من “الكونفيدرالية غير الرسمية”. وفي ظلّ الوضع الحالي، قد يبدو هذا السيناريو الأكثر واقعيةً على المدى القريب؛ إذ لا تزال الأطراف المتصارعة غير قادرةٍ على فرض حلٍّ نهائي. أمّا على المدى البعيد، فقد تتّجه سورية نحو أحد السيناريوهين: الفيدرالية الموسّعة أو إعادة توحيد الدولة، وذلك بناءً على مدى قدرة القوى الداخلية على تجاوز الانقسامات، ومدى استعداد الدول الكبرى لدعم حلٍّ شامل. أمّا السيناريو الأسوأ فهو التفكّك الكامل، لكنّه يظلّ أقلّ احتمالًا حاليًّا، لأنّ معظم الأطراف الإقليمية والدولية ترفض تقسيم سورية رسميًّا.

العربي الجديد

————————

عِبر ودروس من أحداث الساحل السوري/ هنادي إسماعيل

21 مارس 2025

عاش السوريون أوقاتاً عصيبةً جدّاً، بعد انتشار أخبار ومقاطع مصوّرة تُظهِر تعرّض مدنيين علويين للقتل بأيدي مسلّحين من الطائفة السُّنية. وقع ما كان أهل الساحل يخشون حدوثه، وما كانوا يتحدّثون عنه عقوداً في خلواتهم، كمن ينتظر زلزالاً مُرتقَباً. أتذكّر صديقاً مقرّباً لوالدي، وهو مهندس سوري علوي، كان له منصب إداري حكومي مرموق في اللاذقية، وكان قد تخرّج من روسيا، مثل أغلبية الشبّان من جيله وطائفته، ممّن استفادوا من المنح الدراسية الحكومية إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك، وكان معارضاً مسالماً مثقّفاً. وحين أقول معارضاً، أعني أنه كان ممتعضاً وغير راضٍ تماماً عن حكم العصابة الأسدية، بمعنى أنه لم يكن مُسيَّساً، بل تكنوقراطيّاً مثقّفاً. قرّر الرجل أن يهاجر إلى كندا مع أسرته الصغيرة، وأذكر، من حديث والدي الأخير معه قبل الهجرة، أن هاجس البقاء في سورية بالنسبة إليه كان مواجهة مستقبل مظلم، وقال لأبي حينها: سيأتي يوم ليس ببعيد يسقط فيه حافظ الأسد ويبدأ بعده حمّام دمٍ، يقتتل فيه السُّنة والعلويون في الساحل. كان هذا الحديث في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي.

حفرت هذه العبارة في ذاكرتي الصغيرة، وكثيراً ما كنتُ أسمع الهواجس نفسها فيما بعد، سواء ضمن أوساط العائلة أو حين كان يجتمع أصدقاء أبي في بيتنا في اللاذقية، وهم من المثقّفين المسيحيين والسُّنة والعلويين والملحدين، من معارضين سابقين أو صامتين، ومنهم من يمكن اليوم أن يطلق عليهم من “الأغلبية الصامتة”. لا يخفى على أحد أن خلفية هذا الهاجس الساحلي، إن أردنا العودة إلى الوراء قليلاً، مجزرة حماة في عام 1982 على خلفية تمرّد مسلح قادته فرقة نُسبت إلى جماعة الإخوان المسلمين آنذاك. وقد قدّرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان عدد الضحايا حينها بنحو أربعين ألف شخص، غالبيتهم من المدنيين، قتلوا ودفنوا جماعياً، ولم يتركوا وراءهم إلا بعض قصص الموت التي كانت تهمس في البيوت سرّاً وكثيراً من الخوف. هل كان صديق أبي الذي فرّ إلى كندا يخشى أن يدفع أطفاله يوماً ثمن ما اقترفته يدا حافظ الأسد وأخيه رفعت في حماة؟

اختار معظم أبناء الطائفة العلوية البقاء في سورية، في وقت كان فيه عدد لا بأس به من فئة التكنوقراط يسعى في حينها للهجرة إلى الخارج، فالامتيازات المتاحة لشباب الطائفة كانت بمثابة نقلةٍ نوعيةٍ في المستوى المعيشي قياساً بمعايير الظرف والمكان آنذاك. وجد كثيرون من شباب الطائفة فرصةً جيّدةً في الانتقال من مجتمع الزراعة والقرية إلى مجتمع المدينة، وأماناً مادّياً ثابتاً في وظائف الجيش والحكومة التي كانت متاحة لهم. ونتيجةً لذلك، ازدادت معدّلات الهجرة والتنقّل من القرى والمناطق الريفية إلى المدينة بشكل كبير، وتوسّعت المدن الساحلية لتُضمّ كثير من مناطق الطوق المتاخمة للمدينة ضمن توسّعات عمرانية سريعة، سكنها المهاجرون الجدد. وفيما بقيت كثير من هذه الأحياء الجديدة في اللاذقية ذات طابع اجتماعي متجانس، تقطنه أسر علوية من ذوي الدخل المحدود، توسّعت الأحياء الأقرب إلى وسط المدينة، وسكنها أقرباء عائلة الأسد، وكبار الضبّاط في الشرطة والجيش.

تميّزت المدن الساحلية من بقية المدن السورية بأنها نقطة تماسّ ساخن بين الطائفتَين عقوداً. والحقيقة أن هذا الشحن والتماس والاحتقان الاجتماعي لم يكن مبنيّاً على الانتماء الطائفي بقدر ما كان مرتبطاً بانتماء وولاء عصابات إجرامية محلّية للنظام، فكانت تمارس مختلف أشكال العنف والفوضى والإجرام، من اختطاف وسرقة وابتزاز وتهديد وفساد وتهريب ومحسوبيات، وترهب بقيّة السكّان في المدينة. وفيما ارتبطت قلّةٌ من الخارجين عن القانون من أبناء السُّنة بهذه العصابات، إلا أن معظم قادة هذه المجموعات وأفرادها كانوا من الطائفة العلوية، ومقرّهم بلدة القرداحة، مسقط رأس الأسد (الأب)، وكانوا يمارسون الإرهاب والإجرام باسم الطائفة والنظام. في الساحل، لم تكن الواسطة أو الرشى الطريقة الوحيدة لتسيير المعاملات الحكومية وخرق القانون، بل في كثير من الأحيان يكون مجرّد تأكيد الانتماء إلى الطائفة شفيعاً لشخص لقبه أو اسمه أو اسم عائلته لا يوحي بخلفيته الطائفية، ولطالما استجوبتُ في قاعة الامتحان في المدرسة والجامعة في محاولة لتقصّي خلفيتي الطائفية، وبالتالي فتح باب “المساعدة” والغشّ في الامتحان. ومع مرور عقود، أصبحت اللاذقية مركزاً للفساد وللخارجين عن القانون.

ولم تقتصر دائرة الفساد (فيما بعد) على فئةٍ أو طائفةٍ معينة، بل أصبح الفساد يمارَس أسلوبَ حياة وعمل وإدارة. وقد فرضت منظومة الإجرام والفساد المتأصّل في المجتمع تغييراً اجتماعياً كبيراً على جميع فئات المجتمع في المنطقة، فواقع الحال أصبح حالة اللاقانون والتجاوزات، ولم يعد أمراً يستنكره الناس أو يستغربونه، بل أصبحوا يستهزئون ويستهجنون من يخرج من هذه المنظومة. وبطبيعة الحال، وجدت غالبية أبناء الطائفة السُّنية من خرّيجي الجامعات أنفسهم من دون فرص عمل أو توظيف حكومي، فالتمييز الطائفي كان جزءاً من هذه المنظومة، ولم يجد أبناء السُّنة غير المقتدرين مالياً أملاً إلا الهجرة الاقتصادية، فكانت بلدان الخليج تستقبل معظمهم من الأطباء والمتعلّمين والأكاديميين. نحن إذاً أمام حالةٍ من تهجير أدمغة وإفقار فكري للبلاد، من ناحية، وحالة دمار للقيم والمبادئ الأخلاقية في المجتمع، من ناحية أخرى. يؤسّس الفساد المتأصّل وحالة التعايش مع الدمار الأخلاقي لانعدام الثقة بمصداقية الدولة والنظام الحكومي طبعاً، إلا أن الحال هذه في الوضع السوري، خصوصاً في الساحل، كانت تقودُه وتمارسه عصاباتٌ يقوم ولاؤها للنظام على أساس طائفي إجرامي. بعبارة أخرى، تستمدّ تلك العصابات الإجرامية المنظّمة شرعيتها ووجودها من انتمائها المذهبي وولائها الطائفي للنظام الحاكم.

ارتباط الفساد في سورية من أعلى رؤوس الهرم في النظام بهذه العصابات، عائلياً ومذهبياً، كان له أثر كبير في إحداث شرخٍ اجتماعي بين فئات المجتمع، من ناحية، وخصوصاً بين السُّنة والعلويين، وبين الأفراد عموماً، والدولة نظاماً وبنيةً، من ناحية أخرى. لقد آل الأمر في الساحل، وربّما في أغلب مناطق سورية، في العقود الثلاثة الأخيرة، إلى وضعٍ استباحت فيه جميع فئات المجتمع سرقة الكهرباء من الكابلات التي تزوّد الشوارع العامّة، والطرق، عبر تمديداتٍ كهربائيةٍ سرّيةٍ في بيوتهم. فالعلاقة بين الفرد والدولة هنا لم تكن تعاقديةً قائمةً على الحقوق والواجبات، بل كانت علاقة استيلاء واستغلال، يشعر الفرد ضمنها أن الدولة تسرقه بشكل أو بآخر، وأن الاستيلاء والكسب غير المشروعَين “شطارة” أو حقّ مشروع في أحسن الأحوال.

اكتسبت هذه المنظومة بعد اندلاع الثورة عام 2011 أبعاداً سياسية كيديّة في المجتمع، وأضيفت الوشاية والمكائد السياسية إلى قائمة الأدوات التي كانت تُستخدَم لتحقيق منافعَ ومكاسبَ مالية أو إدارية، وشهدت البلاد ظاهرة نهب وسرقات حكومية ضخمة. كذلك كان للعنف والاقتتال والمذابح التي ارتكبتها مليشيات طائفية (شيعية) عراقية وإيرانية ولبنانية، في الساحل وحمص خلال عقد ونيّف من الزمن، أثر كبير على تكريس التوتّر الطائفي بين الفئتَين، خصوصاً أن السواد الأعظم من الثوار والمعتقلين والضحايا كانوا من الطائفة السُّنية. بطبيعة الحال، لم تكن الثورة حِكراً على السُّنة، ولم يكن الدم الذي هُدر حِكراً عليهم أيضاً، إلا أن الحراك الشعبي غير المنظّم سياسياً، أي غير المؤدلج، كان من الطائفة السُّنية، وانضم إليهم أحرار الشعب من بقايا يساريين ووطنيين ومثقّفين وغيرهم، وكان بعضُهم من الطائفة العلوية، ومن المسيحيين، والأكراد، إلخ. ولا يتّسع السياق هنا لذكر المذابح التي اقتُرفت بحقّ المدنيين، سواء المتظاهرون السلميون منهم أو الآمنون في بيوتهم، وهي كثيرة ارتكبتها قوات النظام ومليشياته الطائفية، في اللاذقية ومناطق الساحل الأخرى.

لم يكن اشتعال الصراع اليوم في الساحل إذاً، كما يعلم كثير من أهل المنطقة، مفاجئاً. وفي الواقع، تاريخ العلاقة السياسية الاجتماعية بين الطائفة العلوية والدولة المركزية معقّد، ويعود تاريخه إلى فترة الحكم العثماني، ورغبة كثيرين من وجهاء العلويين ومشايخهم حينها في الاستقلالية السياسية ضمن نظام فيدرالي تحت حماية الانتداب الفرنسي، وهو ما أفضى حينها إلى تسمية الإقليم، الذي تولّت فرنسا حقّ انتدابه (بين عامي 1920 و1936)، رسمياً باسم “دولة العلويين”، أو “دولة جبل العلويين”، وليس “إقليم الساحل” مثلاً أو إقليم “اللاذقية وطرطوس”.

يستوجب هذا التاريخ المعقّد، بحيثياته العميقة التي فرضتها الأحداث الدامية خلال الأعوام السابقة، قراءةً شاملةً للمشهد اليوم، بعيداً من الحسابات السياسية وديناميكيات الصواب السياسي. ما نشهده اليوم من عنفٍ طائفيٍّ هو امتداد لتاريخ طويل من فقدان الثقة السياسية بين هاتين الطائفتَين، ومن سلسلة تاريخية من الاتهامات والتخوين والتشكيك. ينادي ناشطو الثورة اليوم في سياق تنديدهم بأحداث العنف في الساحل بوحدة الدم السوري، وحدة الشعب السوري، شعاراتٍ قامت عليها الثورة السورية منذ بداياتها في عام 2011، متغافلين عن السياق التاريخي للصراع والتوتّر بين الطائفتَين. بطبيعة الحال، لم تكن هذه الشعارات لترفع أيّام الثورة لو أن واقع الحال حينها كان لا يستدعي التذكير بهذه الروح الثورية النبيلة. بعبارة أخرى، رُفعت هذه الشعارات بوصفها محاولاتٍ نبيلةً لبتر الكره الطائفي، الذي كانت جذوره قد بدأت تعود إلى السطح مرّة أخرى حينها. ليس هناك أيّ شكّ لدى أيّ طرف في أن العنف الطائفي الإجرامي الذي حصل في الساحل كان مدفوعاً بالكره والغضب من الفئة، أو الفئات الشعبية، المسلّحة التي اقترفت هذه الجرائم بحقّ المدنيين بدم بارد. نقول هذا ونحن ما زلنا بانتظار نتائج تحقيق لجنة تقصّي الحقائق، ونقوله ونحن نعلم بأنه لولا تدخّل قوات الأمن لإيقاف العنف من جهة، وللتصدّي لعصابات الفلول الأسدية، من جهة أخرى، لكان حمّام الدمِ قد خرج من طوق الساحل حتماً. وعلينا، نحن الشعب أولاً، قبل الحكومة، مواجهة التاريخ والواقع، والاعتراف بهذا الماضي وقبوله، وهي عملية طويلة يتطلّب تحقيقها جهوداً سياسية تقودها لجان متخصّصة بالمساومة والصلح الأهلي. وهذه خطوة أساسية في مسار التعايش الأهلي وبناء الثقة بالدولة، وانخراط هذه الفئة الاجتماعية في الدولة المركزية مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع بقية فئات المجتمع.

ولعلّ هذه الجزئية تشكّل جانباً من تعقيدات المشهد السوري عامّة، فالقيادة الجديدة جاءت إلى الحكم بشكل مفاجئ، ويتّفق السوريون جميعهم بأن أحمد الشرع (والفصائل المسلّحة التي انضمت إليه في تحرير دمشق) غير معروف مسبقاً لهم، فكثير من السوريين لم يروا وجه قائد هيئة تحرير الشام قبلاً، ولم يتعرّفوا بوضوح إلى الفصائل الإسلامية الأخرى التي انضمت إلى هيئة تحرير الشام. وما زاد من غموض الوضع، صمت الرجل على الصعيد الداخلي خلال الأسابيع الأولى، وإحجامه عن مخاطبة الشعب، ووضع النقاط على الحروف في ما يتعلّق بمسائل مصيرية بالنسبة إلى الشعب السوري، مثل موضوع المحاسبة والمساءلة والعدالة الانتقالية، التي كانت (وما زالت) من أكثر النقاط المثيرة للحساسيات والنعرات الطائفية. وكانت بعض المصادر الإعلامية قد تداولت أنباءً عن مسامحات غير رسمية أجرتها الحكومة، وأخرى رسمية، في ظلّ صمت وإحجام رسمي عن التعليق على موضوع العدالة الانتقالية، كانت تقابلها تعليقات غير رسمية من الشرع حول أهمية المضي قدماً وتخطّي الخلافات.

لا يمكن للمراقب، في سياق فهم العنف الطائفي في الساحل اليوم، تجاهل أثر التغافل عن التطرّق إلى إشكالية المساءلة والعدالة بشكل واضح ومهني يحترم واقع الأمر والشعب، فالمطالبة اليوم بالمساءلة والتحقيق وتقصّي الحقائق، خلال مدّة أقصاها 30 يوماً، ليست إغفالاً لحقوق الملايين فحسب، وأغلبهم من الطائفة السُّنية، التي يُتوقّع منها اليوم المسامحة، بل هو قصورٌ في فهم ديناميكيات الصراع الأهلي وتأطيرها، خصوصاً في خطّ التماس في الساحل. معالجة إشكالية العدالة هي إحدى مقومات إرساء دولة المواطنة والعدل، ولبنة لا غنى عنها في مسار بناء الثقة بين الأفراد والدولة. كان على الرئيس أحمد الشرع التطرّق إلى هذا الموضوع الشائك في المراحل الأولى بعد التحرير، فالسرعة في تشكيل لجنة مستقلّة لتقصّي الحقائق لا يجب أن تكون خطوةً في مسار إثبات حسن النيات، بل إحدى الثوابت في مسار بناء السلم الأهلي.

أما الجزئية الأخرى من المشهد السوري المعقّد، فهي أحقية الشعب بالتحقّق من قيادته الحالية. ليس هناك شكّ، خصوصاً بعد حدوث العديد من الأخطاء الفردية أو تلك غير المحسوبة على الأمن العام، أن هاجس السيطرة الإسلامية على الواقع السياسي، حقيقي. وفي ظلّ غموض منهج القيادة الإسلامي في الحكم، يبقي وجود هذا الهاجس، وهذه المخاوف، عقبةً حقيقية في بناء الثقة بين الطوائف غير السّنية والمسيحيين، من جهة، والقيادة من جهة أخرى. فتاريخ المنطقة الحديث بعد “الربيع العربي”، وتصنيفات الولايات المتحدة والدول الغربية للجماعات الإسلامية المسلّحة، قد ساهما إلى حدّ كبير في شيطنة الإسلام السياسي. يأخذ هذا الأمر بعداً أكثر عمقاً في حالة الخصوصية السورية، والساحل تحديداً.

اندماج السوريين أبناء الطائفة العلوية في الدولة المركزية، التي تتّخذ طابعاً سُنّياً حتى الوقت الراهن، يبقى أمراً شائكاً. فحتى لو تحقّقت فرضية القضاء تماماً على بقايا الفلول المسلّح في المنطقة، تبقى إمكانية المشاركة السياسية غير واضحة الملامح، في ظلّ علاقة يشوبها الحذر، وإثبات حسن النيات والولاء، بدلاً من الثقة والمشاركة. وإثبات حسن النية لن يكون مقتصراً على العلاقة بين الطائفة العلوية والدولة، بل هي العلاقة بين الفئة السُّنية، التي حافظت على هويتها الثقافية، والطائفة العلوية، وهي علاقة لن تبنى إلا ضمن دولة العدالة والقانون والمشاركة السياسية. ونأمل أن تتمكّن الحكومة الانتقالية من اتخاذ خطوات مهنية وجادّة في مسار العدالة الانتقالية، خطوةً أولى في طريق تحرير سورية الفعلي من النظام البائد.

العربي الجديد

—————————

العنف الطائفي في سوريا.. تاريخ دموي حافل قبل أحداث الساحل محدث 21 مارس 2025/ محمد الريس

21 مارس 2025

رغم أنّها أعادت إلى الأذهان مشاهد من العنف الطائفي في سوريا، إلا أنّ أحداث الساحل لم تكن سوى قنبلة موقوتة تأجل انفجارها نحو ثلاثة أشهر بعد سقوط نظام الأسد، فما حدث خلال نحو 14 عامًا كان من المُستبعد أن ينتهي وتطوى صفحته بين ليلةٍ وضحاها.

ففي 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024 سقط نظام بشار الأسد، بعد معركةٍ خاضتها فصائل المعارضة المسلحة تحت اسم “ردع العدوان”، لتنهي عقب 11 يومًا من بدئها حكم حافظ وبشار الأسد الممتد منذ 53 عامًا، وتعلن انتصار الثورة بعد تعرّض الشعب السوري لأشنع طرق القتل وأعنفها على يد نظام الأسد منذ انطلاقته في مارس/ آذار عام 2011.

ولكن أين اختفت قوات نظام الأسد بعد سقوطه؟ سؤال كبير بقيت إجابته غير واضحة نحو ثلاثة أشهر، حيث كانت الوقائع تشير إلى أنهم بين قتيل وأسير وهارب خارج البلاد ومطارد داخلها، وأن معظم المطاردين خضعوا لعملية تسوية أطلقتها إدارة الأمن العام بعد سقوط النظام، وعليه فإن المتبقين منهم داخل البلاد ليسوا سوى مجرد فلول، بأعداد محدودة، متفرقين هنا وهناك.

هذا الاستنتاج نُسف بعد 6 مارس/ آذار عام 2025، حين أطلق عناصر موالون لنظام الأسد عملية عسكرية تسلَّلوا خلالها إلى مناطق عديدة ومراكز مدن رئيسة في الساحل السوري، حيث تم رصد انتشار أعداد كبيرة منهم تفوق 4 آلاف مسلّح في محافظتي طرطوس واللاذقية، لتصبح إجابة ذلك السؤال أكثر وضوحًا، وتنفجر تلك القنبلة الموقوتة بهذه العملية التي تبعها إعلان وزارة الدفاع السورية حملةً عسكريةً لبسط السيطرة على الساحل، تزامنًا مع دعوات أهلية وعشائرية للنفير العام من كل حدبٍ وصوب.

اندلعت المعارك، لكنّها أخذت سريعًا منحى طائفيًا، قد تتفاوت أسبابه المباشرة، بين احتضان الساحل لآلاف الخارجين عن القانون، أو استنفار القوى الأمنية، أو حالة الانفعال والحماسة الزائدة لدى البعض، لكنّها تعكس في مكانٍ ما حالة من التجييش لم تبدأ الآن، وإنما منذ عام 2011 مع ارتكاب الأسد مجازر طائفية قتلت آلاف الضحايا طعنًا وذبحًا وحرقًا ورميًا بالرصاص.

المجازر الطائفية في سوريا.. نهج الأسد لتثبيت حكمه

لم تبدأ الطائفية في سوريا مع أحداث الساحل، ولا بعد سقوط نظام الأسد، ولا عند انطلاق الثورة السورية عام 2011، بل سبقت ذلك بكثير، وتحديدًا بعد عام 1970، حين استولى حافظ الأسد على السلطة في سوريا، وأعطى أبناء الطائفة العلوية امتيازات واسعة، وبنى جيشًا وأجهزة أمنية على أساس طائفي، معززًا النفوذ العلوي وصولًا إلى السيطرة على مفاصل الدولة.

هذا النهج بدأه حافظ الأسد في السبعينيات، وحافظ عليه وريثه بشار من بعده، ليستخدمه على نطاق واسع بعد اندلاع الثورة السورية، وليربط زوال الطائفة العلوية بأكملها بزواله، ويخوّف أبناءها من الاحتجاجات الشعبية، ويوهمهم عبر وسائل إعلامه ومسؤوليه بأن هدفها إبادة العلويين، ليؤدي هذا الخطاب إلى ترسيخ الطائفية في النفوس والعقول، وليستخدمها بعد ذلك في تثبيت أركان حكمه.

وقد أدّى هذا الضخ الإعلامي وغيره من أنواع التجييش إلى ارتكاب 50 مجزرة طائفية على يد قوات نظام الأسد المدعومة بالميليشيات المحلية والأجنبية، التابعة لها، حيث استُخدمت فيها أشنع طرق القتل، من الذبح بالسكاكين إلى الطعن بحراب البنادق والسواطير، مرورًا بقطع الرؤوس، وليس انتهاءً بالإعدام الميداني بالرصاص، ثم حرق الضحايا بعد ذلك، لتقتل النيران من بقي في جسده بقايا روح، ولتشمل عمليات القتل الأطفال والنساء والمسنين، وليذهب ضحيتها نحو 3 آلاف مدني، تبعها عمليات حرق وتنكيل بالجثث، ورافقها عمليات اغتصاب للنساء، ونهب وسرقة وتخريب للمنازل، حسب توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وكان لمدينة حمص النصيب الأكبر من المجازر، حيث ارتُكبت فيها 22 مجزرة، راح ضحيتها 1030 مدنيًّا، بينهم 209 أطفال و200 سيدة، تلتها محافظتا حلب وحماة بواقع 8 مجازر في كل منهما، إذ قُتل في حلب 411 مدنيًّا، بينهم 63 طفلًا و34 سيدة، بينما قُتل في حماة 197 مدنيًّا، بينهم 21 طفلًا و20 سيدة، فيما جاءت محافظة ريف دمشق بعدهم بـ5 مجازر، قُتل فيها 631 مدنيًّا، بينهم 120 طفلًا و113 سيدة.

أما محافظات طرطوس وإدلب ودرعا، فشهدت كلٌ منها مجزرتين، حيث قُتل في طرطوس 473 مدنيًّا، بينهم 98 طفلًا و75 سيدة، بينما قُتل في إدلب 35 مدنيًّا، بينهم 7 أطفال و8 سيدات، وقُتل في درعا 59 مدنيًّا، بينهم 6 أطفال و10 سيدات، فيما شهدت محافظة دير الزور مجزرة واحدة قُتل فيها 192 مدنيًّا.

رغم مسؤولية نظام الأسد عن النسبة الساحقة من المجازر الطائفية في سوريا، إلا أن أطراف النزاع الأخرى ارتكبت عددًا محدودًا من المجازر الطائفية والعرقية، ثلاثة منها على يد تنظيم الدولة، وأربعة اشترك بها طرف أو أكثر من فصائل المعارضة المسلحة، وثلاثة على يد قوات الإدارة الذاتية الكردية وحملت صبغة عرقية

وإذا جئنا إلى المجزرة الأكثر دموية، فكانت على أرض الساحل السوري، وتحديدًا في مدينة بانياس، حيث شهدت منطقتا البيضا ورأس النبع، في مايو/ أيار عام 2013، عمليات قتل بالرصاص وذبح بالسكاكين والسواطير وضرب بالحجارة لعوائل بأكملها، تبعها حرق وتقطيع وتشويه للجثث، حيث عثر الأهالي على أقدام أطفال صغار تم قطعها بالسكاكين، ليذهب ضحية ذلك 459 مدنيًّا، بينهم 92 طفلًا و71 امرأة، إضافةً إلى عشرات المفقودين والمخطوفين.

كما شهدت محافظة حمص أربع مجازر ضخمة من أصل 22 وقعت فيها، حيث قُتل في هذه المجازر الأربع ما يزيد عن 600 مدنيّ، أي أكثر من نصف عدد الضحايا الإجمالي البالغ 1030 مدنيًّا.

المجزرة الأولى وقعت في أحياء الرفاعي والعدوية وكرم الزيتون بمدينة حمص، في مارس/ آذار عام 2012، وقُتل فيها 224 شخصًا بينهم 44 طفلًا و48 سيدة، إضافةً إلى تسجيل عمليات اغتصاب للنساء، وحرق وتشويه للجثث.

وشهد حي دير بعلبة مجزرة كبيرة، في أبريل/ نيسان عام 2012، راح ضحيتها 200 مدني، بينهم 21 طفلًا و20 سيدة، ورافقها عمليات اغتصاب واسعة للنساء.

أما المجزرة الثالثة، فتعرضت لها قرى الحولة، في مايو/ أيار عام 2012، حيث تم تكبيل أيدي الأطفال وتجميع الرجال والنساء، ثم ذبحهم بحراب البنادق والسكاكين، ثم رميهم بالرصاص، ليُقتل فيها 107 أشخاص، بينهم 49 طفلًا و32 سيدة.

كما شهدت قرية الحصوية مجزرة ضخمة، في يناير/ كانون الثاني عام 2013، قُتل فيها 108 مدنيين، بينهم 25 طفلًا و17 سيدة، منهم عائلات بأكملها، حيث ارتكبت عمليات القتل فيها رميًا بالرصاص وذبحًا بالحراب والسواطير، كما تبعها إحراق وتمثيل وتشويه للجثث، وكان من مشاهدها الصادمة أن عُلّقت بعض الجثث على أشجار في الطرقات وأسياخ تستخدم لذبح الحيوانات، كما عُثر على جثث مقطوعة الرأس، وجثة طفل مقلوعة العينين، وجثة رضيع داخل مدفأة، واغتُصبت سيدة أمام أطفالها.

أما أضخم مجزرة في محافظة حلب، فشهدتها قرية رسم النفل، في يونيو/ حزيران عام 2013، حيث نُفّذت فيها عشرات عمليات القتل الجماعي للنساء والأطفال والرجال والعجائز، ليبلغ مجموع القتلى نحو 192 مدنيًّا، بينهم 27 طفلًا و21 سيدة، فيما تعرّضت بلدة جديدة الفضل بمحافظة ريف دمشق في أبريل/ نيسان عام 2013، لعمليات إبادة جماعية طالت عوائل بأكملها، استُخدم فيها إلى جانب الرمي بالرصاص، طرق قتل بدائية كالرمي بالحجارة والذبح بالسكاكين، مما أدى إلى مقتل 191 شخصًا، بينهم 9 أطفال و8 سيدات، إضافة إلى عشرات المفقودين والمختفين قسريًّا.

هذا وشهد حيّا الجورة والقصور في مدينة دير الزور مجزرة، بين 27 سبتمبر/ أيلول و3 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2012، قُتل فيها 192 مدنيًّا، بينهم 12 سيدة و7 أطفال.

هذه المجازر كانت جزءًا من 50 مجزرة ارتكبتها قوات الأسد والميليشيات التابعة لها على أساس طائفي، فيما كانت الـ50 مجزرة جزءًا من منظومة القتل التي انتهجها نظام الأسد لسحق الانتفاضة الشعبية على مدار 14 عامًا، مستخدمًا أشنع طرق القتل وأعنفها، كالرصاص الحي، والبراميل المتفجرة، والأسلحة الكيماوية والحارقة، والقنابل العنقودية، والمسيّرات الانتحارية، وزرع الألغام،  والتجويع، والاعتقال ثم الإخفاء القسري ثم القتل تحت التعذيب، والمفخخات وغير ذلك، لتترك هذه المأساة جراحًا عميقةً لم تلتئم حتى بعد سقوطه.

مجازر طائفية وعرقية أفرزتها الحرب

رغم مسؤولية نظام الأسد عن النسبة الساحقة من المجازر الطائفية في سوريا، إلا أن أطراف النزاع الأخرى ارتكبت عددًا محدودًا من المجازر الطائفية والعرقية، ثلاثة منها على يد تنظيم الدولة، وأربعة اشترك بها طرف أو أكثر من فصائل المعارضة المسلحة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة، وثلاثة على يد قوات الإدارة الذاتية الكردية وحملت صبغة عرقية، ليكون محصلة المجازر الطائفية والعرقية في سوريا 60 مجزرة، 50 منها على يد قوات نظام الأسد، و10 على يد جميع الأطراف الأخرى، وفقًا لتقرير الشبكة السورية الصادر في 14 يونيو/ حزيران 2015.

فقد قُتل 14 مدنيًّا رميًا بالرصاص في قرية حطلة ذات الغالبية الشيعية شرق مدينة دير الزور في 12 يونيو/ حزيران عام 2013، على يد فصائل من المعارضة المسلحة وجبهة النصرة.

كما قُتل 10 مدنيين رميًا بالرصاص في بلدة صدد ذات الغالبية المسيحية جنوب محافظة حمص في 21 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2013، على يد فصائل من المعارضة المسلحة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة.

وقُتل 22 مدنيًّا في قرية مكسر حصان ذات الغالبية العلوية شرق محافظة حمص في 14 سبتمبر/ أيلول عام 2013، على يد جبهة النصرة.

كما قُتل 132 مدنيًّا في عدة قرى ذات غالبية علوية بريف محافظة اللاذقية في 4 أغسطس/ آب عام 2013، على يد فصائل من المعارضة المسلحة وجبهة النصرة وتنظيم الدولة.

أما تنظيم الدولة، فمجازره الثلاث ارتكبها في عامي 2014-2015، وكانت في قرية التليلية ذات الخليط الإيزيدي السني بمحافظة الحسكة وقريتي المزيرعة والمبعوجة ذات الغالبية الإسماعيلية بمحافظة حماة، متسببةً جميعها بمقتل 58 شخصًا.

وفيما يخص المجازر الثلاث المرتكبة من قبل قوات الإدارة الذاتية الكردية على أساس عرقي، فقد وقعت خلال عامي 2013 و2014 في مناطق الأغيبش والحاجية وتل خليل وتل براك ذات الوجود العربي الكثيف بمحافظة الحسكة، وذلك بعد اقتحامها وتنفيذ عمليات إعدام بالرصاص الحي، حيث قُتل فيها جميعًا نحو 91 شخصًا.

أحداث الساحل.. ماذا حصل؟

مما لا شك فيه أن قوات الأمن السوري استطاعت حماية المواطنين المنتمين للطائفتين العلوية والشيعية في مدن حماة وحمص واللاذقية وطرطوس من عمليات قتل واسعة على أساس طائفي، وذلك منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024 حتى 5 مارس/ آذار عام 2025، أي نحو ثلاثة أشهر.

لكنَّ ما بعد 6 مارس/ آذار ليس كما قبله، حيث تعرّضت قوات الأمن السوري في اللاذقية وطرطوس لسلسلة من الهجمات والكمائن المتزامنة من قبل عناصر موالين لنظام الأسد، وقع إثرها عشرات القتلى والجرحى والأسرى الذين نُفّذت بحقهم إعدامات ميدانية فيما بعد، إضافةً إلى انتشار العناصر على امتداد مساحات واسعة في الساحل السوري.

هذا الحدث الأضخم من نوعه منذ سقوط نظام الأسد، أعاد إلى أذهان السوريين زمن حكم الأسد، وسجن صيدنايا، والبراميل المتفجرة، والاعتقالات التعسفية، والإخفاء القسري، والقتل تحت التعذيب، فخرج آلاف المتظاهرين في مختلف المدن السورية، مطالبين بالنفير العام والقضاء على الميليشيات الموالية للأسد والثأر لدماء ضحايا قوات الأمن العام.

وصارت حالة استنفارٍ عامةٍ تحركت معها الأرتال نحو الساحل السوري، قادمةً من عدة مدن وبلدات، واندلعت اشتباكات عنيفة ومعارك في عدة مناطق، خاضتها قوات الأمن رفقة فصائل عسكرية وجماعات مدنيّة مسلحة ضد فلول الأسد، مما عقّد مهمة ضبط تصرّفات جميع العناصر التابعة وغير التابعة للأمن العام، لتُرتكب خلال ذلك عمليات قتل على أساس طائفي وعمليات إعدام لأسرى من الفلول مجرّدين من سلاحهم.

كانت الحصيلة على خلفية هذه الأحداث، مقتل نحو 639 شخصًا، بينهم مدنيون وعناصر من فلول الأسد منزوعي السلاح، حسب توثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

رغم وقوع عمليات قتل على أساس طائفي، إلا أن عمليات إعدام واسعة ارتُكبت على أساس المشاركة بالمعارك أو العثور على أسلحة داخل المنازل أو وجود محادثات وصور على الهواتف تُثبت تورّط أصحابها، وحينها لا تندرج التصفية ضمن التطهير الطائفي وإن كانت تُعد انتهاكًا للقانون.

ولعلَّ صعوبة الفصل بين الحالتين خلال التوثيق، تكمن في عدم ارتداء العناصر الموالين للأسد زيًّا عسكريًّا إذ يرتدون ملابس مدنيّة في حالات عديدة. كما رافقت أحداث الساحل حملة تضليل واسعة، شملت استخدام مقاطع قديمة، بعضها لمجازر نظام الأسد، وبعضها في بلدان أخرى، مع نعي عائلات وأشخاص كذّبوا لاحقًا خبر مقتلهم، حيث كشفت منصتا مسبار وتأكد عشرات الأخبار المُضللة، لكنهما في الوقت نفسه أثبتتا صحة عدة فيديوهات توثّق عمليات قتل في الساحل السوري.

ورجّح آخرون أن تكون بعض عمليات القتل المنسوبة للدولة السورية من صنيعة فلول نظام الأسد، لزرع الفتنة والانقسام في المجتمع السوري، خاصةً أن بعض ضحايا هذه العمليات كانوا من المعارضين السابقين لنظام الأسد، كما أن بعض الفلول يرتدون زي الأمن العام، مما يثير تساؤلات حول هدفهم من ذلك، يضاف إلى هذه القرائن أن قائد ميليشيا درع الساحل مقداد فتيحة سبق وأن هدد أبناء طائفته المعارضين لتصرفاته بـ”الحساب العسير”، مؤكدًا بأنه على دراية بأسمائهم وحساباتهم على منصات التواصل الاجتماعي وأماكن وجودهم وجميع المعلومات المتعلقة بهم.

لجميع ما سبق من تعقيدات وتعدد أطراف، كان من الضروري أن يكون هناك تثبّت وتحقق في كل حالة من حالات القتل والانتهاكات، لذلك أعلنت رئاسة الجمهورية العربية السورية تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل السوري، ثم قررت تشكيل لجنة عليا للحفاظ على السلم الأهلي، تبعهما إلقاء القبض على 6 عناصر ثبت ارتكابهم انتهاكات بحق المدنيين.

ومنعت قوات الأمن السوري من تكرار أحداث الساحل في الأحياء ذات الغالبية العلوية بمدينة حمص، ومما ساعدها على ذلك قدرتها على التحرّك والسيطرة دون تعرضها إلى كمائن وهجمات كما حدث في الساحل، لتشكّل حائطًا بشريًّا في حي الحضارة وتحمي العلويين من أي هجمات انتقامية، خاصةً وأن محافظة حمص كانت صاحبة العدد الأكبر من المجازر الطائفية على يد نظام الأسد وميليشياته.

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي

———————————

هل تندلع الحرب بين أنقرة وتل أبيب على الساحة السورية؟!/ صالحة علام

20/3/2025

في تصعيد جديد ضد حكومة نتنياهو، صرّح الرئيس أردوغان بأن: “هناك قوى -لم يسمها- تحاول زعزعة الأمن والاستقرار داخل سوريا انطلاقا من إثارة النعرات الدينية والعرقية”، مؤكدا أن بلاده “لن تسمح بتقسيم المنطقة أو إعادة رسم حدوها بأطماع توسعية كما فعلوا قبل قرن من الزمان”، وأنهم سيجدون تركيا في مواجهتهم هذه المرة.

تصريحات أردوغان الجديدة جاءت ردا على الغارات الإسرائيلية التي استهدفت محيط مدينة درعا، ومنطقة خان أرنبة في الجنوب السوري بالتزامن مع عودة العمليات العسكرية لجيش الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة.

الموقف التركي من التحركات الإسرائيلية في المنطقة، التي تتم بدعم مطلق من الإدارة الأمريكية يبرز بقوة حجم المخاوف التركية من الأطماع التوسعية لدولة الاحتلال الصهيوني، والرغبة الجامحة لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تحقيق حلم نبوءة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

إذ سبق وأن حذر أردوغان من رغبة حكومة نتنياهو التي تقودها عقلية دينية متعصبة في التوسع جغرافيا على حساب الخريطة التاريخية لبلاده، والاستيلاء على مناطق الأناضول، تحقيقا لوهم الأرض الموعودة، والعمل على إقامة كيانات تابعة لها في كل من شمال العراق وسوريا عبر استغلال علاقاتها بالتنظيمات الانفصالية، في إشارة لعدد من الأقليات السورية الطامحة في الحكم الذاتي، ولقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي لديها علاقات ممتدة بتل أبيب.

وكانت العديد من التقارير المتداولة إعلاميا قد أفادت أن توقيع قادة قوات سوريا الديمقراطية على اتفاق الاندماج داخل الإدارة الجديدة مع دمشق لم يقف حائلا دون استمرارهم في السعي لتأمين دعم إسرائيلي لهم في هذه المرحلة الحساسة بالنسبة لهم، التي يحتاجون فيها -وفق رؤيتهم للتطورات بالمنطقة- لتوفير حلفاء وضامنين جدد لديهم القدرة على حمايتهم والوقوف إلى جوارهم.

وهو ما وافق هوى إسرائيل التي لا تنظر بارتياح لهذا الاتفاق، وترى أن تراجع الأكراد للخلف سيفسح المجال أمام عودة (داعش)، مما يضعها في موقف دفاعي صعب، إلى جانب شكوكها القوية وعدم ثقتها في الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، الذي تمتد جذور انتماءاته إلى تنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية الجهادية، مما قد يعرض أمنها للخطر، ويهدد وجودها.

ترى إسرائيل أيضا أن الجيش السوري الجديد الذي أُعيد بناء عناصره وتدريبهم بإشراف كامل من قيادات القوات المسلحة التركية، وتم تزويده بترسانة من الأسلحة المحلية المنتجة داخل هيئة الصناعات الدفاعية التركية أصبح يمثل خطرا من نوع آخر عليها، في ظل اتساع حجم النفوذ التركي داخل سوريا.

الذي يأتي متزامنا مع زيادة حدة التوترات وتفاقم خلافاتها مع أنقرة، على خلفية حربها ضد كل من قطاع غزة ولبنان، واختلاف أجندة كل منهما فيما يخص مستقبل الدولة السورية، إذ تعتقد إسرائيل أن تقسيم سوريا، وخلق كيانات متعددة بها من شأنه أن يضمن لها أمنها، ويمنحها الفرصة كاملة لتحقيق رغبتها في توسيع مساحتها.

ومن هذا المنطلق تدعم مطالب الحكم الذاتي لكل من الأكراد، والدروز، والعلويين، وتبذل جهودا مضاعفة حاليا من أجل دعم الطائفة الدرزية، حيث تم مؤخرا إرسال 10 آلاف طرد من المساعدات الإنسانية لأفرادها، وصرح جدعون ساعر وزير خارجية الكيان الإسرائيلي أن علاقاتهم بالدروز تاريخية، وأن عليهم الوقوف إلى جانبهم، لأنه “في منطقة نكون فيها أقلية، فمن الصواب دعم الأقليات الأخرى”.

أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس فصرّح أن حكومته قررت السماح للدروز من الجانب الآخر من الخط الفاصل بدخول هضبة الجولان والعمل بها، معربا عن استعدادهم للدفاع عنهم والوقوف إلى جوارهم دائما، بينما أعلن مسؤولون إسرائيليون أنهم لن يقبلوا وجود أي عسكري سوري في المناطق الجنوبية للعاصمة دمشق، وأنهم على أتم استعداد لغزو ضواحيها دفاعا عن الأقلية الدرزية المنقسمة بين إسرائيل وسوريا.

إلى جانب التصدي لمحاولات تركيا وأردوغان الرامية إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، واستعادة سيطرة بلاده على خريطة المنطقة كما كان عليه الحال في عهد الدولة العثمانية، وفي تقديم نفسها الوجود كقوة إقليمية فاعلة ذات نفوذ، لديها القدرة على التحكم في مستقبل المنطقة وفرض سيطرتها على مقدرات شعوبها، وهو ما يطلق عليه نتنياهو اسم “الشرق الأوسط الجديد”.

التحركات الإسرائيلية الداعمة للمطالب الانفصالية للأقليات السورية، والعمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد الأراضي السورية تنظر إليها أنقرة بريبة وشك، وتضعها في موقف الاستعداد لمواجهة تطورات الأمر بالسبل الممكنة كافة، حتى وإن تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية المباشرة.

لما تمثله هذه التحركات من تهديد مباشر لأمنها القومي، ومحاولة من جانب الكيان المحتل لتقويض مكانتها الإقليمية، وزعزعة استقرارها، والنيل من وحدة أراضيها عبر تشجيع الدعوات الانفصالية، ومساندة ودعم العناصر المسلحة التي تنتمي للتنظيمات الإرهابية لتخريب السلم الاجتماعي بالمنطقة.

وخلافا للرؤية الإسرائيلية التي تشجع على تقسيم سوريا وتعمل عليها، ترى تركيا أن وحدة الأراضي السورية، وإقامة دولة مركزية قوية ومستقرة بها من شأنه ضمان إخراج التنظيمات الانفصالية المسلحة، وإبعادهم تماما عن مناطق تمركزهم، والتخلص من تهديداتهم، بما يفسح المجال أمام الحفاظ على استقرار المنطقة، وإشاعة السلام بين شعوبها وتحقيق أمن دولها القومي.

ولتحقيق هذه الأهداف مجتمعة سعت أنقرة إلى زيادة حجم تعاونها العسكري مع دمشق عبر الاستعداد للتوقيع على اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، كما تم تعيين ملحق عسكري في السفارة التركية بدمشق، بينما قام مؤخرا وفد يضم كلًا من وزيري الخارجية والدفاع، ورئيس الاستخبارات بلقاء المسؤولين السوريين في دمشق، حيث تم تأكيد تمسك أنقرة بتسليم العناصر المسلحة لأسلحتها، وإخراج المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، إلى جانب التباحث حول العديد من القضايا الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، التي من بينها بحث إقامة قاعدتين عسكريتين لتركيا في كل من دمشق وحمص، واستمرار عمليات تدريب الجيش السوري وتسليحه.

وهي التحركات العسكرية التي تراها إسرائيل تمثل تهديدا لها سواء على صعيد الجيش السوري الذي قد يصبح وكيلا لتركيا في حرب مباشرة ضدها، أو على صعيد تركيا نفسها التي يتزايد وجودها العسكري على الأراضي السورية، ودعمها المطلق لحكومة الشرع المؤقتة، وتزايد تهديداتها والتصعيد المستمر في خطابها العدائي ضد إسرائيل سواء من الرئيس أردوغان أو كل من وزيري خارجيته ودفاعه.

ما يبدو أنه شجع الشرع على التخلي عن أسلوبه الذي اتسم باللين تجاه إسرائيل منذ وصوله إلى دمشق، ليستخدم أسلوبا أشد حدة في الخطاب الذي ألقاه مؤخرا في الاجتماع الطارئ للجامعة العربية بالقاهرة، حينما قال: “إن توسع العدوان الإسرائيلي ليس انتهاكا للسيادة السورية فحسب، بل هو تهديد مباشر للأمن والسلام في المنطقة بأسرها”.

تعزيز تركيا لقدراتها العسكرية وتطوير دفاعاتها الهجومية وصواريخها الباليستية، وتعاونها المطلق مع سوريا في المجال العسكري تحديدا، وتصعيد تصريحات مسؤوليها ضد تل أبيب ينبئ بأن هناك استعدادات تجري انتظارا لما ستسفر عنه المرحلة المقبلة التي قد تشهد اشتباكا مسلحا بينها وبين إسرائيل، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق غير مباشر.

المصدر : الجزبرة مباشر

كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا

حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا

———————————

حتى لا يتكرّر السيناريو العراقي في سورية/ محمد أحمد بنّيس

20 مارس 2025

يُلقي السيناريو العراقي بظلاله على المشهد السوري بعد أعمال العنف الطائفية التي عرفها الساحل. وعلى الرغم مما أبداه غالبية السوريين من وعيٍ بضرورة تخطّي المخلّفات الاجتماعية والنفسية لما حدث، والانحياز لخيار الوحدة الوطنية، والحدّ من التوتّر الناجم عن الانقسام الفكري والطائفي… على الرغم من ذلك، لا يبدو ما حدث في العراق، من احترابٍ طائفيٍّ دامٍ بين 2006 و2008، بعيداً من التحقّق في الساحة السورية، خصوصاً أن من شأن ما يشهده الإقليم، من متغيّراتٍ نتيجة التداعيات المستمرّة لحرب غزّة، أن يدفع المشهد السوري إلى مزيدٍ من التأزّم.

كان الاحتراب الطائفي الذي شهده العراق، بعد الاحتلال الأميركي وسقوط نظام صدّام حسين، أحدَ أكثر الفصول دمويةً في تاريخه منذ تأسيس الدولة العراقية بعد الحرب العالمية الأولى، فقد أودى بحياة عشرات آلافٍ من المدنيين الذين سقطوا في أعمال عنفٍ وقتل جماعيٍّ وهجمات، استهدفتهم في مناطق ذات أغلبية سُنّية أو شيعيّة في بغداد وغيرها. وللتاريخ، كان لسياسات النخبة العراقية الجديدة، وتحديداً حكومة نوري المالكي الأولى، أثرُها في إذكاء نار الفتنة المذهبية بين العراقيين، والتأسيس للطائفية السياسية، في ضربٍ سافرٍ لأسس الدولة المدنية والديمقراطية القائمة على المواطنة والتعدّدية والتعايش. واليوم، لا تبدو الحكومة السورية الجديدة معنيةً بالانخراط في تدابيرَ جادّةٍ من شأنها أن تحول دون انجرار سورية إلى السيناريو العراقي؛ فقد أخفقت في إعادة بناء المؤسّستين، الأمنية والعسكرية، بشكلٍ يقطع مع مظاهر التسلّح غير النظامي، ويساعد في احتكار العنف الشرعي بما يضمن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي. كما أن الإعلان الدستوري، الذي يُفترَض أن يضع خريطة طريق واضحة للتحوّل نحو الديمقراطية، عكس، في النهاية، حسابات هذه الحكومة، أو بالأحرى حسابات تشكيلاتها العسكرية، وتطلّعها إلى إقامة نظامٍ سلطويٍّ لا يخلو من طائفية بادية.

ليس من السياسة والحكمة في شيءٍ تحميل الطائفة العلوية جرائم النظام السابق، والتوسّل بخطابٍ سُنّيٍّ (أمويٍّ) يستضعفها في استئساد طائفي رخيص. ما جرى في مدن الساحل وبلداته من فظائع بيد تنظيماتٍ مسلّحةٍ غير نظامية، لا يستدعي مسؤولية النظام الجديد في حفظ النظام العام فقط، بقدر ما يسائل كذلك شرعيتَه السياسية، وقدرتَه على تأمين المسار الانتقالي، الذي يُفترَض أن ينتهي بإقامة دولةٍ مدنيةٍ وديمقراطيةٍ تسع السوريين كلّهم، بصرف النظر عن انتماءاتهم المذهبية والدينية والعرقية.

أخفق هذا النظام في أول اختبار سياسي وأخلاقي بعد سقوط نظام الأسد، فمن جهة، لم يحُل دون استدراج بعض جماعاته العسكرية (الجهادية) إلى ارتكاب مجازر مروّعة، كان بوسعه تجنّبها لو توفّق في إدارة تدخّله ضدّ فلول نظام الأسد بأقلّ الخسائر. ومن جهة أخرى، عجز عن حماية مئات المدنيين من الطائفة العلوية الذين سقطوا ضحية إرهاب هذه الجماعات. وعوض أن يعمل على اجتثاث الطائفية السياسية، التي زرعها حكم الأسد، سعى إلى تكرار السيناريو العراقي، عن قصدٍ أو من دون قصد، بإعادة إنتاج نسخةٍ أخرى منها أكثر ضحالةً، تتغذّى على الانتقام والثأر وفتح جردات الحساب الطائفية.

تستوجب الانتهاكات الفظيعة، التي راح ضحيتها مئات المدنيين (سُنّةً وعلويين) في الساحل السوري، محاسبةَ الجناة المسؤولين عنها. وأي تأخّرٍ في ذلك ستكون له تبعات على السلمين، الأهلي والاجتماعي. ويبقى أخطرَ ما يتهدّد المشهدَ السوريَّ دخولُ دولة الاحتلال على الخطّ، وسعيُها إلى تغذية الاحتقان الطائفي الذي سبّبته أحداث الساحل. واستقبال رجال دين سوريين دروز في الأراضي الفلسطينية المحتلّة يطرح أكثر من تساؤلٍ حول استراتيجيّتها (إسرائيل) لضرب الوحدة الوطنية السورية، بذريعة حماية الأقلّيات، هذا من دون إغفال ما يمكن أن يُسفر عنه الخطاب المتنامي في كواليس المنظمات الدولية بشأن حقوق هذه الأقلّيات ومستقبلها.

يُؤمل أن يكون السوريون قد استوعبوا دروس أحداث الساحل على ما فيها من مآسٍ، ذلك أن تكرارها واتساع رقعتها وتساهل النظام الجديد مع المسؤولين عنها… ذلك كلّه يفتح الباب على مصراعيْه أمام خطر ضرب مقوّمات النسيجين، الوطني والأهلي، السوريين.

العربي الجديد

—————————

حين يكرّر التاريخ أحداثه/ رشا عمران

21 مارس 2025

أُنقِذ شخصان عند سواحل قبرص بعد غرق زورق صغير يحمل أكثر من 27 شخصاً، قادماً من مدينة طرطوس السورية، من دون أيّ معلوماتٍ عن مصير باقي المفقودين.. بدأت التغريبة السورية الجديدة، قتل وحرق وخوف وتهجير. سوريون يُقتَلون مجدّداً محمّلين بذنوبٍ لم يرتكبوها، سوريون يُهجَّرون من بيوتهم بعد نهبها وحرقها، ويُترَكون لمصائرهم في البراري والغابات، يتعرّض أولادهم لعنف البرّية، الذي بات أكثر رأفة بالبشر من أبناء جلدتهم. سوريون محاصرون من قوات “جيش وطني” يمنع عنهم الطعام والدواء وحليب الأطفال، بعد منع وسائل الإعلام الأجنبية من الدخول إلى هذه المناطق وتغطية ما يحدث من فظائع.

الذريعة القديمة جاهزة، هي ذاتها لم تتغيّر: مسلحون يريدون تقويض دعائم الدولة يختبئون بين المدنيين، وعليه فيجب الفتك بالمدنيين عقاباً لهم على انتماء المسلحين إليهم. تُستبدل مفردة الإرهابيين السابقة بمفردة الفلول، من دون أن يتغيّر المسار الذي كان سائداً في سورية منذ عام 2011، هناك تبادل للأدوار فقط.

في السابق، قبل سقوط نظام الأسد، كان شبّيحة نظام الأسد يوجّهون تهمة دعم الإرهاب لكلّ متعاطفٍ مع الثورة أو مع الضحايا من المدنيين والأطفال. اعتقل النظام السابق مئات الآلاف بذريعة تمويل الإرهاب، كان هذا التمويل لإغاثة المناطق المنكوبة والمحاصرة من جيش النظام والفصائل المسلّحة التابعة له. اليوم أيضاً، تُطلَق تهمة الفلول أو دعم الفلول على كلّ من يناصر ضحايا الساحل أو يحتجّ على الممارسات الطائفية التي يرتكبها “الجيش الوطني”، أو عناصر من “الأمن العام”، بحقّ المواطنين السوريين. ثمّة شبيحة واقعاً وافتراضاً لكلّ نظام يرتكب المجازر وينتهك حرّية المواطنين وكراماتهم، ويعمل على إذلالهم. ثمّة شبيحة سوريون دائماً ينتهكون حرمة إخوتهم السوريين. هو تبادل للأدوار فقط، يمنع عن السوريين جميعاً حقّهم في العيش الكريم في وطنهم الوحيد.

ثمّة مظلومياتٌ جديدة تحدث أيضاً. مظلوميات مثقلة بإرث دموي وبذاكرة دموية وبضمائر ميّتة. هذه المظلوميات التي تتناقلها أجيال من السوريين تجعل من الضحية السابقة مجرماً لاحقاً، أو أقلّه، مؤيداً للإجرام ومبرّراً له وساعياً إلى خلق الأعذار لسفك الدماء، وثمّة مجرمون دائماً يشتغلون على إبقاء هذه المظلوميات قيد التداول، كما لو أنها مرويات تُتناقل من جيل إلى جيل… بالطبع، فسردية المظلومية الدموية وحدها هي الكفيلة بإبقاء الحقد يتنقل من مكان إلى آخر، ويحمل ما يمكنه من الحكايات التي تقتات عليها فترات السكون. هل راقبتم جحافل النمل تنتقل من مكان إلى آخر وهي تحمل ما تقتات عليه في أوكارها الصغيرة في فترات السكون؟ هذا تماماً ما تفعله سردية الحقد، وهي تراكم التفاصيل، ثمّ يأتي من يستهلكها لخراب المجتمعات والأوطان، مهيئاً المساحة لحكايات جديدة تستند إلى مظلومية جديدة تراكم حقداً جديداً… وهكذا.

عادةً ما تملك الأنظمة الاستبدادية براغماتيةً تمكّنها من الظهور بمظهر حامي المجتمع، من تأجيج تلك المظلوميات وحقن مخرجات سرديات الحقد. اشتغل نظام الأسد في مرحلتي الأب والابن (قبل 2011) على هذا النوع من البراغماتية، ساعده في ذلك أن الطبقة الأوليغارشية المحيطة به كانت مؤلّفةً من “المكونات” السورية كلّها. لكن في الوقت ذاته كانت طوابيره التحتية تعمل في حقن المجتمع بالمرويات عن مظلوميات تعزّز حقداً دفيناً لا يمكن التخلّص منه بسهولة، ظهر واضحاً ما أن بدأت ثورة السوريين في عام 2011، حينها أيضاً تخلّى نظام الأسد الابن عن طوابيره السرّية، وبات علنياً في تكريس الحقد، لكنّه أيضاً احتفظ بمساحة تحميه من التهمة حين أحاط منظومة إجرامه ببطانة من “المكونات” كلّها. كان يمكن لمن جلس في مكان نظام الأسد (بعد هروبه) أن يفضح ما حدث، وأن يقدّم الحقائق كما حدثت، لولا أن منظومته الفكرية ذاتها مبنية على مظلومية دموية طائفية يعود تاريخها إلى ما قبل الألف عام، وتغذّت بقوة بعد ثورة السوريين 2011. كان يمكنه إنقاذ سورية ومجتمعها من هذا الخراب، لولا أنه يدرك أن بقاءه يستند إلى تعزيز هذه المظلومية لدى فئات كبيرة من ضحايا الأسد، وأن عليه أن يقدّم لهم قربانا ليعلنوه بطلاً. هكذا يعيد التاريخ السوري نفسه من دون أن يدرك الشعب أنه وحده الضحية.

العربي الجديد

———————————

 سوريا: ما علاقة تمرد الساحل السوري بإسرائيل؟

المدن – عرب وعالم

الأربعاء 2025/03/19

كشف تحقيق استقصائي لمنصة “إيكاد” أسراراً جديدة عن “لواء درع الساحل” الذي قاد التمرد ضد الحكومة السورية في الساحل السوري، حيث ظهر وجود ارتباط بدوائر إعلامية إسرائيلية.

“لواء درع الساحل”

وقال التحقيق إن “اللواء” تأسس في شباط/فبراير الماضي، على يد جندي سابق في جيش النظام المخلوع، يدعى مقداد فتيحة من مدينة جبلة في ريف اللاذقية، وكان مقاتلاً في صفوف “الحرس الجمهوري”.

وأضاف أن فتيحة عمل ضمن صفوف “الفرقة-25” التي كان يقودها العميد سهيل الحسن (النمر)، موضحةً أن فتيحة لديه سجل حافل بالجرائم والانتهاكات والتمثيل بالجثث والقتل خارج القانون، خلال سنوات الحرب السورية.

وأوضح أن إحدى الصور أظهرت فتيحة وهو يجلس بجانب جثة قد قام بحرقها، وكان يدخن سيجارة وينظر إلى الكاميرا متباهياً في عمله الشنيع، حيث علّق أحد الأشخاص على الصورة بأنها “الأخذ بالثأر لروح فادي زيدان من قرية متور بريف جبلة” وهو أحد المقاتلين الذين قتلوا سابقاً.

 وظهرت له صور عدة وهو يحمل رؤوس قد قام بقطعها من أجساد أصحابها، وأخرى أثناء قيامه بتعذيب أحد الثوار، كما ظهر له فيديو وهو يقوم بتصوير عدداً من الجثث المرمية على الأرض بعد قتلها وإعدام أصحابها.

 بعد سقوط النظام السوري، قام فتيحة بنشر مقاطع فيديو، يهدد فيها الأمن العام وينشر الفتنة ويبث النعرات الطائفية، وتبنّى عدة هجمات على حواجز للأمن العام في الساحل السوري.

ارتباط بإسرائيل

ومن خلال تتبع فريق “إيكاد” لمنصات “لواء درع الساحل”، على مدى أيام من تمرد الساحل السوري، كشف عن أسرار جديدة، منها ارتباطها بصفحات إسرائيلية، وعمليات تضخيم إعلامي مدروسة، وشخصيات وألوية منضوية تحتها يرجّح أنها وهمية وتحاول هذه الحسابات تصديرها.

وفي 6 آذار/مارس الحالي، بالتزامن مع بدء التمرد، نشرت صفحة تحمل اسم “مقداد فتيحة- لواء درع الساحل الاحتياطي”، مقطعاً مصوراً لفتيحة يعلن فيه عن التمرد المسلح ضد الحكومة السورية. وبعد لحظات فقط من نشره، بدأت صفحات تابعة للنظام المخلوع، بالترويج لمحتوى مشابه، ما يشير إلى احتمال وجود تنسيق إعلامي مدروس.

احداث الساحل

وشهد الساحل السوري من 6 و10 آذار/مارس، أحداث تمرد ضد الحكومة السورية، قادها فتيحة والقيادي البارز في الفرقة الرابعة سابقاً، غياث دلة، بدأت بمهاجمة حواجز للأمن العام السوري، والسيطرة على بعض المواقع في جبلة وبانياس.

واستطاع الجيش السوري السيطرة على التمرد وبسط نفوذه مجدداً على مناطق التمرد، بعد اشتباكات عنيفة شاركت فيها فصائل معارضة محسوبة على الوزارة إلى جانب مجموعات شعبية، ارتكبت خلالها انتهاكات بحق المدنيين من الطائفة العلوية.

ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 803 أشخاص جراء التمرد الذي قاده فتيحة ودلة وضباط آخرين من نظام بشار الأسد المخلوع، ضمنهم 172 عنصراً من قوات الأمن الداخلي ووزارة الدفاع، و211 مدنياً، قُتلوا على يد المجموعات المسلحة المرتبطة بنظام الأسد، بينما لقي 420 شخصاً مصرعهم، على يد القوى المحسوبة على وزارة الدفاع.

——————————————-

هل ما زالت لـ”حزب الله” مراكز داخل سوريا؟/ سوسن مهنا

التوترات بين “حزب الله” والجيش السوري ليست مجرد حادثة عابرة أو صراع محلي، بل تعكس تغيراً في المعادلات الإقليمية وتطرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية للحزب، وما إذا كان يسعى إلى إعادة رسم دوره في الداخل السوري، أو الدفاع عن مصالح استراتيجية متعلقة بتهريب السلاح والمخدرات، أو حتى إيصال رسائل سياسية إلى دمشق وحتى طهران.

خلال الأيام الأخيرة شهدت الحدود اللبنانية – السورية تصعيداً ملحوظاً بين “حزب الله” ووحدات من وزارة الدفاع السورية على خلفية اتهام وزارة الدفاع السورية مسلحين من “حزب الله” بعبور الحدود إلى الأراضي السورية في ريف حمص وقتل ثلاثة من أفراد الجيش السوري.

ونقلت وكالة الأنباء السورية “سانا” عن المكتب الإعلامي في وزارة الدفاع أن مجموعة من “ميليشيات حزب الله” قامت عبر كمين بخطف ثلاثة من عناصر الجيش السوري عند الحدود اللبنانية قبل أن تقتادهم إلى الأراضي اللبنانية وتقوم بـ”تصفيتهم”، وأضافت الوزارة أنها ستتخذ الإجراءات اللازمة بعد هذا “التصعيد الخطر من قبل ميليشيات حزب الله”، مشيرة إلى أن الحادثة وقعت قرب سد زيتا غرب حمص.

في المقابل نفى “حزب الله” خلال بيان بصورة قاطعة ما يجري تداوله حول وجود أي علاقة له بالأحداث التي جرت على الحدود اللبنانية – السورية، وأضاف “نجدد تأكيد ما سبق وأعلناه مراراً، أن لا علاقة لـ’حزب الله‘ بأي أحداث تجري داخل الأراضي السورية”.

ورداً على مقتل الجنود قامت القوات السورية بقصف بلدات لبنانية حدودية، مما أدى إلى نزوح سكان بلدة القصر اللبنانية.

ورد الجيش اللبناني بدوره على مصادر النيران من الأراضي السورية وأرسل تعزيزات إلى المنطقة الحدودية لضبط الأمن، وكانت قوات “الفرقة 52” في وزارة الدفاع السورية حشدت على المنطقة الحدودية واشتبكت مع عناصر لـ “حزب الله”، مما أدى إلى طرد مسلحي الحزب من قرية حوش السيد علي السورية والسيطرة عليها وعمدت إلى تمشيط المنطقة المحيطة التي كانت تعتبر تجمعاً لعناصر الحزب وفلول نظام بشار الأسد.

وأوضح مصدر من وزارة الدفاع السورية لوكالة “سانا” أن قوات الجيش تستهدف تجمعات وتحركات “حزب الله” في المنطقة، بخاصة في قرية حوش السيد علي السورية “التي أصبحت وكراً لميليشيات حزب الله في أيام النظام البائد”، مضيفاً “نهدف من تحركاتنا على الحدود إلى طرد ميليشيات حزب الله من القرى والمناطق السورية التي تتخذها كأماكن موقتة لعمليات التهريب وتجارة المخدرات”.

وجاء في بيان صادر عن قيادة الجيش اللبناني – مديرية التوجيه أنه ضمن مراقبة الحدود وضبطها في ظل الأوضاع الراهنة والعمل على منع أعمال التسلل والتهريب، أغلقت وحدة من الجيش المعابر غير الشرعية “المطلبة في منطقة القصر- الهرمل والفتحة والمعراوية وشحيط الحجيري في منطقة مشاريع القاع – بعلبك”.

وفي حديث للباحث في مؤسسة “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين قال إن بلدة حوش السيد علي هي بلدة لبنانية تبعد من العاصمة بيروت 160 كيلومتراً في قضاء الهرمل (البقاع)، “وعندما رُسمت الحدود بين سوريا ولبنان قبل نحو قرن من الزمن قسمت البلدة إلى جزءين، القسم الأول والأكبر يبلغ نحو أربعة ملايين متر مربع ويقع في الأراضي اللبنانية والقسم الثاني الذي تبلغ مساحته نحو مليون متر مربع يقع في الداخل السوري، وسكان القسمين هم من اللبنانيين وهم امتداد لعائلات واحدة”.

117 موقعاً حيوياً لـ”حزب الله” في سوريا

هذه التوترات بين “حزب الله” والجيش السوري ليست مجرد حادثة عابرة أو صراع محلي، بل تعكس تغيراً في المعادلات الإقليمية وتطرح تساؤلات حول الدوافع الحقيقية للحزب، وما إذا كان يسعى إلى إعادة رسم دوره في الداخل السوري، أو الدفاع عن مصالح استراتيجية متعلقة بتهريب السلاح والمخدرات، أو حتى إيصال رسائل سياسية إلى دمشق وحتى طهران.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل لا يزال “حزب الله” يحتفظ بمواقع له داخل الأراضي السورية؟

منذ تدخله في الصراع السوري عام 2011 عزز الحزب وجوده العسكري في محافظات سورية عدة، بما في ذلك دمشق وريفها وحلب وحمص ودير الزور ودرعا والسويداء وإدلب وحماة، ويقدر أن الحزب كان يسيطر على أكثر من 117 موقعاً حيوياً في سوريا، تتنوع بين مقار عسكرية ونقاط حراسة ومستودعات أسلحة.

وتعرض دراسة صادرة عن مركز “جسور” للدراسات في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020 انتشار “حزب الله” في سوريا والمواقع التي تمركز بها، ووفقاً للدراسة أن ذلك يسهم في تحديد مسار أهم طرق الإمداد البري التي اعتمد عليها لتوريد الأسلحة إلى لبنان وفي معرفة منشآت التدريب والتسليح والتخزين التابعة له في سوريا وفي توضيح الأهداف الاستراتيجية التي حققها من تدخله في سوريا وطريقة نشاطه عسكرياً وأمنياً وثقافياً واقتصادياً، علماً أنه كان من الصعب تحديد مواقع انتشار الحزب وتوزعه داخل الأراضي السورية لأن وجوده، بخاصة على خطوط التماس الممتدة على مسافات طويلة، ليس وجوداً منفرداً، إنما يكون مع قوات أخرى، إضافة إلى عدم وجود قواعد عسكرية كبيرة له على غرار القوى الأخرى. ويضم ذلك الخط 55 نقطة، في وقت يأتي الانتشار الثاني الأكبر في محافظتي درعا والقنيطرة جنوب البلاد بـ 28 نقطة، تليهما محافظة حمص بـ 15 نقطة، بينما تتوزع بقية النقاط في كل من دير الزور ودمشق والسويداء.

وخلال حديث للباحث في “جسور” وائل علوان في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، قال إن نفوذ “حزب الله” في سوريا “تهدَّد بصورة فعلية أخيراً بعد سيناريوهات الحرب الإسرائيلية في لبنان والمنطقة”، وأشار إلى أن المواقع التي يتوزع فيها الحزب في سوريا لصيقة بمواقع الميليشيات الإيرانية، مما يعني اعتماد النفوذ الإيراني بصورة كبيرة على “حزب الله”، خصوصاً في محيط حلب وإدلب (شمال) وفي مناطق الساحل السوري والمنطقة الوسطى وبالتأكيد في كامل المناطق الممتدة على طول الحدود مع لبنان.

منطقة القصير “ضاحية جنوبية ثانية”

وتمتد الحدود بين لبنان وسوريا لمسافة 375 كيلومتراً وتعتبر حدوداً طويلة جداً، وفي حديث سابق لأحد أبناء العشائر الذي طلب عدم ذكر اسمه، قال إن “تلك الحدود استخدمها ’حزب الله‘ لتهريب الأسلحة والذخائر والمخدرات والكبتاغون في عهد نظام الأسد البائد وإن الحزب كان يسيطر على عشرات المعابر غير الشرعية للانتقال إلى الداخل السوري والتبديل العسكري إبان الحرب السورية، أضف إلى أن هذه المعابر سيطرت عليها عشائر وأطلقت أسماءها عليها”.

أيضاً وفي حديث سابق لنا مع رئيس اتحاد العشائر العربية في لبنان الشيخ جاسم العسكر قال إن “حزب الله” كان يسعى إلى جعل منطقة القصير “ضاحية جنوبية (الضاحية الجنوبية لبيروت) ثانية في الداخل السوري وكان يشجع أنصاره والمقربين منه على الاستثمار وشراء شقق والتمدد في تلك المنطقة وصولاً إلى حمص”. واليوم هل ما زالت لدى الحزب مواقع في الداخل السوري؟

“فتنة سنية – شيعية”

يقول الإعلامي والمحلل السياسي فادي أبو دية إن ما يحصل على الحدود الشمالية مع سوريا هو “إعادة فرض هيمنة للعصابات المسلحة التي تريد أن تحقق مشاريع تقسيمية وإسرائيلية وبث الفوضى والفتنة الطائفية لأن زج اسم ’حزب الله‘ في إشكاليات كهذه لا علاقة له بها، وأيضاً هي بين مجموعة من اللصوص وهي محاولة للفت الأنظار والإضاءة على الفتنة السنية – الشيعية باعتبار أن هذه الجماعات ذات غالبية سنية و”حزب الله” غالبيته من الشيعة، بالتالي يريدون زج اسم الحزب لأجل هذه الفتنة”، ويتابع أن “الحزب ومنذ بداية وجوده في سوريا لمحاربة الإرهاب التكفيري من أجل حماية لبنان لم يكن موجوداً ضمن مراكز عسكرية معلومة أو معروفة في سوريا، وهذ أصبح واضحاً، بالتالي منذ أكثر من ثلاثة أعوام وبالمعلومات، فإن ’حزب الله‘ قلص عديده بما يقارب 80 في المئة، مما يعني أن وجوده أصبح رمزياً مرتبطاً ببعض الأمور والتفاصيل التي تحتاج إلى حضوره فقط لا غير”.

“عمل الحزب… أمني”

ويشير أبو دية إلى أنه “بخصوص المراكز في الداخل اللبناني فإن هذه المراكز غير موجودة، بالتالي الحزب لا يخطط أو ينوي وليس لديه أي اتجاه نحو العودة لسوريا. والنظام في سوريا الذي كان حليفاً للحزب سقط، بالتالي فإن الحزب يتجه نحو الحضور اللبناني أكثر فأكثر، وحتى في هذه المشكلات هو أصدر بياناً أنه غير معني بكل ما يحصل وليس متورطاً وليس لديه حضور في هذه المعارك. أما بخصوص المراكز فإنها غير معروفة وعملها بشقه الكبير عمل أمني”.

قوات استشارية إيرانية في سوريا

وفي ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 أشارت تقارير صحافية إلى وجود تنسيق بين “حزب الله” وجماعات مسلحة أخرى مدعومة من إيران مثل “حركة النجباء” العراقية التي تنشط في مناطق مختلفة من سوريا، بما في ذلك دير الزور والرقة، ويعتقد بأن هذا التنسيق يهدف إلى تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة وتأمين المصالح الاستراتيجية المشتركة.

وكان عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني الجنرال إسماعيل كوثري أعلن عن إرسال بلاده “قوات استشارية إيرانية إلى سوريا” على خلفية الهجوم الذي قامت به الفصائل السورية المعارضة المسلحة في حلب وإدلب حينها. وتحدث مصدران في الجيش السوري الذي كان يتبع للنظام البائد أن عناصر من فصائل مدعومة من إيران دخلت سوريا من العراق واتجهت إلى شمال البلاد لتعزيز قوات الجيش السوري التي كانت تقاتل قوات المعارضة. ونقلت وكالة “رويترز” حينها أن عشرات من مقاتلي قوات “الحشد الشعبي” العراقية المتحالفة مع إيران عبروا من العراق إلى سوريا عبر طريق عسكري قرب معبر البوكمال وأن المقاتلين ينتمون لفصائل تشمل “كتائب حزب الله” العراقية و”لواء فاطميون”. وذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية آنذاك، نقلاً عن مصادر في “حزب الله” وميليشيات عراقية موالية لإيران، أن طهران نشرت عناصر من الحزب والميليشيات في سوريا.

خلايا نائمة تتحين الفرص

وسط هذه الأجواء أشار المتخصص في الأمن القومي والاستراتيجي العميد المتقاعد يعرب صخر إلى أنه “في الثامن من ديسمبر عندما سقطت دمشق وسقط النظام السوري وانتهت العمليات العسكرية، تبخرت الميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة والجيش السوري وتوجهت إما للعراق أو لبنان وبقي بعضها في الداخل السوري وتحولت إلى خلايا نائمة. وطبعاً غادر قسم كبير من الميليشيات الإيرانية وأبرزها ’حزب الله‘ إلى لبنان، لكن قسماً كبيراً منها بقي في مناطق وجود حاضنة شعبية له مثل الساحل السوري ومناطق العلويين وغيرها وتحول إلى خلايا نائمة تتحيّن اللحظة والفرصة المناسبة لإعادة قلب الأمور لأن لديها إصراراً كبيراً وعدائية شديدة تجاه النظام السوري الجديد أكبر من العدائية تجاه إسرائيل، والخلايا الموجودة في شرق لبنان هي الأكثر تخطيطاً حيث تدور المواجهات مما ينذر بالخطر الشديد إذا لم يجرِ تداركها”.

تطبيق القرار الدولي 1680

ويتابع صخر أن “هناك مآخذ كثيرة على السلطات اللبنانية لأنها تتفاعل بالنتائج ولا تعالج الأسباب، ومعالجة الأسباب تتم عبر تطبيق القرار الدولي 1680، أو الدستور اللبناني، وإذا لم يحصل ذلك فهناك أربعة أفواج برية كاملة الجاهزية مهمتها الحصرية ضبط الحدود اللبنانية، أي أربعة آلاف عنصر. وعندما تكون هناك إرادة وجدية لبنانية لمعالجة هذه الأزمة، فالمعالجة سهلة جداً”، ولفت إلى أن “للحزب خلايا نائمة في الداخل السوري، لكن تخطيطها وأوامرها وتنسيقها ينطلق من شرق لبنان، حيث الحاضنة الثانية للحزب وفلول الأسد التي هربت إلى هذه المنطقة، وبالتنسيق مع جهات عراقية وبأوامر إيرانية تحاول قلب الأمور، وستعاود تكرار ما حصل إن لم تلجأ السلطات اللبنانية والسورية إلى الحزم في المعالجة عبر ضبط الحدود بصورة كاملة تمنع تكرار المواجهات”.

————————————

القرداحة… مهد الأسد وضحيته/ طارق علي

دفعت الثمن مرتين: واحدة بانتمائه إليها وأخرى بإذلاله لأهلها وجعلها أفقر مدن الساحل

الأربعاء 19 مارس 2025

يشكك كثير من السوريين بنسب آل الأسد، وإن كانوا ينتمون فعلاً إلى الطائفة العلوية ومدينة القرداحة أساساً، وهو سؤال كان لا بد من توجيهه لأهالي المدينة أنفسهم.

“كثيراً ما عملت الطائفة العلوية كمرابعين (لقاء أجور يومهم) لدى الإقطاعيين، إلى أن جاء حزب البعث وأمم المصانع والشركات والأراضي فاعتقدنا أن حقبة العبودية انتهت، لكننا وجدنا أنفسنا من جديد مرابعين لدى آل الأسد”. يقول ناصر بركات أحد سكان القرداحة.

يروي الرجل السبعيني رحلة التحول نحو الأسوأ بعد آمال عريضة بنوها على الحزب القائد بقوله “كيف لم نكن لنستشعر أملاً عظيماً والحزب حزبنا كفلاحين وفقراء كما قيل لنا؟ وقائد الحزب من مدينتنا القرداحة، فأي رخاء قادم سنعيشه، لكن سرعان ما اكتشفنا أن تجربة الأسد في تحويل سوريا إلى مزرعة بدأت من مدينته الصغرى وقتذاك، المدينة التي حكمها إخوته وأولاد عمومته وأقرباؤهم بالسياط والقوة والترهيب والجريمة”.

الاختبار الأول للحكم

يكمل الرجل العجوز “فعلياً كانت القرداحة النموذج الأولي لاختبار سوريا اللاحقة، فالجميع يعرف أن البلد غرق بالسلاح والمخدرات في الحرب، أما القرداحة فقد غرقت بهما مع التهريب منذ سبعينيات القرن الماضي، حافظ تمكن منا وأفقرنا، وحول مسقط رأسه إلى شريحتين سكانيتين، ملوك وعبيد، ملوك ينتمون للنسب الصافي من الأسرة الحاكمة، وعبيد هم عامة عائلات المدينة، وهو ما كرسه بشار خلال حكمه غير المتزن”.

في سياق حديثه يحاول ناصر التأكيد غير مرة أن أسرة الأسد لا تنتمي تاريخياً إلى القرداحة أو الساحل السوري أساساً، ويؤكد أن سكان موطنه يدركون ذلك جيداً غير متمكنين من الحديث عنه مرة واحدة بسبب بطش النظام وإمعانه في سردية انتمائه الجغرافي وخصوصيتها في سياق حكمه الذي يشحذ الهمم على أساس طائفي – مناطقي.

من المتعارف عليه أن مسقط رأس عائلة الأسد هو مدينة القرداحة التي تقع على بعد 30 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من محافظة اللاذقية الساحلية، وإلى الشرق بنحو 20 كيلومتراً من مدينة جبلة وقاعدة “حميميم” العسكرية الروسية.

تقع القرداحة على هضاب المنطقة الساحلية بارتفاع 400 متر عن سطح البحر، وتتصل عبر شبكة طرق دولية بمحافظات الساحل من طرطوس إلى بانياس فجبلة واللاذقية، وباتجاه حماة وإدلب وسهل الغاب نحو الشرق. وقد عانت المدينة أسوة بغيرها من المدن والأرياف من حال تهميش وبطالة وازدراء وتعويم قيادات محلية إجرامية على حساب طبقة معظمها من المسحوقين اجتماعياً، في حين برزت بها عائلات كبرى كآل إسماعيل الذين لم يصلوا لقوة شخوص آل الأسد، ولكنهم تمكنوا من انتزاع بعض الامتيازات والتعيينات العسكرية، عدا عن العلاقات التجارية وعلاقات المصاهرة العائلية لاحقاً، لتلتحم العائلتان جزئياً في تشكيل قوة ضاربة هيمنت على المنطقة والجوار لعقود طويلة.

يتبع للقرداحة إدارياً عدد من القرى والمزارع من بينها عين العروس مسقط رأس وزير الداخلية السابق غازي كنعان الذي قضى منتحراً في مكتبه قبل نحو عقدين، وقبلها كان قائداً للقوات السورية في لبنان وصاحب اليد الطولى في كل الأحداث هناك. كذلك قرية جوبة برغال التي ينتمي إليها سلمان المرشد زعيم الطائفة المرشدية في سوريا. وأيضاً قرية بستان الباشا التي ينحدر منها رامي مخلوف إمبراطور الاقتصاد السوري وابن خال بشار الأسد، وقرى أخرى من بينها كلماخو ورويسة البساتنة وبشلاما وبكراما والقبو والسفرقية.

وكلمة القرداحة تعني في اللغة مكان صنع السلاح، أو مكان الحديد، لما أبدته هذه المنطقة من مقاومة للعثمانيين والفرنسيين، وفي اللغة الآرامية تعني “القرية الأولى” وهو ما يستدل به بعض الباحثين للدلالة على قدمها التاريخي.

شكوك في النسب

يشكك كثير من السوريين بنسب آل الأسد، وإن كانوا ينتمون فعلاً إلى الطائفة العلوية ومدينة القرداحة أساساً، وهو سؤال كان لا بد من توجيهه لأهالي المدينة أنفسهم.

عامر إسماعيل أحد السكان يخبر “اندبندنت عربية” نقلاً عن أحاديث سمعها في صغره من جده أن “جد حافظ الأسد وفد إلى منطقتهم قبل زمن بعيد، وليسوا متحدرين من المنطقية الجبلية، وأن ذاك الجد بالكاد كان يتقن اللغة العربية، مرجحاً أن يكون قدومهم من مناطق إيرانية أو جبلية في شمال العراق، من دون أن يتمكن أحد من حسم هذه المسألة”.

يتفق مع هذا الرأي كثير من أهالي المنطقة، إذا يقول الطبيب سليمان بركة “لعبة الاستخبارات الغربية جعلت عائلة الأسد جزءاً من المكون الساحلي، لكن لنر على مدار نصف قرن هل كان حافظ وبشار علويين؟ قطعاً لا، هما كانا أسديين وخلقا طائفة أسدية ورطت معها الطائفة العلوية، مستغلين بصورة ممنهجة فقر الناس المدروس وحاجتهم فتركوهم أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها، وظيفة حكومية تقوم على الفساد والحصول عليها صعب، استمرارهم كمرابعين، أو التطوع في الجيش قسراً”.

مما لا شك فيه أنه لا أحد تمكن من إثبات نسب آل الأسد الحقيقي حتى الآن، لكن في الأقل ثمة وثائق تحمل توقيع جد بشار تطالب بالتقسيم والحماية الفرنسية، وهي وثيقة استخدمتها المعارضة في غير مناسبة خلال الحرب السورية للتشكيك بوطنية العائلة بأكملها.

“هناك مثل شعبي شهير في سوريا يقول (بماذا أذكرك يا سفرجل وبكل عضة غصة) وهذا حالنا مع حكم الأسد منذ عهد آبائنا وحتى إسقاط بشار”. هكذا يلخص مراد أحمد ابن مدينة القرداحة حالهم مع حكم الأسد الذي توسموا فيه خيراً كثيراً، “ابن طائفتنا ومدينتنا، لكننا لم نكن ندرك أننا لا نعنيه في شيء”.

يتابع مراد “مهما رويت عن القرداحة في عقودها الماضية قد يبدو أن الأمر لا يصدق، في سوريا كان هناك رئيس واحد، حافظ ثم بشار، أما في القرداحة فكان هناك رفعت وحافظ الآخر ومنذر وجميل وطلال وأنور وهارون وهلال ووسيم وسليمان وبديع وبقية العائلة التي جعلت لقب (شيكاغو) يطلق على المدينة”.

ويستطرد، “كانوا يسيرون بمواكبهم وسلاحهم ومرافقتهم، ويمشون فوق أحلامنا وآمالنا وفقرنا، كانوا يمتلكون قصوراً بديعة يمنع علينا نحن أبناء المدينة الاقتراب منها على الإطلاق أو تصويرها أو اللجوء إليها، وداخلها كانت تعقد كبرى صفقات الأموال”.

ويكمل ابن المدينة، “ربما خلال أعوام حكم حافظ كانت الأمور أكثر هدوءاً، رغم أن انتشار صفة الشبيحة انطلقت من القرداحة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي نتيجة لتوجه آل الأسد لركوب تلك السيارات التي تسمى (شبح) وهي (مرسيدس 500 – إصدار قديم) وفيها كان يتم الخطف والتشليح وتهريب العملة والآثار والسلاح والمخدرات، أما على عهد بشار وظهور جيل جديد من آل الأسد فقد استوحشت العائلة أكثر بكثير”.

عن ذلك التوحش يشرح مراد، “مثلاً سليمان ابن هلال الأسد ابن عم بشار قتل ضابطاً عقيداً على رأس عمله لأنه تجاوزه في إشارة المرور قبل بضعة أعوام، ثم دخل السجن وخرج بصورة طبيعية، كان سليمان العشريني مصدر رعب في اللاذقية كلها، كان يأمر الدبابات لتتحرك في المدينة بقصد التجوال معه. وهناك بشار ابن طلال الأسد الذي كان يقتل خصومه عبر دفنهم بالأسمنت الطري، ووسيم الأسد الذي يعرف الجميع جرائمه، وحافظ ابن منذر الذي يسيطر على سوق مزاد السيارات الفخمة، ولكل واحد من آل الأسد هؤلاء قطاعه وتخصصه وتفننه في إجرامه، عدا عن السيطرة على سوق المراهنات الإلكترونية، والتوسع في أعمال المخدرات وسواها، وكل ذلك كان يتم تحت أنظار بشار الذي لم يقرب العائلة منه على مستوى الخط المباشر واللقاءات المستمرة، ولكنه ترك الباب مفتوحاً لهم للسيطرة على الشمال الغربي من البلاد، وكان كل ذلك يتماشى مع ازدياد فقر الناس وحاجتهم وعجزهم عن شراء ربطة الخبز”.

الثمن المضاعف

أحد ساكني المنطقة، فضل عدم الكشف عن اسمه، بيَّن أن قصور أولئك الأمراء باتت اليوم خاوية على عروشها بعدما هربوا جميعاً، معتقداً أن غالبيتهم بات خارج البلد، ومؤكداً في الوقت نفسه وجود أشخاص من آل الأسد كانوا خيرين مع الناس.

يروي الشاهد صدمة الناس حين اشترى حافظ منذر الأسد سيارة “تيسلا” قبل بضعة أشهر بـ200 ألف دولار بينما كانت العائلات في جواره تبيت بلا عشاء.

قد تكون القرداحة دفعت ثمناً مضاعفاً إبان انتصار الثورة وسقوط نظام بشار، على اعتبار أنها مسقط رأس الأخير، وأن في الجيش نسبة كبيرة من الضباط والجنود من المنطقة وإن كانوا لا يشغلون مناصب مهمة في غالبيتهم، إذ طالما ساد اعتقاد لدى كثيرين أن البلد تحكم من هناك، وهو ما أثبتت الأيام عدم صحته، وأوضحه انتصار الثورة جلياً.

أحد مقاتلي غرفة “ردع العدوان” التي حررت سوريا قال لـ”اندبندنت عربية”، إنهم توقعوا مقاومة شرسة وغير مسبوقة في القرداحة، لكنهم فوجئوا بأناس مدنيين طيبين ومنهكين من الفقر والجوع والحاجة والعوز لأبسط مقومات الحياة.

ويضيف، “لم تكن كما توقعناها. بيوت فقيرة وبسيطة وخالية من مقومات الحياة، يقابلها بضعة قصور لمجرمي عائلة الأسد، حتى إن بعض الثوار حين دخلوا مرقد حافظ الأسد لم يعترض الناس في المنطقة رغم ما طاوله من تخريب، شعرنا بأن الناس ناقمة مثلنا على هذه العائلة، إحدى الأمهات أخبرتني أنهم اعتقلوا ولديها من دون أن تعرف تهمتهما أو مصيرهما رغم مضي السنين، وأن الأسد كان يجبر الناس على القتال”.

وفي الإطار لم يسلم أهل مدينته من بطشه فعلاً، فلا يزال السوريون يتأسفون على اعتقال المعارض البارز عبدالعزيز الخير وتغييبه قسراً رغم مضي أكثر من 10 أعوام على اختطافه من دون معرفة مصيره، في حين رجحت مصادر خاصة لـ”اندبندنت عربية”، أن المهام الخاصة في الاستخبارات الجوية هي من قامت باعتقاله وتصفيته لدوره الخطر على الأسد، كان ذلك عام 2012 خلال عودته من مطار دمشق الدولي إلى الداخل السوري.

ليال حمراء وجوعى

منيرة (اسم مستعار لسيدة ستينية من القرداحة) تروي لـ”اندبندنت عربية” كيف اُقتيد ابنها عام 2014 للخدمة العسكرية الإجبارية عند أحد الحواجز، ولاحقاً تم إرساله للقتال في دير الزور شرق سوريا.

تمكنت السيدة بعد توسل وتضرع لأحد أفراد عائلة الأسد من إقناعه بـ”تفييش” ابنها على أن يعمل لديه في القصر، وبالفعل “حن قلبه عليها” كما تقول، واستقدمه من الخدمة على الجبهة ليكمل جنديته كخادم في منزل الأمير الجديد.

تقول المرأة، إنه كان على ابنها تحمل نزق ذلك الأسدي وحالات سكره ومجونه وعربدته وتنفيذ طلباته الغريبة، لكن ذلك كان أفضل من إرسال معيلها الوحيد إلى الجبهة حيث يموت ليحيا الأسد.

السيدة روت على لسان ابنها ما كان يحصل من سهرات وليال حمراء يومية يتم فيها استقدام فتيات مختلفات وعليهن يجري رمي كثير من الأموال باليورو والدولار خلال رقصهن، حتى إن ما يصرف في سهرة واحدة من تلك كفيل بإطعام القرية لأيام.

المرأة رفضت تسمية الشخص الذي خدم ولدها عنده خشية الانتقام، قائلة “ربما لهذا الشخص فلول لا يزالون بيننا”. مضيفة “بأموالهم اشتروا طاعة الناس، الحاشية الدموية المحيطة بهم في الأقل، نحن نعرف أنهم غير محبوبين كأشخاص، لكن حاجة الناس إلى المال والعيش جعلتهم محاطين بالدروع البشرية والعناصر المسلحة، وكان ابني كحال غيره من الخدم، لا يحتسب على الحاشية ذات الولاء، بل كان دوره مجرداً بالمهام المنوطة به من استقبال وتوزيع الضيافة، لذا لم يكن شريكاً في المشبوهات ولا ممن يغدق عليهم المال، كان السيد يرى أنه أحاط عائلتنا بفضله ومنه وكرمه بأن خلص ولدي من الجيش، لذلك يجب أن يكون ابني مديناً طوال العمر، وأن يحفظ أسرار ما يدور في منزل سيده، هكذا فعل بنا بشار، جعلنا سادة وخدماً”.

وتتابع، “لم يمر يوم من دون أن أرى نظرات القهر في عيني ولدي، وتنامي حقده على ابن العائلة الحاكمة، حقد يرجع للأسباب التي جوعت مدينة بأكملها ليعيش بعض أفرادها ملوكاً. يقول لي ابني إن أشهى المأكولات كانت ترصف على الموائد الكبيرة، اللحوم والدجاج والذبائح والحلويات والمكسرات وكل ما يشتهيه السوريون، بل ما يشتهيه أقرب جيرانهم إليهم”.

وتختتم حديثها بالقول، “كان قانون قيصر يطبق علينا فنموت جوعاً، أما موائدهم وسياراتهم وقواربهم البحرية وأرصدتهم المالية وسيجارهم الأجنبي، كل ذلك كان متاحاً وهم يعبرون الطرقات ذات الحفر ويرون أرتال الناس تصطف للحصول على معونة أو خبز من دون أن يرف لهم جفن. الناس في مسقط رأس الأسد تكرهه، الناس في كل البلاد باتوا مع الوقت يكرهونه، وكما نقول في الساحل (من ليس فيه خير لأهله ليس فيه خير لأحد). أو لسنا نحن أهله؟ أم إننا خاصته في الحروب والموت وحين توزيع الغنائم نصبح غرباء نبحث عن نقطة طبية تداوينا، وعن وسائل نقل تقلنا وعن وظائف لا امتهان لكراماتنا فيها، هل أتحدث كيف كانوا يعتدون على الحرمات أيضاً؟ لا شيء غير مباح لهم، حتى القانون في صفهم ظالمين أم مظلومين”.

لا امتيازات للعامة

يحاول الشيخ ثائر ديوب وهو ابن مدينة القرداحة نفي التهم التي كانت توجه لمدينته، بل وتوضيح الصورة الحقيقية للحال التي كانت يعيشون فيها، مبيناً أن أهل المدينة كانوا يعملون في الزراعة والأعمال اليدوية والجيش والبعض عند آل الأسد.

ويشير إلى أن المدينة التي كانت مغيبة عن الإعلام طويلاً لم تكن تحظى بأي امتياز إضافي عن سواها، بل إن مدناً أخرى فاقتها بسنين كثيرة في التطور والعمران والخدمات، ويستذكر على سبيل المثال مدينة دير عطية في ريف دمشق التي ينحدر منها مدير المكتب التاريخي لحافظ وبشار قبل وفاته منذ بضعة سنين أبو سليم دعبول، حيث جعل من الحاضرة التي ينتمي إليها (دير عطية) قبلة في البناء والمال والأعمال والصروح الحضارية. وكذلك مدينة مشتى الحلو في ريف طرطوس بفضل جهود مغتربيها وأبنائها، وقمحانة في ريف حماة، وغيرها، وللمفارقة فإن دير عطية في ريف دمشق كانت تسمى قرداحة القلمون، وقمحانة تسمى قرداحة حماة.

ويضيف، “لا أدري من أين جاءت تلك التسميات المجحفة مقارنة بمدينة ينهشها الفقر وسوء الخدمات والعيش خارج سياق القانون وخضوعها للأعراف المرهونة بمتنفذي آل الأسد الذين هم خارج قوانين المحاسبة القضائية والجنائية. هل من المبالغ به أن أقول إن شعب القرداحة من أفقر سكان المنطقة، هذا ما أراده الأسدان لإقناع الناس بارتباط مصيرهم بهما، وبأنه لا حياة لهم من دونهما، لذا لم يعترض أحد على تخريب قبري حافظ وابنه باسل، هذه العائلة ركبت المنطقة والطائفة وقتلتهما من الجوع والحاجة، لا اتصالات، لا نقل كما يجب، لا أساسيات، فقر طاغ”.

أهال من القرداحة والمنطقة لم يستبعدوا خلال حديثهم مع “اندبندنت عربية” وجود فلول للنظام في المنطقة، مبينين أنهم “أقلية لا وزن لها، لكنهم كذلك مجرمو حرب، يهربون بين الجبال والأحراش ويجرون المنطقة لنزاعات هرباً من تطبيق العدالة بحقهم”، ومؤكدين في الوقت ذاته أنهم مندمجون تماماً مع الإدارة الجديدة، لكن شرط أن تتوقف الانتهاكات وتعاد للناس كرامتهم ويفهم الحكام الجدد أن السكان هنا بسطاء لا يريدون حرباً، فغريمهم وعائلته ومناصروه هربوا ولم يبق إلا من يبحث عن قوت يومه. داعين أن تصل تلك الرسالة للدولة الجديدة قبل غيرها، وأن يفهم العقلاء ويفهموا الناس أن القرداحة جزء من الساحل وليست المسؤولة عن الطائفة العلوية من قرى الجولان إلى دمشق فحمص وحماة والساحل وصولاً إلى لواء إسكندرون.

صيت بلا صدى

يرى المهندس محمد زهرة ابن قرية عين العروس التابعة إدارياً للقرداحة، أن الأخيرة “صيت بلا صدى”، ويتساءل “أليس غريباً أن يجمع كل الناس على رأي واحد؟ الجميع في مناطقنا يؤكد حال الفقر العامة، والأسوأ أننا نرزح تحت تشبيح جماعات آل الأسد، أقصد قبل سقوط النظام. اللواء غازي كنعان من قريتنا فماذا استفدنا منه، هل أصبحت بلدتنا يجوبها الغنى وصارت قبلة سياحية؟ كذلك القرداحة”.

ويتابع، “لقد حملنا النظام فوق طاقتنا، ذاك النظام لم يكن يعرف علوياً وسنياً، كان يعرف موالياً أعمى ومعارضاً خطراً، وخلال الحرب شحن الناس والطائفة وأفهم الجميع أن بقاءه يعني حياتهم، ورحيله يعني موتهم، وتركهم أمام خيارات ضيقة للقتال بعدما عوم البطالة ولم يترك لهم سبلاً للعيش الكريم، لم يقاتل الجميع عن قناعة بل عن حاجة، لذا نرى مئات الآلاف من الخريجين الجامعيين بلا عمل، بينما الكلية الحربية تقبل الجميع وتمنحهم رواتب مباشرة، رواتب مقرونة بسقف الحلم الذي صار يتمثل بالخط العسكري على دور الفرن ومحطة الوقود، اسأل جميع أهل القرداحة ليخبروك أي جحيم دفعوا ثمنه لقاء انحدار قائد من مدينتهم التي لا يزورها ولا يفكر في لجم ثيرانها الهائجين على الناس حتى، ذلك جزء من فرض السيطرة، جزء مدروس ربما”.

أما الباحث في التاريخ الحديث فجر الحكيم، فيوضح لـ”اندبندنت عربية” أنه يمكن حصر الأشخاص الذين تسلموا رتباً ومناصب رفيعة من القرداحة قياساً بمناطق كثيرة أخرى، وأن الأسد الأب ومن خلفه الابن اعتمدا بصورة مباشرة على ولاءات سنية مكنت لهم أسباب الحكم واستتبابه، على رأسهم العماد أول وزير الدفاع لعقود مصطفى طلاس، ورئيس الأركان حكمت الشهابي، وعبدالحليم خدام، ومرافق حافظ الشخصي خالد الحسين وأبوسليم دعبول مدير مكتبه، ورؤساء حكوماته التاريخيين عبدالرؤوف الكسم ومحمود الزعبي. كذلك الاعتماد على محمد حربا لإدارة وزارة الداخلية لأعوام، إضافة إلى مناصب سليمان قداح، وفاروق الشرع، وفيصل المقداد، ووليد المعلم، وبالطبع زوجة بشار الأسد أسماء الأخرس، مع قريبها طريف الأخرس، وما لحقهم في عهد الابن من الاعتماد على مصطفى ميرو، وناجي العطري، وعماد خميس، ورياض حجاب، ووائل الحلقي، وحسين عرنوس في رئاسة الحكومات، ومن بين أبرز رموز الأمن علي مملوك رئيس جهاز الأمن القومي، وهشام اختيار الذي سبق مملوك في المنصب، ومحمد الشعار في وزارة الداخلية، وديب زيتون في إدارة أمن الدولة، والأسماء لا تنتهي، وكلها تنتمي للأكثرية”.

هذا لا يعني أن الأسدين لم يعتمدا على العلويين، وفق الحكيم، ولكنهما اعتمدا على السنة كثيراً أيضاً، كان الولاء هو المعيار، لذلك لقيت كلمة وزير الخارجية أسعد الشيباني أخيراً خلال مؤتمر المانحين في بروكسل كل تلك الضجة في الشارع السوري، حين قال إن حكم الأقليات لسوريا أفضى لتهجير 15 مليون سوري وقتل مليوناً آخرين، ليعترض الناس على توصيف كهذا يخرج من وزير خارجية محنك يعلم أن الذي حكم البلد هم الطغمة الأكثر ولاء من كل الطوائف، الذين شربوا من الدم السوري بصرف النظر عن مرجعيتهم الطائفية والعرقية.

ويضيف الباحث، “ما قاله الوزير هو سقطة في حق سوريا وشعبها وقصر في النظر السياسي والاستراتيجي، سوريا لم تحكم يوماً من قبل أقلية، وإلا لماذا استشرى الفقر بين الجميع فيما كان يتسيد عليهم أمراء حرب من كل الطوائف، لم يعرف الامتياز يوماً فرقاً في التوزيع بين شخص وآخر بصرف النظر عن طائفته لقاء ما يقدر أن يقدمه من خدمات للنظام البائد، ففي حين كان الشعب السوري يموت جوعاً كان حمشو وقاطرجي والفوز وغيرهم ومعهم علويون بالتأكيد، يتنعمون بخيرات البلد”.

—————————————

سوريا إلى أين؟/ بكر صدقي

تحديث 21 أذار 2025

من واكب التطورات السياسية في سوريا ما بعد نظام الأسد لا يخفى عليه تخبط المجموعة الحاكمة الجديدة أمام التحديات الهائلة التي خلّفها النظام المخلوع. بات وراءنا الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم تسجل خلالها الإدارة الجديدة أي تقدم في أهم الملفات كالأمن والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي وتفكيك الفصائل المسلحة وتوحيد الجغرافيا السورية والمجتمع السوري.

لقد انبهرت هذه السلطة بسرعة توليها السلطة في اثني عشر يوماً، وبالقبول العربي والإقليمي والدولي الواسع والسريع بها، كما بقبول غالبية اجتماعية قام قبولها على الالتفاف حول الإنجاز الكبير المتمثل في إسقاط النظام. وفي حين تدين السلطة لسرعة إسقاط النظام بظرف إقليمي استثنائي هو ارتدادات عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها الكارثية، قام القبول العربي ـ الإقليمي ـ الدولي على رغبة الدول المعنية باستعادة الاستقرار الذي طال غيابه 14 عاماً وتسبب بتداعيات خطيرة وصلت آثارها إليها، كمشكلات الإرهاب وتدفق اللاجئين والمخدرات والأعباء الاقتصادية المرتبطة بها. أما القبول السوري العام فكان أساسه الفرح العارم بسقوط النظام وما عناه ذلك من انفتاح الأفق أمام تأسيس جديد يقطع مع الماضي الكارثي، إضافة إلى الأداء المقبول لهيئة تحرير الشام وحلفائها أثناء عملية «ردع العدوان» وبخاصة في مناطق حساسة كحلب ودمشق وجبال الساحل، حيث لم تشهد المعركة عمليات انتقامية واسعة النطاق أو أعمال عنف على أساس طائفي أو تضييقاً واسع النطاق على الحريات العامة والخاصة.

غير أن كل ذلك راح ينقلب إلى تراجع في شعبية الفريق الحاكم بمرور الأيام، بدءاً بمسرحية «مؤتمر الحوار الوطني» الهزلية وصولاً إلى المجازر الطائفية في الساحل مع الأسبوع الأول من شهر آذار الجاري، وأخيراً إصدار الإعلان الدستوري الذي لاقى انتقادات واسعة، فطغى على المشهد السياسي غياب الثقة بين قطاعات واسعة من المجتمع لا تقتصر على العلويين أو الأقليات، مقابل ارتفاع منسوب العدوانية اللفظية لدى مؤيدي السلطة الجديدة في مواجهة أي نقد لمسالكها حتى فيما اعترفت بها هي نفسها وشكلت «لجنة تقصي حقائق» بشأنها. مجمل القول هو أن الرصيد الكبير (المشروط) الذي حصلت عليه السلطة الجديدة في الداخل والخارج آخذ في التآكل كل يوم مع تراجع الآمال التي عقدت على التحول الكبير الذي تمت المراهنة عليه.

لن أدخل في تفاصيل نقد الإعلان الدستوري الذي قام به كثر وشمل مختلف مفرداته، ولكن من الطريف الإشارة إلى بند يتعلق برئاسة الجمهورية حيث ورد فيه شرط يتعلق بدين رئيس الجمهورية من غير أي إشارة إلى جنسيته، ربما لأن اللجنة الدستورية التي عينها الشرع لم تخطر ببالها هذه الثغرة الخطيرة حتى لو تعلقت باحتمال قريب من الصفر. فوفقاً لهذا الشرط يمكن لأي مسلم أن يشغل منصب رئاسة الجمهورية حتى لو كان غير سوري الجنسية، مع العلم أن هيئة تحرير الشام وفصائل جهادية أخرى فيها أعضاء أجانب من جنسيات مختلفة، وبينهم من تم تجنيسهم على عجل وبصورة غير معلنة!

لعل غموض أجندة الفريق الحاكم، وبخاصة قائده أحمد الشرع، في مسائل أساسية كشكل الدولة ونظام الحكم وغيرها، هو ما شجع كثيرين على المراهنة على تغيير لا بد أن يطال برنامجهما الأيديولوجي المعروف القائم على الفكر السلفي والنزعة الطائفية السنية. لكن هذا الغموض لم ينجلِ في الفترة المنصرمة إلا عن أسوأ الكوابيس التي استبعدها السوريون، فتفجر العنف الطائفي واتضحت الميول السلطوية والإقصائية من غير أن يظهر ضوء في نهاية النفق حتى لو كان طويلاً بحكم حجم المشكلات الهائل وضعف وسائل معالجتها.

وعلى رغم هذه المؤشرات المقلقة، يبقى أن السلطة ما زالت ضعيفة وهشة (وهذا بدوره مقلق) وخاضعة لاشتراطات كثيرة أغلبها للأسف خارجي، ستكون مرغمة على التعاطي الإيجابي معها لاستكمال شرعيتها المنقوصة، ولحل مشكلة العقوبات المفروضة على سوريا التي لا تسمح بإطلاق عجلة الاقتصاد، ولا يمكن للسلطة أن تحافظ على ما تبقى لها من شعبية قبل ذلك.

تطفو على السطح، في الحراك الاجتماعي السوري، مشكلة «المكوّنات» التي فشلت السلطة في إدماجها لأنها لم تر في السوريين إلا مكوّنات طائفية وعرقية وثقافية وسعت إلى التحايل عليها بدلاً من معالجتها بروح وطنية. بدا الاتفاق الذي وقعته السلطة مع قسد وكأنه «تاريخي» في أعقاب مأساة أهل الساحل، لكن الإعلان الدستوري بالصورة التي صدر بها قد أضعف من تاريخيته المحتملة، فلا رضيت عنه قسد ولا تيار وازن من دروز السويداء بقيادة الشيخ حكمت الهجري.

لا يمكن للمغمغة بشأن ديمقراطية الدولة وعلمانيتها، وهما شرطان لازمان لقيام دولة في سوريا تمثل جميع مواطنيها، أن تؤسس لهذه الدولة المأمولة، حتى لو تجنب أركان السلطة الكلمتين بذاتهما بحكم الإيديولوجيا التي تحكم تفكيرهم. ما لم تمض السلطة في هذا الاتجاه، ولو بخطوات بطيئة، نخشى سيناريوهات كارثية كتقسيم البلاد أو الحكم بالعنف المعمم مع شعبوية قاتلة. ويحتاج الفريق الحاكم إلى تحالف عريض مع فئات اجتماعية واسعة ليتمكن من تأسيس شرعيته. في حين أن الاستفراد بالسلطة والعجز عن تفكيك الجماعات المسلحة وتوحيد مناطق البلاد هو السائد إلى الآن. سوريا ليست بخير.

كاتب سوري

القدس العربي

——————————-

عن موتنا الذي هو “أفضل المتاح”/ بلال خبيز

21 مارس 2025

يبدي مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، ملاحظة قاسية، لكنها في محلها تماما، معلقا على مجازر الساحل السوري التي جرت في شهر آذار/ مارس من العام الحالي، حين يقول: إن مجازر الساحل السوري موثقة بالصوت والصورة، بعكس مجازر حماة. مصدر القسوة يصدر من واقع أن مجازر حماة كانت أكثر اتساعا وشمولا من مجازر الساحل. مع ذلك، وحيث أن التوثيق لها غير متوافر فإن المحاسبة تصبح أصعب، وتسمح بنجاة من كانوا من أبطالها القتلة. ومصدر وقوع هذه الملاحظة في محلها تماما، يأتي من واقع أن توثيق المجازر يتيح للضحايا وأهلهم الأمل بعدل ولو بعد حين.

إنما يبقى السؤال الأخطر مشهورا فوق رؤوسنا كسيف. من هم هؤلاء الذين وثقوا المجازر؟ كيف يمكن لقتلة أن يصوروا جريمتهم بهذا الفخر؟ سيخرج من بين الناس من يقول: هذا دليل أن المجازر مفبركة. أو أن القتلة تلبسوا لبوس المتهمين بالقتل توخيا لحشرهم في موقع المدان. لكن الثابت أن بعض القتلة صوروا جرائمهم. وهذا في حد ذاته يجدر به أن يكون مقلقا لكل الناس في سائر أرجاء الكرة الأرضية. ذلك أن مثل هذا القتل المصور، والخطاب الذي يعلنه القتلة، بوصفه سببا لاستحقاق الضحايا العقوبة المنزلة بهم، يستند إلى صور أخرى ووثائق أخرى تصور مقتل أبرياء يدعي قتلة اليوم أنهم يثأرون لهم.

المشكلة أن الصور والفيديوهات لا تموت بمرور الوقت، خصوصا إذا كانت الجرائم تحصل في بلاد تشبه بلادنا. ما زال فيديو ذبح أبو مصعب الزرقاوي لنيكولاس بيرغ حاضرا، ويمكن لأي متحمس التحجج به ليقتل من يعتبرهم أهل القاتل وعزوته، فيؤذيه ويؤلمه وهو في قبره.

والمشكلة أن أهل بلادنا يشبهون بعضهم في البؤس والحاجة والفاقة، فلو قام قاتل بتنفيذ جريمة في برج ترامب بنيويورك، فإن هذه الحادثة ستكون مؤرخة بالدقيقة والساعة واليوم. ذلك أن الأماكن المعولمة التي تشبه برج ترامب تغير جلدها كل يوم. المقتول في مكان كهذا لا بد وأنه يحمل ساعة أو هاتفا يشير إلى استحالة قتله قبل موعد إصدار هذه الفئة من الهواتف والساعات، وقد يكون مرتديا ثيابا رائجة لم تكن موجودة قبل شهر من الحادثة. الأماكن المعولمة تستطيع الادعاء أنها معاصرة. لكن قرانا ودساكرنا بحسب هذا المنطق تعيش في أوقات غبرت منذ دهر. وصور الجرائم التي تحصل فيها لا تاريخ لها إلا إذا كانت الضحية نفسها تعيش في زمن العولمة. هذا أيضا يقع في ما يمكن وصفه بعنصرية العولمة الفاقعة. لكن هذه العنصرية قد تكون أقل مشكلاتنا خطرا.

نعيش في زمن معولم. الصحافيون والموثقون يستخدمون أدوات توثيق وإخبار حديثة تماما. لكن الناس الذين يوثقون موتهم يعيشون في زمن مضى. كما لو أنهم تماما فائضون عن الحاجة. هذا يفسر سرعتنا في ارتكاب الفرح الغامر ما أن يحدث حدث كبير في المحيط. نريد أن ننسى قتلانا، لأننا نحن أيضا نعتقد أنهم يعيشون في وقت فائض. حياتهم بالنسبة لنا ليست أكثر من محاولة حشرهم في العتم والصمت، ونسيانهم حتى تميتهم الطبيعة أو يتوفاهم الله. السيدة أم أيمن التي حرست جثث ابنيها وحفيدها في خلفية دارهم، في قرية قبو العوامية، لم تكن لولا الجريمة لتذكر في أي كتاب أو تحقيق صحافي. هذا لا يقع في خانة لوم الصحافة والكتابة. لكنه يقع في خانة لوم حمى العولمة والمعاصرة. هذه المرأة قالت ما قالته للقتلة بينها وبينهم. أدوات العولمة هي التي رفعتها من مصاف المنسيين إلى مصاف المعاصرين. ولأنها كانت تعيش في زمن سابق على زمننا، فإن المدافعين عنها يجدر بهم أن يكونوا من المعاصرين. وإلا فإن مقتل ابنيها وحفيدها كان ليؤرخ بوصفه دعوة للثأر حال التمكن. لا أكثر ولا أقل.

لو لم تحدث الجرائم لما كان في وسع أي كان أن يصف يوميات أهالي هذا الريف المغرق في محليته. هل ثمة رعاية صحية مناسبة يتلقونها؟ هل يستطيعون تأمين قوت يومهم؟ هل يفكرون في مستقبل مشرق ومضاء؟ الأرجح أن كل هذه الأسئلة لن تخطر ببال مشاهد الجريمة المتضامن مع ضحاياها، والأرجح أن أولادها أيضا كانوا ليهاجروا إذا واتتهم الفرصة، ويتركونها وحيدة مع زمنها الذي لم نعد نعرف كيف نعيش فيه.

كل هذا الظلم يقع على هؤلاء دفعة واحدة. منذورون للحداد والموت والهجر والنسيان. ولا يذكرهم العالم إلا حين يقتلون أمام الكاميرات.

ثم ماذا؟

السؤال الأخطر يتعلق بأولاد المرأة المقتولين. لماذا لم يقتل القتلة المرأة أيضا؟ لأنهم على الأرجح يريدون منها أن تدخل في وقت الحداد. الرجال؟ يجب إبادتهم عن بكرة أبيهم. لأنهم إما قتلة وإما مقتولين. الوظيفة الأبرز التي يمارسها الرجال في هذه البلاد ليست أكثر من القتل والتعرض للقتل. ما الذي بقي لهم لينجزوه؟ بضع مجازر أخرى، أو التعرض لمجازر ثأرية أخرى؟ يبدو أننا نعيش حقا في عالم يصعب أن يكون قابلا لأن نتفاهم مع حيثياته. هذا يمتد من سورية إلى لبنان إلى فلسطين إلى اليمن، إلى كل مكان من هذا العالم لا تلمع أضواءه أمام أعين السياح المبهورين.

لكن هذا كله لا يختصر المعضلة.

المعضلة أن صور المجازر التي تبثها وسائل التواصل وشاشات التلفزيونات، تجعل منا كائنات ضيقة الآفاق. كل منحاز يملك صورا لمن يريد الانتقام لمقتلهم. المدافع عن الأسد لديه صور مقتوليه، والمدافع عن الإدارة الجديدة لديه صور مقتوليه أيضا. والحال فإن المجازر مرشحة لأن تشتعل كل لحظة، ما أن يتمكن الراغب في الثأر من تنفيذ ثأره. هذه بداوة معاصرة فرضتها العولمة المنتشية. لكن المقيمين فيها لا يملكون مزايا البداوة المتعلقة بالصلح والدية وتجنب القتل ما أمكن. إنه عالم يأخذ من تاريخ البشر أسوأه وينصبه علما على قناعاته وأفكاره وانحيازاته.

هل في وسعنا بعد هذا كله أن نستغرب أن يصل شخص مثل دونالد ترامب إلى رئاسة الدولة المهيمنة على أذواقنا واقتصادنا ومستقبلنا وأمننا؟ لا يجدر بنا أن نبدي استغرابا. ترامب نفسه هو وليد هذه العولمة التي تصنع الانحيازات القاطعة. كل علوي هو مشروع مجرم في ذهن من يناصبه العداء، كل سني هو مشروع إرهابي في ذهن من يناصبه العداء. وكل مكسيكي هو مشروع تاجر مخدرات في ذهن أنصار ترامب ومؤيديه، وكل أبيض هو عنصري بغيض في ذهن من يناصب البيض العداء. هذا العالم في مركزه يتحول إلى قبائل تريد أن تحارب المخالف والمغاير والآخر. وهذا العالم يبدو أنه يسير حثيثا لقتل من لم يصل بعد إلى مرحلة التحزب الأعمى، ثم بوسعه أن يحتفل بمقتل هؤلاء ويدين قتلتهم، مثلما قد يحتفل بمقتل أعدائهم ويدين قتلتهم. المهم أن تجد لك أيها الإنسان، أيها العالمثالثي، مكانا صغيرا في موقع من يستطيع أن يدين، وأن تتجنب الوقوع في موقع من تقع عليه الجريمة موضوع الإدانة.     

ضفة ثالثة

—————————————-

الساحل أمام هجمات جديدة.. أقل فعالية

تحديث 21 أذار 2025

مر نحو أسبوعين على هجمات فلول النظام السابق التي استهدفت عناصر “إدارة الأمن العام” ووزارة الدفاع، ما تسبب بموجة عنف في الساحل السوري.

ورغم إعلان وزارة الدفاع نهاية عملياتها العسكرية، فإن الكمائن وهجمات الفلول لم تتوقف وسط تراجع حدتها نتيجة الاستنفار والعمليات الأمنية.

الهجمات على القوى الأمنية والعسكرية التابعة للحكومة السورية ليست وليدة أحداث الساحل التي بلغت ذروتها بين 6 و8 من آذار الحالي، لكن هجوم 6 من آذار كان الأوسع والأشمل.

وبعد أيام من سقوط نظام الأسد في 8 من كانون الأول 2024، بدأت دوريات ومجموعات “إدارة الأمن العام” بالتعرض لهجمات وكمائن في مناطق الساحل وريفي حمص وحماة.

هل من هجمات كبيرة

تساعد الطبيعة الوعرة في المنطقة فلول النظام في تنفيذ هذه الهجمات، حيث توجد جبال ووديان وكهوف يمكن الاختباء بها وإخفاء الأسلحة، إلى جانب الأشجار التي توفر غطاء طبيعيًا لتحركاتهم.

وأوضح الباحث في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” نوار شعبان أن هجمات الساحل ستستمر وتتكرر في الفترة المقبلة لكنها لن تكون بنفس حجم هجوم 6 من آذار، الذي كان مخططًا لتحقيق مكاسب، وهو ما فشل به.

وأضاف شعبان لعنب بلدي أن ملف الساحل ما زال مفتوحًا، وصد الهجوم لا يعني أنه نهاية الخطر بشكل أساسي، “على العكس، يمكن أن يتحول الأمر إلى هجمات عشوائية مستنزفة هنا وهناك”، وهذه الهجمات منهكة للقوات الحكومية خاصة إذا حدث هجمات متزامنة عبر الحدود اللبنانية أو في مناطق أخرى.

وطالما أن الخطر قائم يجب التعامل معه من ناحية الأمنية وتستمر الملاحقات، وفق شعبان.

ذئاب منفردة

تلجأ التنظيمات المسلحة بمختلف إيديولوجياتها إلى توجيه ضربات عسكرية ضد خصومها، عبر مجموعات صغيرة لا يزيد عددها عن خمسة عناصر، وباستخدام أسلحة خفيفة وعبوات ناسفة، هذه الخلايا يطلق عليها مصطلح “الذئاب المنفردة”.

برعت في هذه العمليات خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، ونجحت في توجيه ضربات خاطفة في عمق مناطق سيطرة خصومه سواء في سوريا أو العراق.

ويرى شعبان، أن خيار تحول فلول النظام إلى تنفيذ هجمات ذئاب منفردة أو خلايا نائمة هو المتاح حاليًا، والضربات التي ينفذها عناصر الفلول حاليًا عبر نصب كمائن على الطرق وقرب الجسور والفرار بسرعة يؤكد أنهم انتقلوا إلى مرحلة أخرى.

بداية الهجمات

الهجمات على القوى الأمنية والعسكرية من قبل فلول النظام السابق بدأت بعد أيام من سقوط نظام الأسد، ووصلت إلى مرحلة أسر عناصر من “إدارة الأمن العام”.

في 14 من كانون الأول 2024، أي بعد ستة أيام فقط من سقوط النظام، قتل ثلاثة عناصر من “إدارة العمليات العسكرية” وأصيب آخرون بكمين مسلح بريف اللاذقية.

وقتل 14 عنصرًا من وزارة الداخلية وأصيب 10 آخرون، إثر تعرضهم لكمين من قبل فلول النظام السابق في قرية خربة معيزة بريف طرطوس، في 26 من كانون الأول 2024.

وأسرت مجموعة مسلحة تابعة لفلول النظام السابق سبعة عناصر من “إدارة الأمن العام” خلال تنفيذ حملة أمنية في جبلة، بتاريخ 14 من كانون الثاني الماضي.

حينها استنفرت الإدارة القوات الأمنية والعسكرية واستخدمت الطيران المسير والمروحي في ملاحقة الفلول، واستطاعت تحرير عناصرها وقتل قائد في مجموعات فلول النظام، وهو بسام حسام الدين قائد ميليشيا “أسود الجبل”.

هجمات الفلول مستمرة لكن وتيرتها تراجعت بعد أحداث الساحل الأخيرة، وما رافقها من حملات أمنية.

ولتقليل من خطر هذه الهجمات، يجب على الإدارة العسكرية والأمنية في حكومة دمشق، اتباع عدة إجراءات وفق شعبان هي:

    تعزيز القوة الاستخباراتية لجلب المعلومات.

    تعزيز التواصل مع وجهاء المناطق.

    الاستمرار بالحملات الأمنية ومحاولة تحييد الحاضنة الشعبية بشكل أساسي، لأن الفلول سيعتمدون على زج الطائفية وتصعيد المشهد الطائفي في المنطقة وهي إحدى أدواتهم حاليًا.

هجوم الساحل

في 6 من آذار، هاجمت مجموعات من فلول النظام السابق نقاطًا وحواجز لـ”إدارة الأمن العام” وقطعًا عسكرية تتبع لوزارة الدفاع، ولم تسلم المستشفيات وحتى سيارات المدنيين من هذا الهجوم.

حوصر خلال الهجمات عناصر من وزارة الدفاع و”إدارة الأمن العام” وسقط العشرات منهم إلى جانب مقتل مدنيين، وقوبل ذلك بإرسال تعزيزات عسكرية إلى المنطقة لإيقاف الهجوم وفك الحصار، ورافق التعزيزات توجه مجموعات عسكرية إلى المنطقة دون تنسيق واضح مع وزارة الدفاع أو الأمن العام.

الاشتباكات احتدت بين الطرفين، واستطاعت أخيرًا القوات الحكومية السيطرة على الموقف، لكن أدت العمليات العسكرية إلى مقتل مدنيين.

الرئيس الشرع حمّل فلول النظام السابق من “الفرقة الرابعة” التي كان يقودها ماهر الأسد، ودولة أجنبية متحالفة معهم (لم يسمِّها)، مسؤولية سفك الدماء في الساحل السوري، لإثارة الاضطرابات وخلق فتنة طائفية، مع الإقرار بحدوث عمليات انتقام تلت ذلك.

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثقت مقتل 803 أشخاص في الفترة ما بين 6 و10 من آذار، في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة.

وسجلت الشبكة مقتل 172 عنصرًا على الأقل من القوات الأمنية والشرطية والعسكرية (قوات الأمن الداخلي ووزارة الدفاع)، و211 مدنيًا بينهم أحد العاملين في المجال الإنساني على يد المجموعات المسلحة الخارجة عن إطار الدولة المرتبطة بنظام الأسد، والتي هاجمت أيضًا ستة مستشفيات في طرطوس واللاذقية.

كما وثقت الشبكة مقتل ما لا يقل عن 420 شخصًا من المدنيين والمسلحين منزوعي السلاح على يد القوى المسلحة المشاركة في العمليات العسكرية (الفصائل والتنظيمات غير المنضبطة التي تتبع شكليًا لوزارة الدفاع).

الرئيس الشرع شكل في 9 من آذار لجنة للتحقيق وتقصي الحقائق، مهامها الكشف عن الفاعلين في عمليات قتل المدنيين خلال العمليات العسكرية، إلى جانب مهام أخرى، لكن هذه اللجنة من المتوقع أن تواجه عوائق في عملها.

————————————

لماذا لا تعترف المذاهب الدينية بالكراهية فيما بينها، ولماذا لا تبني نظاماً يلجم هذه الكراهية؟/ غسان صليبي

تحديث 21 أذار 2025

المجازر في الساحل السوري تفتح مجدداً النقاش حول علاقة المذاهب والطوائف الدينيّة فيما بينها، ليس في سوريا فقط بل في المشرق العربي ككل وفي لبنان تحديداً. الذهول من شدة العنف المذهبي، ترافق مع اكتشافنا مجدداً عمق إنكارنا للمشاعر المذهبيّة والطائفيّة.

يعالج هذا النص مسألة الإنكار هذه. جرت التغطية على المسألة الطائفيّة والمذهبيّة في سوريا خلال نظام الأسد، بالإدّعاء انه نظام علماني لا يفرّق بين الطوائف والمذاهب، وعُيِّرَ بالطائفي واللاوطني كل من تكلّم عن حساسيات طائفيّة أو مذهبيّة أو من أشار الى التمييز بين المجموعات الدينيّة.

الثورة السورية وما تلاها من حرب أهليّة أظهرت الى العلن هذه الحساسيات وهذا التمييز. وبعد سقوط نظام الأسد على يد “هيئة تحرير الشام” سادت أجواء “وطنيّة” لا طائفيّة ولا مذهبيّة، رغم بعض الإنتهاكات المتفرّقة بحق بعض الأقليات الدينيّة. لكن سرعان ما انهارت كل هذه الدعاية “الوطنيّة”، مع اندلاع أحداث الساحل السوري وما رافقها من مجازر بحق المواطنين من الطائفة العلويّة. وسبق ذلك وتلاه بروز مخاوف درزيّة وكرديّة ومسيحيّة من الحكم الجديد، الذي يمثّل اتجاهاً أصولياً في الإسلام السياسي السني، المعروف بارتكابه مجازر بحق الطوائف والمذاهب الأخرى، حتى بحق مواطنين سنّة من اتّجاهات سياسيّة أخرى. وقد جاء “الإعلان الدستوري” ليعزّز هذه المخاوف من خلال مواده الصريحة التي تنص على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع وعلى ضرورة ان يكون رئيس الجمهوريّة مسلماً، مع الحرص على إعطائه صلاحيات إستثنائيّة خلال فترة الخمس سنوات الانتقاليّة، من مثل تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، كما تعيين اللجنة التي ستساهم في اختيار الثلثين المتبقيين.

صُدم معارضون سابقون لنظام الأسد بالمجازر التي وقعت، وبعضهم ينتمي الى الاتّجاهات العلمانيّة، ومن بينهم فاروق مردم بك، الذي قال بصراحة تامة وبدون أي التباس: “لنعترف ونحن ندفن قتلانا، بأن الطائفيّة متجذّرة في بلادنا، تغفو حينًا ثم تستيقظ كلّما سنحت لها الفرصة متعطّشة للدماء. ظننّا ان شعاراتنا القوميّة العربيّة كافية لاجتثاثها، ونراوغها اليوم بالكلام على الوطنيّة السوريّة كما لو أن وطننا لم تمزّقه الأحقاد الطائفيّة التي راكمها الاستبداد الأسدي وزادها حدّة تغوّل الحركات الجهاديّة. لا بدّ للاعتراف بواقعنا على حقيقته لا كما نتصوره…”.

التطوّرات السوريّة استدعت أيضاً مواقف عراقيّة ولبنانيّة. في العراق عاد التجاذب السني – الشيعي حول حدود الأقاليم، ومن يسيطر على المياه ومن يسيطر على النفط. وفي لبنان الموقف الأبرز والأوضح کان للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الذي “حذّر من تداعيات المذابح التي تحصل في سوريا على المنطقة بأكملها ولبنان خصوصا”، مناشداً ضرورة “ضبط الامور قبل ان تذر الفتنة الكبرى بقرنها”. وتعبير “الفتنة الكبرى”، هو استرجاع لوصف الفتنة الذي اندلعت بين السنة والشيعة منذ ١٤٠٠ السنة.

هذا الصدى المذهبي العراقي واللبناني على المجازر المذهبيّة في سوريا،  يُضاف اليه تعاظم المخاوف الدرزيّة في السويداء من الاندماج تحت حكم السلطة السوريّة الجديدة .

 مع ذلك يستمر كثيرون في البلدان الثلاثة بإنكار الحساسيات المذهبيّة التي تلامس الكراهيّة المتبادلة. ويمكننا تقسيم مجموعة الإنكار هذه إلى أربعة فئات على الأقل:

– فئة رجالات السلطة والمستفيدين منها، الذين يريدون إضفاء شرعيّة دستوريّة وطنيّة على حكمهم الفئوي التسلطي. الأسد لجأ الى غطاء العلمانية والشرع يلجأ الى غطاء الاسلام الذي يجمع بين المذاهب الاسلاميّة. لكنّ حجّته أضعف من حجّة الأسد فهي لا تشمل المسيحيين.

– فئة “القوميين العرب” بمختلف تسمياتهم، والذين لا يرون في سوريا الا مواطنين عرباً بغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم. وهم والأسد والشرع لا يعيرون اهتماماً للأقليّة الكرديّة، كمكوّن غير عربي. ولطالما ارتبط الفكر القومي بمصالح حزبية ضيّقة متمسكة بالسلطة.

-فئة “اليساريين” الذين لا تسمح لهم عقيدتهم إلاّ برصد الطبقات في المجتمع، لدرجة أن اليسار اللبناني في حرب ١٩٧٥، كان مضطرًّا لتحويل الطوائف والمذاهب إلى طبقات، من خلال مقولة “الطائفة-الطبقة”، حتى يستطيع أن يتقبّل فكرة وجود الطوائف والمذاهب وتأثيرها في العلاقات بين المواطنين، وحتى يبرّر بالتالي مشاركته في حرب طائفيّة.

– الفئات الثلاث أعلاه تفسّر النزاعات الطائفيّة والمذهبيّة- هذا إن إعترفت بها- بالتدخّلات الخارجيّة ذات الأطماع الاستعماريّة، أو بالأنظمة السياسيّة القائمة على أساس طائفي. على عكس الفئة الرابعة التي هي فئة “المؤمنين” العاديين، فهي تعيش تناقضاً في مشاعرها. لديها من جهة نزعات نفسيّة-إجتماعيّة متأثرة بالواقع الطائفي والمذهبي المعاش وبذاكرة جماعية متداولة تغذي الأفكار المسبقة والكراهية تجاه الآخر المختلف؛ ومن جهة إخرى نزعة دينيّة- اخلاقيّة تدعوها إلى التسامح وقبول الآخر. وينتج عن هذا التناقض إحساس بالذنب وكبتًا للمشاعر العدائيّة ورفضاً للاعتراف بها.

الفكر القومي يختزل العوامل المؤثرة بالسلوك الانساني بعامل الانتماء القومي، والفكر الماركسي- الارثوذكسي يختزلها بعامل الانتماء الطبقي، والاثنان يهملان العوامل المجتمعية والثقافية والدينية التي تبلور السلوك المذهبي- الطائفي. العوامل جميعها لها دورها دون ادنى شك، لكن كما يبدو من التجربة التاريخية، لا تزال العلاقات المذهبية والطائفية أقوى وافعل من العلاقات القومية والطبقية في تشكيل الوعي الفردي، في كافة دول المشرق العربي.

لكن من الضروري الإشارة الى ان مصدر الكراهيّة، قد يكون عدائيّة كامنة تولّدها الحياة اليوميّة في العائلة والمدرسة والعمل والمجتمع ولا علاقة لها بالمواقف الطائفيّة، لكنّها تجد في هذه المواقف متنفساً جماعيًّا لها، بحكم انتشارها.

لا يمكن معالجة النزاعات المذهبيّة والطائفيّة من خلال انكارها، والتجارب اللبنانيّة والسوريّة والعراقيّة أسطع برهان على ذلك: فلا طمسها من قبل نظامي البعث السوري والعراقي، ولا الاعتراف بها بخجل من خلال النظام اللبناني، أدّيا إلى تجنّب المجازر الدورية. قالها لنا ابو تمام منذ زمن العباسيين، ولو لأغراض مختلفة: “السيف أصدق انباءً من الكتب، في حده الحدّ بين الجد واللعب”. فلنتوقف عن اللعب بمصائر شعوبنا ولنصدِّق السيف قبل أن يقضي علينا جميعًا.

لم يجرِ اللجوء الى القانون تاريخياً لتنظيم المحبّة بل للجم الكراهية بين البشر. فلا بأس إن اعترفنا نحن أيضًا بحاجتنا إلى قانون “ينظّم” هذه الكراهية ويمنعها من التحوّل إلى عنف مطلق.

يجب للاسراع في اقرار قانون لإنشاء مجلس الشيوخ وقانون اللامركزيّة الموسّعة. هكذا تتفادى البلاد الصدمات الكبيرة التي لم تعد تحتملها، وتأخذ المبادرة بدل ان تكون سياساتها كما حصل في السابق، ردود فعل على التطوّرات الخارجيّة التي لا تأتي في العادة لصالحها.

إن حصر السلاح بيد الدولة هو شرط اشتغال مجلس الشيوخ واللامركزية الادارية، مما يسمح لمختلف فئات الشعب ان تعيش بطمأنينة وسلام. وعلى عكس ما يعتقد البعض، لم يحصل حصر السلاح بيد الدولة بعد نشوئها تاريخياً في العالم، بل كان شرطاً لوجودها، بعد أن توافقت الفئات المتقاتلة في حينه على العيش معاً بسلام.

النهار العربي

——————————

بين الطائفية والمحبّة… شهادة رعب وامتنان من الساحل السوري/ إبراهيم العلي

الجمعة 21 مارس 2025

يقال إنّ “المصائب تكشف معدن البشر”. آمنت شخصياً بصحة المقولة، بعد الأحداث الدامية التي حدثت في الساحل السوري. انقسم الشارع قسمين بين مهلل ومستهجن، ومدين ومبرر، وشامت ومكلوم، وإنساني وطائفي، وبين من أراد وقف المجازر والاقتصاص من القاتلين، ومن كان همّه فقط تبرئة الأمن العام من القتل دون تحميله مسؤولية عدم القدرة على حماية المدنيين العُزّل.

الدعتور تشعل شرارة الأحداث

يوم الثلاثاء الرابع من آذار/ مارس الجاري، استيقظت صباحاً وتفقدت أغراضي وجمعت مستلزماتي في حقيبة السفر، وسافرت من قريتي في ريف طرطوس إلى السكن الجامعي في اللاذقية، حيث كان عليّ أن أقضي نحو خمسة أيام لأقدّم امتحانَين وأعود. اخترت البقاء في السكن توفيراً للجهد ولأجور النقل الباهظة. وصلت إلى السكن الجامعي عند الساعة التاسعة، وبدأت بمراجعة الامتحان الذي كان مقرراً عند الساعة الواحدة ظهراً. عند الـ12 وربع، اتصل بي صديقي ليقول لي: “الامتحان تأجّل بسبب الأحداث في الدعتور”. لاقى القرار استياء الطلاب، لكننا سلّمنا أمرنا، وقلنا المهم السلامة، ولم نكن نعرف أنها البداية.

بدأت تتصاعد الأحداث في الدعتور، وتتعدد الروايات وتتضارب. وبدأ أقاربي ومعارفي يتصلون بي لأخبرهم عن الأحداث في هناك، فأقول لهم: “والله ما بعرف متلي متلكم عم إسمع من الفيسبوك”. لم أقف عند أحداث الدعتور، بل ظننت أنها عابرة فقد اعتدنا وبكل أسف على “الحالات الفردية” بين الحين والآخر.

مرّ يوم الأربعاء بسلام، لتبدأ الأنباء صباح يوم الخميس، بالوصول إلينا عن وجود إشكالية في ريف جبلة. أيضاً لم نلقِ بالاً للأمر، وأكملت دراستي وذهبت إلى سريري لآخذ قيلولة الظهر. بعد ساعة من النوم، استيقظت وزميلي على صوت طيّارة تتجه نحو جبلة مع أصوات القصف، وبدأ حينها مسلسل الرعب.

تصفحت وسائل التواصل الاجتماعي لأفهم ما يجري. أغلب الأخبار تقول إنّ “فلول النظام السابق” اعتدت على حاجز للأمن العام، وبدأت بعدها حملة موسعة من قبل “الأمن العام” للردّ على الهجوم، لتشتعل حينها الحرب وسط تقدّم ملحوظ “للفلول”، ما دعا القيادة في سوريا إلى الاستعانة بالفصائل المتشددة التي مارست عنوةً أقذر أنواع الإبادة والتطهير بحق المدنيين العُزّل العلويين في مختلف مدن طرطوس واللاذقية. عشنا أيام الخميس والجمعة والسبت في السكن الجامعي، رعباً لا يوصف بسبب أصوات الاشتباكات التي لم تهدأ وأخبار التطهير العرقي.

لا كهرباء ولا ماء ولا خبز

أصبحت مشاهد المجازر يوميةً. لكن بالإضافة إلى هذه المشاهد المؤسفة التي كنا نتابعها، أصبح هناك واقع معيشي صعب في السكن الجامعي؛ انقطعت الكهرباء عن السكن بالكامل، وتبع ذلك انقطاع الماء، بالإضافة إلى توقف أغلب الأفران عن العمل، ما خلق أزمة خبز خانقةً، وأصبح واقع السكن مختلفاً تماماً عن ذي قبل.

كنا نركض في السكن الجامعي وراء أي خبر، وبحثاً عن مكان لشحن الهواتف أو لتعبئة المياه أو لتوزيع الخبز، بعد أن كان هذا كله متوافراً.

يشيع خبر مفاده أنّ سيارة الخبز وصلت إلى السكن، فنرى جحافل الطلاب تتجه نحو المكان لنجد طابوراً طويلاً. المحظوظ منا أحياناً يرجع برغيفين، أما الباقي فيرجعون بخفيّ حُنين. الكهرباء لم تأتِ منذ ثلاثة أيام، فاضطررنا إلى الطبخ وتسخين المياه على الحطب، وهو ما أصبح ظاهرةً منتشرةً بعد أن كان ممنوعاً. أما طابور المياه، فحدّث ولا حرج؛ لا يوجد سوى مكان واحد فيه صنبور ينزّ بحبل رفيع، ماءً.

أصبح التعب النفسي يفوق التعب الجسدي، فالطلاب قلقون على أهاليهم. في الأيام الأولى، كنا نسمع صوت القصف الرصاص ونقرأ ما يحدث على فيسبوك، تماماً مثل غيرنا. كان الخوف علينا نحن الطلاب في السكن الجامعي، لكن ما إن تصاعدت الأحداث في ريف طرطوس، انعكست الآية وأصبحنا نحن من نخاف على أهالينا ونودّ لو بإمكاننا أن نأتي بهم إلى السكن الجامعي.

الطائفية مقابل المحبّة

أتصفح فيسبوك، وأرى المجازر التي تحصل من دون رقيب أو حسيب، بحجة الفلول والفصائل المنفلتة. يصيبني القرف من كل من يشمت بما يحصل أو يبرره. يقول أحدهم: “وين كنتم لما كان ينزت علينا براميل”، أو “ليش ما كنتم تدينوا جرائم الأسد لما أباد السنّة”. وكأنّ هؤلاء كانوا في عالم آخر. وكأنّ رفاهية الإدانة كانت متوافرةً لدينا ولديهم، أو كأنّهم هم الذين ملأوا الدنيا بالإدانات حين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة نظام الأسد. كلنا كنّا رهائن بيد الأسد، ومن جميع الطوائف، ومن يرفع صوته يُخفَ. فحين تقول: “وينكم لما كان الأسد يضرب براميل”، تبدو كأنّك تقول: “الغايب يرفع إيدو”.

المؤسف أنّ هناك أناساً أكلنا وشربنا معهم طوال الفترة الماضية، كأخوة آمنين مأمّنين على بعضنا البعض، لكن فجأةً تتفاجأ بكمية الطائفية عند بعضهم. يضع صديق لي حالةً على فيسبوك، يقول فيها: “طالما لم تحترموا أكثريتنا لن نحترم أقلّيتكم”. أما الآخر، فيكتب: “كنتم أقليات وأصبحتم نوادر”. وكأنّ اعتراض هؤلاء على بشار الأسد، كان بدافع أن يحلّوا محله، فقط ليمارسوا الوحشية نفسها.

تفاجأت بكمية الطائفية، لكن تفاجأت أكثر بكمية المحبة من أصدقائي من الطوائف الأخرى. يتصل بي عشرات الأصدقاء يومياً، ممن تربطني بهم علاقة قوية أو عادية، ليطمئنوا عليّ. يتواصل معي صديقي محمد -شقيقه شهيد قُتل تحت التعذيب في معتقلات الأسدـ من مدينة زاكية التي تعرضت لأقسى أنواع الوحشية من نظام الأسد، ويقول لي: “شو ما احتجت قلي، واذا حسّيتوا ما في أمان بيتي بالشام مفتوح إلكم”. صديقي محمد، تعرّض لشتى أنواع القهر أيام الأسد، لكن الإنسانية والمحبة متأصلتان فيه، ولم تجعلاه يتمنى أن يحصل لغيره ما حصل معه. محمد مثال عن الثائر المنتصر الذي انتصر على كل محاولات نظام الأسد لتشويه إنسانية السوريين. محمد مثال، وغيره كثر ممن تعاطفوا معي ومع جميع أهالي الساحل. هؤلاء هم من يعرفون أنّ الإنسانية لا تتجزأ، وأن لا وطن ولا ثورة بلا إنسانية.

الشيء الجميل الآخر بين هذه المصائب كلها، حالة التعاضد والتعاون التي شهدتها في السكن الجامعي في اللاذقية. الطلاب من مختلف الأطياف والمحافظات يواسون بعضهم، ويقدّم كل منهم المعونة والمساعدة برغم الشحّ في كل شيء، ولو كان ذلك باقتسام رغيف الخبز الوحيد بينهم، ناهيك عن الكثير من المبادرات مثل توزيع خبز وسلل غذائية مجاناً من قبل فرق تطوعية. أعتقد أنّ حالة السكن الجامعي هذه تمثّل سوريا التي نريدها، سوريا اليد الواحدة، سوريا الضمير الحي.

عدت إلى منزلي مع باصات أمّنها مشكوراً المجلس الشيعي الاسماعيلي، مجاناً وللجميع. عدت باستنتاج تةصلت إليه من خلال متابعتي للأحداث في سوريا على مدى 14 عاماً وحتى اليوم: ليس كل معارض لنظام الأسد ثورياً، وليس كل داعم للسلطة الحالية ثورياً، هناك أمر يجب إيضاحه: السوريون ليسوا معارضةً وموالاةً أبداً. السوريون قسمان، قسم إنساني وقسم طائفي، القسم الطائفي يضمّ من كان يكره الأسد فقط لأنه علويّ، ومن كان يحبّ الأسد أيضاً فقط لأنه علويّ، ومن يحبّ الشرع فقط لأنه سنّي، ومن يكره الشرع أيضاً فقط لأنه سنّي. أما القسم الإنساني، فمكوّن ممن كان ضد الأسد لأنه مجرم، ومن كان مع الأسد مخدوعاً به أو على سبيل أنه “أحسن السيئين”، ومن هو مع الشرع لأنّه “محرر سوريا” وسوف يقودها إلى برّ الأمان، ومن هو ضد الشرع باعتباره متطرفاً ذا خلفية جهادية.

رصيف 22

————————-

بيان

استغلت فلول نظام بشار الأسد عيوب وثغرات العملية السياسية الهادفة لتوليد دولة سورية جديدة من أجل أن تضرب ضربتها في عملية التمرد العسكري، التي قامت بها عند مغرب يوم 6 آذار، والتي ارتكبت من خلالها مجازر سقط من جرائها مئات الضحايا من قوات الأمن العام أثناء تناولهم طعام الافطار الرمضاني، ولم يكن بعيداً عن قصدها أن تُولِد تلك المجازر مجازر أخرى على أساس الهوية الطائفية،  تقوم بها فصائل تحمل نزعات انتقامية ، وذلك بقصد من تلك الفلول لإنشاء شرخ وطني عميق يمنع الولادة السورية الجديدة.

فالسوريون قد غمرهم التفاؤل عندما قالت إدارة السلطة الجديدة مابعد سقوط حكم بشار الأسد أنها تخطط لعقد مؤتمر وطني عام تنبثق عنه خريطة طريق للمرحلة الانتقالية وسلطة تنفيذية وثانية تشريعية وإعلان دستوري ولجنة لصياغة الدستور، ولكنهم فوجئوا بعد خمسين يوماً بانعقاد مؤتمر لفصائل عسكرية حدُد ملامح المرحلة الانتقالية ، بما فيها السلطات التنفيذية والتشريعية وآلية إنشاء الإعلان الدستوري، من دون مشاركة وطنية عامة تشمل القوى السياسية والاجتماعية  وأخرى عسكرية غابت ولم تدع لذلك المؤتمر، ثم تمت الدعوة إلى مؤتمر حوار يحمل صفة استشارية تمت دعوة أعضائه بصفتهم الفردية وبعضهم منتسب لأحزاب وقوى سياسية، في إشارة من السلطة الجديدة على أنها تتعامل مع السوريين كأفراد فيما كان السوريون ، طوال قرن من الزمن ، رواداً للمنطقة في تأسيس الأحزاب وانشاء الأفكار والتيارات السياسية.

 وهذا قد جعل السوريين في حالة انقسام تجاه ما جرى منذ يوم 29 كانون الثاني بعد أن حصل إجماع وطني عام ما بعد سقوط بشار الأسد في 8 كانون الأول، وأصابهم القلق من أن هذا يخالف ماقاله المجتمع الدولي- الإقليمي عندما طرح مطلب “الانتقال السوري الجامع الشامل”، وهو ما كرره بيان مجلس الأمن الدولي الأخير في 14 آذار عندما دعا  إلى  قيام ” عملية انتقال سياسي شاملة ، يقودها ويملكها السوريون و تيسرها الأمم المتحدة،  وتستند إلى المبادئ المرسومة  في  القرار 2254″، وهو بيان أتى في اليوم التالي  لصدور (الإعلان الدستوري)، الذي يكرس سلطة فردية ويخضع السلطتين التشريعية والقضائية لرأس السلطة التنفيذية ، وهو يخالف كل الاعلانات الدستورية المؤقتة بعد سقوط الحكم الديكتاتوري، كما في الاعلان الدستوري المصري في 30 مارس 2011 بعد سقوط حكم حسني مبارك عندما حددت مدته بخمسة عشر شهراً وليس بخمس سنوات كما في الإعلان السوري، ولم يعط المجلس العسكري برئاسة الفريق حسين طنطاوي صلاحيات مماثلة ، وكانت حيادية الدولة فيه أوسع تجاه المكونات الاجتماعية والسياسية.

إننا نطالب بمراجعة عملية المسار السياسي الانتقالي السورية ، والبدء بمشاورات حثيثة من أجل أن تنظم السلطة الجديدة، بالتشاور مع القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية، مؤتمراً وطنياً عاماً تنبثق عنه خريطة طريق المرحلة الانتقالية بكل محتوياتها وتفرعاتها ،تكريسا لمبدأ الفصل بين السلطات ، وأن يكون اختيار المؤسسات التشريعية والقضائية والمحكمة الدستورية العليا من المؤتمر الوطني العام وليس من لجان  معينة تعييناً، على أن يكون هذا الانتقال محكوماً بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات لجميع السوريين ومبدأ الحريات الشاملة غير المقيدة في تأسيس الأحزاب والجمعيات وحرية تأسيس وسائل الاعلام المختلفة وحرية التظاهر والاضراب، وذلك من أجل أن يقود السوريون، المتساوون والأحرار، هذه العملية الانتقالية .

كما نطالب بإدانة وطنية عامة لمجازر 6 آذار التي ارتكبتها فلول النظام البائد بحق أفراد الأمن العام وجلبهم للمحاكم والاقتصاص القانوني منهم، و بإدانة وطنية عامة للمجازر التي ارتكبت في أيام 7-8-9 آذار بحق مواطنين مدنيين على الهوية الطائفية والتحقيق وجلب الجناة للمحاكم العلنية والاقتصاص القانوني منهم والتعويض لأهالي الضحايا وجبر الخاطر لهم ، من أجل أن يكون شهر آذار 2025 بداية صفحة جديدة تطوى من خلالها  صفحات المجازر التي بدأت في عهد حافظ الأسد و استمرت في عهد ابنه.

      عاش الشعب السوري…

17 آذار 2025

المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية

——————–

=====================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى