أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالتدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

ملاحظات/ وائل طربية

في بداية كل نقاش، لا يختلف معظم السوريين على المقدمات – وهي لا تستغرق الا الدقائق الأولى على كل حال – في وصف حال البلد المنكوب والمدمر، وفي وصف إرث الخراب والمجتمع المفخّخ الذي أنتجه حكم الطغاة على مدى ستة عقود؛

خراب الدولة والمؤسسات والحياة العامة والنسيج المجتمعي وعيش الناس.

ويتفق معظمهم على أن الخراب المعنوي المتأتّي من الظلم، طال البنية الذهنية والنفسية للبشر أنفسهم، وحفر في ذاكرتهم رضّات لا تشفيها الأيام، فلطالما حشر الاستبداد محكوميه – بالإفقار والإذلال والقمع والترهيب والتعذيب والتنكيل المديد بالمعارضين – في مسالك الخضوع والنفاق والتملق الكاذب والرشوة والاختلاس والنهب والاستزلام للأقوياء والنافذين.. وأنّها مسلكيّات قهريّة وفي وجه منها، آليات دفاعيّة قسريّة الطابع، للاحتماء وتجنب شرور أزلام الطغمة الحاكمة وتأمين أساسيات العيش.

في ظاهر السلوك تشوّهت الأخلاق، وفي لبّ النفوس استُنقِعت الكراهية والحقد والغضب المكتوم.

وقد يوافقونك الرأي، أنّ الثورة في بداياتها النبيلة غسلت أرواح الثائرين من كل تلك الأدران وأخرجت أجمل وأروع ما فيهم، إلّا أنّ التغوّل في القتل والإبادة وانجرار المحكومين إلى العنف المضاد وتعثّر الثورة وامتداد الصراع لأكثر من عقد، خلق حالة من التفسّخ والتعفّن على كلّ المستويات.

ليس مهماً إذا كنت تتّفق مع هذا التوصيف أو مع أجزاء منه أو تعترض عليه. المهم أن إجماع السوريين على “سوء أوضاع البلد وبؤس الناس” لا يبقى في الذهن طويلاً ولا يُؤَسَّس عليه الجدل الذي يليه مباشرةً، إذ يبدو الجدل العنيف المقرون أحياناً بالشتائم والتنمّر والشخصنة والتحريض والتحقير شكلاً من أشكال حرب أهليّة بمذاق طائفيّ مقيت.

تكمن المفارقة في حقيقة الاتفاق على المقدّمات الوصفيّة الجذريّة من جهة، وتغييبها تماماً ولحظيّاً عند الانتقال للكلام السياسي عن القضايا الخلافية من جهة ثانية. ويتجسّد هذا الصدع بوضوح بين تيارين عامّين متقابلين، يحتلّان معظم مساحة الجدل العام، فيما يتبلور تيار ثالث، يحاول أصحابه شق دربهم بين التيارين المتنافرين..

الأول تيار عريض أكثري، لم يرتوٍ بعد من بهجة الخلاص من سنوات العذاب، قوامه الأساسي عوائل الطبقات الفقيرة لمجتمع الثورة التي تشردت وكبر أبناؤها في مخيمات اللجوء، وأهالي المغيبين قسراً والمفقودين، ومعهم مثقفون وأكاديميون مؤدلجون. يناصر هذا التيار السلطة الحالية بشكل مطلق؛ ويخاف من ضياعها، فهي، بالنسبة له، التجسيد المباشر لانتصار الثورة؛ يبرّر خياراتها ويتفهّم عثراتها، ولا تطيق نفسه سماع نقد شديد لها أو اعتراض حادّ على سلوكها أو أخطائها. ويرى في شخصية رئيس الجمهورية الحالي أحمد الشرع المحرّر والبطل المنقذ والمنزّه عن النقد. ينضوي هذا التيار تماماً تحت مظلة الحكم الجديد ويعتبر المشككين بشرعيّة السلطة الجديدة أقلويين خبثاء أو شبيحة سابقين أو خونة وعملاء.

وللإنصاف، في خلفية هذه الجموع مظلومية محقّة لم تأخذ حقّها بعد، عبر محاسبة ومقاضاة من أجرم بحقّ مجتمع الثورة وتسبّب بمعاناة وتشريد ملايين السوريين. فقط إجراءات جدّيّة في مسار العدالة والمحاسبة والمصالحة كفيلة بتحرير نفوس الناس من المخزون العنفي للغلّ والحقد والغضب المعتّق بفعل الظلم والمعاناة المديدين، وكفيل كذلك بتحرير الفعل السياسي الحبيس إلى فضاءات التشاركيّة والسير في مشروع المواطنة.

التيار الثاني نقيض الأول، أقلوي بسمته العام، وبرغم احتفائه بالخلاص من نظام الأسديين، إلا أنه غير راض عن البديل الذي حمله التغيير إلى السلطة، منذ لحظاته الأولى. ضمن هذا التيار روافد وتلاوين متعدّدة، من بينها أقلويون وطائفيون بالفعل والفكر ومثقفون وفنانون وأكاديميون ومومياءات يساريّون ومناصرون للثورة عن بعد – معظمهم لم يكابد معاناة القتل والتشريد وحياة الخيام – وبقايا من موالين للنظام البائد. السمت العام لهذا التيار المتنوع هو الموقف القطعيّ المعادي للسلطة الحالية، وحتى من قبل أن تقع في أولى أخطائها.

ينبني موقف معظم تلاوين هذا التيار أساساً على أن جبهة النصرة وقائدها أحمد الشرع والفصائل المتحالفة معها، إرهابيون لا يختلفون بالجوهر الاستبدادي عن نظام الأسد البائد، وأنّها تسلمت مقاليد السلطة في البلد بتوافق – أو مؤامرة – لقوى اقليمية ودولية، وبالتالي فهي حكماً عميلة وستخدم مصالح تلك القوى وليس مصالح الوطنية السورية.

التناقض الأبرز في أوساط هذا التيار هو معاداته للسلطة الجديدة بوصفها إسلامية جهاديّة وذات تاريخ دمويّ، ومطالبتها، في ذات الوقت، بالسير في العملية الانتقالية وفق رؤية علمانية وديمقراطية، بمبادرة تخرج عنها وليس كنتيجة لعمل سياسي ضاغط عبر انخراط القوى المعارضة لها على أرض الواقع والتي، من المفترض، أن تسعى لإحداث التغيير وتقويم المسار.

يتصيّد هذا التيار عثرات السلطة الجديدة ويحتفي بها لأنها تؤكد صوابيّة موقفه المسبق ولا يتقبّل نهائياً الأفكار المهادنة أو الوسطية معها، وإذا بدر من السلطة الجديدة عمل طيب فهو يعتبره خداعاً عابراً ريثما تُحكم قبضتها على الحكم.

أما التناقض القاتل في خطاب هذا التيار فيتجلى في أنّ أبرز ممثليه ينطبق عليهم ما يجبّونه في قيادة السلطة الجديدة، وربما أكثر. فإذا كان تاريخ أحمد الشرع – بالرغم من تحولاته الدراماتيكية – يبرّر التخوّف منه، فتاريخ مظلوم عبدي في الجزيرة السورية ليس بأفضل منه حالاً، ولا تاريخ الشيخ الهجري الذي كان موالياً صريحاً للأسد وكال له المدائح في آخر انتخابات، وظل واقفاً في صفّه، ولم ينقلب عليه إلى أن تعرّض لإهانة شخصية من أزلام النظام في آخر أيامه، ومع بدايات حراك السويداء السلمي.

يرفض هذا التيار فكرة الانضواء تحت مظلة السلطة الجديدة أو الدخول في تفاوض معها على تفاهمات بينية إلّا بعد تحقيق كل اشتراطاته. ولكن المقلق أكثر، في خطابه الحادّ، أنه يغذّي العداء المتبادل والمتصاعد بين عموم السوريين، خصوصاً عندما تصل بعض تلويناته إلى الدعوة لإسقاط السلطة الجديدة ولو كان مؤدى ذلك الفوضى والاقتتال الأهلي وتعزيز أشباح التقسيم التي تؤرّق كل قلق غيور على وحدة الكيان السوري.

وللإنصاف أيضاً، فإنّ الادعاءات النظرية، على الأقل، لهذا التيار لها وجاهتها، خصوصاً فيما يتعلق بالخطوات المتعجّلة التي أقدمت عليها السلطة مثل مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري وانفلات عنف الفصائل الذي أدى إلى مجازر دمويّة بحقّ المدنيين الأبرياء من أهل الساحل.

وهنا، أيضاً وأيضاً، فقط اجراءات جذريّة من قبل السلطة الجديدة – للمفارقة يجب أن تتجاوز فيها ذاتها – ترسل عبرها رسائل طمأنة وتفتح الباب أمام تشاركيّة حقيقيّة في مسار مشروع المواطنة، قادرة على تبريد الرؤوس الحامية ضمن هذا التيار.

وبين هذا وذاك يتبلور تيار وطني؛ عقلاني وواقعي.. لا تغيب عن ذهنه المقدمات التي تصف واقع الحال، قوامه مثقفون وكتاب وناشطون ومشاركون أساسيون في البدايات السلمية للثورة.. وناس عاديّون ينخرطون في معارضة ونقد السلطة، بدون مواربة ولكن بدون عداء، ويؤسّسون لخطاب وحياة سياسية سويّة.. يعرفون جيداً أن سوريا التي في المخيال، يعترض تحقُّقها تحديات هائلة وتعمل على إفشالها قوى عديدة، وأن المسؤولية الوطنية تتطلب الانخراط قدر الامكان ومحاولة التأثير في المسار الانتقالي وبناء هياكل الدولة السورية الناشئة. يجادلون، يكتبون، يختلفون ويتغيرون.

روحيّة هذا التيار، الذي يؤمل أن يتوسّع ويتمدّد، تقول:

بالنقد المشفوع بالود

بالمعارضة المشفوعة بالمؤازرة

وبالأمل المشفوع بالعمل

تُبنى الأوطان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى