عن التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة، ملف تناول “شهية إسرائيلية لتفتيت سوريا” – تحديث 21 أذار 2025

لمتابعة مكونات الملف اتبع الرابط التالي
التدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدة
———————————
“الورقة” الدرزية/ زياد بركات
20 مارس 2025
أسوأ ما يمكن أن يحدُث للسوريين الدروز أن يصبحوا مجرّد ورقةٍ في لُعبة أكبر منهم، والأسوأ في ما يخص المنطقة بأسرها أن تنجح إسرائيل في تحويل دروز العالم، وليس في سورية فقط، قوميةً وليس أقلّيةً دينية، وهو ما حذّر منه قبل أيام الزعيم اللبناني الدرزي، وليد جنبلاط، في ذكرى اغتيال والده.
ومعلوم أن إسرائيل وباكستان هما الوحيدتان في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية اللتان تحوّلتا دولتين و”قوميَّتين” على أساس ديني لا عرقي، وستظلّان حالةً شاذّةً رغم أنهما نجحتا في ذلك، لكن هذا يُفسّر (من بين أسباب أخرى أكثر تعقيداً) عزل إسرائيل منذ الدقيقة الأولى دروز فلسطين عن بقيّة سكّانها، ووضع الخطط لتجنيدهم في جيشها، بالترهيب حيناً والإغراءات أحياناً أخرى، وبدفع قوي وخطط متدرّجة وضعها ديفيد بن غوريون نفسه.
وإذا كانت قد نجحت في هذا، في حالة شعبٍ يرزح تحت أسوأ احتلال وأطوله في التاريخ المعاصر، فهذا لا يعني نفاذ خططها بخصوص السوريين الدروز في أيامنا هذه، فثمّة فرق بين الهواجس والمخاوف المضخّمة، جرّاء عقود من المظلوميات التي خلّفها وراءه نظام آل الأسد، وهي تشمل دروز سورية وسُنّتها وعلوييها، وحتى معمارها وأزقّتها الضيّقة إذا شئت، ونقل هذه المظلومية إلى منطقة أخرى خارج التيّار العامّ لنضالات السوريين في عمومهم، للوصول إلى دولةٍ حديثةٍ ومعاصرةٍ تقوم على مفهوم المواطنة، وهو ما تيسّر بفرار المخلوع الذي بطش بدروز بلاده واستغلّهم ووظّفهم، واغتال من اغتال منهم، ممّن رفضوا الاندراج في خططه القائمة على تخويف الجميع من الجميع لينتهي كلّ القمح إلى بيادره هو.
وما تُعنى به إسرائيل عملياً، وبعيداً من أيّ أوهام قد تراود بعض السوريين، من دروز أو سواهم، هو إقامة مناطق عازلة، جدران من نار تعزلهم عن خطرٍ تراه محدقاً حتى لو بعد ألف عام، ومن شأن تحريض السوريين الدروز (وهذا مستبعد) إنشاء كانتون عازل في حدودها مع سورية، ولكن فكرةً كهذه يكتنفها كثير من التعقيدات، خاصّة أنها قد تعني وضع اليد على محافظة بحجم درعا ومساحتها، وهي بلغة الأقلّيات سُنّية، وتتفوّق عدداً على المناطق الدرزية كلّها، بلغة الأقلّيات ومنطقها (المرفوض في كلّ حال وتحت أيّ ظرف)، وهو ما يُشكّل خطراً على دول المنطقة وأمنها، خصوصاً الأردن ولبنان وتركيا، فأيُّ لعبٍ بالخرائط يفتح صندوق باندورا، حيث الشرور لا تعرف صديقاً.
ثمّة مشكلات كُبرى في سورية ما بعد المخلوع، منها الأوضاع الاقتصادية، وثلاثة أرباع ما يؤرّق دروز السويداء السوريين هو تدهور أوضاعهم المعيشية، وهو ما سبّب تحوّل مواقف بعض قادتهم في السنوات الماضية لحكم الأسد، ومنهم الشيخ حكمت الهجري نفسه، الذي كان مؤيّداً، وآخرون ممّن كانت مخاوفهم من “الجماعات المسلّحة” تتقدّم لديهم على معارضتهم الأسد.
ومع غياب الأخير، الذي يقيم في جنّة المنفى الروسي، وليس في سجون بناها نظامه، ومجيء نظام جديد، فإن من شأن تحسّن الأوضاع الاقتصادية، وقيام العهد الجديد بتبديد المخاوف جدّياً، قطع الطريق على مخطط كبير لا يوجد، حتى اللحظة، درزيٌ واحدٌ يتمتّع بتاريخ شخصي يُعتّد به مستعدّ للقبول به.
ما تحتاج إليه سورية ورشة طمأنة كبيرة وشاملة، وقطيعة مع ذهنية الأقلّيات نفسها، التي قد تهدر فرصة بناء سورية أخرى، معافاة، قوية، ذات وزن في المنطقة، بما تزخر به من طاقات وإبداعات قلّ نظيرهما. والمأمول أن تنجح سورية في ذلك على صعوبته، خاصّة أن العهد الجديد “طرفٌ سابق”، وصحيحٌ أنه ناضل وكافح وقاتل نظام الأسد، لكنه كان أيضاً جزءاً من مصادر مخاوف بعض السوريين من مستقبل صعب ينتظرهم، وهو ما استثمر فيه نظام الأسد الذي وضع السوريين أمام معادلة نظامه أو الإرهاب، ودفع كثيرين من معارضيه إلى العضّ على أسنانهم الدامية والركون إلى الصمت، ومن بين هؤلاء سُنّة وشيعة ودروز وعلويون ومسيحيون، ونحن نتحدّث هنا عن مواطنين دفعهم النظام إلى قتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وفخّخ حتى أحلامهم بمخاوف تنهار بين ليلة وضحاها لو أقلعت السفينة وتحسّنت أوضاع الناس، وتمتّع الحكم ببعض الرشد ليس أكثر، والظنّ أنه يسعى ويفعل.
العربي الجديد
—————————
سوريا… احتدام التنافس بين أجندات الخارج والداخل/ إبراهيم حميدي
ترمب يتوقع التقسيم وإسرائيل تريد “فيدرالية” وإيران تدفع إلى “التشظي”… والدول العربية تريد الاستقرار
19 مارس 2025
الرئيس دونالد ترمب قال في جلسة مغلقة، إن سوريا “ماضية إلى التقسيم لثلاث مناطق”. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تحدث علنا عن “حماية الدروز”، وروج آخرون في حكومته لسيناريو “الفيدرالية”. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد دعم “وحدة سوريا” و”محاربة الإرهاب” ومنع قيام كيان كردي.
إيران، من جهتها، لم تقبل الهزيمة الاستراتيجية في سوريا. امتصت الصدمة وقررت التحرك فيها عبر “ثلاث جبهات”، فيما قبلت روسيا بتقليل خسائرها والبحث مع دمشق عن علاقات جديدة تتضمن استمرار وجودها العسكري ونفوذها في البلاد والإقليم.
أما الدول العربية والأوروبية، فقررت الانخراط مع الإدارة السورية الجديدة، لأن “دعمها أقل كلفة من أي بديل آخر”، وهي تريد الاستثمار في المكاسب الجيوسياسية، المتعلقة بخسارة إيران وروسيا، لأن أمن سوريا يتعلق بأمنها واستقرار الإقليم.
هذه خلاصة تقديرات ومعلومات من مسؤولين غربيين تحدثوا إلى “المجلة” خلال الأيام الماضية.
أميركا: التقسيم
في الأيام الأخيرة لإدارة جو بايدن، فتحت بابا للحوار مع الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتقت المسؤولة في الخارجية باربرا ليف، رئيس الإدارة أحمد الشرع في دمشق، وواصلت اتصالات غير معلنة قام بها دبلوماسيون أميركيون مع وزير الخارجية أسعد الشيباني، كما خففت بعض العقوبات عن قطاعات سورية لمدة ستة أشهر.
منذ مجي إدارة دونالد ترمب، تشير المعلومات إلى وجود اتجاهين:
الأول، يرفض الانخراط مطلقا مع دمشق ويستند في موقفه إلى بُعد أيديولوجي يتعلق بـ”القاعدة”، أو تجارب شخصية تخص حرب العراق وهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 أو بسبب علاقة شخصية مع نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد مثل مديرة المخابرات الوطنية تولسي غابارد. كما يرفض أصحاب هذا الرأي العمل مع الجيش السوري الجديد لمحاربة “داعش” ضمن التحالف الدولي وقيادة عملية “العزم الصلب”.
الثاني، مستعد لـ”انخراط مشروط” وفق مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، عبر إقدام دمشق على سلسلة من خطوات تشمل: تشكيل حكومة جامعة، تشكيل جيش مهني حرفي، إبعاد المقاتلين الأجانب، تدمير برنامج السلاح الكيماوي والتدمير الشامل، محاربة “داعش”، التمسك بإبعاد إيران خارج سوريا، قطع طريق الإمداد إلى “حزب الله”، عدم الموافقة على استمرار وجود القاعدتين العسكريتين الروسيتين.
في المقابل، تعرض واشنطن استعدادها لخطوات تشمل تخفيف العقوبات على قطاعات محددة في شكل تصاعدي وصولا إلى رفع كامل للعقوبات و”قانون قيصر” في نهاية المطاف بعد حوالي أربع سنوات، علما أن قائمة العقوبات الأميركية تشمل “قانون قيصر” و”قانون محاسبة سوريا” و”دعم الإرهاب”، ويعود بعضها إلى عام 1979، إضافة إلى عقوبات فردية ضد مسؤولين في النظام السابق وشخصيات حالية أخرى.
سوريا ليست أولوية على أجندة ترمب. وتجري حاليا مراجعة داخل المؤسسات الأميركية وصولا إلى سياسة موحدة إزاء سوريا. ونُقل عن ترمب قوله في اجتماع خاص إن سوريا ستقسم إلى ثلاث مناطق تابعة لقوى خارجية مثل إسرائيل وتركيا وغيرهما، وإنه لا بد من محاربة “الإرهاب”، مع تلميح إلى إمكانية الانسحاب من شمال شرقي سوريا، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع (البنتاغون) إلى إعداد خطط للانسحاب في ستة أشهر، ودعمها بقوة لقائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي للوصول إلى حل تفاوضي مع الرئيس أحمد الشرع خلال ذلك.
إسرائيل: فيدرالية
يراهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التأثير على ترمب وفريقه، بحيث تكون حسابات تل أبيب ذات أولوية في البيت الأبيض الذي لا يدرج سوريا ضمن أولوياته في الشرق الأوسط. بالفعل، جرت مناقشات بين أجهزة إسرائيلية وأخرى أميركية حول هذا الملف، مع ترجيح رأي تل أبيب في شؤون جارتها.
نتنياهو يعتبر سوريا أولوية له هي والأمن القومي وإبعاد ايران. فالجيش الإسرائيلي قام بمجرد سقوط الأسد بتدمير جميع الأصول العسكرية الاستراتيجية السورية، البرية والجوية والبحرية والبرامج العلمية والصاروخية. كما احتل المنطقة العازلة في الجولان بموجب اتفاق “فك الاشتباك” لعام 1974. وسيطر على قمة جبل الشيخ ومنابع المياه في المنطقة. وشن سلسلة غارات في جنوب سوريا ووسطها لمنع بناء أصول استراتيجية دفاعية سورية.
إضافة إلى ذلك، تتخذ إسرائيل موقفا عدائيا ضد الحكم السوري الجديد، وهي تدفع باتجاه إقامة “فيدرالية” أو “لامركزية واسعة” في سوريا، تشمل إقليما جنوبيا يتضمن السويداء ودرعا، وشرقيا يشمل “قوات سوريا الديمقراطية”، وغربيا يتضمن إقليما علويا، بحيث يبقى الإقليم العربي-السني الأكبر معزولا عن جواره وفضاءات المياه الدافئة.
جرت اتصالات سرية حول هذه الأمور في واشنطن وعواصم إقليمية. ويدفع نتنياهو بقوة لإقناع ترمب وفريقه بهذا التصور، الذي هو موضع قلق عربي وتركي ومواكبة إيرانية غير مباشرة ومتابعة روسية، كما هو محل مواكبة أوروبية مع ترجيح للمقاربة البريطانية.
روسيا: تقليل الخسائر
عندما أدرك الرئيس فلاديمير بوتين قرب نهاية بشار الأسد الذي تمرد مرات عدة على طلباته- وكان آخرها رفضه لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان بناء على مبادرة الكرملين- رتب مع نظيره التركي الانخراط في الأيام الأخيرة من نظام الأسد لتقليل الخسائر الروسية الاستراتيجية وتجنيب دمشق والموالين للنظام الخراب والانتقام.
بالفعل جرى الانتقال بأقل كلفة للمدن والبشر والموالين للنظام، ولم تتعرض القاعدتان الروسيتان، في حميميم وطرطوس، لأي هجمات من النظام السوري الجديد. كما صدرت تصريحات من المسؤولين السوريين الجدد تتحدث عن العلاقة القديمة مع روسيا واحترام مصالحها باعتبارها دولة كبرى.
زار ميخائيل بوغدانوف مبعوث الرئيس الروسي دمشق والتقى الرئيس الشرع الذي تلقى اتصالا معلنا من بوتين وآخر غير معلن. تتناول المحادثات السورية–الروسية نقاطا عدة: التزود بالسلاح الروسي، تسلم بشار الأسد وكبار المسؤولين المتهمين بجرائم حرب، مستقبل القاعدتين الروسيتين، المساهمة في إعمار سوريا، تقديم المساعدات والأموال السورية المطبوعة تعويضا عن مساهمة روسيا في قمع الشعب السوري، الديون الروسية لسوريا.
بوتين أبلغ دمشق رسالة واضحة بأنه لن يسلم الأسد إلى دمشق، لأنه “قال كلمته وقدم له لجوءا إنسانيا”، كما أنه لم يقبل فكرة أن “ينتحر الأسد على الطريقة الروسية”، لكن موسكو أبدت انفتاحا لتقديم السلاح والمساهمة في الإعمار وسحب قواتها “فورا إذا أرادت دمشق”. كما أبدت دمشق انفتاحا لبحث وجود عسكري روسي في سوريا. والمفاوضات جارية وتتناول هذه البنود والمقايضات.
في هذا السياق، حصل تطوران: الأول، أن تل أبيب سعت لدى واشنطن لتأييد استمرار الوجود الروسي لـ”موازنة النفوذ التركي” في سوريا. والثاني، تمرد فلول النظام السوري في الساحل، حيث اتخذت موسكو موقفا يسمح لها باستخدام هذا التمرد ورقة ضغط على دمشق وورقة تسمح لها بترك الخيارات مفتوحة في حال أقيم إقليم علوي.
إيران: التشظي
لم تقبل طهران الواقع الجديد بفقدان سوريا بعد لبنان، فهي خسرت طريق الإمداد إلى “حزب الله”، والحديقة الخلفية للعراق، وأداة الضغط على إسرائيل عبر جبهتي لبنان وسوريا. كل المؤشرات تشير إلى تفضيل إيران خيار “التشظي السوري” والرهان على الوقت، لاستعادة موطئ قدم في سوريا. عليه، بدأت في الفترة الأخيرة بعد اجتماعات سرية عدة تحريك أوراقها لفتح ثلاث جبهات:
الأولى، استعادة علاقات مع مسؤولين في النظام السوري السابق كان بينهم العميد غياث دالا، الذي كان يقود “قوات الغيث” في “الفرقة الرابعة” بقيادة اللواء ماهر، شقيق بشار الأسد، وكان ضابط الارتباط مع “الحرس” الإيراني و”حزب الله”. ماهر الأسد نفسه هرب مع قادة ميليشيات تابعة لإيران في 8 ديسمبر/كانون الأول إلى العراق، وقيل إنه انتقل إلى السليمانية في كردستان العراق. ومن غير المؤكد مكان وجوده الحالي. كانت أيادي إيران واضحة في تمرد الساحل الأخير، بالدعاية والتدريب والمعلومات.
الثانية، الضغط على “الحشد الشعبي” العراقي للتحرك نحو الحدود السورية. وإيران تريد تعزيز وجودها في العراق بعد خسارات “الهلال” في بلاد الشام، وتريد استخدامه في الملعب السوري. أيضا، يجري تداول سيناريو عودة “داعش” للنشاط في الأنبار وغربي العراق والتوغل نحو البادية السورية.
الثالثة، الضغط على “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتحريك عشائر عربية شرق الفرات، للتنسيق والعمل العسكري ضد الإدارة السورية الجديدة. قائد “قسد” نفى ذلك في حديثه إلى “المجلة”. وقال: “لن يكون هناك مستقبل لعلاقات مع إيران. ونحن حاليا نركز على أن نكون جزءا من الإدارة الجديدة وجزءا من المحادثات السياسية لا أن نكون معارضة كما يتهمنا البعض”. كما وقع اتفاق مبادئ مع الرئيس الشرع في دمشق يوم 10 مارس/آذار بعد جهود أميركية وفرنسية مكثفة.
تركيا: مع الوحدة ضد كيان كردي
لم يكن أردوغان مرتاحا كثيرا لاتفاق الشرع-عبدي. الاتفاق كان موجودا على طاولتيهما منذ لقائهما في 29 ديسمبر، لكن تمرد الساحل والانتهاكات فيه من جهة، وحديث الأميركيين السري عن احتمال الانسحاب بعد ستة أشهر من جهة ثانية، وتفاهم زعيم “حزب العمال الكردستاني” عبدالله أوجلان مع أنقرة من جهة ثالثة، دفعت الشرع وعبدي لتلبية جهود أميركية-فرنسية، وتوقيع اتفاق يحتاج تنفيذه إلى الكثير من التفاوض وخريطة طريق، هي في قبضة مساعديهما. مظلوم حق نجاحا بأنه “فتح باباً رئاسياً لمناقشة حقوق الأكراد لأول مرة في التاريخ”. والشرع، فتح باباً سورياً لحياكة الخريطة السورية بعد أكثر من عقد من التآكل.
تركيا تدفع إلى تنفيذ مبادئ الشرع-عبدي، وهي: منع وجود “الإدارة الذاتية” وأي كيان كردي، وانضواء شمال شرقي سوريا ضمن سوريا الموحدة، وتفكيك البنية العسكرية الثقيلة لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، وطرد قادة “حزب العمال الكردستاني” الموجودين في قيادة “الوحدات”.
وتسعى تركيا للإفادة من علاقتها مع “هيئة تحرير الشام” والشرع للدفع باتجاه تعزيز نفوذها في سوريا والإقليم في النواحي التجارية والعسكرية والسياسية والجيوسياسية. فسوريا تاريخيا بوابة تركيا إلى العالم العربي. لكن هذا النفوذ هو مصدر قلق لدول أخرى بينها دول عربية فاعلة.
الدول العربية: استقرار سوريا ووحدتها
منذ سقوط الأسد، بادرت دول عربية كبرى لدعم النظام الجديد وفتح صفحة جديدة معه، لأسباب عدة، بينها: البناء على الخسارة الاستراتيجية الأكبر لإيران منذ 1979. تخفيف اعتماد النظام السوري الجديد على تركيا. الحوار والانخراط والدعم لسوريا الجديدة وإعطائها الفرصة، لأن البديل سيئ جدا، والفوضى في سوريا مضرة والتقسيم خطير على الدول المجاورة والأمن الإقليمي العربي.
اكتشفت دول عربية حدود التحرك والدعم. لا يزال سيف العقوبات مسلطا. أميركا وافقت على تسهيل إمداد سوريا بالغاز لصالح توفير الكهرباء وسمحت بصفقة تتضمن مقايضة إعفاءات مقابل الوصول إلى السلاح الكيماوي السوري، لكنها لا تزال ترفض السماح بتحويلات مالية كبرى والانفتاح على النظام المصرفي السوري. هناك إصرار على ترك هامش الوقت لدمشق وتقديم النصيحة وليس الضغط والتحاور مع واشنطن ودول أوروبية لاعتماد أفضل الخيارات الواقعية حاليا في سوريا.
الأجندة السورية وجرس الإنذار
ما حصل في الساحل السوري بين 6 و10 مارس/آذار، سواء التمرد أو الانتهاكات الكبيرة، كان بمثابة جرس إنذار. فقد أظهر أهمية المفاجأة التي حصلت في 8 ديسمبر، إذ سقط نظام الأسد بعد 54 سنة من دون كلف دموية كبيرة بفضل التزام العناصر في “هيئة تحرير الشام” والفصائل الأخرى بتعليمات القيادة العليا.
لكنه أظهر في الوقت نفسه، أسئلة حول سلسلة القيادة من فوق إلى أدنى، ومدى التزام المقاتلين أو الفصائل بالتعليمات، وطرح أسئلة في عواصم أوروبية عن “حماية الأقليات”، ودفع باريس إلى تأجيل توجيه دعوة لزيارات رفيعة لمسؤولين سوريين وعواصم أخرى لتجميد إعادة فتح سفاراتها لأسباب أمنية. إضافة إلى ذلك، كان بمثابة ناقوس خطر لما يمكن أن يحصل في حال عمت الفوضى. فتشظي سوريا يعني تطاير الشظايا والجهاديين في الإقليم وما وراءه.
برزت مشكلة تسريح عناصر الجيش والأمن والشرطة وموظفي القطاع العام، وتوفير الخدمات والكهرباء. فأصبح الملف الاقتصادي الاجتماعي أولوية للحكم الجديد. فالعقوبات لم ترفع والمساعدات الدولية تراجعت والتوقعات الشعبية زادت. قد يكون أحد الحلول طبع أموال جديدة، وتنفيذ هذا في موسكو. قد يكون الرمق في مساعدات عاجلة، لكنها قليلة طالما أنها عينية مرتبطة بالنظام المصرفي الغربي. ولا تزال الجالية السورية وحلفاء دمشق العرب والإقليميون، يعملون لدى واشنطن لرفع العقوبات وتخفيف معاناة الناس، لأنه دون ذلك، فإن تأثير رفع العقوبات الأوروبية والبريطانية والكندية سيكون محدودا جدا.
وأظهر المؤتمر الدولي التاسع لدعم سوريا في بروكسل يوم 17 مارس/آذار، الدعم الأوروبي المستمر للسوريين، حيث أعلن عن تعهدات مالية بقيمة ستة مليارات دولار أميركي. فمنذ عام 2011، حشد الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء أكثر من 37 مليار يورو من المساعدات داخل البلاد وفي المنطقة.
لكن الأهم أن المؤتمر أظهر، أن دعم الحكم السوري الجديد سيكون أقل كلفة من أي خيار آخر، بما في ذلك خيار عزله. وواصلت فرنسا جهودها لحشد المجتمع الدولي، تماشيا مع مؤتمر باريس في 13 فبراير/شباط، لإيجاد حلول دائمة وتوفير الاحتياجات الأساسية. كما جددت رسالتها إلى السلطات السورية بضرورة محاكمة ومعاقبة المسؤولين عن العنف ضد الضحايا المدنيين في الأسابيع الأخيرة.
مقابل الأجندات الخارجية، هناك أجندة سوريا وخيوط سورية. وباعتبار ما حدث في الساحل كان جرس إنذار واختبارا كبيرا، فإن الشرع رد عليه بسلسلة خطوات برغماتية انفتاحية تمثلت في تشكيل لجنة تحقيق ولجنة للسلم الأهلي وإعلان دستوري. هناك انقسام حول هذه الخطوات. البعض قابله بالترحيب، فيما شكك آخرون فيها وطرحوا أسئلة عن ضرورة أن تكون الخطوات جامعة وأن تكون الخطوط مفتوحة في الاتجاهين بين المركز والأطراف.
أجندة دمشق هي رفض التقسيم ورفض الفيدرالية والعمل على بناء جيش وطني وحكومة ومؤسسات دولة وتعميم السلم الأهلي. واتفاق الشرع–عبدي، كان يعني في أحد جوانبه، إعطاء أولوية للأجندة الوطنية. هناك خطوات منتظرة ومتبادلة بين المركز وجهات الجنوب والشمال والغرب، لقطع الطريق على الأجندات الخارجية المتنافسة. وهناك أجندات خارجية متنافسة على مستقبل سوريا. عمليا، يحتدم الصراع بين أجندات الخارج وأجندة الداخل، ولكل أدواته وتحالفاته وإمكاناته ومواقيته.
المجلة
——————————-
تصعيد إسرائيلي متعدد الجبهات في سوريا.. فرض أمر واقع أم مواجهة مفتوحة؟
2025.03.20
تواصل إسرائيل عدوانها العسكري جنوبي سوريا، براً وجواً، LستهدTM القدرات العسكرية للدولة السورية، إثر الإطاحة بنظام بشار الأسد، حامي حدودها البرية الشمالية لعقود من الزمن. ومنذ الساعات الأولى لسقوط النظام، وفي الوقت الذي كان به السوريون يحتفلون برحيل الأسد، فتح الاحتلال الإسرائيلي الباب لسلسلة من الغارات الجوية التي تضرب منذ ذلك الوقت مواقع وقدرات ومعدات عسكرية سورية، وأحدث هذه الضربات جاء في 17 من آذار، حين نفذت غارتين جويتين على حي مساكن الضاحية القريب من “اللواء 132” في مدينة درعا، ما أوقع ثلاثة قتلى و19 مصاباً.
وقبل أيام من هذه العملية، هاجمت إسرائيل بمشاركة 22 طائرة وباستخدام 60 نوعاً من الذخيرة، رادارات ووسائل رصد مستخدمة لبلورة صورة استخباراتية جوية، ومقار قيادة ومواقع عسكرية تضم وسائل قتالية وآليات عسكرية للنظام السوري المخلوع، جنوبي سوريا، وفق ما ذكره المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي.
تحركات إسرائيل في سوريا لم تقتصر على الجو، فمنذ رحيل الأسد، تقدّم إسرائيل خطاباً سياساً معادياً للإدارة السورية الجديدة، إذ وصف وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في 9 آذار، الرئيس السوري، أحمد الشرع، بأنه “إرهابي جهادي من مدرسة القاعدة يرتكب فظائع بحق السكان المدنيين العلويين”.
الوزير نفسه، قال في 27 شباط، إن إسرائيل لا تثق بالإدارة السورية الجديدة، وإن الشرع “استبدل سرواله بالبدلة، وهو يتحدث بشكل جيد”، لكن إسرائيل تثق بجيشها فقط.
وجاء هذا التصريح بعد يومين من هجوم وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، للحكومة السورية، ووصفه لها بأنها “جماعة جهادية من إدلب استولت على دمشق بالقوة”، وأضاف، “الإسلاميون يتحدثون بشكل لطيف، لكن الحكومة السورية الجديدة تنتقم من العلويين وتلحق الأذى بالأكراد، لن نتنازل عن أمننا على الحدود”.
وتتعارض هذه التصريحات الإسرائيلية مع نصائح أميركية وجهها مسؤولون كبار في إدارة ترمب لإسرائيل، للامتناع عن إطلاق تصريحات ضد الإدارة السورية الجديدة، في سبيل عدم زيادة التوترات والضغوط الداخلية الإسرائيلية في الوقت الذي يبدي به الرئيس السوري عدم اهتمام ببدء صراع مع إسرائيل.
في الوقت نفسه، تتوغل القوات الإسرائيلية براً في جنوبي سوريا، وتحديداً في القنيطرة التي وصل الإسرائيليون إلى مركز محافظتها، وفي درعا التي تفتش قوات الاحتلال منازل السكان المدنيين في أريافها.
وقبل أيام كشفت صحيفة “معاريف” العبرية، عن خطة جديدة للاحتلال الإسرائيلي في سوريا لتغيير الواقع في كل الشرق الأوسط، وتتضمن توسيع المنطقة العازلة على الحدود بعمق 80 كيلومتراً داخل سوريا، وليس بعيداً عن العاصمة السورية دمشق، مع عدم السماح بإدخال أسلحة إلى المناطق القريبة من الحدود.
وزير الدفاع الإسرائيلي من جانبه، وجّه تهديداً حاد اللهجة للرئيس السوري، وقال، “عندما يفتح الجولاني (في إشارة للرئيس السوري) عينيه في القصر الرئاسي في دمشق كل صباح، سيرى بأن الجيش الإسرائيلي يراقبه من قمة جبل الشيخ”.
النوايا الإسرائيلية تجاه سوريا ليست مضمرة، إذ تعلنها إسرائيل صراحة أن قواتها ستبقى إلى أجل غير مسمى، في المواقع التي بلغتها ضمن المنطقة العازلة وجبل الشيخ، متجاوزة كل الدعوات العربية والإقليمية والدولية للعودة إلى اتفاق فض الاشتباك المبرم بين سوريا وإسرائيل عام 1974، كما أن إسرائيل مصرة على إبقاء جنوبي سوريا منزوع السلاح، وخالياً من التهديدات، وفق روايتها.
إسرائيل متحفزة بعد رحيل الأسد
وتشهر إسرائيل أيضاً “كرت الأقليات” كوسيلة لخلط الأوراق وتعقيد المشهد في سوريا، من خلال إطلاق تصريحات تقول فيها إنها معنية بحماية الأقليات، فإلى جانب انتقادها للعمليات العسكرية السورية ضد فلول النظام في الساحل، بدعوى أنها استهدفت مدنيين علويين، تتذرع بحماية الموحدين الدروز والدفاع عنهم، وتفتح الباب لاستقطاب عمال دروز للعمل في الجولان السوري المحتل، وذلك بعد زيارة وفد من رجال الدين الموحدين الدروز من قرى جبل الشيخ إلى الأراضي المحتلة.
وترافقت الزيارة مع تصريحات للرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا، حكمت الهجري، قال فيها إن الحكومة السورية “متطرفة بكل معنى الكلمة، ومطلوبة للعدالة الدولية، وأي تساهل مع هذا الأمر لا نقبل به كسوريين”.
الناشط السياسي المقيم في الجولان السوري المحتل، رفعت عماش، أوضح لتلفزيون سوريا، أن الموقف الشعبي في الجنوب السوري من هذه التوجهات الإسرائيلية ينسجم مع موقف السوريين ككل، والروح الوطنية قادرة على الوقوف في وجه التدخلات الإسرائيلية ومحاولات الاستيلاء على الجنوب.
عماش اعتبر أن الأصوات التي ترحب بالتدخل الإسرائيلي لا تعدو كونها شوائب متأثرة بمخاوف منها ما هو وهمي وما هو واقعي، في الوقت الذي تحاول إسرائيل تصوير نفسها كمخلّص للسوريين في السويداء، وهذه الفئات تعطي صورة وكأن الموحدين الدروز مؤيدين للتدخل الإسرائيلي.
الناشط السياسي أشار إلى أن حالة الضعف في سوريا وغياب القوة حالياً على مواجهة إسرائيل سيجعل الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي السورية مسألة ليست قريبة، مع الإشارة إلى الطموحات الإسرائيلية التوسعية في سوريا.
وبحسب عماش، فالكيان الإسرائيلي متحفز لبسط نفوذه في الأراضي المحاذية للجولان بعد سقوط “الكلب الحارس للحدود” (في إشارة إلى بشار الأسد)، ولهذا تركز إسرائيل على رفض الوجود العسكري السوري في الجنوب، وفق رأيه.
وإلى جانب أسطوانة الأمن والتخلص من التهديدات وحماية الأقليات، يبدو القلق الإسرائيلي واضحاً من دعم تركيا للحكومة السورية الجديدة، في الوقت الذي تعتبر به أنقرة أن إسرائيل تعمل على خلق بيئة غير مستقرة في سوريا تحت ذريعة أمنها القومي، لكن الغاية فرض هيمنة إقليمية.
وفي 6 آذار، انتقد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة في سوريا، والتحركات العسكرية معتبراً أنها تشكل استفزازاً واضحاً، وأن استراتيجية إسرائيل إبقاء جيرانها ضعفاء مستمرة لكنها غير مقبولة.
الاحتماء بروسيا من تركيا
تضغط إسرائيل على الولايات المتحدة للإبقاء على سوريا ضعيفة ولا مركزية، مع إمكانية احتفاظ روسيا بقواعدها العسكرية على الساحل السوري، لمواجهة نفوذ تركيا المتصاعد في سوريا، بحسب ما ذكرته وكالة “رويترز” نقلاً عن مصادر مطلعة.
الباحث الإسرائيلي قي قسم الشرق الأوسط بجامعة “تل أبيب” هاي إيتان كوهين يانروجاك، قال لصحيفة “معاريف” الإسرائيلية في 5 آذار، “على المستوى الرسمي، أصحبت إسرائيل وتركيا جارتين، ولهذا السبب تدرك إسرائيل ضرورة التدخل في حرب الوعي التركية”.
وبحسب رأيه، فإن تركيا معنية بقضيتين محوريتين في علاقتها مع إسرائيل، الأولى، النشاط الإسرائيلي حيال الدروز في جنوبي سوريا، بالإضافة إلى المنطقة العازلة الإسرائيلية بين الجولان ودمشق، باعتبارها منطقة حكم ذاتي مستقبلية للدروز، أما القضية الثانية فهي الجانب الشرقي من البحر المتوسط، مع التركيز على علاقات إسرائيل مع قبرص، وحركة الغاز وأنظمة الشحن.
وهنا على وجه التحديد يأتي التعاون بين إسرائيل وروسيا، إذ تحاول إسرائيل حالياً منع الروس من مغادرة سوريا، وبالتالي الحد من التغلغل التركي في سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط.
الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، قال لتلفزيون سوريا، إن تركيا تتعامل مع التحركات الإسرائيلية في سوريا على أنها تهديد لفرص نجاح عملية التحول، وتهديد لاستقرار سوريا، ولمصالح تركيا التي تنشد استقراراً في سوريا موحدة.
كما أن الرئيس التركي بعد اندلاع حرب غزة تحدث بوضوح عن أن السياسة التوسعية الإسرائيلية تشكل تهديداً لتركيا، وترى أنقرة الاندفاعة الإسرائيلية في سوريا على أنها جزء من سياسة توسع إسرائيلي إقليمي لا تشكل فقط تهديد لسوريا أو تركيا، بل للأمن والاستقرار الإقليمي.
وتتجلى أهداف إسرائيل في سوريا بتقويض قدرة الدولة السورية الجديدة على النهوض، ومحاولة فرض منطقة خالية من السلاح جنوبي سوريا، فتحاول فرض واقع أمني جديد مع سوريا باحتلال المنطقة العازلة في الجولان وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، بالإضافة إلى التوغلات التي تحولت إلى روتين يومي للجيش الإسرائيلي في الداخل السوري.
كما تعمل على تدمير ما تبقى من أصول عسكرية للدولة السورية، مع إحداث شرخ كبير بين المكون الدرزي والدولة السورية الجديدة، لتفكيك النسيج الاجتماعي وتهديد وحدة الأراضي السورية.
إسرائيل تحاول أيضاً شيطنة الإدارة السورية الجديدة أمام المجتمع الدولي، لإضفاء مشروعية على تحركاتها العدوانية في سوريا، وتضغط على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في سبيل عدم الانفتاح على دمشق.
وبرأي الباحث، فلا يمكن توقع كيف سينتهي الوضع في ظل هذه الاندفاعة الإسرائيلية لكن من الواضح أن الرئيس السوري أحمد الشرع يولي أهمية لتجنب حالة يمكن أن تؤدي إلى تصعيد خطير في الصراع بين إسرائيل وسوريا، فأولويات دمشق هي استقرار المرحلة الانتقالية وتعزيز ركائز السلطة والتفرغ لبناء الدولة، وليس خلق صراعات جديدة.
تلفزيون سوريا
——————————–
سوريا وتجاوز ثنائيّة الأكثريّة والأقليّة!/ حسن المصطفى
سوريا اليوم في حاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وألّا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع.
17-03-2025
لا يزالُ مفهوم “المواطنة” ملتبساً في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، كون هذه المجتمعات لا تزال في حالة هجينة، لم تنتقل فيها تماماً إلى الدولة الوطنية الحديثة الناجزة، رغم أن عدداً منها مرت عليه عقود طويلة على الاستقلال، وجزء رئيس من هذا الخلل يعود إلى المنظومة المعرفية الهشة التي شُيدت عليها الأنظمة أو السياسات.
ثمة مفاهيم فلسفية أساسية تدخل في حقل “الفلسفة السياسية”، وهي بمثابة القاعدة الصلبة التي تشيد عليها مؤسسات الدولة، وتوزع وتفصل من خلالها السلطات، وتنتظم العلاقة بين الحكومة والمواطنين، وأيضاً تُشكل الإطار المفاهيمي للدستور.
“المواطنة الشاملة” هي واحدة من أهم تلك المفاهيم، وهي إذ تحضرُ اليوم في الفضاء العربي – الإسلامي، فهي لا تُطل بوصفها قيمة ترفية، بل ركن ركين من دونه لا يمكن لمدماك الدولة الوطنية أن يستقر.
من تابع الأحداث الدموية والمواجهات العسكرية وعمليات التمرد والقتل والانتقام التي جرت في الساحل السوري، أخيراً، وراح ضحيتها أبرياء ومدنيون كثر – من دون الدخول في الجدل السياسي والغرق في وحول الإشاعات والمعلومات المضللة التي تنتشر في شبكات التواصل الاجتماعي – سيجد أن ما جرى يشير إلى قصور في فهم معنى “المواطنة” وإدراك كنهِها لدى شريحة واسعة من السياسيين والجمهور العام!
“المواطنة الشاملة” تعني في أبسط صورها أن الأفراد والجماعات في أي دولة، هم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وأنه لا يجوز التمييز بينهم لأسباب عرقية أو دينية أو مناطقية، وهم بذلك لهم الحق في الحصول على فرصٍ متساوية، سواء في التعليم أم في العمل أم في الطبابة وسواها، وأيضاً يستطيعون التعبير عن ذواتهم الخاصة أو الجمعية، بشكل حرٍ ومن دون إكراهات.
هذا يقودنا بالتالي إلى أمرٍ يتجاوز المفهوم السائد لـ”الحقوق”، والقائم على تصورٍ منقوصٍ لـ”الديموقراطية” التي يتصور البعض أنها تعني حكم الأكثرية، وبالتالي يحق لهذه الأكثرية أن تضع ما تشاء من قوانين طالما كان ذلك وفق الإجراءات المنصوص عليها، وبقوة تصويت الأغلبية وتأييدها!
هذه النزعة فيها شيء من الاستعلاء وأيضاً يشوب ممارستها خللٌ كبير، لأنها سوف تنتهك مفهوم “المواطنة الشاملة” الذي يتجاوز التقسيمات القديمة: أكثرية وأقلية.
هذا التقسيم، يخلق تقابلاً يدفع نحو الصراع، وهو يتجاوز المنافسة السياسية إلى المناكفة وفرض ثقافة أعلى على أخرى أدنى!
وعليه، من الممكن أن يقود تقابلُ “الأكثرية” و”الأقلية” إلى تعميق القلق الاجتماعي وزرع بذور الريبة والشك المتبادل.
إن المجتمعات الحديثة في أوروبا على سبيل المثال، بنيت على مفهوم “المواطنة الشاملة”، وبالتالي تم تجاوز الثنائيات المتصارعة، لأن الجميع مواطنون، لهم هوياتهم الفرعية الخاصة، ولهم الحق في إبراز ثقافاتهم ومعتقداتهم، إنما ليس هنالك حق لأكثرية أن تضطهد أكثرية، ولا يمكن للأقلية أيضاً أن تتمرد على الأغلبية، لأن “المواطنة” تجعل المكونات المتجاورة محكومة بـ”القانون العادل” وتحت سقف الدولة المدنية.
سوريا اليوم بحاجة لأن تتجاوز فكرة ثنائية: العربي والكردي، المسلم والمسيحي، السني والشيعي، وأن لا تنظر إلى الدروز والعلويين كأقليات، بل على الدولة الوطنية أن تكون حاضنة للجميع، قادرة على تقديم خطاب وطني ترى فيه كل هذه المكونات ذاتها من دون انتقاص أو تضخم، ويفتح الطريق أمام بناء الدولة الحديثة وتنميتها.
هنالك واقعٌ صعب ومعقد في مجتمع عانى من حكم استبدادي طوال عقود خلت، وهو لا يزال لم يتداو من جراح الأحداث الدامية ما بعد عام 2011 وما جرته من مجازر وحروب أهلية؛ إلا أن هذا الإرث الثقيل من الوجع والعذابات يجب أن يكون حافزاً لبناء “مواطنة حقيقية” لا صورية، وأن يدرك الجميع أن الدم والثأر والكراهية والانتقام، كل هذه هي وصفات جاهزة للخراب الذي سيكون الجميع فيه خاسرون.
هذا الوعي المفاهيمي لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها، بل لا بد من أن تبادر الدولة السورية والمجتمع المدني والقيادات الروحية والسياسية والمثقفين إلى بثِ روح وطنية واعية، تتسامى على الجراح، وتتجاوز الثنائيات المتجادلة والمتصادمة، وتذهب إلى مشاركة حقيقية في بناء الدولة وفق مشاريع عملية طموحة؛ و”المواطنة الشاملة” هي مفتاح رئيس لهذا التحول الذي ينشده السوريون وتتمناه لهم الدول والشعوب الصديقة.
النهار العربي
——————————-
هل تندلع الحرب بين أنقرة وتل أبيب على الساحة السورية؟!/ صالحة علام
20/3/2025
في تصعيد جديد ضد حكومة نتنياهو، صرّح الرئيس أردوغان بأن: “هناك قوى -لم يسمها- تحاول زعزعة الأمن والاستقرار داخل سوريا انطلاقا من إثارة النعرات الدينية والعرقية”، مؤكدا أن بلاده “لن تسمح بتقسيم المنطقة أو إعادة رسم حدوها بأطماع توسعية كما فعلوا قبل قرن من الزمان”، وأنهم سيجدون تركيا في مواجهتهم هذه المرة.
تصريحات أردوغان الجديدة جاءت ردا على الغارات الإسرائيلية التي استهدفت محيط مدينة درعا، ومنطقة خان أرنبة في الجنوب السوري بالتزامن مع عودة العمليات العسكرية لجيش الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة.
الموقف التركي من التحركات الإسرائيلية في المنطقة، التي تتم بدعم مطلق من الإدارة الأمريكية يبرز بقوة حجم المخاوف التركية من الأطماع التوسعية لدولة الاحتلال الصهيوني، والرغبة الجامحة لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تحقيق حلم نبوءة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
إذ سبق وأن حذر أردوغان من رغبة حكومة نتنياهو التي تقودها عقلية دينية متعصبة في التوسع جغرافيا على حساب الخريطة التاريخية لبلاده، والاستيلاء على مناطق الأناضول، تحقيقا لوهم الأرض الموعودة، والعمل على إقامة كيانات تابعة لها في كل من شمال العراق وسوريا عبر استغلال علاقاتها بالتنظيمات الانفصالية، في إشارة لعدد من الأقليات السورية الطامحة في الحكم الذاتي، ولقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي لديها علاقات ممتدة بتل أبيب.
وكانت العديد من التقارير المتداولة إعلاميا قد أفادت أن توقيع قادة قوات سوريا الديمقراطية على اتفاق الاندماج داخل الإدارة الجديدة مع دمشق لم يقف حائلا دون استمرارهم في السعي لتأمين دعم إسرائيلي لهم في هذه المرحلة الحساسة بالنسبة لهم، التي يحتاجون فيها -وفق رؤيتهم للتطورات بالمنطقة- لتوفير حلفاء وضامنين جدد لديهم القدرة على حمايتهم والوقوف إلى جوارهم.
وهو ما وافق هوى إسرائيل التي لا تنظر بارتياح لهذا الاتفاق، وترى أن تراجع الأكراد للخلف سيفسح المجال أمام عودة (داعش)، مما يضعها في موقف دفاعي صعب، إلى جانب شكوكها القوية وعدم ثقتها في الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، الذي تمتد جذور انتماءاته إلى تنظيم القاعدة والجماعات الإسلامية الجهادية، مما قد يعرض أمنها للخطر، ويهدد وجودها.
ترى إسرائيل أيضا أن الجيش السوري الجديد الذي أُعيد بناء عناصره وتدريبهم بإشراف كامل من قيادات القوات المسلحة التركية، وتم تزويده بترسانة من الأسلحة المحلية المنتجة داخل هيئة الصناعات الدفاعية التركية أصبح يمثل خطرا من نوع آخر عليها، في ظل اتساع حجم النفوذ التركي داخل سوريا.
الذي يأتي متزامنا مع زيادة حدة التوترات وتفاقم خلافاتها مع أنقرة، على خلفية حربها ضد كل من قطاع غزة ولبنان، واختلاف أجندة كل منهما فيما يخص مستقبل الدولة السورية، إذ تعتقد إسرائيل أن تقسيم سوريا، وخلق كيانات متعددة بها من شأنه أن يضمن لها أمنها، ويمنحها الفرصة كاملة لتحقيق رغبتها في توسيع مساحتها.
ومن هذا المنطلق تدعم مطالب الحكم الذاتي لكل من الأكراد، والدروز، والعلويين، وتبذل جهودا مضاعفة حاليا من أجل دعم الطائفة الدرزية، حيث تم مؤخرا إرسال 10 آلاف طرد من المساعدات الإنسانية لأفرادها، وصرح جدعون ساعر وزير خارجية الكيان الإسرائيلي أن علاقاتهم بالدروز تاريخية، وأن عليهم الوقوف إلى جانبهم، لأنه “في منطقة نكون فيها أقلية، فمن الصواب دعم الأقليات الأخرى”.
أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس فصرّح أن حكومته قررت السماح للدروز من الجانب الآخر من الخط الفاصل بدخول هضبة الجولان والعمل بها، معربا عن استعدادهم للدفاع عنهم والوقوف إلى جوارهم دائما، بينما أعلن مسؤولون إسرائيليون أنهم لن يقبلوا وجود أي عسكري سوري في المناطق الجنوبية للعاصمة دمشق، وأنهم على أتم استعداد لغزو ضواحيها دفاعا عن الأقلية الدرزية المنقسمة بين إسرائيل وسوريا.
إلى جانب التصدي لمحاولات تركيا وأردوغان الرامية إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، واستعادة سيطرة بلاده على خريطة المنطقة كما كان عليه الحال في عهد الدولة العثمانية، وفي تقديم نفسها الوجود كقوة إقليمية فاعلة ذات نفوذ، لديها القدرة على التحكم في مستقبل المنطقة وفرض سيطرتها على مقدرات شعوبها، وهو ما يطلق عليه نتنياهو اسم “الشرق الأوسط الجديد”.
التحركات الإسرائيلية الداعمة للمطالب الانفصالية للأقليات السورية، والعمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد الأراضي السورية تنظر إليها أنقرة بريبة وشك، وتضعها في موقف الاستعداد لمواجهة تطورات الأمر بالسبل الممكنة كافة، حتى وإن تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية المباشرة.
لما تمثله هذه التحركات من تهديد مباشر لأمنها القومي، ومحاولة من جانب الكيان المحتل لتقويض مكانتها الإقليمية، وزعزعة استقرارها، والنيل من وحدة أراضيها عبر تشجيع الدعوات الانفصالية، ومساندة ودعم العناصر المسلحة التي تنتمي للتنظيمات الإرهابية لتخريب السلم الاجتماعي بالمنطقة.
وخلافا للرؤية الإسرائيلية التي تشجع على تقسيم سوريا وتعمل عليها، ترى تركيا أن وحدة الأراضي السورية، وإقامة دولة مركزية قوية ومستقرة بها من شأنه ضمان إخراج التنظيمات الانفصالية المسلحة، وإبعادهم تماما عن مناطق تمركزهم، والتخلص من تهديداتهم، بما يفسح المجال أمام الحفاظ على استقرار المنطقة، وإشاعة السلام بين شعوبها وتحقيق أمن دولها القومي.
ولتحقيق هذه الأهداف مجتمعة سعت أنقرة إلى زيادة حجم تعاونها العسكري مع دمشق عبر الاستعداد للتوقيع على اتفاقية دفاع مشترك بين البلدين، كما تم تعيين ملحق عسكري في السفارة التركية بدمشق، بينما قام مؤخرا وفد يضم كلًا من وزيري الخارجية والدفاع، ورئيس الاستخبارات بلقاء المسؤولين السوريين في دمشق، حيث تم تأكيد تمسك أنقرة بتسليم العناصر المسلحة لأسلحتها، وإخراج المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية، إلى جانب التباحث حول العديد من القضايا الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، التي من بينها بحث إقامة قاعدتين عسكريتين لتركيا في كل من دمشق وحمص، واستمرار عمليات تدريب الجيش السوري وتسليحه.
وهي التحركات العسكرية التي تراها إسرائيل تمثل تهديدا لها سواء على صعيد الجيش السوري الذي قد يصبح وكيلا لتركيا في حرب مباشرة ضدها، أو على صعيد تركيا نفسها التي يتزايد وجودها العسكري على الأراضي السورية، ودعمها المطلق لحكومة الشرع المؤقتة، وتزايد تهديداتها والتصعيد المستمر في خطابها العدائي ضد إسرائيل سواء من الرئيس أردوغان أو كل من وزيري خارجيته ودفاعه.
ما يبدو أنه شجع الشرع على التخلي عن أسلوبه الذي اتسم باللين تجاه إسرائيل منذ وصوله إلى دمشق، ليستخدم أسلوبا أشد حدة في الخطاب الذي ألقاه مؤخرا في الاجتماع الطارئ للجامعة العربية بالقاهرة، حينما قال: “إن توسع العدوان الإسرائيلي ليس انتهاكا للسيادة السورية فحسب، بل هو تهديد مباشر للأمن والسلام في المنطقة بأسرها”.
تعزيز تركيا لقدراتها العسكرية وتطوير دفاعاتها الهجومية وصواريخها الباليستية، وتعاونها المطلق مع سوريا في المجال العسكري تحديدا، وتصعيد تصريحات مسؤوليها ضد تل أبيب ينبئ بأن هناك استعدادات تجري انتظارا لما ستسفر عنه المرحلة المقبلة التي قد تشهد اشتباكا مسلحا بينها وبين إسرائيل، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق غير مباشر.
المصدر : الجزبرة مباشر
كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا
حاصلة على الماجستير في الاقتصاد.عملت مراسلة للعديد من الصحف والإذاعات والفضائيات العربية من تركيا
———————————
سورية… فيدرالية الأمر الواقع!/ أحمد مولود الطيار
20 مارس 2025
يرى كثيرٌ من السوريين أنّ أحمد الشرع، المعروف سابقًا بـ”الجولاني”، هو “رجل المرحلة” والضمانة الوحيدة لعدم انزلاق سورية نحو المجهول، حتى إنّ بعضهم بات يردّد مقولةً مستعارة من النظام السابق مفادُها أنّه لا يوجد بديلٌ قادرٌ على إنقاذ البلاد.
غير أنّ هذا الطرح يواجه انتقاداتٍ جوهرية؛ إذ إنّ استمرار الشرع في السلطة قد يؤدّي إلى تفتيت سورية إلى دويلاتٍ وكياناتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ متجاورة، ممّا يجعلها عُرضةً لصراعاتٍ أهليةٍ متكرّرة قد تهدأ لفترةٍ ثم تشتعل مجدّدًا طالما بقي في موقع الحكم. يُضاف إلى ذلك أنّ الشرع نفسه، والجماعة التي كان يقودها (هيئة تحرير الشام)، يقفان حجر عثرةٍ أمام رفع العقوبات الأميركية المنصوص عليها في “قانون قيصر”.
منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر/ كانون الأوّل 2024، وتولّي أحمد الشرع رئاسة سورية، تمرّ البلاد بتحوّلات عميقة تعيد رسم خريطة النفوذ والسيطرة. ويبدو أنّ البلاد أصبحت مقسّمة فعليًّا بين قوى مختلفة، لكلٍّ منها تحالفاتها وحساباتها الخاصة، ممّا يثير تساؤلاتٍ حول ما إذا كان الشرع قد وافق ضمنيًّا على تقسيم سورية أم أنّه وجد نفسه مضطرًّا للتعامل مع واقع جديد مفروض عليه. ففي الجنوب، تبدو السويداء وكأنّها منطقة مستقلة بحكم الأمر الواقع، حيث لا يملك “الجيش العربي السوري” القدرة على دخولها أو فرض سيطرته عليها. يعود ذلك إلى عدّة عوامل، أبرزها التهديدات الإسرائيلية المباشرة، إذ أكّدت حكومة نتنياهو مرارًا أنّها لن تسمح بوجود أيّ قوةٍ عسكريةٍ تهدّد الدروز هناك. كما أنّ بعض القيادات الدرزية ومشايخ العقل لا يخفون وجود قنوات تواصل مع إسرائيل التي باتت تُعتبر بالنسبة لهم ضمانة لحماية مصالحهم وسط اضطرابات المشهد السوري. هذا التفاهم غير المعلن جعل السويداء عمليًّا خارج سيطرة دمشق، أشبه بمنطقةٍ ذات حكمٍ ذاتيٍّ غير رسمي.
في الشرق، وحيث تمتدّ منطقة الجزيرة السورية التي تشكّل 41% من مساحة سورية، فالوضع لا يقلّ تعقيدًا. فهذه المنطقة الغنيّة بالنفط والموارد الطبيعية بقيت خاضعةً لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، رغم تغيّر القيادة في دمشق. وتشير المعطيات إلى أنّ الاتفاق بين الشرع و”قسد” أرسى نوعًا من التفاهم الهش، بحيث تحافظ الإدارة الذاتية الكردية على استقلاليتها مقابل تفاهماتٍ شكليةٍ تتعلّق بالسيادة مع الحكومة الجديدة. ولم تعد العلاقة بين واشنطن و”قسد” مجرّد تحالفٍ تكتيكي، حيث تستخدم الولايات المتحدة قوات سوريا الديمقراطية “عند الحاجة” كما يردّد البعض، بل تحوّلت إلى شراكةٍ استراتيجية، إذ ترى الولايات المتحدة في “قسد” شريكًا مهمًّا لضمان الاستقرار في المنطقة، بينما تعتمد القوات الكردية على الدعم الأميركي لتأمين استقلالية قرارها بعيدًا عن دمشق. في ظلّ هذا الوضع، لا يملك الشرع خيارًا سوى القبول بهذا الترتيب، ممّا يعني أنّ الجزيرة السورية أصبحت فعليًّا خارج السيطرة المركزية.
أمّا الساحل السوري، وإن بدا حاليًا ضمن النفوذ المركزي لدمشق، إلا أنّ مستقبله غير محسوم، خصوصًا بعد التطوّرات الأخيرة. فقد تآكلت شرعية النظام بين العلويين ولم تعد مضمونة، وهذا على افتراض أنّها كانت موجودة سابقًا، ما يفتح الباب أمام سيناريوهاتٍ مختلفة، من بينها تعزيز الحكم الذاتي أو البحث عن تحالفاتٍ جديدةٍ تضمن استقراره. وفي ظلّ هذا المشهد، يرى بعض المراقبين أنّ المناطق المتبقية تحت سيطرة الشرع باتت تشكّل ما يشبه “كانتونًا سنّيًّا”، حيث يسعى إلى موازنة علاقاته مع القوى الدولية والإقليمية لضمان بقائه. وهو يدرك أنّ الاعتراف الدولي بحكمه لن يتحقّق إلا إذا التزم بحدودٍ واضحة مع إسرائيل جنوبًا، وتجنّب أيّ مواجهة مع “قسد” شرقًا، وضمان مصالح تركيا شمالًا. وبهذا، تبدو حدود مناطق نفوذه مرسومةً بوضوح، من دون أن يكون قادرًا على توسيعها من دون الدخول في صدام مع القوى الفاعلة في الملف السوري.
وعلى الرغم من أنّ الشرع لا يصرّح علنًا بموافقته على تقسيم البلاد، فإنّ تحرّكاته وتفاهماته مع القوى الإقليمية والدولية تعكس قبوله ببقاء مناطق النفوذ الحالية طالما أنّها لا تهدّد سلطته في دمشق. فالسويداء تبقى خطًا أحمر بالنسبة لإسرائيل، والجزيرة محميّة أميركية بحكم الواقع، والشمال يخضع للتأثير التركي المباشر، بينما تحتفظ دمشق ومحيطها بسيطرة الشرع، مع تقديمه بعض التسهيلات الاقتصادية والسياسية لضمان اعترافٍ دولي ولو كان مشروطًا. وبذلك، يبدو أنّ أحمد الشرع قد اختار التعايش مع هذا الواقع بدلًا من خوض مواجهةٍ عسكرية مع القوى الكبرى والإقليمية التي ترسم حدود النفوذ في سورية. فالتقسيم غير المعلن بات أمرًا واقعًا، حيث تتقاسم البلاد قوى متعدّدة، فيما يحرص الشرع على تثبيت موقعه ضمن هذه الخريطة الجديدة، ولو كان ذلك على حساب وحدة سورية الكاملة.
وبعيدًا عن التدخّلات الدولية وصراع المصالح الإقليمية، يبقى الخطر الأكبر على وحدة سورية هو سياسات أحمد الشرع نفسه. فمنذ وصوله إلى السلطة، لم يقدّم مشروعًا وطنيًّا حقيقيًّا يهدف إلى إعادة توحيد البلاد، بل اعتمد على سياسة إدارة الأزمات عوضًا عن حلّها. وقد أدّى هذا الاستئثار بالحكم إلى عددٍ من المخاطر، أبرزها تعميق الانقسامات الطائفية والمناطقيّة، حيث بات لكلّ منطقة إدارتها الخاصة وعلاقاتها الخارجية المستقلة، ممّا يعزّز احتمالات التفتّت على المدى البعيد. بالإضافة إلى إقصاء القوى السياسية الأخرى، حيث لم يبادر الشرع إلى إشراك القوى الفاعلة في حوارٍ وطنيٍّ حقيقي، بل اكتفى بعقد تفاهماتٍ مع جهاتٍ خارجيةٍ للحفاظ على سلطته، ممّا أضعف إمكانية بناء دولةٍ مركزيةٍ متماسكة. كما استمرّ في ترسيخ حكم الفرد بدلًا من بناء مؤسساتٍ قويّة، ما يجعل البلاد أكثر هشاشةً أمام أيّ أزمةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ مستقبلية.
في الوقت الحالي، يبدو أنّ السلطة في دمشق تعمل وفق معادلة “التكيّف مع الأمر الواقع” بدلًا من السعي إلى مشروعٍ وطنيٍّ يوحّد السوريين. ولكن يمكن للشرع تبنّي نهجٍ جديدٍ قائمٍ على حوارٍ وطنيٍّ شاملٍ وحقيقي يشمل جميع المكوّنات السورية، من الأكراد إلى الدروز إلى العرب السنّة والعلويين، إضافةً إلى إصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ حقيقيةٍ تعيد ثقة المواطنين بالدولة عوضًا من الرهانات على الدعم الخارجي. وذلك كفيلٌ بإطلاق إعادة إعمارٍ متوازنةٍ تشجّع اللاجئين والنازحين على العودة إلى مناطقهم، ممّا يعيد توزيع النفوذ الداخلي. ولكن نجاح هذا الحلّ يتطلّب إرادةً سياسيةً قوية، وهو ما لم يظهر حتى الآن لدى الأطراف المتحكّمة بالمشهد.
السيناريوهات القادمة التي تنتظر سورية كثيرةٌ ومفتوحةٌ على احتمالاتٍ شتّى، وأحد تلك السيناريوهات أن يبقى الوضع الحالي كما هو عليه من دون إعلانٍ رسميٍّ للتقسيم؛ حيث تحافظ دمشق على سيطرتها على بعض المناطق، بينما تستمرّ الإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق البلاد، ويبقى الشمال السوري خاضعًا للنفوذ التركي، والجنوب تحت تأثير إسرائيل بشكلٍ غير مباشر. وقد تحدث تحوّلاتٌ تدريجيةٌ، مثل توقيع اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ بين مختلف الأطراف، ممّا يؤدّي إلى نوعٍ من “الكونفيدرالية غير الرسمية”. وفي ظلّ الوضع الحالي، قد يبدو هذا السيناريو الأكثر واقعيةً على المدى القريب؛ إذ لا تزال الأطراف المتصارعة غير قادرةٍ على فرض حلٍّ نهائي. أمّا على المدى البعيد، فقد تتّجه سورية نحو أحد السيناريوهين: الفيدرالية الموسّعة أو إعادة توحيد الدولة، وذلك بناءً على مدى قدرة القوى الداخلية على تجاوز الانقسامات، ومدى استعداد الدول الكبرى لدعم حلٍّ شامل. أمّا السيناريو الأسوأ فهو التفكّك الكامل، لكنّه يظلّ أقلّ احتمالًا حاليًّا، لأنّ معظم الأطراف الإقليمية والدولية ترفض تقسيم سورية رسميًّا.
العربي الجديد
————————
من الانتقال السياسي إلى إعادة الإعمار.. معهد ألماني يقيّم سيناريوهات سوريا
ربى خدام الجامع
2025.03.19
قدم معهد الشؤون الدولية والأمنية الألماني* (Stiftung Wissenschaft und Politik)، تحليلاً معمقاً للوضع في سوريا بعد مرور أكثر من ستين عاماً على الديكتاتورية وأكثر من 13 عاماً على بدء الحرب، مع التركيز على التحديات الكبيرة التي تواجه الحكام الجدد للبلاد.
ويشير التقرير إلى أن سوريا تقف على مفترق طرق حاسم يتطلب معالجة قضايا معقدة تشمل الانتقال السياسي، والمصالحة الاجتماعية، وإعادة الإعمار الشاملة، والتحول الاقتصادي، وعودة اللاجئين والنازحين، بالإضافة إلى حل قضايا أمنية شائكة مثل نزع سلاح الفصائل ودمجها ومحاربة تنظيم الدولة والجماعات المسلحة الأخرى.
تحديات الحكم والسيطرة الإقليمية:
يُسلط التقرير الضوء على أن الحكومة المؤقتة برئاسة أحمد الشرع لا تسيطر على كامل الأراضي السورية، حيث لا تزال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية تسيطر على شمال شرقي سوريا، بينما تواصل تركيا سيطرتها على مناطق عدة في الشمال. وفي الجنوب الغربي، تحتل إسرائيل المنطقة العازلة وهضبة الجولان وجبل الشيخ، وتقيم نقاط تفتيش في المناطق المحيطة. ويستمر التقرير في بيان أن الاشتباكات المسلحة ما تزال دائرة في الشمال والشمال الشرقي بين الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً وقسد المتحالفة مع واشنطن.
يذكر المعهد أن الحكومة المؤقتة اتخذت خطوات لتسريح معظم جيش النظام المخلوع ومحاولة حل الفصائل ودمجهم في الجيش السوري الجديد، بما في ذلك قسد وفاصائل درزية. ومع ذلك، شهدت سوريا أعمال عنف طائفية عقب تمرد فلول للأسد، مما أسفر عن مقتل المئات وأكد على وجود ما سماه “عقيدة طائفية” وعدم انضباط في القوى الأمنية الجديدة، وهو ما يهدد عملية المصالحة.
التقدم السياسي المتعثر:
يشير التقرير إلى أن الإدارة الجديدة مضت قدماً في عملية الانتقال السياسي بتنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً وتأكيده على ضرورة أن تكون سوريا الجديدة وطناً للجميع. وقد تم تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني الذي جمع نحو 900 سوري لوضع إطار للعملية الدستورية. وفي بداية آذار، شُكلت لجنة لصياغة دستور مؤقت، وفي 13 آذار، وقع الشرع على إعلان دستوري يمتد لخمس سنوات، يحدد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع ويطرح مبادئ فصل السلطات واستقلال القضاء والمساواة وحرية التعبير. ومع ذلك، أثار الإعلان الدستوري انتقادات من مختلف الطوائف بسبب عدم تعبيره عن التنوع العرقي والديني لسوريا والإبقاء على تسمية “الجمهورية العربية السورية” وجعل اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة واشتراط أن يكون الرئيس مسلماً. ويؤكد التقرير على أن تحقيق توازن بين توقعات التنوع ومواقف الجهات الفاعلة المختلفة يمثل تحدياً كبيراً.
يُوضح التقرير أن القيادة السورية الجديدة تسعى لإعادة تموضع سوريا على المستويين الإقليمي والعالمي بهدف كسر العزلة وإقامة علاقات ودية مع دول الجوار والحصول على دعم لإعادة الإعمار. وقد تواصل الشرع مع دول الخليج والدول الغربية، وهنأ ترامب على عودته إلى البيت الأبيض، معبراً عن أمله في إحلال السلام واقترح مناقشات مبكرة مع واشنطن. وفي حين حافظ على مسافة بعيدة عن إيران، أكد على أهمية العلاقات الطيبة مع روسيا وطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، مؤكداً على التزام دمشق باتفاقيات وقف إطلاق النار وعزمها على حل النزاعات سلمياً، مع توقع علاقات ودية مع تركيا بشكل خاص.
مصالح الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية:
يُفصل التقرير مصالح وأولويات وممارسات الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية وتأثيرها على عملية الانتقال في سوريا.
تركيا: تسعى إلى محاربة سوريا لإرهاب (حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة)، والحفاظ على تنوعها العرقي والديني وإشراك جميع الأطراف في الحكم، وترغب في لعب دور فاعل في بناء سوريا قوية وموحدة بما يخدم مصالحها. تركز على مصالحها الأمنية وعرضت دعم إصلاح القطاع الأمني، وتسعى للتعاون مع سوريا والأردن والعراق لمحاربة تنظيم الدولة. كما دعت تركيا مقاتلي الفصائل السورية المتحالفة معها في الشمال للانضمام إلى الجيش السوري الجديد بهدف نزع سلاح قسد أو دمج عناصرها في الجيش السوري. وقد خلق إعلان عبد الله أوجلان عن حل تنظيمه أفقاً لتسوية بين تركيا وقسد، وتسعى تركيا لتعزيز التقارب بين قسد والمجلس الوطني الكردي. كما ترغب تركيا في لعب دور بارز في إعادة إعمار سوريا.
دول الخليج (قطر والسعودية والإمارات): يُشير التقرير إلى أن قطر قد تلعب دوراً مهماً في السياسة السورية وكانت أول دولة تزور دمشق بعد سقوط الأسد وتعهدت بدعم إعادة الإعمار. أما السعودية، فيبدو أنها منفتحة على تحقيق انفراجة وترغب في منع سوريا من الاعتماد بشكل كبير على قطر وتركيا. بينما من المحتمل أن تبقى الإمارات على هامش التطورات بسبب معارضتها لهيئة تحرير الشام، لكنها قد تجدد علاقاتها مع دمشق إذا تبين عدم وجود أساس لمخاوفها.
روسيا: غيرت سياستها من دعم نظام الأسد إلى محاولة السيطرة على الأضرار واستعادة نفوذها لتأمين مصالحها، وعرضت التعاون مع القيادة الجديدة. وقد صنفت هيئة تحرير الشام سابقاً كتنظيم إرهابي ثم وصفتها بـ”المعارضة السورية المسلحة” ثم “السلطات الجديدة”. ومع ذلك، قد تواجه روسيا صعوبة في تطبيع العلاقات بسبب مطالب دمشق بتسليم الأسد وجبر الضرر. وقد تراجعت قدرة روسيا على رسم شكل عملية الانتقال، لكنها ما تزال تحتفظ ببعض النفوذ السياسي وتأمل في أن يعوض وجودها العسكري والسياسي المتضائل تعاظم النفوذ التركي. وقد دعت روسيا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن وحذرت من صعود الحركة الجهادية وشبهت قتل العلويين والمسيحيين بالإبادة في رواندا، مما يدل على استعدادها لاستغلال أي توتر لمصلحتها.
إسرائيل: يهمها أمنها القومي أكثر من العملية الانتقالية أو النظام السياسي الجديد، وتشعر بالقلق إزاء الخلفية المتطرفة للحكام الجدد وتعزز النفوذ التركي. وتضغط على الولايات المتحدة لضمان سلامة القواعد الروسية وتفضل بقاء سوريا دولة لامركزية ضعيفة. كما أعلنت عزمها على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا وسعت لتمتين علاقاتها مع الطائفة الدرزية والأكراد وهددت بالتدخل العسكري دعماً للدروز.
الولايات المتحدة: لم تتضح بعد سياسة إدارة ترامب الثانية تجاه سوريا، لكنها تركز على مصالحها الأمنية والجيوسياسية وضمان عدم تحول سوريا إلى “مصدر للإرهاب الدولي” وأمن إسرائيل. وقد أثر قرار تعليق المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتاً على المخيمات ومبادرات المجتمع المدني.
إيران: خسرت نفوذها المباشر وتسعى للتواصل مع الحكومة المؤقتة، لكن دمشق لم تبد اهتماماً كبيراً بإعادة العلاقات. ومن السيناريوهات المطروحة لاحتفاظ إيران بنفوذها استغلال التوترات الطائفية أو تمتين علاقاتها مع قسد أو إعادة تعريف دورها عبر “المقاومة” المناهضة لإسرائيل وظهور جماعة “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا”.
نتائج وخيارات سياسية مقترحة من المعهد الألماني:
يُشدد التقرير على أن لألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي مصلحة كبيرة في استقرار سوريا ويجب عليهم اقتناص الفرصة والمساهمة في ذلك بتنسيق نهجهم ضمن إطار متعدد الأطراف والتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج. ويدعو إلى مراقبة ودعم تطبيق إعلان حل حزب العمال الكردستاني والاتفاق بين الحكومة المؤقتة وقسد. كما يرى ضرورة العمل على تجديد التزام إسرائيل والحكومة السورية الجديدة باتفاقية وقف إطلاق النار لعام 1974 وتسهيل التواصل بينهما.
ويؤكد التقرير على أهمية تمهيد السبيل لزيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا، مشيراً إلى أن تخفيف العقوبات الأوروبية خطوة أولى ضرورية لكنها غير كافية، ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي الضغط على واشنطن لرفع العقوبات الأميركية أو إيجاد آليات بديلة لدعم التعافي. ويشدد على ضرورة بقاء العقوبات على كبار الشخصيات التابعة للنظام السابق وهيئة تحرير الشام حتى تلتزم بشروط واضحة مثل الابتعاد عن الحركة الجهادية ومنع العنف الطائفي والتحقيق في المجازر واحترام حقوق الإنسان.
كما يحذر التقرير من الدفع نحو إعادة سريعة للاجئين السوريين ويدعو إلى تمكينهم من المساهمة في إعادة الإعمار من الخارج. ويؤكد على مسؤولية الجيش السوري الجديد في محاربة تنظيم الدولة وضرورة معالجة مشكلة السجون والمخيمات، مع تشجيع الولايات المتحدة على مواصلة دعم جهود مكافحة التنظيم.
أخيراً، يدعو التقرير ألمانيا والاتحاد الأوروبي إلى دعم تشكيل حكومة جامعة وصياغة دستور دائم يعكس تنوع سوريا العرقي والديني لمنع إيران من استغلال التوترات الطائفية وتحقيق مصالحة اجتماعية وسياسية في البلاد.
في الآتي ترجمة تلفزيون سوريا الكاملة للتقرير:
بعد مرور أكثر من ستين عاماً على الديكتاتورية في سوريا وأكثر من 13 عاماً على بدء الحرب التي تدخلت فيها أطراف دولية، أصبح حكام سوريا الجدد في مواجهة تحديات كبيرة، تتمثل بالانتقال السياسي والمصالحة الاجتماعية وإعادة الإعمار الشاملة، والتحول الاقتصادي، وإعادة اللاجئين والنازحين، إلى جانب حل قضايا أمنية شائكة تشمل نزع سلاح الفصائل ومن ثم إدماجها ضمن الهيكلية المعدلة للجيش ومحاربة تنظيم الدولة في حال عودته إلى جانب محاربة المسلحين من الموالين للأسد. وهنالك قضية أخرى تتمثل بأسلوب التعامل مع كل من مقاتلي تنظيم الدولة (وأهاليهم) المحتجزين في مخيمات ومراكز احتجاز تديرها قسد، والمقاتلين الأجانب المنضوين تحت صفوف هيئة تحرير الشام ومن والاها من الفصائل.
والأصعب من ذلك هو أن الحكومة المؤقتة التي يترأسها أحمد الشرع لا تسيطر على كامل التراب السوري، لأن قسد ذات الغالبية الكردية ماتزال تمارس سيطرتها على شمال شرقي سوريا، في حين تواصل تركيا سيطرتها على مناطق عدة في الشمال السوري. وفي جنوب غربي البلد، احتلت إسرائيل المنطقة العازلة التي أقيمت في عام 1974 وكانت في السابق تخضع لسيطرة أممية، إلى جانب احتلالها لجبل الشيخ منذ كانون الأول لعام 2024، كما أنها أقامت نقاط تفتيش لها في المناطق المحيطة بتلك الأراضي. وفي تلك الأثناء، ماتزال الاشتباكات المسلحة دائرة في الشمال وشمال شرقي سوريا ما بين الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً وقسد المتحالفة مع واشنطن في حربها ضد تنظيم الدولة.
الخطوات الأولى للعملية الانتقالية
قامت الحكومة المؤقتة بإجراءات لتسريح معظم عناصر جيش النظام البائد وحل الفصائل ثم دمجهم في الجيش السوري الجديد، وتضم تلك الفصائل قسد والفصائل الدرزية التابعة لغرفة عمليات الجنوب التي وقعت دمشق معها اتفاقيات خلال الأسبوع الثاني من شهر آذار عقب حدوث أعنف أحداث طائفية في سوريا منذ سقوط النظام. إذ بعد ظهور تمرد موال للأسد ضد قوات الأمن الجديدة، قتل أكثر من ثمانمئة سوري معظمهم من الطائفة العلوية، بعضهم في اشتباكات وبعضهم الآخر في عمليات القتل الانتقامية التي أعقبتها والتي نفذت بحق من قُبض عليهم من العساكر والمدنيين، وهذه التطورات أكدت وجود عقيدة طائفية سائدة، إلى جانب عدم الالتزام بالانضباط وعدم وجود هياكل قيادة واضحة ضمن القوى الأمنية الجديدة، ما يشكل خطراً حقيقياً يهدد عملية المصالحة بين الطوائف العرقية والدينية في سوريا. وحتى قبل موجة العنف الأخيرة، ظهرت تقارير حول انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان نفذتها قوات الأمن الجديدة بحق أفراد من نظام الأسد المخلوع، ومعظم تلك الانتهاكات نفذت كأعمال انتقامية بحق العلويين.
مضت الإدارة الجديدة بعملية الانتقال السياسي نحو الأمام، إذ في أواخر شهر كانون الثاني من عام 2025، وبعد أن تم تنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً على يد من انتصروا من الثوار، شدد هذا الرجل على ضرورة أن تصبح سوريا الجديدة وطناً لكل مواطنيها تختفي فيه كل أعمال الانتقام، وأكد على أهمية تشكيل حكومة جامعة تكفل تمثيل الجميع في مطلع شهر آذار. وفي أواسط شهر شباط، شكل الشرع لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني بينهم ممثلون عن “حكومة الإنقاذ” السابقة في إدلب وعضوان من المجتمع المدني، ثم انعقد هذا المؤتمر الذي لم تسبقه فترة إشعار مناسبة، خلال الفترة ما بين 24-25 من شباط في دمشق، وجمع نحو 900 سوري من أجل وضع إطار العمل الميداني تمهيداً للمضي قدماً بالعملية الدستورية. وفي بداية شهر آذار، شكلت لجنة لصياغة دستور مؤقت، لكن الأمور لم تخضع لمداولة كبيرة، إذ بحلول الثالث عشر من آذار، وقع الشرع على إعلان دستوري يمتد لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، وحددت تلك الوثيقة بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وطرحت مبدأ فصل السلطات، واستقلال القضاء، والمساواة أمام القانون وحرية التعبير. بيد أن مسؤولية التشريع خلال الفترة الانتقالية، ستكون بيد البرلمان الذي سيجري تعيين أعضائه (على أن يعين الرئيس وبشكل مباشر ثلث أعضائه)، أما الرئيس فيتمتع بسلطات تنفيذية وبيده أمر الإعلان عن حالة الطوارئ. كما سيجري تشكيل لجنة من أجل العدالة الانتقالية، إلى جانب لجنة لصياغة دستور دائم للبلد، وسيجري تأجيل الانتخابات حتى عام 2030. وسرعان ما أثار الإعلان الدستوري انتقادات من الطوائف في سوريا، إذ على الرغم من طرحه لمبدأ حرية الدين والمعتقد، لم يعبر عن التنوع العرقي والديني لسوريا التي احتفظت باسمها السابق (الجمهورية العربية السورية)، إلى جانب تسمية العربية وحدها كلغة رسمية للبلد، والتأكيد على وجوب أن يكون الرئيس مسلماً، ولكن لا شك بأن خلق حالة توازن بين توقعات التعبير عن التنوع بين الأغلبية والأقليات، وناشطي المجتمع المدني والعديد من الجهات الأجنبية الداعمة والفصائل المتطرفة الموجودة ضمن قاعدة القيادة الانتقالية نفسها يعتبر أمراً محفوفاً بالمخاطر والتحديات إلى أبعد الحدود.
وفي الوقت ذاته، تحرص القيادة السورية الجديدة على إعادة تموضع سوريا بعد سقوط الأسد على المستويين الإقليمي والعالمي، والهدف من ذلك كسر العزلة التي فرضت على البلد لفترة طويلة، وإقامة علاقات ودية مع دول الجوار، إذ تريد سوريا الجديدة أن تتجنب تلك النظرة التي تعتبرها تهديداً على المستوى الإقليمي أو الدولي، والأولوية الأساسية في هذا السياق الحصول على الدعم من أجل إعادة إعمار البلد، ولتحقيق هذه الغاية، لم يمد الشرع يده لدول الخليج العربية فحسب، وعلى رأسها السعودية، بل للدول الغربية أيضاً، إذ هنأ دونالد ترامب على عودته الأخيرة إلى البيت الأبيض، وأعرب عن أمله بأن يعمل الرئيس الأميركي على إحلال السلام، واقترح قيام مناقشات مبكرة مع الإدارة الجديدة بواشنطن. وفي الوقت الذي احتفظ الشرع بمسافة بعيداً عن إيران، أكد مصلحته في المحافظة على علاقات طيبة مع روسيا، كما طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها، وأكد على التزام دمشق باتفاقيات وقف إطلاق النار الموقعة في عام 1974 وعلى عزمها على حل النزاعات مع دول الجوار بطريقة سلمية، والجميع يتوقع قيام علاقات ودية وتقارب مع تركيا على وجه الخصوص.
مصالح الجهات الفاعلة على المستوى الإقليمي والدولي في سوريا
إن مصالح الجهات الفاعلة إقليمياً ودولياً وأولوياتها وممارساتها هي التي ستهيئ الساحة أمام حكام سوريا الجدد في تعاملهم مع التحديات التي تكتنف العملية الانتقالية بسوريا، إذ عقب سقوط نظام الأسد، عمدت بعض تلك الجهات الفاعلة الخارجية إلى تغيير موقفها، في حين أوضحت أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة، موقفها تماماً. بيد أن هنالك شيئاً واضحاً يهمهم جميعاً بالمقام الأول، ألا وهو المصالح القومية إلى جانب مراعاة الاعتبارات السياسية والاقتصادية الداخلية، وهذا ما يؤكد احتمال ظهور تضارب قد يعيق الجهود الساعية لتحقيق الاستقرار في سوريا.
تركيا
تشير التصريحات الرسمية الصادرة عن تركيا إلى وجود ثلاثة أهداف لديها في سوريا، أولها ضرورة عدم دعم سوريا للإرهاب (والمقصود هنا حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة) وعدم تشكيلها لأي خطر يهدد جيرانها، إلى جانب احتفاظها بتنوعها العرقي والديني وضرورة تمثيل وإشراك كل تلك الأطراف في الحكم. أي أن أنقرة تعتبر عملية نشر الاستقرار التي تقوم بها الحكومة المؤقتة الموجودة في دمشق ضرورة، وترغب في لعب دور فاعل في بناء سوريا القوية والموحدة، وبما ينسجم مع المصالح التركية الأساسية، ولهذا تسعى تركيا للانخراط في مجالين مهمين على المدى القصير والمتوسط.
أولاً: تركز تركيا على مصالحها الأمنية، ولهذا عرضت فكرة دعم عملية إصلاح القطاع الأمني في سوريا، وبحسب ما ذكره وزير الدفاع التركي يشار غولار، فإن أنقرة على استعداد لمساعدة الحكومة الانتقالية في التدريب العسكري إن لزم الأمر. وفي مطلع شهر شباط، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الشرع في أنقرة لمناقشة التعاون الوثيق في مجالات عدة، أبرزها احتمال توقيع معاهدة دفاع بينهما. كما تسعى كل من تركيا وسوريا والأردن والعراق لمحاربة تنظيم الدولة معاً، إذ عقد أول اجتماع للتباحث في هذا الشأن بالأردن في التاسع من آذار، من دون أن يعلن عن أي خريطة ملموسة للطريق في هذا الاتجاه.
في تلك الأثناء، دعا وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، جميع مقاتلي الفصائل السورية الموجودة في شمالي سوريا والمتحالفة مع تركيا، والتي تضم أكثر من 80 ألف مقاتل إلى الانضمام إلى الجيش السوري الجديد. وهذه الدعوة تتماشى مع الاستراتيجية الأوسع لأنقرة الساعية إلى نزع سلاح قسد الذي تترأسه وحدات حماية الشعب الكردية، أو العمل على إدماج العساكر الأفراد ضمن جيش البلد الذي يخضع لقيادة دمشق بشكل كامل. كما تهدف دعوته أيضاً إلى طرد أي عناصر تركية (وغير سورية) موجودة ضمن حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من سوريا، ولتحقيق هذا الهدف، اتخذت تركيا خطوات عسكرية من خلال الجيش الوطني السوري، كما استعانت بدعمها الجوي لقطع خطوط الإمداد عن قسد والموجودة في محيط عين العرب كوباني بالشمال السوري، فأضعفت بذلك القدرات القتالية لدى تلك المجموعة.
وفي الوقت ذاته، تمارس تركيا ضغطاً دبلوماسياً على قسد وحزب العمال، إذ في أواخر شباط الماضي، أعلن عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال المسجون في تركيا، عن حل تنظيمه ونزع سلاحه بكل ثقة، ما دفع بحزب العمال إلى الإعلان عن وقف إطلاق النار والتصديق على ما أعلنه أوجلان والمطالبة بإطلاق سراحه. وهذا ما جعل الجهات الفاعلة الكردية في العراق، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ترحب بمبادرة أوجلان، ومن جانبه، أوضح القائد الأعلى لقسد، مظلوم عبدي، بأن حل الحزب ورمي سلاحه لا يمكن تطبيقه على قسد، لكنه أعرب عن انفتاحه على أي حل سلمي في سوريا.
خلق إعلان أوجلان أفقاً لتحقيق تسوية ما بين تركيا وقسد، وإزاء ذلك ظهر بين ثنايا إصرار أنقرة على ضرورة أن تكون سوريا شاملة وجامعة لكل الطوائف العرقية والدينية احتمال تأويل ذلك كبادرة على التفاوض من أجل تشكيل هيئة تمثيلية جديدة للكرد، إذ بالفعل، سعت تركيا منذ أمد بعيد لتعزيز التقارب بين قسد والمجلس الوطني الكردي الذي دعمه الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وفي مكالمة هاتفية مع عبدي، أعلن مسعود برزاني زعيم هذا الحزب عن دعمه للاتفاق الحاصل مؤخراً بين دمشق وقسد، وأكد على أهمية وحدة الكرد، كما رحب المسؤولون الأتراك بهذه الاتفاقية بحذر، وأكدوا على ضرورة تطبيقها بشكل كامل، وفي هذه الأثناء تواصلت الغارات الجوية التركية على العراق وسوريا.
أما المجال المهم الثاني الذي ترغب القيادة التركية في لعب دور بارز من خلاله فهو إعادة إعمار سوريا، إذ بعيداً عن الفرص الاقتصادية التي يرجح لشركات البناء التركية أن تقتنصها، يمكن لذلك أن يعزز شعبية أردوغان وسط حالة الضيق الاقتصادية التي تعيشها تركيا، كما أن أنقرة تعتبر إعادة إعمار سوريا شرطاً مهماً لتسهيل عودة اللاجئين السوريين.
دول الخليج
إذا نجحت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها في تعزيز موقفها، فإن قطر ستلعب دوراً مهماً في السياسة السورية هي أيضاً، إذ ليست مصادفة تلك التي جعلت من الأمير تميم بن حمد أول قائد دولة يزور دمشق بعد سقوط الأسد. ومنذ ذلك الحين، توالت زيارات المسؤولين والوفود القطرية على سوريا وذلك خلال شهري كانون الأول من عام 2024 وكانون الثاني عام 2025. وفي أواسط كانون الأول، كانت السفارة القطرية ثاني سفارة تعيد فتح أبوابها، بعد السفارة التركية، عقب تعليق العلاقات الدبلوماسية الذي نفذته دول كثيرة بين عامي 2011-2012 رداً على قمع النظام البائد للمعارضة. وتعهد رئيس وزراء قطر بدعم عملية إعادة إعمار سوريا وطالب بإنهاء العقوبات المفروضة عليها، إذ من الواضح تماماً بأن الدوحة قد وضعت نفسها في موضع أحد الوسطاء المهمين بين سوريا وأي دولة ثالثة، وستتعاظم أهمية هذا الدور في حال بقيت تلك الدول مترددة في التعامل مع الحكام الجدد لدمشق.
ثمة دولة أخرى بوسعها لعب دور مهم في المشهد الدبلوماسي السوري وهذه الدولة هي السعودية، إذ يبدو بأن هنالك مصلحة كبيرة لهيئة تحرير الشام في تعزيز علاقات طيبة مع أقوى دولة عربية، وقد ألمحت المملكة إلى انفتاحها على تحقيق انفراجة وذلك عندما أرسلت وزير خارجيتها الذي دعا على الفور إلى رفع العقوبات وقدم الدعم للحكومة الجديدة. ويبدو أن الرياض مستعدة للاعتراف بالواقع الجديد في دمشق مع التشجيع على الحوار والتعاون لإدارة النتائج المترتبة على سيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة. وثمة شيء مهم لا بد أن تأخذه السعودية بالحسبان وهو منع سوريا من الاعتماد بشكل كبير على قطر وتركيا، غير أن قيام الشرع في مطلع شباط 2025 بأول زيارة خارجية له عقب سقوط الأسد إلى الرياض بدلاً من أنقرة يوحي باحتمال الابتعاد عن هذا الشكل من الاعتماد الكبير.
يحتمل للإمارات أن تبقى على هامش كل تلك التطورات نظراً لوقوفها ضد هيئة تحرير الشام ومعارضتها لها بشكل مبدئي وهذا ما يمنعها من التعامل معها مباشرة، لهذا يرجح لأبوظبي أن تراقب من كثب احتمال إثارة انتصار الإسلاميين في سوريا لمزيد من الاضطرابات في المنطقة، ولهذا لن تألو جهداً في منع وصول آثار ذلك إلى بلادها. ولكن إن تبين لها عدم وجود أصل أو أساس لمخاوفها، فإن الإمارات ستكون من بين تلك الدول التي ستحرص على تجديد علاقاتها مع دمشق.
روسيا
بما أنها كانت من أهم داعمي نظام الأسد في السابق، فقد غير الكرملين سياسته وانتقل إلى سياسة السيطرة على الأضرار مع سعيه في الوقت ذاته لاستعادة نفوذه السياسي من أجل تأمين مصالحه الأساسية في سوريا، وخاصة فيما يتصل بالاستعانة بالقواعد العسكرية الموجودة فيها، ولهذا عرضت روسيا التعاون مع القيادة الجديدة في دمشق لأنها ترغب أن تقدم نفسها كعنصر فاعل براغماتي على استعداد للتكيف مع ديناميات السلطة الجديدة. إذ حتى كانون الأول من عام 2024، بقيت موسكو تصنف هيئة تحرير الشام على أنها تنظيم إرهابي، ولكن في الثامن من كانون الأول 2024، أي في يوم سقوط الأسد، صارت تصف الهيئة بأنها “المعارضة السورية المسلحة” ثم أصبحت تصفها بـ”السلطات الجديدة”. وفي محاولة للتعامل مع الهيئة، أعلن فاسيلي نيبينزيا مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة بأن التحالف الروسي مع سوريا “لا يرتبط بأي نظام”.
غير أن موسكو قد تكتشف صعوبة “تطبيع” العلاقات مع الحكومة التي تترأسها هيئة تحرير الشام، وهذا ما اتضح عندما زار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، سوريا في أواخر شهر كانون الثاني من عام 2025، إذ خلال تلك الزيارة، أوضح الشرع بأن على روسيا الاعتراف بما وصفه “أخطاءها السابقة” من أجل “إعادة بناء الثقة”، بيد أن هنالك مطلبين تقدمت بهما دمشق من المرجح أن يمثلا تهديداً حقيقياً لموسكو، خاصة في ظل ظروف الحرب المستمرة في أوكرانيا، وهذان المطلبان هما: تسليم الأسد وجبر الضرر، إذ لا أحد يتوقع أن تسلم روسيا الأسد على الإطلاق، بما أن تسليمه لا بد أن يقوض مصداقية روسيا بوصفها حامياً موثوقاً لحلفائها من المستبدين، أما فيما يتصل بالمطلب الثاني، فإن موسكو قد تعفي سوريا من قسم من ديونها الكبيرة المستحقة لروسيا، أو قد تعفيها منها كلها، أو قد تمدها بالحبوب أو النفط من دون أن تعترف رسمياً بما يُلزمها بتقديم تعويضات بهدف جبر الضرر. وفي تلك الأثناء، وفي محاولة منها لتحسين صورتها، قدمت روسيا اللجوء للسوريين الهاربين من العنف الطائفي الذي اندلع في آذار، وعرضت الاستعانة بقواعدها العسكرية كمراكز لوجستية لتوزيع المساعدات الإنسانية، ومن جانبها، ستبقى القوات المسلحة السورية معتمدة على روسيا في عمليات الصيانة وتأمين قطع التبديل في المستقبل المنظور.
لا شك أن قدرة روسيا على رسم شكل عملية الانتقال في سوريا قد تراجعت بشكل كبير، إذ لم يعد لدى روسيا حلفاء سياسيون أقوياء في سوريا، كما تراجعت إمكاناتها العسكرية على حماية هؤلاء الحلفاء، والأهم من كل ذلك أن عملية أستانا التي نسقت من خلالها روسيا وتركيا وإيران مواقعها تجاه مستقبل سوريا، لم يعد لديها أي نفوذ أو أهمية، ومع ذلك ما تزال موسكو تحتفظ ببعض النفوذ السياسي في سوريا، إذ يأمل الكرملين أن يتحول استمرار الوجود العسكري والسياسي على الرغم من تقلصه في سوريا نفسها وفي المنطقة كلها إلى مصلحة استراتيجية للحكومة الانتقالية، بما أن هذا الوجود سيقف ضد تعاظم الوجود والنفوذ التركي في سوريا. وبما أن روسيا تعتبر دولة قوية تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن وبما أنها عنصر فاعل مهم في المنتديات الدولية مثل دول البريكس+ والتجمعات الإقليمية مثل مجلس شنغهاي للتعاون، فإنه بوسع روسيا إما أن تسهم أو أن تعقد عملية تحقيق الاعتراف الدولي بالقيادة السورية الجديدة.
ونظراً لاحتمال التقارب بين روسيا والولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، ومطالبة إسرائيل بإبقاء القواعد الروسية في سوريا، والمجازر التي قامت ضد العلويين والمسيحيين في سوريا في آذار 2025، بات من الواضح أن الكرملين تعجبه الشروط التي تساعده على تعزيز موقفه ومكانة بلده، إذ إلى جانب الولايات المتحدة، دعت روسيا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن في منتصف شهر آذار حذر خلاله المندوب الروسي من صعود الحركة الجهادية في سوريا، وشبه قتل العلويين والمسيحيين بالإبادة التي حصلت في رواندا. ثم إن انعقاد الاجتماع خلف أبواب موصدة دليل على أن روسيا لا تريد أن تخاطر بعلاقتها التي ما تزال هشة مع القيادة الجديدة في سوريا، وفي الوقت عينه، يظهر ذلك استعداد روسيا الدائم لاستغلال أي توتر في سوريا لمصلحتها حتى تمارس الضغط عبر التلاعب ضمنياً بفكرة تأييد قيام حكم ذاتي في المنطقة الغربية من سوريا، بيد أن تصريح الشرع بأنه يرغب في الاحتفاظ بـ”علاقات استراتيجية عميقة” مع روسيا، وضرورة عدم وجود أي “شقاق بين سوريا وروسيا” يعتبر مؤشراً على نجاح سياسة الحد من الأضرار التي تنتهجها موسكو.
إسرائيل
في الوقت الذي تدعم المؤسسة السياسية الإسرائيلية عموماً “حق استقلال” الأقليات العرقية والدينية عن سوريا، ما يزال أشد ما يقلقها من جارتها هو أمنها القومي لا العملية الانتقالية ولا النظام السياسي الجديد فيها. إلا أن خلفية حكام دمشق الجدد تعتبر مصدراً للقلق بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة لتعاظم النفوذ التركي بما أن إسرائيل تعتبر تركيا عدوة، وبحسب تقارير ظهرت عبر الإعلام، فإن إسرائيل تضغط بشكل فاعل على الولايات المتحدة لضمان سلامة القواعد العسكرية الروسية الموجودة في سوريا، لأنها تفضل بقاء روسيا في وجه تركيا، كما تتمنى لسوريا أن تظل دولة لامركزية ضعيفة.
هذا ولم تكتف إسرائيل بالإعلان عن عزمها على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا في المستقبل المنظور، بل سعت أيضاً إلى تمتين علاقاتها مع الطائفة المقيمة في المنطقة الحدودية ومع الكرد أيضاً، إذ بنهاية شهر شباط عام 2025، طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنزع كامل للمظاهر العسكرية من ثلاث محافظات سورية تقع في الجنوب، وهي القنيطرة ودرعا والسويداء، وأعلن أن إسرائيل لن تتسامح مع أي وجود للجيش السوري في تلك المناطق، وفي بداية شهر آذار، وفي ظل الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين قوات الأمن التابعين للحكام الجدد والفصائل الدرزية الموجودة في ضاحية جرمانا القريبة من دمشق، هددت إسرائيل بتدخل عسكري دعماً للطائفة الدرزية، وفي أواسط شهر شباط، سمحت لوفد مؤلف من شخصيات دينية درزية بزيارة مواقع دينية وزيارة الطائفة الدرزية المقيمة ضمن الأراضي التي تخضع لسيطرة إسرائيل وذلك لأول مرة منذ حرب عام 1973. كما عرضت إسرائيل على الدروز منحهم مساعدات وفتح فرص العمل أمامهم.
الولايات المتحدة
لم تتضح بعد ملامح المسار الذي ستسير عليه الولاية الثانية لترامب مستقبلاً فيما يخص سوريا، كما أن واشنطن لم تعتبر قيام مناقشات بشأن سوريا أولوية بالنسبة لها، ولكن السياسة الأميركية قد تتغير فجأة، وقد يؤثر ذلك بشكل خاص على الوجود العسكري الأميركي في سوريا وعلى التعاون الأميركي مع قسد، إذ تشير أولى الإرهاصات إلى أن إدارة ترامب لا تركز على “الانتقال الجامع” لأن ما يهمها هو مصالحها الأمنية والجيوسياسية، كما أن أهم أهدافها تتمثل بضمان عدم تحول سوريا إلى “مصدر للإرهاب الدولي” إلى جانب ضمان أمن إسرائيل.
وفي الوقت ذاته، ظهرت تعقيدات عقب القرار الذي أصدرته إدارة ترامب بخصوص تعليق كامل المساعدات الخارجية الأميركية بصورة مؤقتة، والتي تشمل تلك المساعدات التي تقدم للمرافق مثل مراكز الاحتجاز أو المخيمات وعلى رأسها مخيما الهول والروج حيث يحتجز مقاتلو تنظيم الدولة مع عوائلهم. وفي الوقت الذي تم التوصل فيه إلى حل مؤقت لتعويض العناصر الأمنية التي تحرس تلك المقرات، بما أن رواتبهم كانت في السابق تصلهم عبر التمويل المخصص للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، فإن اضطرابات حادة قد تعقب ذلك في حال قطع الحوالات إلى أجل غير مسمى. ولقد أضر تعليق المساعدات الخارجية الأميركية بعمليات المفوضية العليا للاجئين بشكل كبير في سوريا كما أضر بعدد من المبادرات الخاصة بالمجتمع المدني السوري.
إيران
مع سقوط نظام الأسد، خسرت إيران نفوذها المباشر في سوريا، وصارت تحرص اليوم على التواصل مباشرة مع الحكومة المؤقتة في دمشق، إذ أعلن وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، بأن نهج إيران: “يقوم على سلوك الطرف الآخر”، ملمحاً إلى استعداد طهران لإحياء علاقاتها التي قطعها سقوط الأسد في حال سنحت لها الفرصة. بل حتى المرشد الأعلى، علي خامنئي، غير موقفه العدائي الذي أبداه في البداية تجاه الحكام الجدد لسوريا، فصار يركز الآن على المطالبة بـ”تحرير البلد من الاحتلال الأجنبي”، بيد أن دمشق لم تبد كبير اهتمام بإعادة العلاقات مع طهران، إذ حتى لو جرى إحياء تلك العلاقات، سيظل النفوذ الإيراني أضعف بكثير مما كان عليه من قبل، ونظراً لافتقار الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الموارد الاقتصادية التي بوسعها تقديمها كحوافز مهمة، يرجح لدورها أن يبقى محدوداً في سوريا، أما جهود إعادة الإعمار فستقودها جهات فاعلة تتمتع بموارد مالية أكبر تحت تصرفها.
من السيناريوهات المنطقية المطروحة بالنسبة لاحتفاظ إيران بنفوذها ذلك السيناريو الذي يرى بأن ذلك يمكن أن يتم عبر استغلال أي توتر طائفي، إذ يرجح لطهران أن تزيد من تواصلها مع الطائفة العلوية في غربي سوريا، كما يمكن للتقارير التي تتحدث عن اعتقالات وإعدامات طالت العلويين على يد فصائل تابعة لهيئة تحرير الشام أن تغذي أنشطة خلايا المقاومة التي يمكن لإيران أن تدعمها بالسر كوسيلة لممارسة الضغط، بيد أن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد وبشكل كبير على طريقة تعامل الحكام الجدد مع العدالة الانتقالية والديناميات الطائفية في سوريا.
وثمة نهج آخر مطروح وهو سعي إيران لتمتين علاقاتها مع قسد، إذ يمكن لتوقع الانسحاب الأميركي من سوريا أن يدفع قسد للبحث عن شراكات أخرى، وبحسب تقارير، فإن إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني، أجرى محادثات مع قائد قسد، مظلوم عبدي، في مدينة السليمانية العراقية في مطلع كانون الثاني لعام 2025، وقد قيل إن بافل طالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني هو من سهّل عقد ذلك الاجتماع. بيد أن عقد شراكة مع كرد سوريا لن يسمح لإيران بالاحتفاظ بنفوذها على الديناميات الداخلية لسوريا فحسب، بل بوسعه أيضاً الوقوف ضد النفوذ الإقليمي التركي مع كبح جماح العلاقات المتنامية بين إسرائيل والفصائل الكردية. غير أن الاتفاقية التي وقعت مؤخراً بين الحكومة التي تتزعمها هيئة تحرير الشام وقسد قد يتحول إلى مفتاح للعمل في هذا المضمار، إذ نظراً للشكوك المحيطة بتنفيذ الاتفاقية واحتمال تجدد التوتر بين القوات الكردية السورية من جهة ودمشق وأنقرة من جهة أخرى، يرجح لطهران أن تحافظ على فتح قنوات تواصل مع الكرد.
وأخيراً، قد تسعى طهران لإعادة تعريف دورها في سوريا عبر “المقاومة” المناهضة لإسرائيل، إذ بعد فترة قصيرة من الخطاب الذي ألقاه خامنئي في الثاني والعشرين من كانون الأول عام 2024، ظهرت جماعة لم تكن معروفة سابقاً، لكنها أطلقت على نفسها اليوم اسم: “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا”، وأعلنت أن هدفها هو طرد القوات الإسرائيلية من البلد، وهذا التطور قد يمد إيران بسبل جديدة للاحتفاظ بنفوذها في سوريا، إذ مثلاً، قد تعمد طهران إلى الاعتماد على قوات وكيلة جديدة أو إلى التحجج بـ”مقارعة الاحتلال” لتبرير تعاونها مع الحكومة السورية الجديدة.
نتائج وخيارات سياسية
لدى ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي مصلحة كبيرة في تأمين عملية نشر الاستقرار في سوريا وضمان عدم تشكيل هذا البلد لأي خطر على جيرانه وعلى أوروبا، لأن سقوط نظام الأسد قدم فرصة فريدة لتحقيق تلك الأهداف، إلا أن احتمال الخطأ ما يزال كبيراً، لأن النزاعات المسلحة قد تشتعل مرة أخرى في سوريا، وبدورها سوف تشجع العناصر الفاعلة الإقليمية والدولية على التدخل عسكرياً من جديد، وفي حال حدوث هذا السيناريو، فإن ذلك سيطيل أمد اقتصاد الحرب والاتجار بالمخدرات، وهذا ما سيدفع لظهور موجات نزوح جديدة، وفي الوقت ذاته، ستظل سوريا ملاذاً آمناً ومقراً لتجنيد العناصر ضمن تنظيم الدولة وغيره من الجماعات الجهادية.
ولهذا ينبغي على ألمانيا والاتحاد الأوروبي اقتناص هذه الفرصة التي ظهرت اليوم للمساهمة في نشر الاستقرار بسوريا، إلى جانب تنسيق نهجها بشكل وثيق ضمن عمل إطاري متعدد الأطراف، ويعتبر التعاون ضرورياً بشكل كبير مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ويجب أن ينصب الهدف على وقف تصعيد الخصوم الجيوسياسيين بدلاً من العمل على تأجيج هذا التصعيد، مع دعم وحدة الأراضي السورية وسيادتها على اعتبار ذلك أحد المبادئ الإرشادية ضمن هذا المضمار.
إن الإعلان عن حل حزب العمال الكردستاني من جهة، والاتفاق بين الحكومة السورية المؤقتة وقسد من جهة أخرى، يعتبر فرصة لحل التوتر في الشمال السوري، ولهذا لا بد من مراقبة تطبيق هذين الأمرين من كثب مع دعم العمليتين، وذلك لأن فشل أي منهما يمكن أن ينعكس بالسلب على الأخرى. وفي هذا السياق، من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف المشاركة فيهما، وعلى رأسها رغبة الكرد في الحصول على تمثيل يناسبهم في أي حكومة سورية مستقبلاً وكذلك رغبتهم في الحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة، إلى جانب مراعاة المخاوف الأمنية التركية ومصلحة دمشق في حل الفصائل وإنهاء السيطرة التركية على أجزاء من سوريا.
كما يجب على ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي العمل على ضمان تجديد التزام كل من إسرائيل والحكومة السورية الجديدة باتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة عام 1974، وهذا من شأنه أن يجبر إسرائيل على سحب قواتها من المنطقة العازلة ومن جبل الشيخ وإعادة المنطقة لسيطرة قوات مراقبة فض الاشتباك الأممية. كما بوسع برلين وغيرها من شركائها الأوروبيين وبالتشاور مع الولايات المتحدة، تسهيل التواصل بين القيادة السورية وإسرائيل للحد من خطر المواجهات العسكرية، بما أن التواصل أضحى ضرورة نظراً لانتهاء العمل بآلية التنسيق الروسية الإسرائيلية لتجنب الصراع في سوريا.
ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي تمهيد السبيل أمام زيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا التي دمرتها الحرب بعد سنين طويلة، وإن تحقيق تحسن سريع في الوضع الاقتصادي السوري يعتبر أمراً مهماً لنشر الاستقرار في البلد، إذ في أواخر شهر كانون الثاني، اتخذ مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي خطوة في الاتجاه الصحيح عندما صدّق على خريطة طريق من أجل تخفيف العقوبات بشكل تدريجي على القطاعات والمؤسسات في سوريا. وبنهاية شهر شباط، جرى تعليق بعض العقوبات الأوروبية المفروضة على قطاع الطاقة والنقل والقطاع المالي، على الرغم من أنها لم تُرفع بشكل كامل، إذ تعتبر تلك الإجراءات الأولية ضرورية لكنها ليست كافية، لأن العقوبات الأميركية ما تزال تمثل عائقاً رئيسياً أمام إعادة إعمار سوريا وتعافيها على المستوى الاقتصادي، ولذلك يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي أن يضغطا على واشنطن حتى ترفع تلك العقوبات، وفي حال بقيت تراوح مكانها، عندئذ يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي الخروج بآليات قابلة للتطبيق وذلك لدعم المساعدات الإنسانية ولتمهيد الطرق أمام التعافي الأولي للبلد، كما تجب إعادة توجيه الأصول المجمدة لنظام الأسد البائد نحو جهود إعادة الإعمار.
وفي الوقت ذاته، يجب أن تبقى العقوبات المفروضة على كبار الشخصيات التابعة لنظام الأسد وهيئة تحرير الشام، وقبل إخراج الهيئة من لوائح الإرهاب في ألمانيا والاتحاد الأوروبي ورفع العقوبات عمن يمثلوها، لا بد لهم من تحقيق شروط واضحة، إذ يجب على حكام دمشق الجدد أن يظهروا ابتعادهم بشكل حقيقي عن الحركة الجهادية، وذلك عبر تعزيز العلاقات الخارجية بشكل سلمي مثلاً، أو عبر منع قيام عنف على أساس طائفي، وفتح تحقيق في المجازر التي ارتكبت في آذار 2025 ومحاكمة مرتكبيها، والالتزام بإقامة عدالة انتقالية شفافة، واحترام لحقوق الإنسان.
ومن جانبهما، يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي أن يحجما عن الدفع نحو إعادة سريعة للاجئين السوريين المقيمين في أوروبا حالياً، إذ لا يكفي الالتزام بمبدأ العودة الطوعية الآمنة والكريمة، بل أيضاً يجب أن يحل في سوريا ما يكفي من الاستقرار حتى تصبح جاهزة لعودة مواطنيها. ويجب على السياسة الأوروبية أن تولي الأولوية لتمكين اللاجئين على الإسهام بطريقة بناءة ودائمة في إعادة أعمار سوريا، بما أن هذه المساهمة يمكن أن تتم من الخارج. وفي الوقت عينه، ينبغي على ألمانيا دعم مفوضية اللاجئين في تسهيل عمليات العودة الطوعية، وهنا تظهر الحاجة لظهور حل وسط ما بين مصلحة ألمانيا في نشر الاستقرار بسوريا ومصلحتها في قدرتها على ترحيل الإرهابيين والمجرمين على وجه الخصوص، إلى جانب قدرتها على ترحيل السوريين الذين لا يندرجون ضمن هاتين الفئتين.
هذا ويجب على جيش سوريا الجديدة أن يتولى مسؤولية محاربة تنظيم الدولة، بما أنه التزم بذلك من خلال الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع تركيا والعراق والأردن في مطلع شباط الماضي. أما مستقبلاً، فلا بد من مراعاة دور سوريا ضمن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وفي تلك الأثناء، سيتعين على دمشق معالجة مشكلة السجون والمخيمات التي احتجز فيها مقاتلو التنظيم مع عوائلهم. ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي تشجيع الولايات المتحدة على مواصلة دعمها لمحاربة تنظيم الدولة وتمويل مقار الاحتجاز، وفي الوقت ذاته، يجب على الدول الأوروبية أن تحرص على إجلاء مقاتلي تنظيم الدولة الذين يحملون جنسيات أوروبية حتى تجري محاكمتهم في أوطانهم.
وأخيراً، يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي دعم تشكيل حكومة جامعة قائمة على المشاركة بشكل فاعل وصياغة دستور دائم لسوريا يعكس تنوعها العرقي والديني، لأن ذلك لا يعتبر ضرورياً فحسب من أجل نجاح العملية مستقبلاً، بل أيضاً لمنع إيران من استغلال أي توتر طائفي أو عرقي لمد نفوذها في سوريا، ولهذا السبب وغيره، يجب أن تكون الأولوية المركزية لأوروبا منصبة على الإسهام بإقامة مصالحة اجتماعية وسياسية في سوريا.
* Stiftung Wissenschaft und Politik (SWP) هو المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وهو مركز أبحاث مستقل مقره في برلين، ألمانيا. يُعتبر من أبرز مراكز الأبحاث والاستشارات السياسية في أوروبا، ويُقدّم تحليلات ودراسات للحكومة الألمانية والبرلمان (البوندستاغ) حول القضايا الدولية والأمنية.
المصدر: Stiftung Wissenschaft und Politik
تلفزيون سوريا
——————————–
سوريا إلى أين؟/ بكر صدقي
تحديث 21 أذار 2025
من واكب التطورات السياسية في سوريا ما بعد نظام الأسد لا يخفى عليه تخبط المجموعة الحاكمة الجديدة أمام التحديات الهائلة التي خلّفها النظام المخلوع. بات وراءنا الآن أكثر من ثلاثة أشهر لم تسجل خلالها الإدارة الجديدة أي تقدم في أهم الملفات كالأمن والعدالة الانتقالية والسلم الأهلي وتفكيك الفصائل المسلحة وتوحيد الجغرافيا السورية والمجتمع السوري.
لقد انبهرت هذه السلطة بسرعة توليها السلطة في اثني عشر يوماً، وبالقبول العربي والإقليمي والدولي الواسع والسريع بها، كما بقبول غالبية اجتماعية قام قبولها على الالتفاف حول الإنجاز الكبير المتمثل في إسقاط النظام. وفي حين تدين السلطة لسرعة إسقاط النظام بظرف إقليمي استثنائي هو ارتدادات عملية «طوفان الأقصى» وتداعياتها الكارثية، قام القبول العربي ـ الإقليمي ـ الدولي على رغبة الدول المعنية باستعادة الاستقرار الذي طال غيابه 14 عاماً وتسبب بتداعيات خطيرة وصلت آثارها إليها، كمشكلات الإرهاب وتدفق اللاجئين والمخدرات والأعباء الاقتصادية المرتبطة بها. أما القبول السوري العام فكان أساسه الفرح العارم بسقوط النظام وما عناه ذلك من انفتاح الأفق أمام تأسيس جديد يقطع مع الماضي الكارثي، إضافة إلى الأداء المقبول لهيئة تحرير الشام وحلفائها أثناء عملية «ردع العدوان» وبخاصة في مناطق حساسة كحلب ودمشق وجبال الساحل، حيث لم تشهد المعركة عمليات انتقامية واسعة النطاق أو أعمال عنف على أساس طائفي أو تضييقاً واسع النطاق على الحريات العامة والخاصة.
غير أن كل ذلك راح ينقلب إلى تراجع في شعبية الفريق الحاكم بمرور الأيام، بدءاً بمسرحية «مؤتمر الحوار الوطني» الهزلية وصولاً إلى المجازر الطائفية في الساحل مع الأسبوع الأول من شهر آذار الجاري، وأخيراً إصدار الإعلان الدستوري الذي لاقى انتقادات واسعة، فطغى على المشهد السياسي غياب الثقة بين قطاعات واسعة من المجتمع لا تقتصر على العلويين أو الأقليات، مقابل ارتفاع منسوب العدوانية اللفظية لدى مؤيدي السلطة الجديدة في مواجهة أي نقد لمسالكها حتى فيما اعترفت بها هي نفسها وشكلت «لجنة تقصي حقائق» بشأنها. مجمل القول هو أن الرصيد الكبير (المشروط) الذي حصلت عليه السلطة الجديدة في الداخل والخارج آخذ في التآكل كل يوم مع تراجع الآمال التي عقدت على التحول الكبير الذي تمت المراهنة عليه.
لن أدخل في تفاصيل نقد الإعلان الدستوري الذي قام به كثر وشمل مختلف مفرداته، ولكن من الطريف الإشارة إلى بند يتعلق برئاسة الجمهورية حيث ورد فيه شرط يتعلق بدين رئيس الجمهورية من غير أي إشارة إلى جنسيته، ربما لأن اللجنة الدستورية التي عينها الشرع لم تخطر ببالها هذه الثغرة الخطيرة حتى لو تعلقت باحتمال قريب من الصفر. فوفقاً لهذا الشرط يمكن لأي مسلم أن يشغل منصب رئاسة الجمهورية حتى لو كان غير سوري الجنسية، مع العلم أن هيئة تحرير الشام وفصائل جهادية أخرى فيها أعضاء أجانب من جنسيات مختلفة، وبينهم من تم تجنيسهم على عجل وبصورة غير معلنة!
لعل غموض أجندة الفريق الحاكم، وبخاصة قائده أحمد الشرع، في مسائل أساسية كشكل الدولة ونظام الحكم وغيرها، هو ما شجع كثيرين على المراهنة على تغيير لا بد أن يطال برنامجهما الأيديولوجي المعروف القائم على الفكر السلفي والنزعة الطائفية السنية. لكن هذا الغموض لم ينجلِ في الفترة المنصرمة إلا عن أسوأ الكوابيس التي استبعدها السوريون، فتفجر العنف الطائفي واتضحت الميول السلطوية والإقصائية من غير أن يظهر ضوء في نهاية النفق حتى لو كان طويلاً بحكم حجم المشكلات الهائل وضعف وسائل معالجتها.
وعلى رغم هذه المؤشرات المقلقة، يبقى أن السلطة ما زالت ضعيفة وهشة (وهذا بدوره مقلق) وخاضعة لاشتراطات كثيرة أغلبها للأسف خارجي، ستكون مرغمة على التعاطي الإيجابي معها لاستكمال شرعيتها المنقوصة، ولحل مشكلة العقوبات المفروضة على سوريا التي لا تسمح بإطلاق عجلة الاقتصاد، ولا يمكن للسلطة أن تحافظ على ما تبقى لها من شعبية قبل ذلك.
تطفو على السطح، في الحراك الاجتماعي السوري، مشكلة «المكوّنات» التي فشلت السلطة في إدماجها لأنها لم تر في السوريين إلا مكوّنات طائفية وعرقية وثقافية وسعت إلى التحايل عليها بدلاً من معالجتها بروح وطنية. بدا الاتفاق الذي وقعته السلطة مع قسد وكأنه «تاريخي» في أعقاب مأساة أهل الساحل، لكن الإعلان الدستوري بالصورة التي صدر بها قد أضعف من تاريخيته المحتملة، فلا رضيت عنه قسد ولا تيار وازن من دروز السويداء بقيادة الشيخ حكمت الهجري.
لا يمكن للمغمغة بشأن ديمقراطية الدولة وعلمانيتها، وهما شرطان لازمان لقيام دولة في سوريا تمثل جميع مواطنيها، أن تؤسس لهذه الدولة المأمولة، حتى لو تجنب أركان السلطة الكلمتين بذاتهما بحكم الإيديولوجيا التي تحكم تفكيرهم. ما لم تمض السلطة في هذا الاتجاه، ولو بخطوات بطيئة، نخشى سيناريوهات كارثية كتقسيم البلاد أو الحكم بالعنف المعمم مع شعبوية قاتلة. ويحتاج الفريق الحاكم إلى تحالف عريض مع فئات اجتماعية واسعة ليتمكن من تأسيس شرعيته. في حين أن الاستفراد بالسلطة والعجز عن تفكيك الجماعات المسلحة وتوحيد مناطق البلاد هو السائد إلى الآن. سوريا ليست بخير.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————-
الأطماع التوسعية لإسرائيل في سوريا/ حنان البلخي
21/3/2025
تواصل إسرائيل تعزيز وجودها العسكري على قمة جبل الشيخ، التي تُعدّ واحدة من أهم النقاط الإستراتيجية في جنوب غرب سوريا. وتثير هذه التحركات غير المسبوقة تساؤلات حول النوايا الحقيقية لتل أبيب في المنطقة.
فعلى الرغم من تبريرها هذه الخطوات بدعوى “تعزيز الأمن”، فإن الواقع يشير إلى سياسة توسعية تهدف إلى فرض واقع جيوسياسي جديد.
لم تقتصر إسرائيل على إنشاء مواقع عسكرية إستراتيجية على قمة جبل الشيخ، تمنحها تفوقًا استخباراتيًا وعسكريًا على الحدود السورية- اللبنانية، بل أعلنت أيضًا رفضها وجود أي دفاعات قد تُهدد أمنها.
وقد تزامن هذا الإعلان مع خططها لإقامة منطقة منزوعة السلاح داخل الأراضي السورية بعمق 65 كيلومترًا في الجنوب. ورغم أن فكرة المنطقة منزوعة السلاح ليست جديدة، فإن استغلال إسرائيل الظروف التي تمرُّ بها سوريا في مرحلة التعافي، يثير الكثير من التساؤلات حول أهدافها الحقيقية.
التحركات الإسرائيلية تتعارض مع مزاعمها بحماية الأمن والتصدي للتهديدات المحتملة، إذ يبدو أنها تستغل الفراغ الأمني في سوريا لتحقيق مكاسب إستراتيجية.
فمنذ سقوط نظام الأسد، شنّت إسرائيل ضربات على المعسكرات والمواقع العسكرية السورية، مستهدفة مصانع الأسلحة ومراكز إنتاجها؛ خوفًا من وقوعها في أيدي الثوار.
وعلى الرغم من تصريحات الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، التي أكد فيها أنه لا يسعى إلى أي مواجهة مع إسرائيل بل يعمل لتحقيق السلام، فلا تزال تل أبيب تدّعي أن تحركاتها العسكرية تأتي لدواعٍ أمنية.
تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، التي تحدث فيها عن “مراقبة” الرئيس السوري من قمة جبل الشيخ، تؤكد أن إسرائيل تسعى إلى ترسيخ وجود عسكري دائم في المنطقة، وليس مجرد إجراءات أمنية مؤقتة.
لم تقتصر السياسة الإسرائيلية على تعزيز مواقعها العسكرية، بل امتدت إلى محاولات التدخل في الشؤون الداخلية السورية، خاصة من خلال التغلغل في صفوف الطائفة الدرزية، لا سيما في السويداء.
فقد أشارت تقارير صحفية إلى أن إسرائيل تحاول استمالة الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، عبر إغراءات مالية وسياسية بملايين الدولارات، بهدف تقويض وحدة الدولة السورية ودفع الدروز إلى الانفصال عن دمشق.
هذه التحركات تعكس إستراتيجية تل أبيب في استغلال مسألة “حماية الأقليات” لتعزيز نفوذها الإقليمي.
ظلّت جبهة الجولان هادئة لعقود تحت حكم الأسد، وهو ما فسّر الموقف الإسرائيلي الذي فضل بقاءه في السلطة، رغم امتلاكه أسلحة كيميائية استخدمها ضد المدنيين. ومع سقوط النظام، تبنّت إسرائيل نهجًا أكثر عدوانية، من خلال تكثيف هجماتها العسكرية في محاولة لإضعاف جهود إعادة بناء الدولة السورية.
تخشى إسرائيل من تصاعد الدور التركي في سوريا، وتخشى أيضًا من قيام حكومة سورية قوية متحالفة مع أنقرة. وهذا دفعها إلى تبني سياسة “فرق تسد” واللعب على وتر الطائفية لتعزيز الانقسامات الداخلية، خصوصًا بعد أحداث الساحل.
فقد عملت على نشر الفتنة الطائفية من خلال حملات تضليل إعلامي على منصات التواصل الاجتماعي. كما سعت إلى دعم قوات سوريا الديمقراطية في الشمال، من خلال الضغط لبقاء القواعد الأميركية في سوريا.
كما حاولت كسب دعم الدروز، مستغلةً الزعيم الروحي للدروز في الجولان المحتل، الشيخ موفق طريف. وقد فتحت الحدود أمام الدروز الراغبين في زيارة الأراضي المحتلة، وحرصت على تنظيم رحلات عبر حافلات إسرائيلية لنقلهم لزيارة مقام النبي شعيب. قبل ذلك، هددت إسرائيل بالتدخل لصالح الدروز في جرمانا.
لكن طموحات إسرائيل في تقسيم سوريا اصطدمت برغبة الشعب السوري في الحفاظ على وحدة وطنه، حيث رفضت الغالبية العظمى من السوريين من جميع الطوائف التدخل الإسرائيلي، كما اصطدمت هذه الطموحات بتحركات الحكومة السورية الجديدة.
وقد اتخذت الإدارة السورية الجديدة خطوات حاسمة لإفشال المخططات الإسرائيلية، من بينها توقيع اتفاق مع “قوات سوريا الديمقراطية” يقضي بدمج القوات الكردية في الجيش السوري وتسليم المؤسسات الرسمية وحقول النفط للدولة.
كما عملت دمشق على احتواء تمرد فلول النظام في الساحل، وملاحقة المتورطين في المجازر الأخيرة. بالإضافة إلى ذلك، بادرت الحكومة بفتح حوار مع وجهاء السويداء ونشطاء الطائفة الدرزية لتعزيز وحدة البلاد ومنع أي محاولات خارجية لاستغلال الخلافات الداخلية.
على الرغم من هذه الإجراءات، فلا تزال التحديات قائمة، ما يتطلب تضافر الجهود بين السوريين لدعم حكومتهم في مواجهة التهديدات الخارجية.
ومن الضروري أن تتحرك الإدارة السورية الجديدة بسرعة لحماية البلاد من أي تدخل إسرائيلي محتمل. ويُعدّ توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع تركيا، والسماح لها بإقامة قواعد عسكرية في وسط وجنوب البلاد، خطوة إستراتيجية لتعزيز الموقف العسكري السوري، وتقليل خطر التدخل الإسرائيلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
صحفية، وممثلة سابقة للائتلاف السوري المعارض في أوسلو
الجزيرة
———————————
——————————————-
=====================