عن ضَعف المواطنة في سورية/ عمر الشيخ

20 مارس 2025
تعيش سورية اليوم مرحلة انتقالية حرجة، حيث يبرُز تحدّي المواطنة المتصدّعة، نتيجة تفتت النسيج المجتمعي، حجر عثرة أمام أي تغيير جذريّ. لطالما ترسّخ في ذاكرة السوريين كيف استبدل نظام الأسد مفهوم المواطنة بولاءات ضيقة، عمادها الطائفيّة، والعشائريّة، والانتماء الحزبي، ما أدّى إلى تعميق الانقسامات المجتمعيّة، وإضعاف فكرة الدولة الجامعة. وفي خضم هذه التحولات السياسية المُتسارعة، يبقى التحدّي الأكبر في بناء نموذج جديدٍ للمواطنة، يتجاوز مخلّفات الاستبداد والتفرقة. فقبل تسلّم نظام الأسد السلطة، كانت سورية تتمتع بمستوىً لا بأس به من التعدّدية السياسية، والتنوع الثقافيّ، مع دستور يضمن الحريّات العامّة، ولكن هذا تغيّر جذريّاً. عمد النظام بعد ترسيخ سلطته إلى تقسيم المجتمع السوريّ عبر التمييز المُمنهج، مما أدّى إلى تهميش فئات مقابل منح امتيازات لأخرى، وفق اعتباراتٍ مناطقيّة وسياسية. ولقد بلغت نسبة التهجير في عهد النظام السابق ما يقارب 10% من التركيبة السكانية الطبيعية للمدن، وكانت المناصب الحكومية المهمّة مقتصرة على فئة معينة من المجتمع.
وعقوداً طويلة، تحوّل مفهوم المواطنة في سورية إلى مفهوم ضبابي، حيث أصبحت الدولة أداةً للهيمنة، بدلاً من أن تكون حاضنة لجميع مواطنيها. لقد جرى حصر الفُرص في دائرة الولاء للنظام، بينما مُنعت قطاعاتٌ واسعةٌ من المشاركة السياسية والوصول إلى مراكز صنع القرار. وتجسّد هذا النهج القمعي بوضوح في مجازر الثمانينيات، خاصة في حماة، حيث سحق القمع العسكريّ العنيف أي محاولةٍ للمعارضة في جميع أنحاء البلاد. وكان القمع مكوّناً أساسياً في بنية النظام الذي فرض قوانين الطوارئ، وقيّد الحريّات، وحوّل الدولة إلى جهاز أمنيّ مهمّته إخضاع المجتمع، بدلاً من خدمة بنائه ورفاهيته. ففي الثمانينيات، جرى اعتقال أكثر من عشرة آلاف معارض سياسي، وقتل ما يزيد على الأربعين ألف مواطن في حماة وحدها. كما أن النظام السابق أنشأ شبكة تجسّس ورقابة واسعة، للتضييق على الحريّات العامّة، وملاحقة المعارضين في كلّ مكان، ومنع أي شكل من العمل السياسيّ الحرّ.
ومع انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، صعّد النظام من وتيرة عنفه بشكلٍ غير مسبوق، فاستخدم القصف العشوائي الذي طاول المدن والقرى، ونفّذ حملات اعتقالٍ جماعيٍّ طاولت الآلاف، ومارس التعذيب الممنهج في سجونه، وأخفى قسراً أعداداً كبيرة من المواطنين، فضلاً عن تهجير الملايين قسراً من ديارهم. ولم يكتف النظام بقمع الاحتجاجات الداخلية، بل استدعى تدخّلات إقليمية ودولية لضمان بقائه في السلطة، ما فاقم من تفتّت الدولة والمجتمع، وزاد من حدّة الانقسام بين السوريين. وهكذا، لم يكن تدهور المواطنة مجرّد أثر لعقود من الاستبداد، بل تحوّل إلى كارثةٍ حقيقيةٍ خلال الحرب، حيث أصبح الوطن ساحة صراعٍ مفتوحة، تحكُمها قوانين الغلبة والقوة، بدلاً من سيادة القانون واحترام الحقوق والعيش المشترك. فمثلاً، تعرّضت حمص وحدها للقصف العشوائي بمعدل 50 برميلاً متفجراً يومياً خلال عام 2012. ووصلت أعداد المهجّرين قسرياً إلى ما يقارب الستة ملايين سوري. وسع النظام سياسات التفرقة لضمان استمراريته، ما أدّى إلى تعميق الانقسامات المجتمعية، عبر تمييز بعض الفئات على حساب أخرى. وتحوّلت الدولة إلى مجرّد غطاءٍ لسلطة الأجهزة الأمنية، أصبحت المؤسّسات التشريعية والتنفيذية هياكل شكلية تنفذ أوامر النظام. ولم يكن القضاء مستقلاً، بل خضع لإملاءات السلطة، وتحوّلت الإدارات الحكومية إلى أدواتٍ لخدمة الولاءات الضيقة، وبقيت أجهزة المخابرات فوق القانون، تتحكّم في حياة الأفراد عبر شبكة واسعة من الرقابة والقمع. ولقد مارست الأجهزة الأمنية أبشع أنواع التعذيب في السجون، حيث وثقت منظمات حقوق الإنسان استخدام ما يزيد عن 20 نوعاً من التعذيب الجسدي والنفسي.
ومع تصاعد الثورة، اعتمد النظام سياسة تغيير ديمغرافيّ ممنهج، بمنح الجنسية للمقاتلين الموالين، وتهجير خصومه قسرياً عبر الحصار والتجويع، كما حدث في حمص وداريا والغوطة وريف حمص. لم يكن الهدف عسكرياً فقط، بل إعادة هيكلة التوزيع السكاني لضمان بقائه، حتى لو كان على حساب المواطنة الجامعة. ولقد جرى تجنيس ما يزيد عن خمسة آلاف مقاتل أجنبي من جنسيات مختلفة، وأجبر ما يزيد على 12 مليون سوري على النزوح والتهجير.
لقد تحوّلت سورية خلال الثورة إلى ساحة صراع إقليميّ ودوليّ، حيث دعمت روسيا وإيران نظام الأسد عسكرياً، وقدّمت تركيا ودول أخرى دعماً متبايناً للمعارضة، ما أدّى إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ متصارعة. ونتيجة للحرب والفساد والعقوبات، انهار الاقتصاد، وتدهورت قيمة الليرة، وارتفعت معدلات الفقر، مما دفع الملايين إلى الهجرة، فيما اعتمد من بقي على الروابط العائلية والمناطقية لمواجهة انهيار الخدمات، في ظل دولة لم تعد تمثل مواطنيها، تحكمها المصالح والولاءات المفروضة بقوة السلاح، لقد كشفت الدولة عن حقيقتها وأولوياتها في حماية مصالح قادة النظام. لقد تجاوزت نسبة الفقر بين السوريين حاجز الـ 80%، كما تدهور القطاع الصحي، وأصبحت قطاعات واسعة من المشافي عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية.
لم يكن ضعف المواطنة في سورية وليد الثورة، بل تراكم عبر عقودٍ من الإقصاء والاستبداد. ومع أي تحوّلٍ سياسي قادم سيكون التحدي الأكبر بناء دولة تضمن المساواة أمام القانون، بعيداً عن الخوف والتمييز ردّ فعل على العنف المتوارث في الحكم. يتطلب ذلك دستوراً يعكس حقوق جميع السوريين، ويؤسّس لفصل السلطات، استقلال القضاء، وضمان الحريات الأساسية، بحيث لا يُستبدل استبداد بآخر.
ولا يكفي إقرار الحقوق نظرياً، بل يجب ضمانها بمؤسّسات محايدة لا تخضع لحزبٍ أو طائفة، وتكفل تكافؤ الفرص للجميع. كما أن تحقيق العدالة الانتقالية ضروري لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، من دون أن يتحوّل إلى انتقامٍ يعيد إنتاج الصراع. لجان تحقيق مستقلة وكشف الحقائق بإنصاف هما السبيل لمصالحة وطنية تمنع ترسيخ الكراهية وتؤسس لوطن يسوده العدل.
ولا يمكن تحقيق تحول ديمقراطي مستدام من دون بيئة سياسية تتيح حرّية التعبير والمشاركة الفعالة في صياغة المستقبل. في هذا السياق، يصبح الحوار الوطني ضرورة وطنية مستدامة لتعزيز الوعي السياسيّ، وتجاوز الانقسامات، وتعزيز ثقافة التعددية والمحاسبة والمسامحة بدلاً من الإقصاء والتخوين. دعم هذه الحوارات بمؤسسات مستقلة وآليات شفافة سيضمن بناء مناخ سياسيّ صحيّ، يُعيد الثقة بين السوريين، واستمرار الحوارات وقتاً أطول سوف يقلّل من سوء الفهم العام بين شرائح المجتمع السوري، بحيث لا نكتفي بمؤتمر عابر للحوار لتجاوز عقود من الحرمان السياسي والعمل المجتمعي الحرّ.
لقد ظل الدستور في سورية أداة بيد السلطة، من دستور 1950 الذي كفل التعدّدية، إلى دساتير “البعث” التي رسّخت حكم الحزب الواحد. ومن شأن إعادة صياغته اليوم أن تعكس الإرادة الشعبية، وأن تؤسّس لدولةٍ مدنيةٍ تضمن المساواة لجميع السوريين، مع آليات تحصّنه من التلاعب السياسي. ويرى كاتب هذه السطور أن الدستور الجديد يمكن أن يقوم على فصل السلطات، استقلال القضاء، وحماية الحريات بوصفها حقوقاً غير قابلة للتفاوض. كما ينبغي تحصين الحياة السياسية من تدخل العسكر، تفادياً لتكرار تجارب الماضي حيث جرى تقويض الديمقراطية تحت ذريعة الاستقرار. لتحقيق تحوّل حقيقي، لا بد أن يكون الدستور انعكاساً لتوافق وطني واسع، يضمن عدم إعادة إنتاج الانقسامات التي مزّقت سورية عقوداً.
لا مواطنة حقيقية من دون عدالة اجتماعية. يتطلّب ذلك سياسات تنموية تعيد توزيع الموارد بشكلٍ مُنصف، وتنهض بالمناطق المهمّشة، مع تحسين الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والبنية التحتية. تبدأ استعادة ثقة الناس بالدولة بضمان شراكتهم الفعلية في إعادة البناء، عبر اقتصاد يحقّق تكافؤ الفرص ولا يعيد إنتاج الفساد والتمييز.
يتطلب تعزيز المواطنة في سورية إصلاحاً جذرياً يعيد هيكلة مؤسّسات الدولة على أسسٍ قانونيةٍ تكفل العدالة والمساواة. كما أن تطوير التعليم والإعلام ضروريٌّ لنشر ثقافة المواطنة وتعزيز الوعي المدني، في حين تُعد المشاركة السياسية والمجتمعية ركيزة أساسية لبناء ديمقراطية حقيقية. وبالتوازي، لا يمكن تحقيق مواطنة متساوية من دون تنميةٍ اقتصاديةٍ تُحقق تكافؤ الفرص وتوزيعاً منصفاً للموارد. بهذه الأسس، يمكن لسورية تجاوز إرث الاستبداد وبناء دولة حديثة تحتضن جميع مواطنيها بحق.
لا تُبنى المواطنة بتغيير الأنظمة وحده، بل بتعزيز وعي جمعي يؤمن بالحقوق والمسؤوليات، ويقطع مع إرث الإقصاء والغلبة. وبالنتيجة، لا نهضة من دون دولة تحترم مواطنيها جميعاً، ولا تغيير حقيقياً إذا بقيت الذهنيات ذاتها.
العربي الجديد