أبحاثالأحداث التي جرت في الساحل السوريالتدخل الاسرائيلي السافر في سورية الجديدةدوافع وكواليس الاتفاق بين "قسد" وأحمد الشرعسقوط بشار الأسد، الرئيس الفار والمخلوع

من الانتقال السياسي إلى إعادة الإعمار.. معهد ألماني يقيّم سيناريوهات سوريا

ربى خدام الجامع

2025.03.19

قدم معهد الشؤون الدولية والأمنية الألماني* (Stiftung Wissenschaft und Politik)، تحليلاً معمقاً للوضع في سوريا بعد مرور أكثر من ستين عاماً على الديكتاتورية وأكثر من 13 عاماً على بدء الحرب، مع التركيز على التحديات الكبيرة التي تواجه الحكام الجدد للبلاد.

ويشير التقرير إلى أن سوريا تقف على مفترق طرق حاسم يتطلب معالجة قضايا معقدة تشمل الانتقال السياسي، والمصالحة الاجتماعية، وإعادة الإعمار الشاملة، والتحول الاقتصادي، وعودة اللاجئين والنازحين، بالإضافة إلى حل قضايا أمنية شائكة مثل نزع سلاح الفصائل ودمجها ومحاربة تنظيم الدولة والجماعات المسلحة الأخرى.

تحديات الحكم والسيطرة الإقليمية:

يُسلط التقرير الضوء على أن الحكومة المؤقتة برئاسة أحمد الشرع لا تسيطر على كامل الأراضي السورية، حيث لا تزال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية تسيطر على شمال شرقي سوريا، بينما تواصل تركيا سيطرتها على مناطق عدة في الشمال. وفي الجنوب الغربي، تحتل إسرائيل المنطقة العازلة وهضبة الجولان وجبل الشيخ، وتقيم نقاط تفتيش في المناطق المحيطة. ويستمر التقرير في بيان أن الاشتباكات المسلحة ما تزال دائرة في الشمال والشمال الشرقي بين الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً وقسد المتحالفة مع واشنطن.

يذكر المعهد أن الحكومة المؤقتة اتخذت خطوات لتسريح معظم جيش النظام المخلوع ومحاولة حل الفصائل ودمجهم في الجيش السوري الجديد، بما في ذلك قسد وفاصائل درزية. ومع ذلك، شهدت سوريا أعمال عنف طائفية عقب تمرد فلول للأسد، مما أسفر عن مقتل المئات وأكد على وجود ما سماه “عقيدة طائفية” وعدم انضباط في القوى الأمنية الجديدة، وهو ما يهدد عملية المصالحة.

التقدم السياسي المتعثر:

يشير التقرير إلى أن الإدارة الجديدة مضت قدماً في عملية الانتقال السياسي بتنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً وتأكيده على ضرورة أن تكون سوريا الجديدة وطناً للجميع. وقد تم تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني الذي جمع نحو 900 سوري لوضع إطار للعملية الدستورية. وفي بداية آذار، شُكلت لجنة لصياغة دستور مؤقت، وفي 13 آذار، وقع الشرع على إعلان دستوري يمتد لخمس سنوات، يحدد الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع ويطرح مبادئ فصل السلطات واستقلال القضاء والمساواة وحرية التعبير. ومع ذلك، أثار الإعلان الدستوري انتقادات من مختلف الطوائف بسبب عدم تعبيره عن التنوع العرقي والديني لسوريا والإبقاء على تسمية “الجمهورية العربية السورية” وجعل اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة واشتراط أن يكون الرئيس مسلماً. ويؤكد التقرير على أن تحقيق توازن بين توقعات التنوع ومواقف الجهات الفاعلة المختلفة يمثل تحدياً كبيراً.

يُوضح التقرير أن القيادة السورية الجديدة تسعى لإعادة تموضع سوريا على المستويين الإقليمي والعالمي بهدف كسر العزلة وإقامة علاقات ودية مع دول الجوار والحصول على دعم لإعادة الإعمار. وقد تواصل الشرع مع دول الخليج والدول الغربية، وهنأ ترامب على عودته إلى البيت الأبيض، معبراً عن أمله في إحلال السلام واقترح مناقشات مبكرة مع واشنطن. وفي حين حافظ على مسافة بعيدة عن إيران، أكد على أهمية العلاقات الطيبة مع روسيا وطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي المحتلة، مؤكداً على التزام دمشق باتفاقيات وقف إطلاق النار وعزمها على حل النزاعات سلمياً، مع توقع علاقات ودية مع تركيا بشكل خاص.

مصالح الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية:

يُفصل التقرير مصالح وأولويات وممارسات الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية وتأثيرها على عملية الانتقال في سوريا.

    تركيا: تسعى إلى محاربة سوريا لإرهاب (حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة)، والحفاظ على تنوعها العرقي والديني وإشراك جميع الأطراف في الحكم، وترغب في لعب دور فاعل في بناء سوريا قوية وموحدة بما يخدم مصالحها. تركز على مصالحها الأمنية وعرضت دعم إصلاح القطاع الأمني، وتسعى للتعاون مع سوريا والأردن والعراق لمحاربة تنظيم الدولة. كما دعت تركيا مقاتلي الفصائل السورية المتحالفة معها في الشمال للانضمام إلى الجيش السوري الجديد بهدف نزع سلاح قسد أو دمج عناصرها في الجيش السوري. وقد خلق إعلان عبد الله أوجلان عن حل تنظيمه أفقاً لتسوية بين تركيا وقسد، وتسعى تركيا لتعزيز التقارب بين قسد والمجلس الوطني الكردي. كما ترغب تركيا في لعب دور بارز في إعادة إعمار سوريا.

    دول الخليج (قطر والسعودية والإمارات): يُشير التقرير إلى أن قطر قد تلعب دوراً مهماً في السياسة السورية وكانت أول دولة تزور دمشق بعد سقوط الأسد وتعهدت بدعم إعادة الإعمار. أما السعودية، فيبدو أنها منفتحة على تحقيق انفراجة وترغب في منع سوريا من الاعتماد بشكل كبير على قطر وتركيا. بينما من المحتمل أن تبقى الإمارات على هامش التطورات بسبب معارضتها لهيئة تحرير الشام، لكنها قد تجدد علاقاتها مع دمشق إذا تبين عدم وجود أساس لمخاوفها.

    روسيا: غيرت سياستها من دعم نظام الأسد إلى محاولة السيطرة على الأضرار واستعادة نفوذها لتأمين مصالحها، وعرضت التعاون مع القيادة الجديدة. وقد صنفت هيئة تحرير الشام سابقاً كتنظيم إرهابي ثم وصفتها بـ”المعارضة السورية المسلحة” ثم “السلطات الجديدة”. ومع ذلك، قد تواجه روسيا صعوبة في تطبيع العلاقات بسبب مطالب دمشق بتسليم الأسد وجبر الضرر. وقد تراجعت قدرة روسيا على رسم شكل عملية الانتقال، لكنها ما تزال تحتفظ ببعض النفوذ السياسي وتأمل في أن يعوض وجودها العسكري والسياسي المتضائل تعاظم النفوذ التركي. وقد دعت روسيا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن وحذرت من صعود الحركة الجهادية وشبهت قتل العلويين والمسيحيين بالإبادة في رواندا، مما يدل على استعدادها لاستغلال أي توتر لمصلحتها.

    إسرائيل: يهمها أمنها القومي أكثر من العملية الانتقالية أو النظام السياسي الجديد، وتشعر بالقلق إزاء الخلفية المتطرفة للحكام الجدد وتعزز النفوذ التركي. وتضغط على الولايات المتحدة لضمان سلامة القواعد الروسية وتفضل بقاء سوريا دولة لامركزية ضعيفة. كما أعلنت عزمها على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا وسعت لتمتين علاقاتها مع الطائفة الدرزية والأكراد وهددت بالتدخل العسكري دعماً للدروز.

    الولايات المتحدة: لم تتضح بعد سياسة إدارة ترامب الثانية تجاه سوريا، لكنها تركز على مصالحها الأمنية والجيوسياسية وضمان عدم تحول سوريا إلى “مصدر للإرهاب الدولي” وأمن إسرائيل. وقد أثر قرار تعليق المساعدات الخارجية الأميركية مؤقتاً على المخيمات ومبادرات المجتمع المدني.

    إيران: خسرت نفوذها المباشر وتسعى للتواصل مع الحكومة المؤقتة، لكن دمشق لم تبد اهتماماً كبيراً بإعادة العلاقات. ومن السيناريوهات المطروحة لاحتفاظ إيران بنفوذها استغلال التوترات الطائفية أو تمتين علاقاتها مع قسد أو إعادة تعريف دورها عبر “المقاومة” المناهضة لإسرائيل وظهور جماعة “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا”.

نتائج وخيارات سياسية مقترحة من المعهد الألماني:

يُشدد التقرير على أن لألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي مصلحة كبيرة في استقرار سوريا ويجب عليهم اقتناص الفرصة والمساهمة في ذلك بتنسيق نهجهم ضمن إطار متعدد الأطراف والتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج. ويدعو إلى مراقبة ودعم تطبيق إعلان حل حزب العمال الكردستاني والاتفاق بين الحكومة المؤقتة وقسد. كما يرى ضرورة العمل على تجديد التزام إسرائيل والحكومة السورية الجديدة باتفاقية وقف إطلاق النار لعام 1974 وتسهيل التواصل بينهما.

ويؤكد التقرير على أهمية تمهيد السبيل لزيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا، مشيراً إلى أن تخفيف العقوبات الأوروبية خطوة أولى ضرورية لكنها غير كافية، ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي الضغط على واشنطن لرفع العقوبات الأميركية أو إيجاد آليات بديلة لدعم التعافي. ويشدد على ضرورة بقاء العقوبات على كبار الشخصيات التابعة للنظام السابق وهيئة تحرير الشام حتى تلتزم بشروط واضحة مثل الابتعاد عن الحركة الجهادية ومنع العنف الطائفي والتحقيق في المجازر واحترام حقوق الإنسان.

كما يحذر التقرير من الدفع نحو إعادة سريعة للاجئين السوريين ويدعو إلى تمكينهم من المساهمة في إعادة الإعمار من الخارج. ويؤكد على مسؤولية الجيش السوري الجديد في محاربة تنظيم الدولة وضرورة معالجة مشكلة السجون والمخيمات، مع تشجيع الولايات المتحدة على مواصلة دعم جهود مكافحة التنظيم.

أخيراً، يدعو التقرير ألمانيا والاتحاد الأوروبي إلى دعم تشكيل حكومة جامعة وصياغة دستور دائم يعكس تنوع سوريا العرقي والديني لمنع إيران من استغلال التوترات الطائفية وتحقيق مصالحة اجتماعية وسياسية في البلاد.

في الآتي ترجمة تلفزيون سوريا الكاملة للتقرير:

بعد مرور أكثر من ستين عاماً على الديكتاتورية في سوريا وأكثر من 13 عاماً على بدء الحرب التي تدخلت فيها أطراف دولية، أصبح حكام سوريا الجدد في مواجهة تحديات كبيرة، تتمثل بالانتقال السياسي والمصالحة الاجتماعية وإعادة الإعمار الشاملة، والتحول الاقتصادي، وإعادة اللاجئين والنازحين، إلى جانب حل قضايا أمنية شائكة تشمل نزع سلاح الفصائل ومن ثم إدماجها ضمن الهيكلية المعدلة للجيش ومحاربة تنظيم الدولة في حال عودته إلى جانب محاربة المسلحين من الموالين للأسد. وهنالك قضية أخرى تتمثل بأسلوب التعامل مع كل من مقاتلي تنظيم الدولة (وأهاليهم) المحتجزين في مخيمات ومراكز احتجاز تديرها قسد، والمقاتلين الأجانب المنضوين تحت صفوف هيئة تحرير الشام ومن والاها من الفصائل.

والأصعب من ذلك هو أن الحكومة المؤقتة التي يترأسها أحمد الشرع لا تسيطر على كامل التراب السوري، لأن قسد ذات الغالبية الكردية ماتزال تمارس سيطرتها على شمال شرقي سوريا، في حين تواصل تركيا سيطرتها على مناطق عدة في الشمال السوري. وفي جنوب غربي البلد، احتلت إسرائيل المنطقة العازلة التي أقيمت في عام 1974 وكانت في السابق تخضع لسيطرة أممية، إلى جانب احتلالها لجبل الشيخ منذ كانون الأول لعام 2024، كما أنها أقامت نقاط تفتيش لها في المناطق المحيطة بتلك الأراضي. وفي تلك الأثناء، ماتزال الاشتباكات المسلحة دائرة في الشمال وشمال شرقي سوريا ما بين الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً وقسد المتحالفة مع واشنطن في حربها ضد تنظيم الدولة.

الخطوات الأولى للعملية الانتقالية

قامت الحكومة المؤقتة بإجراءات لتسريح معظم عناصر جيش النظام البائد وحل الفصائل ثم دمجهم في الجيش السوري الجديد، وتضم تلك الفصائل قسد والفصائل الدرزية التابعة لغرفة عمليات الجنوب التي وقعت دمشق معها اتفاقيات خلال الأسبوع الثاني من شهر آذار عقب حدوث أعنف أحداث طائفية في سوريا منذ سقوط النظام. إذ بعد ظهور تمرد موال للأسد ضد قوات الأمن الجديدة، قتل أكثر من ثمانمئة سوري معظمهم من الطائفة العلوية، بعضهم في اشتباكات وبعضهم الآخر في عمليات القتل الانتقامية التي أعقبتها والتي نفذت بحق من قُبض عليهم من العساكر والمدنيين، وهذه التطورات أكدت وجود عقيدة طائفية سائدة، إلى جانب عدم الالتزام بالانضباط وعدم وجود هياكل قيادة واضحة ضمن القوى الأمنية الجديدة، ما يشكل خطراً حقيقياً يهدد عملية المصالحة بين الطوائف العرقية والدينية في سوريا. وحتى قبل موجة العنف الأخيرة، ظهرت تقارير حول انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان نفذتها قوات الأمن الجديدة بحق أفراد من نظام الأسد المخلوع، ومعظم تلك الانتهاكات نفذت كأعمال انتقامية بحق العلويين.

مضت الإدارة الجديدة بعملية الانتقال السياسي نحو الأمام، إذ في أواخر شهر كانون الثاني من عام 2025، وبعد أن تم تنصيب أحمد الشرع رئيساً انتقالياً على يد من انتصروا من الثوار، شدد هذا الرجل على ضرورة أن تصبح سوريا الجديدة وطناً لكل مواطنيها تختفي فيه كل أعمال الانتقام، وأكد على أهمية تشكيل حكومة جامعة تكفل تمثيل الجميع في مطلع شهر آذار. وفي أواسط شهر شباط، شكل الشرع لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني بينهم ممثلون عن “حكومة الإنقاذ” السابقة في إدلب وعضوان من المجتمع المدني، ثم انعقد هذا المؤتمر الذي لم تسبقه فترة إشعار مناسبة، خلال الفترة ما بين 24-25 من شباط في دمشق، وجمع نحو 900 سوري من أجل وضع إطار العمل الميداني تمهيداً للمضي قدماً بالعملية الدستورية. وفي بداية شهر آذار، شكلت لجنة لصياغة دستور مؤقت، لكن الأمور لم تخضع لمداولة كبيرة، إذ بحلول الثالث عشر من آذار، وقع الشرع على إعلان دستوري يمتد لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات، وحددت تلك الوثيقة بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، وطرحت مبدأ فصل السلطات، واستقلال القضاء، والمساواة أمام القانون وحرية التعبير. بيد أن مسؤولية التشريع خلال الفترة الانتقالية، ستكون بيد البرلمان الذي سيجري تعيين أعضائه (على أن يعين الرئيس وبشكل مباشر ثلث أعضائه)، أما الرئيس فيتمتع بسلطات تنفيذية وبيده أمر الإعلان عن حالة الطوارئ. كما سيجري تشكيل لجنة من أجل العدالة الانتقالية، إلى جانب لجنة لصياغة دستور دائم للبلد، وسيجري تأجيل الانتخابات حتى عام 2030. وسرعان ما أثار الإعلان الدستوري انتقادات من الطوائف في سوريا، إذ على الرغم من طرحه لمبدأ حرية الدين والمعتقد، لم يعبر عن التنوع العرقي والديني لسوريا التي احتفظت باسمها السابق (الجمهورية العربية السورية)، إلى جانب تسمية العربية وحدها كلغة رسمية للبلد، والتأكيد على وجوب أن يكون الرئيس مسلماً، ولكن لا شك بأن خلق حالة توازن بين توقعات التعبير عن التنوع بين الأغلبية والأقليات، وناشطي المجتمع المدني والعديد من الجهات الأجنبية الداعمة والفصائل المتطرفة الموجودة ضمن قاعدة القيادة الانتقالية نفسها يعتبر أمراً محفوفاً بالمخاطر والتحديات إلى أبعد الحدود.

وفي الوقت ذاته، تحرص القيادة السورية الجديدة على إعادة تموضع سوريا بعد سقوط الأسد على المستويين الإقليمي والعالمي، والهدف من ذلك كسر العزلة التي فرضت على البلد لفترة طويلة، وإقامة علاقات ودية مع دول الجوار، إذ تريد سوريا الجديدة أن تتجنب تلك النظرة التي تعتبرها تهديداً على المستوى الإقليمي أو الدولي، والأولوية الأساسية في هذا السياق الحصول على الدعم من أجل إعادة إعمار البلد، ولتحقيق هذه الغاية، لم يمد الشرع يده لدول الخليج العربية فحسب، وعلى رأسها السعودية، بل للدول الغربية أيضاً، إذ هنأ دونالد ترامب على عودته الأخيرة إلى البيت الأبيض، وأعرب عن أمله بأن يعمل الرئيس الأميركي على إحلال السلام، واقترح قيام مناقشات مبكرة مع الإدارة الجديدة بواشنطن. وفي الوقت الذي احتفظ الشرع بمسافة بعيداً عن إيران، أكد مصلحته في المحافظة على علاقات طيبة مع روسيا، كما طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها، وأكد على التزام دمشق باتفاقيات وقف إطلاق النار الموقعة في عام 1974 وعلى عزمها على حل النزاعات مع دول الجوار بطريقة سلمية، والجميع يتوقع قيام علاقات ودية وتقارب مع تركيا على وجه الخصوص.

مصالح الجهات الفاعلة على المستوى الإقليمي والدولي في سوريا

إن مصالح الجهات الفاعلة إقليمياً ودولياً وأولوياتها وممارساتها هي التي ستهيئ الساحة أمام حكام سوريا الجدد في تعاملهم مع التحديات التي تكتنف العملية الانتقالية بسوريا، إذ عقب سقوط نظام الأسد، عمدت بعض تلك الجهات الفاعلة الخارجية إلى تغيير موقفها، في حين أوضحت أطراف أخرى، مثل الولايات المتحدة، موقفها تماماً. بيد أن هنالك شيئاً واضحاً يهمهم جميعاً بالمقام الأول، ألا وهو المصالح القومية إلى جانب مراعاة الاعتبارات السياسية والاقتصادية الداخلية، وهذا ما يؤكد احتمال ظهور تضارب قد يعيق الجهود الساعية لتحقيق الاستقرار في سوريا.

تركيا

تشير التصريحات الرسمية الصادرة عن تركيا إلى وجود ثلاثة أهداف لديها في سوريا، أولها ضرورة عدم دعم سوريا للإرهاب (والمقصود هنا حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة) وعدم تشكيلها لأي خطر يهدد جيرانها، إلى جانب احتفاظها بتنوعها العرقي والديني وضرورة تمثيل وإشراك كل تلك الأطراف في الحكم. أي أن أنقرة تعتبر عملية نشر الاستقرار التي تقوم بها الحكومة المؤقتة الموجودة في دمشق ضرورة، وترغب في لعب دور فاعل في بناء سوريا القوية والموحدة، وبما ينسجم مع المصالح التركية الأساسية، ولهذا تسعى تركيا للانخراط في مجالين مهمين على المدى القصير والمتوسط.

أولاً: تركز تركيا على مصالحها الأمنية، ولهذا عرضت فكرة دعم عملية إصلاح القطاع الأمني في سوريا، وبحسب ما ذكره وزير الدفاع التركي يشار غولار، فإن أنقرة على استعداد لمساعدة الحكومة الانتقالية في التدريب العسكري إن لزم الأمر. وفي مطلع شهر شباط، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس الشرع في أنقرة لمناقشة التعاون الوثيق في مجالات عدة، أبرزها احتمال توقيع معاهدة دفاع بينهما. كما تسعى كل من تركيا وسوريا والأردن والعراق لمحاربة تنظيم الدولة معاً، إذ عقد أول اجتماع للتباحث في هذا الشأن بالأردن في التاسع من آذار، من دون أن يعلن عن أي خريطة ملموسة للطريق في هذا الاتجاه.

في تلك الأثناء، دعا وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، جميع مقاتلي الفصائل السورية الموجودة في شمالي سوريا والمتحالفة مع تركيا، والتي تضم أكثر من 80 ألف مقاتل إلى الانضمام إلى الجيش السوري الجديد. وهذه الدعوة تتماشى مع الاستراتيجية الأوسع لأنقرة الساعية إلى نزع سلاح قسد الذي تترأسه وحدات حماية الشعب الكردية، أو العمل على إدماج العساكر الأفراد ضمن جيش البلد الذي يخضع لقيادة دمشق بشكل كامل. كما تهدف دعوته أيضاً إلى طرد أي عناصر تركية (وغير سورية) موجودة ضمن حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من سوريا، ولتحقيق هذا الهدف، اتخذت تركيا خطوات عسكرية من خلال الجيش الوطني السوري، كما استعانت بدعمها الجوي لقطع خطوط الإمداد عن قسد والموجودة في محيط عين العرب  كوباني بالشمال السوري، فأضعفت بذلك القدرات القتالية لدى تلك المجموعة.

وفي الوقت ذاته، تمارس تركيا ضغطاً دبلوماسياً على قسد وحزب العمال، إذ في أواخر شباط الماضي، أعلن عبد الله أوجلان، مؤسس حزب العمال المسجون في تركيا، عن حل تنظيمه ونزع سلاحه بكل ثقة، ما دفع بحزب العمال إلى الإعلان عن وقف إطلاق النار والتصديق على ما أعلنه أوجلان والمطالبة بإطلاق سراحه. وهذا ما جعل الجهات الفاعلة الكردية في العراق، وعلى رأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ترحب بمبادرة أوجلان، ومن جانبه، أوضح القائد الأعلى لقسد، مظلوم عبدي، بأن حل الحزب ورمي سلاحه لا يمكن تطبيقه على قسد، لكنه أعرب عن انفتاحه على أي حل سلمي في سوريا.

خلق إعلان أوجلان أفقاً لتحقيق تسوية ما بين تركيا وقسد، وإزاء ذلك ظهر بين ثنايا إصرار أنقرة على ضرورة أن تكون سوريا شاملة وجامعة لكل الطوائف العرقية والدينية احتمال تأويل ذلك كبادرة على التفاوض من أجل تشكيل هيئة تمثيلية جديدة للكرد، إذ بالفعل، سعت تركيا منذ أمد بعيد لتعزيز التقارب بين قسد والمجلس الوطني الكردي الذي دعمه الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وفي مكالمة هاتفية مع عبدي، أعلن مسعود برزاني زعيم هذا الحزب عن دعمه للاتفاق الحاصل مؤخراً بين دمشق وقسد، وأكد على أهمية وحدة الكرد، كما رحب المسؤولون الأتراك بهذه الاتفاقية بحذر، وأكدوا على ضرورة تطبيقها بشكل كامل، وفي هذه الأثناء تواصلت الغارات الجوية التركية على العراق وسوريا.

أما المجال المهم الثاني الذي ترغب القيادة التركية في لعب دور بارز من خلاله فهو إعادة إعمار سوريا، إذ بعيداً عن الفرص الاقتصادية التي يرجح لشركات البناء التركية أن تقتنصها، يمكن لذلك أن يعزز شعبية أردوغان وسط حالة الضيق الاقتصادية التي تعيشها تركيا، كما أن أنقرة تعتبر إعادة إعمار سوريا شرطاً مهماً لتسهيل عودة اللاجئين السوريين.

دول الخليج

إذا نجحت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها في تعزيز موقفها، فإن قطر ستلعب دوراً مهماً في السياسة السورية هي أيضاً، إذ ليست مصادفة تلك التي جعلت من الأمير تميم بن حمد أول قائد دولة يزور دمشق بعد سقوط الأسد. ومنذ ذلك الحين، توالت زيارات المسؤولين والوفود القطرية على سوريا وذلك خلال شهري كانون الأول من عام 2024 وكانون الثاني عام 2025. وفي أواسط كانون الأول، كانت السفارة القطرية ثاني سفارة تعيد فتح أبوابها، بعد السفارة التركية، عقب تعليق العلاقات الدبلوماسية الذي نفذته دول كثيرة بين عامي 2011-2012 رداً على قمع النظام البائد للمعارضة. وتعهد رئيس وزراء قطر بدعم عملية إعادة إعمار سوريا وطالب بإنهاء العقوبات المفروضة عليها، إذ من الواضح تماماً بأن الدوحة قد وضعت نفسها في موضع أحد الوسطاء المهمين بين سوريا وأي دولة ثالثة، وستتعاظم أهمية هذا الدور في حال بقيت تلك الدول مترددة في التعامل مع الحكام الجدد لدمشق.

ثمة دولة أخرى بوسعها لعب دور مهم في المشهد الدبلوماسي السوري وهذه الدولة هي السعودية، إذ يبدو بأن هنالك مصلحة كبيرة لهيئة تحرير الشام في تعزيز علاقات طيبة مع أقوى دولة عربية، وقد ألمحت المملكة إلى انفتاحها على تحقيق انفراجة وذلك عندما أرسلت وزير خارجيتها الذي دعا على الفور إلى رفع العقوبات وقدم الدعم للحكومة الجديدة. ويبدو أن الرياض مستعدة للاعتراف بالواقع الجديد في دمشق مع التشجيع على الحوار والتعاون لإدارة النتائج المترتبة على سيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة. وثمة شيء مهم لا بد أن تأخذه السعودية بالحسبان وهو منع سوريا من الاعتماد بشكل كبير على قطر وتركيا، غير أن قيام الشرع في مطلع شباط 2025 بأول زيارة خارجية له عقب سقوط الأسد إلى الرياض بدلاً من أنقرة يوحي باحتمال الابتعاد عن هذا الشكل من الاعتماد الكبير.

يحتمل للإمارات أن تبقى على هامش كل تلك التطورات نظراً لوقوفها ضد هيئة تحرير الشام ومعارضتها لها بشكل مبدئي وهذا ما يمنعها من التعامل معها مباشرة، لهذا يرجح لأبوظبي أن تراقب من كثب احتمال إثارة انتصار الإسلاميين في سوريا لمزيد من الاضطرابات في المنطقة، ولهذا لن تألو جهداً في منع وصول آثار ذلك إلى بلادها. ولكن إن تبين لها عدم وجود أصل أو أساس لمخاوفها، فإن الإمارات ستكون من بين تلك الدول التي ستحرص على تجديد علاقاتها مع دمشق.

روسيا

بما أنها كانت من أهم داعمي نظام الأسد في السابق، فقد غير الكرملين سياسته وانتقل إلى سياسة السيطرة على الأضرار مع سعيه في الوقت ذاته لاستعادة نفوذه السياسي من أجل تأمين مصالحه الأساسية في سوريا، وخاصة فيما يتصل بالاستعانة بالقواعد العسكرية الموجودة فيها، ولهذا عرضت روسيا التعاون مع القيادة الجديدة في دمشق لأنها ترغب أن تقدم نفسها كعنصر فاعل براغماتي على استعداد للتكيف مع ديناميات السلطة الجديدة. إذ حتى كانون الأول من عام 2024، بقيت موسكو تصنف هيئة تحرير الشام على أنها تنظيم إرهابي، ولكن في الثامن من كانون الأول 2024، أي في يوم سقوط الأسد، صارت تصف الهيئة بأنها “المعارضة السورية المسلحة” ثم أصبحت تصفها بـ”السلطات الجديدة”. وفي محاولة للتعامل مع الهيئة، أعلن فاسيلي نيبينزيا مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة بأن التحالف الروسي مع سوريا “لا يرتبط بأي نظام”.

غير أن موسكو قد تكتشف صعوبة “تطبيع” العلاقات مع الحكومة التي تترأسها هيئة تحرير الشام، وهذا ما اتضح عندما زار نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، سوريا في أواخر شهر كانون الثاني من عام 2025، إذ خلال تلك الزيارة، أوضح الشرع بأن على روسيا الاعتراف بما وصفه “أخطاءها السابقة” من أجل “إعادة بناء الثقة”، بيد أن هنالك مطلبين تقدمت بهما دمشق من المرجح أن يمثلا تهديداً حقيقياً لموسكو، خاصة في ظل ظروف الحرب المستمرة في أوكرانيا، وهذان المطلبان هما: تسليم الأسد وجبر الضرر، إذ لا أحد يتوقع أن تسلم روسيا الأسد على الإطلاق، بما أن تسليمه لا بد أن يقوض مصداقية روسيا بوصفها حامياً موثوقاً لحلفائها من المستبدين، أما فيما يتصل بالمطلب الثاني، فإن موسكو قد تعفي سوريا من قسم من ديونها الكبيرة المستحقة لروسيا، أو قد تعفيها منها كلها، أو قد تمدها بالحبوب أو النفط من دون أن تعترف رسمياً بما يُلزمها بتقديم تعويضات بهدف جبر الضرر. وفي تلك الأثناء، وفي محاولة منها لتحسين صورتها، قدمت روسيا اللجوء للسوريين الهاربين من العنف الطائفي الذي اندلع في آذار، وعرضت الاستعانة بقواعدها العسكرية كمراكز لوجستية لتوزيع المساعدات الإنسانية، ومن جانبها، ستبقى القوات المسلحة السورية معتمدة على روسيا في عمليات الصيانة وتأمين قطع التبديل في المستقبل المنظور.

لا شك أن قدرة روسيا على رسم شكل عملية الانتقال في سوريا قد تراجعت بشكل كبير، إذ لم يعد لدى روسيا حلفاء سياسيون أقوياء في سوريا، كما تراجعت إمكاناتها العسكرية على حماية هؤلاء الحلفاء، والأهم من كل ذلك أن عملية أستانا التي نسقت من خلالها روسيا وتركيا وإيران مواقعها تجاه مستقبل سوريا، لم يعد لديها أي نفوذ أو أهمية، ومع ذلك ما تزال موسكو تحتفظ ببعض النفوذ السياسي في سوريا، إذ يأمل الكرملين أن يتحول استمرار الوجود العسكري والسياسي على الرغم من تقلصه في سوريا نفسها وفي المنطقة كلها إلى مصلحة استراتيجية للحكومة الانتقالية، بما أن هذا الوجود سيقف ضد تعاظم الوجود والنفوذ التركي في سوريا. وبما أن روسيا تعتبر دولة قوية تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن وبما أنها عنصر فاعل مهم في المنتديات الدولية مثل دول البريكس+ والتجمعات الإقليمية مثل مجلس شنغهاي للتعاون، فإنه بوسع روسيا إما أن تسهم أو أن تعقد عملية تحقيق الاعتراف الدولي بالقيادة السورية الجديدة.

ونظراً لاحتمال التقارب بين روسيا والولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، ومطالبة إسرائيل بإبقاء القواعد الروسية في سوريا، والمجازر التي قامت ضد العلويين والمسيحيين في سوريا في آذار 2025، بات من الواضح أن الكرملين تعجبه الشروط التي تساعده على تعزيز موقفه ومكانة بلده، إذ إلى جانب الولايات المتحدة، دعت روسيا إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن في منتصف شهر آذار حذر خلاله المندوب الروسي من صعود الحركة الجهادية في سوريا، وشبه قتل العلويين والمسيحيين بالإبادة التي حصلت في رواندا. ثم إن انعقاد الاجتماع خلف أبواب موصدة دليل على أن روسيا لا تريد أن تخاطر بعلاقتها التي ما تزال هشة مع القيادة الجديدة في سوريا، وفي الوقت عينه، يظهر ذلك استعداد روسيا الدائم لاستغلال أي توتر في سوريا لمصلحتها حتى تمارس الضغط عبر التلاعب ضمنياً بفكرة تأييد قيام حكم ذاتي في المنطقة الغربية من سوريا، بيد أن تصريح الشرع بأنه يرغب في الاحتفاظ بـ”علاقات استراتيجية عميقة” مع روسيا، وضرورة عدم وجود أي “شقاق بين سوريا وروسيا” يعتبر مؤشراً على نجاح سياسة الحد من الأضرار التي تنتهجها موسكو.

إسرائيل

في الوقت الذي تدعم المؤسسة السياسية الإسرائيلية عموماً “حق استقلال” الأقليات العرقية والدينية عن سوريا، ما يزال أشد ما يقلقها من جارتها هو أمنها القومي لا العملية الانتقالية ولا النظام السياسي الجديد فيها. إلا أن خلفية حكام دمشق الجدد تعتبر مصدراً للقلق بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة لتعاظم النفوذ التركي بما أن إسرائيل تعتبر تركيا عدوة، وبحسب تقارير ظهرت عبر الإعلام، فإن إسرائيل تضغط بشكل فاعل على الولايات المتحدة لضمان سلامة القواعد العسكرية الروسية الموجودة في سوريا، لأنها تفضل بقاء روسيا في وجه تركيا، كما تتمنى لسوريا أن تظل دولة لامركزية ضعيفة.

هذا ولم تكتف إسرائيل بالإعلان عن عزمها على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا في المستقبل المنظور، بل سعت أيضاً إلى تمتين علاقاتها مع الطائفة المقيمة في المنطقة الحدودية ومع الكرد أيضاً، إذ بنهاية شهر شباط عام 2025، طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنزع كامل للمظاهر العسكرية من ثلاث محافظات سورية تقع في الجنوب، وهي القنيطرة ودرعا والسويداء، وأعلن أن إسرائيل لن تتسامح مع أي وجود للجيش السوري في تلك المناطق، وفي بداية شهر آذار، وفي ظل الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين قوات الأمن التابعين للحكام الجدد والفصائل الدرزية الموجودة في ضاحية جرمانا القريبة من دمشق، هددت إسرائيل بتدخل عسكري دعماً للطائفة الدرزية، وفي أواسط شهر شباط، سمحت لوفد مؤلف من شخصيات دينية درزية بزيارة مواقع دينية وزيارة الطائفة الدرزية المقيمة ضمن الأراضي التي تخضع لسيطرة إسرائيل وذلك لأول مرة منذ حرب عام 1973. كما عرضت إسرائيل على الدروز منحهم مساعدات وفتح فرص العمل أمامهم.

الولايات المتحدة

لم تتضح بعد ملامح المسار الذي ستسير عليه الولاية الثانية لترامب مستقبلاً فيما يخص سوريا، كما أن واشنطن لم تعتبر قيام مناقشات بشأن سوريا أولوية بالنسبة لها، ولكن السياسة الأميركية قد تتغير فجأة، وقد يؤثر ذلك بشكل خاص على الوجود العسكري الأميركي في سوريا وعلى التعاون الأميركي مع قسد، إذ تشير أولى الإرهاصات إلى أن إدارة ترامب لا تركز على “الانتقال الجامع” لأن ما يهمها هو مصالحها الأمنية والجيوسياسية، كما أن أهم أهدافها تتمثل بضمان عدم تحول سوريا إلى “مصدر للإرهاب الدولي” إلى جانب ضمان أمن إسرائيل.

وفي الوقت ذاته، ظهرت تعقيدات عقب القرار الذي أصدرته إدارة ترامب بخصوص تعليق كامل المساعدات الخارجية الأميركية بصورة مؤقتة، والتي تشمل تلك المساعدات التي تقدم للمرافق مثل مراكز الاحتجاز أو المخيمات وعلى رأسها مخيما الهول والروج حيث يحتجز مقاتلو تنظيم الدولة مع عوائلهم. وفي الوقت الذي تم التوصل فيه إلى حل مؤقت لتعويض العناصر الأمنية التي تحرس تلك المقرات، بما أن رواتبهم كانت في السابق تصلهم عبر التمويل المخصص للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، فإن اضطرابات حادة قد تعقب ذلك في حال قطع الحوالات إلى أجل غير مسمى. ولقد أضر تعليق المساعدات الخارجية الأميركية بعمليات المفوضية العليا للاجئين بشكل كبير في سوريا كما أضر بعدد من المبادرات الخاصة بالمجتمع المدني السوري.

إيران

مع سقوط نظام الأسد، خسرت إيران نفوذها المباشر في سوريا، وصارت تحرص اليوم على التواصل مباشرة مع الحكومة المؤقتة في دمشق، إذ أعلن وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، بأن نهج إيران: “يقوم على سلوك الطرف الآخر”، ملمحاً إلى استعداد طهران لإحياء علاقاتها التي قطعها سقوط الأسد في حال سنحت لها الفرصة. بل حتى المرشد الأعلى، علي خامنئي، غير موقفه العدائي الذي أبداه في البداية تجاه الحكام الجدد لسوريا، فصار يركز الآن على المطالبة بـ”تحرير البلد من الاحتلال الأجنبي”، بيد أن دمشق لم تبد كبير اهتمام بإعادة العلاقات مع طهران، إذ حتى لو جرى إحياء تلك العلاقات، سيظل النفوذ الإيراني أضعف بكثير مما كان عليه من قبل، ونظراً لافتقار الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الموارد الاقتصادية التي بوسعها تقديمها كحوافز مهمة، يرجح لدورها أن يبقى محدوداً في سوريا، أما جهود إعادة الإعمار فستقودها جهات فاعلة تتمتع بموارد مالية أكبر تحت تصرفها.

من السيناريوهات المنطقية المطروحة بالنسبة لاحتفاظ إيران بنفوذها ذلك السيناريو الذي يرى بأن ذلك يمكن أن يتم عبر استغلال أي توتر طائفي، إذ يرجح لطهران أن تزيد من تواصلها مع الطائفة العلوية في غربي سوريا، كما يمكن للتقارير التي تتحدث عن اعتقالات وإعدامات طالت العلويين على يد فصائل تابعة لهيئة تحرير الشام أن تغذي أنشطة خلايا المقاومة التي يمكن لإيران أن تدعمها بالسر كوسيلة لممارسة الضغط، بيد أن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد وبشكل كبير على طريقة تعامل الحكام الجدد مع العدالة الانتقالية والديناميات الطائفية في سوريا.

وثمة نهج آخر مطروح وهو سعي إيران لتمتين علاقاتها مع قسد، إذ يمكن لتوقع الانسحاب الأميركي من سوريا أن يدفع قسد للبحث عن شراكات أخرى، وبحسب تقارير، فإن إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني، أجرى محادثات مع قائد قسد، مظلوم عبدي، في مدينة السليمانية العراقية في مطلع كانون الثاني لعام 2025، وقد قيل إن بافل طالباني زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني هو من سهّل عقد ذلك الاجتماع. بيد أن عقد شراكة مع كرد سوريا لن يسمح لإيران بالاحتفاظ بنفوذها على الديناميات الداخلية لسوريا فحسب، بل بوسعه أيضاً الوقوف ضد النفوذ الإقليمي التركي مع كبح جماح العلاقات المتنامية بين إسرائيل والفصائل الكردية. غير أن الاتفاقية التي وقعت مؤخراً بين الحكومة التي تتزعمها هيئة تحرير الشام وقسد قد يتحول إلى مفتاح للعمل في هذا المضمار، إذ نظراً للشكوك المحيطة بتنفيذ الاتفاقية واحتمال تجدد التوتر بين القوات الكردية السورية من جهة ودمشق وأنقرة من جهة أخرى، يرجح لطهران أن تحافظ على فتح قنوات تواصل مع الكرد.

وأخيراً، قد تسعى طهران لإعادة تعريف دورها في سوريا عبر “المقاومة” المناهضة لإسرائيل، إذ بعد فترة قصيرة من الخطاب الذي ألقاه خامنئي في الثاني والعشرين من كانون الأول عام 2024، ظهرت جماعة لم تكن معروفة سابقاً، لكنها أطلقت على نفسها اليوم اسم: “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا”، وأعلنت أن هدفها هو طرد القوات الإسرائيلية من البلد، وهذا التطور قد يمد إيران بسبل جديدة للاحتفاظ بنفوذها في سوريا، إذ مثلاً، قد تعمد طهران إلى الاعتماد على قوات وكيلة جديدة أو إلى التحجج بـ”مقارعة الاحتلال” لتبرير تعاونها مع الحكومة السورية الجديدة.

نتائج وخيارات سياسية

لدى ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي مصلحة كبيرة في تأمين عملية نشر الاستقرار في سوريا وضمان عدم تشكيل هذا البلد لأي خطر على جيرانه وعلى أوروبا، لأن سقوط نظام الأسد قدم فرصة فريدة لتحقيق تلك الأهداف، إلا أن احتمال الخطأ ما يزال كبيراً، لأن النزاعات المسلحة قد تشتعل مرة أخرى في سوريا، وبدورها سوف تشجع العناصر الفاعلة الإقليمية والدولية على التدخل عسكرياً من جديد، وفي حال حدوث هذا السيناريو، فإن ذلك سيطيل أمد اقتصاد الحرب والاتجار بالمخدرات، وهذا ما سيدفع لظهور موجات نزوح جديدة، وفي الوقت ذاته، ستظل سوريا ملاذاً آمناً ومقراً لتجنيد العناصر ضمن تنظيم الدولة وغيره من الجماعات الجهادية.

ولهذا ينبغي على ألمانيا والاتحاد الأوروبي اقتناص هذه الفرصة التي ظهرت اليوم للمساهمة في نشر الاستقرار بسوريا، إلى جانب تنسيق نهجها بشكل وثيق ضمن عمل إطاري متعدد الأطراف، ويعتبر التعاون ضرورياً بشكل كبير مع الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ويجب أن ينصب الهدف على وقف تصعيد الخصوم الجيوسياسيين بدلاً من العمل على تأجيج هذا التصعيد، مع دعم وحدة الأراضي السورية وسيادتها على اعتبار ذلك أحد المبادئ الإرشادية ضمن هذا المضمار.

إن الإعلان عن حل حزب العمال الكردستاني من جهة، والاتفاق بين الحكومة السورية المؤقتة وقسد من جهة أخرى، يعتبر فرصة لحل التوتر في الشمال السوري، ولهذا لا بد من مراقبة تطبيق هذين الأمرين من كثب مع دعم العمليتين، وذلك لأن فشل أي منهما يمكن أن ينعكس بالسلب على الأخرى. وفي هذا السياق، من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف المشاركة فيهما، وعلى رأسها رغبة الكرد في الحصول على تمثيل يناسبهم في أي حكومة سورية مستقبلاً وكذلك رغبتهم في الحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة، إلى جانب مراعاة المخاوف الأمنية التركية ومصلحة دمشق في حل الفصائل وإنهاء السيطرة التركية على أجزاء من سوريا.

كما يجب على ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي العمل على ضمان تجديد التزام كل من إسرائيل والحكومة السورية الجديدة باتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة عام 1974، وهذا من شأنه أن يجبر إسرائيل على سحب قواتها من المنطقة العازلة ومن جبل الشيخ وإعادة المنطقة لسيطرة قوات مراقبة فض الاشتباك الأممية. كما بوسع برلين وغيرها من شركائها الأوروبيين وبالتشاور مع الولايات المتحدة، تسهيل التواصل بين القيادة السورية وإسرائيل للحد من خطر المواجهات العسكرية، بما أن التواصل أضحى ضرورة نظراً لانتهاء العمل بآلية التنسيق الروسية الإسرائيلية لتجنب الصراع في سوريا.

ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي تمهيد السبيل أمام زيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا التي دمرتها الحرب بعد سنين طويلة، وإن تحقيق تحسن سريع في الوضع الاقتصادي السوري يعتبر أمراً مهماً لنشر الاستقرار في البلد، إذ في أواخر شهر كانون الثاني، اتخذ مجلس الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي خطوة في الاتجاه الصحيح عندما صدّق على خريطة طريق من أجل تخفيف العقوبات بشكل تدريجي على القطاعات والمؤسسات في سوريا. وبنهاية شهر شباط، جرى تعليق بعض العقوبات الأوروبية المفروضة على قطاع الطاقة والنقل والقطاع المالي، على الرغم من أنها لم تُرفع بشكل كامل، إذ تعتبر تلك الإجراءات الأولية ضرورية لكنها ليست كافية، لأن العقوبات الأميركية ما تزال تمثل عائقاً رئيسياً أمام إعادة إعمار سوريا وتعافيها على المستوى الاقتصادي، ولذلك يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي أن يضغطا على واشنطن حتى ترفع تلك العقوبات، وفي حال بقيت تراوح مكانها، عندئذ يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي الخروج بآليات قابلة للتطبيق وذلك لدعم المساعدات الإنسانية ولتمهيد الطرق أمام التعافي الأولي للبلد، كما تجب إعادة توجيه الأصول المجمدة لنظام الأسد البائد نحو جهود إعادة الإعمار.

وفي الوقت ذاته، يجب أن تبقى العقوبات المفروضة على كبار الشخصيات التابعة لنظام الأسد وهيئة تحرير الشام، وقبل إخراج الهيئة من لوائح الإرهاب في ألمانيا والاتحاد الأوروبي ورفع العقوبات عمن يمثلوها، لا بد لهم من تحقيق شروط واضحة، إذ يجب على حكام دمشق الجدد أن يظهروا ابتعادهم بشكل حقيقي عن الحركة الجهادية، وذلك عبر تعزيز العلاقات الخارجية بشكل سلمي مثلاً، أو عبر منع قيام عنف على أساس طائفي، وفتح تحقيق في المجازر التي ارتكبت في آذار 2025 ومحاكمة مرتكبيها، والالتزام بإقامة عدالة انتقالية شفافة، واحترام لحقوق الإنسان.

ومن جانبهما، يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي أن يحجما عن الدفع نحو إعادة سريعة للاجئين السوريين المقيمين في أوروبا حالياً، إذ لا يكفي الالتزام بمبدأ العودة الطوعية الآمنة والكريمة، بل أيضاً يجب أن يحل في سوريا ما يكفي من الاستقرار حتى تصبح جاهزة لعودة مواطنيها. ويجب على السياسة الأوروبية أن تولي الأولوية لتمكين اللاجئين على الإسهام بطريقة بناءة ودائمة في إعادة أعمار سوريا، بما أن هذه المساهمة يمكن أن تتم من الخارج. وفي الوقت عينه، ينبغي على ألمانيا دعم مفوضية اللاجئين في تسهيل عمليات العودة الطوعية، وهنا تظهر الحاجة لظهور حل وسط ما بين مصلحة ألمانيا في نشر الاستقرار بسوريا ومصلحتها في قدرتها على ترحيل الإرهابيين والمجرمين على وجه الخصوص، إلى جانب قدرتها على ترحيل السوريين الذين لا يندرجون ضمن هاتين الفئتين.

هذا ويجب على جيش سوريا الجديدة أن يتولى مسؤولية محاربة تنظيم الدولة، بما أنه التزم بذلك من خلال الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع تركيا والعراق والأردن في مطلع شباط الماضي. أما مستقبلاً، فلا بد من مراعاة دور سوريا ضمن التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وفي تلك الأثناء، سيتعين على دمشق معالجة مشكلة السجون والمخيمات التي احتجز فيها مقاتلو التنظيم مع عوائلهم. ويجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي تشجيع الولايات المتحدة على مواصلة دعمها لمحاربة تنظيم الدولة وتمويل مقار الاحتجاز، وفي الوقت ذاته، يجب على الدول الأوروبية أن تحرص على إجلاء مقاتلي تنظيم الدولة الذين يحملون جنسيات أوروبية حتى تجري محاكمتهم في أوطانهم.

وأخيراً، يجب على ألمانيا والاتحاد الأوروبي دعم تشكيل حكومة جامعة قائمة على المشاركة بشكل فاعل وصياغة دستور دائم لسوريا يعكس تنوعها العرقي والديني، لأن ذلك لا يعتبر ضرورياً فحسب من أجل نجاح العملية مستقبلاً، بل أيضاً لمنع إيران من استغلال أي توتر طائفي أو عرقي لمد نفوذها في سوريا، ولهذا السبب وغيره، يجب أن تكون الأولوية المركزية لأوروبا منصبة على الإسهام بإقامة مصالحة اجتماعية وسياسية في سوريا.

* Stiftung Wissenschaft und Politik (SWP) هو المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، وهو مركز أبحاث مستقل مقره في برلين، ألمانيا. يُعتبر من أبرز مراكز الأبحاث والاستشارات السياسية في أوروبا، ويُقدّم تحليلات ودراسات للحكومة الألمانية والبرلمان (البوندستاغ) حول القضايا الدولية والأمنية.

المصدر: Stiftung Wissenschaft und Politik

 تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى